الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي البَابُ السّابع: الحَظر والإباحة أو
الأطعمة والأشربة واللباس وغيره
(4/2587)
تمهيد:
هناك أمور تتردد بين الحل والحرمة تمس الإنسان والمجتمع، لتحقيق عافية
المرء في صحته ودينه، أو لمنع الضرر المادي أو الأدبي عن المجتمع في
المعاملات، يعبر عنها الحنفية إما بالحظر (المنع الشرعي) والإباحة (أي
الإطلاق) أو بالكراهية (1)، أو بالاستحسان (أي ما حسَّنه الشرع وقبَّحه) أو
بكتاب الزهد والورع؛ لأن كثيراً من مسائله أطلقه الشرع، والزهد والورع
تركه.
ويبحثها غير الحنفية تحت عنوان الأطعمة والأشربة، والآنية، وخصال الفطرة،
ومقدمات عقد الزواج، وعبر عنها الشيخ خليل من المالكية بالمباح والمحرم
والمكروه.
والكلام عنها أو عن المهم منها في مباحث خمسة هي:
المبحث الأول ـ الأطعمة.
المبحث الثاني ـ الأشربة.
المبحث الثالث ـ اللبس والاستعمال والحلي.
المبحث الرابع ـ الوطء والنظر واللمس واللهو.
المبحث الخامس ـ مسائل في البيع (بيع السماد الطبيعي، الاحتكار، التسعير،
بيع العنب للخمار ونحوها).
_________
(1) إذا أطلقت الكراهة عند الحنفية أريد بها الكراهة التحريمية، وهي إلى
الحرام أقرب , لثبوت النهي فيهابدليل فيه شبهة.
(4/2589)
المبحث الأول ـ
الأطعمة وفيه مقدمة عن حكم الطعام والشراب، ومطالب
أربعة:
المطلب الأول ـ أنواع الأطعمة وحكم كل نوع منها (الحلال، والمكروه،
والحرام.
المطلب الثاني ـ ما لا نص فيه ـ الاحتكام إلى الذوق العربي.
المطلب الثالث ـ حالة الضرورة.
المطلب الرابع ـ إجابة الولائم، وموائد المنكر، وآدا ب الطعام.
(4/2590)
مقدمة ـ مبدأ تناول
الطعام والشراب:
عني الإسلام بالجسم والنفس، فأوجب تناول الحد الأدنى أو الضروري من الطعام
والشراب للحفاظ على الحياة، ودفع الهلاك عن النفس (1)، وللقيام بالواجبات
الدينية من صلاة وصيام ونحوهما، وما عدا قدر الضرورة يباح تناوله ما لم يصل
إلى حد الإسراف، فالإسراف في الأكل والشرب فوق الطاقة الجسمية ضرر، وخطر،
وحرام. والاعتدال هو المطلوب. واستثنى الحنفية من التحريم إذا لم يخش الضرر
حالة قصد التقوي على صوم الغد أو لئلا يستحي ضيفه ونحو ذلك، قال تعالى: {يا
بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد (2)، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا
يحب المسرفين} [الأعراف:31/ 7].
والملبوس والمأكول: هو الحلال، الطيب، فقد أحل الله للإنسان كل نافع في
الأرض: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] وقد أردف الله تعالى
الآية السابقة بقوله: {قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من
الرزق} [الأعراف:32/ 7]. وتوالت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في
تقرير هذا المباح، فقال تعالى: {ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً
طيباً} [البقرة:168/ 2] وقال أيضاً: {ويحل لهم الطيبات. ويحرم عليهم
الخبائث} [الأعراف:157/ 7].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا، وتصدقوا، والبسوا في غير
إسراف ولا مخيلة ـ كبر وإعجاب بالنفس ـ فإن الله يحب أن يرى أثر نعمه على
عبده» (3).
_________
(1) الدر المختار: 5/ 238.
(2) أي عند الطواف أو الصلاة , فستر العورة فيهما واجب , وما بعد العورة
سنة , لا واجب.
(3) رواه أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن عمرو.
(4/2591)
وقال الحنفية: ولا تجوز الرياضة بتقليل
الأكل حتى يضعف عن أداء العبادة (1).
المطلب الأول ـ أنواع الأطعمة وحكم كل نوع منها:
الغذاء الإنساني الذي يؤكل نوعان: نبات وحيوان.
أما النبات المأكول: فكله حلال إلا
النجس والضار والمسكر (2). أما النجس أو ما خالطته نجاسة (المتنجس)، فلا
يؤكل، لقوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7] والنجس: خبيث.
ولو تنجس طاهر كخل، ودبس ودهن ذائب، وزيت، حرم، لقوله صلّى الله عليه وسلم
في الفأرة تقع في السمن، وتموت فيه: «إن كان جامداً فألقوها وما حولها،
وكلوه، وإن كان مائعاً فأريقوه» (3) فلو حل أكله، لم يأمر بإراقته.
وأما المسكر: فحرام لقوله تعالى فيه {رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم
تفلحون} [المائدة:90/ 5].
وأما الضار: فلا يحل أكله، كالسُّم والمخاط والمني والتراب والحجر، لقوله
تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29/ 4] وقوله تعالى: {ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2] وأكل هذه الأشياء تهلكة، فوجب ألا
تحل. لكن قال المالكية: قيل: الطين مكروه. وقيل: حرام، وهو الأرجح.
_________
(1) رد المحتار: 238/ 5.
(2) بداية المجتهد: 450/ 1 - 452،456، القوانين الفقهية: ص 171، المهذب:
246/ 1، 250، مغني المحتاج: 305/ 4.
(3) رواه البخاري وأحمد والنسائي عن ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم
(سبل السلام: 8/ 3).
(4/2592)
ويحل أكل ما لا يضر كالفواكه والحبوب،
لقوله تعالى: {قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق}
[الأعراف:32/ 7].
وأما الحيوان فنوعان: مائي، وبري. أذكر
هنا الحلال والحرام باختصار، وأحيل التفصيل على بحث الحيوان الذبيح في
الذبائح والصيد.
أما المائي: فيحل منه السمك بالاتفاق،
إلا الطافي منه فلا يحل عند الحنفية، ويحل عند غيرهم. وكره مالك خنزير
الماء، والمعتمد عند المالكية أن خنزير الماء وكلب الماء مباح.
ولا يحل أكل الضفدع عند الجمهور غير المالكية، لنهي النبي صلّى الله عليه
وسلم عن قتل الضفدع. ولو حل أكله لم ينه عن قتله. وأباح المالكية أكل
الضفادع، إذ لم يرد نص بتحريمها.
وأما البري: فيحرم منه أكل الميتة والدم
ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به (أي ما ذكر عند ذبحه اسم معبود غير
الله)، والمنخنقة (التي ماتت خنقاً) والنطيحة (التي نطحها حيوان فماتت)،
والموقوذة (التي ضربت فماتت)، والمتردية (التي سقطت من مرتفع فماتت)، وما
بقر الحيوان المفترس بطنها، إلا إذا ذبحت، وفيها حياة، فيحل كل ما ذكر.
ويحرم أكل الحيوانات المفترسة كالذئب والأسد والنمر عند الجمهور، وقال
المالكية: هي مكروهة. كما يحرم أكل الطيور الجارحة كالصقر والباز والنسر
ونحوها. وقال المالكية: هي مباحة، إلا الوطواط، فيكره أكله على الراجح.
ويحرم أكل الكلاب والحمير الأهلية والبغال؛ لأن الكلب من الخبائث، بدليل
قوله صلّى الله عليه وسلم: «الكلب خبيث، خبيث ثمنه» (1) ولنهي النبي صلّى
الله عليه وسلم يوم خيبر عن
_________
(1) روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي عن رافع بن خديج:
«ثمن الكلب خبيث» (نيل الأوطار: 143/ 5، 284).
(4/2593)
الحُمُر والبغال (1) والمعتمد عند
المالكية: أن الكلب الإنسي مكروه، وأن كلب الماء مباح.
ويحرم أكل حشرات الأرض (صغار دوابها) كالعقرب والثعبان والفأرة والنمل
والنحل لسُّميتها واستخباث الطباع السليمة لها.
ويحرم المتولد من مأكول وغير مأكول كالبغل المتولد من الحمير والخيل،
والحمار المتولد من حمار الوحش والحمار الأهلي؛ لأنه مخلوق مما يؤكل ومما
لا يؤكل، فيغلب التحريم (2) عملاً بقاعدة تقديم الحاظر على المبيح.
وقال المالكية: يباح بالذكاة أكل خَشاش الأرض كعقرب وخنفساء وبنات ورَدْان
وجندب ونمل ودود وسوس. ويباح أيضاً أكل حية أمن سمها إن ذبحت بحلقها (3).
ويحل أكل الخيل بأنواعها الأصيلة وغير الأصيلة عند الشافعية والحنابلة
وصاحبي أبي حنيفة لإذن النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر بها (4). وقال
أبو حنيفة بكراهتها كراهة تنزيهية، لورود حديث ينهى عن لحوم الخيل (5).
والمشهور عند المالكية تحريم الخيل (6).
_________
(1) رواه الحاكم في المستدرك عن جابر بن عبد الله، وقال: حديث صحيح على شرط
مسلم، ولم يخرجاه (نصب الراية: 197/ 4).
(2) المهذب: 249/ 1، مغني المحتاج: 303/ 4، كشاف القناع: 190/ 6.
(3) الشرح الكبير: 115/ 2،وسمي ذلك خشاشاً لأنه يخش أي يدخل في الأرض ولا
يخرج منها إلا بمخرج، ويبادر برجوعه إليها.
(4) أخرجه البخاري ومسلم (نصب الراية: 198/ 4).
(5) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن خالد بن الوليد (نصب الراية:
196/ 4).
(6) بداية المجتهد: 455/ 1، الشرح الكبير: 117/ 2.
(4/2594)
وأباح الشافعية والحنابلة أكل الضَّب
والضَّبُع. وعند الشافعية: والثعلب، وحرمه الحنابلة. وحرم الحنفية أكل ذلك
كله. وأما المالكية فقد أباحوا مع الكراهة أكل كل السباع كما تقدم.
ويجوز بالإجماع أكل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) لإباحتها بنص القرآن
الكريم، كما يجوز أكل الطيور غير الجارحة كالحمام والبط والنعامة والأوز،
والسمان، والقنبر، والزرزور، والقطا، والكروان، والبلبل وغير ذلك من
العصافير.
ويحل أكل الوحوش غير الضارية، كالظباء، وبقر الوحش وحماره لإذن النبي صلّى
الله عليه وسلم بأكلها (1).
ويباح أكل الأرنب والجراد، لثبوت الإباحة في السنة النبوية. الدود وحده
يحرم عند غير المالكية، لكن دود الطعام والفاكهة وسوس الحبوب، ودود الخل،
إذا أكل معه ميتاً، وطابت به النفس ولم تعافه، يحل أكله لتعسر تمييزه (2).
خلاصة مذهب المالكية في المباح والمحرم
(3):
يظهر مما سبق أن مذهب المالكية أوسع المذاهب في إباحة الأطعمة والأشربة،
لذا أستحسن إعطاء خلاصة عنه:
المباح: يباح حال الاختيار أكلاً
أوشرباً كل طعام طاهر، والحيوان البحري، ولو آدميه وخنزيره، وإن كان البحري
ميتاً، والطير بجميع أنواعه ولو كان
_________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) مغني المحتاج: 268/ 4، 303، المغني: 605/ 8.
(3) راجع متن العلامة خليل والشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 115/ 2.
(4/2595)
جلاَّلة (1)، أو ذا مخلب كالباز والعقاب
والرخم، إلا الوطواط، فيكره أكله على الراجح، والنَّعَم (الإبل والبقر
والغنم ولو جلالة)، والوحش غير المفترس كغزال وحمر وحش ويربوع، وخُلْد،
ووَبْر (2)، وأرنب، وقُنْفُذ، وضُرْبوب (3)، وحية أمن سمها (4) إن ذكيت
بحلقها.
ويباح أيضاً هوام الأرض كخنفساء وبنات وَرْدان، وجندب (5)، ونمل ودود وسوس.
ويباح عصير ماء العنب أول عصره، وفُقَّآع، وعقيد وسوبيا (6) أمن سكره.
_________
(1) أي مستعملاً للنجاسة. والجلالة لغة: البقرة التي تستعمل النجاسة.
والفقهاء يستعملونها في كل حيوان يستعملها.
(2) اليربوع: دابة قدر بنت عرس، رجلاها أطول من يديها. والخلد: فأر أعمى لا
يصل للنجاسة. والوبر: فوق اليربوع كالأرنب يعتلف النبات والبقول، ودون
السنور، طحلاء اللون أي بين البياض والغبرة.
(3) القنفذ: أكبر من الفأر، كله شوك إلا رأسه وبطنه ويديه ورجليه،
والضربوب: كالقنفذ في الشوك، إلا أنه قريب من خلقة الشاة. وأباح الحنابلة
أكل اليربوع والوبر والضب والضبع (المغني: 592/ 8، كشاف القناع: 191/ 6)
والشافعية أيضاً كما أبنت في الذبائح: أباحوا أكل الضبع والضب والثعلب
واليربوع والفَنَك (حيوان يؤخذ من جلده الفرو) والسمور (كالسنور)، وهما من
ثعالب الترك. وأباحوا أكل ابن عرس (دويبة رقيقة تعادي الفأر تدخل تحت حجره
وتخرجه)، والبجع (الحوصل): وهو طائر أبيض من الكركي، ذو حوصلة عظيمة يتخذ
منها فرو، ويكثر بمصر، والقاقم (دويبة يتخذ جلدها فرواً) لأن ما ذكر من
الطيبات (مغني المحتاج: 299/ 4).
(4) أمن سمها لمستعملها، ويجوز أكلها بسمها لمن ينفعه ذلك لمرض.
(5) بنت وردان: دويبة كريهة الرائحة، تألف الأماكن القذرة في البيوت، وهي
ذات ألوان مختلفة وأرجل جانبية متعددة. والجندب: نوع من الجراد.
(6) الفقاع: شراب يتخذ من القمح والتمر. والسوبيا: شراب يميل إلى الحموضة
بما يضاف إليه من عجوة ونحوها. وعقيد: هو ماء العنب يغلى على النار حتى
ينعقد ويذهب إسكاره. ويسمى بالرُّب الصامت.
(4/2596)
المحرم:
ويحرم تناول النجس من جامد أو مائع، والخنزير البري، والبغل والفرس
والحمار، ولو كان حمارا وحشياً تأنس. والأرجح تحريم أكل الطين والتراب
والعظام والخبز المحروق بالنار، منعاً لأذى البدن.
المكروه: ويكره سبع وضبع وثعلب وذئب،
وهر ولو كان وحشياً، وفيل وفهد ودب ونمر ونمس (1)، وكلب إنسي على المعتمد.
والأظهر كراهة أكل القرد والنسناس، والمشهور أن فأر البيوت الذي يصل إلى
النجاسة يكره، فإن شك في وصوله لها، لم يكره، وإن لم يصل للنجاسة فهو مباح.
لحم الجلالة: الجلالة كما عرفها
الحنفية: هي التي تعتاد أكل الجيف والنجاسات فقط، ولا تخلط معها طعاماً
غيره ويكون لها ريح منتنة. وهي عند غير الحنفية: هي التى أكثر طعامها
النجاسة، وقد اختلف الفقهاء في حكم أكل لحمها.
فأباح المالكية (2) كما تقدم أكل لحم الجلالة. وكرهها مالك، وأحمد في رواية
عنه والحنفية والشافعية (3)، وحرمها الحنابلة (4).
وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. أما الأثر فهو ما روى ابن عمر: «نهى
النبي صلّى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها» (5) وروى الخلال
بإسناده عن عبد الله بن
_________
(1) وتسمى كل تلك الحيوانات ما عدا الهر الوحوش المفترسة.
(2) الشرح الكبير: 115/ 2، بداية المجتهد: 451/ 1.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي: 10/ 1، البدائع: 39/ 5 ومابعدها، المهذب: 250/
1، مغني المحتاج: 304/ 4، الدر المختار: 239/ 5 ومابعدها.
(4) كشاف القناع: 192/ 6، المغني: 593/ 8.
(5) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن غريب. وفي رواية لأبي داود:
«نهى عن ركوب الجلالة» وفي أخرى له: «نهى عن ركوب جلالة الإبل» وروى أحمد
والنسائي وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلّى الله
عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وعن ركوب الجلالة، وأكل لحمها».
(4/2597)
عمرو: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها، ولا يحمل عليها إلا الأدمُ (الجلود
المدبوغة)، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة».
وأما القياس المعارض لهذا: فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم،
فالمالكية القائلون بالحل نظروا إلى الانقلاب أو التحول إلى لحم، كانقلاب
الدم لحماً.
والحنابلة أخذوا بظاهر النهي المقتضي للتحريم، ولأن اللحم يتولد من
النجاسة، فيكون نجساً، كرماد النجاسة. والحنفية والشافعية حملوا الحديث على
الكراهة التنزيهية.
وعبارة الحنفية: يكره لحم الجلالة ولبنها، كما يكره لحم الأتان ولبنها ولبن
الخيل، وبول الإبل، وأجازه (أي بول الإبل ولحم الفرس) أبو يوسف للتداوي به.
وتحبس الجلالة حتى يذهب نتن لحمها، وقدر بثلاثة أيام لدجاجة، وأربعة لشاة،
وعشرة لإبل وبقر على الأظهر. ولو أكلت الجلالة النجاسة وغيرها بحيث لم ينتن
لحمها، حلت، كما حل أكل جدي غذي بلبن خنزير؛ لأن لحمه لا يتغير، وما غذي به
يصير مستهلكاً لا يبقى له أثر. وعليه: لا بأس بأكل الدجاج، لأنه يخلط أكل
النجس مع غيره، ولا يتغير لحمه (1).
وعبارة الشافعية: يكره أكل الجلالة: وهي التي أكثر أكلها العَذِرَة
(الغائط) من ناقة أو شاة، وبقرة، أو ديك، أو دجاجة؛ لحديث ابن عمر المتقدم:
ولا يحرم أكلها، لأنه ليس فيها أكثر من تغيير لحمها، وهذا لا يوجب التحريم.
فإن أطعم الجلالة طعاماً طاهراً لم يكره، لقول ابن عمر: «تعلف الجلالة
علفاً طاهراً: إن كانت ناقة أربعين يوماً، وإن كانت شاة سبعة أيام، وإن
كانت دجاجة ثلاثة أيام».
_________
(1) وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل الدجاج. وما روي أن الدجاج يحبس
ثلاثة أيام، ثم يذبح، فذاك على سبيل التنزه، لا أنه شرط (تبيين الحقائق،
المكان السابق).
(4/2598)
وعبارة الحنابلة: وتحرم الجلالة: وهي التي
أكثر طعامها النجاسة، كما تحرم ألبانها وهي رواية عن أحمد، وفي رواية أخرى
أنها مكروهة غير محرمة، وتزول الكراهة بحبسها اتفاقاً. واختلف في قدره فروي
عن أحمد أنها تحبس ثلاثاً، سواء أكانت طائراً أم بهيمة. وروي عنه أيضاً:
تحبس الدجاجة ثلاثاً، والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين. ويكره ركوب
الجلالة.
المطلب الثاني ـ ما لا نص فيه ـ الاحتكام للذوق
العربي:
قال الشافعية والحنابلة (1): الحيوان الذي لا نص فيه من كتاب أو سنة أو
إجماع، لا خاص ولا عام بتحريم ولا تحليل، ولا ورد فيه أمر بقتله ولا بعدم
قتله: إن استطابه أهل يسار (أي ثروة وخصب) وأهل طباع سليمة من أكثر العرب ـ
سكان بلاد أو قرى، في حال رفاهية عند الشافعية، أو أهل الحجاز أهل الأمصار
عند الحنابلة: حل أكله. لقوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم
الخبائث} [الأعراف:157/ 7] ولأن العرب هم الذين نزل عليهم الكتاب، وخوطبوا
به، وبالسنة وفيهم بعث النبي صلّى الله عليه وسلم، فيرجع في مطلق ألفاظهما
إلى عرفهم، دون غيرهم.
وعليه تكون القاعدة: المحرم من الحيوان: ما نص الله تعالى عليه في كتابه.
وما كانت العرب تسميه طيباً فهو حلال، وما كانت تسميه خبيثاً فهو محرم.
ولا يعتبر قول الأجلاف من أهل البادية والفقراء وأهل الضرورة؛ لأنهم
للضرورة والمجاعة، يأكلون ما وجدوا.
وما لم يوجد عند أهل الحجاز عند الحنابلة، رد إلى أقرب ما يشبهه في
_________
(1) مغني المحتاج: 303/ 4 ومابعدها، المهذب: 249/ 1، المغني: 585/ 8.
(4/2599)
الحجاز. فإن لم يشبه شيئاً منها، فهو مباح،
لدخوله في عموم قوله تعالى: {قل: لا أجد في ما أوحي إليّ محرماً} ..
[الأنعام:145/ 6] الآية، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «وما سكت الله
عنه فهو مما عفا عنه» (1).
وقال الشافعية: إن جهل اسم حيوان، سئل العرب عنه، وعمل بتسميتهم له مما هو
حلال أو حرام؛ لأن المرجع في ذلك إلى الاسم وهم أهل اللسان. وإن لم يكن له
اسم عندهم، ألحق بالأشبه به من الحيوان، في الصورة، أو الطبع، أو الطعم في
اللحم. فإن تساوى الشبهان، أو فقد ما يشبهه، حل على الأصح، لقوله تعالى:
{قل: لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً .. } [الأنعام:145/ 6] الآية.
وعملاً بهذا المبدأ أذكر بإيجاز ما يحرم وما يحل من الحيوان عند الشافعية:
أما ما يحرم: فيشمل الحشرات كلها كالنمل والذباب والخنافس والحيَّات والدود
والبق والقمل والصُّرصُر والوزع: وهو سام أبرص. ويَحرم ذوات السم وكل ما
يندب قتله كالنحل والزنابير والعقارب والفئران والغربان والأفاعي والحِدأ.
ويحرم من الطيور: الخُفَّاش (الوطواط) والخُطَّاف (طائر أسود الظهر أبيض
البطن) والببَّغا) طائر أخضر يحاكي الأصوات) والطاوس، والرَّخمة (طائر يشبه
النسر) والبُغَاثة (طائر أبيض بطيء الطيران أصغر من الحدأة) ويحرم كل ناب
من السباع وكل ذي مخلب من الطير. ويحرم كل متنجس لا يمكن تطهيره كخل وزيت
ودبس، وما يضر البدن كالحجر والتراب والزجاج والسم والأفيون.
وأما ما يحل: فيشمل طيور النعامة والبط والحجل والإوَز والدجاج والقطا
وغراب الزرع والحمام. ويشمل أيضاً كل طاهر لا ضرر فيه ولا تعافه النفس
_________
(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه عن سلمان الفارسي (نيل الأوطار: 106/ 8).
(4/2600)
كالبيض والجبن، أما ما تعافه النفس
وتستقذره كالمخاط والمني ونحوهما فحرام. وتحل ألبان الحيوانات المأكولة
اللحم، ولا تحل ألبان الحيوانات غير المأكولة اللحم كلبن إناث الحمير، لكن
لبن الإنسان طاهر.
ويحرم كل ما استخبثه العرب في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم كالحشرات
ونحوها إلا ما أباحه الشرع كاليربوع (دابة كالفأرة لكن ذنبه أطول) والضَّب
(دابة كالجرذون) والوَبْر (دابة أصغر من الهر) والسمُّور (دابة كالسنور)
وابن عرس (دابة رقيقة تطارد الفئران).
وتحل حيوانات البحر، لأن العرب استطابتها، وتباح الأنعام (الإبل والبقر
والغنم والمعز) وحُمُر الوحش والظباء والأرانب ونحوها مما استطابته العرب،
إلا ما حرمه الشرع كالبغال والحمر الأهلية.
المطلب الثالث ـ حالة الضرورة:
الضرورة نظرية متكاملة تشمل جميع أحكام الشرع، يترتب عليها إباحة المحظور،
وترك الواجب. والكلام عنها يطول (1)، أجتزئ ببيان المهم منها وهو تعريفها
وحكمها وشروطها، وهل تشمل حالة السفر والحضر جميعاً، وجنس المستباح أو ما
يجوز تناوله، وكيفية ترتيب أفضلية الشيء المتناول، ومقدار الجائز تناوله،
والتزود من الميتة، وحكم أخذ طعام الغير قهراً للضرورة، وحالات خاصة للحاجة
(المار ببستان الفاكهة، والأكل من الزرع، وحلب الماشية لمن مر بهما) (2).
_________
(1) راجع كتابنا نظرية الضرورة الشرعية.
(2) انظر المسبوط:48/ 24، البدائع: 124/ 5، رد المحتار: 238/ 5، أحكام
القرآن للجصاص: 147/ 1 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير: 115/ 2 ومابعدها،
القوانين الفقهية: ص 173، بداية المجتهد: 461/ 1 ومابعدها، المهذب: 250/ 1
ومابعدها، مغني المحتاج: 188/ 4، 306 - 310، المغني: 595/ 8 - 603، كشاف
القناع: 194/ 6 - 200.
(4/2601)
أولاً ـ تعريف الضرورة وحكمها: هي الخوف
على النفس من الهلاك علماً (أي قطعاً) أو ظناً. فلا يشترط أن يصبر حتى يشرف
على الموت. وحكمها في المذاهب الأربعة (1):وجوب الأكل من المحرَّم، بمقدار
ما يسد رمَقَه (أي بقية حياته)، ويأمن معه الموت، لقوله تعالى: {فمن اضطر
غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/ 2] وقوله: {ولا تلقوا بأيديكم
إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2] وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29/ 4].
فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك، فقد عصى، لأن فيه إلقاء إلى التهلكة، وهو
منهي عنه في محكم التنزيل، ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله له،
فلزمه، كما لو كان معه طعام حلال.
بخلاف من امتنع عن التداوي حتى مات، لا يجب عليه، ولا يعصي بالترك، إذ لا
يتيقن أن الدواء يشفيه. هذا وقد قرر الحنابلة أنه يجب على المضطر تقديم
السؤال، أي الاستجداء على أكل الميتة.
