الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

- المطلب الثالث ـ مراتب الفقهاء وكتب الفقه:
- لابد للمفتي أن يعلم حال من يفتى بقوله، فيعرف درجته في الرواية وفي الدراية، وطبقته بين الفقهاء، ليميز بين الآراء المتعارضة، ويرجح أقواها، والفقهاءعلى سبع مراتب (2):
1 ً - المجتهد المستقل: وهوالذي استقل بوضع قواعده لنفسه، يبني عليها الفقه، كأئمة المذاهب الأربعة. وسمى ابن عابدين هذه الطبقة: (طبقة المجتهدين في الشرع).
2ً - المجتهد المطلق غير المستقل: وهو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد التي اتصف بها المجتهد المستقل، لكنه لم يبتكر قواعد لنفسه، بل سلك طريق إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد، فهو مطلق منتسب، لا مستقل، مثل تلامذة الأئمة السابق ذكرهم كأبي يوسف ومحمد وزفر من الحنفية، وابن القاسم وأشهب وأسد ابن الفرات من المالكية، والبويطي والمزني من الشافعية، وأبي بكر الأثرم، وأبي بكر المروذي من الحنابلة، وسمى ابن عابدين هذه الطبقة: (طبقة المجتهدين في
_________
(1) هذا ... وإني أعلن رجوعي عما كتبته عن الإباضية في الطبعة السابقة، لتبين الخطأ فيه.
(2) الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي: ص39 - 42، حاشية ابن عابدين: 71/ 1 ومابعدها، رسالة رسم المفتي: ص11 - 12، مالك لأبي زهرة: ص438، 440 - 450، ابن حنبل لأبي زهرة: ص368 - 372. صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لأحمد بن حمدان الحراني الحنبلي: ص16، الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية: ص39.

(1/62)


المذهب): وهم القادرون على استخراج الأحكام من الأدلة على مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم في الأحكام، وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع، لكن يقلدونه في قواعد الأصول.
- وهاتان المرتبتان قد فقدتا من زمان.

3ً - المجتهد المقيد، أو مجتهد المسائل التي لانص فيها عن صاحب المذهب أو مجتهد التخريج، كالخصاف والطحاوي والكرخي والحلواني والسرخسي والبزدوي وقاضي خان من الحنفية، والأبهري وابن أبي زيد القيرواني من المالكية، وأبي إسحاق الشيرازي والمروذي ومحمد بن جرير وأبي نصر وابن خزيمة من الشافعية، والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي علي بن أبي موسى من الحنابلة. وهؤلاء يسمون أصحاب الوجوه؛ لأنهم يخرِّجون مالم ينص عليه على أقوال الإمام، ويسمى ذلك وجهاً في المذهب، أو قولاً فيه، فهي منسوبة للأصحاب، لا لإمام المذهب، وهذا مألوف في المذهبين الشافعي والحنبلي.
4ً - مجتهد الترجيح: وهو الذي يتمكن من ترجيح قول لإمام المذهب على قول آخر، أو الترجيح بين ماقاله الإمام وماقاله تلاميذه أو غيره من الأئمة، فشأنه تفضيل بعض الروايات على بعض، مثل القدوري والمرغيناني صاحب الهداية من الحنفية، والعلامة خليل من المالكية، والرافعي والنووي من الشافعية، والقاضي علاء الدين المرداوي منقح مذهب الحنابلة، وأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني البغدادي (510هـ) المجتهد في مذهب الحنابلة.
5ً - مجتهد الفتيا: وهو أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات، ويميز بين الأقوى والقوي والضعيف، والراجح والمرجوح، ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، كأصحاب المتون المعتبرة من المتأخرين،

(1/63)


مثل صاحب الكنز، وصاحب الدر المختار، وصاحب الوقاية، وصاحب مجمع الأنهر من الحنفية، والرملي وابن حجر من الشافعية.

