الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثَّالث: الكفَّارات أنواع الكفارات: الكفارات أربعة أنواع: كفارة ظهار، وكفارة قتل خطأ (ويقاس عليه القتل العمد عند الشافعية) وكفارة جماع نهار رمضان عمداً (ويقاس عليه الأكل والشرب عمداً عند الحنفية والمالكية) (1) وكفارة يمين. والخصال الواجبة للكفارة في الأنواع الثلاثة الأولى مرتبة: (وهي إعتاق رقبة، فإن عجز عن الرقبة وجب صوم شهرين متتابعين، فإن عجز عن الصوم وجب إطعام ستين مسكيناً إلا القتل فلا إطعام فيه اقتصاراً على الوارد فيه النص). لكن كفارة إفساد الصوم بالجماع في نهار رمضان مخيرة الخصال عند المالكية، والإطعام أفضل الخصال عندهم. وأما خصال كفارة اليمين فهي مرتبة مخيرة: (وهي كما سنعلم إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإن عجز عن ذلك وجب صوم ثلاثة أيام) (2) وسأفصل موضوع الكفارة الأخيرة محل البحث.
وقد بينت في بحث الصيام أحكام أربع كفارات: كفارة إفساد صوم رمضان، وكفارة المسافر والمريض إذا لم يقضيا الصوم في عامهما، وكفارة الكبير العاجز عن الصوم، وكفارة الحامل والمرضع عند الشافعية إذا أفطرتا خوفاً على طفلهما. وأوضحت أيضاً في بحث الحج كفارات الحج. وذكرت في النذر كفارة نذر اللجاج وهي كفارة اليمين. وسأذكر في بحث الظهار والقتل كفارتيهما. وإقامة الحد عند الجمهور غير الحنفية كفارة للقتل، كما سيتضح في بحث الحدود.
_________
(1) راجع أصول الفقه الإسلامي للمؤلف، طبعة دار الفكر: 692/ 1 - 693.
(2) تحفة الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري: ص 103 وما بعدها.

(4/2573)


كفارة اليمين خطة الموضوع:
الكلام في هذه الكفارة عن الأصل في مشروعيتها، وسبب وجوبها، ونوع الواجب فيها، والخصال الواجبه فيها.
مشروعية الكفارة: الكفارة مشتقة من الكفر بفتح الكاف أي الستر، فهي ستارة للذنب الحاصل بسبب الحنث في اليمين، فاليمين سبب للكفارة.
والأصل في كفارة اليمين: الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون} [المائدة:89/ 5].
وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» (1).
وأجمع المسلمون على مشروعية الكفارة في اليمين بالله تعالى (2).
سبب وجوبها: تجب الكفارة بالحنث في اليمين، سواء أكانت في طاعة أم في
_________
(1) رواه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه عن عبد الرحمن بن سمرة، ورواه بعض هؤلاء وآخرون عن غيره، وقد سبق تخريجه (انظر جامع الأصول لابن الأثير الجزري: 300/ 12).
(2) المغني: 733/ 8، فتح القدير: 18/ 4، المبسوط: 147/ 8.

(4/2574)


معصية أم مباح، ولا يجوز التكفير قبل اليمين باتفاق العلماء؛ لأنه تقديم للحكم قبل سببه، فلم يجز كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب.

تقديم الكفارة على الحنث: وهل الكفارة قبل الحنث أفضل أو بعده؟ قال الحنابلة: الكفارة قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة. وقال مالك والشافعية: الكفارة بعد الحنث أفضل لما فيه من الخروج من الخلاف، وحصول اليقين ببراءة الذمة، فيجوز تقديم الكفارة المالية للصوم.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث مطلقاً، إنما تجزئ إذا أخرجها بعد الحنث (1). وهذا أولى الآراء؛ لأن المسبب يكون عادة بعد السبب.