وقيل عند البعض كأبي يوسف وأبي إسحاق صاحب المهذب وفي وجه عند الحنابلة: لا
يجب على المضطر الأكل من الميتة أو لحم الخنزير، بل يباح لأنه له غرضاً في
تركه، وهو أن يجتنب ما حرم عليه، وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة، ولما
روي عن عبد الله بن حذافة السَّهْمي صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«أن طاغية الروم حبسه في بيت، وجعل معه خمراً ممزوجاً بماء، ولحم خنزير
مشوي ثلاثة أيام، فلم يأكل، ولم يشرب، حتى مال رأسه من الجوع والعطش، وخشوا
موته، فأخرجوه، فقال: قد كان الله أحله لي، لأني مضطر، ولكن لم أكن لأشمتك
بدين الإسلام» ولأن إباحة الأكل رخصة، فلا تجب عليه كسائر الرخص (2)،
_________
(1) المبسوط، المكان السابق، البدائع: 176/ 7، تبيين الحقائق: 185/ 5، الدر
المختار ورد المحتار: 92/ 5، 238، درر الحكام: 310/ 1، الشرح الكبير: 115/
2، مغني المحتاج: 306/ 4، المغني: 596/ 8، الفروق: 183/ 4، الجصاص: 148/ 1،
150، أحكام القرآن لابن العربي: 56/ 1.
(2) المغني: 596/ 8، تكملة فتح القدير: 298/ 7.
(4/2602)
ولأن قوله تعالى: {وقد فصَّل لكم ماحَرَّم
عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119/ 6] استثناء من التحريم،
والاستثناء من التحريم حل أو إباحة كما يقرر الأصوليون.
وبهذا يظهر أن الإضراب عن الطعام في السجون ونحوها، لا يحل إذا أدى إلى
الموت، على كلا الرأيين السابقين.
ثانياً ـ شروط الضرورة أو ضوابطها: ليس كل من ادعى الضرورة يسلَّم له
ادعاؤه، أو يباح له فعل الحرام، وإنما لابد من توافر شروط أو ضوابط
للضرورة، وهي ما يأتي (1):
1ً - أن تكون الضرورة قائمة
لا منتظرة في المستقبل، أي أن يحصل في الواقع خوف الهلاك على النفس أو
المال بغلبة الظن بحسب التجارب، أو التحقق من خطر التلف، لو لم يأكل، ويكفي
في ذلك الظن، كما في الإكراه على أكل الحرام، فلا يشترط فيه التيقن ولا
الإشراف على الموت، بل لو انتهى إلى هذه الحالة لم يفد الأكل ولم يحل الأكل
كما صرح الشافعية.
2ً - أن يتعين على المضطر
ارتكاب المحظور الشرعي أي ألا يكون هناك وسيلة أخرى من المباحات لدفع الخطر
إلا تناول الحرام؛ لأن سبب استعمال المحرمات في حال الاضطرار هو ضرورة
التغذي أعني إذا لم يجد شيئاً حلالاً يتغذى به. وهذا لاخلاف فيه.
3ً - أن يتوافر عذر يبيح
الإقدام على الحرام، كالحفاظ على النفس أو العضو بأن خاف التلف إما من جوع،
أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي وانقطع عن
_________
(1) نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف: ص 66 ومابعدها.
(4/2603)
الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك،
وبه يظهر أن كل ما يبيح التيمم ـ كماصرح الشافعية والحنابلة ـ يبيح تناول
الحرام أو ارتكاب المحظور، فيعتبر خوف حصول الشين الفاحش في عضو ظاهر كخوف
طول المرض، كل منهما يبيح الأكل من المحرمات.
4ً - ألا يخالف المضطر
مبادئ الإسلام، فلا يحل الزنا والقتل والكفر والغصب بأي حال؛ لأنها مفاسد
في ذاتها، وإن كان يرخص حال الإكراه في الكفر باللسان مع اطمئنان القلب
بالإسلام، كما يرخص بأخذ طعام الغير ولو قهراً إذا لم يكن هو أيضاً مضطراً
إليه. وبه يظهر أن الإباحة تختلف عن الرخصة؛ لأن الإباحة تقلب الحرام
حلالاً، وتزيل عنه صفة الحرمة، وأما الرخصة فتمنع الإثم ويظل الفعل حراماً.
ولا يباح أصلاً قتل آدمي وأكله، كما لايباح عند الجمهور غير الشافعية أكل
آدمي ميت، كما سأبين، ويحرم على الراجح عند أئمة المذاهب الأربعة تناول
الخمر إلا لإزالة غُصة عند عدم مايسيغها به من غيرها، ولايحل عند المالكية
تناول شيء من الدم أو العَذِرة، أو ضالة الإبل.
5ً - أن يقتصر في رأي
الجمهور على الحد الأدنى أو القدر اللازم لدفع الضرر، كما سأوضح؛ لأن إباحة
الحرام ضرورة، والضرورة تقد ر بقدرها.
6ً - أن يصف المحرم ـ في
حال ضرورة الدواء ـ طبيب عدل ثقة في دينه وعلمه، وألا يوجد من غير المحرَّم
علاج آخر، يقوم مقامه.
ولا يتقيد الاضطرار بزمن مخصوص لاختلاف الأشخاص في ذلك (1).
_________
(1) كشاف القناع: 194/ 6، المغني: 595/ 8.
(4/2604)
ثالثاً ـ هل تشمل الضرورة حالة السفر
والحضر جميعاً؟ تباح المحرمات عند الاضطرار إليها في الحضر والسفر جميعاً؛
لأن آية الضرورة {فمن اضطر} [البقرة:173/ 2] مطلقة غير مقيدة بحالة معينة
من هاتين الحالتين، وهو لفظ عام في حق كل مضطر، ولأن الاضطرار يكون في
الحضر في سنة المجاعة العامة، وسبب الإباحة: الحاجة إلى حفظ النفس عن
الهلاك، وهو عام في الحالين (1).
وهذا باتفاق المذاهب الأربعة، ولم يميز الحنفية (2) بين السفر المقصود به
أصلاً المعصية، أو طروء المعصية في أثناء سفر مباح. وهو الراجح عند
الحنابلة كما في الحاشية. والمشهور من مذهب مالك (3): أن المضطر يجوز له
الأكل من الميتة ونحوها في سفر المعصية، ولايجوز له القصر والفطر لقوله
تعالى: {غير باغ ولا عاد} [البقرة:173/ 2].
وفرق المالكية في المشهور والشافعية والحنابلة (4) بين المعصية بالسفر،
والمعصية في السفر أي
أثنائه. فمن أنشأ سفراً يعتبر في ذاته معصية كالمرأة الناشز، وقاطع الطريق،
والمسافر لظلم الناس، لايباح له الأكل من الميتة، أو استعمال الرخص
الشرعية؛ لأن الرخص لاتناط بالمعاصي، ولقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا
عاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/ 2] قال مجاهد: غير باغ على المسلمين ولا
عاد عليهم.
_________
(1) هذا ماقرره ابن قدامة في مذهب أحمد (المغني: 596/ 8) وهو الموافق لغيره
من الكتب (كشاف القناع: 194/ 6).
(2) التوضيح: 194/ 2، مسلم الثبوت: 113/ 1، أحكام الجصاص: 147/ 1 ومابعدها.
(3) الموافقات: 337/ 1، أحكام القرآن لابن العربي: 58/ 1، تفسير القرطبي:
233/ 2، القوانين الفقهية: ص 173، بداية المجتهد: 462/ 1.
(4) مخطوط قواعد الزركشي: ق 107، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 124، مغني
المحتاج: 64/ 1، 268، المغني: 297/ 8، الشرح الصغير: 477/ 1.
(4/2605)
ومن سافر سفراً مباحاً، وعصى أثناء سفره،
كأن شرب الخمر، فهو عاص في سفره، تباح له الرخص الشرعية، لأنها منوطة
بالسفر، ونفس السفر ليس معصية، ولا إثم به.
رابعاً ـ جنس الشيء المستباح للضرورة: يستباح للضرورة في المذاهب الأربعة
كل شيء محرم، يرد جوعاً أو عطشاً، كالميتة من كل حيوان والخنزير وطعام
الغيرونحوه (1).
واستثنى الحنابلة السم ونحوه مما يضر.
واستثنى المالكية الآدمي والدم والخنزير والأطعمة النجسة كالعذرة والأشربة
النجسة إلا الخمر، لإزالة الغُصة، ولا تباح لجوع ولا لعطش لأنها لا تدفعه،
وقيل: تباح، ولا يحل التداوي بها ولو لخوف الموت في المشهور.
كما استثنوا ضالة الإبل، إلا إن تعينت عند انفرادها، وتقدم عليها الميتة
عند وجودهما.
واتفق أئمة المذاهب على أنه لا يباح قتل إنسان مسلم أو كافر معصوم أو إتلاف
عضو منه لضرورة الأكل، لأنه مُثلة، فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه. فلا
يباح إذن الإنسان الحي. كما لا يباح الأكل من الإنسان الميت عند الجمهور
غير الشافعية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسره حياً» (2).
وإن قال شخص لآخر
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 115/ 2 ومابعدها، بداية المجتهد: 461/ 1،
القوانين الفقهية: ص 173، الدر المختار ورد المحتار: 238/ 5، مغني المحتاج:
595/ 8، كشاف القناع: 194/ 6.
(2) رواه أحمد في مسنده، وأبو داود، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها.
وروى مالك وابن ماجه وأبو داود بإسناد صحيح ما عدا رجلاً واحداً هو سعد
الأنصاري، ضعفه أحمد، ووثقه الأكثرون: حديثاً في معناه عن جابر رضي الله
عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لحفار قبر أخرج عظماً: «لا تكسرها،
فإن كسرك إياها ميتاً ككسرك إياه حياً، ولكن دُسَّه في جانب القبر» وأخرج
ابن ماجه عن أم سلمة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره
حياً في الإثم».
(4/2606)
مثلاً: اقطع يدي وكلها، لا يحل؛ لأن لحم
الإنسان لا يباح في الاضطرار لكرامته.
وأجاز الشافعية (1) للمضطر أكل آدمي ميت إذا لم يجد ميتة غيره؛ لأن حرمة
الحي أعظم من حرمة الميت، إلا إذا كان الميت نبياً، فإنه لا يجوز الأكل منه
قطعاً، أو كان الميت مسلماً والمضطر كافراً، فإنه لا يجوز له الأكل منه
لشرف الإسلام. وقال الخطيب الشربيني شارح المنهاج: بل لنا وجه: أنه لا يجوز
أكل الميت المسلم، ولو كان المضطر مسلماً. وبهذه الاستثناءات اقترب
الشافعية من غيرهم.
وأجاز الحنابلة أكل الآدمي غير المعصوم أي مباح الدم كالحربي والمرتد
والزاني المحصن والقاتل في المحاربة (2).
كذلك أجاز الشافعية والحنابلة للمضطر قتل حربي ومرتد وأكله، ولا يجوز له
قطع بعض أعضائه، لأنهما ـ أي في حالة القتل ـ غير معصومين، فيباح قتلهما،
إذ لا حرمة لهما، فكانا بمنزلة السباع، وللمضطر أكله بعد موته، لعدم حرمته.
وللمضطر أيضاً عندهم (الشافعية والحنابلة) قتل الزاني المحصن، والمحارب
(قاطع الطريق) ومن عليه قصاص، وإن لم يأذن الإمام في القتل؛ لأن قتلهم
مستحق، وإنما يعتبر إذن الإمام في غير حال الضرورة تأدباً معه، وحال
الضرورة ليس فيها رعاية أدب.
ولا يجوز للمضطر قتل ذمي ومستأمن ومعاهد، لحرمة قتلهم. والأصح له حل قتل
صبي حربي وامرأة حربية، لأنهما ليسا بمعصومين، ومنع قتلهما في غير الضرورة
لا لحرمتهما، بل لحق الغانمين.
_________
(1) مغني المحتاج: 307/ 4.
(2) كشاف القناع: 198/ 6.
(4/2607)
تشريح الجثث ونقل
الأعضاء:
يرى المالكية والحنابلة عملاً بحديث: «كسر عظم الميت ككسره حياً» أنه لا
يجوز شق بطن الميتة الحامل لإخراج الجنين منه؛ لأن هذا الولد لا يعيش عادة،
ولايتحقق أنه يحيا، فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم.
وأجاز الشافعية شق بطن الميتة لإخراج ولدها، وشق بطن الميت لإخراج مال منه.
كما أجاز الحنفية كالشافعية شق بطن الميت في حال ابتلاعه مال غيره، إذا لم
تكن له تركة يدفع منها، ولم يضمن عنه أحد (1).
وأجاز المالكية أيضاً شق بطن الميت إذا ابتلع قبل موته مالاً له أو لغيره
إذا كان كثيراً: هو قدر نصاب الزكاة، في حال ابتلاعه لخوف عليه أو لعذر.
أما إذا ابتلعه بقصد حرمان الوارث مثلاً، فيشق بطنه، ولو قل.
وبناء على هذه الآراء المبيحة: يجوز التشريح عند الضرورة أو الحاجة بقصد
التعليم لأغراض طبية، أو لمعرفة سبب الوفاة وإثبات الجناية على المتهم
بالقتل ونحو ذلك لأغراض جنائية إذا توقف عليها الوصول إلى الحق في أمر
الجناية، للأدلة الدالة على وجوب العدل في الأحكام، حتى لا يظلم بريء، ولا
يفلت من العقاب مجرم أثيم.
كذلك يجوز تشريح جثث الحيوان للتعليم؛ لأن المصلحة في التعليم تتجاوز
إحساسها بالألم.
وعلى كل حال ينبغي عدم التوسع في التشريح لمعرفة وظائف الأعضاء وتحقيق
الجنايات، والاقتصار على قدر الضرورة أو الحاجة، وتوفير حرمة الإنسان
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 246/ 3.
(4/2608)
الميت وتكريمه بمواراته وستره وجمع أجزائه
وتكفينه وإعادة الجثمان لحالته بالخياطة ونحوها بمجرد الانتهاء من تحقيق
الغاية المقصودة.
كما يجوز عند الجمهور نقل بعض أعضاء الإنسان لآخر كالقلب والعين والكُلْية
إذا تأكد الطبيب المسلم الثقة العدل موت المنقول عنه؛ لأن الحي أفضل من
الميت، وتوفير البصر أو الحياة لإنسان نعمة عظمى مطلوبة شرعاً. وإنقاذ
الحياة من مرض عضال أو نقص خطير أمر جائز للضرورة، والضرورات تبيح
المحظورات، ولكن لا يقبل بيع هذه الأعضاء بحال، كما لا يجوز بيع الدم،
وإنما يجوز التبرع بدفع عوض مالي على سبيل الهبة أو المكافأة عند نقل العضو
أو التبرع بالدم في حالة التعرض لهلاك أو ضرر بالغ. فإن تحتم دفع العوض ولا
يوجد متبرع من الأقارب أو غيرهم، جاز للدافع الدفع للضرورة.
التداوي بالخمر:
قال أئمة المذاهب الأربعة (1): يحرم على الراجح الانتفاع بالخمر وسائر
المسكرات للمداواة وغيرها، كاستخدامها في دُهن أو طعام أو إذابة دواء أو
بَلَّ طين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم
عليكم» (2)،وروى طارق
_________
(1) البدائع: 113/ 5، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 320/ 5، المنتقى على
الموطأ: 154/ 3، 158، التاج والإكليل: 318/ 6، الشرح الكبير للدردير: 352/
4 ومابعدها، المهذب: 251/ 1، مغني المحتاج: 187/ 4، كشاف القناع: 198/ 6،
زاد المعاد: 114/ 3، المغني: 255/ 4، 308/ 8، الفرائد البهية في القواعد
الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 286.
(2) رواه البخاري عن ابن مسعود. وكذا رواه عبد الرزاق والطبري وابن أبي
شيبة موقوفاً عليه. وذكره البيهقي وأحمد وأبو يعلى والبزار مرفوعاً، وابن
حبان وصححه، من حديث أم سلمة.
(4/2609)
ابن سويد أنه سأل النبي صلّى الله عليه
وسلم عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء؟ فقال:
«إنه ليس بدواء، ولكنه داء» (1).
لكن قال الحنفية (2): يجوز التداوي بالمحرم إن علم يقيناً أن فيه شفاء، ولا
يقوم غيره مقامه، أما بالظن فلا يجوز. وقول الطبيب لا يحصل به اليقين.
ولايرخص التداوي بلحم الخنزير، وإن تعين.
وقيد الشافعية (3) حرمة التداوي بالخمر إذا كانت صرفاً، غير ممزوجة بشيء
آخر تستهلك فيه. أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه، فيجوز
التداوي به عند فقد ما يقوم به، مما يحصل به التداوي من الطاهرات، كالتداوي
بنجس كلحم حية وبول. وكذا يجوز التداوي بما ذكر لتعجيل شفاء بشرط إخبار
طبيب مسلم عدل بذلك، أو معرفته للتداوي به. وبشرط أن يكون القدر المستعمل
قليلاً لايسكر.
قال العز بن عبد السلام (4): جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهراً يقوم
مقامها؛ لأن مصلحة العافية والسلامة أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة، ولا
يجوز التداوي بالخمر على الأصح إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها، ولم يجد
دواء غيرها.
وأبان ابن العربي والقرطبي المالكيان (5) أنه يجوز الانتفاع بالخمر
للضرورة،
_________
(1) رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والترمذي وصححه هو وابن
عبد البر. وروي أيضاً: «لا تداووا بحرام» من حديث أبو داود والطبراني
ورجاله ثقات عن أبي الدرداء بلفظ: «إن الله خلق الداء والدواء فتداووا ولا
تتداووا بحرام» (مجمع الزوائد: 86/ 5).
(2) الهدية العلائية للعلامة الشيخ علاء الدين عابدين: ص 251.
(3) مغني المحتاج: 188/ 4.
(4) قواعد الأحكام: 81/ 1.
(5) أحكام القرآن لابن العربي: 56/ 1 ومابعدها، تفسير القرطبي: 231/ 2.
(4/2610)
لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد}
[البقرة:173/ 2] فرفعت الضرورة التحريم، وخصصت الضرورة الحرام؛ لأن إهمال
تعاطي الدواء قد يسبب الوفاة.
شرب الخمر حالة العطش:
أجاز جمهور الفقهاء (1) شرب الخمر عند ضرورة العطش أو الغصص أو الإكراه قدر
ما تندفع به الضرورة؛ لأن الحفاظ على الحياة يقتضي إباحة كل ما يطفئ الظمأ.
وقيد الحنابلة (2) شرب الخمر لضرورة العطش بما إذا كانت ممزوجة بما يروي من
العطش، فتباح حينئذ فقط. فإن شربها صرفاً أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي من
العطش، لم يبح له ذلك، وعليه عقوبة الحد المقررة.
خامساً ـ كيفية ترتيب الأفضلية بين مطعومات الضرورة: إذا وجد المضطر ميتة
وطعاماً لغيره وصيداً لمحرم أو مأكولاً غير مذبوح، فهل يقدم الميتة أو
غيرها؟ للفقهاء رأيان:
1 - قال الجمهور (الحنفية، والشافعية في المعتمد عندهم، والحنابلة) (3):
إنه يأكل الميتة؛ لأن أكل الميتة ثبت بالنص، وطعام الغير أو إباحة الصيد
ثبت بالاجتهاد، والأخذ بالمنصوص عليه أولى، ولأن الميتة لا تبعة فيها لأحد
من الناس
_________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 147/ 1، بداية المجتهد: 462/ 1، الإفصاح
لابن هبيرة: ص 374، تفسير القرطبي: 228/ 2.
(2) المغني: 308/ 8، 605.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم: 124/ 1، أحكام القرآن للجصاص: 148/ 1،
مغني المحتاج: 309/ 4، المهذب: 250/ 1، المغني: 600/ 8، كشاف القناع: 194/
6 ومابعدها.
(4/2611)
في الدنيا ولا في الآخرة، فكان أكلها أخف
من أكل طعام الغير، إذ حقوق الناس مبنية على التشديد، وحق الله تعالى أوسع.
ولو حصل ضرر بأكل الميتة يرجى الشفاء منه بالمداواة. ويجب عند الحنابلة
تقديم السؤال على آكل الميتة.
وإن وجد المحرم صيداً حياً وميتة، أكل الميتة؛ لأن ذبح الصيد جناية لا تجوز
له حال الإحرام. فإن لم يجد المضطر ميتة، ذبح الصيد وأكله.
وإن لم يجد المضطر شيئاً يأكله، لم يبح له عند الحنابلة (1) أكل بعض
أعضائه؛ لأن أكله من نفسه ربما قتله، فيكون قاتلاً لنفسه، ولا يتيقن حصول
البقاء بأكل جزء من جسده.
وقال النووي في المنهاج (2): الأصح جواز قطع بعضه، لا كله، لأنه إتلاف بعضه
لاستبقاء كله. وشرط الجواز أمران: أحدهما ـ فقد الميتة ونحوها. والثاني ـ
أن يكون الخوف في قطعه أقل من الخوف في ترك الأكل. فإن كان مثله أو أكثر،
حرم جزماً. كما يحرم جزماً على شخص قطع بعض نفسه لغيره من المضطرين؛ لأن
قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستبقاء الكل. ويحرم على مضطر أيضاً أن يقطع
لنفسه قطعة من حيوان معصوم.
2 - وقال المالكية (3): تقدم الميتة وجوباً على أكل لحم الخنزير، لأنه حرام
لذاته، وحرمة الميتة عارضة، كما تقدم الميتة للمضطر المحرم على الصيد الحي
الذي صاده المحرم أو أعان عليه، ما لم تكن الميتة متغيرة يخاف على نفسه من
أكلها، وإلا قدم الصيد المذكور. فإن كان المضطر حلالاً قدم صيد المحرم على
الميتة.
_________
(1) المغني: 601/ 8.
(2) مغني المحتاج: 310/ 4.
(3) الشرح الكبير: 116/ 2، القوانين الفقهية: ص 173، تفسير القرطبي: 229/
2.
(4/2612)
ويقدم طعام الغير ندباً، لا وجوباً على أكل
الميتة، إن لم يخف الأذى من قطع عضو، أو ضرب ونحوه؛ لأن الطعام طاهر، ولأن
الغالب أن الإنسان يبذل طعامه للمضطر ولا يتلكأ في ذلك. وهذا المذهب هو
المعقول، بل إني أرى وجوب تقديم طعام الغير على أكل الميتة، دفعاً للضرر.
قال ابن كثير (1): إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا ضرر فيه ولا
أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة، بل يأكل طعام الغير بغير خلاف (2).
سادساً ـ مقدار الجائز تناوله للضرورة: هل يقتصر المضطر من تناول الحرام
كالميتة على مقدار دفع الضرر، أو يباح له الشبع؟ رأيان للفقهاء:
1 - قال الجمهور (الحنفية، والأظهر عند الشافعية، وأصح الروايتين عند
الحنابلة، وبعض المالكية كابن الماجشون وابن حبيب) (3): يأكل المضطر
للغذاء، ويشرب للعطش، ولو من حرام أو ميتة ومال غيره، مقدار ما يدفع الهلاك
عن نفسه أو يؤمن معه الموت: وهو مقدار ما يتمكن به من الصلاة قائماً، ومن
الصوم، وهو لقيمات معدودة، ويمتد ذلك من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده.
لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولاعاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/ 2] (4)
ولأن (ما جاز للضرورة يتقدر بقدرها) ويكون المضطر بعد سد الرمق غير مضطر،
فلم
_________
(1) تفسير ابن كثير: 205/ 1.
(2) كذا قال، وقد عرفنا أن هناك خلافاً في المسألة.
(3) رد المحتار: 238/ 5، المهذب: 250/ 1، كشاف القناع: 194/ 6، المغني:
595/ 8، 597، مغني المحتاج: 307/ 4.
(4) أي غير متجاوز حد الضرورة، ولا باغ في الأكل بما يزيد عن حاجته.
(4/2613)
يحل له الأكل، فيصير بعد سد رمقه كما كان
قبل أن يضطر، وحينئذ لم يبيح له الأكل، فكذا بعد زوال حالة الضرورة.
2 - وقال المالكية على المعتمد (1): يجوز للمضطر التناول من الحرام حتى
يشبع، وله التزود (ادخار الزاد) من الميتة ونحوها، إذا خشي الضرورة في
سفره، فإذا استغنى عنها طرحها، لأنه لا ضرر في استصحابها، ولا في إعدادها
لدفع ضرورته وقضاء حاجته، ولكن لا يأكل منها إلا عند ضرورته.
ودليلهم أن الضرورة ترفع التحريم، فتعود الميتة جميعها ونحوها مباحة لظاهر
قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} [البقرة:173/ 2]. ومقدار الضرورة
إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده، ولأن كل طعام يباح، جاز أن يأكل
منه الإنسان قدر سد الرمق، جاز له أن يشبع منه كالطعام الحلال.
هذا إذا كانت المخمصة نادرة في وقت ما، فإن كانت المجاعة عامة مستمرة، فلا
خلاف بين العلماء في جواز الشبع من الميتة ونحوها من سائر المحظورات.
ويتفق الشافعية، والحنابلة في أصح الروايتين (2) مع المالكية في جواز
التزود من المحرَّمات، ولو رجا الوصول إلى الحلال. ويبدأ وجوباً بلقمة حلال
ظفر بها، فلا يجوز له أن يأكل من الحرام حتى يأكلها لتتحقق الضرورة.
وصرح الشافعية: لو عمَّ الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً،
جاز استعمال ما يحتاج إليه، ولا يقتصر على الضرورة، بل على الحاجة. وعلل
العز بن عبد السلام (3) جواز تناول الحرام حينئذ، دون أن يقتصر على
الضرورات بقوله: لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة.
_________
(1) بداية المجتهد: 462/ 1، أحكام القرآن لابن العربي: 55/ 1، الشرح
الكبير: 116/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 173، تفسير القرطبي: 226/ 2
ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 307/ 4، المغني: 597/ 8، كشاف القناع: 194/ 6.
(3) قواعد الأحكام: 160/ 2.
(4/2614)
سابعاً ـ حكم أخذ طعام قهراً للضرورة: لا
خلاف بين الفقهاء (1) في أنه يجب على مالك الطعام أو المال، إذا لم يكن
مضطراً إليه في الحال، أن يبذله إلى المحتاج إليه بقيمته، ليدفع عنه أذى
الجوع أو العطش أو الحر أو البرد أو الضرر الذي قد يلحق به. فإن امتنع أو
طلب أكثر من ثمن المثل، فيجوز قتاله ولو كان مسلماً؛ لأخذه جبراً عنه؛ لأن
المسلمين متكافلون متعاونون على السراء والضراء، قال تعالى: {وتعاونوا على
البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/ 5]، ولأن
امتناع مالك المال أو الطعام من بذله للمضطر إليه إعانة على قتله، وقد ورد:
«من أعان على قتل امرئ مسلم، ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوباً بين
عينيه: آيس من رحمة الله» (2). وقد ذم الله على منع ذلك مطلقاً بقوله
تعالى: {ويمنعون الماعون} [الماعون:7/ 107].
ولا يجوز للمضطر في هذه الحالة أن يأكل الميتة، لأنه غير مضطر، والتزامه
بدفع قيمة الطعام أمر مقرر شرعاً؛ لأن الإباحة للاضطرار لا تنافي الضمان
(3). وتنص القاعدة: (الاضطرار لا يبطل حق الغير).
