الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المبحث السابع ـ
مصارف الزكاة:
فيه مطلبان: الأول ـ مستحقو الزكاة، والثاني ـ أحكام متفرقة في توزيع
الزكاة.
المطلب الأول ـ من هم مستحقو الزكاة؟
أولاً ـ دليل تحديدهم: نصت الآية القرآنية 60 من سورة التوبة على أصناف
ثمانية تستحق الزكاة وهي قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها والمؤلفة
(3/1949)
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله
وابن السبيل، فريضة من الله، والله عليم حكيم} [التوبة:60/ 9] فدلت على أنه
تصرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية.
وروى الجماعة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل
حينما بعثه إلى اليمن « .. فإن هم أطاعوك لذلك ـ أي الإقرار بوجوب الزكاة
عليهم ـ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على
فقرائهم .. » دل على أن الزكاة تؤخذ من قبل الإمام من أغنياء المسلمين،
وتصرف في فقرائهم، وكونها في فقرائهم استدل به لمذهب مالك وغيره بأنه يكفي
إخراج الزكاة في صنف واحد.
ثانياً ـ هل يجب تعميم الأصناف الثمانية؟ قال الشافعية (1): يجب صرف جميع
الصدقات الواجبة سواء الفطرة وزكاة الأموال إلى ثمانية أصناف، عملاً بالآية
الكريمة {إنما الصدقات .. } [التوبة:60/ 9] أضافت الآية جميع الصدقات إلى
هذه الأصناف بلام التمليك، وشركت بينهم بواو التشريك، فدلت على أن الصدقات
كلها مملوكة لهم، مشتركة بينهم. فإن كان الذي يفرق الزكاة هو الإمام، قسمها
على ثمانية أسهم، منها سهم العامل، وهو أول ما يبدأ به؛ لأنه يأخذه على وجه
العوض، وأما غيره فيأخذه على وجه المواساة. وإن كان مفرق الزكاة هو المالك
أو وكيله سقط نصيب العامل، وصرفت إلى الأصناف السبعة الباقية إن وجدوا،
وإلا فللموجودين منهم، والمستحب أن يعم كل صنف إن أمكن، ولا يجوز أن يصرف
لأقل من ثلاثة من كل صنف؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، فإن دفع لاثنين ضمن نصيب
الثالث إلا العامل، فإنه يجوز أن يكون واحداً إن حصلت به الكفاية.
_________
(1) المهذب:170/ 1 - 173، حاشية الباجوري: 291/ 1 - 294، مغني: 116/ 3
ومابعدها.
(3/1950)
والغالب وجوده الآن في البلاد أربعة:
الفقير والمسكين والغارم وابن السبيل. وأجاز جمع من الشافعية دفع زكاة
الفطر لثلاثة فقراء أو مساكين، واختار الرُّوياني من الشافعية صرف الزكاة
إلى ثلاثة من أهل السهمان، قال: وهو الاختيار من حيث الفتوى لتعذر العمل
بمذهبنا.
ومذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (1): جواز صرف الزكاة إلى صنف
واحد، وأجاز الحنفية والمالكية صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف. وندب
عند المالكية صرفها إلى المضطر أي أشدهم حاجة على غيره. ويستحب صرفها في
الأصناف الثمانية خروجاً من الخلاف وتحصيلاً للإجزاء يقيناً، ولا يجب
الاستيعاب.
ودليلهم أن الآية تعني عدم جواز صرفها لغير هذه الأصناف، وأما فيهم فهي تدل
على التخيير، أي إنها لبيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم، لا لتعيين
الدفع فيهم.
وأما دليل جواز الاقتصار على شخص واحد من أحد الأصناف فهو أن الجمع المعرف
بأل «الفقراء .. » ينبغي حملها على المجاز، وهو جنس الفقير، الذي يتحقق
بواحد، لتعذر حملها على الحقيقة: وهو الاستغراق، أي الشمول لجميع الفقراء،
إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير، وهو غير معقول.
ثالثاً ـ بيان الأصناف الثمانية: مستحقو الزكاة هم ثمانية أصناف: وهم
الفقراء والمساكين والعاملون عليها،
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 156/ 1، فتح القدير: 14/ 2، البدائع: 46/ 2، الدر
المختار: 84/ 2، القوانين الفقهية: ص110 ومابعدها، بداية المجتهد: 267/ 1،
المغني: 668/ 2، الشرح الصغير: 664/ 1، كشاف القناع: 335/ 2 ومابعدها.
(3/1951)
والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون،
وفي سبيل الله، وابن السبيل (1).
1 - أما الفقراء: أصحاب السهم الأول: فهم جمع فقير، والفقير في رأي
الشافعية والحنابلة: هو من ليس له مال ولا كسب يقع موقعاً من كفايته، أو
حاجته. فليس له زوج ولا أصل ولا فرع يكفيه نفقته، ولا يحقق كفايته مطعماً
وملبساً ومسكناً كمن يحتاج إلى عشرة ولا يجد إلا ثلاثة، حتى وإن كان صحيحاً
يسأل الناس أو كان له مسكن وثوب يتجمل به.
2 - وأما المساكين أصحاب السهم الثاني
فهم جمع مسكين: والمسكين: هو الذي يقدر على كسب ما يسد مسداً من حاجته،
ولكن لا يكفيه، كمن يحتاج إلى عشرة وعنده ثمانية لا تكفيه الكفاية اللائقة
بحاله من مطعم وملبس ومسكن.
فالفقير عند الشافعية والحنابلة: أسوأ حالاً من المسكين، فالفقير: هو من لا
مال له ولا كسب أصلاً، أو كان يملك أو يكتسب أقل من نصف ما يكفيه لنفسه ومن
تجب عليه نفقته (ممونه) من غير إسراف ولا تقتير. والمسكين: هو من يملك أو
يكتسب نصف ما يحتاجه فأكثر، ولكن لم يصل إلى قدر كفايته. والمراد بالكفاية
في حق المكتسب: كفاية يوم بيوم، وفي حق غيره: ما بقي من عمره الغالب وهو
اثنان وستون سنة.
ودليلهم على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين: بداءة الله تعالى بذكر
الفقراء، وإنما يبدأ عادة بالأهم فالأهم. وقال تعالى: {أما السفنية فكانت
لمساكين
_________
(1) البدائع: 43/ 2 - 46، الدر المختار: 79/ 1 - 84، فتح القدير: 14/ 2 -
20، الشرح الكبير: 492/ 1 - 497، الشرح الصغير: 657/ 1 - 664، بداية
المجتهد: 266/ 1 - 269، القوانين الفقهية: ص109 - 111، المهذب: 170/ 1 -
173، كشاف القناع: 316/ 2 - 332، المغني: 665/ 2 ومابعدها.
(3/1952)
يعملون في البحر} [الكهف:79/ 18] فأخبر أن
لهم سفينة يعملون فيها، وقد سأل النبي المسكنة واستعاذ من الفقر، فقال:
«اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين» (1)، ولا
يجوز أن يسأل شدة الحاجة، ويستعيذ من حالة أصلح منها. ولأن الفقير هو
المفقور لغة: وهو الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فانقطع صلبه.
وقال الحنفية والمالكية: المسكين أسوأ حالاً من الفقير، كما نقل عن بعض
أئمة اللغة، ولقوله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} [البلد:16/ 90] أي ألصق
جلده بالتراب ليواري به جسده، مما يدل على غاية الضرر والشدة (2)، ولأن
المسكين: هو الذي يسكن حيث يحل، لأنه لا مسكن له، مما يدل على شدة الضرر
والبؤس.
3 - والصنف الثالث ـ العاملون عليها:
وهم السعاة لجباية الصدقة، ويشترط فيهم العدالة والمعرفة بفقه الزكاة،
ويدخل العاشر والكاتب وقاسم الزكاة بين مستحقيها وحافظ المال، والحاشر:
الذي يجمع أرباب الأموال، والعريف: الذي يعرف أرباب الاستحاق. وعدّاد
المواشي والكيال والوزان والراعي، وكل من يحتاج إليه في الزكاة لدخولهم في
مسمّى «العامل» غير قاض ووال لاستغنائهما بمالهما في بيت المال. أما أجرة
الكيل والوزن في حال تسليم الزكاة من المالك ومؤنة دفعها، فعلى المالك؛ لأن
تسليمها عليه، فكذلك مؤنته. أما مؤنة ذلك حال الدفع إلى جباة الزكاة، فمن
سهم العمال.
_________
(1) رواه الترمذي.
(2) ناقشهم الفريق الأول بأنه يجوز التعبير عن الفقير بالمسكين مطلقاً، وأن
هذا النعت لا يستحقه بإطلاق اسم المسكنة. وناقش الفريق الثاني استدلال
الأولين بآية السفينة بأنه قيل لهم: مساكين ترحماً.
(3/1953)
والذي يعطى للعامل: هو بمثابة الأجرة على
العمل، فيعطاها ولو كان غنياً، أما لو اعتبرت زكاة أو صدقة لما حلت للغني.
4 - والصنف الرابع ـ المؤلفة قلوبهم: منهم ضعفاء النية في الإسلام، فيعطون
ليتقوى إسلامهم. وهم نوعان: مسلمون وكفار.
أما الكفار فصنفان: صنف يرجى خيره، وصنف يخاف شره. وقد ثبت أن النبي صلّى
الله عليه وسلم أعطى قوماً من الكفار، يتألف قلوبهم ليسلموا، ففي صحيح
مسلم: أنه صلّى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية
وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، كل إنسان منهم مئة من
الإبل. وأعطى أيضاً علقمة ابن علاثة من غنائم حنين (1).
واختلف العلماء في إعطاء المؤلفة قلوبهم
من الزكاة حال كونهم كفاراً، فقال الحنابلة والمالكية: يعطون ترغيباً في
الإسلام؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أعطى المؤلفة من المسلمين
والمشركين».
وقال الحنفية والشافعية: لا يعطى الكافر من الزكاة لا لتأليف ولا لغيره،
وقد كان إعطاؤهم في صدر الإسلام في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، وقد
أعز الله الإسلام وأهله، واستغنى بهم عن تألف الكفار، ولم يعطهم الخلفاء
الراشدون بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال عمر رضي الله عنه: «إنا
لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر».
وأما المسلمون من المؤلفة: فهم أصناف يعطون بسبب احتياجنا إليهم:
1 - ضعفاء النية في الإسلام: يعطون ليتقوى إسلامهم.
_________
(1) نيل الأوطار: 166/ 4.
(3/1954)
2 - الشريف المسلم في قومه الذي يتوقع
بإعطائه إسلام نظرائه، فقد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم أبا سفيان بن
حرب وجماعة ممن ذكر، وأعطى الرسول صلّى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر
وعدي بن حاتم، لشرفهما في قومهما.
3 - المقيم في ثغر في ثغور المسلمين المجاورة للكفار، ليكفينا شر من يليه
من الكفار بالقتال.
4 - من يجبي الصدقات من قوم يتعذر إرسال ساع إليهم، وإن لم يمنعوها. وقد
ثبت أن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم حين قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام
الردة.
وقد اختلف العلماء في بقاء سهم المؤلفة قلوبهم بعد النبي صلّى الله عليه
وسلم: فقال الحنفية ومالك: قد سقط سهم المؤلفة بانتشار الإسلام وغلبته؛ لأن
الله تعالى أعز الإسلام، وأغنى عنهم وعن استمالتهم إلى الدخول فيه. فيكون
عدد الأصناف سبعة لا ثمانية، وذلك بإجماع الصحابة. قال مالك: لا حاجة إلى
المؤلفة الآن لقوة الإسلام.