نوع الواجب في الكفارة: الكفارة واجب مطلق، أي ليس له وقت محدد لأدائه، فيجوز القيام به بعد الحنث مباشرة أو بعده في أثناء العمر.
ثم إن الواجب في الكفارة واجب مخير حالة اليسار: (توفر المقدرة المالية) يعني أن الموسر مخير بين أحد أمور ثلاثة: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو إعتاق رقبة. وهذا بإجماع العلماء المستند إلى صريح الآية القرآنية السابق ذكرها: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} [المائدة:89/ 5] لأن الله تعالى عطف بعض هذه الخصال على بعض بحرف (أو) وهو للتخيير (2).
_________
(1) المغني، المرجع السابق: ص 712 - 714، بداية المجتهد: 406/ 1، الميزان للشعراني: 130/ 2، مغني المحتاج: 326/ 4، الدر المختار: 67/ 3، المهذب: 141/ 2، شرح تحفة الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري: 481/ 2، المبسوط للسرخسي: 147/ 8، فتح القدير: 20/ 4، القوانين الفقهية: ص 166.
(2) المبسوط: 127/ 8، الفتاوى الهندية: 157/ 2، المغني: 734/ 8، بداية المجتهد: 403/ 1، البدائع: 97/ 5، مغني المحتاج: 327/ 4.

(4/2575)


فإذا عجز الإنسان عن كل واحد من الخصال الثلاثة المذكورة، لزمه صوم ثلاثة أيام، للآية السابقة: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89/ 5] والمراد بالعجز: ألا يقدر على المال الذي يصرفه في الكفارة، كمن يجد كفايته في يومه وليلته وكفاية من تلزمه نفقته فقط، ولا يجد ما يفضل عنها (1).
وينظر إلى العجز وقت الأداء، أي أداء الكفارة عند الحنفية والمالكية والشافعية، فلو حنث الحالف، وكان موسراً وقت الحنث، ثم أعسر، جاز له الصوم عندهم؛ لأن الكفارة عبادة لها بدل، فينظر فيها إلى وقت الأداء، لا وقت الوجوب كالصلاة إذا فاتت في حال الصحة، فقضاها قاعداً أو بالإيماء حال المرض فإنه يجوز.
ويشترط عند الحنفية استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم، فلو شرع في الصوم ثم قدر على الإطعام أو الكسوة أو العتق، ولو قبل فراغه من صوم اليوم الثالث بساعة مثلاً: لا يجوز له الصوم، ويرجع إلى التكفير بالمال (2).
كذلك ينظر عند المالكية والشافعية إلى العجز وقت إرادة التكفير. أما إذا شرع في الصوم، ثم قدر على المال فلا يلزمه عند هؤلاء الرجوع عن الصوم إلى الكفارة المالية؛ لأن الصوم بدل عن غيره، فلا يبطل بالقدرة على المبدل عنه، ولو وجبت الكفارة على موسر ثم أعسر لم يجزئه الصوم عند هؤلاء (3)، بعكس الحنفية في المسألتين.
_________
(1) مغني المحتاج: 728/ 4، المغني: 756/ 8، الفتاوى الهندية: 57/ 2، نهاية المحتاج للرملي: 40/ 8، المهذب: 141/ 2، الشرح الكبير: 133/ 2.
(2) البدائع: 97/ 3، الدر المختار: 67/ 3، تبيين الحقائق: 113/ 3.
(3) الشرح الكبير للدردير: 133/ 2، حاشية قليوبي وعميرة على شرح المنهاج للمحلي: 275/ 4، المغني: 755/ 8، 762 وما بعدها.

(4/2576)


والمعتبر عند الحنابلة وقت الوجوب أي حالة الحنث.