وأما في حال المجاعة العامة فلا يلزم المرء ببذل الطعام للمضطرين؛ لأن
الضرر لا يزال بالضرر (4).
_________
(1) رد المحتار: 238/ 5، الموافقات: 352/ 2، الشرح الكبير: 116/ 2
ومابعدها، مغني المحتاج: 205/ 1، المهذب: 250/ 1، كشاف القناع: 195/ 6،
غاية المنتهى: 316/ 1، المغني: 602/ 8، الطرق الحكمية: ص 26، ط السنة
المحمدية، الحسبة لابن تيمية: ص40، القواعد لابن رجب: ص227.
(2) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، وهو حديث ضعيف.
(3) شرح المجلة للأتاسي: ص 76 ومابعدها، للمحاسني: ص 60 ومابعدها، الفروق:
195/ 1 ومابعدها، 9/ 4، حاشية الجمل على المنهج، القواعد لابن رجب: ص 36،
286، القواعد والفوائد لابن اللحام الحنبلي: ص 43.
(4) كشاف القناع: 198/ 6.
(4/2615)
ثامناً ـ حالات خاصة للضرورة أو الحاجة:
هناك حالات خاصة بالمار ببستان الغير والأكل من الزرع أو الفاكهة، والمار
بماشية الغير، هل يجوز التناول منه أو لا؟
1ً
ـ الأكل من ثمار البساتين: من مر في
طريقه ببستان فيه أشجار مثمرة، فله أن يأكل من فاكهته الرطبة ولو كان هناك
حائط عند الضرورة بشرط الضمان أي دفع القيمة.
فإن لم يكن هناك ضرورة للأكل، فلا يجوز للمار عند جمهور الفقهاء (1) أن
يأخذ منه شيئاً بغير إذن صاحبه، كما لا يجوز له أن يحمل معه شيئاً؛ لقوله
صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» (2) وقوله عليه
السلام: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا» (3)
وهذا الرأي أنزه وأورع وأحوط ديناً.
وقال الحنابلة (4): يجوز في حال الجوع والحاجة لمن مر بثمرة أن يأكل منها،
ولا يحمل. قال أحمد: إذا لم يكن للبستان حائط، يأكل الإنسان منها إذا كان
جائعاً، وإذا لم يكن جائعاً، فلا يأكل. وقد فعله غير واحد من أصحاب النبي
صلّى الله عليه وسلم فإذا كان عليه حائط لم يأكل، لأنه قد صار شبه الحريم،
ولقول ابن عباس: «إن
_________
(1) رد المحتار: 238/ 5، المهذب: 251/ 2، الميزان للشعراني: 59/ 2.
(2) رواه الحاكم وابن حبان في صحيحهما عن أبي حميد الساعدي بلفظ: «لا يحل
لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيبة نفسه منه».
(3) رواه البخاري ومسلم. وروى مسلم عن أبي هريرة: «كل المسلم على المسلم
حرام: دمه وماله وعرضه».
(4) المغني: 597/ 8.
(4/2616)
كان عليها حائط فهو حريم، فلا تأكل، وإن لم
يكن عليها حائط، فلا بأس»، ولأن إحراز الثمار بالحائط يدل على شح صاحبه به،
وعدم المسامحة فيه.
والدليل على جواز الأكل للحاجة في حال عدم وجود حائط للبستان قوله صلّى
الله عليه وسلم: «ما أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خُبْنة (1)، فلا شيء
عليه، ومن أخرج منه شيئاً، فعليه غرامة مثليه، والعقوبة» (2) وقوله أيضاً:
«إذا أتيت على حائط ـ أي بستان ـ فناد صاحب البستان ثلاثاً، فإن أجابك،
وإلا فكل، من غير أن تفسد» (3). وروي عن أبي زينب التميمي، قال: «سافرت مع
أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بردة، فكانوا يمرون بالثمار، فيأكلون
في أفواههم» وهو قول عمر وابن عباس وأبي بردة، قال عمر: «يأكل ولا يتخذ
خبنة» (4).
وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد أنه أجاز الأكل من ثمار البساتين غير
المحوطة مطلقاً، سواء أكان المار جائعاً، أم لا. جاء في متن الإقناع وكشاف
القناع (5): من مر بثمر على شجر بستان، أو مر بثمر ساقط تحت الشجر، لا حائط
عليه، ولا ناظر (حافظ) ولو كان المار به غير مسافر ولا مضطر، فله أن يأكل
منه مجاناً، ولو لغير حاجة إلى أكله، وكذا لو أكله من غصونه من غير رميه
بشيء ولا ضربه، ولا صعود شجرة، لحديث الخدري السابق: «إذا أتيت حائط بستان
.. ». والحقيقة أن هذا كان سائداً بحسب العرف القائم بين الناس، فإنهم
كانوا
_________
(1) الخبنة: ما تحمله في حضنك.
(2) رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب،
لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم.
(3) رواه أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، ورجاله ثقات. وروى سعيد عن
الحسن عن سمرة مثله.
(4) المغني: 598/ 8.
(5) كشاف القناع: 198/ 6 ومابعدها.
(4/2617)
يتسامحون عادة في الأكل للمار، وفي تناول
الثمار الساقطة بلا إذن صاحبها، إلا إذا كان قائماً بالتقاطها، أو نهى
الناس عن التناول منها (1).
2ً
ـ الأكل من الزرع: روي عن أحمد روايتان
فيمن مر بزرع الغير، فأراد الأكل منه (2)، أي للحاجة:
إحداهما ـ قال: لا يأكل، إنما رخص في الثمار ليس في الزرع، وقال: ما سمعنا
في الزرع أن يمس منه. والفرق بين الثمر والزرع: أن الثمار خلقها الله تعالى
للأكل رطبة، والنفوس تتوق إليها، أما الزرع فهو بخلاف ذلك.
والثانية ـ قال: يأكل من الفريك؛ لأن العادة جارية بأكله رطباً، فأشبه
الثمر.
قال ابن قدامة: والأولى في الثمار وغيرها ألا يأكل منها إلا بإذن صاحبها
لما فيه من الخلاف والأخبار الدالة على التحريم.
3ً
ـ حلب ماشية الغير: عن أحمد أيضاً
روايتان في حلب لبن الماشية (3):
إحداهما ـ يجوز ـ أي للمحتاج ـ أن يحلب ويشرب من ماشية الغير، ولكن لا يحمل
معه شيئاً، لحديث سمرة: «إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها،
فليستأذنه، فإن أذن، فليحلب وليشرب، وإن لم يكن فيها، فليصوت
_________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 81.
(2) المغني: 599/ 8.
(3) المغني: 599/ 8.
(4/2618)
ثلاثاً، فإن أجابه أحد، فليستأذنه، وإن لم
يجبه
أحد، فليحلب وليشرب، ولايحمل» (1).
والثانية ـ لا يجوز له أن يحلب ولا يشرب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا
يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، فتكسر خزانته،
فَيُنْتَقَل ُطعامه، فإنما تَخْزُن ُلهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن
أحد ماشية أحد إلا بإذنه»، وفي لفظ: «فإن ما في ضروع مواشيهم، مثل ما في
مشاربهم» (2).
المطلب الرابع ـ إجابة الولائم، وموائد المنكر،
وآداب الطعام:
أولاً ـ إجابة الولائم وموائد المنكر: إجابة الوليمة مشروعة، لقوله صلّى
الله عليه وسلم: «شر الطعام: طعام الوليمة، يُمنعها من يأتيها، ويدعى إليها
من يأباها، ومن لا يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله» (3) ولا خلاف في أن
وليمة العرس سنة مشروعة لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف
حين تزوج: «أولم ولو بشاة» (4). والمنصوص لدى أصحاب الشافعي أنها واجبة،
لهذا الحديث. ومنهم من قال: هي مستحبة، لأنه طعام لحادث سرور، فلم تجب
كسائر الولائم. وهذا قول أكثر العلماء (5).
_________
(1) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة، ورواه الباقون إلا الترمذي موقوفاً عن أبي
هريرة بلفظ: «شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء،
ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» (نصب الراية: 221/ 4).
(4) رواه مالك وأحمد وأصحاب الكتب الستة عن أنس بن مالك.
(5) المغني: 2/ 7.
(4/2619)
وإجابة الدعوة سنة عند الحنفية (1)، وتجب
الإجابة إذا لم يكن فيها منكر أو لهو عند الشافعية والحنابلة (2).
وتجب الإجابة لوليمة النكاح عند المالكية وفاقاً للشافعية والحنابلة (3)،
وتستحب إجابة ما يفعله الرجل بخواص إخوانه تودداً. وتجوز إجابته كدعوة
العقيقة، وتكره إجابته: وهو ما يفعل للفخر والمباهاة. وتحرم إجابته: وهو ما
يفعله الرجل لمن تحرم عليه هديته كالغريم (الدائن)، وأحد الخصمين للقاضي.
وهذا تفصيل حسن لدى المالكية.
والمستحب لمن فرغ من الطعام أن يدعو لصاحب الطعام، لما روى ابن ماجه عن عبد
الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: «أفطر رسول الله صلّى الله عليه وسلم
عند سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: أفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم
الملائكة، وأكل طعامكم الأبرار».
مانع المنكر من إجابة الدعوة:
إن علم المدعو بوجود منكر كلعب وغناء وملاهٍ ونصب تماثيل وصور مجسمة على
الحيطان أو الأستار أو الوسائد، قبل حضوره، فلا يحضر، لقوله صلّى الله عليه
وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخمر والخنزير والخزَّ والمعازف»
(4). وفي لفظ:
_________
(1) تكملة الفتح: 87/ 8، تبيين الحقائق: 13/ 6.
(2) المهذب: 64/ 2، المغني: 2/ 7، مغني المحتاج: 245/ 3.
(3) القوانين الفقهية: ص 194، المهذب: 64/ 2 - 65، غاية المنتهى: 77/ 3،
الشرح الصغير: 500/ 3 ومابعدها.
(4) أخرجه البخاري وأبو داود عن عبد الرحمن بن غُنْم (نيل الأوطار: 92/ 2)
والخز: هو المخلوط من صوف وحرير.
(4/2620)
«ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير
اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات (1)، يخسف الله بهم الأرض،
ويجعل منهم القردة والخنازير» (2).
وإن حضر المدعو، ففوجئ بالمنكر: فإن كان على المائدة كالخمر، فلا يقعد،
لقوله تعالى: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [الأنعام:68/ 6].
وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر: «نهى رسول الله صلّى الله
عليه وسلم عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن يأكل الرجل وهو منبطح
على بطنه».
وإن كان في المنزل، لا على المائدة الجالس عليها:
فإن قدر على المنع، منعهم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً
فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
الإيمان» (3). وإن لم يقدر على المنع: فإن كان قدوة، خرج ولم يقعد؛ لأن في
ذلك شين الدين، وفتح باب المعصية على المسلمين.
وإن لم يكن قدوة، صبر، وقعد، وأكل، ولا يخرج؛ لأن إجابة الدعوة سنة (4).
_________
(1) اختلف في الغناء المجرد عن الآلات أو المعازف، فقال بعضهم: إنه حرام
مطلقاً، والاستماع إليه معصية، لإطلاق هذين الحديثين، ولو سمع بغتة فلا إثم
عليه. ومنهم من قال: لا بأس بالتغني ليستفيد فهم القوافي والفصاحة. ومنهم
من قال: يجوز التغني لدفع الوحشة إذا كان وحده، ولا يكون على سبيل اللهو،
وهو رأي السرخسي. ولو كان في الشعر حكم أو عبر أو فقه أو ذكر امرأة غير
معينة، لا يكره (تبيين الحقائق: 14/ 6) وقال الشافعية: يكره الغناء من غير
آلة مطربة، ويحرم استعمال الالآت المطربة من غير غناء (المهذب: 326/
2ومابعدها).
(2) رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي مالك الأشعري.
(3) رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري.
(4) تكملة الفتح، تبيين الحقائق، المكان السابق، المهذب: 64/ 2، مغني
المحتاج: 3/ 247.
(4/2621)
ثانياً ـ آداب الطعام والشراب: ورد في
السنة آداب كثيرة للطعام والشراب منها ما يأتي (1):
يسن للأكل أو الشرب البسملة عند أول الطعام، والحمدلة آخره، وللأكل غسل
اليدين قبله وبعده بأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن نسي البسملة
فليقل: بسم الله على أوله، وعلى آخره. ويرفع الصوت بها لتلقين من معه، ولا
يرفع بالحمد إلا إذا فرغ الحضور من الأكل، فيقول: «الحمد لله حمداً كثيراً
طيباً مباركاً فيه» (2) أو: «الحمد لله الذي أطعمني وسقاني من غير حول مني
ولا قوة».
ويستحب الأكل والشرب باليمين، ودليل ما سبق قول النبي صلّى الله عليه وسلم
لعمر بن أبي مسلمة: «بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» (3) وقوله عليه
السلام: «إذا أكل أحدكم، فليأكل بيمينه، وإذا شرب، فليشرب بيمينه، فإن
الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله» (4). والأكل مما يليه من موضع واحد،
إلا أن يكون طبقاً فيه ألوان الثمار، فيأكل من حيث شاء، لأنه ألوان، كما
ورد في الأثر.
ويستحب الأكل بثلاث أصابع لما ثبت عن النبي (5).والتقليل من الأكل فيجعل
ثلثاً للطعام، وثلثاً للشراب، وثلثاً للنَّفَس. وترك التبسط في الطعام، كما
هو خلُق السلف. وألا يأكل متكئاً (6)، وقال الحنفية: لا بأس به. وألا ينفخ
في
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 239/ 5، القوانين الفقهية: ص 436 ومابعدها،
مغني المحتاج: 205/ 3، 310/ 4، المغني: 614/ 8 - 616.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه أحمد والشيخان وابن ماجه وأبو داود عن عمر بن أبي سَلَمة (نيل
الأوطار: 161/ 8).
(4) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه عن ابن عمر (نيل
الأوطار: 160/ 8).
(5) رواه أحمد عن كعب بن مالك.
(6) روى الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلم: «أما أنا فلا آكل متكئاً» (نيل الأوطار: 161/ 8).
(4/2622)
الطعام ولا في الشراب، ولا يتنفس في
الإناء. وأن يوافق من يأكل معه في تصغير اللقم، وإطالة المضغ، والتمهل في
الأكل، وألا يشرب من فم الإناء. ويجوز الشرب قائماً، والأفضل القعود. وإذا
كان جماعة يدار عليهم ماء الشرب، يأخذ بعد الأول: الأيمن فالأيمن.
ويسن تناول الحلو من الأطعمة، وكثرة الأيدي على الطعام، وإكرام الضيف،
والحديث الحسن القليل على الأكل، ويكره السكوت، لأنه تشبه بالمجوس.
ويكره ذم الطعام إذا كان الطعام لغيره، لما فيه من الإيذاء، فإن كان له
فلا.
ويسن أن يأكل من أسفل الصحفة، ويكره من أعلاها، أو وسطها، فإن البركة تنزل
في وسطها (1).
ومن السنةالبداءة بالملح والختم به؛ لأن فيه شفاء من سبعين داء. ويبسط رجله
اليسرى، وينصب اليمنى، ولا يأكل الطعام حاراً، ولا يشمه.
المبحث الثاني ـ الأشربة:
البحث هنا في الأشربة يتناول حكم الحرام والحلال منها، والانتباذ في الظروف
والأواني، وتخليل الخمر.
أولاً ـ حكم الأشربة: اتفق العلماء على أن الأصل في الأشربة والأطعمة
الإباحة، لقوله تعالى:
_________
(1) روى أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله
عليه وسلم قال: «البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا
من وسطه» (نيل الأوطار: 160/ 8).
(4/2623)
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}
[البقرة:29/ 2] فكل ما نزل من السماء أو نبع من الأرض، أو عصر من التمر
والزهر فهو حلال. واتفقت المذاهب (المفتى به ـ وهو رأي محمد ـ عند الحنفية،
وغير الحنفية) (1) على تحريم جميع الأشربة المسكرة، قليلها وكثيرها، نيئها
ومطبوخها، سواء أكانت خمراً (وهي عصير العنب المتخمر) أم غيرها من الأشربة
الأخرى المتخذة من الزبيب أو التمر أو العسل والتين، أو الحبوب كالقمح
والشعير والذرة، ونحوها، ويحد كما سأوضح في بحث الحدود شارب القليل أو
الكثير منها عند غير الحنفية، ولا يحد إلا بالسكر من الأشربة غير الخمر، أو
بشرب القليل أو الكثير من الخمر عند الحنفية، لقوله صلّى الله عليه وسلم:
«كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» (2)، «أنهاكم عن قليل ما أسكر قليله» «ما أسكر
كثيره، فقليله حرام» (3) «إن من العنب خمراً، وإن من العسل خمراً، ومن
الزبيب خمراً، ومن الحنطة خمراً، ومن التمر خمراً، وأنا أنهاكم عن كل مسكر»
(4).
ويحرم جميع ما هو ضار من الأشربة كالسم وغيره، وكل ما هو نجس كالدم المسفوح
والبول، ولبن الحيوان غير المأكول عدا الإنسان، وكل ما هو متنجس كالمائع
الذي وقعت فيه نجاسة لما فيه من الضرر على الإنسان.
خلط الخمر بغيرها: يحرم بالاتفاق شرب
الماء الممزوج بالخمر، لما فيه من
_________
(1) البدائع: 117/ 5، نتائج الأفكار: 160/ 8 ومابعدها، الدر المختار: 323/
5، اللباب: 215/ 3، بداية المجتهد: 457/ 1 ومابعدها، الشرح الكبير
والدسوقي: 352/ 4، القوانين الفقهية: ص 174، مغني المحتاج: 187/ 4، المهذب:
286/ 2، المغني: 304/ 8 ومابعدها، كشاف القناع: 116/ 6 ومابعدها.
(2) رواه مسلم والدارقطني عن ابن عمر (نصب الراية: 295/ 4).
(3) روي عن تسعة من الصحابة (نصب الراية: 301/ 4 ومابعدها).
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشير (التلخيص
الحبير: ص 359).
(4/2624)
ذرات الخمر، ويعزَّر الشارب، ويجب الحد إن
كانت الخمر أكثر من الماء، لبقاء اسم الخمر ومعناها. كما يحرم شرب الخمر
المطبوخة؛ لأن الطبخ لا يحل حراماً، ولو شربها يجب الحد، لبقاء اسم الخمر
ومعناها (1).
ويكره تحريماً عند الحنفية أكل الخبز المعجون بالخمر، لوجود ذرات الخمرفيه،
وفيه التعزير. ويحرم ذلك عند غير الحنفية، ولا حد فيه عند الكل، والخلاف في
التسمية والاصطلاح فقط. فما ثبت بدليل ظني كالقياس وخبر الآحاد يسميه
الحنفية مكروهاً تحريماً يعاقب فاعله، والجمهور يسمونه حراماً.
ويكره تحريماً أيضاً عند الحنفية (2) الاحتقان بالخمر (بأخذها حقنة شرجية)
أو جعلها في سَعُوط (ما يصب في الأنف من دواء ونحوه)؛ لأنه انتفاع
بالمحرَّم النجس، ولكن لا يجب الحد، لأن الحد مرتبط بالشُّرْب.
كذلك لا يحد بالاحتقان والسَّعُوط عند الشافعية والمالكية. ولا يحد
بالاحتقان بالخمر عند الحنابلة، لكن يحد إن استعط به، لأنه أوصله إلى باطنه
من حلقه (3).
ويكره تحريماً عند الحنفية (4) شرب دُرْدِي الخمر (5)، والامتشاط به، ليزيد
بريقَ الشَّعَر؛ لأن فيه ذرات الخمر المتناثرة فيه، وقليله ككثيره،
للأحاديث المتقدمة. ولكن لا يحد شاربه إلا إذا سكر منه، لأنه لا يسمى
خمراً.
_________
(1) المراجع السابقة، مغني المحتاج: 188/ 4، المغني: 306/ 8.
(2) تكملة فتح القدير: 167/ 8.
(3) الشرح الكبير: 352/ 4، مغني المحتاج، المغني: المكان السابق، كشاف
القناع: 118/ 6، ويلاحظ أن المرجع الأخير ذكر فيه: أنه يحد من احتقن
بالمسكر، أو استعط به.
(4) تكملة الفتح: 167/ 8.
(5) دردي الخمر: أي كدره أو عكره، ودردي الشيء: مايبقى أسفله. فالمراد به:
مافي أسفل وعاء الخمر من عكر.
(4/2625)
وقال غير الحنفية (1): يحرم شرب دردي
الخمر، ويحد به، لأنه خمر بلا شك.
الأدوية السامة: قال الحنابلة (2) في
الأصح: ما فيه السموم من الأدوية: إن كان الغالب من شربه واستعماله الهلاك
به أو الجنون، لم يبح شربه. وإن كان الغالب منه السلامة، ويرجى منه
المنفعة، فالأولى إباحة شربه، لدفع ما هو أخطر منه كغيره من الأدوية، ولأن
كثيراً من الأدوية يخاف منه، وقد أبيح لدفع ما هو أضر منه.
المخدرات: تحرم جميع المخدرات وهي كل ما
يضر بالجسم والعقل كالبنج والأفيون والحشيشة ونحوها، لحديث أم سلمة رضي
الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر»
(3) ولما فيها من الإضرار بالعقل والجسم، ولما تؤدي إليه من تعطيل الأعمال
والكسل والاسترخاء والخمول.
ما يستثنى من حكم المسكرات والمخدرات:
يباح تناول شيء من المسكر للضرورة كإزالة اللقمة بالغصة إذا لم يوجد شراب
آخر غير الخمر، ويباح التداوي بالأدوية الممزوجة بالكحول للضرورة أو الحاجة
إذا لم يتوافر دواء آخر سواها. ويحل استعمال المخدر في العمليات الجراحية
وتسكين الآلام الشديدة بحقنة أو شرب أو ابتلاع للضرورة.
غير المسكر: يحل شرب كل الأشربة غير
المسكرة؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة.
_________
(1) مغني المحتاج:188/ 4.
(2) المغني:401/ 1.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود.
(4/2626)
لكن يكره تحريماً من غيرالمسكر (1):
المنصَّف: وهو ما يعمل من تمر ورطب، والخليطان: وهو ما يعمل من بُسْر ورطب،
أو تمر وزبيب، ما لم يغل، أو لم تأتِ عليه ثلاثة أيام، فإن قصرت المدة، فلا
كراهة. فيباح الانتباذ (طرح التمر أو الزبيب أو الحبوب في الماء) إذا بقي
مدة يسيرة كيوم أو ليلة ونحوها بحيث لا يحتمل توقع الإسكار فيها، بدليل ما
روى أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن عباس: أنه كان ينقع الزبيب للنبي، فيشربه
اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الليلة الثالثة، ثم يأمر به فيهراق.
ودليل الكراهة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين، فقال: «لا
تَنْبُذوا الزَّهْو (2) والرطب جميعاً، ولا تنبذوا الزبيب والرطب جميعاً،
ولكن انبذوا كل واحد منهما على حدته» (3). وعن أبي سعيد «أن النبي صلّى
الله عليه وسلم نهى عن التمر والزبيب أن يخلط بينهما، وعن التمر والبسر أن
يخلط بينهما يعني في الانتباذ (4)».
ولأن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط، قبل أن يتغير، فيظن الشارب أنه ليس
بمسكر، ويكون مسكراً.
وصرح المالكية والحنابلة (5) بأنه لابأس بالفُقَّاع (وهو شراب يتخذ من قمح
وتمر، وقيل: ماجعل فيه زبيب ونحوه حتى انحل فيه) لأنه غير مسكر، وإنما يتخذ
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 117/ 2، بداية المجتهد: 460/ 1 ومابعدها،
القوانين الفقهية: ص 174، مغني المحتاج: 187/ 4، كشاف القناع: 120/ 6،
المغني: 318/ 8.
(2) الزهو: هو البسر الملون الذي بدأ فيه حمرة أو صفرة وطاب. والبسر: نوع
من تمر النخل معروف.
(3) متفق عليه عن أبي قتادة (نيل الأوطار: 185/ 8).
(4) رواه أحمد ومسلم (نيل الأوطار:185/ 8).
(5) كشاف القناع: 120/ 6، المغني: 318/ 8، بداية المجتهد: 459/ 1، المنتقى
على الموطأ: 153/ 3.
(4/2627)
لهضم الطعام. ويحل عندهم شراب السوبيا: وهو
مايتخذ من الأرز بطبخه طبخاً شديداً حتى يذوب في الماء، ويصفى ويوضع فيه
السُّكَّر ليحلو به.
ويحل عقيد العنب: وهو ماء العنب المغلي حتى يعقد ويذهب إسكاره الذي حصل في
ابتداء غليانه، ويسمى الرُّب الصامت. ولاتحل هذه الأشربة إلا إذا أمن السكر
منها. وبه يظهر أن الدبس ونحوه من المربَّيات مباح لعدم الإسكار.
ثانياً ـ الانتباذ في الظروف والأواني: اتفق العلماء على أنه يجوز الانتباذ
(اتخاذ النبيذ المباح) في الأوعية المصنوعة من جلد، وهي الأسقية، واختلفوا
فيما عداها:
فقال الحنفية (1): لابأس بالانتباذ في جميع الظروف والأواني، سواء
الدُّبَّاء والحَنْتم والمُزفَّت والنَّقير (2)؛ لأن الشراب الحاصل ليست
فيه شدة مطربة. والنهي عن الانتباذ في هذه الأوعية منسوخ بقوله صلّى الله
عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأَدَم ـ الجلود المدبوغة
ـ فاشربوا في كل وعاء، غير ألا تشربوا مسكراً» (3). وفي رواية: «نهيتكم عن
الظروف، وإن ظرفاً لايحل شيئاً، ولايُحرِّمه، وكل مسكر حرام» (4).
_________
(1) تكملة الفتح: 166/ 8، اللباب شرح الكتاب: 216/ 3.
(2) الدباء: القرعة اليابسة المجعولة وعاء. والحنتم: الجرار الخضراء
المدهونة. والمزفت: الوعاء المطلي بالزفت وهو القار، وهذا مما يحدث التغير
في الشراب سريعاً. والنقير: خشبة تنقر أو تحفر كقصعة وقدح، وينبذ فيها.
(3) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي عن بريدة (نصب الراية: 308/ 4
ومابعدها، نيل الأوطار: 183/ 8).
(4) رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود عن بريدة.
(4/2628)
وقال المالكية (1): يكره الانتباذ في
الدباء والمزفت فقط، ولايكره في غير ذلك من الفخار وغيره من الظروف وإن
طالت المدة مالم يظن به الإسكار. وعلة الكراهة خوف تعجيل الإسكار، لما ينبذ
فيها، إذ شأنها ذلك بخلاف غيرها.
