الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّاني: الصَّيد
وفيه مباحث أربعة:
المبحث الأول ـ تعريف الصيد وحكمه أو
مشروعيته.
المبحث الثاني ـ شروط إباحة الصيد.
المبحث الثالث ـ ما يباح اصطياده من الحيوان.
المبحث الرابع ـ متى يملك الصائد المصيد؟
(4/2802)
المبحث الأول ـ تعريف الصيد وحكمه أو
مشروعيته:
تعريف الصيد: الصيد أو الاصطياد لغة: مصدر «صاد» أي أخذ، فهو صائد، وذاك
مصيد، ويسمى المصيد صيداً، ويجمع على صيود. والمصيد: هو كل حيوان متوحش
طبعاً، ممتنع عن الآدمي، مأكولاً كان أو غير مأكول، لا يمكن أخذه إلا
بحيلة.
والصيد: اقتناص حيوان حلال متوحش، طبعاً غير مملوك، ولا مقدور عليه (1).
حكم الصيد: الاصطياد مباح لقاصده
إجماعاً في غير حرم مكة وحرم المدينة، لغير المحرم بحج أو عمرة. ويؤكل
المصيد إن كان مأكولاً شرعاً (2) لقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا}
[المائدة:5/ 2] أمر بعد حظر، فيفيد الإباحة. ولقوله سبحانه: {وحرم عليكم
صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:5/ 96] {ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا
الصيد وأنتم حرم} [المائدة:5/ 95] {قل: أحل لكم الطيبات، وما علَّمتم من
الجوارح مكلِّبين} [المائدة:4/ 5].
وثبت في السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: «إن أرسلت
كلبك، وسميت، فأخذ، فقتل، فكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه»
(3).
وعن أبي قتادة: أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرأى حماراً
وحشياً، فاستوى على فرسه، وأخذ رمحه، ثم شد على الحمار، فقتله، فلما أدركوا
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، سألوه عن ذلك، فقال: «هي طُعْمة، أطعمكموها
الله» (4).
_________
(1) تبيين الحقائق: 50/ 6، اللباب: 217/ 3، كشاف القناع: 211/ 6.
(2) تبيين الحقائق: 50/ 6، المغني: 539/ 8،551 ومابعدها، الدر المختار:
328/ 5.
(3) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 134/ 8، تلخيص الحبير: 133/
4 ومابعدها).
(4) متفق عليه.
(4/2803)
وعن أبي ثعلبة الخشني، أن النبي صلّى الله
عليه وسلم قال: «ما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك
المعلم، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم، فأدركت
ذكاته، فكل» (1). وأجمع العلماء على إباحة الاصطياد، والأكل من الصيد.
ويكره الصيد لهواً، لأنه عبث لقوله عليه السلام: «لا تتخذوا شيئاً فيه
الروح غرضاً» (2) أي هدفاً «من قتل عصفوراً عبثاً، عج إلى الله يوم القيامة
يقول: يارب، إن فلاناً قتلني عبثاً، ولم يقتلني منفعة» (3). وهو حرام إن
كان فيه ظلم الناس بالعدوان على زروعهم وأموالهم؛ لأن الوسائل لها أحكام
المقاصد (4).
والصيد أفضل مأكول؛ لأنه حلال لا شبهة فيه، كما أن الزراعة أفضل مكتسب؛
لأنها أقرب إلى التوكل من غيرها، وأقرب للحل. وفيها عمل اليد، والنفع العام
للإنسان والحيوان (5).
ومما يؤكد مشروعية الصيد: أنه نوع اكتساب، وانتفاع بما هو مخلوق للإنسان،
ليتمكن من البقاء، وتنفيذ التكاليف الشرعية.
هذا وقد قسم المالكية (6) أحكام الصيد خمسة أقسام:
مباح للمعاش، ومندوب للتوسعة على العيال، وواجب لإحياء النفس عند
_________
(1) متفق عليه (نيل الأوطار: 130/ 8).
(2) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس.
(3) رواه الشافعي وأحمد والنسائي وابن حبان عن عمرو بن الشريد عن أبيه (نيل
الأوطار: 137/ 8 ومابعدها).
(4) كشاف القناع: 211/ 6.
(5) المرجع السابق.
(6) القوانين الفقهية: ص 175، الشرح الكبير: 108/ 2.
(4/2804)
الضرورة، ومكروه للهو، وحرام إذا كان عبثاً
لغير نية، للنهي عن تعذيب الحيوان لغير فائدة.
المبحث الثاني ـ شروط إباحة الصيد:
يشترط لإباحة الصيد خمسة عشر شرطاً عند الحنفية (1)، وستة عشر شرطاً عند
المالكية (2)، وأجملها الشافعية والحنابلة (3) في شروط سبعة.
وهذه الشروط هي في الصائد، وفي آلة الصيد، وفي المصيد.
ويلاحظ أن مجموع هذه الشروط هو لحالة ما يحل أكله ولم يدركه حياً، فإن
أدركه حياً وجب ذبحه، وهي شروط في صيد البر، أما صيد البحر فيجوز مطلقاً،
سواء صاده مسلم أو كافر على أي وجه كان.
المطلب الأول ـ شروط الصائد:
شروط الصائد خمسة عند الحنفية، ستة أو سبعة عند المالكية وهي:
1 - أن يكون الصائد من أهل الذكاة أي ممن تقبل تذكيته شرعاً، كما تقدم في
الذبائح وهذا شرط متفق عليه. فيجوز صيد المسلم اتفاقاً، ولا يجوز صيد
الوثني والمرتد والمجوسي والباطني اتفاقاً؛ لأن الاصطياد أقيم مقام الذكاة،
والجارحة آلة كالسكين، وعقر الصائد الحيوان بمنزلة إفراء الأوداج، ولا يجوز
صيد المجنون عند الجمهور خلافاً للشافعية؛ لأن الصائد بمنزلة المذكي فتشترط
الأهلية فيه. ويجوز
_________
(1) رد المحتار على الدر المختار: 328/ 5، تكملة الفتح: 174/ 8، 180
ومابعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 175 - 178، الشرح الكبير: 103/ 2 - 106، بداية
المجتهد: 441/ 1 - 448.
(3) مغني المحتاج: 266/ 4 ومابعدها، المهذب:253/ 1 ومابعدها، المغني: 539/
8 - 545، كشاف القناع: 214/ 6 - 225.
(4/2805)
صيد الكتابي (اليهودي والنصراني) في
المذاهب الأربعة، لكن قيد الشافعية حل اصطياده وذبحه بألا يعلم تهود آباء
اليهودي بعد مجيء الإسلام الناسخ لليهودية، وبأن يعلم تنصر آباء النصراني
قبل الإسلام. فإن كان أبو الكتابي مجوسياً وأمه كتابية، أو بالعكس، فمالك
يعتبر الوالد، والشافعي يعتبر الأم، وأبو حنيفة: يعتبر أيهما كان ممن تجوز
تذكيته، فالمتولد بين مشرك وكتابي ككتابي؛ لأنه أخف؛ لأن الولد يتبع أخف
الأبوين ضرراً.
وأحمد: يعتبر المتولد من كتابي ومشرك كولد مجوسية من كتابي مثل المشرك لا
يؤكل صيده (1).
2 - ألا يشاركه في الإرسال من لا يحل صيده: وهذا شرط اتفاق أيضاً. ويمكن
جعل الشرط الأول والثاني واحداً. ودليل هذا الشرط حديث عدي بن حاتم الذي
فيه: «ما لم يُشركها كلب ليس معها» فهو يدل على أنه لا يحل أكل ما شاركه
كلب آخر في اصطياده.
فلو شارك مجوسي مسلماً في اصطياد أو ذبح، أو اشتركا في إرسال كلبين أو
سهمين، ولم يسبق كلب المسلم أو سهمه، فجرحا المصيد، أو جهل الجارح، لم يؤكل
المصيد أو المذبوح؛ لأنه اجتمع المبيح والمحرِّم، فتغلب جهة المحرم
احتياطاً، مما يدل على أن المبدأ في الأطعمة في المذاهب الأربعة هو تغليب
التحريم (2). ويطبق ذلك أيضاً على حالة الاشتراك بين كلب معلم وغير معلم،
أو كلب لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمداً مع ما ذكر، عند الجمهور مشترطي
التسمية.