وقال الجمهور منهم خليل من المالكية: حكم المؤلفة باق لم ينسخ، فيعطون عند
الحاجة، ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم: على عدم الحاجة إلى إعطائهم في
خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل، وأعطى أبو بكر عدي بن
حاتم والزبرقان بن بدر، كما ذكرت، ولأن المقصود من دفعها إليهم ترغيبهم في
الإسلام لأجل إنقاذ مهجهم من النار، لا لإعانتهم لنا حتى يسقط بفشو
الإسلام.
(3/1955)
5 - والصنف الخامس ـ
في الرقاب: وهم عند الحنفية والشافعية:
المكاتبون (1) المسلمون الذي لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع القوة والكسب؛
لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتباً، ولو
اشتري بالسهم عبيد، لم يكن الدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى سادتهم، ولم
يتحقق التمليك المطلوب في أداء الزكاة، ويؤكده قوله تعالى: {وآتوهم من مال
الله الذي آتاكم} [النور:33/ 24] وفسر ابن عباس «في الرقاب» بأنهم
المكاتبون.
وقال المالكية والحنابلة: يشترى بسهمهم رقيق، فيعتق؛ لأن كل موضع ذكرت فيه
الرقبة، يراد بها عتقها، والعتق والتحرير لا يكون إلا في القن (العبد
الخالص العبودية) كما في الكفارات.
وشرط إعطاء المكاتب هو كونه مسلماً، محتاجاً.
وبما أنه لا يوجد الآن في العالم رقيق، لإلغائه وتحريمه دولياً، فإن هذا
السهم لا وجود له حقيقة، وما قد يوجد ليس له طريق شرعي جائز.
6 - والصنف السادس ـ الغارمون: وهم
المدينون، سواء استدان المدين عند الشافعية والحنابلة لنفسه أم لغيره،
وسواء أكان دينه في طاعة أم معصية. فإن استدان لنفسه لم يعط إلا إذا كان
فقيراً، وإن استدان لإصلاح ذات البين ولو بين أهل ذمة، بسبب إتلاف نفس أو
مال أو نهب، فيعطى من سهم الغارمين، ولو كان غنياً، لقوله صلّى الله عليه
وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا خمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليهم،
أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على
المسكين، فأهدى المسكين إليه» (2).
_________
(1) المكاتب: من كاتبه سيده على أقساط معينة، فإذا وفاها صار حراً.
والكتابة مندوبة لقوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} [النور:33/
24] من أجل تحرير الرقاب.
(2) رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3/1956)
وقال الحنفية: الغارم: من لزمه دين، ولا
يملك نصاباً فاضلاً عن دينه. وقال المالكية: الغارم: هو من فدحه الدين
للناس في غير سفه ولا فساد، أي من ليس عنده ما يوفي به دينه، إذا كان الدين
في غير معصية كشرب خمر وقمار، ولم يستدن لأخذ الزكاة، كأن يكون عنده ما
يكفيه وتوسع في الإنفاق بالدين لأجل أن يأخذ من الزكاة، فلا يعطى منها؛
لأنه قصد مذموم، بخلاف فقير استدان للضرورة، ناوياً الأخذ من الزكاة، فإنه
يعطى قدر دينه منها لحسن قصده.
لكن إن تاب من استدان لمعصية، أو بقصد ذميم، فإنه يعطى على الأحسن.
7 - والصنف السابع - في سبيل الله: وهم الغزاة المجاهدون الذين لا حق لهم
في ديوان الجند؛ لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو، ولقوله تعالى: {إن الله
يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً} [الصف:4/ 61] وقوله: {وقاتلوا في سبيل
الله} [البقرة:190/ 2] وغير ذلك، فيدفع إليهم لإنجاز مهمتهم وعونهم ولو
كانوا عند الجمهور أغنياء؛ لأنه مصلحة عامة. وأما من له شيء مقدر في
الديوان فلا يعطى؛ لأن من له رزق راتب يكفيه، فهو مستغن به.
لكن لا يحج أحد بزكاة ماله، ولا يغزو (يجاهد) بزكاة ماله، ولا يُحَج بها
عنه، ولا يُغْزى بها عنه لعدم الإيتاء المأمور به.
وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي في سبيل الله
إلا إذا كان فقيراً.
والحج عند الحنابلة وبعض الحنفية من السبيل، فيعطى مريد الحج من الزكاة،
لما روى أبو داود عن ابن عباس: «أن رجلاً جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت
امرأته الحج، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: اركبيها، فإن الحج من
سبيل الله» فيأخذ مريد
(3/1957)
الحج من الزكاة إن كان فقيراً، ما يؤدي به
فرض حج أو فرض عمرة، أو يستعين به في أداء الفرضين؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط
الفرض. وأما التطوع فله عنه مندوحة.
8 - والصنف الثامن ـ ابن السبيل: هو المسافر أو من يريد السفر في طاعة غير
معصية، فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة، والطاعة: مثل الحج والجهاد وزيارة
مندوبة.
يعطى ابن السبيل ما يبلغ به مقصده، إذا
كان محتاجاً في سفره، ولو كان غنياً في وطنه.
رابعاً ـ هل تعطى الزكاة لغير هذه الأصناف؟ اتفق جماهير فقهاء المذاهب (1)
على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد
والجسور والقناطر والسقايات وكري الأنهار وإصلاح الطرقات، وتكفين الموتى،
وقضاء الدين، والتوسعة على الأضياف، وبناء الأسوار وإعداد وسائل الجهاد،
كصناعة السفن الحربية وشراء السلاح، ونحو ذلك من القرب التي لم يذكرها الله
تعالى مما لا تمليك فيه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إنما الصدقات
للفقراء} [التوبة:60/ 9] وكلمة «إنما» للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي
ماعداه، فلا يجوز صرف الزكاة إلى هذه الوجوه؛ لأنه لم يوجد التمليك أصلاً.
لكن فسر الكاساني في البدائع سبيل الله. بجميع القرب، فيدخل فيه كل
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 81/ 2، 83، 85، البدائع: 45/ 2، الشرح
الكبير: 497/ 1، المهذب: 170/ 1، 173، المغني: 667/ 2، القوانين الفقهية:
ص111، أحكام القرآن لابن العربي: 957/ 2.
(3/1958)
من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان
محتاجاً؛ لأن «في سبيل الله» عام في الملك، أي يشمل عمارة المساجد ونحوها
مما ذكر، وفسر بعض الحنفية «سبيل الله بطلب العلم ولو كان الطالب غنياً».
قال أنس والحسن: «ما أعطيت في الجسور والطرق، فهي صدقة ماضية».
وقال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافاً في أن المراد بسبيل الله
ههنا الغزو.
خامساً ـ مقدار ما يعطى لمستحقي الزكاة: اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى
للفقير والمسكين (1):
فقال الشافعية والحنابلة: يجوز أن يدفع إلى كل منهما ما تزول به حاجته أو
كفايته من أداة يعمل بها إن كان فيه قوة، أو بضاعة يتجر فيها، حتى ولو
احتاج إلى مال كثير للبضاعة التي تصلح له، ويحسن التجارة فيها؛ لأن الله
أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم، فالمقصود من
الزكاة سد الخلة ودفع الحاجة، فيعطى الفقير والمسكين ما يحقق حاجته وهو
كفاية سنة. وقال صلّى الله عليه وسلم في حديث قبيصة عند مسلم: «فحلت له
المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو سِداداً من عيش» والسداد: الكفاية.
وكره أبو حنيفة إعطاء إنسان نصاب الزكاة وهو قدر مئتي درهم، ويجزئ إعطاء أي
قدر.
_________
(1) الدر المختار: 88/ 2،93، فتح القدير: 28/ 2، الشرح الكبير مع الدسوقي:
494/ 1، أحكام القرآن لابن العربي: 961/ 2، المجموع: 202/ 6، المهذب: 171/
1، مغني المحتاج: 114/ 3، بداية المجتهد:268/ 1 ومابعدها، كشاف القناع:
317/ 2 ومابعدها.
(3/1959)
وأجاز مالك إعطاء نصاب، ويرد الأمر إلى
الاجتهاد، فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنياً. لكن لا يعطى عند
المالكية أكثر من كفاية سنة.
ودليل أبي حنيفة ومالك أن الآية ليس فيها تحديد مقدار ما يعطى كل واحد من
الأصناف.
وأما مقدار ما يعطى للعامل: فاتفق الفقهاء (1) على أنه يدفع إليه الإمام
بقدر عمله، أي ما يسعه أو يكفيه وأعوانه بالوسط، مدة ذهابهم وإيابهم، لكن
قيد الحنفية ذلك بألا يزاد على نصف ما يقبضه.
وأما ما يعطى للغارم: فبقدر ما عليه من الدين إذا كان في طاعة وفي غير سرف،
بل في أمر ضروري.
وكذلك ابن السبيل: يعطى ما يوصله إلى بلده (2).
سادساً ـ من سأل الزكاة وكان غير مستحق: هذه مسألة تشترك فيها الأصناف
الثمانية كلها (3)، وهي من سأل الزكاة وعلم الإمام أنه ليس مستحقاً، لم يجز
له صرف الزكاة إليه. وإن علم استحقاقه، جاز الصرف إليه بلا خلاف.
وإن لم يعرف حاله فالصفات قسمان: خفية وجلية:
فالخفي: الفقر والمسكنة، فلا يطالب مدعيها ببينة لعسرها، فلو عرف له
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 155/ 1، الشرح الكبير: 495/ 1، بداية المجتهد: 269/
1، المهذب: 171/ 1، كشاف القناع: 322/ 2، الدر المختار: 81/ 2.
(2) بداية المجتهد: 268/ 1 ومابعدها.
(3) المجموع: 214/ 6 ومابعدها، وانظر الشرح الصغير: 668/ 1، كشاف القناع:
334/ 2.
(3/1960)
مال، وادعى هلاكه، لم يقبل إلا ببينة، ولو
ادعى عيالاً فلا بد من البينة في الأصح.
والجلي: نوعان: أحدهما ـ يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل، وذلك في
الغازي وابن السبيل، فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين. ثم إن لم يحققا ما
ادعيا، ولم يخرجا، استرد منهما ما أخذا، ويترصد للخروج بحسب المعتاد على
وجه التقريب.
والثاني ـ يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وهذا النوع يشترك فيه بقية
الأصناف، فالعامل إذا ادعى العمل طولب بالبينة، وكذلك المكاتب والغارم.
وأما المؤلف قلبه: فإن قال: نيتي ضعيفة في الإسلام، قبل قوله؛ لأن كلامه
يصدقه، وإن قال: أنا شريف مطاع في قومي، طولب بالبينة. قال الرافعي من
الشافعية: واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة في كل من يطالب بها من
الأصناف، لحصول العلم أو الظن بالاستفاضة.