وقال الشافعية والحنابلة (2) كالحنفية: يجوز الانتباذ في الأوعية كلها.
ثالثاً ـ تخلل الخمر وتخليلها: اتفق الفقهاء على أن الخمر إذا تخللت
بنفسها، جاز أكلها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «نعم الأُدْم الخل» (3).
وإذا نقلت الخمر من الظل إلى الشمس أو بالعكس، ولو بقصد التخليل، حل الخل
عند الحنفية والشافعية والظاهرية، وفي احتمال عند الحنابلة؛ لأن الشدة
المطربة (أي الإسكار) التي هي علة النجاسة والتحريم، قد زالت من غير أن
تعقب نجاسة في الوعاء، فتطهر.
ويحتمل في وجه آخر عند الحنابلة ألا تطهر، لأنها خللت بفعل، كما لو ألقي
فيها شيء (4).
ويعرف التخلل عند أبي حنيفة بالتغير من المرارة إلى الحموضة، بحيث لا
_________
(1) الشرح الكبير: 117/ 2، بداية المجتهد: 460/ 1، القوانين الفقهية: ص
174.
(2) شرح مسلم للنووي: 158/ 13، كشاف القناع: 120/ 6، المغني 318/ 8.
(3) رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن جابر بن عبد الله (نصب
الراية: 310/ 4).
(4) انظر المبسوط:7/ 24، البدائع: 113/ 5 ومابعدها، تكملة الفتح: 166/ 8،
تبيين الحقائق: 48/ 6، الدر المختار: 320/ 5، مغني المحتاج: 81/ 1، شرح
المحلي على المنهاج: 72/ 1، بداية المجتهد: 461/ 1، القوانين الفقهية: ص
175، منتقى الموطأ: 153/ 3، المغني: 319/ 8، المحلى: 117/ 1.
(4/2629)
يبقى فيها مرارة أصلاً، فلو بقي فيها بعض
المرارة، لا يحل شربها؛ لأن الخمر عنده لا تصير خلاً إلا بعد تكامل معنى
الخلية فيه، كما لا يصير العصير عنده خمراً إلا بعد تكامل معنى الخمرية،
كما سأذكر في حد الشرب.
وقال الصاحبان: تصير الخمر خلاً بظهور قليل من الحموضة فيها، اكتفاء بظهور
الخَلِّية فيها، كما أن العصير يصير خمراً بظهور دليل الخمرية عندهما.
ويظهر أن هذا هو رأي بقية الفقهاء.
وأما تخليل الخمر بعلاج بإلقاء جسم غريب
عنها كالملح أو الخل أو السمك أوالخبز الحار، أو البصل، أو بإيقاد النار
قربها، حتى صارت حامضاً، فيجوز، ويحل شربها عند الحنفية، لأنه إصلاح،
والإصلاح مباح، قياساً على دبغ الجلد، فإن الدباغ يطهره، كما ثبت في السنة
النبوية: «أيما إهاب دبغ، فقد طهر» (1). وقال صلّى الله عليه وسلم عن جلد
الشاة الميتة: «إن دباغها يُحلِّه، كما يُحِلُّ خَلَّ الخمر» (2) فأجاز
النبي التخليل، كما ثبت حل الخل شرعاً، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم:
«خير خلكم خل خمركم» (3). والحديث السابق: «نعم الأدمْ الخل» لم يفرق بين
التخلل بنفسه، والتخليل، فالنص مطلق.
ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح
مباح، كما تقدم، لأنه يشبه إراقة الخمر.
_________
(1) أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عباس. وأخرجه
الدارقطني بإسناد حسن عن ابن عمر.
(2) أخرجه الدارقطني عن أم سلمة، وفي سنده ضعف (نصب الراية: 119/ 1، 113/
4).
(3) رواه البيهقي في المعرفة عن جابر، وقال: تفرد به المغيرة بن زياد، وليس
بالقوي. ويلاحظ أن أهل الحجاز يسمون خل العنب خل الخمر (نصب الراية: 311/
4).
(4/2630)
وإذا صارت الخمر خلاً، يطهر ما يجاورها من
الإناء، كما يطهر أعلى الإناء (وهو الذي نقص منه الخمر) تبعاً.
وللمالكية في تخليل الخمر بمعالجة أقوال
ثلاثة: قول بالمنع أو التحريم؛ لأن النبي صلّى الله عليه
وسلم أمر بإراقة راوية خمر، أهداها له رجل (1)، ولو جاز تخليلها، لما أباح
له إراقتها، ولنبهه على تخليلها.
وقول بالجواز مع الكراهة؛ لأن علة تحريم الخمر الشدة المطربة، فإذا زالت
زال التحريم، كما لو تخللت بنفسها.
وقول بالتفصيل: يجوز تخليل الخمر الذي تخمر عند صاحبه، بدون قصد الخمرية،
ولا يجوز تخليل الخمر المتخذة خمراً.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يحل تخليل
الخمر بالعلاج، ولا تطهر حينئذ؛ لأننا مأمورون باجتنابها، فيكون التخليل
اقتراباً من الخمر على وجه التموُّل، وهو مخالف للأمر بالاجتناب، ولأن
الشيء المطروح في الخمر يتنجس بملاقاتها، فينجسها بعد انقلابها خلاً، ولأن
الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول آية المائدة
بتحريمها. وعن أبي طلحة: أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا
خمراً، فقال: «أهرقها» قال: «أفلا أخللها؟ قال: لا» (2) وهذا نهي يقتضي
التحريم. ولو كان إلى استصلاحها سبيل مشروع لم تجز إراقتها، بل أرشدهم
إليه، لاسيما وهي لأيتام، يحرم التفريط في أموالهم (3).
_________
(1) رواه مالك في الموطأ وأحمد ومسلم والنسائي (نيل الأوطار: 169/ 8)
والراوية: المزادة من ثلاثة جلود يوضع فيها الماء.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود (نصب الراية: 311/ 4).
(3) راجع بحثي عن (الأشربة) للموسوعة الفقهية بالكويت، أول بحث نشر من بين
البحوث.
(4/2631)
المبحث الثالث ـ
اللبس والاستعمال والحلي:
الأصل في اللباس والزينة الحل والإباحة، سواء في الثوب والبدن والمكان،
لقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] وقوله
سبحانه: {قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق .. }
[الأعراف:32/ 7] وقوله عز وجل: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري
سوآتكم وريشاً .. } [الأعراف:26/ 7]. والريش كما قال ابن عباس: كل ما ظهر
من الثياب والمتاع مما يلبس ويفرش.
ويحرم استعمال الذهب والفضة للرجال والنساء في الآنية ووسائل الكتابة
والزينة وغيرها في غير البيع والشراء باتفاق أئمة المذاهب (1)، فلا يجوز
الأكل والشرب والادهان والاكتحال والتطيبُ والتوضؤ في آنية الذهب والفضة،
كما لا يجوز استعمال الساعات والأقلام وأدوات المكتب والمرايا وأدوات
الزينة الذهبية أو الفضية، ولا يجوز تزيين البيوت والمجالس بالذهب وبالفضة؛
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا
في صحافهما (2)، فإنها لهم ـ أي للمشركين ـ في الدنيا، ولكم في الآخرة» (3)
وقوله: «الذي يشرب في إناء الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» (4).
_________
(1) انظر تكملة الفتح: 81/ 8 - 82، اللباب: 159/ 4 ومابعدها، شرح الرسالة
لابن أبي زيد القيرواني: 371/ 2 - 373، حاشية الباجوري على ابن قاسم:
42//1، المغني: 75/ 1 - 78، المهذب: 11/ 1 ومابعدها، بجيرمي الخطيب: 294/ 3
وما بعدها.
(2) الصحاف جمع صحفة، والصحفة: هي ما تشبع الخمسة.
(3) متفق عليه بين الشيخين عن حذيفة بن اليمان (سبل السلام: 29/ 1).
(4) متفق عليه عن أم سلمة (نصب الراية: 220/ 4، سبل السلام: 30/ 1).
(4/2632)
والجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف. وحرم
الشافعية والحنابلة خلافاً للحنفية اتخاذ آنية الذهب والفضة أي اقتناءها؛
لأن اتخاذها يجر إلى استعمالها، وماحرم استعماله مطلقاً حرم اتخاذه على
هيئة الاستعمال. وقال الشافعية: وظاهره حرمة الاتخاذ ولو للتجارة؛ لأن آنية
الذهب والفضة ممنوع من استعمالها لكل أحد، بعكس الحرير، يجوز اتخاذه
للتجارة فيه، لأنه ليس ممنوعاً من استعماله لكل أحد.
ويستثنى من حرمة استعمال الذهب والفضة أمور للضرورة أو للحاجة:
1 - صناعة الأنف إذا قطع، والأسنان إذا سقطت، يجوز عملها من الذهب أو
الفضة. وهذا رأي الجمهور ومنهم محمد، وفي رواية عن أبي يوسف من الحنفية.
وقال أبو حنيفة: لا تشد الأسنان بالذهب، وتشد بالفضة، وأضاف الحنفية: لا
بأس بمسمار الذهب لتثبيت حجر فص الخاتم، لأنه تابع له. وقال الشافعية: يحرم
سن خاتم الذهب على الرجل وهي الشعبة التي يستمسك بها الفص.
2 - طلاء الأدوات بالذهب أو الفضة إذا كان قليلاً: بأن لم يحصل منه شيء
بالعرض على النار، أو الذي لا يخلص، أي لا يمكن فصل شيء مادي منه.
3 - أجاز أبو حنيفة الشرب والوضوء في الإناء المفضض (المزين بالفضة)،
والركوب على السَرْج المفضض، والجلوس على السرير المفضض.
وأجاز أيضاً الإناء المضبب (الذي لحم كسره) بالذهب والفضة، والكرسي المضبب
بهما، وكذا إذا جعل ذلك في السيف وحلقة المرآة، أو جعل المصحف مذهباً أو
مفضضاً، ومثل ذلك اللجام والركاب، والثوب الذي كتب فيه بذهب أو فضة. ولا
بأس بتحلية المصحف ونقش المسجد وزخرفته بماء الذهب إذا كان المقصود بذلك
تعظيمه، ويكره إذا كان بقصد الرياء.
(4/2633)
وقال المالكية: لا بأس بالفضة (لا الذهب)
في حلية الخاتم أو السيف والمصحف، ولا يجعل ذلك في لجام ولا سرج ولا سكين
ولا في غير ذلك. وفي الجملة عندهم قولان بالمنع أو الكراهة في المموه
بالذهب والفضة، وفي الإناء المضبب.
وقال الشافعية: يحرم الإناء المطلي بذهب أو فضة إن حصل من الطلاء شيء بعرضه
على النار، ويحل إن لم يحصل منه شيء بالعرض على النار. ويحرم الإناء
المضبب (1) بضَبة فضة كبيرة عرفاً لزينة، فإن كانت كبيرة للحاجة، جاز مع
الكراهة، وإن كانت صغيرة عرفاً لزينة كرهت، أما لحاجة فلا تكره بدليل ما
رواه البخاري عن عاصم الأحول قال: «رأيت قدح النبي عند أنس بن مالك، وكان
قد انصدع، فسلسله بفضة .. ». أما ضبة الذهب فتحرم مطلقاً، كبيرة أو صغيرة
لحاجة أو لزينة، كلها أو بعضها، ولو كمكحلة.
ويجوز تحلية المصحف بالفضة للرجل والمرأة، وتحلية آلة الحرب كالسيف والرمح
والمنطقة بالفضة للرجل لأنها تغيظ الكفار، ولا يحل ذلك للمرأة ولا يجوز
تحلية ما لا يلبسه الرجل من آلات الحرب كالسرج واللجام.
وللمرأة تحلية المصحف بالذهب أيضاً. والتحلية: وضع قطع رقيقة.
ويحرم تمويه السقوف والجدران بالذهب والفضة، سواء أمكن استخراج شيء منها
بالعرض على النار أم لا.
ويحرم تحلية الكعبة وسائر المساجد بالذهب أو بالفضة، كما يحرم كسوتها
بالحرير المزركش بالذهب أو بالفضة.
_________
(1) يقال: ضبب الإناء والباب ونحوهما: عمل له ضبَّة، وأدخل بعضه في بعض،
وشَعَبه وأصلحه.
(4/2634)
وقال الحنابلة مثل الشافعية: يحرم المضبب
بضبة كثيرة من الذهب أو الفضة، لحاجة أو غيرها. ولا يباح اليسير من الذهب
إلا للضرورة كأنف الذهب وما ربط به الأسنان، ويباح اليسير من الفضة؛ لحاجة
الناس إليه.
وعلل الفقهاء حرمة استعمال الذهب والفضة بالسرف والخيلاء، والأصح في
التعليل: هو كون الذهب والفضة أثمان الأشياء، والنقد المتداول، فلو أبيح
استعمالها لأثَّر ذلك في رواجهما في الأسواق، فيحل الاضطراب والقلق.
ويجوز استعمال غير آنية الذهب والفضة من الأواني النفيسة كإناء ياقوت
وزمّرد وزجاج وبلور وعقيق وزبرجد ومرجان ولؤلؤ، ونحاس ورصاص، ونحو ذلك؛
لأنها ليست في معنى الذهب والفضة، والأصل في الأشياء الإباحة، ولأن النبي
صلّى الله عليه وسلم توضأ من إناء نحاس (1).
لبس الحرير والتختم بالذهب والفضة:
يحرم على الرجال لبس الحرير والتختم بالذهب، ويحل للنساء اللبس والتختم
مطلقاً والتحلي بالحلي من الذهب والفضة (2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم:
«الذهب
_________
(1) روى الشيخان عن عبد الله بن زيد قال: «أتانا رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، فأخرجنا له ماء في توْر من صُفْر، فتوضأ» وروى أبو داود عن عائشة
قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في تَوْر من شَبَه»
وتور: إناء يشرب فيه، والصفر: النحاس، والشبه: أرفع النحاس.
(2) تكملة الفتح: 83/ 8، -97، اللباب: 157/ 4 - 158، تبيين الحقائق: 14/ 6
ومابعدها، الدر المختار: 255/ 5، شرح الرسالة: 371/ 2 ومابعدها، المنتقى
على الموطأ: 254/ 7، المهذب: 11/ 1، بجيرمي الخطيب: 227/ 2 - 230، 295، نيل
الأوطار: 81/ 2 - 83، الدرر المباحة في الحظر والإباحة للشيباني النحلاوي:
ص 24 ومابعدها، كشاف القناع: 275/ 2 - 279، المغني: 588/ 1 - 591.
(4/2635)
والحرير حِلٌّ لإناث أمتي، حرام على
ذكورها» (1) وعن علي «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب»
(2) وعن ابن عباس «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى في يد رجل خاتماً
من ذهب، فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده»
(3)، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من
لا خلاق له في الآخرة» (4).
واستثنى أئمة المذاهب الخاتم الفضي للرجل، فأباحوا له لبسه والتختم به إذا
كان قليلاً، ومقداره عند الحنفية: بقدر مثقال (975،2 غم) فما دونه، وعند
المالكية: إذا كان لا يزيد على درهمين بشرط الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه
وسلم. والصواب عند الشافعية: بما دون المثقال. والمعول في ذلك على العرف
والعادة، سواء زاد عن مثقال أو نقص عنه، فمتى زاد على العادة حرم. ويلبس في
خنصر اليد اليسرى. ولو لِبسه في غير الخنصر جاز مع الكراهة عند الشافعية.
وقال الحنفية: ترك التختم لغير السلطان والقاضي وذي الحاجة إليه أولى،
والحاجة مثل الختم به.
ولا يحل للرجال بحال كالخطبة والزواج التختم بخاتم الذهب، لنهي النبي صلّى
الله عليه وسلم عنه. ويشتد التحريم بقصد تقليد غير المسلمين. ولا بأس أيضاً
عند الحنفية من استخدام المنطقة (ما ينتطق به الرجل ويشد وسطه) وحلية
السيف، من الفضة، كالخاتم، بشرط ألا يضع يده على موضع الفضة، لورود الآثار
في إباحة ذلك.
_________
(1) رواه ابن أبي شيبة عن زيد بن أرقم، وأخرجه الترمذي بلفظ آخر عن أبي
موسى الأشعري، وقال: حديث حسن صحيح، ورويت أحاديث كثيرة في معناه (نصب
الراية: 222/ 4 - 225).
(2) رواه الجماعة إلا البخاري. وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه ابن
حبان في صحيحه (نصب الراية: 235/ 4).
(3) رواه مسلم (نصب الراية: 225/ 4).
(4) رواه الشيخان عن ابن عمر (نصب الراية: 222/ 4).
(4/2636)
أما الخاتم:
فأخرج الأئمة الستة عن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
اتخذ خاتماً من فضة، له فص حبشي، ونقش فيه: محمد رسول الله».
وفي السيف وردت عدة أحاديث: منها مارواه
أبو داود والترمذي عن أنس، قال: «كانت قبيعة ـ مقبض ـ سيف رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فضة».
وأما المنطقة: ففي عيون الأثر لابن سيد
الناس اليعمري قال: «وكان للنبي صلّى الله عليه وسلم منطقة من أديم منشور
ثلاث، حَلَقها وإبزيمها (1)، وطرفها فضة» (2).
ولابأس عند أبي حنيفة بتوسد الحرير (جعله وسادة أي مخدة)، وافتراشه والنوم
عليه؛ لأن ذلك استخفاف به، فصار كالتصاوير على البساط، فإنه يجوز الجلوس
عليه. وقال الصاحبان: يكره التوسد والافتراش والجلوس على الحرير، لعموم
النهي عنه، ولأنه زي من لا خلاق له من الأعاجم.
ولابأس عند الصاحبين للضرورة بلبس الديباج (وهو ماسداه ولحمته إبْريَسم أي
أحسن الحرير) في الحرب؛ لأن الحاجة ماسة إليه، فإنه يردّ الحديد بقوته،
ويكون رعباً في قلوب الأعداء، وهو أهيب في عين العدو لبريقه ولمعانه. وعن
الحكم بن عمير، قال: «رخص رسول الله صلّى الله عليه وسلم في لباس الحرير
عند القتال» (3) ويكره لبسه عند أبي حنيفة لعموم النهي، والضرورة تندفع
بالمخلوط.
وأباح الحنفية في الحرب وغيرها لبس الثوب المختلط بالحرير (المُلْحَم) بأن
كان سداه حريراً ولحمته غير حرير كقطن أو كتان أو خز (صوف مخلوط بحرير:
_________
(1) الإبزيم: الذي في رأس المنطقة، وما أشبهه، وهو ذو لسان يدخل فيه الطرف
الآخر.
(2) راجع الآثار الثلاثة المذكورة في (نصب الراية: 232/ 4 - 234).
(3) رواه ابن عدي في الكامل، وفيه ضعيف، وروي عن الشعبي، وهو غريب عنه (نصب
الراية: 237/ 4).
(4/2637)
لحمته صوف، وسداه حرير)؛ لأن الصحابة كانوا
يلبسون الخز، والخز مسدّى بالحرير، ولأن النسج باللحمة، فهي المعتبرة دون
السدى. فإن انعكس الأمر بأن كانت لحمة الثوب حريراً، وسداه غير حرير، لايحل
لبسه في غير الحرب، ولابأس به في الحرب باتفاق الحنفية.
ويجوز عند الحنفية قليل الحرير، فالقليل عفو: وهو مقدار ثلاثة أو أربعة
أصابع، كالأعلام، والمكفوف بالحرير، لما روى عمر، فقال: «نهى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع» (1).
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يلبس جبة مكفوفة بالحرير (2).
ويجوز للضرورة لبس الحرير لستر عورة أو وقاية الجسم من الحر أو البرد حتى
يجد غيره من الثياب المباحة، لأن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر
بقدرها.
ويباح للضرورة عند جمهور الفقهاء غير المالكية لبس الحرير لدفع أذى من
قَمْل ونحوه، أو لدفع مرض كجرب وغيره، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم
رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما (3). وقال
المالكية: لا يحل ولو لذاك، ويلاحظ أن الحديث حجة عليهم.
ويكره عند الحنفية للولي أن يلبس الصبيان الذكور الذهب والفضة والحرير؛
_________
(1) أخرجه مسلم (نصب الراية: 225/ 4).
(2) أخرجه مسلم عن عبد الله أبي عمر، مولى أسماء بنت أبي بكر، ورواه أبو
داود، والبخاري أيضاً (نصب الراية: 226/ 4).
(3) رواه الجماعة عن أنس إلا لفظ الترمذي: أن عبد الرحمن بن عوف والزبير
شكوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم القَمْلَ، فرخص لهما في قُمُص الحرير،
في غزاة لهما (نيل الأوطار: 88/ 2).
(4/2638)
لأن التحريم ثبت في حق الذكور، وإذا حرم
اللبس، حرم الإلباس، كالخمر لما حرم شربه حرم سقيه.
وحرم الحنابلة في الأصوب على الولي أن يلبس الصبي الحرير، لعموم قول النبي
صلّى الله عليه وسلم: «حرِّم لباس الحرير على ذكور أمتي وأحل لنسائهم» وروى
أبو داود عن جابر قال: «كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري».
وحرم الجمهور غير الحنفية الجلوس على الحرير، أو الاستناد عليه، أو توسده
وستر الجدران به، إلا أن المالكية أجازوا ستر النافذة به، وأجاز الحنابلة
ستر الكعبة به، وأباح الشافعية الجلوس على الحرير بحائل (غطاء) كملاءة من
قطن أو صوف أو كتان أو نحوها.
ودليلهم على تحريم الجلوس على الحرير قول حذيفة: «نهانا النبي صلّى الله
عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير
والديباج، وأن نجلس عليه» (1).
وأجاز الجمهور غير الحنفية كالحنفية لبس القليل من الحرير كالعَلَم (2) في
الثوب الحريري المقدر بأربع أصابع، ولكن عند المالكية يجوز لباس الخز (غير
الخالص) مع الكراهة للباس السلف له. ودليل الجمهور حديث عمر المتقدم، وحديث
ابن عباس قال: «إنما نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الثوب المُصْمَت
من قَزّ (3)». قال ابن عباس: «أما السَّدَى والعَلَم، فلا نرى به بأساً»
(4).
_________
(1) رواه البخاري (نيل الأوطار: 85/ 2).
(2) أعلمت الثوب: جعلت له علماً من طراز وغيره، وهي العلامة.
(3) المصمت من قز: هو الذي جميعه حرير، لا يخالطه قطن ولا غيره.
(4) رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار: 90/ 2).
(4/2639)
والمنسوج من الحرير وغيره: الحكم فيه عند
الشافعية والحنابلة للأغلب منهما فإن كان القطن ونحوه هو الأكثر، جاز؛ لأن
الحرير مستهلك في غيره. وقال المالكية في الأصوب: يكره المختلط بغيره،
كالخالص، سواء أكانت المختلط يسيراً أم كثيراً.
ولا يجوز في الأصوب عند الحنابلة كالحنفية لولي الصبي أن يلبسه الحرير.
وأجاز الشافعية إلباس الصبي أو المجنون حريراً؛ لأنه غير مكلف، ولأن خنوثة
الحرير لا تتنافى مع الأولاد بعكس الرجال.
وكره تنزيهاً عند الحنفية للرجال لبس المعصفر والمزعفر: الأحمر والأصفر،
ولا يكره للنساء، ولا بأس لهن بسائر الألوان.
المبحث الرابع ـ الوطء والنظر واللمس واللهو
والتصوير والوسم والوشم وأحكام الشعر والنتف والتفليج والسلام:
أولاً ـ الوطء: الاستمتاع واجب على الرجل للمرأة إذا انتفى العذر، بما يحقق
الإعفاف والصون عن الحرام، وتباح كل وجوه الاستمتاع إلا الإتيان في الدبر
فهو حرام. ومكان الوطء باتفاق المذاهب: هو القبل، لا الدبر (1)، لقوله
تعالى: {نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223/ 2] (2) أي على
أية كيفية:
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 211، فتح المعين شرح قرة العين: ص 107).
(2) الآية 223 من سورة البقرة.
(4/2640)
قائمة، أو قاعدة، مقبلة، أو مدبرة، في
أقبالهن (1). قال ابن عباس: إنما قوله: {فأتوا حرثكم أنى شئتم}
[البقرة:223/ 2]. قائمة، وقاعدة، ومقبلة، ومدبرة، في أقبالهن، لا تعدو ذلك
إلى غيره. وله عبارة أخرى في الآية: إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن
شئت فباركة، وإنما يعني ذلك موضع الولد للحرث، يقول: ائت الحرث حيث شئت.
وقد ثبت تحريم الوطء في الدبر (2)، في السنة النبوية، بأحاديث كثيرة منها:
«ملعون من أتى امرأة في دبرها» (3) «الذي يأتي المرأة في دبرها هي اللوطية
الصغرى» (4) «من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً، فصدقه، فقد كفر
بما أنزل على محمد» (5). ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الأليتين، لقوله
تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}
[المؤمنون:6/ 23] ويجوز وطؤها في القبل مدبرة لقول جابر: «يأتيها من حيث
شاء مقبلة أو مدبرة إذا كان ذلك في الفرج».
وربما كان أسوأ من الدبر: وضع الذكر في فم المرأة ونحوه، مما جاءنا من شذوذ
الغربيين، فيكون ذلك حراماً لثبوت ضرره وقبحه شرعاً وذوقاً.
_________
(1) قال الشافعي: لا يجب قضاء الجماع للمرأة إلا مرة بعد الزفاف، وهذا هو
مذهب الحنفية في الرواية الظاهرة والمعروف عند الشافعية أنه لا حق للمرأة
في الجماع. وقال الطحاوي: يلزم في كل أربع ليال مرة. وقال بعضهم: يلزم كل
أربعة أشهر مرة وهي مدة الإيلاء. هذا في أحكام القضاء. أما ديانة فيلزم
الزوج شرعاً إعفاف زوجته وإبعادها عن الوقوع في الحرام، متى كان قادراً على
ذلك. وقال بعضهم: إن الإعفاف بحسب تقدير حال الزوجين واجب قضائي أيضاً، وهو
الرأي المعقول.
(2) المهذب: 66/ 2.
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة، وهو حديث صحيح.
(4) رواه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(5) رواه أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة (راجع الأحاديث الثلاثة في تفسير
ابن كثير: 263/ 1).
(4/2641)
وطء الحائض ونحوها:
ويحرم بالاتفاق إتيان الحائض، ومستحله كافر، لقوله تعالى: {ويسألونك عن
المحيض، قل: هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن،
فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، إن الله يحب التوابين، ويحب
المتطهرين} [البقرة:222/ 2] والنفساء كالحائض.