3 - أن ينوي الاصطياد أو يوجد منه الإرسال ـ إرسال الجارحة على الصيد،
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 176، الدر المختار ورد المحتار: 210/ 5، كشاف
القناع: 215/ 6.
(2) اللباب: 219/ 3 ومابعدها، الشرح الكبير: 105/ 2، مغني المحتاج: 226/ 4،
كشاف القناع: 215/ 6، المهذب: 253/ 1.
(4/2806)
وهو شرط متفق عليه، فإن استرسلت بنفسها،
فقتلت، لم يبح، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم
المتقدم: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك»،
ولأن إرسال الجارحة جعل بمنزلة الذبح، ولهذا اعتبرت التسمية معه.
وإن استرسل الجارح بنفسه، فسمى صاحبه، وزجره، فزاد في عدْوه، أبيح صيده عند
الحنابلة والحنفية؛ لأن الزجر مثل الإرسال، ولا يباح عند المالكية،
والشافعي في الأصح، لاجتماع
الإرسال بنفسه والإغراء، فغلب جانب المنع (1)، والأول أرجح في تقديري.
4 - ألا يترك التسمية عامداً، وهذا شرط عند الجمهور، وعند الشافعية ليس
بشرط، والسنة أن يسمي الصائد الله تعالى عند الرمي أو إرسال الجارح، كما
يسمي الذابح عند الذبح بأن يقول بسم الله، أو يضيف إليه: «والله أكبر»،
للحديث السابق المذكور فيه التسمية. فإن ترك القانص التسمية عمداً لم يؤكل
المصيد عند الجمهور، لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه}
[الأنعام:121/ 6] وقوله سبحانه: {فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله
عليه} [المائدة:4/ 5]. وإن ترك التسمية سهواً يؤكل المصيد عند المالكية
والحنفية، ولا يؤكل عند الحنابلة (2) بعكس الذبيحة تؤكل عندهم في حال ترك
التسمية سهواً، لقول ابن عباس: «من نسي التسمية فلا بأس». وروى سعيد بن
منصور بإسناده عن راشد بن ربيعة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يسم ما لم يتعمد». وقوله تعالى: {ولا تأكلوا
مما لم يذكر اسم الله عليه}
_________
(1) المغني: 541/ 8 ومابعدها، الشرح الكبير: 104/ 2، مغني المحتاج: 276/ 4،
تكملة الفتح: 181/ 8.
(2) المغني: 540/ 8، 565.
(4/2807)
[الأنعام:121/ 6] محمول على ما تركت تسميته
عمداً بدليل قوله: {وإنه لفسق} [الأنعام:121/ 6] والأكل مما نسيت التسمية
عليه، ليس بفسق.
وتختلف الذبيحة عن الصيد عند الحنابلة؛ لأن ذبح الصيد في غير محل، فاعتبرت
التسمية تقوية له، والذبيحة بخلاف ذلك، ويرشد إلى وجوب التسمية مطلقاً حديث
عدي بن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله، إنى أرسل كلبي، وأسمِّي، قال: إن
أرسلت كلبك، وسميت، فأخذ، فقتل، فكل، وإن أكل منه، فلا تأكل، فإنما أمسك
على نفسه. قلت: إني أرسل كلبي، أجد معه كلباً
آخر، لا أدري أيهما أخذه؟ قال: فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على
غيره» (1).
وقال الشافعية (2): يباح أكل متروك التسمية عمداً أو سهواً، في الصيد
والذبائح، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المسلم يذبح على اسم الله، سمى
أو لم يسم» (3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم
سئل، فقيل: أرأيت الرجل منا يذبح، وينسى أن يسمي الله؟ فقال: اسم الله في
قلب كل مسلم» (4).
وأما النهي في قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وإنه
_________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 134/ 8).
(2) مغني المحتاج: 272/ 4.
(3) قال عنه الزيلعي: غريب بهذا اللفظ. وفي معناه أحاديث منها حديث ابن
عباس عند الدارقطني لكن في إسناده كلام، والصحيح عند ابن حبان أنه موقوف
على ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق عن ابن عباس موقوفاً. (نصب الراية: 182/
4).
(4) أخرجه الدارقطني أيضاً، وفيه ضعيف. وعند أبي داود حديث مرسل عن الصلت
الدوسي، بلفظ «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله، أو لم يذكر». ولأحمد رواية
مثل حديث أبي هريرة (نصب الراية: 183/ 4، المغني: 540/ 8).
(4/2808)
لفسق} [الأنعام:121/ 6] فمقيد بحال كون
الذبح فسقاً، والفسق في الذبيحة مفسر في كتاب الله بما أهل لغير الله به؛
لأن جملة {وإنه لفسق} [الأنعام:121/ 6] لا تصلح أن تكون معطوفاً، للتباين
بين الجملتين، إذ الأولى فعلية إنشائية، والثانية اسمية خبرية، فتعين أن
تكون حالية.
وأما الأحاديث المطالبة بالتسمية في خبر أبي ثعلبة وعدي بن حاتم ونحوهما،
فمحمولة على الندب.
5 - ألا يشتغل الصائد بين الإرسال وأخذ المصيد بعمل آخر. وعبر المالكية عن
ذلك بقولهم: أن يتبع الصائد الصيد عند الإرسال أو الرمي.
والسبب في اشتراط هذا الشرط: أن الصائد مطالب بملاحقة المصيد، ليذبحه إن
أدركه حياً فيه روح، فإن قصر في ذلك، ومات ولم يذكه، لم يؤكل، لأنه قدر على
الذكاة الاختيارية، فلا تجزئ الذكاة الاضطرارية لعدم الضرورة.
وللفقهاء آراء في إدراك المصيد حياً، قال الحنفية (1): إن أدرك المصيد،
وكان فيه فوق حياة المذبوح، بأن يعيش مدة كاليوم أو نصفه، فوق ما يعيش
المذبوح، وترك التذكية، حتى مات، لم يؤكل؛ لأنه مقدور على ذبحه، ولم يذبح،
فصار كالميتة، والله تعالى يقول: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] ولقوله
عليه الصلاة والسلام لعدي: «إذا أرسلت كلبك، فاذكر اسم الله عليه، وإن أمسك
عليك، فأدركته حياً، فاذبحه».
أما لو أدرك به حياة مثل حياة المذبوح، فلا تلزم تذكيته، لأنه ميت حكماً،
_________
(1) تكملة الفتح: 178/ 8 ومابعدها، اللباب: 219/ 3، تبيين الحقائق: 53/ 6،
الدر المختار: 334/ 5.
(4/2809)
ولهذا لو وقع في الماء في هذه الحالة، لا
يحرم، كما لو وقع وهو ميت. ولو أدرك الصيد حياً حياة فوق ما يكون في
المذبوح، ولم يتمكن من ذبحه لفقد آلة، أو ضيق الوقت، لم يؤكل في ظاهر
الرواية، وفي رواية أخرى عن أئمة الحنفية الثلاثة: إنه يؤكل استحساناً،
وقيل: هذا أصح.
أما إن لم يتمكن من ذبحه، لعدم قدرته عليه، أي عدم ثبوت يده عليه، فمات،
أكل؛ لأن اليد لم تثبت عليه، ولم يوجد منه التمكن من الذبح.
وقال المالكية (1): إن رجع الصائد بعد الإرسال أو الرمي، ثم أدرك المصيد
غير منفوذ المقاتل، ذكاه. وإن لم يدركه إلا منفوذ المقاتل، لم يؤكل، إلا أن
يتحقق أن مقاتله أنفذت بالمصيد به.
وقال الشافعية والحنابلة (2): إن كانت حياة المصيد كحياة المذبوح، ليس فيه
حياة مستقرة، بأن شق جوفه وخرجت الحشوة، أو أصاب العقر من الكلب مقتلاً،
يباح من غير ذبح، باتفاق المذاهب؛ لأن الذكاة في مثل هذا لا تفيد شيئاً،
لكن المستحب عند الشافعية أن يمر السكين على الحلق ليريحه، وإن لم يفعل حتى
مات، حل؛ لأن عقر الكلب المرسل عليه، قد ذبحه، وبقيت فيه حركة المذبوح. وإن
كانت فيه حياة مستقرة أدركها الصائد فينظر في الأمر:
أـ إن تعذر ذبحه، بلا تقصير من الصائد، حل أكله، كأن سل السكين على الصيد،
أو ضاق الزمان فلم يتسع الوقت لذكاته، حتى مات، أو مشى له على
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 176.