خصال الكفارة: عرفنا أن كفارة اليمين هي إما الإطعام أو الكسوة أو العتق، فإن عجز عن أحد هذه الخصال صام ثلاثة أيام. فما هو الواجب في كل حالة؟
1 - ما مقدار الإطعام وما المقصود به؟ قال الحنفية: إن المقصود من الإطعام هو مجرد الإباحة لا التمليك؛ لأن النص القرآني ورد بلفظ الإطعام: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/ 5] والإطعام في متعارف اللغة: هو التمكين من المطعم أي (الآكل) لا التمليك، وكذا إشارة النص دليل على قولهم، لأن الله تعالى: {إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/ 5] والمسكنة: هي الحاجة، وهو محتاج إلى أكل الطعام دون تملكه، فكان في إضافة الإطعام إلى المساكين إشارة إلى أن الإطعام هو الفعل الذي يصير المسكين به متمكناً من الطعام لا التمليك، بخلاف الزكاة وصدقة
الفطر والعشر الواجب على الزروع البعلية، لا بد فيها من التمليك؛ لأن النص ورد فيها بلفظ الإيتاء لا بلفظ الإطعام (1).
وقال الجمهور: لا بد من تمليك الطعام للفقراء ككل الواجبات المالية؛ لأن الواجب المالي لا بد من أن يكون معلوم القدر ليتمكن المكلف من الإتيان به، والطعام المباح للغير ليس له قدر معلوم، لا سيما وأن كل مسكين يختلف عن الآخر صغراً وكبراً، جوعاً وشبعاً (2).
والخلاصة: إن التمليك عند الحنفية ليس بشرط لجواز الإطعام، بل الشرط هو التمكين، فيكفي دعوة المساكين إلى قوت يوم: وهو غداء وعشاء، فإذا حضروا
_________
(1) المبسوط: 151/ 8، البدائع: 100/ 5، الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 3/ 67، الفتاوى الهندية: 58/ 2.
(2) الشرح الكبير للدردير: 132/ 2، حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلي للمنهاج: 274/ 4، المغني: 734/ 8، 736، 738، 739، 741.

(4/2577)


وتغدوا وتعشوا كان ذلك جائزاً. وعند غير الحنفية: لا بد من التمليك بالفعل أخذاً.
ويجب أن يكون المخرج سالماً من العيب، فلا يكون الحب مسوساً، ولا متغيراً طعمه ولا فيه زوان أو تراب يحتاج إلى تنقية، وكذلك دقيقه وخبزه؛ لأنه مخرج في حق الله تعالى عما وجب في الذمة، فلم يجز أن يكون معيباً كالشاة في الزكاة.
وأما مقدار الإطعام: فاختلف العلماء فيه بسبب اختلافهم في تأويل قوله تعالى: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة:89/ 5] فمن قال: المراد أكلة واحدة قال: المد وسط في الشبع، ومن قال: المراد قوت اليوم وهو غداء وعشاء قال: الواجب نصف صاع أي مدان (1).
وبناء عليه قال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: يعطى لكل مسكين مد من الحنطة كصدقة الفطر إلا أن الإمام مالك قال: المد خاص بأهل المدينة فقط لضيق معايشهم، وأما سائر المدن فيعطون الوسط من نفقتهم. وقال ابن القاسم: يجزئ المد في كل مدينة (2).
ويجوز عند الشافعية: مدّ حب من غالب قوت بلد الحانث. والأفضل بالاتفاق إخراج الحب؛ لأن فيه خروجاً من الخلاف. ولا يجوز عند الجمهور إخراج قيمة الطعام والكسوة، عملاً بنص الآية: {فكفارته إطعام عشرة مساكين ... } [المائدة:89/ 5].
_________
(1) الصاع: أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالرطل العراقي، والرطل العراقي (130) درهماً، والدرهم 2,975غم، أي أن المد يساوي 675 غم والصاع يساوي 2751 غم.
(2) بداية المجتهد: 404/ 1، مغني المحتاج: 327/ 4، المغني: 736/ 8، القوانين الفقهية: ص 165.