ويسن لمن وطئ الحائض أن يتصدق بدينار إن وطئها في إقبال الدم، وبنصفه في
إدباره؛ لخبر أبي داود والحاكم وصححه: «إذا واقع الرجل أهله وهي حائض، إن
كان دماً أحمر فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر، فليتصدق بنصف دينار» (1).
وأجاز أبو حنيفة إتيان المرأة إذا انقطع دم الحيض، ولو لم تغتسل بالماء إلا
أنه إذا انقطع دمها بعد أكثر الحيض (عشرة أيام) حلت حينئذ، وإن انقطع دمها
لأقل من عشرة أيام، لم تحل حتى يمضي وقت صلاة كامل أو تغتسل.
ولم يجز الجمهور غير أبي حنيفة إتيانها حتى ينقطع الحيض، وتغتسل بالماء غسل
الجنابة.
وأما ما عدا الوطء في الفرج للحائض من الاستمتاع بالضم أو المس، أو القبلة
أو غير ذلك، فتجوز المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة باتفاق العلماء.
_________
(1) روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه
وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار، أو بنصف دينار. قال أبو
داود: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار. وفي لفظ للترمذي: إ
ذا كان دماً أحمر فدينار، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار، وفي رواية لأحمد
أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ديناراً، فإن أصابها وقد
أدبر الدم عنها، ولم تغتسل، فنصف دينار» (نيل الأوطار: 278/ 1).
(4/2642)
وأما المباشرة فيما بين السرة والركبة ففيه
أقوال ثلاثة (1):
1 - قول أكثر العلماء، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف والمالكية والشافعية: وهو
التحريم، سداً للذريعة، ولحديث عائشة: «كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد
رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يباشرها، أمرها أن تأتزر بإزار، في فور
حيضتها، ثم يباشرها» (2).
2 - قول الحنابلة والأوزاعي ومحمد من الحنفية وغيرهم: الجواز، لقول النبي
صلّى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح، وفي لفظ: إلا الجماع» (3)
وهو صريح بتحليل كل شيء ما عدا النكاح.
3 - التفصيل: إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج، إما لشدة ورع، أو لضعف
شهوة، جاز، وإلا لم يجز.
وأرجح العمل بالأحوط في الأحوال العادية، فإن كان المرء مسافراً ثم قدم، أو
شديد الشَّبَق (4)، جاز له العمل بالقولين الآخرين، بشرط أن يضبط نفسه عن
الفرج، منعاً من الوقوع في الحرام بالنظر إلى الأجنبيات وغيره، ولأن النبي
صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئاً، ألقى على فرجها شيئاً
(5).
_________
(1) نيل الأوطار: 276/ 1، الدرر المباحة في الحظر والإباحة: ص41، اللباب:
48/ 1 ومابعدها، تبيين الحقائق: 57/ 1، الشرح الكبير: 173/ 1، مغني
المحتاج: 110/ 1، المغني: 306/ 1.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين. قال الخطابي: فور الحيض: أوله ومعظمه
(نيل الأوطار: 278/ 1).
(3) رواه الجماعة إلا البخاري عن أنس بن مالك (نيل الأوطار: 276/ 1).
(4) وأجاز الحنابلة لمن به شبق وطء الحائض بشرط ألا تندفع شهوته بدون الوطء
في الفرج، ويخاف تشقق أنثييه إن لم يطأ، ولايجد غير الحائض من زوجة أخرى
(كشاف القناع: 227/ 1).
(5) رواه أبو داود عن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم (نيل
الأوطار: 277/ 1).
(4/2643)
العزل:
الإيجاد والخلق في الحقيقة منوط بالإرادة الإلهية، ففي حديث حسن رواه
الطبراني: «اعزلوا أو لاتعزلوا، ماكتب الله تعالى من نسمة هي كائنة إلى يوم
القيامة إلا وهي كائنة» ولا خلاف بين العلماء ما عدا ابن حزم الظاهري (1):
أنه يجوز العزل (2) عن الزوجة، بشرط
إذنها، بدليل قول جابر: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
فبلغه ذلك، فلم ينهنا» (3) ودليل اشتراط الإذن مارواه أحمد وابن ماجه عن
عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن أن يعزل عن الحرة، إلا بإذنها»
(4).
إلا أن الشافعية والحنابلة وقوماً من الصحابة قالوا بكراهة العزل؛ لأن
الرسول صلّى الله عليه وسلم في حديث مسلم عن عائشة سماه الوأد الخفي، فحمل
النهي على كراهة التنزيه. وأجاز الغزالي العزل لأسباب منها كثرة الأولاد.
وبناء عليه يجوز استعمال موانع الحمل الحديثة كالحبوب وغيرها لفترة مؤقتة،
دون أن يترتب عليه استئصال إمكان الحمل، وصلاحية الإنجاب، قال الزركشي:
يجوز استعمال الدواء لمنع الحبل في وقت دون وقت كالعزل، ولايجوز التداوي
لمنع الحبل بالكلية. أو ربط عروق المبايض إذا ترتب عليه امتناع الحمل في
_________
(1) تكملة الفتح: 109/ 8، إحياء علوم الدين: 47/ 2 ومابعدها، نيل الأوطار:
197/ 6، فتح القدير: 494/ 2، الشرح الكبير: 266/ 2، المهذب: 66/ 2، المغني:
223/ 7، الإحياء: 248/ 2، شرح مسلم: 6/ 10،17.
(2) العزل: النزع بعد الإيلاج، لينزل الماء خارج الفرج.
(3) رويت أحاديث أخرى في معناه (نيل الأوطار: 195/ 6 ومابعدها).
(4) قال المحدثون: وليس إسناده بذلك، لأن في إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال
معروف. ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس قال: «نهى عن
عزل الحرة إلا بإذنها» وروى عنه ابن أبي شيبة أنه كان يعزل عن أمته، وروى
البيهقي عن ابن عمر مثله (نصب الراية: 251/ 4، نيل الأوطار: 196/ 6
ومابعدها).
(4/2644)
المستقبل، والعبرة في ذلك لغلبة الظن، أي
احتمال مافوق 50%. وكذلك الحكم في تعقيم الرجل.
آداب الجماع:
للجماع آداب كثيرة ثابتة في السنة النبوية منها مايأتي (1): تستحب التسمية
قبله، ويقرأ {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1/ 112]، ويكبر، ويهلل، ويقول ولو
مع اليأس عن الولد: «باسم الله العلي العظيم، اللهم اجعلها ذرية طيبة، إن
كنت قدرت أن تخرج ذلك من صلبي» «اللهم جنِّبني الشيطان، وجنب الشيطان
مارزقتني» رواه أبو داود. وينحرف عن القبلة، ولايستقبل القبلة بالوقاع،
إكراماً للقبلة.
وأن يتغطى نفسه هو وأهله بغطاء، وألا يكونا متجردين (2) فذلك مكروه كما
سيأتي.
وأن يبدأ بالملاعبة والضم والتقبيل. وإذا قضى وطره، فليتمهل لتقضي وطرها،
فإن إنزالها ربما تأخر. ويكره الإكثار من الكلام حال الجماع، ولايخليها عن
الجماع كل أربع ليال مرة بلا عذر.
وتأتزر الحائض بإزار مابين السرة والركبة إذا أراد الاستمتاع بها.
_________
(1) المغني: 25/ 7، إحياء علوم الدين: 46/ 2 ومابعدها، كشاف القناع: 216/ 5
ومابعدها، مختصر منهاج القاصدين: ص73، فتح المعين: ص 107،الأذكار للنووي: ص
159، نيل الأوطار: 194/ 6.
(2) روى ابن ماجه حديثاً عن عتبة بن عبد السُّلمي: «إذا أتى أحدكم أهله،
فليستتر، ولايتجردا تجرد العَيْرين» أي الحمارين (نيل الأوطار: 194/ 6).
(4/2645)
ومن أراد أن يجامع مرة ثانية، فليغسل فرجه،
ويتوضأ؛ لأن الوضوء يزيد نشاطاً ونظافة.
وليس في السنة استحباب الجماع في ليال معينة كالاثنين أو الجمعة، ومن
العلماء من استحب الجماع يوم الجمعة.
ويكره الوطء وهما متجردان. لما روى ابن ماجه عن عتبة بن عبد الله قال: «قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، ولا يتجردان
تجرد العَيْرين» والعَيْر: حمار الوحش، شبههما به تنفيراً عن تلك الحالة.
ويكره تحدثهما بما جرى بينهما، وحرمه بعضهم لما فيه من إفشاء السر، وهو
حرام.
ومن الآداب ألا يحلق شعره، ولا يقلم أظفاره، ولا يخرج دماً، وهو جنب.
ويستحب في ليلة الزفاف قبل الجماع أن يأخذ الرجل بناصية المرأة ويقول:
«اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما
جبلتها عليه» (1).
الإجهاض:
اتفق العلماء على تحريم الإجهاض دون عذر بعد الشهر الرابع أي بعد 120 يوماً
من بدء الحمل، ويعد ذلك جريمة موجبة للغُرَّة (2)، لأنه إزهاق نفس وقتل
إنسان.
_________
(1) ثبت ذلك بحديث رواه ابن ماجه وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
(نيل الأوطار: 189/ 6).
(2) الغرة: دية الجنين، وتساوي 5% من الدية الكاملة أي50 ديناراً أو 500
درهم.
(4/2646)
وأرجح عدم جواز الإجهاض بمجرد بدء الحمل،
لثبوت الحياة، وبدء تكون الجنين إلا لضرورة كمرض عضال أو سار كالسل أو
السرطان، أوعذر، كأن ينقطع لبن المرأة بعد ظهور الحمل. وله ولد، وليس لأبيه
ما يستأجر الظئر (المرضع)، ويخاف هلاك الولد. وإني بهذا الترجيح ميَّال مع
رأي الغزالي الذي يعتبر الإجهاض ولو من أول يوم كالوأد جناية على موجود
حاصل (1).
ومع هذا أذكر أقوال الفقهاء في الإجهاض:
1 - مذهب الحنفية (2): يباح الإسقاط بعد
الحمل، ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مئة وعشرين يوماً؛ لأنه
ليس بآدمي. وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق: نفخ الروح. وقيل عندهم: إن
ذلك مكروه بغير عذر، فإذا أسقطت بغير عذر يلحقها إثم.
ومن الأعذار: أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به
الظئر، ويخاف هلاكه.
وحمل بعضهم إباحة الإسقاط المطلقة على حالة العذر؛ لأن الماء بعد ما وقع في
الرحم مآله الحياة، فله حكم الحياة. وهذا التأويل معقول وضروري.
2 - مذهب المالكية (3): المعتمد أنه
يحرم عندهم إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل الأربعين يوماً. وقيل:
يكره إخراجه قبل الأربعين. وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعاً، وهذا رأي
الغزالي والظاهرية (4).
_________
(1) إحياء علوم الدين: 47/ 2.
(2) فتح القدير: 495/ 2، حاشية ابن عابدين: 278/ 1، 522/ 2، ط الأميرية،
و418/ 5، الفتاوى الهندية: 365/ 5 - 367.
(3) الشرح الكبير مع الدسوقي: 266/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 212.
(4) المحلى: 38/ 11، ط الإمام.
(4/2647)
3 - مذهب الشافعية
(1): يباح الإجهاض مع الكراهة إذا تم في فترة الأربعين يوماً (40 أو 42 أو
45 يوماً) من بدء الحمل، بشرط كونه برضا الزوجين، وألا يترتب على ذلك ضرر
بالحامل. وبعد فترة الأربعين يحرم الإسقاط مطلقاً.
ورجح الرملي جواز الإجهاض قبل نفخ الروح والتحريم بعد نفخ الروح مطلقاً،
فيكون رأيه كالحنفية.
وحرم الغزالي (2) الإجهاض مطلقاً، لأنه جناية على موجود حاصل.
4 - مذهب الحنابلة (3)، هو كالحنفية:
المعتمد عندهم أنه يجوز الإسقاط في فترة الأربعة الأشهر الأولى ي في مدة
الـ 120 يوماً من بدء الحمل قبل نفخ الروح، ويحرم قطعاً بعدها، أي بعد ظهور
الحركة الإرادية.
الإعقام أو التعقيم:
جعل المرأة عقيماً، بمعالجة تمنع الإنجاب نهائياً. وقد صرح الفقهاء بأنه
يحرم استعمال ما يقطع الحبل من أصله، لأنه كالوأد (4). وذلك إلا إذا كانت
هناك ضرورة ملجئة كانتقال مرض خطير بالوراثة إلى الأولاد والأحفاد، ودرء
المفاسد مقدم على جلب المصالح، ويرتكب أخف الضررين، ولا مانع من عقم
المصابة
_________
(1) بجيرمي الخطيب: 40/ 4، حاشية الشبرامسلي على نهاية المحتاج: 205/ 6، ط
البهية المصرية، تحفة المحتاج لابن حجر: 241/ 8، نهاية المحتاج: 239/ 8
ومابعدها، شرح مسلم: 190/ 16.
(2) إحياء علوم الدين: 47/ 2.
(3) الفروع لشمس الدين المقدسي: 281/ 1، الإنصاف لعلاء الدين المرداوي:
386/ 1، منتهى الإرادات لابن النجار: 286/ 1، المغني: 816/ 7.
(4) المراجع السابقة.
(4/2648)
بمرض خبيث، وتكون من فئة النساء اللاتي
تحققت فيهن مشيئة الله بالعقم: {لله ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب
لمن يشاء إناثاً، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً، ويجعل
من يشاء عقيماً} [الشورى:42/ 49 - 50].
أما ما يبطئ الحبل مدة، ولا يقطعه من أصله، وهو المعروف بتنظيم الحمل، فلا
يحرم، بل إن كان لعذر كتربية ولد، لم يكره أيضاً، وإلا كره عند الشافعية.
التلقيح الصناعي:
هو استدخال المني لرحم المرأة بدون جماع. فإن كان بماء الرجل لزوجته، جاز
شرعاً، إذ لا محذور فيه، بل قد يندب إذا كان هناك ما نع شرعي من الاتصال
الجنسي.
وأما إن كان بماء رجل أجنبي عن المرأة، لا زواج بينهما، فهو حرام؛ لأنه
بمعنى الزنا الذي هو إلقاء ماء رجل في رحم امرأة، ليس بينهما زوجية. ويعد
هذا العمل أيضا منافياً للمستوى الإنساني، ومضارعاً للتلقيح في دائرة
النبات والحيوان.
خصاء البهائم:
ولا بأس عند الحنفية بخصاء البهائم، وإنزاء الحمير على الخيل، لإنجاب
البغال، ولأن الخصاء للنفع، إذ تسمن الدابة ويطيب لحمها. وقال المالكية:
يجوز خصاء الغنم وسائر الدواب إلا الخيل؛ لأن خصاء الغنم يزيد في سمنها،
وخصاء الخيل ينقص من قوتها ويقطع نسلها، ويكره الوسم في الوجه، ولا بأس به
في غير ذلك (1).
_________
(1) اللباب: 161/ 4، القوانين الفقهية: ص 445، شرح الرسالة: 414/ 2.
(4/2649)
ثانياً ـ النظر: للنظر أربعة أقسام، لكل
قسم حكم، وهي: نظر الرجل للمرأة، ونظر المرأة إلى الرجل، ونظر الرجل إلى
الرجل، ونظر المرأة إلى المرأة (1).
الأول ـ نظر الرجل للمرأة:
أـ إذا كانت المرأة زوجة: جاز للزوج اللمس والنظر إلى جميع جسدها، حتى
فرجها باتفاق المذاهب الأربعة، والفرج محل التمتع. ولكن يكره لكل منهما نظر
الفرج من الآخر، ومن نفسه بلا حاجة، وإلى باطنه أشد كراهة، قالت عائشة رضي
الله عنها: «ما رأيت منه، ولا رأى مني» أي الفرج (2).
ب ـ وإذا كانت المرأة ذات مَحْرم كالأخت والخالة (3)، جاز عند الحنابلة
النظر إلى ما يظهر غالباً كالرقبة والرأس والكفين والقدمين، وليس له النظر
إلى ما يستتر غالباً كالصدر والظهر ونحوهما.
_________
(1) راجع تكملة الفتح: 97/ 8 - 107، البدائع: 119/ 5 - 124، اللباب: 162/ 4
- 165، تبيين الحقائق: 17/ 6 - 21، الدر المختار: 257/ 5 - 264، الشرح
الكبير: 215/ 2، القوانين الفقهية: ص 193، 446، تحفة المحتاج بشرح المنهاج
لابن حجر: 190/ 7 - 205، المهذب: 34/ 2 - 35، المغني: 552/ 6 ومابعدها، 558
- 563، 580، مغني المحتاج: 128/ 3 - 134، فتح المعين: ص 98.
(2) أما خبر: «النظر إلى الفرج يورث الطمس» أي العمى، فرواه ابن حبان وغيره
في الضعفاء، بل ذكره ابن الجوزي في الموضوعات فهو منكر لا أصل له. وخالفه
ابن الصلاح وحسن إسناده (نصب الراية: 248/ 4) وحديث عائشة رواه ابن ماجه.
(3) ذوات المحارم: كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد بنسب أو رضاع أو
تحريم المصاهرة بسبب مباح كأم الزوجة عند الشافعية والحنابلة. والأصح عند
الحنفية أن المصاهرة سبب للتحريم سواء أكانت بسبب مباح كالنكاح أم بسبب
حرام كالسفاح.
(4/2650)
ومذهب الحنفية قريب من الحنابلة مع تعديل:
فعندهم يجوز النظر إلى الوجه والرأس والصدر والساقين (الساق: من الركبة إلى
القدم) والعضدين (أي الساعدين، والساعد: من المرفق إلى الكتف)، ولا ينظر
إلى ظهرها وبطنها؛ لأن الله تعالى حرم المرأة إذا شبّهها بظهر الأم، فيحرم
النظر إليه، والبطن أولى من الظهر، لأنه أدعى للشهوة.
وتشدد المالكية فقالوا: الأصح جواز رؤية وجهها ويديها، دون سائر جسدها.
وتوسط الشافعية فحرموا نظر البالغ من محرمه الأنثى ما بين سرة وركبة،
وأباحوا بغير شهوة نظر ما عدا ما بين السرة والركبة، فيجوز النظر إلى السرة
والركبة، لأنهما ليسا بعورة بالنسبة لنظر المحرَم.
جـ ـ وإن كانت المرأة أجنبية: حرم النظر إليها عند الحنفية إلا وجهها
وكفَّيها، لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور:31/
24]. قال علي وابن عباس: ما ظهر منها الكحل والخاتم أي موضعهما وهو الوجه
والكف، والمراد من الزينة في الآية موضعها، ولأن في إبداء الوجه والكف
ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذاً وعطاء.
وإن وقع البصر على محرَّم من غير قصد، وجب أن يصرف عنه، وليس على المرء إثم
في المرة الأولى غير المقصودة، فقد روى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي
قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف
بصري». وروى أبو داود عن بُريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة».
وإن كان لا يأمن الشهوة: لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجة ضرورية. وبه يظهر أن
حل النظر مقيد بعدم الشهوة، وإلا فحرام. والواجب المنع في زماننا من نظر
(4/2651)
الشابة. ويدل لحرمة النظر: حديث صحيح:
«العينان تزنيان، وزناهما النظر، واليدان تزنيان، وزناهما البطش» (1). وحد
الشهوة: تحرك الآلة.
ويتفق المالكية مع الحنفية في ذلك، فإنهم أجازوا رؤية الوجه والكفين من
العجوز، وحرموا ذلك من الشابة إلا لعذر من شهادة أو معالجة أو خطبة.
والخصي في المذهبين في حرمة النظر إلى الأجنبي كالفحل.
وكذلك قال الشافعية: يحرم نظر فحل بالغ عاقل مختار، ولو شيخاً كبيراً،
وعاجزاً عن الوطء ومخنثاً (وهو المتشبه بالنساء) إلى المرأة الأجنبية، وكذا
يحرم نظر وجهها وكفيها سواء عند خوف الفتنة أو عند الأمن من الفتنة فيما
يظهر له من نفسه من غير شهوة، على الصحيح؛ لأن النظر مظنة الفتنة، ومحرّك
للشهوة، وقد قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} [النور:30/ 24]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها
الشيطان» (2).
والمنع من النظر، لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته، بل لأن فيه مصلحة عامة.
فقد حكى القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في
طريقها، وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية.
وحرم الحنابلة أيضاً نظر الرجل إلى الأجنبية من غير سبب، وعلى هذا فإن بدن
الحرة كله عورة عند الشافعية والحنابلة. وأما عند الحنفية والمالكية فليس
الوجه والكفان بعورة. وروي عن أبي حنيفة أن القدمين ليستا من العورة. وأباح
بعض الحنابلة النظر إلى الوجه والكفين مع الكراهة، إذا أمن الفتنة ونظر
لغير شهوة.
_________
(1) أخرجه مسلم عن أبي هريرة (نصب الراية: 248/ 4).
(2) أخرجه الترمذي عن ابن مسعود، وهو حديث صحيح.
(4/2652)
وقالوا: لا بأس بالنظر إلى ما يظهر غالباً
من العجوز التي لا يشتهى مثلها أو الشوهاء التي لا تشتهى، لقوله تعالى:
{والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً} [النور:60/ 24].
وعندهم أن الخصي والمخنث الذي لا شهوة له والشيخ ومن ذهبت شهوته لكبر أو
عُنَّة أو مرض لا يرجى برؤه: حكمه حكم ذوي المحارم في النظر لقوله تعالى:
{أو التابعين غير أولي الإربة} [النور:31/ 24] أي غير ذوي الحاجة إلى
النساء.
والأحوال التي يجوز النظر فيها للمرأة لحاجة استثنائية هي عند الفقهاء:
الخطبة، والمعالجة، والمعاملة كبيع
وشراء، والشهادة أو القضاء، والتعليم، ونحو ذلك والنظر بقدر الحاجة، فلا
يجوز أن يجاوز ما يحتاج إليه؛ لأن ما حل لضرورة يقدر بقدرها.
ففي أثناء الخطبة يجوز النظر للوجه
والكفين فقط دون ما عداهما، وللخاطب تكرير نظره، ولا ينظر غير الوجه
والكفين، بلا مس شيء منها، لدلالة الوجه على الجمال، والكفين على خصوبة
البدن.
وفي المعالجة للطبيب: يجب أن يكون النظر
إلى موضع المرض من المرأة للضرورة مع وجود مانع الخلوة كمحرم أو زوج، أو
امرأة ثقة، وبشرط عدم وجود امرأة تحسن ذلك؛ لأن نظر الجنس إلى جنسه أخف
وأسهل عاقبة، وألا يكون الطبيب غير أمين مع وجود أمين، وألا يكون ذمياً مع
وجود مسلم، أو ذمية مع وجود مسلمة.
ويعتبر في النظر إلى الوجه والكفين أدنى حاجة، وفيما عداهما: كل ما يبيح
(4/2653)
التيمم يبيح النظر، إلا الفرج وقريبه،
فيزاد على ذلك وهو أن تشتد الضرورة، حتى لا يعد الكشف عليه هتكاً للمروءة.
وفي المعاملة من بيع وشراء يباح النظر للوجه فقط، للمطالبة بالثمن أو تسليم
المبيع مثلاً.
وفي الشهادة أداء وتحملاً للمرأة أو
عليها، ولو كان النظر للفرج للشهادة بالزنا، أو الولادة، أو العَبَالة (كبر
الذكر) أو الالتحام أو الإفضاء بين القبل والدبر، فإن تيسر وجود النساء أو
المحارم للشهادة بذلك كان هو المتعين.
ويجوز للقاضي النظر إلى المرأة إذا أراد
أن يحكم عليها، فينظر إلى الوجه، وإن خاف أن يشتهى للحاجة إلى إحياء حقوق
الناس بالقضاء.
وفي التعليم لما يجب تعلمه وتعليمه
كالفاتحة وما يتعين من الصنائع المحتاج إليها، يجوز النظر بشرط فقد وجود
أحد من جنس النساء أو محرم صالح، وتعذره من وراء حجاب، ووجود مانع الخلوة
من محرم ونحوه.
الثاني ـ نظر المرأة للرجل:
حكم نظر المرأة للرجل كحكم الأحوال الثلاث المتقدمة في نظر الرجل للمرأة،
فإن كان زوجها، جاز أن ترى منه ما يرى منها.
وإن كانت ذا ت محرم، جاز أن ترى منه جسده له إلا عورته.
وإن كانت أجنبية عنه، جاز لها عند الحنفية إن أمنت الشهوة أن تنظر إلى جميع
بدنه إلا ما بين سرته وركبته.
وعند المالكية والحنابلة قولان: قول بأن لها النظر إلى ما ليس بعورة (ما
بين
(4/2654)
السرة والركبة) أي كما قال الحنفية، كالرجل
مع ذوات محارمه، ويظهر أن هذا هو الراجح؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في
الحديث المتفق عليه قال لفاطمة بنت قيس: «اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه
رجل أعمى، تضعين ثيابك، فلا يراك» (1).
وقول آخر، وهو الأصح عند الشافعية: يجوز لها النظر من الرجل، مثل ما ينظر
إلىها الرجل؛ لأن الله تعالى أمر النساء بغض أبصارهن، كما أمر الرجال به.
وروى أبو داود وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم سلمة وحفصة
بالاحتجاب من ابن أم مكتوم، قائلاً لهما: «أفعمياوان أنتما لا تبصرانه؟».
الثالث ـ نظر الرجل إلى الرجل:
يباح باتفاق المذاهب نظر الرجل للرجل ولو أمرد إذا أمن الشهوة إلى جميع
بدنه إلا العورة: وهي ما بين السرة والركبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم:
«عورة المؤمن ما بين سرته وركبته» (2)، وقوله: «الفخذ عورة» (3). وستر
العورة واجب حتى على الابن، وفي الحمام وغيرها (4).
ويحرم نظر أمرد (وهو الشاب الذي لم تنبت لحيته) بشهوة، بالإجماع. كذلك يحرم
النظر إلى الملتحي، وإلى النساء المحارم بشهوة.
_________
(1) وقالت عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورائي يسترني بردائه،
وأنا أنظرإلى الحبشة يلعبون في المسجد» متفق عليه.
(2) رواه سَمُّويَه (إسماعيل بن عبد الله -267 هـ) عن أبي سعيد، وهو حديث
حسن (الفتح الكبير، والجامع الصغير).
(3) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان وغيرهم عن زرعة بن عبد الرحمن
بن جرهد عن أبيه (نصب الراية: 4/ 243 ومابعدها).
(4) نقل القاضي حسين من الشافعية عن علي رضي الله تعالى عنه أن الفخذ في
الحمام ليس بعورة.