6ً - طبقة المقلدين: الذين لايقدرون على ماذكر من التمييز بين القوي وغيره، ولايفرقون بين الغث والسمين.
- هذا ولم يفرق الجمهور بين المجتهد المقيد، ومجتهد التخريج، وجعل ابن عابدين طبقة مجتهد التخريج مرتبة رابعة بعد المجتهد المقيد، ومثل له بالرازي الجصاص (المتوفى سنة 370هـ) وأمثاله.

- مراتب كتب الفقه الحنفي: رتب الحنفية كتب الفقه عندهم، ومسائل علمائهم على طبقات ثلاث (1):
1 - مسائل الأصول، وتسمى ظاهر الرواية: وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب، وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، ويلحق بهم زفر والحسن ابن زياد وغيرهما من تلاميذ الإمام، لكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة (الإمام وصاحبيه).
- وكتب ظاهر الرواية للإمام محمد: هي الكتب الستة المعتمدة المروية عن محمد برواية الثقات، بالتواتر أو الشهرة، وهي المبسوط (2)، والزيادات، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والسير الكبير، والسير الصغير. وسميت بظاهر الرواية؛ لأنها رويت عن محمد برواية الثقات. وقد جمعت هذه الكتب الستة في مختصر الكافي لأبي الفضل المروزي المعروف بالحاكم الشهيد، المتوفى عام-

(1/64)


2 - مسائل النوادر: وهي المروية عن أصحاب المذهب المذكورين، لافي الكتب المذكورة، بل إما في كتب أخر لمحمد، كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات، والرِّقيات، والمخارج في الحيل، وزيادة الزيادات رواية ابن رستم، وهي أمالي محمد في الفقه، ويقال لها: غير ظاهر الرواية؛ لأنها لم ترو عن محمد بروايات ظاهرة ثابتة صحيحة كالكتب الأولى.
- وإما في كتب لغير محمد، كالمحرَّر للحسن بن زياد وغيره، وكتب الأمالي المروية عن أبي يوسف.
- والأمالي جمع إملاء: وهو مايقوله العالم بما فتح الله تعالى عليه من ظهر قلبه، ويكتبه التلامذة، وكان ذلك عادة السلف.
- وإما برواية مفردة كرواية ابن سماعة، والمعلى بن منصور وغيرهما في مسائل معينة.
------------------------------
(1) حاشية ابن عابدين: 64/ 1، رسم المفتي: ص 16 ومابعدها.
(2) ويعرف بالأصل، وهو أطول وأهم كتب محمد. 344هـ، ثم شرحه السرخسي في كتاب المبسوط في ثلاثين جزءاً وهو كتاب معتمد في نقل المذهب.

- 3 - الواقعات والفتاوى: وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها، ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما، وهم كثيرون.
- فمن أصحابهما مثل: عصام بن يوسف، وابن رستم، ومحمد بن سماعة، وأبي سليمان الجرجاني، وأبي حفص البخاري.
- وأما من بعدهم فمثل: محمد بن سلمة، ومحمد بن مقاتل، ونصر بن يحيى، وأبي النصر القاسم بن سلام، وقد يخالفون أصل المذهب لدلائل ظهرت لهم.

(1/65)


وأول كتاب جمع الفتاوى: كتاب النوازل للفقيه أبي الليث السمرقندي. ثم جمع المشايخ بعده كتباً أُخَر، كمجموع النوازل والواقعات للناطفي، والواقعات للصدر الشهيد ابن مسعود.
- ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة غير متميزة، كما في فتاوى قاضيخان، والخلاصة وغيرهما. وميز بعضهم، كما في المحيط لرضا الدين السرخسي، فإنه ذكر أولاً مسائل الأصول، ثم النوادر، ثم الفتاوى.
- وأشهر من امتاز بتدوين ورواية الفقه الحنفي بعد محمد وأبي يوسف هم: عيسى بن أبان (المتوفى سنة 220هـ)، ومحمد بن سماعة (المتوفى سنة 233هـ) وهلال بن يحيى الرأي البصري (المتوفى سنة 245هـ)، وأحمد بن عمر بن مهير الخصاف (المتوفى سنة 261هـ)، وأحمد بن محمد بن سلامة، أبو جعفر الطحاوي (المتوفى سنة 321هـ).