سابعاً ـ شروط المستحقين أو أوصافهم: اشترط الفقهاء في مستحق الزكاة شروطاً
خمسة هي ما يأتي (1):
1 - أن يكون فقيرا ً إلا العامل فإنه
يعطى ولو كان غنياً لأنه يستحقه أجرة ولأنه فرغ نفسه لهذا العمل، فيحتاج
إلى الكفاية، وإلا ابن السبيل إذا كان له في
_________
(1) البدائع: 43/ 2 - 48، فتح القدير: 21/ 2 - 29، الفتاوى الهندية: 176/
1، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 81/ 2 - 90، 94، الشرح الكبير: 494/ 1
ومابعدها، بداية المجتهد: 267/ 1 ومابعدها، الشرح الصغير: 659/ 1 - 668،
مغني المحتاج: 112/ 3، بجيرمي الخطيب: 319/ 2، المهذب: 174/ 1 - 175،
المجموع: 244/ 6 - 248، حاشية الباجوري: 295/ 1، كشاف القناع: 317/ 2 -
344، المغني: 646/ 2 - 650، 661، أحكام القرآن لابن العربي: 945/ 2 - 963.
(3/1961)
وطنه مال، فهو بمنزلة الفقير؛ لأن الحاجة
هي المعتبرة، وهو الآن فقير يداً، وإن كان غنياً ظاهراً، وإلا المؤلف
والغازي في رأي الشافعية والحنابلة.
والفقر شرط عام لصرف جميع الصدقات المفروضة والواجبة كالعشور والكفارات
والنذور وصدقة الفطر، لعموم قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء}
[التوبة:60/ 9].
وعليه لا يجوز صرف الزكاة وغيرها من الواجبات لغني، لقوله صلّى الله عليه
وسلم: «لاتحل الصدقة لغني، ولا ذي مِرّة سوي» (1) وجاز دفع الزكاة لأربعة
أو خمسة من الأغنياء: وهم العامل، والمؤلف، والغازي، والغارم لإصلاح ذات
البين عند الشافعية والحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة
لغني إلا لخمسة: لعامل، أو رجل اشتراها بماله، أوغاز في سبيل الله، أو
لغارم، أو مسكين تُصدِّق عليه منها فأهدى منها لغني» (2).
والغني عند الحنفية (3): هو من ملك قدر نصاب فارغ عن حاجته الأصلية من أي
مال. فيعطى من الزكاة من كان يملك أقل من نصاب شرعي، ولو كان صحيحاً قوياً
قادراً على الكسب؛ لأنه فقير والفقراء هم المصارف، ولأن حقيقة الحاجة لا
يوقف عليها، فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النصاب، فلا بأس أن يعطى من
الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في منزله وخادم وفرس وسلاح وثياب البدن،
_________
(1) رواه أبو داود والترمذي من حديث عمرو بن العاص. والمرّة: القوة والشدة،
والسوي: المستوي الخلْق، التام الأعضاء.
(2) رواه أبو داود وابن ماجه.
(3) الدر المختار: 88/ 2،96، البدائع: 48/ 2، فتح القدير: 27/ 2 ومابعدها،
قالوا: لو دفع الزكاة إلى أخته، ولها على زوجها مهر يبلغ نصاباً، وهو ملي
مقر، ولو طلبت لا يمتنع عن الأداء، لا تجوز، وإلا جاز.
(3/1962)
وكتب العلم إن كان من أهله؛ لأن هذه
الأشياء من الحوائج الأصلية اللازمة التي لابد منها للإنسان، فإن كان له
فضل عن ذلك تبلغ قيمته مئتي درهم، حرم عليه أخذ الصدقة. ويجوز أداء الزكاة
للمكاتب وإن حصل نصاباً زائداً عن بدل الكتابة، ولا يجوز دفع الزكاة إلى من
يملك نصاباً من أي مال كان؛ لأن الغنى الشرعي مقدر به.
والغني عند المالكية (1): هو من ملك كفايته لمدة سنة، والفقير: هو من ملك
من المال أقل من كفاية السنة، فيعطى من الزكاة ولو ملك نصاباً فأكثر لكنه
لا يكفيه لعامه، ولو كان قوياً قادراً على الكسب أي كسب ما يكفيه بصنعة
تارك لها وغير مشتغل بها، ولو كان تركه التكسب بها اختياراً على المشهور.
ومن لم يجد كفاية سنة ويقوم بالإنفاق عليه نحو والد أو بيت مال بمرتب لا
يكفيه من أكل وكسوة، أو من صنعة لا تكفيه، فيعطى من الزكاة.
والغني عند الشافعية (2): من كانت عنده الكفاية في عمره الغالب وهو اثنان
وستون سنة، إلا إذا كان له مال يتجر فيه، فيعتبر ربحه في كل يوم، فإن كان
أقل من نصف الكفاية في ذلك اليوم، فهو فقير. وكذا إذا جاوز العمر الغالب
فالعبرة بكل يوم على حدة، فإن كان له مال أو كسب لا يكفيه في نصف اليوم فهو
فقير.
والفقير: هو من لا مال له أصلاً ولا كسب حلال، وله مال أو كسب حلال لا
يكفيه بأن كان أقل من نصف الكفاية، ولم يكن له منفق يعطيه ما يكفيه كالزوج
بالنسبة للزوجة. والمعتبر: كسب يليق بحاله ومروءته، وأما ما لا يليق به فهو
كالمعدوم. وتحل الزكاة لطالب العلوم الشرعية؛ لأن تحصيل العلم فرض كفاية،
ويخاف من الإقبال على الكسب الانقطاع عن التحصيل.
_________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 494/ 1.
(2) المجموع: 197/ 6 - 202، مغني المحتاج: 107/ 3 - 108،246.
(3/1963)
والمسكين: هو من قدر على مال أو كسب حلال
يساوي نصف ما يكفيه في العمر الغالب.
ولا يعطى الفقير أو المسكين من الزكاة إذا كان قادراً على الكسب، للحديث
السابق عند أبي داود بإسناد صحيح: «لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب».
لكن تعطى الزكاة للعبد المكاتب ولو مع القدرة والكسب.
والخلاصة: لا يمنع الفقير مسكنه وثيابه وماله الغائب في مسافة مرحلتين
(مسافة القصر) ودينه المؤجل وكسب لا يليق به، ولايشترط فيه الزمانة ولا
التعفف عن المسألة في الجديد، والمكفي بنفقة قريب أو زوج ليس فقيراً في
الأصح. ولو اشتغل بعلم والكسب يمنعه من اشتغاله بذلك، فهو فقير.
والغني عند الحنابلة (1) في أظهر الروايتين عن أحمد: هو من ملك خمسين
درهماً أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب
أو تجارة أو عقار أو نحو ذلك، لحديث أبي داود والترمذي: «الغنى: خمسون
درهماً أو قيمتها من الذهب» والفقير: من لا يجد شيئاً البتة (أي قطعاً)،أو
يجد شيئاً يسيراً من الكفاية دون نصفها من كسب أو غيره، مما لا يقع موقعاً
من كفايته، كدرهمين من عشرة. والمسكين: من يجد معظم الكفاية أو نصفها من
كسب أو غيره. فيعطى كل منهما كفايته مع عائلته سنة. ولا يعطى كل منهما من
الزكاة إذا كان قادراً على الاكتساب إذ إنه لاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب،
كما روى أبو داود. لكن إذا تفرغ القادر على التكسب لطلب العلم، وتعذر الجمع
بين طلب العلم والتكسب، يعطى من الزكاة، ولا يعطى إذا تفرغ للعبادة، لقصور
نفعها.
_________
(1) كشاف القناع: 317/ 2، 319، 334 ومابعدها، المغني: 661/ 2.
(3/1964)
والخلاصة: أن المانع من الصدقة وهو الغنى:
هو أقل ما ينطلق عليه الاسم عند الشافعية والحنابلة أخذاً بالمعنى اللغوي
للكلمة، وهو ملك النصاب عند الحنفية أخذاً بالمعنى الشرعي؛ لأن الشرع اعتبر
في حديث معاذ مالك النصاب هو الغني. وقال مالك: ليس في ذلك حد إنما هو راجع
إلى الاجتهاد، وذلك يختلف باختلاف الحالات والحاجات والأشخاص والأمكنة
والأزمنة.
ويحرم سؤال الزكاة أو صدقة التطوع أو الكفارة ونحوها، وله ما يغنيه أي
يكفيه؛ لأنه لا يحل له أخذها إذن، ووسائل المحرم محرمة.
الإعلام بكون المدفوع زكاة: إذا دفع
المسلم الزكاة إلى من يظنه فقيراً أو رآه ظاهر الحاجة، لم يحتج إلى إعلامه
أنها زكاة.
إذا ظهر كونه غنياً أو غير مستحق: إن دفعت إلى من ظاهره الفقر أو يظنه
فقيراً، فبان غنياً، أو ظنه مسلماً، فبان كافراً، لم يجزه ذلك عن الفرض
ويجب ردها منه، في رأي المالكية والشافعية وفي الراجح عند الحنابلة (1)؛
لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقه، فلم يخرج من عهدته، كما لو دفعها إلى كافر
أو ذي قرابة، كديون الآدميين. ثم إن كان المال باقياً، استرجع منه، ودفع
إلى فقير، وإن كان فائتاً، أخذ البدل، وصرف إلى فقير. فإن لم يكن للمدفوع
إليه مال، لم يجب على رب المال ضمانه؛ لأنه إذا دفعه إلى الإمام، سقط الفرض
عنه بذلك، ولا يضمنه الإمام؛ لأنه أمين غير مفرط. وإن كان الدافع هو رب
المال نفسه، فإن لم يبين عند الدفع أنه زكاة واجبة، لم يكن له أن يرجع،
لأنه قد يدفع عن زكاة واجبة وعن تطوع. وإن كان قد بين أنها زكاة، رجع فيها.
_________
(1) المهذب: 175/ 1، المغني: 667/ 2 ومابعدها، كشاف القناع: 344/ 2، الشرح
الصغير: 668/ 1، غاية المنتهى: 315/ 1 ومابعدها.
(3/1965)
والخلاصة: إن الجمهور يقررون أنه لا تجزئ
الزكاة إذا دفعت لغير مستحق إلا الإمام، ومثله عند المالكية نائب القاضي
والوصي، فإنها تجزئ إن تعذر ردها؛ لأنهم يدفعونها بالاجتهاد. واستثنى
الحنابلة حالة الدفع لغني ظنه فقيراً، فإنها تجزئه.
وقال الحنفية (1): إذا دفع الزكاة لإنسان ثم بان أنه غني أو ذمي، أو أنه
أبوه أو ابنه أو امرأته أو هاشمي، لا يعيد الدفع؛ لأنه أتى بما في وسعه، أي
أتى بالتمليك الذي هو ركن الأداء على قدر وسعه، إذ ليس مكلفاً بأكثر من
التحري والبحث، فلو دفع بلا تحرٍ، لم يجز؛ لأنه أخطأ.
2 - أن يكون مستحق الزكاة مسلما ً: إلا
المؤلفة قلوبهم في رأي المالكية والحنابلة: فلا يجوز صرف الزكاة إلى الكافر
بلا خلاف، لحديث معاذ رضي الله عنه المتقدم: «خذها من أغنيائهم وردها في
فقرائهم» أمر بوضع الزكاة في فقراء من يؤخذ من أغنيائهم وهم المسلمون، فلا
يجوز وضعها في غيرهم.