(4/2655)
الرابع ـ نظر المرأة
إلى المرأة:
المرأة مع المرأة في النظر كالرجل مع الرجل، لوجود المجانسة وانعدام الشهوة
غالباً، وقد تحققت الضرورة إلى الانكشاف فيما بين النساء. فيمنع النظر إلى
العورة أى ما بين السرة والركبة، ويجوز ما سواها مع أمن الشهوة، ويحرم مع
الشهوة وخوف الفتنة.
والأصح عند الجمهور غير الحنابلة تحريم نظر كافرة (ذمية أو غيرها) غير
مَحْرم إلى مسلمة، فتحتجب المسلمة عنها وترتدي خمارها أمامها، ما عدا الوجه
والكفين، أي أنها كالرجل لقوله تعالى: {أو نسائهن} [النور:31/ 24]، فلو جاز
لها النظر لم يبق للتخصيص بالنساء فائدة. وصح عن عمر أنه منع الكتابيات
دخول الحمام مع المسلمات، ولأنها ربما تحكي أوصاف المسلمة للكافر. فالمراد
بنسائهن: خصوص النساء المسلمات، أي المتفقات في الدين، وعلى هذا فلا يحل
للمسلمة أن تبدي شيئاً من زينتها الباطنة للكافرة.
والأصح عند الحنابلة: ألا فرق بين المسلمتين، وبين المسلمة والذمية، كما
لافرق بين الرجلين المسلمين. وبين المسلم والذمي في النظر؛ لأن النساء
الكوافر من اليهوديات وغيرهن، قد كن يدخلن على نساء النبي صلّى الله عليه
وسلم، فلم يكنَّ يحتجبن، ولا أمرن بحجاب، ولأن الحجب بين الرجال والنساء
لمعنى لا يوجد بين المسلمة والذمية، فوجب ألا يثبت الحجب بينهما، كالمسلم
مع الذمي. فأما قوله: {أو نسائهن} [النور:31/ 24] فيحتمل أن يكون المراد
جملة أو عموم النساء، ويكون المقصود بالآية عموم النساء: المسلمات
أوالكافرات. ويترتب عليه، أنه يجوز للمرأة المسلمة أن تبدي من زينتها
للمرأة الكافرة ما يحل لها أن تبديه للمسلمة (1).
_________
(1) مذكرة تفسير آيات الأحكام للسايس: 164/ 3
(4/2656)
وفي هذا الرأي سعة ويسر، يتناسب مع أوضاع
العصر الحاضر.
ثالثاً ـ اللمس: متى حرم النظر، حرم المس أي مس الشهوة؛ لأنه أبلغ منه في
اللذة، وإثارة الشهوة، بدليل أنه لو مس فأنزل أفطر، ولو نظر فأنزل لم يفطر.
ومتى جاز النظر، جاز مس الأعضاء، إذا أمن الشهوة على نفسه وعلى المرأة،
لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقبِّل رأس فاطمة. وإن لم يأمن اللامس ذلك أو
شك، لم يحل له المس ولا النظر (1).
وهذا في غير الأجنبية الشابة، أما الشابة فلا يحل مس وجهها وكفيها، وإن أمن
الشهوة، لعدم الضرورة، بخلاف النظر.
وتحرم مصافحة المرأة، لقوله صلّى الله
عليه وسلم: «إني لا أصافح النساء» (2).
لكن الجمهور غير الشافعية أجازوا مصافحة العجوز التي لا تشتهى، ومس يدها،
لانعدام خوف الفتنة، قال الحنابلة: كره أحمد مصافحة النساء، وشدد أيضاً حتى
لمحرم، وجوزه لوالد، وأخذ يد عجوز شوهاء.
وحرم الشافعية المس والنظر للمرأة مطلقاً، ولو كانت المرأة عجوزاً.
وتجوز المصافحة بحائل يمنع المس المباشر.
_________
(1) راجع تكملة الفتح: 98/ 8، 102، 106، الدر المختار: 259/ 5 ومابعدها،
263، 269 ومابعدها، اللباب: 164/ 4، القوانين الفقهية: ص 446، مغني
المحتاج: 132/ 3، 134، غاية المنتهى: 8/ 3، كشاف القناع: 179/ 2،14/ 5،
الأذكار للنووي: ص 148 - 150، الدرر المباحة في الحظر والإباحة للشيباني: ص
36 ومابعدها.
(2) رواه الموطأ والترمذي والنسائي عن أميمة بنت رقيقة (جامع الأصول: 168/
1).
(4/2657)
ومتى جاز المس، جاز سفر الرجل مع المرأة،
ويخلو بها إذا أمن على نفسه وعليها، فالخلوة بالمحرم مباحة إلا الأخت
رضاعاً والصهرة الشابة. ومتى حرم المس حرم السفر والخلوة، فلا يجوز أن يخلو
رجل بامرأة ليست زوجته ولا ذات محرم منه، ولا السفر معها، لقوله صلّى الله
عليه وسلم: «لا تسافر المرأة فوق ثلاث، إلا ومعها زوجها، أو ذو رحم محرم
منها» (1) وقوله: «ألا لا يخلون رجل بامرأة، إلا كان ثالثهما الشيطان،
عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين
أبعد» (2).
وكل ما حرم نظره متصلاً، حرم نظره منفصلاً، ولو بعد الموت، كشعر عانة
(عورة) ولو من رجل، وشعر رأس امرأة، وعظم ذراع حرة ميتة وساقها، وقلامة ظفر
رجلها دون يدها عند الحنفية، ولو من يديها عند الشافعية، فيندب مواراة ذلك
لئلا ينظر إليه أحد، ويستثنى ما تناثر في الحمامات من امتشاط شعور النساء،
وحلق عانات الرجال.
ووصل الشعر بشعر الآدمي حرام ـ كما
سأبين ـ سواء أكان شعر المرأة أم شعر غيرها، لما فيه من التزوير، ولقوله
صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة،
والنامصة والمتنمصة» (3).
_________
(1) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري. وفي لفظ للبخاري: ثلاثة أيام، وأخرج
الشيخان عن أبي هريرة: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر
مسيرة يوم وليلة، إلا مع ذي محرم عليها» (نصب الراية: 249/ 4).
(2) روي من حديث عمر، وابن عمر، وجابر بن سمرة، وعامر بن ربيعة. وحديث عمر
رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب (نصب الراية: 249/ 4 ومابعدها).
(3) فيه أحاديث كثيرة منها ما هو متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن عمر،
وأسماء وعائشة (نيل الأوطار: 190/ 6) والنامصة: التي تنتف الشعر من الوجه،
والمتنمصة: التي يفعل بها ذلك. وهو محمول على ما لا ضرورة إليه لما في نتفه
بالمنماص (المنقاش) من الإيذاء. جاء في تبيين المحارم: إزالة الشعر من
الوجه حرام إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب فلا تحرم إزالته، بل تستحب.
وفي التتارخانية: لا بأس بأخذ الحاجبين وشعر وجهه ما لم يشبه المخنث (رد
المحتار: 264/ 5).
(4/2658)
وحيث منع النظر منعت المجالسة والمواكلة
إلا لضرورة (1).
وأما إعفاء اللحية: فلا شك بأنه سنة
مطلوبه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، أحْفُوا الشوارب،
وأوفوا اللِّحى»، «جُزُّوا الشوارب وأرْخُوا اللحى، خالفوا المجوس» وروت
عائشة: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك ... » الحديث،
وعن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه أمر بإحفاء الشوارب،
وإعفاء اللحية» (2).
ومعنى إحفاء الشوارب: قص ما طال على الشفتين، حتى يبين بياضهما.
ومعنى إعفاء اللحية: توفيرها، خلافاً لما كان من عادة الفرس من قص اللحية،
فنهى الشرع عن ذلك.
وقد حرم المالكية والحنابلة حلقها، واعتبر الحنفية حلقها مكروهاً تحريمياً،
والمسنون في اللحية هو القبضة، وأما الأخذ منها دون ذلك أو أخذها كلها فلا
يجوز (3). وقال الشافعية بكراهية حلقها، فقد ذكر النووي أن العلماء ذكروا
عشر خصال مكروهة في اللحية، بعضها أشد من بعض، منها حلقها إلا إذا نبت
للمرأة لحية، فيستحب لها حلقها (4).
وأما خصال الفطرة العشر (5) فهي بمقتضى
حديث عائشة السابق: قص
_________
(1) راجع القوانين الفقهية: ص 446 ومابعدها، مغني المحتاج: 135/ 4.
(2) روى مسلم في صحيحه هذه الأحاديث، الأول عن ابن عمر، والثاني عن أبي
هريرة، والثالث عن عائشة، والرابع عن ابن عمر (شرح مسلم:147/ 3).
(3) الدر المختار: 155/ 2.
(4) شرح مسلم: 149/ 3، نيل الأوطار: 116/ 1.
(5) وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد (حلق
العانة)، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط».
(4/2659)
الشارب وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق
الماء، وقص الأظفار، وغسل البَرَاجم (1)، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص
الماء (الاستنجاء)، والمضمضة، والختان وكونه العاشر أولى، كما في رواية أبي
هريرة.
وأما المضاجعة: فلا يجوز أن يجتمع رجل وامرأة غير زوجته في مضجع واحد، لا
متجردين، ولا غير متجردين، ولا يجوز أن يجتمع رجلان ولا امرأتان في مضجع
واحد، وقد نهي عن المكامعة أو المكاعمة ومعناها
المضاجعة التي لا ستر بينهما (2). وقد حرم الشافعية تلك المضاجعة
بين رجلين أو امرأتين عاريين في ثوب واحد.
ويجب التفريق بين الصبيان أو البنات في المضاجع بين ابن عشر سنين وإخوته
وأخواته لخبر: «مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم
أبناء عشر، وفرقوا بينهم بالمضاجع» (3).
وتسن مصافحة الرجلين والمرأتين لقوله عليه السلام فيما يرويه الطبراني
والبيهقي: «إن المؤمن إذا لقي المؤمن، فسلم عليه وأخذ بيده، فصافحه، تناثرت
خطاياهما، كما يتناثر ورق الشجر». ولخبر: «ما من مسلمين يلتقيان يتصافحان
إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا» (4) والسنة في المصافحة بكلتا يديه. قال
النووي في الأذكار: اعلم أن المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده
الناس من المصافحة بعد صلاة الصبح والعصر، فلا أصل له في الشرع على هذا
الوجه،
_________
(1) البراجم: هي عُقد الأصابع ومفاصلها كلها، ويلحق بها معاطف الأذن وداخل
الأنف وأي موضع من البدن عليه وسخ مجتمع.
(2) روه ابن أبي شيبة عن عامر الحجري (نصب الراية: 257/ 4).
(3) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو، وهو حديث صحيح.
(4) رواه أبو داود والترمذي عن البراء (نصب الراية: 260/ 4).
(4/2660)
ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة،
وتقييدها بما بعد الصبح والعصر عادة كانت في زمانه، وإلا فعقب الصلوات كلها
كذلك. والراجح عند الحنفية جواز المصافحة مطلقاً ولو بعد الصلوات. وكره بعض
الحنفية المصافحة بعد الصلاة.
وتكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص (1).
ويكره تحريماً عند الحنفية تقبيل الرجل
فم الرجل، أو يده، أو شيئاً منه. وكذا تقبيل المرأة المرأة عند لقاء أو
وداع، إذا كان عن شهوة، أما لو كان على وجه البر، فجائز.
وتكره عند الشافعية المعانقة والتقبيل في الرأس، ولو كان أحدهما أو كلاهما
صالحاً، للنهي عن ذلك في حديث رواه الترمذي، إلا لقادم من سفر، أو تباعُد
لقاء عرفاً، فيكون سنة؛ لحديث رواه الترمذي أيضاً.
ويكره حني الظهر مطلقاً لكل أحد من
الناس، ويحرم تقبيل الأرض بين يدي العلماء والعظماء. ولا بأس بتقبيل يد
العالم والسلطان العادل، وتقبيل رأس العالم أجود.
ويسن القيام لأهل الفضل من علم أو صلاح أو شرف، أو نحو ذلك إكراماً، لا
رياء وتفخيماً، قال النووي في الروضة: قد ثبت فيه أحاديث صحيحة.
_________
(1) انظر الدرر المباحة في الحظر والإباحة: ص 42 ومابعدها، مغني المحتاج:
135/ 3، تكملة الفتح: 120/ 8، شرح الرسالة: 393/ 2، الدر المختار: 269/ 5 -
271.
(4/2661)
رابعاً ـ اللهو: اللعب: أـ يحرم بالاتفاق
كل لعب فيه قمار (1): وهو أن يغنم أحدهما، ويغرم الآخر، لأنه من الميسر أي
القمار الذي أمر الله باجتنابه في قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر
والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه} [المائدة:90/ 5]. ومن
تكرر منه ذلك سقطت عدالته، وردت شهادته.
وإن أخرج أحدهما مالاً على أنه إن غلب، أخذ ماله، وإن غلبه صاحبه، أخذ
المال، لم يصح العقد؛ لأنه ليس من آلات الحرب، فلا يصح بذل العوض فيه، ولا
ترد به الشهادة، لأنه ليس بقمار، كما أبنت معناه.
ب ـ وما خلا من القمار، وهو اللعب الذي
لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما، فمنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح،
لكن لا يخلو كل لهو غير نافع من الكراهة؛ لما فيه من تضييع الوقت والانشغال
عن ذكر الله وعن الصلاة وعن كل نافع مفيد.
النرد: يحرم اللعب بالنرد، وترد به
الشهادة. وعبر عنه الحنفية: بالمكروه تحريماً بحسب اصطلاحهم في كون دليل
الحكم فيه ظنياً، لما روى أبو موسى الأشعري: «من لعب بالنرد فقد عصى الله
ورسوله» (2) وروى بريدة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من لعب
بالنردشير، فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه» (3).
_________
(1) انظر البدائع:127/ 5، تكملة الفتح: 132/ 8، القوانين الفقهية: ص 194،
شرح الرسالة: 417/ 2،420، الشرح الكبير مع الدسوقي: 198/ 1 ومابعدها،
المهذب: 325/ 2 - 328، المغني: 170/ 9 - 176، الدر المختار: 279/ 5، 337/
3، الفتاوى الهندية: 363/ 5، تبيين الحقائق: 13/ 6 ومابعدها.
(2) رواه أحمد وأبو داود ومالك (المنتقى على الموطأ: 278/ 7، نيل
الأوطار:94).
(3) رواه أبو داود، ولمسلم: «من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم
خنزير ودمه» (نصب الراية: 274/ 4).
(4/2662)
فمن تكرر منه اللعب به، لم تقبل شهادته،
سواء لعب به قماراً أو غير قمار. وهذا باتفاق المذاهب الأربعة، لأنه إن لم
يقامر، فهو عبث ولهو، وقال عليه السلام: «كل شيء ليس من ذكر الله، فهو لهو،
ولعب، أو: وهو سهو ولغو، إلا أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأدي الرجل
فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلم الرجل السباحة» (1) وقال صلّى الله
عليه وسلم: «لست من دَد، ولا الدَّد مني» (2).
ويحرم اللعب بالأربعة عشر؛ لأن المعول فيها على ما يخرجه الكعبان (3) فشابه
الأزلام والنرد، لكن الحقيقة أن تحريم النرد (أي الطاولة) هو لأنه اللعب
الذي كان يدور عليه قمار أهل فارس.
الشطرنج: ويحرم عند الجمهور غير
الشافعية أيضاً الشطرنج، قال علي رضي الله عنه: الشطرنج من الميسر. ومرّ
علي رضي الله عنه بقوم يلعبون الشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم
لها عاكفون؟
وقال الشافعية: يكره اللعب بالشطرنج، لأنه لعب لا ينتفع به في أمر الدين،
ولا حاجة تدعو إليه، فكان تركه أولى. ولا يحرم، لأنه روي اللعب به عن ابن
عباس وابن الزبير، وأبي هريرة، وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم، إذ لم يرد
نص بتحريمه، ولا هو في معنى المنصوص عليه، والأصل في الأشياء الإباحة.
وقيل: فيه تشحيذ الخواطر، وتذكية الأفهام.
_________
(1) أخرجه النسائي من حديث جابر بن عبد الله، وفيه أحاديث أخرى عن عقبة بن
عامر، وأبي هريرة، وعمر بن الخطاب. والمشي بين الغرضين أو الهدفين أي تعلم
الرماية (نصب الراية: 273/ 4 ومابعدها).
(2) روي من حديث أنس، ومعاوية بن أبي سفيان، روى الأول البخاري وغيره، وروى
الثاني الطبراني (تخريج أحاديث التحفة: 4697/ 3). والدد: اللعب.
(3) الكعاب: هي فصوص النرد.
(4/2663)
وإن كان على عوض من الجانبين أو من جانب
واحد يأخذه الغالب من المغلوب، فهو حرام، كما ذكرت في بدء بحث اللهو.
الغناء وآلاته: قال بعض الحنفية وبعض
الحنابلة: يحرم الغناء وسماعه من غير آلة مطربة، لما روى ابن مسعود أن
النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب» (1).
وقال بعض آخر من الحنفية والحنابلة، والمالكية: يباح الغناء المجرد من غير
كراهة. ويظهر أن رأي هذا البعض هو الراجح.
وقال الشافعية: يكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة، ولا يحرم، لما روي عن
عائشة رضي الله عنها، قالت: «كانت عندي جاريتان تغنيان، فدخل أبو بكر،
فقال: مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: دعهما، فإنها أيام عيد» (2). وقال عمر: الغناء زاد
الراكب. والخلاصة: أن الغزالي في بعض تآليفه نقل الاتفاق على حل مجرد
الغناء من غير آلة (3).
وأما الآلات: فيحرم في المشهور من المذاهب الأربعة (الحنفية والمالكية
والشافعية والحنابلة) استعمال الآلات التي تطرب كالعود والطنبور والمعزفة
والطبل والمزمار والرباب وغيرها من ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها
(4).
_________
(1) الصحيح أنه من قول ابن مسعود (المغني: 175/ 9).
(2) متفق عليه.
(3) نيل الأوطار:101/ 8، الإحياء: 238/ 2 ومابعدها.
(4) انظر بحث السماع في الإحياء للغزالي: 237/ 2 - 268 ويلاحظ أن الغزالي
أباح سماع القضيب والطبل والدف وغيره، ولم يستثن إلا المعازف والأوتار
والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها، لا للذتها، مثل البَرْبَط
والطُنبُور. وانظر أيضاً نيل الأوطار: 100/ 8 - 105، الشرح الصغير وحاشية
الصاوي: 502/ 2 ومابعدها.
(4/2664)
فمن أدام استماعها، ردت شهادته، لقوله صلّى
الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخمر والخنازير والخز
والمعازف» (1) وفي لفظ: «ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها،
يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم
القردة والخنازير» (2).
واستدلوا على تحريم المعازف من القرآن بقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري
لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} [لقمان:6/ 31] قال ابن عباس: إنها الملاهي.
وبالمعقول: وهو أن هذه الآلات تطرب، وتدعو إلى الصد عن ذكر الله تعالى وعن
الصلاة، وإلى إتلاف المال، فحرمت كالخمر.
ويكره عند الشافعية والحنابلة القضيب الذي يزيد الغناء طرباً، ولا يطرب إذا
انفرد، لأنه تابع للغناء، فكان حكمه حكم الغناء، أي أنه مكروه إذا انضم
إليه محرم أو مكروه كالتصفيق والغناء والرقص. وإن خلا عن ذلك لم يكره، لأنه
ليس بآلة ولا يطرب، ولا يسمع منفرداً بخلاف الملاهي.
وأباح مالك والظاهرية وجماعة من الصوفية السماع ولو مع العود واليراع. وهو
رأي جماعة من الصحابة (ابن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير،
ومعاوية، وعمرو بن العاص وغيرهم) وجماعة من التابعين كسعيد بن المسيب.
وأما الرقص الذي يشتمل على التثني والتكسر والتمايل والخفض والرفع بحركات
موزونة فهو حرام ومستحله فاسق.
_________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه ابن ماجه (نيل الأوطار في الحديثين: 96/ 8) وروى الترمذي حديثاً
عن علي: «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، وفيه: وشربت الخمور،
ولبست الحرير، واتخذت القيان والمعازف» لكنه حديث غريب، (نيل الأوطار: 99/
8).
(4/2665)
وأما اللعب
المباح: فهو ـ كما سأبين في بحث السبق ـ المسابقة المشروعة بالخيل
وغيرها من الحيوانات، أو التدرب على السلاح. ويجوز ذلك على عوض من غير
المتسابقين، أو من واحد منهما يأخذه السابق.
ويجوز الغناء المباح وضرب الدف (1) في العرس والختان، لقوله صلّى الله عليه
وسلم: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغربال». (2)
وتحرم الأغاني المهيجة للشرور المشتملة على وصف الجمال والفجور ومعاقرة
الخمور في الزفاف وغيره، ويحرم كل الملاهي المحرمة (3).
وحكى الرُوياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف، وهو
مذهب الظاهرية. ولا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود (4)، وبه قال بعض
الشافعية. ودليلهم على الإباحة: أنه لم تصح عندهم أحاديث المنع. قال
الفاكهاني: لم أعلم في كتاب الله، ولا في السنة حديثاً صحيحاً في تحريم
الملاهي، وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس بها، لا أدلة قطعية (5).
وأقول: إن الأغاني الوطنية أو الداعية إلى فضيلة، أو جهاد، لا مانع منها،
بشرط عدم الاختلاط، وستر أجزاء المرأة ما عدا الوجه والكفين. وأما الأغاني
المحرضة على الرذيلة فلا شك في حرمتها، حتى عند القائلين بإباحة الغناء،
وعلى التخصيص منكرات الإذاعة والتلفاز الكثيرة في وقتنا الحاضر.
_________
(1) وهو المدور من وجه واحد كالغربال. وأما المدور من وجهين وهو المزهر
ففيه عند المالكية أقوال ثلاثة: الجواز، والمنع، والكراهة.
(2) رواه ابن ماجه عن عائشة (نيل الأوطار: 187/ 6).
(3) نيل الأوطار: 188/ 6.
(4) نيل الأوطار: 100/ 8 - 150.
(5) نيل الأوطار: 104/ 8.
(4/2666)
ولا شك بأن الامتناع عن السماع في الوقت
الحاضر أولى؛ لأن في ذلك شبهة؛ والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به
الحديث الصحيح، ومن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن حام حول الحمى
يوشك أن يقع فيه، ولاسيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود والخدود، والجمال
والدلال، والهجر والوصال، ومعاقرة الراح (الخمر)، كما ذكر الشوكاني (1).
ولا بأس بسماع الموسيقا لعلاج بعض الأمراض النفسانية، أو العصبية.
ضابط ما يجوز وما يحرم من اللهو واللعب عند الشافعية:
الضابط المميز للهو واللعب عند الشافعية: هو أن كل ما لا يترك أثراً نافعاً
فهو مباح، وكل ما يترك أثراً ضاراً فهو حرام.
وأساس التفرقة في أنواع اللعب: هو أن ما يقوم على تشغيل الذهن وتحريك الفكر
كالشطرنج فهو مكروه، وكل ما يقوم على المصادفة وحجب الفكر والعقل كالنرد
فهو حرام.
وعلى هذا يكون الاسترسال في مجالس اللهو والمزاح مكروهاً، فإن انضم إليه
الكذب أو التهاون في الأخلاق فهو حرام.
وتكون مجالس الغناء المقرونة بالآلات الموسيقية حراماً، والشطرنج مكروه
لأنه رياضة للذهن، فإن فوت الواجبات الدينية فهو حرام، ولعب الشدَّة أو
الورق مكر وه لأنه يلهي عن ذكرالله ويصبح حراماً إن كان على شرط المال.
والنرد حرام ولو بغير قمار أو عوض مالي لاعتماده على المصادفة، وذلك يترك
أثراً ضاراً في النفس؛ لأنه يجعل العقل يتخيل كون المصادفة مؤثرة في أعمال
الحياة.
_________
(1) نيل الأوطار: 105/ 8.
(4/2667)
وتحريش الديكة على بعضها، ودفع المواشي إلى
التناطح ومصارعة الثيران والمصارعة الحرة والملاكمة ونحوها حرام، لما تحدثه
من أضرار في حياة الإنسان أو الحيوان، فإن لم يكن في الملاكمة أو المصارعة
ضرر بأحد الطرفين كانت مباحة، وكذلك تباح إن كان فيها تعويد الإنسان على
القوة والقتال والدفاع عن النفس، وقد صارع رسول الله صلّى الله عليه وسلم
رُكانة وغلبه (1).
فإن كان اللهو على مال مشروط من أحد الطرفين أو من الطرفين أو من أجنبي
عنهما فهو حرام؛ لأنه من الميسر الذي يحرم تعاطيه.
وأما ما رواه أبو داود في مراسيله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صارع
ركانة إذ كان مشركاً، على شياه» فهذا كان في الجاهلية قبل إسلام ركانة، وقد
رد النبي صلّى الله عليه وسلم الشياه الثلاث على ركانة قائلاً له: «ما كنا
لنجمع عليك أن نصرعك فنغرمك، خذ غنمك».
ويكره اللعب بالحمام عند جماعة من العلماء لأنه من اللهو الذي لم يؤذن فيه،
وربما يكون حراماً؛ لما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة: أن
النبي صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حمامة، فقال: «شيطان يتبع
شيطانة».
الحداء والشعر: وأما الحداء وهو الإنشاد
الذي تساق به الإبل، فمباح، لا بأس في فعله واستماعه. وقد أقره النبي صلّى
الله عليه وسلم، كما أقر نشيد الأعراب. فيجوز سائر أنواع الإنشاد ما لم
يخرج إلى حد الغناء، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يسمع إنشاد الشعر،
فلا ينكره (2).
ويجوز قول الشعر، لأنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلم شعراء منهم حسان وكعب
بن مالك وعبد الله بن رواحة، وقد مدحوه، وأعطى الرسول بردة كانت عليه كعب
بن زهير لما أنشده القصيدة اللامية: بانت سعاد.
_________
(1) رواه أبو داود.
(2) راجع المهذب: 327/ 2 ومابعدها، المغني: 176/ 9، الإحياء: 109/ 3.
(4/2668)
وحكم الشعر حكم الكلام في حظره وإباحته،
وكراهيته واستحبابه ورد الشهادة به، فحسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه، قال النبي
صلّى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكماً» (1) وقال أيضاً: «الشعر بمنزلة
الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام» (2).
تلحين القرآن: لا بأس بقراءة القرآن من
غير تلحين. والأفضل تحسين الصوت بالقرآن، لقوله صلّى الله عليه وسلم:
«زينوا القرآن بأصواتكم» أو «زينوا أصواتكم بالقرآن» (3).
أما القراءة بالتلحين: فإن لم يفرط في التمطيط والمد وإشباع الحركات، فلا
بأس به لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قد قرأ ورجَّع ورفع صوته. فإن جاوز
الحد في التطويل وإدغام بعضه في بعض، كان مكروهاً (4).