(2) مغني المحتاج: 269/ 4 ومابعدها، المهذب: 254/ 1، المغني: 547/ 8
ومابعدها، كشاف القناع: 214/ 6 ومابعدها.
(4/2810)
هينته ولم يأته عدواً، أو اشتغل بتوجيهه
للقبلة أو بطلب المذبح (مكان الذبح)، أو بتناول السكين، أو منع منه سبع،
فمات قبل إمكانه الذبح، أو امتنع منه بقوته، ومات قبل القدرة عليه، فيحل في
الجميع كما لو مات، ولم يدرك حياته.
ب ـ وإن مات لتقصيره، بأن لا يكون معه سكين، أو لم تكن محددة، أو ذبح
بظهرها خطأ، أو أخذها منه غاصب، أو نشبت في الغمد (أي عسر إخراجها بأن
تعلقت في الغلاف)، حرم الصيد، للتقصير، لحديث أبي ثعلبة الخشني المتقدم أن
النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما رد عليك كلبك المكلب، وذكرت اسم الله
عليه، وأدركت ذكاته، فذكه، وكل، وإن لم تدرك ذكاته، فلا تأكل .. ».
6 - ألا يكون الصائد في صيد البر محرماً بحج أو عمرة، أما صيد البحر فحلال
للمحرم لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه، متاعاً لكم وللسيارة، وحرم
عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/ 5]. وفي حديث صحيح: «صيد البر
لكم حلال ـ وأنتم حرم ـ ما لم
تصيدوه أو يُصَد لكم» (1) وحكمة التفرقة بين نوعي الصيد كما ورد في الآية
هو توفير زاد للمسافرين والنائين عن البحر، ولأن صيد البر ترفه يتطلب مشقة
ومطاردة تصرف المحرم عما فيه من عبادة.
7 - أن يرى الصائد الصيد ويعينه أو يحس به، ويرسل كلبه المعلم على صيد،
وهذا شرط ذكره المالكية والشافعية والحنابلة (2)، ويمكن عده مع الشرط
الثالث.
_________
(1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث جابر.
(2) الشرح الكبير: 104/ 2، القوانين الفقهية: ص 176، المغني: 545/ 8، كشاف
القناع: 214/ 6، المهذب: 255/ 6، مغني المحتاج: 277/ 4.
(4/2811)
فلو علم الصائد بالصيد، ولو كان أعمى،
فأرسل كلبه أو بازه المعلم، فقتل المصيد، فإنه يؤكل، ويصح صيد الأعمى عند
المالكية والحنابلة. أما لو أرسله على صيد، وهو لا يرى شيئاً، ولا يحس به،
فأصاب صيداً، لم يبح في قول أكثر أهل العلم؛ لأنه لم يرسله على الصيد،
وإنما استرسل بنفسه.
وكذلك إن رمى سهماً لاختبار قوته أو إلى غرض، فأصاب صيداً، أو رمى به إلى
أعلى، فوقع على صيد، فقتله، لم يُبح لأنه لم يقصد برميه عيناً، كما لو نصب
سكيناً فانذبحت بها شاة. ولو أرسل الصائد الجارح في غار أو غيضة (مجتمع
شجر)، لم يعلم أن فيهما صيداً، ونوى ذكاة ما وجده فيها، أو علم فيهما
صيداً، ولم يره ببصره، فوجد صيداً، فقتله، فإنه يؤكل كما صرح المالكية،
تنزيلاً للغالب منزلة المعلوم.
واشترط الشافعية (1) أن يكون الصائد بصيراً، فلا يحل عندهم صيد الأعمى في
الأصح لعدم صحة قصده؛ لأنه لا يرى الصيد، فصار كاسترسال الكلب بنفسه، لايحل
به الصيد، ولو أرسل كلباً، وهو لا يراه صيداً، فأصاب صيداً لم يحل.
وتطبيقاً على هذه الشروط أذكر حالتين: هما حالة غيبة مصرع المصيد، وحالة
وقوعه في ماء أو ترديه من سطح بعد الصيد:
حالة غيبة المصرع: إن رمى الصائد الصيد،
فغاب عن عينه، فوجده ميتاً وليس به إلا أثر سهمه (2)، يباح أكله عند
الحنفية، والحنابلة: إن تابع طلبه والبحث عنه، أو لم يتشاغل عنه بشيء آخر.
فإن تشاغل عنه، ثم وجده، أو وجد به أثر سهم آخر، أوشك في سهمه لم يبح أكله،
لاحتمال موته بسبب آخر.
ولقول ابن
_________
(1) مغني المحتاج:266/ 4 - 267، المهذب: 255/ 1.
(2) اللباب: 220/ 3، تبيين الحقائق: 57/ 6، تكملة الفتح: 183/ 8، الشرح
الكبير: 104/ 2، 106، المهذب: 254/ 1، المغني: 553/ 8 ومابعدها، كشاف
القناع: 218/ 6، بداية المجتهد: 446/ 1، مغني المحتاج: 277/ 4، القوانين
الفقهية: ص 178.
(4/2812)
عباس: «كل ما أصميت، ودع ما أنميت» (1)
والإصماء: ما رأيته، والإنماء: ما توارى عنك، مما يدل على أن الصيد يحرم
بالتواري. ولقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عدي ابن حاتم: «إذا رميت
فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك، فكل، وإن وقع في الماء فلا
تأكل».
وقال الشافعية في الأظهر: إن جرحه جرحاً يمكن إحالة الموت عليه، وغاب، ثم
وجده ميتاً، ولم يظن أن سهمه قتله، حرم، لحديث عدي بن حاتم قال: «قلت: يا
رسول الله، إنا أهل صيد، وإن أحدنا يرمي الصيد، فيغيب عنه الليلتين
والثلاث، فيجده ميتاً، فقال: إذا وجدت فيه أثر سهمك، ولم يكن أثر سبع،
وعلمت أن سهمك قتله، فكل» (2).
وقال المالكية في المشهور: إن وجده ميتاً بعد يوم أو يومين منفوذ المقاتل
لا يؤكل لاحتمال موته بشيء من الهوام مثلاً، ولحديث مسند عن أبي رَزين وعن
عائشة، ومرسل عند أبي داود، مفاده «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كره أكل
الصيد إذا غاب عن الرامي، وقال: لعل هوام الأرض قتلته».
والخلاصة: إن الصيد الذي غاب بعد رميه، ولم يعلم أو يظن أنه مات بضربه، لا
يؤكل في المذاهب.
حالة الوقوع في الماء أو التردي من مكان عال
على الأرض: إذا رمى الصائد صيداً، فوقع في ماء أو تردى من مكان عال
كجبل أو سطح على الأرض، أو وطئه شيء فمات، لم يؤكل باتفاق المذاهب (3)، لكن
إن وقع على الأرض مباشرة،
_________
(1) رواه البيهقي موقوفاً (تلخيص الحبير: 136/ 4).
(2) رواه أحمد والبخاري (نيل الأوطار: 135/ 8 ومابعدها، جامع الأصول: 444/
7).
(3) اللباب: 220/ 3 وما بعدها، تكملة الفتح: 184/ 8، تبيين الحقائق: 58/ 6،
القوانين الفقهية: ص 178، الشرح الكبير: 105/ 2، بداية المجتهد: 446/ 1
ومابعدها، مغني المحتاج: 274/ 4، المهذب: 254/ 1، المغني:577/ 8، كشاف
القناع: 218/ 6.
(4/2813)
أكل؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه. بخلاف
الحالة المتقدمة، فإنه يمكن الاحتراز عنه، وقد اجتمع فيه سبب الحل والحرمة
معاً، فترجح جهة الحرمة احتياطاً، ولحديث عدي بن حاتم السابق: «وإن وقع في
ماء، فلا تأكل». هذا مالم يكن سهم قد أنفذ مقاتله قبل الوقوع، فإن حدث ذلك
لم يضره الغرق أو التردي.