(4/2578)


وقال الحنفية: مقدار الإطعام نصف صاع من بر، أو صاع من تمر أو شعير أو من دقيق الحنطة أو الشعير أو قيمة هذه الأشياء من النقود: دراهم أو دنانير أو من عروض التجارة كما هو المقرر في صدقة الفطر. قالوا: وقد ثبت ذلك عن سادتنا عمر وعلي وعائشة، وبه قال جماعة من التابعين: سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد والحسن.
وأما مقدار طعام الإباحة عند الحنفية: فأكلتان مشبعتان: غداء وعشاء، وكذلك إذا غداهم وسحرهم، أوعشاهم وسحرهم، أو غداهم غداءين ونحوهما؛ لأنهما أكلتان مقصودتان.
وسواء أكان الطعام خبزاً مع الإدام، أم بغير الإدام: لأن الله تعالى لم يفصل بين الطعام المأدوم وغيره، في قوله سبحانه: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/ 5].
وكذلك لو أطعم خبز الشعير أو تمراً أجزأه؛ لأنه قد يؤكل وحده في طعام الأهل.
ولو أطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام غداء وعشاء، أو أعطى مسكيناً واحداً عشرة أيام، كل يوم نصف صاع، جاز عند الحنفية؛ لأن المقصود سد حاجة عشرة مساكين، وقد تحقق. ولا يجوز ذلك عند المالكية والشافعية؛ لأنه لا بد من توزيع الطعام على عشرة مساكين فعلاً بالاتفاق. وقال الحنابلة: إذا وجد عشرة فقراء، لم يجزئه الصرف إلى فقير واحد في عشرة أيام، وإذا لم يجد غير فقير واحد أو خمسة مثلاً، أجزأه ذلك للضرورة. والخلاصة: لابد من إطعام عشرة مساكين فعلاً، والخلاف محصور فيما لو أطعم واحداً عشرة أيام، يجوز عند الحنفية ولا يجوز عند غيرهم.

(4/2579)


ولو أطعم عشرة مساكين في يوم غداء، ثم أعطى كل واحد مداً من الحنطة جاز؛ لأنه جمع بين التمليك، وطعام الإباحة، ولأن كل وجبة طعام مقدرة بمد. وكذلك لو غدى رجلاً واحداً عشرين يوماً، أو عشى رجلاً في شهر رمضان عشرين يوماً جاز؛ لأن المقصود قد حصل.
أما لو أعطى مسكيناً واحداً طعام عشرة، في يوم واحد، دفعة واحدة: لم يجز؛ لأن الله تعالى أمر بسد جوعة عشرة مساكين إما مرة واحدة أو موزعة على الأيام، وهذا لم يحصل هنا.
وأجاز أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إعطاء فقراء أهل الذمة من الكفارات والنذور لا الزكاة، لعموم قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/ 5] من غير تفرقة بين المؤمن والكافر. واستثنيت الزكاة بقول النبي صلّى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم» (1).
وقال أبو يوسف: لا يجوز إعطاء الذميين من الأموال الإسلامية إلا النذور والتطوعات ودم التمتع في الحج؛ لأن الكفارة صدقة أوجبها الله، فلا يجوز صرفها إلى الكافر كالزكاة، بخلاف النذر، لأنه وجب بإيجاب الإنسان، والتطوع ليس بواجب أصلاً، والتصدق بلحم المتعة في الحج غير واجب؛ لأن التقرب إلى الله في إراقة الدم (2).
_________
(1) رواه الجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن، وفيه: «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم» (انظر نيل الأوطار: 114/ 4، نصب الراية: 327/ 2).
(2) انظر المبسوط: 149/ 8 ومابعدها، البدائع: 101/ 5 - 105، فتح القدير: 18/ 4، الدر المختار: 66/ 3، الفتاوى الهندية: 58/ 2.