خامساً ـ التصوير: التصوير في أصل اللغة العربية: معناه الإنشاء والترتيب
والتمييز، ومنه «المصوِّر» أحد أسماء الله تعالى: وهو الذي صوَّر جميع
الموجودات ورتَّبها، فأعطى كلَّ شيء منها صورة خاصة، وهيئة منفردة يتميز
بها على اختلافها وكثرتها (5). ومنه قوله تعالى: {ثم صوَّرناكم}
[الأعراف:7/ 11] {وصوَّركم
_________
(1) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس بلفظ: «إن من البيان سحراً، وإن من
الشعر حكماً.
(2) رواه البخاري في الأدب والطبراني في الأوسط عن ابن عمرو، ورواه أبو
يعلى عن عائشة (الفتح الكبير).
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن البراء
بن عازب (الجامع الصغير).
(4) المهذب:328/ 2، المغني: 179/ 9 ومابعدها.
(5) النهاية لابن الأثير 58/ 3.
(4/2669)
فأحسن صوركم} [التغابن:3/ 64] {في أي صورة
ما شاء ركَّبك} [الانفطار:8/ 82] {هو الذي يصوِّركم في الأرحام} [آل
عمران:6/ 3]. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «خلق الله آدم على صورته،
وطوله ستون ذراعاً» (1). قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: فالصورة:
أراد بها ما خُصَّ الإنسان بها من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، وبها
فضَّله على كثير من خلقه (2).
وكان التصوير الموجود في عهد النبوة الذي اتجه إليه النهي والتحريم هو الذي
توافر فيه صفات ثلاث: صورة ماله روح من الإنسان والحيوان، وقصد التعظيم،
ومضاهاة أو محاكاة خلق الله تعالى وفعله. والحكمة من التحريم: منع التشبه
بعبادة الأوثان والأصنام، ومحاربة الشرك، وتوفير التعظيم لله وحده.
وأهم الأحاديث الواردة في التصوير ما
يلي:
1ً
- حديث امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه
كلب أو تصاوير: أخرج مسلم عن ابن عباس يقول: سمعت أبا طلحة يقول:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب
ولا صورة» أي ملائكة الرحمة والتبريك والاستغفار. أما الحفظة فيدخلون في كل
بيت، ولا يفارقون بني آدم في كل حال؛ لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم
وكتابتها. قال العلماء: سبب امتناعهم من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة،
وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى. وأما الكلب فلكثرة أكله النجاسات (3).
_________
(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة، والمعنى: خلق الله آدم على
صورة آدم التي كان عليها من مبدأ فطرته إلى موته، لم تتفاوت قامته ولم
تتغير هيئته بخلاف بنيه، فإن كلاً منهم يكون نطفة ثم مضغة ثم عظاماً
وأعصاباً، ثم يمر بأطوار الطفولة والبلوغ والشباب والشيخوخة.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص297.
(3) شرح مسلم للنووي 14/ 84.
(4/2670)
وقال الخطابي: وإنما لا تدخل الملائكة
بيتاً فيه كلب أو صورة: مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، فأما ما ليس
بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة
وغيرهما، فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه.
2ً
- حديث القرام: أخرج مسلم أيضاً عن
عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا متسترة بِقرَام
(1) فيه صورة، فتلوَّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: «إن من أشد
الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُشَبِّهون بخَلْق الله» (2) وهذا الحكم
المتعلق بالقرام كان في أول الأمر، ثم رُخِّص فيه بعدئذ، بدليل رواية أخرى
كما ذكرها مسلم لخالد الجهني فيها زيادة: «إلا ما كان رقماً في ثوب» وكذلك
رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) في حديث أبي طلحة: «إلا رقماً في ثوب».
ويؤيد الترخيص المتأخرحديث آخر: هو ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت: «كان لنا
ستْر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله صلّى
الله عليه وسلم: حوِّلي هذا، فإني كلما دخلت فرأيته، ذكرت الدنيا» قالت:
وكانت لنا قطيفة كنا نقول: عَلَمُها حرير، فكنا نَلْبَسُها. قال الطحاوي:
إنما نهى الشارع أولاً عن الصور كلها، وإن كانت رقماً؛ لأنهم كانوا حديث
عهد بعبادة الصور، فنهى عن ذلك جملة، ثم لما تقرر نهيه عن ذلك، أباح ما كان
رقماً في ثوب للضرورة إلى اتخاذ الثياب، وأباح ما يمتهن؛ لأنه يأمن على
الجاهل تعظيم ما يمتهن، وبقي النهي فيما لا يمتهن.
3 ً - حديث النُّمرقة (3): أخرج مسلم عن عائشة: «أنها اشترت نمرقة فيها
تصاوير، فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قام على الباب، فلم
يدخل، فعَرَفتُ ـ أو
_________
(1) القرام: الستر الرقيق كالشراشف الحالية والبطانيات.
(2) شرح المسلم 14/ 87 وما بعدها.
(3) النُّمُرقة: الوسادة الصغيرة.
(4/2671)
فعُرفت ـ في وجهه الكراهية، فقالت: يا رسول
الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلّى الله
عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتُها لك تقعُد عليها
وتوَسَّدها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور
يعذَّبون، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم». ثم قال: «إن البيت الذي فيه الصور
لا تدخله الملائكة» (1). وهذا واضح الدلالة في أن التحريم منصب على
المصورين الذين يصورون صور الأجسام ذات الروح إذا كانت بحالة يضاهى بها خلق
الله.
4ً
- تحدي المصورين: أخرج مسلم عن أبي
زُرعة قال: دخلت مع أبي هريرة في دار مروان، فرأى فيها تصاوير، فقال: سمعت
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «ومن أظلم ممن ذهب
يخلُق خلقاً كخَلْقي، فليخلُقوا ذَرَّة، أو ليخلقوا حبَّة أو ليخلقوا
شعيرة» (2).
5 ً - أخرج البخاري «أن النبي لمصلّى الله عليه وسلم يكن يترك في بيته
شيئاً فيه تصاليب (3) إلا نفضه».
آراء العلماء في التصوير:
قال النووي مبيناً آراء العلماء (4): تصوير صورة الحيوان حرام شديد
التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في
الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه
مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو
فلس أو إناء أو حائط أو غيرها.
_________
(1) شرح المسلم 14/ 89 وما بعدها.
(2) المرجع السابق: 14/ 93 وما بعدها.
(3) التصاليب: صور الصليب.
(4) شرح مسلم، المرجع السابق: 14/ 81 وما بعدها.
(4/2672)
وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير
ذلك مما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام. هذا حكم التصوير نفسه.
وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان، أي تعليقه ونصبه في المنازل وغيرها، فإن
كان معلقاً على حائط أو ثوباً ملبوساً أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد
ممتهناً، فهو حرام.
وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن، فليس بحرام، ولافرق
في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له. وهذا رأي الشافعية وجماهير العلماء
من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم.
ووجود الصور يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت إذا كان فيه كلب أو صورة
مما يحرم اقتناؤه من الكلب والصور، دون غيره مما ليس بحرام من كلب الصيد
والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما، فلا يمتنع
دخول الملائكة بسببه، كما تقدم بيانه.
وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصورالتي ليس لها ظل،
قال النووي: وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلّى الله عليه
وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث
المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك
استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقماً في ثوب أوغير
رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن، عملاً بظاهر
الأحاديث، لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم. قال النووي: وهذا مذهب
قوي.
(4/2673)
وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقماً في
ثوب، سواء امتهن أم لا، وسواء علق في حائط أم لا، وكرهوا ما كان له ظل، أو
كان مصوراً في الحيطان وشبهها، سواء كان رقماً أو غيره. واحتجوا بحديث «إلا
ما كان رقماً في ثوب» وهذا مذهب القاسم بن محمد.
وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره. قال القاضي عياض: إلا ما ورد
في اللعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك.
ونقل ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري عن ابن العربي رأيه في اتخاذ الصور
قائلاً: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع. وإن
كانت رقماً فأربعة أقوال:
الأول ـ يجوز مطلقاً، عملاً بحديث: «إلا رقماً في ثوب».
الثاني ـ المنع مطلقاً.
الثالث ـ إن كانت الصورة باقية الهيئة، قائمة الشكل حرم، وإن كانت مقطوعة
الرأس أو تفرقت الأجزاء، جاز، قال ابن حجر: وهو الأصح.
الرابع ـ إن كانت مما يمتهن جاز، وإلا لم يجز.
خلاصة الرأي في التصوير:
تحرم الصور ذات الظل وكل الصور المجسَّدة والتماثيل لكل ذي روح من إنسان أو
حيوان، لإجماع العلماء على ذلك، ويحرم صنع التماثيل ونصبها في أي مكان، لما
أخرجه الشيخان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة لا تدخل
بيتاً فيه تماثيل»، وتباح صور النباتات والمناظر الطبيعية الكونية من
السماء والأرض
(4/2674)
والحدائق والجبال والبحار والأنهار،
والأشياء الجامدة من طائرات وسيارات وغير ذلك من الكائنات المخلوقة وليست
بذات روح؛ لأنها ليست مما تناولها النص النبوي بإشارة «يشبِّهون بخلق الله»
وبإشارة «يقال لهم: أحيوا ما خلقتم».
أما الصور المجسَّمة على المخاد والوسائد والستائر والبسط والفرش والبطائن
فلا مانع منها، لأنها ممتهنة. وتباح عند بعض العلماء اللوحات الزيتية ونقوش
الحيطان، والرسوم على الورق، والصور المطبوعة أو المنسوجة في الملابس
والستور، والمطرزات والموشّاة والمشغولة بأنواع الخيوط ونحو ذلك مما لا ظل
له.
وتباح صور لعب الأطفال المختلفة من أنواع الشموع والمعادن كالعرائس ونحوها،
ويجوز بيعها، لما أخرجه البخاري وأبو داود عن عائشة قالت: «كنت ألعب
بالبنات (1)، فربما دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعندي الجواري
(2)، فإذا دخل خرجن، وإذا خرج دخلن» وأخرج أبو داود والنسائي حديثاً آخر
مشابهاً لهذا الحديث، أقر فيه الرسول صلّى الله عليه وسلم ما وجده عند
عائشة من بنات لُعَب، بعد عودته من غزوة تبوك أو خيبر، قال ابن حزم: وجائز
للصبايا خاصة اللعب بالصور ولا يحل لغيرهن، والصور محرمة إلا هذا، وإلا ما
كان رقماً في ثوب.
وتباح الصور إذا كانت بحالة لا تعيش بها كمقطوعة الرأس أو الصور النصفية،
والأولى عدم إقامتها أو نصبها في أي مكان في المنزل وغيره.
قال الكاساني من الحنفية (3):وتكره (أي كراهة تحريم) التصاوير في البيوت،
لما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن سيدنا جبريل عليه الصلاة
والسلام أنه قال: «لا
_________
(1) البنات: صور للبنات تستعمل للعب والتسلية.
(2) الجواري: جمع جارية وهي الشابة الصغيرة.
(3) البدائع: 126/ 5 ومابعدها.
(4/2675)
تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة» ولأن
إمساكها تشبّه بعبدة الأوثان إلا إذا كانت على البسط أو الوسائد الصغار
التي تلقى على الأرض ليجلس عليها، فلا تكره؛ لأن دوسها بالأرجل إهانة لها،
فإمساكها في موضع الإهانة لا يكون تشبهاً بعبدة الأصنام إلا أن يسجد عليها،
فيكره لحصول معنى التشبه.
ويكره التصوير على الستور وعلى الأزر المضروبة على الحائط وعلى الوسائد
الكبار وعلى السقف؛ لما فيه من تعظيمها، فإذا لم يكن لها رأس، فلا بأس؛
لأنها لا تكون صورة، بل نقشاً، فإن قطع الرأس بأن خاط على عنقه خيطاً، فذاك
ليس بشيء؛ لأنها لم تخرج عن كونها صورة، بل ازدادت حلية كالطوق لذوات
الأطواق من الطيور. ثم المكروه أي تحريماً: صورة ذي الروح، فأما صورة مالا
روح له من الأشجار والقناديل ونحوها، فلا بأس به.
أما التصوير الشمسي أو الخيالي فهذا جائز، ولا مانع من تعليق الصور
الخيالية في المنازل وغيرها، إذا لم تكن داعية للفتنة كصور النساء التي
يظهر فيها شيء من جسدها غير الوجه والكفين، كالسواعد والسيقان والشعور،
وهذا ينطبق أيضاً على صور التلفاز وما يعرض فيه من رقص وتمثيل وغناء
مغنيات، كل ذلك حرام في رأيي.
وأما أعمال النحت والرسم للنساء العاريات التي يقوم بها طلاب كليات الفنون
الجميلة فهي من أشد المحرمات والكبائر، ولا يصح قياس الرسم على تشريح الجثث
في كليات الطب، لأن التشريح ضرورة علمية تحقق فائدة الحفاظ على حياة
الإنسان، بعكس الرسم الذي هو مجرد عمل ترفيهي كمالي، كما أن التشريح يحدث
بعد الموت، والرسم يتم في حال الحياة.
والسبب في إباحة الصور الخيالية: أن تصويرها لا يسمى تصويراً لغة ولا
(4/2676)
شرعاً، لما تقدم من بيان معنى التصوير في
عهد النبوة، ولأن هذا التصوير يعد حبساً للظل أو الصورة، مثل الصورة في
المرآة والصورة في الماء، كل مافي الأمر أن صورة المرآة أو الماء متحركة
غير ثابتة، والصور الخيالية تثبَّت بالأحماض الكيمياوية ونحوها، وهذا لا
يسمى تصويراً في الحقيقة، فإن الحمض هو المانع من الانتقال والتحرك (1).
سادساً ـ وسم الحيوان: الوسم: وضع علامة على الحيوان بالكي أو شق الأذن أو
ثقبها بمثقب. قال أهل اللغة: الوسم: أثر كية، يقال: بعير موسوم، وقد وسمه
يسمه وسماً وسمة، والمِيسَم: الشيء الذي يوسم به، وجمعه مياسم ومواسم،
وأصله كله من السمة: وهي العلامة، ومنه موسم الحج، أي معلم جمع الناس،
وفلان موسوم بالخير وعليه سمة الخير، أي علامته، وتوسمت فيه كذا، أي رأيت
فيه علامة.
وحكم الوسم يتنازعه اتجاهان:
قال أبو حنيفة: هو مكروه؛ لأنه تعذيب ومثلة، وقد نهي عن المثلة.
وذهب الجمهور: إلى جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه، وندبه في
نَعَم الزكاة والجزية، لأحاديث صحيحة صريحة ذكرها مسلم، وآثار كثيرة عن عمر
وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، ولأنها ربما شردت فيعرفها واجدها بعلامتها
فيردها، والجواب عن النهي عن المثلة والتعذيب أنه عام، وحديث الوسم خاص،
فوجب تقديمه.
_________
(1) تفسير آيات الأحكام للشيخ الأستاذ محمد علي السايس 61/ 4.
(4/2677)
وأما الأحاديث:
فمنها ما أخرجه مسلم عن هشام بن زيد قال: «سمعت أنساً يحدِّث أن أمّه حين
ولدت انطلقوا بالصبي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يُحنّكه، قال: فإذا
النبي صلّى الله عليه وسلم في مِرْبَد (1) يَسِمُ غنماً، قال شعبة: وأكثر
علمي أنه قال: في آذانها».
وفي رواية أخرى: أن هشام بن زيد قال: سمعت أنساً يقول: «دخلنا على رسول
الله صلّى الله عليه وسلم مِرْبَداً، وهو يَسِمُ غنماً، قال: أحسِبُه قال:
في آذانها (2)».
سابعاً ـ أحكام الشَّعر: تجوز إطالة شعر الرأس
وحلقه جميعه، لما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن ابن
عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى صبياً قد حلق بعض رأسه، وترك بعضه،
فنهاهم عن ذلك، وقال: احلقوا كله، أو ذروا كله» وفيه دليل على جواز حلق
الرأس جميعه، قال الغزالي: لا بأس به لمن أراد التنظيف.
ويكره القَزَع: وهو حلق رأس الصبي وترك مواضع منه متفرقة غير محلوقة
تشبيهاً بقزع السحاب، قال النووي: والقزع
حلق بعض الرأس مطلقاً، وهو الأصح.
ويجوز اتخاذ الشعر، لما روى الخمسة إلا
النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان شعر رسول الله صلّى الله عليه
وسلم فوق الوَفرة ودون الجُمَّة» (3).
ومن اتخذ شعراً يندب له ترجيله (تمشيطه)
وإكرامه، روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه
وسلم قال: «من كان له شعر فليكرمه» وفيه دلالة على
_________
(1) المربد: الموضع الذي تحبس فيه الإبل، وهو مثل الحظيرة للغنم.
(2) شرح مسلم: 98/ 14.
(3) الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز
شحمة الأذن. والجمة: دون ذلك، وهي مجتمع شعر الرأس.
(4/2678)
استحباب إكرام الشعر بالدهن والتسريح
وإعفائه عن الحلق؛ لأنه يخالف الإكرام إلا أن يطول، أخرج مالك عن عطاء بن
يسار قال: «أتى رجل النبي ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلّى
الله عليه وسلم كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته، ففعل، ثم رجع، فقال صلّى
الله عليه وسلم: أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر
الرأس (1) كأنه شيطان».
ويكره نتف الشيب، لما رواه أحمد وأبو
داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
«لا تنتفوا الشيب، فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا
كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها خطيئة» قال النووي: لو
قيل: يحرم النتف للنهي الصريح لم يبعد، وقال: ولا فرق بين نتفه من اللحية
والرأس والشارب والحاجب والعذار من الرجل والمرأة.
وأما خضاب الشعر بالأحمر والأصفر
والأسود وغير ذلك من الألوان فهو جائز، إلا عند الشافعية، فإنه يحرم الخضاب
بالسواد وقال غيرهم بالكراهة فقط، لما رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي
عن جابر بن عبد الله قال: جيء بأبي قحافة (2) يوم الفتح إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم، وكأن رأسه ثُغَامة (3)، فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: «اذهبوا به إلى بعض نسائه، فلتغيره بشيء، وجنِّبوه السواد».
وفي الحديث المتفق عليه بين أحمد والشيخين عن محمد بن سيرين قال: سئل أنس
بن مالك عن خضاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم لم يكن شاب إلا يسيراً، ولكن أبا بكر وعمر بعده خضّبا
بالحِنَّاء والكَتَم» (4).
_________
(1) الثائر: الشعث بعيد العهد بالدهن والترجيل.
(2) أبو قحافة: هو والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(3) ثغامة: قال أبو عبيد: هو نبت أبيض الزهر والثمر، يشبه بياض المشيب به.
(4) الحناء: معروف، لون صباغة أحمر فاتح، والكتَم والكُتمان، نبت يخلط
بالحناء ويخضب به الشعر، وهو النبت المعروف بالوسمة يعني ورق النيل، ورقه
كورق الآس يخضب به مدقوقاً.
(4/2679)
واختلف السلف من الصحابة والتابعين في
الخضاب وجنسه، فقال بعضهم: ترك الخضاب أفضل، لحديث في النهي عن تغيير
الشيب، ولأنه صلّى الله عليه وسلم لم يغير شيبه (1). وقال آخرون: الخضاب
أفضل، فقد خضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث الواردة في
ذلك.
ثم اختلف هؤلاء، فكان أكثرهم يخضب بالصفرة، أي الشقرة، منهم ابن عمرو وأبو
هريرة وآخرون، وروي ذلك عن علي.
وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم، وبعضهم بالزعفران.
وخضب جماعة بالسواد، روي ذلك عن عثمان والحسن والحسين ابني علي، وعقبة بن
عامر وابن سيرين وأبي بردة وآخرين (2).
والصواب جواز تغيير الشيب وجواز تركه، وجواز الخضاب بأي لون كان، مع كراهة
الخضاب بالسواد.
ويحرم كما تقدم وصل الشعر بشعر آدمي آخر
على الرجال والنساء الأيامى والمتزوجين، للتجمل وغيره، بلا خلاف، سواء كان
شعر رجل أو امرأة، وسواء شعر المَحْرم والزوج وغيرهما بلا خلاف، لعموم
الأدلة، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن
شعره وظفره وسائر أجزائه.
فإن وصلته بشعر غير آدمي: فإن كان شعراً نجساً، وهو شعر الميتة وشعر ما لا
يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته، فهو حرام أيضاً للحديث الآتي بلعن الواصلة
والمستوصلة، ولأنه حمل نجاسة في صلاتها وغيرها عمداً.
_________
(1) روي هذا عن عمر وعلي وأبي بكر وآخرين.
(2) نيل الأوطار: 118/ 1.
(4/2680)
وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي، والشعر
الصناعي: فإن لم يكن لها زوج ولا سيد، فهو حرام أيضاً، وإن كان لها زوج فإن
فعلته بإذنه جاز، وإن فعلته بغير إذنه، لم يجز، وعلى هذا يكون ارتداء
«الباروكة» جائزاً للرجل، وللمرأة بإذن زوجها.
ويجوز عند الشافعية والليث والقاضي عياض وصل الشعر بخيوط من الحرير
الملونة؛ لأنه لا يأخذ حكم الوصل، إنما هو لمجرد الزينة أو التجمل
والتحسين، وقال مالك والطبري وكثيرون: الوصل ممنوع بكل شيء، سواء وصلته
بشعر أو صوف أو خرق، لحديث جابرعند مسلم: «أن النبي
زجر أن تصل المرأة برأسها شيئاً (1)».
قال الكاساني من الحنفية: ويكره أي كراهة تحريم للمرأة أن تصل شعر غيرها من
بني آدم بشعرها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله الواصلة والمستوصلة»
ولأن الآدمي بجميع أجزائه مكرم، والانتفاع بالجزء المنفصل منه إهانة له،
ولهذا كره بيعه. ولا بأس بذلك من شعر البهيمة وصوفها؛ لأنه انتفاع بطريق
التزين بما يحتمل ذلك، ولهذا احتمل الاستعمال في سائر وجوه الانتفاع، فكذا
في التزين (2).
وأما قص المرأة شعرها فيجوز مادون
الأذن، كيلا تتشبه بالرجال، كما تقدم. ولها تسريح شعرها بمختلف التسريحات
في المنزل، وستره خارج المنزل.
_________
(1) المرجع السابق: 191/ 6 ومابعدها.
(2) البدائع: 125/ 5 ومابعدها.
(4/2681)
ثامناً ـ الوشم والنمص
والتفليج:
الوشم حرام أيضاً: وهو أن تغرز إبرة أو
نحوها في الجلد على ظهر الكف والمعصم أو الوجه أو الشفة وغير ذلك، حتى يسيل
الدم، ثم يحشى محل الغرز بكحل ونحوه، فيخضر.
والنمص: وهو نتف الشعر من الوجه حرام أيضاً إلا إذا نبت في وجه المرأة شعر
كثير كلحية وشارب، فيندب إزالتهما.
وتفليج الأسنان حرام أيضاً: وهو تفريق
ما بين مقدمة الأسنان من الثنايا والرباعيات بالمبرد ونحوه، وتحرم أيضاً
عمليات التجميل النسائية التي يراد بها تصغير المرأة الكبيرة (عمليات الشد)
روى أحمد عن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يلعن
القاشرة والمقشورة،
والواشمة والموشومة، والواصلة والموصولة» وروى أحمد أيضاً عن ابن مسعود
قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهى عن النامصة والواشرة
والواصلة والواشمة إلا من داء».
والواشرة: التي تَشِر الأسنان حتى تكون لها أشْر، أي تحديد ورقّة، تفعله
المرأة الكبير، تتشبه بالحديثة السن.
والقاشرة: التي تعالج وجهها أو وجه غيرها بالغُمرة (طلاء يتخذ من الوَرْس)
ليصفو لونها، والمقشورة: التي يفعل بها ذلك، كأنها تَقْشِر أعلى الجلد،
ويبدو ما تحته من البشرة، وهو شبيه بفعل النامصة.
والوشم والنمص والتفليج حرام على الرجال والنساء، الفاعل والمفعول به،
لورود اللعن عليه، مما يدل على تحريمه.
(4/2682)
ويصبح موضع الوشم متنجساً لانحباس الدم
فيه، فإن أمكن إزالته بالعلاج وجب، وإن لم يمكن إلا بالجرح، فإن خيف منه
الضرر أو العيب الفاحش في عضو ظاهر كالوجه والكفين، لم تجب إزالته، وتجب
التوبة منه، وإن لم يكن ضرر، لزم إزالته.
ودليل تحريم هذه الثلاثة (الوشم والنمص والتفليج): الحديث المتفق عليه بين
أحمد والشيخين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن الله الواشمات
والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيِّرات خلق الله تعالى»
وقال: «ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم». وهناك أحاديث
أخرى عن ابن عمر وغيره في الموضوع (1) ..
تاسعاً ـ الترجل والتخنث: يحرم أيضاً تشبه الرجال بالنساء في اللباس
والزينة، كالأساور والعقود (الأطواق) والأقراط، وتشبه النساء بالرجال في
الكلام، والمشي، وحلق الشعر وتكلف الخشونة والرجولة، وهن المترجلات:
المتشبهات من النساء بالرجال. ويحرم التخنث أيضاً: وهو تشبه الرجال بالنساء
في المشي والتكسر ولين الكلام ورقة الصوت والتزين بالحناء ونحو ذلك من
أنواع «المكياج» والتحمير والتبييض وتطريف الأصابع، لكن يستحب الخضاب
للنساء بالحناء ونحوه، وأما التحمير ونحوه فيجوز بإذن الزوج وفي داخل
البيت، ويحرم بغير إذن الزوج وخارج المنزل. والدليل ما أخرجه أحمد والبخاري
عن أنس قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال
بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال» وفي رواية: «لعن
_________
(1) راجع نيل الأوطار: 190/ 6.
(4/2683)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم المخنثين من
الرجال، والمترجِّلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج النبي
صلّى الله عليه وسلم فلانة، وأخرج عمر فلاناً». وأخرج أبو داود من حديث أبي
هريرة قال: «أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه
بالحناء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما بال هذا؟ قالوا: يتشبه
بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع، فقيل: يا رسول الله، ألا تقتله؟ فقال:
إني نهيت أن أقتل المصلين» (1).