المطلب الثاني ـ شروط آلة الصيد:
الآلة نوعان: سلاح، وحيوان.
أـ أما السلاح: فيشترط أن يكون محدداً
كالرمح والسهم والسيف والبارود ونحو ذلك. وإذا رمى الصيد بسيف أو غيره،
فقطعه قطعتين أو قطع رأسه، أكل جميعه وأكل الرأس، عند الجمهور (1)، ولا
يؤكل الجزء المبان منه إذا بقيت فيه حياة مستقرة؛ لأن «الجزء المقطوع من
الحي كميتته». ويؤكل العضو المبان إذا لم تبق فيه حياة مستقرة ومات بالجرح.
وكذلك قال الحنفية (2): إذا رمى إلى صيد، فقطع عضواً منه أكل المصيد، كوجود
الجرح، ولا يؤكل العضو المقطوع بحال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أبين
من الحي فهو ميت» (3) والمبان منه حي حقيقة لوجود الحياة. وإن قطعه الرامي
أثلاثاً أو أكثره مع عجزه، أو قطع نصف رأسه أو أكثره، أو قدَّه نصفين، أُكل
كله؛ لأن هذه الصور لا يمكن فيها وجود حياة فوق حياة المذبوح، فلم يتناولها
الحديث المذكور. أما لو كان الأكثر مع الرأس، أكل الأكثر، ولا يؤكل الأقل،
لإمكان الحياة فوق حياة المذبوح، وأما الأقل فهو مبان من الحي.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 176، 178، المغني: 556/ 8 ومابعدها، بداية
المجتهد: 447/ 1، مغني المحتاج: 270/ 4.
(2) اللباب: 222/ 3، الدر المختار: 336/ 5، تكملة الفتح: 185/ 8 ومابعدها.
(3) رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين وأحمد وأبو داود والترمذي عن ابن
عمر بلفظ «ما قطع من حي فهو ميته» أو «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة»
(نيل الأوطار: 146/ 8).
(4/2814)
ولا يجوز الاصطياد بما لايجوز التذكية به،
وهي السن والظفر والعظم على الخلاف السابق في التذكية به.
ولا يجوز الصيد بمثقل (1) كالحجر، والبندقة (طينة مدورة يرمى بها)،
والمعراض بعُرضه (سهم لا ريش ولا نصل، أو عصا محددة الرأس) إلا أن يكون له
حد، ويوقن أنه أصاب به، لا بالرض؛ لأن ما قتله بحدة بمنزلة ما طعنه برمحه،
ورماه بسهم، وما قتل بعُرْضه (جانبه) إنما يقتل بثقله، فهو موقوذ أو وقيذ
(ميت بالضرب) ولما روي أن عدي بن حاتم قال للنبي صلّى الله عليه وسلمـ: إني
أرمي الصيد بالمعراض (2)، فأصيب، فقال: «إذا رميت بالمعراض، فخزق (نفذ)،
فكله، وإن أصاب بعُرْضه (بغير طرفه المحدد)، فلا تأكله» (3). وفي حديث عبد
الله بن مغَفَّل قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الخَذْف،
وقال: إنه لا يقتل الصيد، ولا ينكأ العدو، وإنه يفقأ العين، ويكسر السن»
(4).
وعليه: إذا قتل الصائد أو الذابح الحيوان بمُثْقّل (شيء ثقيل)، أو ثقل محدد
كبندقة وسوط، وسهم بلا نصل ولا حد، أو سهم وبندقة معاً، أو جرحه نصل وأثر
فيه عُرْض السهم (جانبه) في مروره، ومات بهما (أي الجرح والتأثير) أو انخنق
بأحبولة أو شبكة، فهو محرم، بلا خلاف، لأنه قتله بما ليس له حد (5). وهكذا
حكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعُرْضها ولم تجرح، لم
يبح الصيد، كالسهم يصيب الطائر بعُرْضه فيقتله، أو كالسيف بصفحه.
_________
(1) تكملة الفتح: 185/ 8، اللباب: 221/ 3، تبيين الحقائق: 58/ 6، القوانين
الفقهية: ص176، بداية المجتهد: 441/ 1، مغني المحتاج: 274/ 4، المهذب: 254/
1، المغني: 558/ 8 ومابعدها، كشاف القناع: 217/ 6 ومابعدها.
(2) قال القرطبي: المشهور أنه خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها، وقد لا
يحدد. وقال ابن التين: المعراض: عصا في طرفها حديدة يرمي بها الصائد.
(3) رواه البخاري ومسلم وأحمد (نيل الأوطار: 130/ 8).
(4) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (جامع الأصول: 452/ 7).
(5) مغني المحتاج: 4/ 472، المهذب: 274/ 4، بداية المجتهد: 446/ 1، المغني:
559/ 8.
(4/2815)
ولا يؤكل ما يصطاد اليوم بالخردق أو الرصاص
غير محدد الرأس إلا إذا أدركه الصائد حياً وذبحه ذبحاً اختيارياً. وأفتى
الشيخ المفتي محمود حمزة في دمشق وغيره بجواز أكل ماصيد بالخردق أو الرصاص
العادي، لأنه يقتل بسرعة شديدة.
والخلاصة: أنه يؤكل المصيد بالرمي بأداة محددة كالرماح والسيوف والسهام
ونحوها للنص عليها في القرآن والسنة. كما يؤكل المصيد بالمثقل إذا قتله
بحده وخرق جسد الصيد، ولا يؤكل إذا قتله بالمثقل ولم يخرق لقول النبي صلّى
الله عليه وسلم: «ما خزق فكل». وهذا التفصيل بالمثقل هو رأي الجماهير.
ب ـ وأما الحيوان الجارح: فيحل الاصطياد
بجوارح السباع والطير إذا كانت معلمة، ولم تأكل من الصيد عند غير المالكية.
فالسبع مثل الكلب والفهد والنمر والأسد والهر، والطير مثل الباز أو البازي
(نوع من الصقور) والشاهين (من جنس الصقر) والصقر والنسر والعقاب ونحوها من
كل ما يقبل التعليم (1) لقوله تعالى: {أحل لكم الطيبات، وما علَّمتم من
الجوارح مكلبين} [المائدة:5/ 4]، قال ابن عباس: هي الكلاب المعلمة، وكل طير
تعلَّم الصيد والفهود والصقور وأشباهها، أي يحل لكم صيد ماعلمتم من الجوارح
(2). ولحديث عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن صيد
البازي، فقال: «إذا أمسك عليك، فكل» ولأنه جارح يصاد به عادة، ويقبل
التعليم، فأشبه الكلب. ومثله كل سبع حتى الأسد.
واستثنى أبو يوسف (3) من ذلك الأسد والدب، لأنهما لا يعملان لغيرهما:
_________
(1) البدائع: 44/ 5، الدر المختار: 329/ 5، تبيين الحقائق: 50/ 6، تكملة
الفتح: 171/ 8، اللباب: 217/ 3 ومابعدها، بداية المجتهد: 441/ 1، القوانين
الفقهية: ص176، الشرح الكبير: 104/ 2، مغني المحتاج: 275/ 4، المهذب: 253/
1 ومابعدها، المغني: 539/ 8، 545 - 547، كشاف القناع: 220/ 6.
(2) والجوارح: الكواسب. ومكلبين: من التكليب: هو الإغراء.
(3) الهداية مع تكملة الفتح: 173/ 8.
(4/2816)
الأسد لعلو همته، والدب لخساسته، وألحق
بعضهم بهما الحدَأة لخساستها، والخنزير مستثنى؛ لأنه نجس العين، فلا يجوز
الانتفاع به.
واستثنى الإمام أحمد من الكلاب: الكلب الأسود البهيم (الذي لا يخالط لونه
لون سواه كالبياض ونحوه)، لأنه كلب يحرم اقتناؤه، ويسن قتله بأمر النبي
صلّى الله عليه وسلم، فلم يبح صيده، كغير المُعلَّم. ودليله قول النبي صلّى
الله عليه وسلم: «عليكم بالأسود البهيم ذي النُكْتتين، فإنه شيطان» (1) فقد
سماه النبي شيطاناً، ولا يجوز اقتناء الشيطان. وإباحة الصيد المقتول
بالجارح رخصة، فلا تستباح بمحرم كسائر الرخص، ويكون عموم الآية السابقة
مخصصاً بهذا الحديث (2).