(4/2580)


المدفوع إليهم الطعام: الإطعام يكون لمن توافرت فيه أوصاف خمسة هي:
الأول ـ أن يكونوا مساكين فلا يدفع إلى غيرهم؛ لأن الله تعالى أمر بإطعام المساكين، وخصهم بذلك.
الثاني ـ أن يكونوا أحراراً، فلا يجزئ دفعه إلى عبد ومكاتب.
الثالث ـ أن يكونوا مسلمين فلا يجوز عند الجمهور صرفه إلى كافر، ذمياً كان أو حربياً. وأجاز الحنفية دفعه إلى الذمي، لدخوله في اسم المساكين، فيدخل في عموم الآية.
الرابع ـ أن يكونوا قد أكلوا الطعام في رأي الحنابلة والمالكية، فلا يجوز دفعه لطفل لم يطعم. وأجاز الحنفية والشافعية دفعه إلى الصغير الذي لم يطعم، ويقبضه عنه وليه. ويجوز بالاتفاق للمكفر أن يعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله. وكل من يمنع الزكاة من الغني والكافر والرقيق يمنع أخذ الكفارة. إلا أن الحنفية أجازوا دفعها لذمي.
الخامس ـ أن يوزع الطعام على عشرة مساكين فعلاً، فلو أطعم واحداً طعام عشرة لم يجزئه باتفاق الفقهاء، واختلفوا فيما لو أطعم واحداً عشرة أيام، على النحو السابق بيانه.

2 - الكسوة، صفتها وقدرها: صفة الكسوة: هي أنها لا تجوز إلا على سبيل التمليك حتى عند الحنفية؛ لأن الكسوة للوقاية من الحر والبرد، وهذه الحاجة لا تتحقق إلا بالتمليك، بخلاف الإطعام، فإنه لدفع الجوع، وهو يحصل بتناول الطعام. وتكون الكسوة للمساكين كالإطعام.

(4/2581)


وأما قدر الكسوة: فاختلف فيه (1)، فقال الحنفية: أدنى الكسوة ما يستر عامة البدن، وقال الحنابلة: تتقدر الكسوة بما تجزئ الصلاة فيه: فإن كان رجلاً كساه ثوباً تجزئ الصلاة فيه، وإن كانت امرأة كساها قميصاً وخماراً؛ لأن الكسوة إحدى خصال الكفارة، فلم يجز فيها أدنى ما يطلق عليه اسم الكسوة، كما هو مقرر في الإطعام والإعتاق، ولأن اللابس حينما لا يستر العورة يسمى عرياناً لا مكتسياً. وقال المالكية: أقل ذلك للرجل ثوب يستر جميع جسده، وللمرأة: ما يجوز لها فيه الصلاة، وذلك ثوب وخمار.
وقال الشافعية: يجزئ أقل ما يطلق عليه اسم الكسوة من إزار أو رداء أو جبة أو قميص أو ملحفة؛ لأنه يقع عليه اسم الكسوة، ولأن الله تعالى لم يذكر في الكسوة تقديراً، فكل ما يسمى لا بسه مكتسياً يجزئ.
ولا تجزئ بالاتفاق القلنسوة (2) والخفان والنعلان والقفازان والمنطقة (3)؛ لأن لا بسها لا يسمى مكتسياً إذا لم يكن عليه ثوب، بل ولا تسمى هذه كسوة عرفاً (4).
ولم يجز الحنفية على الصحيح عندهم الكسوة بالسراويل والعمامة؛ لأن أدنى الكسوة عندهم كما تقدم ما يستر عامة البدن، ولأن لا بسها لا يسمى مكتسياً عرفاً وعادة، بل يسمى عرياناً، فلو أمكن اتخاذ العمامة ثوباً أجزأه، كذا إذا بلغت قيمتها وقيمة السراويل قيمة المقدار الواجب من الطعام، فإنه يجزئ، ويقع ذلك
_________
(1) بداية المجتهد: 405/ 1، الشرح الكبير:132/ 2، المغني: 742/ 8، القوانين الفقهية: ص 165.
(2) القلنسوة بفتح القاف واللام: وهي ما يغطى به الرأس ونحو ذلك مما لا يسمى كسوة، كدرع من حديد.
(3) المنطقة: بكسر الميم: هي النطاق الذي يشدّ به وسط الإنسان.
(4) المبسوط: 153/ 8، البدائع: 105/ 5، فتح القدير: 19/ 4، المهذب: 141/ 2، مغني المحتاج: 327/ 4، الفتاوى الهندية: 57/ 2، القوانين الفقهية: ص 165.