عاشراً ـ السلام: السلام: هو اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه: اسم الله
عليك أنت في حفظه، كما يقال: الله يصحبك، الله معك. وللسلام أحكام هي ما
يأتي (2):
ابتداء السلام سنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أفشوا السلام بينكم» (3)
ورده من الفرد فرض عين ومن الجماعة فرض كفاية، لقوله تعالى: {وإذا حيِّيتم
بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء:86/ 4] وابتداء السلام من جماعة
سنة كفاية، والأفضل السلام من جميعهم، ولو سلم جماعة على شخص، وقصد الرد
عليهم جميعاً، جاز ذلك، وسقط الفرض في حق الجميع. ويجزئ «السلام عليكم» وفي
الرد «وعليكم السلام» ويجب زيادة الواو في رد السلام. وقال جماعة: لا تجب
وإنما تندب، وأكمله «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» وفي الرد: «وعليكم
السلام ورحمة الله وبركاته» ولكل فقرة من هذه التحية عشر حسنات. ويكره
تغيير صيغة السلام المشروعة هكذا، بمثل قول بعضهم: «سلام من الله .. » إلخ
فذلك بدعة منكرة.
_________
(1) نيل الأوطار: 193/ 6 - 194.
(2) كشاف القناع: 175/ 2 - 179.
(3) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ «لا تدخلون
الجنة حتى تؤمنوا، ولاتؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه
تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (الترغيب والترهيب: 424/ 3).
(4/2684)
ورفع الصوت بابتداء السلام سنة، ليسمعه
المسلَّم عليه سماعاً محققاً، للحديث السابق: «أفشوا السلام بينكم» وإن كان
هناك أيقاظ ونيام، خفض صوته، بحيث يسمع الأيقاظ، ولا يوقظ النيام، جمعاً
بين الفرضين.
ولو سلم على إنسان، ثم لقيه على قرب، سن أن يسلم عليه ثانياً وثالثاً وأكثر
من ذلك، لعموم حديث «أفشوا السلام».
ويسن أن يبدأ بالسلام قبل كل كلام، للخبر السابق.
ولا يترك السلام إذا كان يغلب على ظنه أن المسلَّم عليه لا يرد السلام،
لعموم «أفشوا السلام» ولا بأس بالسلام على الصبيان تأديباً لهم، ولا يجب
الرد عليهم، فإن سلم الصبي على البالغ وجب عليه الرد.
ورفع الصوت برد السلام واجب قدر الإبلاغ أو الإسماع أي للمسلِّم.
ويكره الانحناء في السلام، ويكره أن يسلم على امرأة أجنبية (غير زوجة له
ولا محرم) إلا أن تكون عجوزاً أي غير حسناء، أو ألا تشتهى لأمن الفتنة.
ويكره السلام في الحمام، وعلى من يأكل أو يقاتل لاشتغاله، وعلى تال للقرآن
وعلى ذاكر الله تعالى، وعلى ملبّ ومحدِّث (أي يحدث بحديث النبي صلّى الله
عليه وسلم)، وخطيب وواعظ، وعلى من يستمع للمذكورين من التالي ومن بعده،
وعلى مكرر فقه ومدرس في أي عمل كان، وعلى من يبحثون في العلم، وعلى من
يؤذِّن أو يقيم (1)، وعلى من هو على حاجته، ويكره أيضاً رده منه، وعلى من
يتمتع بأهله، أو مشتغل بالقضاء ونحوهم.
_________
(1) مذهب الحنابلة: لا يكره السلام على المصلي.
(4/2685)
ومن سلم في حالة لا يستحب فيها السلام مما
سبق، لم يستحق جواباً لسلامه.
ويكره أن يخص بعض طائفة لقيهم أو دخل عليهم بالسلام، وأن يقول: سلام الله
عليكم، لمخالفته الصيغة الواردة، وأن يقول: عليك سلام الله؛ لأن النبي صلّى
الله عليه وسلم كرهه.
والهجر المنهي عنه (وهو هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام) يزول بالسلام؛
لأنه سبب التحابب، فيقطع الهجر، وروي مرفوعاً: «السلام يقطع الهجران».
ويسن السلام عند الانصراف عن القوم، وإذا دخل على أهله، فإن دخل بيتاً
خالياً، أو مسجداً خالياً، قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين،
للخبر في كل ذلك.
وإذا دخل بيته، قدم رجله اليمنى، وليقل: «اللهم إني أسألك خير المولج وخير
المخرج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا» ثم
يسلّم على أهله، لخبر أبي مالك الأشعري مرفوعاً، رواه أبو داود.
المبحث الخامس ـ مسائل في البيع والتعامل:
أورد الحنفية فروعاً فقهية في المعاملات مشتملة على شبهة أو مانع شرعي أو
معصية، يحسن ذكرها باختصار:
أولاً ـ بيع السماد الطبيعي: لا بأس ببيع روث البهائم لتسميد الأرض بها،
واستكثار الريع بها، فينتفع بها، وإن كان البيع في الأصل مكروهاً؛ لأن
الروث نجس، ويكره بيع العَذِرة
(4/2686)
(رجيع الآدمي) والصحيح عند الحنفية: هو
جواز بيع المتنجس كالزيت الذي خالطته النجاسة (1).
ثانياً ـ استيفاء دين المسلم من ثمن خمر الذمي: يجوز أخذ المسلم دينه على
كافر، من ثمن خمر، أو خنزير، لصحة بيعهما من الكافر لغيره؛ لأنهما مال
متقوم في حقه، بخلاف الدين على مسلم، لا يصح أخذه من ثمن خمر أو خنزير،
لعدم صحة البيع، لكن أجاز أبو حنيفة خلافاً لصاحبيه أن يوكل المسلم ذمياً
في بيع الخمر.
وكذلك لا يجوز استيفاء الدين من كسب حرام كالمرابي والمرتشي والغصب والسارق
والمغنية. ولا يحل للورثة أيضاً أخذ الميراث من كسب حرام، وعليهم رد ما
أخذوه على أربابه إن عرفوهم، وإلا تصدقوا به؛ لأن سبيل الكسب الخبيث التصدق
به إذا تعذر الرد على صاحبه (2).
ثالثاً ـ بيع العنب للخمار: يجوز بيع العنب ممن يعلم أنه يتخذه خمراً؛ لأن
المعصية لا تقوم بعين الموجود حالة البيع، وإنما تتحقق بعد تغييره.
كذلك أجازوا بيع السلاح من أهل الفتنة، لأن المعصية تتحقق باستعماله، لا
بحالته القائمة (3)، وهو رأي الشافعي أيضاً. لكن يكره هذا البيع، لأنه تسبب
إلى
_________
(1) تكملة الفتح: 122/ 8، الدر المختار: 110/ 4 و 272/ 5، الدرر المباحة في
الحظر والإباحة: ص53.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 272/ 5 ومابعدها.
(3) المرجع السابق: 273/ 5، تكملة فتح القدير: 127/ 8.
(4/2687)
المعصية. بخلاف بيع العصير لمن يتخذه
خمراً، لأن المعصية لا تقام بعينه، بل بعد تغييره.
رابعاً ـ الإجارة للكنيسة أو حمل خمر الذمي: يجوز للشخص عند أبي حنيفة (1)
أن يؤجر نفسه أو سيارته أو دابته بأجر لتعمير كنيسة، أو لحمل خمر ذمي، لا
لعصرها؛ لأنه لا معصية في الفعل عينه، لأن عقد الإجارة على الحمل ليس
بمعصية ولا سبب لها، وإنما تحصل المعصية باختيار الشارب، وقد يكون حملها
للإراقة أو التخليل.
أما عصرها بقصد الخمرية كمعاصر الخمور في بلادنا أو في أمريكا مثلاً من
مسلم فيحرم؛ لأن المعصية في الفعل عينه. وأجاز أبو حنيفة أيضاً إجارة بيت
لاتخاذه كنيسة أو لبيع الخمر فيه في بلاد غالب أهلها أهل الذمة؛ لأن
الإجارة تقع على منفعة البيت، ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم، ولا معصية
فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر، وهو مختار فيه.
ولا تجوز تلك الإجارة في بلاد غالب أهلها الإسلام؛ لأن أهل الذمة
لايمكَّنون من اتخاذ الكنائس وإظهار بيع الخمور ونحو ذلك في الأصح.
وقال الصاحبان والأئمة الثلاثة: لا ينبغي كل تلك الإجارات، وهي مكروهة؛
لأنها إعانة على المعصية، ولأنه عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر عشرة،
وعد منها «حاملها» (2).
واعتبر أبو حنيفة الحديث محمولاً على الحمل المقرون بقصد المعصية. وعلى
_________
(1) الدر المختار: 277/ 5 ومابعدها، تكملة الفتح: 127/ 8.
(2) رواه أبو داود عن ابن عمر، وصححه ابن السكن (التلخيص الحبير:359/ 1).
(4/2688)
كل حال فرأي أبي حنيفة قياس. ورأي الصاحبين
استحسان. وهو المعول عليه في كثير من الفتاوى.
خامساً ـ بيع بناء بيوت مكة وأرضها، وإجارتها: يجوز عند الحنفية والشافعية
بلا كراهة بيع بناء بيوت مكة وأرضها؛ لأن البناء مملوك لبانيه، والأرض
مملوكة لأهلها، لظهور آثار الملك فيها، وهو الاختصاص بها شرعاً.
ويكره عند الحنفية إجارة بيوت مكة في أيام الموسم، في الحج، ويرخص لهم
الإجارة في غير الموسم، لقوله تعالى: {سواء العاكف فيه والباد} [الحج:25/
22] وهكذا كان عمر بن الخطاب ينادي أيام الموسم ويقول: يا أهل مكة، لا
تتخذوا لبيوتكم أبواباً، لينزل البادي حيث شاء، ثم يتلو الآية (1).
سادساً ـ دخول الكافر المساجد: أجاز أبو حنيفة (2) للكافر دخول المساجد
كلها، حتى المسجد الحرام من غير إذن، ولو لغير حاجة. ومعنى آية {فلا يقربوا
المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/ 9] عنده: ألا يحجوا، ولا يعتمروا
عراة بعد حج عامهم هذا، عام تسع من الهجرة، حين أمر الصديق، ونادى علي بهذه
السورة، وقال: «ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوف عريان» (3). وقد
دخل أبو سفيان مسجد المدينة لتجديد عقد صلح الحديبية، بعدما نقضته قريش،
وكذلك دخل إليه وفد ثقيف، وربط ثمامة بن اثال في المسجد النبوي حينما أسر.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 278/ 5.
(2) الدر المختار: 274/ 5، شرح السير الكبير: 93/ 1، الأشباه والنظائر لابن
نجيم: 176/ 2، أحكام القرآن للجصاص: 88/ 3.
(3) رواه الشيخان.
(4/2689)
وأجاز المالكية (1) لغير المسلم دخول الحرم
المكي، دون البيت الحرام، بإذن أو أمان. ولا يجوز عندهم مطلقاً دخول الكافر
مسجداً، ولا يمكَّن من دخوله، إلا لعذر، كالدخول للتقاضي أمام الحاكم
المسلم، قياساً على منعه من دخول المسجد الحرام؛ لأن العلة وهي النجاسة
موجودة في كل مشرك، والحرمة موجودة في كل مسجد.
وقال الشافعية والحنابلة (2): يمنع غير المسلم، ولو لمصلحة من دخول حرم
مكة، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس، فلا يقربوا
المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/ 9] وقد ورد في الأثر: «الحرم كله
مسجد» (3). ويجوز عندهم للكافر لحاجة دخول المساجد الأخرى غير المسجد
الحرام، بإذن المسلمين؛ لأن نص الآية في المسجد الحرام، والأصل في الأشياء
الإباحة، ولم يرد في الشرع ما يخالف هذا الأصل، ولأن النبي صلّى الله عليه
وسلم قدم عليه وفد أهل الطائف، فأنزلهم في المسجد قبل إسلامهم. وقال سعيد
بن المسيب: قد كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة، وهو على شركه. وقدم عمير
بن وهب، فدخل المسجد، والنبي صلّى الله عليه وسلم فيه ليفتك به، فرزقه الله
الإسلام.
سابعاً ـ الاحتكار: معناه: الاحتكار: هو
الادخار للبيع، وطلب الربح بتقلّب الأسواق، أما الادخار للقوت فليس من
الاحتكار. هذا تعريف المالكية (4).
_________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 381/ 3، الخرشي: 144/ 3، ط ثانية، أحكام القرآن
لابن العربي: 901/ 2، مذكرة تفسير آيات الأحكام للسايس: 22/ 3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 247/ 4، تفسير ابن كثير: 346/ 2، الإفصاح لابن هبيرة:
ص448، المغني: 531/ 8 - 532.
(3) قال عطاء: الحرم كله مسجد لقوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد
عامهم هذا}.
(4) المنتقى على الموطأ: 15/ 5 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 255
ومابعدها.
(4/2690)
وعرفه الحنفية (1) بقولهم: الاحتكار لغة
مصدر حكر أي حبس فهو احتباس الشيء انتظاراً لغلائه، والمراد به شرعاً: حبس
الأقوات متربصاً للغلاء. أو هو اشتراء طعام ونحوه، وحبسه إلى الغلاء أربعين
يوماً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من احتكر طعاماً أربعين ليلة، فقد برئ
من الله، وبرئ الله منه، وأيُّما أهل عَرْصة ـ بقعة ـ بات فيهم امرؤ جائع،
فقد برئت منهم ذمة الله» (2).
وعرفه الشافعية (3) بأنه: إمساك ما اشتراه وقت الغلاء ليبيعه بأكثر مما
اشتراه عند اشتداد الحاجة. بخلاف إمساك ما اشتراه وقت الرخص، لا يحرم
مطلقاً، ولاإمساك غلة ضيعته، ولا ما اشتراه في وقت الغلاء لنفسه وعياله، أو
ليبيعه بمثل ما اشتراه.
وفي كراهة إمساك ما فضل عن كفايته وكفالة عياله سنة وجهان: أوجههما ـ عدم
الكراهة، لكن الأولى بيعه.
وقال الحنابلة (4): الاحتكار المحرم ما اجتمع فيه ثلاثة شروط:
1ً - أن يكون بطريق الشراء،
لا الجلب، فلو جلب شيئان، أو أدخل من غلته شيئاً، فادخره، لم يكن محتكراً،
لقوله عليه الصلاة والسلام: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون» (5).
_________
(1) العناية شرح الهداية بهامش تكملة الفتح: 126/ 8، رد المحتار: 282/ 5،
البدائع: 129/ 5، تبيين الحقائق: 27/ 6، اللباب: 166/ 4.
(2) رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى الموصلي والحاكم والدارقطني
والطبراني وأبو نعيم عن ابن عمر (نصب الراية: 262/ 4، نيل الأوطار: 221/
5).
(3) مغني المحتاج: 38/ 2، سبل السلام: 25/ 3.
(4) المغني: 221/ 4.
(5) أخرجه ابن ماجه وابن راهويه والدارمي وعبد بن حميد وأبو يعلى الموصلي
والبيهقي عن عمر بن الخطاب (نصب الراية: 261/ 4).
(4/2691)
2ً - أن يكون
المشترى قوتاً أي من الحبوب المقتاتة ونحوها؛ لأنه مما تعم الحاجة إليه.
أما الإدام والحلواء والعسل والزيت وأعلاف البهائم، فليس فيها احتكار محرم.
3ً - أن يُضيَّق على الناس
بشرائه بأمرين: أحدهما ـ بأن يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار، كالحرمين
والثغور، أما البلاد الواسعة الكثيرة المرافق والجلب كبغداد ودمشق ومصر،
فلا يحرم فيها الاحتكار؛ لأن ذلك لا يؤثر فيها غالباً.
والثاني ـ أن يكون في حال الضيق: بأن يدخل البلد قافلة فيبادر ذوو الأموال
لشرائها، ويضيقون على الناس، وفي هذا لا فرق بين البلد الصغير والكبير. أما
الشراء في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد، فليس بمحرم.
متى يتحقق الاحتكار وما نوع المحتكَر؟ يظهر من تعاريف الفقهاء للاحتكار:
أنهم اتفقوا على أن الاحتكار يكون في حال الضيق والضرورة لا في وقت السعة،
وفي البلد الصغير عادة، ومن طريق الشراء والامتناع عن البيع مما يضر
بالناس؛ لأن في الحبس ضرراً بالمسلمين. ولا يكون محتكراً بحبس غلة أرضه بلا
خلاف لأنه خالص حقه، ولا ما جلبه من بلد آخر؛ لأن حق الناس بالموجود في
البلد، والمختار عند الحنفية قول محمد وهو إن كان يجلب منه عادة كره
تحريماً حبسه؛ لأن حق الناس تعلق به.
واتفق الفقهاء أيضاً على أن الاحتكار حرام في كل وقت في الأقوات أو طعام
الإنسان، مثل الحنطة والشعير والذرة والأرز، والتين والعنب والتمر والزبيب
واللوز ونحوها مما يقوم به البدن، لا العسل والسمن، واللحم والفاكهة.
وكذلك يحرم الاحتكار عند الحنفية والشافعية والحنابلة في طعام البهائم كتبن
وفصفصة وهي الرطبة من علف الدواب.
(4/2692)
ويحرم الاحتكار أيضاً عند المالكية وأبي
يوسف في غير الطعام في وقت الضرورة، لا في وقت السعة، فلا يجوز عندهم
الاحتكار في الطعام وغيره، من الكتان والقطن وجميع ما يحتاج إليه الإنسان،
أو كل ما أضر بالناس حبسه، قوتاً كان أو لا ولو ثياباً أو دراهم. وقال
السبكي من الشافعية: إذا كان الاحتكار في وقت قحط، كان في ادخار العسل
والسمن والشيرج وأمثالها إضرار، فينبغي أن يقضى بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار
فلا يخلو احتكار الأقوات من كراهة (1).
ويخرج الطعام من بلد إلى غيره إذا أضر بأهل البلد.
والخلاصة: إن الجمهور خصوا الاحتكار بالقوتين (قوت الناس وقوت البهائم)
نظراً للحكمة المناسبة للتحريم وهي دفع الضرر عن الناس، والأغلب في ذلك
إنما يكون في القوتين، ومنعه المالكية مطلقاً.
المدة: إذا قصرت مدة الاحتباس لا تكون
احتكاراً لعدم الضرر، وإذا طالت تكون احتكاراً لتحقق الضرر.
وقيل: يقدر طول المدة بأربعين ليلة للحديث السابق: «من احتكرطعاماً أربعين
ليلة، فقد برئ من الله، وبرئ الله منه». وقيل: بالشهر؛ لأن ما دونه قليل
عاجل، والشهر وما فوقه كثير عاجل. وقيل: المدة للمعاقبة في الدنيا، وأما
الإثم فيحل وإن قلت المدة.
حكم الاحتكار: للاحتكار أحكام أهمها ما
يأتي:
1ً - الاحتكار ممنوع: وعبر
أغلب الحنفية عن المنع بكراهته التحريمية، فقالوا: يكره الاحتكار في أقوات
الآدميين، والبهائم، إذا كان ذلك في بلد يضر
_________
(1) نيل الأوطار: 222/ 5.
(4/2693)
الاحتكار بأهله، كما يكره تلقي الركبان، أو
الجلب، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع (1). فأما إذا كان
لا يضر، فلا بأس به (2).
وعبر الكاساني في البدائع عن منع الاحتكار بالحرمة (3)، وهو متفق عليه مع
تعبير الأئمة الآخرين: الاحتكار حرام.
وأدلة التحريم أحاديث كثيرة، منها ما ذكر سابقاً في البحث، ومنها قوله صلّى
الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ» «من احتكر حُكرة يريد أن يغلي بها على
المسلمين فهو خاطئ» «من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم، كان
حقاً على الله أن يقعده بُعْظم من النار ـ مكان عظيم من النار ـ يوم
القيامة» «من احتكر على المسلمين طعامهم، ضربه الله بالجذام والإفلاس» (4).
2ً - بيع المال المحتكر:
قال الحنفية (5): يؤمر المحتكر من القاضي ببيع ما فضل عن قوته وقوت
أهله، فإن لم يفعل وأصر على الاحتكار، ورفع أمره إلى الحاكم مرة أخرى، وهو
مصر عليه، وعظه الحاكم وهدده. فإن لم يفعل ورفع إليه أمره للمرة الثالثة،
حبسه وعزره، زجراً له عن سوء صنعه، ويجبره القاضي على البيع، ويبيعه القاضي
عليه جبراً عنه إذا امتنع عن بيع طعامه بالاتفاق بين الحنفية على الصحيح،
ويكون البيع بسعر المثل.
_________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن مسعود (نيل الأوطار: 166/ 5) وأخرج
مسلم عن أبي هريرة: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب. وفي
لفظ: لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشتراه، فإذا أتى سيده السوق، فهو
بالخيار» وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس: «لا تتلقوا الركبان، ولا يبيع
حاضر لباد» (نصب الراية: 261/ 4).
(2) تكملة الفتح، الدر المختار، اللباب، تبيين الحقائق: المكان السابق.
(3) البدائع، المكان السابق.
(4) روى الأول أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن المسيب، وروى الثاني والثالث
أحمد عن معقل بن يسار، وعن أبي هريرة، وروى الرابع ابن ماجه عن عمر (نيل
الأوطار: 220/ 5).
(5) مراجعهم السابقة.
(4/2694)
وكذلك قال المالكية (1): يباع الشيء
المحتكر للمحتاج إليه بمثل ما اشتراه به، لا يزاد عنه شيء. وإن لم يعلم
ثمنه، فبسعره يوم احتكاره.
وأضاف الحنفية (2): لو خاف الحاكم على أهل بلد الهلاك، أخذ الطعام من
المحتكرين، ووزعه عليهم، حتى إذا صاروا في سعة، ردوا مثله، وذلك للضرورة،
ومن اضطر إلى مال غيره، وخاف الهلاك، تناوله بلا رضاه، ويضمن قيمته؛ لأن
الاضطرار لا يبطل حق الغير، كما أبنت.
ثامناً ـ التسعير: المبدأ الاقتصادي في الإسلام هو الحرية الاقتصادية التي
يراعي فيها المسلم حدود النظام الإسلامي، ومن أهمها العدالة والقناعة
والتزام قواعد الربح الطيب الحلال بأن كان في حدود الثلث، لقوله عليه
الصلاة والسلام: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (3).
وبناء عليه: الأصل عدم التسعير، ولا يسعر حاكم على الناس، وهذا متفق عليه
بين الفقهاء.
والتزم الشافعية والحنابلة (4) هذا الأصل، فقال الحنابلة: ليس للإمام أن
يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون. وقال الشافعية:
يحرم التسعير، ولو في وقت الغلاء، بأن يأمر الوالي السوقة ألا يبيعوا
أمتعتهم إلا بكذا،
_________
(1) المنتقى على الموطأ: 17/ 5.
(2) الدر المختار: 283/ 5، البدائع: 129/ 5.
(3) رواه الطبراني عن أبي السائب بلفظ: «دعوا الناس يصيب بعضهم من بعض،
فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه» وورد في (نيل الأوطار: 164/ 5): «دعوا
الناس يرزق الله بعضهم من بعض».
(4) مغني المحتاج: 38/ 2، المغني: 217/ 4.
(4/2695)
للتضييق على الناس في أموالهم، وذلك لا
يختص بالأطعمة. ولو سعَّر الإمام، عُزِّر مخالفه، بأن باع بأزيد مما سعر،
لما فيه من مجاهرة الإمام بالمخالفة، وصح البيع، إذ لم يعهد الحجر على
الشخص في ملكه أن يبيع بثمن معين.
وأجاز ابن الرفعة الشافعي وغيره التسعير في وقت الغلاء.
واستدل ما نعو التسعير بحديث أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلّى
الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت، فقال: إن الله هو القابض
الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل، ولا يطلبني أحد
بمَظْلَمة، ظلمتها إياه في دم، ولا مال» (1) فالنبي لم يسعر، ولو جاز،
لأجابهم إليه، وعلل بكونه مظلمة، والظلم حرام، ولأنه ماله، فلم يجز منعه من
بيعه بما تراضى عليه المتبايعان، كما اتفق الجماعة عليه، ولأن في التسعير
إضراراً بالناس، إذا زاد تبعه أصحاب المتاع، وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
وأجاز المالكية والحنفية (2) للإمام تسعير الحاجيات، دفعاً للضرر عن الناس،
بأن تعدى أصحاب السلعة عن القيمة المعتادة تعدياً فاحشاً، فلا بأس حينئذ
بالتسعير بمشورة أهل الرأي والبصر، رعاية لمصالح الناس والمنع من إغلاء
السعر عليهم، والإفساد عليهم. ومستندهم في ذلك القواعد الفقهية: (لا ضرر
ولا ضرار) و (الضرر يزال) و (يتحمل الضرر الخاص لمنع الضرر العام).
ولا يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحدده
_________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، وصححه الترمذي. وعن أبي سعيد مثله
(نيل الأوطار: 219/ 5).
(2) الدر المختار: 183/ 5، تبيين الحقائق: 28/ 6، البدائع: 129/ 5، تكملة
الفتح: 127/ 8، اللباب: 167/ 4، المنتقى على الموطأ: 17/ 5 - 19، القوانين
الفقهية: ص 255.
(4/2696)
الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه
للبائع والمبتاع، ولا يمنع البائع ربحاً، ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس.
ويجب أن يختص التسعير في قول ابن حبيب المالكي بالمكيل والموزون مأكولاً
كان أو غير مأكول، دون غيره من المبيعات التي لا تكال ولا توزن؛ لأن المكيل
والموزون من المثليات يرجع فيه إلى المثل، وغير ذلك من القيميات يرجع فيه
إلى القيمة، وتختلف أغراض الناس في الأعيان، فلا يمكن حمل الناس فيه على
سعر واحد.
وليس في التسعير مخالفة لنص الحديث السابق، وإنما هو تطبيق للنص نفسه، وفهم
اجتهادي لمناطه وحكمته في الواقع، وتفسير له بالمعنى المناسب أو المصلحة
المتبادرة إلى الفهم من ذات النص، لا من خارجه (1). فامتناع الرسول من
التسعير لا لكونه تسعيراً، وإنما لكون علة التسعير وهي ظلم التجار أنفسهم
غير متوفرة، فهم كانوا يبيعون بسعر المثل، وإنما كان ارتفاع السعر ليس من
قبل التجار، وإنما بسبب قانون العرض والطلب، فقد قل عرض البضاعة، فارتفع
السعر. ولا تسعير إذا لم تدع الحاجة إليه، بأن كانت السلع متوفرة في
الأسواق، وتباع بسعر المثل دون ظلم أو جشع (2).
_________
(1) وكذلك أجاز المالكية تلقي الركبان إذا كثرت السلع واعتدلت الأسعار،
وعلم البائع بسعر السوق، وباع بسعر المثل، أو أزيد منه. ويظل النهي عن تلقي
الركبان قائماً معمولاً به إذا تضرر أهل السوق عامة ولم تتوفر السلع لهم،
أو إذا جهل البائع نفسه بالأسعار، فتجب حينئذ رعاية المصلحة العامة، وحماية
البائع نفسه.
(2) أصول الفقه للمؤلف: 815/ 2، ط دار الفكر.
(4/2697)
|