ويسن أيضاً عند الحنابلة قتل الخنزير ويحرم الانتفاع به، ويجب قتل الكلب
العقور ولو كان معلماً، ويحرم اقتناؤه لأذاه.
شروط الحيوان الصائد - يشترط في الحيوان
المصيد به ستة شروط (3):
الأول - أن يكون معلما ً: بأن ينتقل عن
طبعه الأصلي، حتى يصير تحت تصرف الصائد كالآلة، لا صائداً لنفسه. وشرط
التعليم متفق عليه بنص القرآن.
وتعليم الكلب عند الحنفية: أن يترك الأكل ثلاث مرات. وتعليم البازي ونحوه:
أن يرجع ويجيب إذا دعوته، ولا يشترط فيه ترك الأكل من الصيد، وهو مأثور عن
ابن عباس، ولأن آية التعليم: ترك ما هو مألوفه عادة، فيترك الكلب ونحوه من
السباع الأكل والاستلاب مما يصيده، ويتعود الطائر الإجابة، أو الرجوع
_________
(1) رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر مرفوعاً بلفظ «ذي الطفيتين» أي الخطين
الأبيضين فوق عينيه، وهما النكتتان، والنكتة، النقطة البيضاء في الأسود، أو
السوداء في الأبيض.
(2) المغني: 547/ 8، كشاف القناع: 220/ 6.
(3) رد المحتار: 328/ 5، بداية المجتهد: 444/ 1، القوانين الفقهية: ص 176
ومابعدها.
(4/2817)
إذا دعوته. وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة:
لايقدر التعليم بالثلاث بل بحسب رأي المدرب.
ويؤكل مااصطاده في المرة الثالثة عند أبي حنيفة، ولا يؤكل عند الصاحبين؛
لأنه إنما يصير معلماً بعد تمام الثلاث (1). ولابد من الإرسال، لكن لايشترط
الزجر في حل الصيد.
ولابد في التعليم عند الشافعية والحنابلة من أوصاف أو شروط ثلاثة: إذا
أرسله صاحبه استرسل، وإذا زجره انزجر، وإذا أمسك الصيد لم يأكل منه. ويكفي
عند المالكية توفر الشرطين الأولين (2). ويشترط تكرار هذه الأمور حتى يصير
معلماً في حكم العرف بأن يظن تأدب الجارحة، ولايضبط ذلك بعدد عند المالكية
والشافعية، بل يرجع في أمر التكرار إلى أهل الخبرة بالجوارح، وأقل ذلك أن
يتكرر مرتين فأكثر، بحيث يغلب على الظن تعوده وتعلمه ذلك. وأقل المطلوب عند
الحنابلة ثلاث مرات؛ لأن مااعتبر فيه التكرار اعتبر ثلاثاً، كالمسح في
الاستجمار وغسلات الوضوء.
ولايعتبر أيضاً عند بعض المالكية شرط: «إذا زجر انزجر» في الباز، لأنه
لاينزجر.
ودليل شرط عدم أكل الجارح من الصيد: هو حديث عدي بن حاتم المتقدم: «إذا
أرسلت كلبك المعلم، وسميت، فأمسك وقتل، فكل، وإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف
أن يكون أمسك على نفسه».
_________
(1) تكملة الفتح: 173/ 8 ومابعدها، 175، اللباب: 218/ 3.
(2) الشرح الكبير: 103/ 2 ومابعدها، بداية المجتهد: 443/ 1، القوانين
الفقهية: ص 176، مغني المحتاج: 275/ 4، المهذب: 253/ 1، المغني: 542/ 8
ومابعدها، كشاف القناع: 221/ 6.
(4/2818)
فإن ظهر كون الجارح معلماً، ثم أكل مرة من
لحم صيد، لم يحل الصيد في الأرجح عند الجمهور غير المالكية، لحديث عدي
السابق، ولأن عدم الأكل شرط في التعلم ابتداء ودواماً، فيشترط تعليم جديد.
وأجاز الحنفية أكل ما أكل منه البازي؛ لأن ترك الأكل ليس شرطاً عندهم في
تعليمه.
وقال المالكية: يؤكل (1)، لعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم}
[المائدة:4/ 5] وحديث أبي ثعلبة: «ما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه، فكل،
وما صدت بكلبك المُعلَّم، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك غير
المعلم، فأدركت ذكاته فكل (2)» ولأن الأكل يحتمل أن يكون لفرط جوع، أوغيظ
على الصيد.
ويحل الصيد الذي صاده قبل الأكل، كما يحل في الراجح عند الحنابلة ما صاده
الكلب بعد الصيد الذي أكل منه (3).
وهل يجب غسل معضّ الكلب أي أثر فم الكلب؟ قال الشافعية وفي وجه عند
الحنابلة (4): معض الكلب نجس، ولا يعفى عنه، لأنه ثبتت نجاسته، فيجب غسل ما
أصابه كبوله، ويغسل سبعاً إحداهن بالتراب. وقال المالكية وهو الوجه الثاني
عند الحنابلة: لا يجب غسله؛ لأن الله تعالى ورسوله أمرا بأكله، ولم يأمرا
بغسله، والكلب طاهر في مذهب المالكية، فيؤكل موضع نابه.
الثاني ـ أن يذهب على سنن الإرسال ولو
من غير تعيين عند الحنفية. أما عند
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 130/ 8).
(3) المغني: 545/ 8.
(4) مغني المحتاج: 276/ 4، المغني: 546/ 8، المهذب: 253/ 1.
(4/2819)
المالكية والشافعية والحنابلة فلا بد من أن
يرسله الصائد من يده على الصيد بعد أن يراه ويعينه (1). فإن انبعث من نفسه
لم يؤكل اتفاقاً. ومن سمع حساً ظنه حس صيد، فرماه، أو أرسل كلباً أو بازاً
عليه، فأصاب صيداً ثم تبين أنه صيد، حل المصاب عند الحنفية، لأنه قصد
الاصطياد.
وإن زجره بعد انبعاثه من تلقاء نفسه، فرجع إليه، ثم أشلاه (أغراه)، أكل.
وإن لم يرجع إليه، بعد أن انزجر، ثم زاد في عدوه، أبيح صيده عند الحنفية
والحنابلة، وهو الأولى؛ لأن الزجر مثل الإرسال من حيث كونه فعل الصائد،
فالزجر إرسال لأنه دليل الطاعة. ولم يبح عند المالكية والشافعية، كما ذكر
سابقاً، تغليباً لجانب المنع؛ لأنه اجتمع إرسال بنفسه وإغراء، فغلب الأول
(2).
وإن أرسله على صيد بعينه، فصاد غيره، لم يؤكل عند غير الحنفية. فإن أرسل،
ولم يقصد شيئاً معيناً، وإنما قصد ما يأخذ الجارح، أو ما تقتل الآلة في جهة
محصورة كالغار وشبهه، جاز على المشهور عند المالكية. وإن كانت جهة غير
معينة كالمتسع من الأرض والغياض أو كان الإرسال على كل صيد يعثر عليه، لم
يجز ولم يبح المصيد عندهم. ولو اضطرب الجارح فأرسله الصائد، ولم ير شيئاً،
وليس المكان محصوراً من غار أو غيضة، فصاد شيئاً، لم يؤكل لاحتمال أن يكون
غير المضطرب عليه ولم ينوه، فإن نواه وغيره أكل. وقيل: لا يؤكل.
ولا بد عند الشافعية والحنابلة: أن يقصد صيداً معيناً، لا مبهماً، فلو أرسل
_________
(1) رد المحتار: 328/ 5، تكملة الفتح: 181/ 8، تبيين الحقائق: 54/ 6
ومابعدها، الشرح الكبير: 106/ 2، القوانين الفقهية: ص 177، المغني: 545/ 8،
مغني المحتاج: 277/ 4، كشاف القناع: 222/ 6، 225، المهذب: 255/ 1.
(2) فيه حديث موقوف على ابن مسعود وهو: «ما اجتمع الحلال والحرام، إلا وغلب
الحرام الحلال» وفيه ضعيف وانقطاع (نصب الراية: 314/ 4).