(4/2582)


عن الطعام بغير نية إذا نوى الكفارة عند محمد. وأما عند أبي يوسف فلا يقع عن الطعام ما لم ينو الكسوة عن الطعام.
وأجاز الشافعية الكسوة بالسراويل والعمامة؛ لأنها تسمى كسوة.
ويجزئ عند المالكية أقل ما يطلق عليه اسم قميص أو إزار، أو سراويل أو عمامة.

3 - عتق الرقبة: الكلام في إعتاق الرقبة في كفارة اليمين وغيرها تاريخي فقط بسبب عدم وجود الرقيق في عصرنا، وحينئذ يسقط هذا الواجب ويظل الخيار للحانث محصوراً بين الإطعام والكسوة. وأكتفي هنا بذكر ضابط الرقبة التي يجوز عتقها في الكفارة.
قال الحنفية: يشترط أن تكون الرقبة مملوكة ملكاً كاملاً للمعتق، وأن تكون كاملة الرق، سليمة من العيوب التي تزيل جنساً من أجناس المنفعة، سواء أكانت الرقبة صغيرة أم كبيرة، ذكراً أم أنثى، مسلمة أم كافرة. فلا يجوز في الكفارة إعتاق عبد غيره، ولا أن يعتق عبداً مشتركاً بينه وبين غيره، ولا مدبَّراً أو أم ولد، إلا أنه يجوز تحرير المكاتب استحساناً، ولا يجوز أن يعتق عبداً مقطوع اليدين أو الرجلين أو مقطوع يد واحدة، أو رجل واحدة من جانب واحد، أو يابس الشق مفلوجاً، أو مقعداً أو زمِناً أو أشل اليدين، أو مقطوع الإبهامين من اليدين أو مقطوع ثلاثة أصابع من كل يد سوى الإبهامين، أو أعمى، أو مفقود العينين، أو معتوهاً يغلب العته عليه، أو أخرس لفوات جنس من أجناس المنفعة كمنفعة البطش باليدين، والمشي بالرجلين، والنظر في العينين، والكلام والعقل (1).
_________
(1) المبسوط: 144/ 8، البدائع: 107/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 18/ 4، الدر المختار: 66/ 3، القوانين الفقهية: ص166

(4/2583)


واشترط المالكية والشافعية والحنابلة: أن تكون الرقبة مؤمنة، كما تشترط في كفارة الفطر في رمضان، وفي كفارة الظهار.
وسبب الاختلاف بين الحنفية والجمهور في اشتراط الإيمان في الرقبة: هو اختلافهم في مسألة أصولية وهي: هل يحمل المطلق على المقيد في الأمور التي تنفق أحكامها وتختلف أسبابها ككفارة اليمين وكفارة القتل الخطأ، فقد ورد النص القرآني في كفارة اليمين مطلقاً بدون تقييد بشرط الإيمان وهو: {أو تحرير رقبة} [المائدة:89/ 5]، وورد النص مقيداً بشرط الإيمان في كفارة القتل الخطأ وهو: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحريررقبة مؤمنة} [النساء:92/ 4] فقال الجمهور: يحمل المطلق على المقيد، فيشترط الإيمان في كفارة اليمين حملاً على اشتراطه في كفارة القتل الخطأ؛ لأنهما يشتركان في ستر الذنب، كما حمل قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/ 2] على المقيد في قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65].
وقال الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد، وإنما يجب أن يبقى موجب اللفظ في كفارة اليمين على إطلاقه، ويعمل بكل نص على حدة؛ لأن شرط الإيمان في كفارة القتل غير معقول المعنى، فيقتصر على مورد النص (1).