وأما ما سوى الزكاة من صدقة الفطر والكفارات والنذور، فلا شك في أن صرفها
إلى فقراء المسلمين أفضل؛ لأن الصرف إليهم يقع إعانة لهم على الطاعة. وهل
يجوز صرفها إلى أهل الذمة؟
قال أبو حنيفة ومحمد: يجوز، لقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن
تخفوها وتؤتوها الفقراء، فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم} [البقرة:271/
2] من غير تفرقة بين فقير وفقير، وعموم هذا النص يقتضي جواز صرف الزكاة
إليهم، إلا أنه خص منه الزكاة لحديث معاذ، وقوله تعالى في
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 93/ 2، الكتاب مع اللباب: 157/ 1.
(3/1966)
الكفارات: {فكفارته إطعام عشرة مساكين .. }
[المائدة:89/ 5] من غير تفرقة بين مسكين ومسكين، إلا أنه خص منه الحربي
بدليل حتى لا يكون ذلك إعانة لهم على قتالنا، ولأن صرف الصدقة إلى أهل
الذمة من باب إيصال البر إليهم، وما نهينا عن ذلك، قال تعالى: {لا ينهاكم
الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ...
} [الممتحنة:8/ 60].
وقال أبو يوسف وزفر والشافعي والجمهور: لا يجوز صرف غير الزكاة أيضاً إلى
الذميين قياساً على الزكاة، وعلى الحربي.
3 - ألا يكون المستحق من بني هاشم: لأن
آل البيت تحرم عليهم الزكاة؛ لأنها أوساخ الناس، ولهم من خمس الخمس في
البيت ما يكفيهم، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن هذه الصدقات إنما هي
أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد» (1).
وبنو هاشم الذين تحرم عليهم الصدقات عند الكرخي من الحنفية والحنابلة (2):
آل العباس، وآل علي وآل جعفر وآل عقيل بني أبي طالب، وآل الحارث بن عبد
المطلب، لعموم الحديث المتقدم (3) وكذلك قال الشافعية (4): هم
_________
(1) رواه مسلم في حديث طويل من رواية عبد المطلب بن ربيعة مرفوعاًً، وروى
الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن أبي رافع: «إن الصدقة لا تحل لنا» (نصب
الراية: 403/ 2، نيل الأوطار: 174/ 4).
(2) البدائع: 49/ 2، كشاف القناع: 339/ 2.
(3) الهاشمي: من لهاشم عليه ولادة، كأولاد العباس وحمزة وأبي طالب وأبي
لهب، وأولاد فاطمة، وقد أدخل الحنابلة آل أبي لهب بن عبد المطلب؛ لأنه ثبت
أنه أسلم عتبة ومعتب ابنا أبي لهب عام الفتح، وسر صلّى الله عليه وسلم
بإسلامهما، ودعا لهما، وشهدا معه حنيناً والطائف ولهما عقب عند أهل النسب
(نيل الأوطار: 172/ 4) وهاشم: هو ثاني أجداد النبي صلّى الله عليه وسلم،
فهو أبو عبد المطلب.
(4) شرح المجموع: 244/ 6 وما بعدها.
(3/1967)
بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلّى الله عليه
وسلم: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه» (1).
وقال أبو حنيفة والمالكية (2): هم بنو هاشم فقط، وأما بنو المطلب أخو هاشم
فليسوا عندهم من آل البيت، فيعطون من الزكاة على المشهور.
هذا ... وقد نقل عن أبي حنيفة وعن المالكية وبعض الشافعية: جواز إعطاء
الهاشميين من الزكاة، لأنهم حرموا من بيت المال سهم ذوي القربي، منعاً
لتضييعهم ولحاجتهم، عملاً بالمصالح المرسلة. وإعطاؤهم ـ كما قال الدسوقي
المالكي ـ حينئذ أفضل من إعطاء غيرهم. وتحل صدقة التطوع لهم عند الأكثرين.
4 - ألا يكون ممن تلزم المزكي نفقته من
الأقارب والزوجات ولو في العدة: لأن ذلك يمنع وقوع الأداء تمليكاً للفقير
من كل وجه، بل يكون صرفاً إلى نفسه من وجه، فهو يجلب لنفسه نفعاً، وهو منع
وجوب النفقة عليه. فلا تدفع الزكاة إلى الوالدين وإن علوا (أي الأجداد)
والمولودين وإن سفلوا (أي الأحفاد والأسباط)، ولا إلى الزوجات (حتى ولو
كانت الزوجة مبانة في العدة ولو بثلاث في مذهب الحنفية)؛ بصفة الفقر أو
المسكنة؛ لأن نفقتهم واجبة على المزكي، والزكاة للحاجة،،ولا حاجة مع وجوب
النفقة، ولأن أحدهم ينتفع بمال الآخر، بل ولا يجوز دفعها عند الشافعية لشخص
لا تلزم المزكي نفسه نفقته، وإنما تلزم غيره؛ لأنه غير محتاج، كمكتسب كل
يوم قدر كفايته. وأجاز الحنفية دفع الزكاة لامرأة فقيرة وزوجها غني؛ لأنها
لا تستحق على زوجها إلا مقدار النفقة، فلا تعد بذلك القدر غنية، ولا يجوز
عندهم دفع زكاة الزاني لولده من الزنا إلا إذا كان الولد من ذات زوج معروف.
_________
(1) رواه البخاري عن جبير بن مطعم.
(2) الشرح الصغير: 659/ 1، الشرح الكبير: 493/ 1.
(3/1968)
لكن يجوز دفعها لمن ذكر بصفة كونهم غارمين
أو غزاة مجاهدين مثلاً. وأجاز الشافعية كما في المجموع للنووي والمالكية
وابن تيمية إعطاء الزكاة لولد أو والد لاتلزم المزكي نفقته، إذا كان
فقيراً؛ لأنه حينئذ كالأجنبي، وأباح المالكية للمرأة دفع زكاة فطرها - لا
الزكاة الواجبة - إلى زوجها الفقير.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي في المهذب: «ولا يجوز دفع الزكاة إلى من
تلزمه نفقته من الأقارب والزوجات من سهم الفقراء؛ لأن ذلك إنما جعل للحاجة،
ولا حاجة بهم مع وجوب النفقة».
وقال النووي عن الأصحاب: ويجوز أن يدفع إلى ولده ووالده من سهم العاملين
والمكاتبين والغارمين والغزاة إذا كانوا بهذه الصفة. ولا يجوز أن يدفع إليه
من سهم المؤلفة إن كان ممن يلزمه نفقته؛ لأن نفعه يعود إليه، وهو إسقاط
النفقة، فإن كان ممن لا يلزمه نفقته، جاز رفعه إليه (1). وعلى هذا من استقل
من الأولاد بكسب لا يكفيه، وليس في منزل أبيه، يجوز إعطاؤه من الزكاة عند
الشافعية.
وهل يجوز دفع الزوجة إلى زوجها زكاتها؟
قال أبو حنيفة، والحنابلة على الراجح (2): لا يجوز؛ لأن الزكاة تعود إليها
بإنفاقه عليها.
وقال الصاحبان والشافعية، والمالكية على الصحيح (3): يجوز له ولأولادها،
لحديث زينب امرأة ابن مسعود:
«زوجُك وولدك أحق من تصدقت
_________
(1) المجموع للنووي: 247/ 6.
(2) الدر المختار: 86/ 2 - 90، البدائع: 40/ 2، كشاف القناع: 338/ 2 وما
بعدها، الكتاب مع اللباب: 156/ 1.
(3) البدائع: 40/ 2، أحكام ابن العربي: 960/ 2، المجموع: 247/ 6، حاشية
الصاوي: 658/ 1.
(3/1969)
عليهم به» (1)، ولأن نفقة الزوج والأولاد
غير واجبة على الزوجة والأم.
ويجوز دفع الزكاة إلى بقية الأقارب الفقراء غير المذكورين كالأخ والأخت
والعمة والعم والخالة والخال ونحوهم، لحديث الطبراني عن سلمان بن عامر:
«الصدقة على المسكين صدقة وهي لذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» بل إن القرابة
أحق بزكاة المزكي، قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول.
ويجوز دفع الزكاة لزوجة أبيه وابنه وزوج ابنته (الصهر). ولم يجز المالكية
دفع الزكاة لمن كانت نفقته لازمة عليه أو كان له مرتب في بيت المال يكفيه.
وكذلك لم يجز الحنابلة دفع الزكاة إلى عمودي النسب في حال تجب نفقتهم فيه
عليه أو لا تجب نفقتهم فيه، ورثوا أو لم يرثوا، حتى ذوي الأرحام منهم، كأبي
الأم وولد البنت.
أما صدقات التطوع (2): فيجوز دفعها للأصول والفروع والزوجات والأزواج،
والدفع إليهم أولى؛ لأن فيه أجرين: أجر الصدقة وأجر الصلة.
وتجوز صدقة التطوع للأغنياء والكفار، ولهم أخذها، وفيه أجر، لقوله تعالى:
{ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} [الإنسان:8/ 76] ولم يكن
الأسير يومئذ إلا كافراً، وكسى عمر خاله مشركاً حلة كان النبي صلّى الله
عليه وسلم كساه إياها، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر
التي استفتته في صلة أمها وهي مشركة: «صلي أمك» (3)، لكن يستحب للغني عن
السؤال، مع وجود حاجتهم،
_________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) البدائع: 50/ 2، أحكام القرآن لابن العربي: 960/ 2، المجموع: 258/ 6
ومابعدها، كشاف القناع: 345/ 2 ومابعدها.
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
(3/1970)
فقال: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}
[البقرة: 273/ 2] فإن أخذها الغني مظهراً للفاقة، حرم عليه ذلك، وإن كانت
تطوعاً، لما فيه من الكذب والتغرير.
وإذا أخطأ المزكي كأن دفع الزكاة في ظلمة مثلاً، فأداها إلى أحد أصوله أو
فروعه، من غير أن يعلم، فلا إعادة عليه عند أبي حنيفة ومحمد، وعليه الإعادة
عند أبي يوسف والشافعي وأحمد.
5 - أن يكون بالغاً عاقلاً حراً: فلا تجزئ لعبد اتفاقاً، ولا تجزئ عند
الحنفية (1) لصغير غير مراهق (ما دون السابعة) ولا مجنون إلا إذا قبض عن
الصغير والمجنون لهما من يجوز له قبضه كالأب والوصي وغيرهما، وتجوز عندهم
لصبيان أقاربه المميزين في مناسبة عيد أوغيره، ولا يجوز دفع الزكاة لولد
الغني إذا كان صغيراً، لأن الولد الصغير يعد غنياً بغنى أبيه، ويجوز
إعطاؤها له إذا كان كبيراً فقيراً؛ لأنه لايعد غنياً بمال أبيه، فكان
كالأجنبي، كما لا يعد الأب غنياً بغنى ابنه، ولا الزوجة بغنى زوجها، ولا
الطفل بغنى أمه.
واشترط الشافعية (2) أن يكون قابض الزكاة رشيداً: وهو البالغ العاقل حسن
التصرف، فلا تجزئ لصبي أو مجنون أو سفيه ديانة كتارك الصلاة إلا أن يقبضها
له وليه لسفهه أو قصوره.
واشترط المالكية (3) أن يكون عامل الزكاة بالغاً، فلا تعطى الزكاة لقاصر.
أما الحنابلة (4): فأجازوا دفع الزكاة إلى الكبير والصغير، سواء أكل الطعام
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 81/ 2، 85، 90 ومابعدها، البدائع: 47/ 2.
(2) مغني المحتاج: 112/ 3.
(3) الشرح الكبير: 494/ 1.