(4/2820)
سهماً لاختبار قوته، أو إلى غرض يرمي إليه،
فاعترضه صيد، فقتله، حرم، لأنه لم يقصد برميه معيناً.
الثالث ـ ألا يشاركه في الأخذ ما لا يحل صيده،
كالجارح غير المعلم، وهو شرط مجمع عليه. فإن تيقن أن المُعَلَّم هو المنفرد
بالأخذ أو الجراح، أكل. وإن تيقن خلافه أوشك لم يؤكل، لأنه اجتمع المبيح
والمحرم، فتغلب جهة المحرم احتياطاً. وإن غلب على ظنه أنه القاتل، ففيه
خلاف (1)، فإن أدركه حياً فذكاه، حل اتفاقاً.
ودليل هذا الشرط حديث عدي بن حاتم قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، فقلت: أرسل كلبي، فأجد معه كلباً آخر قال: لا تأكل، فإنك إنما سميت
على كلبك، ولم تسم على الآخر» وفي لفظ: «فإن وجدت مع كلبك كلباً آخر، فخشيت
أن يكون أخذ منه، وقد قتله، فلا تأكله، فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك»
وفي لفظ «فإنك لا تدري أيهما قتله؟» (2).
الرابع ـ أن يقتله جَرْحاً، فإن خنقه أو قتله بصدمته، لم يبح عند الجمهور
(3) غير الشافعية؛ لأن قتله بغير جَرْح أشبه بقتله بالحجر والبندق، ولأن
الله تعالى حرم الموقوذة، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم السابق: «ما أنهر
الدم، وذكر اسم الله، فكل» يدل على أنه لا يباح ما لم ينهر الدم. فعلى هذا
يكون الجرح شرطاً. وهذا أولى في نظري؛ لأن الوقيذ محرم بالقرآن والإجماع،
والعقر ذكاة الصيد.
_________
(1) رد المحتار: 328/ 5، نكملة الفتح: 180/ 8، اللباب: 219/ 3 ومابعدها،
القوانين الفقهية: ص 177، بداية المجتهد: 446/ 1، المهذب: 253/ 1، المغني:
549/ 8، كشاف القناع: 216/ 6.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 134/ 8).
(3) رد المحتار: 328/ 5، تكملة الفتح: 180/ 8، اللباب: 219/ 3، الشرح
الكبير: 102/ 3 - 104، بداية المجتهد: 441/ 1، 444، 447، المغني: 545/ 8،
كشاف القناع: 222/ 6.
(4/2821)
وقال الشافعية (1): لو تحاملت الجارحة على
صيد، فقتلته بثقلها، حل في الأظهر، لعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن
عليكم} [المائدة:4/ 5] ولأنه يعسر تعليمه ألا يقتل إلا بجرح، ولعموم حديث
عدي: «ما علّمت من كلب أو باز، ثم أرسلته، وذكرت اسم اللهعليه، فكل ما أمسك
عليك، قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل، ولم يأكل منه شيئاً، فإنما أمسكه عليك»
(2).
الخامس ـ ألا يأكل من الصيد، فإن أكل منه لم
يبح. ويمكن دمج هذا الشرط بالشرط الأول.
وهذا الشرط عند الجمهور غير المالكية، وهو أصح الروايتين عند الحنابلة، وهو
مذهب الحنفية في الكلب ونحوه من السباع.
وقال مالك ومتأخرو المالكية (وهو مشهور بالذهب)، وفي رواية ثانية عن أحمد:
يجوز الأكل مما أكل منه الكلب أو غيره من الطيور.
وقال الحنفية وبعض المصنفين من الحنابلة كصاحب كشاف القناع (3): لايباح ما
أكل منه الكلب عملاً بالحديث المتفق عليه: «فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن
يكون إ نما أمسك على نفسه»، ويباح ما أكل منه الطائر ذو المخلب كالبازي
والصقر والعقاب والشاهين ونحوها، لأن تعليمه بأن يسترسل إذا أرسل، ويرجع
إذا دعي، ولايعتبر ترك الأكل لقول ابن عباس: «إذا أكل الكلب فلا تأكل، وإن
أكل الصقر، فكل».
_________
(1) مغني المحتاج: 276/ 4.
(2) رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار: 130/ 8).
(3) رد المحتار: 328/ 5، اللباب: 218/ 3، تبيين الحقائق: 52/ 6،
تكملةالفتح175/ 8، بداية المجتهد: 443/ 1 ومابعدها، مغني المحتاج: 275/ 4،
المغني: 543/ 8، كشاف القناع: 221/ 6.
(4/2822)
ودليل الجمهور: حديث عدي بن حاتم: «إذا
أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله تعالى، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟
قال: وإن قتل، إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون
إنما أمسك على نفسه». وظاهر الكتاب يدل عليه وهو قوله تعالى: {فكلوا مما
أمسكن عليكم} [المائدة:4/ 5] والإمساك يكون بعدم الأكل من الصيد، ولأن من
أهم خواص التعليم عدم الأكل.
واستدل المالكية في المشهور عندهم، وأحمد في رواية عنه بعموم قوله تعالى:
{فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/ 5] وبحديث أبي ثعلبة الخشني: «إذا
أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه، فكل، قلت: وإن أكل منه يارسول
الله؟ قال: وإن أكل» وحملوا حديث عدي على الندب، وهذا على الجواز. ولأنه
صيد جارح معلم، فأبيح، كما لو لم يأكل، فإن الأكل يحتمل أن يكون لفرط جوع
أو غيظ على الصيد.
ويلاحظ أن حديث عدي أصح من حديث أبي ثعلبة، لأنه متفق عليه، وعدي بن حاتم
أضبط، ولفظه أبين، لأنه ذكر الحكم والعلة. ورد ابن رشد المالكي على متأخري
المالكية بقوله (1): وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث، وخلاف ظاهر
الكتاب، وهو قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/ 5] وللإمساك
على سيد الكلب طريق تعرف به، وهو العادة. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:
«فإن أكل، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه».
السادس ـ عند المالكية (2): ألا يرجع الجارح عن الصيد، فإن رجع بالكلية،
_________
(1) بداية المجتهد: 444/ 1.
(2) القوانين الفقهية: ص 177.
(4/2823)
لم يؤكل وكذلك لواشتغل بصيد آخر، أو بما
يأكله، لا يؤكل. وهذه الشروط كلها إذا قتله الجارح، فإن لم يقتله، وأدركه
القانص، ذكي، وأكل.
المطلب الثالث ـ شروط المصيد:
ذكر المالكية (1) خمسة شروط لحل المصيد، كما ذكر الحنفية (2) شروطاً خمسة
له أيضاً، إلا أن الثلاثة المذكورة عند الحنفية منها يمكن عدها شرطاً
واحداً.
وسأذكر هذه الشروط بحسب منهج المالكية، لأنه أدق وأشمل. ويلاحظ أنه يجوز
عند الحنفية (3) اصطياد ما يؤكل لحمه من الحيوان، وكذا ما لا يؤكل لأنه سبب
للانتفاع بجلده أو شعره أو قرنه أو لاستدفاع شره.
الأول ـ أن يكون المصيد مباح الأكل شرعا
ً؛ لأن الحرام عند غير الحنفية والمالكية لا يؤثر فيه الصيد، ولا الذكاة.
وقد عبر الحنفية عن هذا الشرط بألا يكون متقوياً بنابه أو بمخلبه، وألا
يكون من الحشرات، وألا يكون من بنات الماء إلا السمك، لأنه لا يحل أكل شيء
من حيوان الماء عندهم إلا السمك.
الثاني ـ أن يكون متوحشا ً، بأن يعجز
الإنسان عن أخذه في أصل خلقته كالوحوش والطيور، فإن كان مستأنساً كالإبل
والبقر والغنم، ثم توحش، لم يؤكل بالصيد عند المالكية. ويؤكل به عند غير
المالكية؛ لأن الصيد يعد حينئذ ذكاة اضطرارية، تباح للضرورة، كما تقدم في
بحث أنواع التذكية.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 177 ومابعدها، بداية المجتهد: 444/ 1.
(2) رد المحتار: 32/ 5.
(3) الكتاب مع اللباب: 223/ 3.