4 - الصوم، مقداره وشرطه: اتفق الفقهاء على أن الحانث إن لم يجد طعاماً ولا كسوة ولا عتقاً يجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام، لقوله سبحانه: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89/ 5].
واختلفوا في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في الصيام، فقال المالكية والشافعية
_________
(1) بداية المجتهد: 406/ 1، البدائع: 110/ 5، مغني المحتاج: 327/ 4 ومابعدها، المغني:743/ 8، القوانين الفقهية: ص 165.

(4/2584)


في الأظهر عندهم: لا يشترط التتابع، ولكنه مستحب، لإطلاق الآية القرآنية: {فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89/ 5] فليس فيها اشتراط التتابع، وقد نسخت هذه الآية القراءة الشاذة لابن مسعود تلاوة وحكماً (1).
وقال الحنفية والحنابلة: يشترط التتابع (2) بدليل قراءة أبي وعبد الله بن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) (3). وهذا إن كان قرآناً فهو حجة، وإن لم يكن قرآناً فهو رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلم فهو إذاً خبر واحد، وخبر الواحد حجة، وتجوز الزيادة في الجملة على الكتاب بخبر واحد (4).
وبناء على اشتراط التتابع لو أفطر المكفر لعذر مرض أو سفر أو حيض، أو لغير عذر: فإنه عند الحنفية يستأنف الصوم من جديد مرة أخرى، كذلك يستأنف الصوم إذا أفطر في يوم العيد أو أيام التشريق، ويبطل التتابع؛ لأن الصوم في هذه
_________
(1) بداية المجتهد، المرجع السابق: 405، مغني المحتاج، المرجع السابق، حاشية قليوبي وعميرة: 275/ 4، المهذب: 141/ 2.
(2) قال الحنفية: أربعة صيامات متتابعة بالنص: أداء رمضان وكفارة الظهار والقتل واليمين. والمخير فيه قضاء رمضان وفدية الحلق لأذى برأس المحرم، والمتعة والقران، وجزاء الصيد، وثلاثة صيامات لم تذكر في القرآن وثبتت بالأخبار: صوم كفارة الإفطار عمداً وهو متتابع، والتطوع متخير فيه، والنذر متتابع إن نذر أياماً متتابعة معينة أو غير معينة بخصوصها، ومنه ما لزم بنذر الاعتكاف، وهو متتابع وإن لم ينص عليه، إلا أن يصرح بعدم التتابع في النذر (نور الإيضاح: ص 116، العناية بهامش فتح القدير: 81/ 2).
(3) حكاه أحمد ورواه الأثرم عن أبي بن كعب وابن مسعود أنهما قرأا: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} [المائدة:89/ 5] وروى ابن أبي شيبة حديث ابن مسعود عن الشعبي قال: «قرأ د الله: فصيام ثلاثة أيام متتابعات» ورواه عبد الرزاق عن عطاء يقول: بلغنا في قراءة ابن مسعود: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات، وكذلك نقرؤها» وأخرج الحاكم حديث أبي عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} [المائدة:89/ (انظر نيل الأوطار: 8/ 238، نصب الراية: 3/ 296.
(4) المبسوط: 8/ 144، فتح القدير: 4/ 18 , البدائع: ص 11، المغني: 8/ 752 , تبين الحقائق: 3/ 113 , الفتاوى الهندية:2/ 57.
__________

(4/2585)


الأيام لا يصلح لإسقاط ما في الذمة. وهذا بخلاف صوم شهرين متتابعين كفارة عن الجماع في نهار رمضان، فإن الحيض والمرض لا ينقطع التتابع بسببهما؛ لأن الغالب أن الشهرين لا يخلوان عنهما. وأما عند الحنابلة فلا ينقطع التتابع بالحيض والمرض في كفارة اليمين، وكفارة انتهاك حرمة رمضان (1).
_________
(1) البدائع، المرجع السابق، المغني، المرجع السابق.

(4/2586)