(4) المغني: 646/ 2.
(3/1971)
أو لم يأكل، والمجنون، لكن يقبضها ولي
الصغير والمجنون عنهما، أو القيِّم عليهما، روى الدارقطني عن أبي جحيفة
قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم ساعياً، فأخذ الصدقة من أغنيائنا،
فردها في فقرائنا، وكنت غلاماً يتيماً لا مال لي، فأعطاني قَلُوصاً» أي
ناقة شابة.
وبناء على هذه الشروط: لا يجوز دفع الزكاة لغني بمال أو كسب، ولا لعبد، ولا
لبني هاشم، وبني المطلب عند الجمهور غير المالكية وأبي حنيفة في الأخير،
ولا لكافر، ولا لمن تلزم المزكي أو غيره نفقته، ولا للصغار والمجانين
بأنفسهم، ولا لمن ليس في بلد الزكاة كما سأبين في مسألة نقل الزكاة. وأضاف
الحنفية: لا يجوز صرف الزكاة لأهل البدع كالمشبهة في ذات الله أو في
الصفات. وأجاز الحنفية دفع الزكاة للفقراء في المواسم والأعياد، أو لمن
يأتيه ببشارة ونحوها.
المطلب الثاني ـ أحكام متفرقة في توزيع الزكاة:
أولاً ـ دفع الزكاة إلى الإمام وإخراج الإنسان زكاة نفسه: دل قوله تعالى:
{والعاملين عليها} [التوبة:60/ 9] على أن أخذ الزكوات إلى الإمام، إذ لو
جاز للمالك أداء الزكاة إلى المستحقين، لما احتيج إلى عامل لجبايتها.
ويؤكده قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة:103/ 9].
ويجب على الإمام (1) أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة؛ لأن النبي صلّى الله عليه
وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة، ولأن في الناس من يملك المال،
ولا يعرف ما يجب عليه، وفيهم من يبخل، فوجب أن يبعث من يأخذ.
_________
(1) المهذب: 168/ 1.
(3/1972)
ولا يبعث الإمام إلا ساعياً حراً عدلاً
ثقة؛ لأن هذا ولاية وأمانة، والعبد والفاسق ليسا من أهل الأمانة والولاية.
ولا يبعث إلا فقيهاً؛ لأنه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ، ويحتاج
إلى الاجتهاد فيما يعرض له من مسائل الزكاة وأحكامها.
وهناك آية تجيز لأرباب الأموال دفع الزكاة بأنفسهم إلى المستحقين وهي قوله
تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} [المعارج:24/ 70 -
25] لأنه إذا كان ذلك الحق حقاً للسائل والمحروم، وجب أن يجوز دفعه إليهما
مباشرة.
وعملاً بما دلت عليه الآيات فصل العلماء في بيان تفرقة الزكاة.
أـ فإن كان مال الزكاة خفياً أو باطناً: وهو الذهب والفضة وأموال التجارة
في مواضعها، جاز للمالك أن يفرقها بنفسه، أو أن يدفعها إلى الإمام، لأن
رسول الله صلّى الله عليه وسلم طالب بزكاته، وتبعه في ذلك أبو بكر وعمر، ثم
طالب بها عثمان لمدة، ولما كثرت أموال الناس ورأى أن في تتبعها حرجاً على
الأمة، فوض الأداء إلى أربابها. ودفعها إلى الإمام لأنه نائب عن الفقراء،
فجاز الدفع إليه كولي اليتيم، ولأن الإمام أعلم بمصارفها، ودفعها إليه
يبرئه ظاهراً وباطناً، لاحتمال أن يكون غير مستحق لها، ولأنه يخرج من
الخلاف وتزول التهمة عنه.
ب ـ وإن كان مال الزكاة ظاهراً: وهو المواشي والزروع والثمار والمال الذي
يمر به التاجر على العاشر، فيجب عند الجمهور منهم الحنفية والمالكية (1)
دفعها إلى الإمام، فإن فرقها بنفسه، لم يحتسب له ما أدى، لقوله تعالى: {خذ
من أموالهم
_________
(1) البدائع: 35/ 2، الشرح الصغير: 670/ 1، القوانين الفقهية: ص111.
(3/1973)
صدقة} [التوبة:103/ 9] أمر الله نبيه بأخذ
الزكاة، فدل أن للإمام المطالبة بذلك والأخذ. ودل ذكر «العاملين عليها» في
المصارف على أن للإمام مطالبة أرباب الأموال بالصدقات.
وكان النبي يبعث المصدِّقين (الجباة) إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق
لأخذ الصدقات من الأنعام والمواشي في أماكنها (1).
وتابعه على ذلك الخلفاء الراشدون، وقال أبو بكر رضي الله عنه لما امتنعت
العرب عن أداء الزكاة: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم، لحاربتهم عليه» (2).
لكن المالكية قالوا: إذا كان الإمام عدلاً، وجب دفع الزكاة إليه، وإن كان
غير عدل، فإن لم يتمكن المزكي صرفها عنه، دفعت إليه وأجزأت. وإن تمكن صرفها
عنه دفعها صاحبها لمستحقها. ويستحب ألا يتولى دفعها بنفسه خوف الثناء.
وقال الشافعي في الجديد (3): يجوز للمزكي أن يفرق زكاة الأموال الظاهرة
بنفسه كزكاة الباطن؛ لأنها زكاة، فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة المال الباطن.
وقال الحنابلة (4): يستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه، ليكون على
يقين من وصولها إلى مستحقها، سواء أكانت من الأموال الظاهرة أم الباطنة.
قال أحمد: أعجب إلي أن يخرجها، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز. ودليلهم أن
_________
(1) ثبت ذلك في حديث أنس عن أبي بكر عند أحمد والنسائي وأبي داود والبخاري،
وعند الخمسة عن معاذ بن جبل، وعن رواة آخرين (نيل الأوطار: 124/ 4
ومابعدها، 132 ومابعدها).
(2) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 119/ 4).
(3) المهذب: 168/ 1.
(4) المغني: 641/ 2.
(3/1974)
المزكي دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه،
فأجزأه، كما لو دفع الدين إلى غريمه، وكزكاة الأموال الباطنة، ولأن المال
الظاهر أحد نوعي الزكاة، فأشبه النوع الآخر، ولتوفير أجر العُمالة (رزق
العامل).
ولكن للإمام أخذها، وهذا لا خلاف فيه، لدلالة الآية: {خذ من أموالهم صدقة}
[التوبة:103/ 9]، ومطالبة أبي بكر لهم بها بكونهم لم يؤدوها إلى أهلها، ولو
أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها.
وعلى كل حال فالواقع أن إخراج الزكاة أصبح منوطاً بأرباب الأموال، ويطلب
اليوم سن تشريعات فريضة الزكاة، وقيام الدولة بجبايتها، بسبب تقصير الكثير
عن أدائها، على أن تصرف في المصارف الشرعية، وأن يكون الحاكم عادلاً أميناً
على مصالح المسلمين.
ثانياً ـ التوكيل في أداء الزكاة: اتفق الفقهاء (1) على أنه يجوز التوكيل
في أداء الزكاة، بشرط النية من الموكل أو المؤدي، فلو نوى عند الأداء أو
الدفع للوكيل عند الحنفية والشافعية، أو قبل الأداء بزمن يسير عند
الحنابلة، أو عند العزل لدى المالكية والحنفية والشافعية، ثم أداها الوكيل
إلى الفقير بلا نية جاز؛ لأن تفرقة الزكاة من حقوق المال، فجاز أن يوكل في
أدائه كديون الآدميين. وللوكيل أن يوكل غيره بلا إذن ولو نوى الوكيل ولم
ينو الموكل، لم يجز؛ لأن الفرض يتعلق به، والإجزاء يقع عنه، وإن دفعها إلى
الإمام ناوياً ولم ينو الإمام حال دفعها إلى الفقراء، جاز.
_________
(1) البدائع: 40/ 2 ومابعدها، الدر المحتار: 14/ 2 وما بعدها، الشرح
الصغير: 666/ 1 ومابعدها، المهذب: 168/ 1، المغني: 63/ 8/2 ومابعدها.
(3/1975)
وبناء عليه يجوز في رأي الحنفية توكيل
الذمي غير المسلم بأداء الزكاة للفقراء؛ لأن المؤدي في الحقيقة هو المسلم.
ولو قال الموكل: هذا تطوع أوعن كفارتي، ثم نواه عن الزكاة قبل دفع الوكيل،
صح. وللوكيل أن يدفع الزكاة لولده الفقير أو زوجته الفقيرة إذا لم يأمره
بالدفع إلى شخص معين، ولا يجوز له أن يأخذ الزكاة لنفسه إلا إذا قال له
الموكل: ضعها حيث شئت.
وإن أمره بالدفع إلى شخص معين، فدفعها الوكيل لغيره، فيه قولان عند
الحنفية: قول بأنه لا يضمن، كمن نذر أن يتصدق على فلان معين، له أن يتصدق
على غيره، وقول رجحه ابن عابدين: يضمن؛ لأن الوكيل يستمد سلطته بالتصرف من
الموكل، وقد أمر بالدفع إلى فلان، فلا يملك الدفع إلى غيره، كمن أوصى لزيد
بكذا، ليس للوصي الدفع إلى غيره.
ثالثاً ـ شرط المال المؤدى: يشترط أن يكون المؤدى مالاً متقوماً على
الإطلاق، سواء أكان عند الحنفية (1) منصوصاً عليه أم لا، من جنس المال الذي
وجبت فيه الزكاة أم من غير جنسه، والأصل عندهم أو القاعدة: أن كل مال يجوز
التصدق به تطوعاً، يجوز أداء الزكاة منه، ومالا فلا. وعليه: لو أعطى الفقير
سلعة من السلع كقماش أوخبز أوسكر أو سمن أو حذاء، ناوياً الزكاة صح. وعند
غير الحنفية: يتعين أداء المنصوص عليه، وقد بحث الموضوع في إخراج القيمة في
الزكاة.
رابعاً ـ نقل الزكاة لبلد آخر غير بلد المزكي: القاعدة العامة أن تفرَّق
صدقة كل قوم فيهم، لحديث معاذ المتقدم: «خذها
_________
(1) البدائع: 41/ 2.
(3/1976)
من أغنيائهم وردها في فقرائهم»، والمعتبر
عند الحنفية والشافعية والحنابلة في زكاة المال: المكان الذي فيه المال،
والمعتبر في صدقة الفطر: المكان الذي فيه المتصدق اعتباراً بسبب الوجوب
فيهما، وللفقهاء تفصيل في نقل الزكاة من بلد إلى آخر (1).
قال الحنفية: يكره تنزيهاً نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر إلا أن ينقلها
إلى قرابته المحاويج ليسد حاجتهم، أو إلى قوم هم أحوج إليها أوأصلح أو أورع
أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام، أو إلى طالب علم، أو
إلى الزهاد، أو كانت معجلة قبل تمام الحول، فلا يكره نقلها. ولو نقلها لغير
هذه الأحوال جاز؛ لأن المصرف مطلق الفقراء.
وقال المالكية: لا يجوز نقل الزكاة لبلد لمسافة القصر، فأكثر، إلا لمن هو
أحوج إليها، ويجوز نقلها لمن هو دون مسافة القصر (89 كم)؛ لأنه في حكم موضع
الوجوب، ويتعين تفرقتها فوراً بموضع الوجوب: وهو في الحرث (الزرع والثمر)
والماشية: الموضع الذي جبيت منه، وفي النقود وعروض التجارة: موضع المالك،
حيث كان، ما لم يسافر، ويوكل من يخرج عنه ببلد المال.