(4/2824)
وإن تأنس المتوحش الأصل، ثم ندَّ (هرب) أكل
بالاصطياد عند المالكية، كما يؤكل بالعقر عندهم الحمام ونحوه إن توحش؛ لأن
كله صيد.
وقد عبر الحنفية عن هذا الشرط بقولهم: أن يمنع نفسه بجناحيه أو قوائمه.
الثالث ـ أن يموت من الجَرح، لا من صدم الجارح، ولا من الرعب، أو الخوف من
الجارح. وهذا شرط عند الجمهور غير الشافعية. وأجاز الشافعية أكل ما قتله
الجارح بثقله، كأن صدمه بصدره أو جبهته، فقتله، ولم يجرحه، كما ذكر في شروط
آلة الصيد.
الرابع ـ ألا يشك في عين الصيد الذي أصابه في
حالة غيبته عن عينه، هل هو، أو غيره؟ ولا يشك، هل قتلته الآلة،
أولا؟ فإن شك لم يؤكل. ولو غاب عنه الصيد ليلة، ثم وجده غداً ميتاً لم يؤكل
في المشهور عند المالكية. ويباح أكله عند غيرهم إن تابع طلبه. أو لم يتشاغل
عنه بشيء آخر، وتأكد أنه صيده.
الخامس ـ أن يذبحه إن أدركه حياً، وقدر على تذكيته؛ لقوله عليه الصلاة
والسلام في حديث عدي: «وإن أدركته حياً فاذبحه» فإن أدركه ميتاً، أو نفذت
مقاتله، أو حياته كحياة المذبوح، أو عجز عن تذكيته بسبب مقاومته مثلاً حتى
مات، ولم يذكه، أكل من غير ذبح باتفاق الفقهاء (1).
وإن قتله الجارح المصيد به قبل أن يقدر عليه أكل أيضاً، بشرط أن يقتله
جرحاً كما تقدم في شروط الآلة. وصرح الحنابلة بأن الصائد إن لم يكن معه ما
يذكيه،
_________
(1) تكملة الفتح: 178/ 8 ومابعدها، تبيين الحقائق: 53/ 6، اللباب مع
الكتاب: 219/ 3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 178، المهذب: 253/ 1،
المغني: 547/ 8 ومابعدها، مغني المحتاج: 269/ 4.
(4/2825)
أشلى (أغرى) الصائد له عليه حتى يقتله،
فيؤكل (1) عندهم لأنها حال تتعذر فيها الذكاة في الحلق واللبة غالباً.
فجازت ذكاة الضرورة، ولا يؤكل في قول أكثر أهل العلم، لأنه صيد مقدور عليه،
فلم يبح بقتل الجارح له كبهيمة الأنعام، وكما لو أخذه سليماً.
المبحث الثالث ـ ما يباح اصطياده من الحيوان
عند الحنفية:
يباح عند الحنفية (2) اصطياد ما في البحر والبر، مما يحل أكله، وما لا يحل
أكله. غير أن ما يحل أكله يكون اصطياده للانتفاع بلحمه وبقية أجزائه، وما
لا يحل أكله، يكون اصطياده للانتفاع بجلده وشعره وعظمه، أو لدفع أذاه وشره،
وهذا هو رأي المالكية كما ذُكر سابقاً فيما تعمل به الذكاة، إلا صيد الحرم
(في مكة والمدينة) فإنه لا يباح اصطياده، باتفاق الفقهاء إلا المؤذي منه،
لقوله عز شأنه: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً} [العنكبوت:67/ 29] وقول
النبي صلّى الله عليه وسلم في صيد حرم مكة: «ولا ينفر صيده» (3). وكذلك قال
في صيد المدينة: «لا ينفر صيدها» (4) وخص منه المؤذيات بقوله عليه الصلاة
والسلام: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب،
والفأرة، والكلب العقور» (5).
_________
(1) وهو رأي إبراهيم النخعي الذي كان يقول: «إذا أدركته حياً ولم يكن معك
حديدة، فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله» وبه قال الحسن البصري لعموم قوله
تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/ 5] (بداية المجتهد: 445/ 1).
(2) البدائع: 61/ 5، الكتاب مع اللباب: 223/ 3، تكملة الفتح: 188/ 8، تبيين
الحقائق: 61/ 6 ومابعدها.
(3) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن عباس (نيل الأوطار: 25/ 5).
(4) رواه أصحاب الكتب الستة ما عدا ابن ماجه عن علي (جامع الأصول: 193/
10).
(5) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن عائشة، وفيه روايات أخرى عن ابن عمر،
وابن مسعود وابن عباس وغيرهم، وفي بعضها ذكر الحية بدل الحدأة، حتى صارت
تسعاً (نيل الأوطار: 26/ 5).
(4/2826)
ويباح اصطياد ما في البحر للحلال (غير
الحاج أو المعتمر) والمحرم (الحاج أو المعتمر)، ولا يباح اصطياد ما في البر
للمحرم خاصة، لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة،
وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/ 5] ولقوله صلّى الله عليه
وسلم: «صيد البر لكم حلال، وأنتم حرم، مالم تصيدوه، أو يُصَد لكم» (1) وعن
الصَعب بن جَثَّامة «أنه أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حماراً
وحشياً، وهو (بالأبواء) أو بوَدَّان (مكان بين مكة والمدينة)، فرده عليه،
فلما رأى ما في وجهه، قال: إنا لم نُردُّه عليك إلا أنا حُرُم» (2).
المبحث الرابع ـ متى يملك الصائد المصيد؟
جاء في الدر المختار ورد المحتار (3):
أن أسباب الملك ثلاثة:
ناقل من مالك إلى مالك كبيع وهبة. وذو خلافة عن المالك كإرث. وذو أصالة:
وهو الاستيلاء الحقيقي بوضع اليد ومنه إحياء الموات، والاستيلاء الحكمي
بالتهيئة كنصب شبكة صيد على مباح خالٍ عن المالك. فإن كان المصيد أو المباح
مملوكاً لم يتملك، فلو استولى رجل في مفازة على حطب غيره، لم يملكه.
والاستيلاء الحكمي يتم باستعمال ما هو موضوع للاصطياد، فمن نصب شبكة، فتعلق
بها صيد، ملكه، قصد بها الاصطياد، أو لا، فلو نصبها للتجفيف مثلاً، لا
يملكه، لأنه قصد مغاير للاصطياد.
ـ وإن نصب فسطاطاً (خيمة): إن قصد الصيد، يملكه، وإلا فلا، لأنه غير موضوع
للصيد.
_________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا ابن ماجه عن جابر (نيل الأوطار:
23/ 5).
(2) رواه البخاري ومسلم والموطأ والترمذي والنسائي (جامع الأصول: 419/ 3).
(3) انظر 329/ 5.
(4/2827)
ـ ولو دخل صيد دار إنسان، فلما رآه أغلق
عليه الباب، وصار بحال يقدر على أخذه، بلا اصطياد بشبكة أوسهم، ملكه. وإن
أغلق ولم يعلم به، لا يملكه.
ـ ولو نصب حِبالة (مِصْيَدة)، فوقع فيها صيد، فقطعها، وانفلت الصيد، فأخذه
آخر، ملكه. ولو جاء صاحب الحبالة ليأخذه، ودنا منه، بحيث يقدر على أخذه،
فانفلت، لا يملكه الآخذ. وكذا لا يملكه الآخذ لو انفلت من الشبكة في الماء
قبل الإخراج، فأخذه غيره، وإنما يملكه صاحب المصيدة. أما لو رمى به صاحب
الشبكة خارج الماء، في موضع يقدر على أخذه، فوقع في الماء، فأخذه غيره،
يملكه الآخذ؛ لأن الأمور بمقاصدها.
ومن رمى صيداً، فأصابه، ولم يثخنه (يوهنه بالجراحة)، ولم يخرجه من حيِّز
الامتناع عن الأخذ (أي ما يزال قابل الأخذ من الغير)، فرماه آخر، فقتله، أو
أثخنه (أضعفه)، وأخرجه عن حيز الامتناع، فهو للرامي الثاني، لأنه الآخذ،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الصيد لمن أخذه» (1).