وقال الشافعية: الأظهر منع نقل الزكاة، ويجب صرفها إلى الأصناف في البلد
الذي فيه المال، لحديث معاذ المتقدم، فإن لم توجد الأصناف في البلد الذي
وجبت فيه الزكاة، أو لم يوجد بعضهم، أو فضل شيء عن بعض وجد منهم، نقلت إلى
أقرب البلاد لبلد الوجوب.
وقال الحنابلة: المذهب أنه لا يجوز نقل الصدقة من بلد مال الزكاة إلى بلد
_________
(1) الدر المختار: 93/ 2 - 95، الفتاوى الهندية: 178/ 1، الكتاب مع اللباب:
158/ 1، فتح القدير: 28/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص111، الشرح
الصغير: 667، أحكام القرآن لابن العربي: 963/ 2، المجموع: 237/ 6، مغني
المحتاج: 118/ 3، بجيرمي الخطيب: 318/ 2، المهذب: 173/ 1، المغني: 671/ 2 -
674.
(3/1977)
مسافة القصر، أي يحرم نقلها إلى مسافة
القصر، ولكن تجزئه. ويجوز نقلها لأقل من مسافة القصر من البلد الذي فيه
المال. والمستحب تفرقة الصدقة في بلدها، ثم الأقرب فالأقرب من القرى
والبلدان.
خامساً ـ أخذ البغاة والخوارج الزكاة: إذا تغلبت فئة الخوارج والبغاة على
بلد إسلامي، فأخذوا زكواتهم وعشور أراضيهم وخراجها، ثم استعادها الإمام
منهم أو أخذ السلطان الجائر الزكاة، أجزأ المدفوع عن أصحابه ولا يثنّى
عليهم، وأجزأ دفع الخراج عن المكلف به، سواء عدل الآخذ فيما أخذ أو جار،
وسواء أخذها قهراً أو دفعت إليه اختياراً. وذلك عملاً بفعل الصحابة، ولأن
المعطي دفعها إلى أهل الولاية، ولأن حق الأخذ للإمام لأجل الحفظ والحماية،
ولم يوجد ذلك منه، فجاز دفعها لغيره (1). لكن قال الحنفية: إلا أن المعطين
يفتون فيما بينهم وبين ربهم أن يؤدوا الزكاة والعشور ثانياً. وقالوا أيضاً:
لو أخذ السلطان الصدقات أو الجبايات أو أخذ مالاً مصادرة إن نوى المأخوذ
منه الصدقة عند الدفع، جاز وبه يفتى، أو إذا دفع إلى كل جائر بنية الصدقة
يجزئ، والأحوط الإعادة.
سادساً ـ الحيلة لإسقاط الزكاة: يحرم التحايل لإسقاط الزكاة كأن يهب المال
المزكى لفقير ثم يشتريه منه، أو يهبه لقريب قبل حولان الحول ثم يسترده منه
فيما بعد.
ولو أبدل النصاب بغير جنسه كإبدال الماشية بدراهم، فراراً من الزكاة، أو
أتلف جزءاً من النصاب قصداً للتنقيص لتسقط عنه الزكاة، أو جعل السائمة
_________
(1) البدائع: 36/ 2، فتح القدير: 512/ 1، المغني: 644/ 2 ومابعدها، الدر
المختار: 33/ 2.
(3/1978)
علوفة، لم تسقط عنه الزكاة عند الحنابلة
والمالكية (1) سداً للذرائع، لأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه،
ولقوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة، إذ أقسموا ليصرمُنَّها
مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك، وهم نائمون، فأصبحت كالصريم}
[القلم:17/ 68 - 20] فعاقبهم الله تعالى بذلك، لفرارهم من الصدقة. قال أبو
يوسف: لا يحتال في إبطال الصدقة بوجه ولا سبب.
وقال أبو حنيفة والشافعي: تسقط عنه الزكاة؛ لأنه نقص قبل تمام حوله، فلم
تجب فيه الزكاة، كما لو أتلف لحاجته.
سابعاً ـ هل تجزئ الضريبة المدفوعة للدولة عن الزكاة؟ لا تجزئ أصلاً
الضريبة عن الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة مفروضة على المسلم شكراً لله تعالى
وتقرباً إليه، والضريبة التزام مالي محض خال عن كل معنى للعبادة والقربة،
ولذا شرطت النية في الزكاة ولم تشرط في الضريبة، ولأن الزكاة حق مقدر
شرعاً، بخلاف الضريبة فإنها تخضع لتقدير السلطة، ولأن الزكاة حق ثابت دائم،
والضريبة مؤقتة بحسب الحاجة، ولأن مصارف الزكاة هي الأصناف الثمانية:
الفقراء والمساكين المسلمون إلخ، والضريبة تصرف لتغطية النفقات العامة
للدولة. وللزكاة أهداف روحية وخلقية واجتماعية إنسانية، أما الضريبة فلا
يقصد بها تحقيق شيء من تلك الأهداف (2).
_________
(1) المغني: 676/ 2، مغني المحتاج: 379/ 1، حاشية ابن عابدين: 45/ 2،
الخراج لأبي يوسف: ص80.
(2) فقه الزكاة للقرضاوي: 997 - 1003.
(3/1979)
ثامناً ـ حكم من مات وعليه زكاة أمواله، أو
هل تسقط الزكاة بالموت؟ اختلف الفقهاء في ذلك (1)، فقال المالكية والشافعية
والحنابلة: من وجبت عليه زكاة وتمكن من أدائها، فمات قبل أدائها، عصى، ووجب
إخراجها من تركته، وإن لم يوص بها، ولا تسقط بموته؛ لأنها حق واجب تصح
الوصية به، أو حق مال لزمه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت كدين الآدمي.
ولكن تنفذ من ثلث التركة كالوصية في مشهور مذهب المالكية، ومن رأس مال
التركة كلها في رأي الشافعي وأحمد.
وإذا اجتمع في تركة الميت دين لله تعالى ودين لآدمي، مثال الأول: زكاة
وكفارة ونذر وجزاء صيد حرمي وغير ذلك، فالأصح عند الشافعية تقديم دين الله
تعالى.
وقال أبو حنيفة: تسقط عنه الزكاة بالموت، إلا أن يوصي بها وصية، فتخرج من
الثلث، ويزاحم بها أصحاب الوصايا، وإذا لم يوص بها سقطت؛ لأنها عبادة من
شرطها النية، فسقطت بموت من هي عليه كالصوم.
فتكون مسقطات الزكاة عند الحنفية ثلاثة: موت من عليه الزكاة من غير وصية،
والردة، وهلاك النصاب بعد الحول قبل التمكن من الأداء وبعده، خلافاً
للشافعي وغيره في الأمور الثلاثة.
تاسعاً ـ إسقاط الدين لا يقع عن الزكاة: يترتب على اشتراط تمليك الزكاة
للفقراء ونحوهم (2) أن المسامحة بالدين لا
_________
(1) بداية المجتهد: 241/ 1 ومابعدها، المهذب: 175/ 1، المجموع: 250/ 6 وما
بعدها، المغني: 683/ 2 ومابعدها، 80/ 3 ومابعدها، البدائع: 52/ 2 وما
بعدها.
(2) البدائع: 39/ 2، الدر المختار: 85/ 2، الفتاوى الهندية: 178/ 1، كشاف
القناع: 337/ 2.
(3/1980)
تجزئ عند الحنفية عن الزكاة، وإنما يجب
إعطاء الزكاة للفقير، ويمكن استيفاء الدين منه بعد ذلك فيعطيه الزكاة، ثم
بعد أن يستلمها يقول له: أعطني ديني، وكذلك أجاز الحنابلة الإعطاء للمدين
ثم يستوفي منه حقه، ما لم يكن حيلة أي بأن شرط عليه أن يردها عليه من دينه.
ولو اشترى بالزكاة طعاماً، فأطعم الفقراء غداء وعشاء، ولم يدفع عين المال
إليهم لايجوز، لعدم التمليك، ولو دفع الزكاة للفقير لا يتم الدفع ما لم
يقبضها بنفسه أو يقبضها له وليه أو وصيه.
ولو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة، لم يصح عن الزكاة؛ لأنه لم يوجد التمليك
من الفقير، لعدم قبضه، لكن لو قضى دين فقير حي بأمره، جاز عن الزكاة، لوجود
التمليك من الفقير؛ لأنه لما أمره به، صار وكيلاً عنه في القبض، فصار كأن
الفقير قبض الصدقة بنفسه، وملكها للغريم الدائن.
عاشراً ـ الإبراء من الدين على مستحق الزكاة واحتسابه منها واعتبار ما
أخرج، على ظن الوجوب، زكاة معجلة:
هذا الموضوع: «الإبراء من الدين» ليقع عن الزكاة يثار البحث حوله من قديم،
وتبرز الحاجة إلى معرفة حكمه بنحو متميز في عصرنا حيث تلكأ الناس عن دفع
الزكاة المفروضة، وأهملوا إخراجها، ولجأ بعضهم إلى بعض الحيل للتخلص من
أدائها.
وقبل التعرف على الحكم الواجب الاتباع، يجب التذكر بأن منهج العالم وإفتائه
يكون بما ترجح دليله، وظهر وجه الحق فيه، كما قرر العلماء، كما أن ما أيدته
القواعد الشرعية الكثيرة، واطمأن إليه العقل وارتاحت له النفس، أو قال به
أكثر العلماء، يكون مرجحاً الأخذ به.
(3/1981)
ويفرح بعض الناس اليوم كلما وجد رأياً في
رحاب وزوايا الفقه الإسلامي، فيدعو للأخذ به، وإن كان شاذاً أو ضعيفاً، من
غير حاجة ملحة أو ضرورة ملجئة، علماً بأنه ما أكثر الآراء والخلافات! فلا
تكاد تخلو مسألة من قولين فأكثر قد تصل إلى عشرة أقوال، وليس التجديد أو
الترجيح أو الاجتهاد بإحياء الآراء الشاذة.
وهذه المسألة موضوع البحث قد يبدو فيها لأول وهلة دون مراعاة قواعد
الشريعة، الميل للأخذ بما تيسر على الناس، فيؤدي الغني زكاة ماله عن طريق
إبراء ما له من ديون في ذمم الآخرين المستحقين، واعتبار المدفوع زكاة معجلة
على رأي جمهور الفقهاء غير الظاهرية والمالكية، الذين يجيزون تعجيل الزكاة
قبل الحول، ولعام واحد لا لعامين، وبعد ملك النصاب الشرعي؛ لأنه أداء بعد
سبب الوجوب.
وهبة الدين لمن هو عليه يسمى إبراء؛ لأن الهبة الحقيقية تكون لغير من عليه
الدين (1).
وأبين في هذا البحث آراء العلماء وأدلتهم، وما ترجح لدي منها بعد مناقشتها.
آراء العلماء في الإبراء من الدين واحتسابه من
الزكاة:
للفقهاء رأيان في هذا الموضوع، رأي بالجواز والإجزاء، ورأي بعدم الجواز
والإجزاء.
أما الرأي الأول: فهو للظاهرية وبعض
التابعين (الحسن البصري وعطاء) والشيعة الجعفرية.
_________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 649/ 1.
(3/1982)
وأما الرأي
الثاني: فهو للجمهور الأعظم: أئمة المذاهب الأربعة، والإباضية
والزيدية وسفيان الثوري وأبي عبيد.
وأبدأ ببيان الرأي الأول ذاكراً مقولة أنصاره وأدلتهم:
أـ فقال ابن حزم الظاهري: من كان له دين على بعض أهل الصدقات فتصدق عليه
بدينه قبله، ونوى بذلك أنه من زكاته، أجزأه ذلك، وكذلك لو تصدق بذلك الدين
على من يستحقه، وأحاله به على من هو له عنده، ونوى بذلك الزكاة، فإنه
يجزئه.
برهان ذلك: أنه مأمور بالصدقة الواجبة، وبأن يتصدق على أهل الصدقات من
زكاته الواجبة بما عليه منها، فإذا كان إبراؤه من الدين يسمى صدقة، فقد
أجزأه. ويؤيد ذلك ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: «أصيب رجل على عهد
رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: تصدّقوا عليه .. » (1).
لكن الحديث واضح في بذل الصدقات وأداء المال بالفعل من القادرين الأغنياء
لهذا الرجل المديون الذي استغرقت الديون ماله، سواء أكان المتصدق دائناً له
أم لا. ولا شك بأن دفع المال صدقة يختلف عن الإبراء من الدين الذي هو إسقاط
الدين، فإن الصدقات سبيل للإغناء، وتمكين من وفاء الديون، وعون للمدين على
التخلص من أزمة الدين أو الإفلاس، بسداد الديون لأصحابها مما تجمع لديه من
الصدقات، والإبراء من الدين إسقاط لا تمليك عند أكثر الفقهاء كما سيأتي،
وهو إن اعتبر صدقة تطوع على المدين المعسر، إلا أنه يتعذر اعتباره زكاة؛
لاشتراط كون النية عند أداء الزكاة مقارنة للأداء، كما سيأتي:
_________
(1) المحلى لابن حزم: 105/ 6 ومابعدها، ف/698، ط دار الآفاق الجديدة بيروت.
(3/1983)
ب ـ وقال بعض التابعين (الحسن البصري
وعطاء): يجزئ جعل الدين عن الزكاة لمدين معسر؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم أخذه
منه، جاز، فكذا إذا لم يقبضه، كما لو كانت له عنده دراهم وديعة، ودفعها عن
الزكاة، فإنه يجزئه، سواء قبضها أم لا، فمن أراد ترك الدين الذي هو عليه،
وأن يحسبه من زكاة ماله الذي في يده، أجزأه عن الزكاة، بشرط أن يكون الذي
عليه الدين من أهل الزكاة الذين يصح دفعها إليهم. قيل لعطاء بن أبي رباح:
لي على رجل دين، وهو معسر، أفأدعه له، وأحتسب به من زكاة مالي؟ فقال: نعم.
وكان الحسن لا يرى بذلك بأساً إذا كان ذلك من قرض، ثم قال: فأما بيوعكم هذه
فلا (1)، أي إذا كان الدين ثمناً لسلعة، فلا يراه الحسن مجزئاً، حتى لا
يكون ذلك ذريعة للتجار باحتساب ما تعذر اقتضاؤه من الدين، وجعله من الزكاة.
لكن ناقش الحافظ أبو عبيد هذا الرأي قائلاً: وإنما نرى الحسن وعطاء كانا
يرخصان في ذلك، أي في احتساب الدين من الزكاة، لمذهبهما الخاص في الزكاة،
وذلك أن عطاء كان لا يرى في الدين زكاة، وإنْ على المليء، وإن الحسن كان
ذلك رأيه في الدين الضمار، وهذا الذي على المعسر هو ضمار: وهو الغائب الذي
لا يرجى وصوله، فإذا رجي فليس بضمار (2)، وهذا الذي على المعسر هو ضمار،
لايرجوه، فاستوى قولهما ههنا، فلما رأيا أنه لا يلزم ربّ المال حقّ الله في
ماله هذا.
_________
(1) المجموع للنووي: 157/ 6، مكتبة الإرشاد ـ جدة، الأموال لأبي عبيد: ص
533، 611، منشورات مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر بمصر.
(2) ومن جملته: المال المفقود، والآبق: والضال، والمغضوب إذا لم يكن عليه
بينة، والدين الذي جحده المدين.
(3/1984)
قال علي رضي الله عنه: «لا زكاة في المال
الضمار» ولأن السبب هو المال النامي، ولا نماء إلا بالقدرة على التصرف، ولا
قدرة عليه. الغائب، جعلاه كزكاة قد كان أخرجها، فأنفذها إلى هذا المعسر،
وبانت من ماله، فلم يبق عليه إلا أن ينوي بها الزكاة، وأن يبرئ صاحبه منها،
فرأياه مجزئاً عنه إذا جاءت النية والإبراء. وهذا مذهب لا أعلم أحداً يعمل
به، ولا يذهب إليه أحد من أهل الأثر وأهل الرأي (1).
وإذا كان في هذا القول تيسير على صاحب الدين وعلى المدين جميعاً، فإن محل
التيسير وحالته شرط ضروري لكل يسر، فالصلاة تقصر في حال السفر، مثلاً،
والصيام لا يطلب من المسافر والمريض، لوجود ظرف السفر والمرض، فإن لم
يتوافر للتيسير مجال أو محل أو حالة مقبولة شرعاً كما في هذا الإبراء عن
دين المعسر، كان ذلك عبثاً في شرع الله ودينه، كما أن فيه إخلالاً بأحكام
الزكاة وشروطها.
جـ ـ وقال الشيعة الإمامية (الجعفرية): إذا كان على إنسان دين، ولا يقدر
على قضائه، وهو مستحق للزكاة، جاز له أن يقاصّه من الزكاة، وكذلك إن كان
الدين على ميت، جاز له أن يقاصّه منها. سأل رجل جعفر الصادق قائلاً: لي دين
على قوم قد طال حبسه عندهم، لا يقدرون على قضائه، وهم مستوجبون للزكاة: هل
لي أن أدعه، فأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال: نعم (2).
وهذا رأي يحتاج إلى الدليل، وقواعد الشرع تأباه؛ لأنه لا يعدو أن يكون دين
المعسر مالاً ساقطاً ضائعاً يتعذر الوفاء به، فيجعل أداة لإجزائه عن
الزكاة، وحيلة لإغنائه عنها، وهو في جميع الأحوال مال ميؤوس من الحصول
عليه.
_________
(1) الأموال، المرجع السابق 533.
(2) الفقه على المذاهب الخمسة: ص 175 ومابعدها للأستاذ محمد جواد مغنيِّة،
الطبعة الخامسة، دار العلم للملايين ـ بيروت، فقه الإمام جعفر، للأستاذ
مغنيِّة: 88/ 2، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى لشيخ الطائفة محمد بن
الحسن علي الطوسي (385 - 460 هـ) ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت: ص188.
(3/1985)
وأما أنصار الرأي الثاني وهم الجمهور
الأعظم فيقولون: إن الإبراء من الدين عن المدين المعسر أو إسقاط الدين أو
المسامحة بالدين لا يقع عن الزكاة بحال، ولا يجزئ عنها، وإنما يجب إعطاء
الزكاة فعلاً للفقير، كما لو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة، لم يصح عن
الزكاة، لأنه لا يوجد التمليك من الفقير، لعدم قبضه. لكن لو قضى دين فقير
حي بأمره، جاز عن الزكاة، لوجود التمليك من الفقير؛ لأنه لما أمره به، صار
وكيلاً عنه في القبض، فصار كأن الفقير قبض الصدقة لنفسه، وملّكها للغريم
الدائن.
وأذكر عبارة كل مذهب من هؤلاء:
أـ قال الحنفية: تتعلق الزكاة بعين المال المزكى، كتعلق حق الرهن بالمال
المرهون، ولا يزول هذا الحق إلا بالدفع إلى المستحق (1). ولا يجوز أداء
الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء أو مقارنة لعزل مقدار الواجب؛ لأن الزكاة
عبادة، فكان من شرطها النية، والأصل فيها الاقتران، إلا أن الدفع يتفرق،
فاكتفي بوجودها ـ أي النية ـ حالة العزل تيسيراً كتقديم النية في الصوم.
وعلى هذا لو كان لشخص دين على فقير، فأبرأه عنه، ناوياً به الأداء عن
الزكاة، لم يجزئه؛ لأن الإبراء إسقاط، والساقط ليس بمال، فلا يجزئ أن يكون
الساقط عن المال الواجب في الذمة، وبناء عليه قالوا: لا يجوز الأداء في
صورتين، يهمنا منهما الصورة الأولى:
الأولى ـ أداء الدين عن العين، كجعله ما في ذمة مديونه زكاة لماله الحاضر
_________
(1) وقال الشافعية والمالكية والإمامية: إن الزكاة تجب في عين المال،
والفقير شريك حقيقي للمالك، بدليل قوله تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل
والمحروم} [الذاريات:19/ 51] وقد تواترت الأحاديث أن الله أشرك بين
الأغنياء والفقراء في الأموال، ولكن قد أجاز الشرع رفقاً بالمالك أن يؤدي
هذا الحق من الأموال الأخرى التي لا زكاة فيها.
(3/1986)
بخلاف ما إذا أمر فقيراً بقبض دين له على
آخر عن زكاة دين عنده، فإنه يجوز: لأنه عند قبض الفقير يصير عيناً، فكان
عيناً عن عين، أي فكان قبض الدين الذي تحول بالقبض إلى شيء معين مجزئاً عن
قبض عين مال الزكاة المستحق للفقير في مال الغني.
الثانية ـ أداء دين عن دين سيقبض: كما لوأبرأ الفقير عن بعض النصاب ناوياً
به الأداء عن الباقي؛ لأن الباقي يصير عينا بالقبض، فيصير مؤدياً بالدين عن
العين (1).
ب ـ وكذلك قال المالكية: تجب نية الزكاة عند الدفع إلى الفقير، ويكفي عند
عزلها، ولا يجب إعلام الفقير، بل يكره، لما فيه من كسر قلب الفقير، وأضافوا
أنه لا يجوز إخراج الزكاة قبل الحول؛ لأنها عبادة تشبه الصلاة، فلم يجز
إخراجها قبل الوقت، ولأن الحول أحد شرطي الزكاة، فلم يجز تقديم الزكاة
عليه، كالنصاب، ويكره تقديم الزكاة أو تعجيلها قبل وجوبها بنحو شهر فقط، لا
أكثر في عين (ذهب أو فضة) وما شية، لا ساعي لها، فتجزئ مع الكراهة، بخلاف
ما لها ساع، وبخلاف الحرث، فلا تجزئ. وقالوا أيضاً: لو سرق مستحق بقدر
الزكاة، فلا تكفي، لعدم النية (2).
وجاء في المعيار المعرب للونشريسي بعنوان: لا يقتطع الدين الذي على الفقراء
في الزكاة: وسئل عمن له دين على فقراء، هل يقطعه عليهم فيما وجب له عليهم
من زكاته، أم لا؟ فأجاب: لا يجوز فعله، ولا يجزئ إن فعل (3).
_________
(1) البدائع: 39/ 2، فتح القدير: 169/ 2 - 171، ط دار الفكر ـ بيروت، حاشية
ابن عابدين: 270/ 2 - 271، الطبعة الثانية، طبعة البابي الحلبي بمصر،
الفتاوى الهندية: 178/ 1.