وإن كان الرامي الأول قد أثخنه بحيث أخرجه عن حيز الامتناع، فرماه الثاني،
فقتله، لم يؤكل، لاحتمال الموت بالثاني، ولا يعد فعل الثاني ذكاة شرعية،
للقدرة على ذكاة الاختيار. ويضمن الثاني قيمته للأول، لأنه بالرمي أتلف
صيداً مملوكاً للغير؛ لأن الأول ملكه بالرمي المثخن، لكن تقدر قيمته وهو
جريح؛ لأن المتعدي وهو الرامي الثاني أتلفه، وهو جريح، وقيمة المتلف تعتبر
أو تقدر يوم الإتلاف (2).
_________
(1) قال عنه الزيلعي: غريب. وقال عنه في الدراية: لا أصل له بهذا الإسناد
عن أبي هريرة (نصب الراية: 318/ 4).
(2) تكملة الفتح: 187/ 8، تبيين الحقائق: 60/ 6، اللباب مع الكتاب: 222/ 3
وما بعدها.
(4/2828)
والمالكية (1): قالوا مثل الحنفية: لا
يستحق الصيد إلا بالأخذ أي بالصيد وقصد الاصطياد، أو بوضع اليد، فمن رأى
صيداً وصاده آخر، كان لمن صاده، فإن صاده واحد، ثم ند (هرب) منه فصاده آخر،
فاختلف: هل يكون للأول أو للثاني، إلا إن توحش بعد الأول، فهو للثاني.
ومن طرد صيداً، فدخل دار إنسان، فإن كان اضطره، فهو له، وإن كان لم يضطره،
فهولصاحب الدار.
وقال الشافعية (2): مثلما قال
المالكية والحنفية: يملك الصيد إما
بالاستيلاء الفعلي أي بوضع اليد والأخذ، وإن لم يقصد تملكه، كسائر
المباحات، وإما بصيده مع قصد الاصطياد. فوضع اليد: مثل ضبطه بيده، إن لم
يكن به أثر ملك لغيره كخَضْب وقص جناح وقُرْط، وكان صائده غير محرم وغير
مرتد، يكون سبباً للملكية، وإن لم يقصد تملكه. فلو أخذ صيداً لينظر إليه
ملكه، لأنه مباح، فيملك بوضع اليد عليه كسائر المباحات.
ويملك الصيد أيضاً باصطياده: بجُرْح مذفِّف (مسرع للهلاك) وبإزمان (إزالة
امتناعه) وكسر جناح بحيث يعجز عن الطيران والعَدْو جميعاً، إن كان مما
يمتنع بهما، وإلا فبإبطال واحد منهما، وإن لم يضع يده عليه. ويملكه أيضاً
بوقوعه في شبكة نصبها للصيد، فيملكه، وإن لم يضع يده عليه، سواء أكان
حاضراً أم غائباً، طرده إليها طارد أم لا، وسواء أكانت الشبكة مباحة أم
مغصوبة، لأنه يعد بذلك مستولياً عليه.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 178 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 278/ 4 - 282، المهذب: 255/ 1 - 257.
(4/2829)
ويملكه أيضاً بإلجائه إلى مضيق، ولو
مغصوباً، لا يفلت منه، أي لا يقدر الصيد على التفلت منه كبيت لأنه صار
مقدوراً عليه.
ولا بد من قصد الاصطياد، فمن رأى صيداً، فظنه حجراً، أوحيواناً غير الصيد،
فرماه، فقتله، حل أكله، وملكه، لأنه قتله بفعل قصده، وإنما جهل حقيقته،
والجهل بها لا يؤثر.
ولو قصد صيداً في ملكه، وصار مقدوراً عليه بتوحل (الوقوع في وحل) وغيره، لم
يملكه في الأصح؛ لأن مثل هذا لا يقصد به الاصطياد، والقصد ضروري للتملك،
لكن يصير أحق به من غيره.
ومتى ملكه، لم يزل ملكه بانفلاته، فمن أخذه، لزمه رده، ولا يزول ملكه أيضاً
بإرسال المالك له في الأصح؛ لأن رفع اليد عنه، لا يقتضي زوال الملك عنه،
كما لو سيَّب بهيمته، فليس لغيره أن يصيده إذا عرفه.
حالة الاشتراك في الصيد: لو جرح الصيد
اثنان متعاقبان، فإن ذفف (قتل) الثاني منهما الصيد، أو أزمن (بأن أزال
امتناعه)، دون الأول منهما، فهو للثاني؛ لأن جُرْحه هو المؤثر في امتناعه،
ولا شيء له على الأول بجرحه، لأنه كان مباحاً حينئذ.
وإن أزمن الأول، فإن انضم إليه فعل الثاني، بأن ذفف بقطع حُلقوم ومريء، فهو
حلال الأكل، لحصول الموت بفعل ذابح، وعليه للأول مقدار ما نقص بالذبح. وإن
ذفف الثاني لا بقطع الحلقوم والمريء، أو لم يذفف أصلاً، ومات بالجرحين
فحرام، لأنه في حالة عدم القطع كان الصيد مقدوراً عليه، والمقدور عليه لا
يحل إلا بذبحه، وفي الحالة الثانية (عدم التذفيف) فلاجتماع المبيح والمحرم،
فيغلب المحرم. ويضمنه الثاني للأول لأنه أفسد ملكه. وهذا كما قال الحنفية
سابقاً، وهو مذهب الحنابلة أيضاً فيه وفيما يأتي من مسائل.
(4/2830)
وإن جرحا معاً، وذففا بجرحهما، أو أزمنا
به، فلهما الصيد، لاشتراكهما في سبب الملك بجرحهما.
وإن ذفف أحدهما، أو أزمن من دون الآخر، فله، لانفراده بسبب الملك.
ولو جهل كون التذفيف منهما أو من أحدهما، كان لهما، لعدم الترجيح.
وإن ذفف واحد في غير مذبح، وأزمن الآخر على الترتيب بالإصابة لا بالرمي،
وجهل السابق منها، حرم الصيد على المذهب، لاجتماع الحظر والإباحة، فيقدم
الحظر.
وقال الحنابلة (1): كالشافعية: يتملك
الصيد إما بالاصطياد مع قصده، أو بوضع اليد (الأخذ)، فمن رمى طيراً على
شجرة في دار قوم، فطرحه في دارهم، فهو للرامي؛ لأنه ملكه بإزالة امتناعه.
ومن نصب خيمة أو شبكة أو فخاً للاصطياد، فوقع فيه صيد، ملكه للحيازة. وكذا
لو ألجأ صيداً لمضيق لا يفلت منه أو أغلق باب داره عليه، ملكه بذلك، ولو لم
يقصد تملكه للحيازة أو لأنه بمنزلة إثباته بوضع اليد.
ومن صنع بِرْكة يصيد بها سمكاً، فما وقع فيها ملكه، كالصيد بالشبكة. وإن لم
يقصد بالبركة صيد السمك، لم يملكه بحصوله فيها.
ومن كان في سفينة، فوثبت سمكة، فوقعت في حِجْره، فهي له، دون صاحب السفينة؛
لأن السمكة من الصيد المباح، يملك بالسبق إليه.
والصياد الذي يتعاطى سبباً للصيد في قوارب الصيد كضوء أوجرس يملكه
_________
(1) كشاف القناع: 223/ 6 ومابعدها، المغني: 559/ 8 - 564.
(4/2831)
بذلك. فإن لم يقصد الصيد بفعل منه، ووقعت
سمكة في حجر راكب معه، فهي له، لاستيلائه على مباح، وإن وقعت في السفينة
فلصاحب السفينة.
ولو وقع صيد في شبكة إنسان، وأثبته (ثبتت يده عليه) ثم أخذه إنسان آخر،
لزمه رده إلى رب الشبكة، لأنه أثبته بآلته. وإن لم تمسكه الشبكة وانفلت
منها في الحال، أو خرقها وذهب منها، ولو بعد زمن، لم يملكه رب الشبكة، لأنه
لم يثبته، فإذا صاده غيره ملكه. ولو ذهب الصيد بالشبكة، فصاده إنسان مع
بقاء امتناعه، ملكه الصائد الثاني، ورد الشبكة لصاحبها؛ لأن الأول لم
يملكه. فإن مشى الصيد بالشبكة على وجه لا يقدر على الامتناع فهو لصاحبها،
لأنه أزال امتناعه، كما في حالة انفلاته منه.
(4/2832)
|