(2) الشرح الصغير: 666/ 1،669،671، الشرح الكبير: 431/ 1، بداية المجتهد:
266/ 1، القوانين الفقهية: ص 99.
(3) المعيار المعرب: 389/ 1.
(3/1987)
جـ ـ وقال الشافعية أيضاً: تجب النية عند
الدفع إلى الفقير أو عند التفريق، ولو عزل مقدار الزكاة، ونوى عند العزل،
جاز، فإن لم ينو المالك عند الدفع للسلطان، لم يجزئ على الصحيح (1).
وجاء في المجموع للنووي (2): إذا كان لرجل على معسر دين، فأراد أن يجعله عن
زكاته، وقال له: جعلته عن زكاتي، فوجهان حكاهما صاحب البيان: أصحهما: لا
يجزئه، وبه قطع الصيمرى، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد: لأن الزكاة في ذمته،
فلا يبرأ إلا بإقباضها. والثاني يجزئه، وهو مذهب الحسن البصري وعطاء؛ لأنه
لو دفعه إليه، ثم أخذه منه جاز، فكذا إذا لم يقبضه ... الخ ما ذكر سابقاً.
أما إذا دفع الزكاة إليه بشرط أن يردها إليه عن دينه، فلا يصح الدفع، ولا
تسقط الزكاة بالاتفاق، ولا يصح قضاء الدين بذلك بالاتفاق، ممن صرح بالمسأله
القفّال في الفتاوى وصاحب التهذيب في باب الشرط في المهر، وصاحب البيان
هنا، والرافعي وآخرون. ولو نويا ذلك، ولم يشرطاه، جاز بالاتفاق، وأجزأه عن
الزكاة، وإذا رده إليه عن الدين برئ منه.
قال البغوي: ولو قال المدين: ادفع إلي عن زكاتك حتى أقضيك دينك، ففعل أجزأه
عن الزكاة، وملكه القابض، ولا يلزمه دفعه إليه عن دينه، فإن دفعه أجزأه.
قال القفال: ولو قال رب المال للمدين: اقض ما عليك على أن أرده عليك عن
زكاتي، فقضاه، صح القضاء، ولا يلزمه رده إليه، وهذا متفق عليه. وذكر
_________
(1) السراج الوهاج شرح المنهاج: ص134، ط دار المعرفة ـ بيروت.
(2) المجموع: 157/ 6.
(3/1988)
الرُّوياني في البحر: أنه لو أعطى مسكيناً
زكاة، وواعده أن يردها إليه ببيع أو هبة أو ليصرفها المزكي في كسوة المسكين
ومصالحه، ففي كونه قبضاً صحيحاً احتمالان: قلت ـ أي النووي ـ الأصح لا
يجزئه، كما لو شرط أن يرد إليه عن دينه عليه. قال القفال: ولو كانت له حنطة
عند فقير وديعة، فقال: كُلْ منها لنفسك كذا، ونوى ذلك عن الزكاة، ففي
إجزائه عن الزكاة وجهان: وجه المنع: أن المالك لم يَكِلْه، وكَيْل الفقير
لا يعتبر، ولو كان وكّله بشراء ذلك القدر، فاشتراه وقبضه، ثم قال له
الموكل: خذه لنفسك، ونواه زكاة، أجزأه؛ لأنه لا يحتاج إلى كيله. والله
تعالى أعلم.
د ـ وقال الحنابلة: تشترط النية في أداء الزكاة، ويجوز تقديمها على الأداء
بالزمن اليسير كسائر العبادات فلا بد من نية مقارنة أو مقاربة، ويجب إعطاء
الزكاة للفقير، لكن لو أعطى المدين، ثم استوفى منه حقه، جاز، ما لم يكن
حيلة، أي بأن شرط عليه أن يردها عليه من دينه (1)، كما ذكر النووي.
قال في كشاف القناع: ولا يكفي إبراء من دينه بنية الزكاة، سواء كان المخرج
عنه ديناً أو عيناً، ولا تكفي الحوالة بها؛ لأن ذلك ليس إيتاء لها، وكذا
الحوالة عليها؛ لأنه لا دين له يحيل عليه، إلا أن تكون بمعنى الإذن في
القبض (2).
هـ ـ وقال الإباضية: إن قال الدافع أي الذي لزمته الزكاة، وكان بصدد دفعها
للمدين: قضيت لك مالي عليك من دين أو تباعة، فاقبله ولا تعطه ـ أي الدين ـ
لي، أو على فلان، فخذه منه في زكاة مالي أي لزكاة أو بدل زكاة مالي، لم
تجزه أيضاً عند بعض؛ إذ ذلك كبيع دين بدين، وهو لا يجوز إن شاء الله تعالى،
وإن
_________
(1) المغني: 638/ 2 ومابعدها، كشاف القناع: 337/ 2 - ط مكة، الشرح الكبير
مع المغني: 533/ 2.
(2) كشاف القناع: 269/ 2، ط عالم الكتب ـ بيروت.
(3/1989)
قضاه ثم تصدق به عليه جاز. وقيل: يجزيه إذ
هي كالهبة لما في الذمة، وهبة ما في الذمة جائزة، والأول مختار «الديوان»
وقيل: يجزيه إذا قال: قضيت ما لي عليك، بشرط أن يجد من أين يتخلص مما عليه،
وإن لم يجد فقولان أيضاً (1).
وـ وقال الزيدية: ولا يجوز ولا يجزئ الإبراء للفقير عن دين عليه لرب المال
بنية جعل الدين زكاة المبري، بل يقبضه رب المال من الفقير، ثم يصرفه فيه،
أو يوكله بقبضه من نفسه، ثم يصرفه في نفسه أو يوكل الفقير رب المال بأن
يقبض له زكاة من نفسه، ثم يقبضه عن دينه، ويحتاج إلى قبضين: الأول للزكاة،
والثاني للقضاء. والعلة في عدم إجزاء الإبراء: أنه أخرج من غير العين، ومن
شرطه أيضاً التمليك، ولأن الدين ناقص، فلا يجزئ عن الكامل، يعني لا تصير
زكاة. وأما الفقير فقد برئ من الدين، ولا يقال: هو على غرض ولم يحصل، لأن
الغرض من جهة نفسه لا يمنع حصوله من صحة البراءة. وقيل: هو لا يبرأ إذ هو
في مقابلة الإجزاء ولم يحصل، إلا أن يبرئه عالما ًبعدم الإجزاء، فتصح
البراءة.
وشرطوا في صرف رب المال ما يقبضه من الفقير المدين في الدين: أن يكون
المقبوض من جنس الدين، وأما إذا كان من غير جنسه، فهو بيع، فلا يصح أن
يتولى الطرفين واحد. وقيل: يصح مطلقاً، وغايته: أن يكون فاسداً، وهو يملك
بالقبض (2).
ز ـ كان سفيان الثوري يكره احتساب الدين من الزكاة، ولا يراه مجزئاً، كما
ذكر أبو عبيد (3).
_________
(1) شرح النيل وشفاء الغليل للعلامة محمد بن يوسف أطَّفَيِّش: 251/ 3 وما
بعدها.
(2) شرح الأزهار لأبي الحسن عبد الله بن مفتاح: 541/ 1 - 542، مطبعة حجازي
بالقاهرة.
(3) الأموال لأبي عبيد: ص 533.
(3/1990)
ح ـ كذلك لم ير أبو عبيد إجزاء الزكاة
بجعلها عن الدين، واستدل على ذلك بأدلة ثلاثة هي:
الأول ـ أن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصدقة (الزكاة) كانت على
خلاف هذا الفعل؛ لأنه إنما كان يأخذها من أعيان المال عن ظهر أيدي الأغنياء
(أي مقبوضاً منهم) ثم يردها في الفقراء. وكذلك كانت الخلفاء بعده، ولم
يأتنا أحد منهم أنه أذن لأحد في احتساب دين من زكاة، وقد علمنا أن الناس قد
كانوا يتداينون في دهرهم.
الثاني ـ أن هذا مال تاو (والتوى: الهلاك والضياع والخسارة) غير موجود قد
خرج من يد صاحبه على معنى القرض والدين، ثم هو يريد تحويله بعد التواء إلى
غيره بالنية، فهذا ليس بجائز في معاملات الناس بينهم، حتى يقبض ذلك الدين،
ثم يستأنف الوجه الآخر، فكيف يجوز فيما بين العباد وبين الله عز وجل؟ أي
لأن حقوق العباد مبنية على المشاحّة، وحقوق الله عز وجل مبناها على
المسامحة.
الثالث ـ أن هذا المزكي لا يؤمن أن يكون إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدين
الذي قد يئس منه، فيجعله ردءاً لماله يقيه به، إذا كان منه يائساً، وليس
يقبل الله تبارك وتعالى إلا ما كان له خالصاً (1).
الترجيح: تبين لنا ضعف الأدلة التي
اعتمد عليها أنصار الرأي الأول الذين يرون احتساب الدين من الزكاة، وأدركنا
قوة أدلة الرأي الثاني الذين يرون أن إسقاط الدين أو الإبراء منه لا يقع عن
الزكاة، ويمكن تلخيص أدلتهم فيما يأتي:
1 - كون الدين في الذمة غير مملوك للمزكي الدائن؛ لأن الدين لا يملك إلا
بالقبض.
_________
(1) الأموال لأبي عبيد: ص 533 - 534.
(3/1991)
2 - عدم توافر القبض الذي يحقق معنى إعطاء
الزكاة للمستحقين.
3 - يشترط في الزكاة وغيرها مقارنة النية للأداء دائماً.
4 - التمليك شرط لصحة أداء الزكاة بأن تعطى للمستحقين، فلا يكفي فيها
الإباحة أو الإطعام إلا بطريق التمليك، لقوله تعالى: {إنما الصدقات
للفقراء} [التوبة:60/ 9] والتصدق تمليك، واللام في كلمة «للفقراء» لام
التمليك. والدّين لا يملك إلا بالقبض، كما قال الإمامية أنفسهم (1).
والإبراء عند الحنفية والحنابلة إسقاط لا تمليك، وإذا كان الإبراء عند
المالكية نقلاً للملك، وتمليكاً للمدين ما في ذمته في الجديد عند الشافعية،
فإن هذا لا ينطبق عندهم على حالة الإبراء من الدين لاحتسابه من الزكاة، كما
قرروا فيما سبق؛ لأن المسامحة بالدين لا تعد تمليكاً.
5 - إن هذا الإبراء يعد حيلة للتهرب من الزكاة، وطريقاً للتخلص من حقوق
الفقراء.
6 - يعد هذا الإبراء مثل بيع دين في دين، كما ذكر الإباضية، وهو لا يجوز.
7 - هذا عمل مخالف للسنة النبوية ولفعل الخلفاء الراشدين والصحابة
والتابعين.
8 - إن المال الموجود عند المدين مال تاو، أي تالف ضائع هالك.
9 - أراد المزكي وقاية ماله بهذا الدين الذي صار ميئوساً منه.
_________
(1) الفقه على المذاهب الخمسة للأستاذ محمد جواد مغنية: ص 167.
(3/1992)
10 - قد تتحول صفة القبض كالهبة للوديع أو المستعير دون حاجة لتجديد القبض
كماذكر الحنفية، لكن يتعذر القول بهذا في الزكاة لفوات وقت النية، وهو
مقارنتها للأداء والإقباض. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين. |