الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

مُلحَق: ما اقتبسه القانون المدنيّ المعاصِر من الفِقه الإسلاميّ
لا تتبوأ الأمة مكانتها وتنعم بعزتها بغير الاستقلال الكامل المادي والمعنوي الذي لا أثر فيه للتبعية الفكرية والثقافية والقانونية لأية دولة أخرى.
ولا يكمل الاستقلال الوطني ولا تتحقق أو تنمو ذاتية البلد المطلقة ولا تخطو خطوات بنائه نحو التقدم والمستقبل المشرق، محطمة قيود التخلف إلا بالتخلص من كل آثار الاستعمار ورواسبه البعيدة المدى. ومن أولى مهام الحكم المستقل الوطني في سبيل تحقيق تلك الغاية الاعتماد في التقنين في مختلف أنواعه على التراث القومي النابع من البيئة، والمتجاوب مع تطلعات أبناء البلاد وأهدافهم وعقيدتهم.
لقد اعترف الفقيه الكبير الدكتور عبد الرزاق السنهوري واضع القانون المدني المصري وغيره في البلاد العربية بأن الفقه والقضاء المصري ضيفان على القضاء الفرنسي، ولكن آن للضيف أن يعود إلى بيته، وطالب بتمصير الفقه، وجعله فقهاً مصرياً خالصاً نرى فيه طابع قوميتنا ونحس أثر عقليتنا، ففقهنا حتى اليوم لا يزال يحتله الأجنبي، الاحتلال هنا فرنسي، وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا أقل عنتاً من أي احتلال آخر.

(4/3219)


لذلك كانت أمنية من أغلى الأماني العراض وأعزها لدينا أن يصدر قانون مدني وغير مدني مستمد كله من أحكام الشريعة الإسلامية. قال الدكتور السنهوري (1): أما جعل الشريعة الإسلامية هي الأساس الأول الذي يبنى عليه تشريعنا المدني، فلا يزال أمنية من أعز الأماني التي تختلج بها الصدور، وتنطوي عليها الجوانح. ولكن قبل أن تصبح هذه الأمنية حقيقة واقعة، ينبغي أن تقوم نهضة علمية قوية لدراسة الشريعة الإسلامية في ضوء القانون المقارن.
ومن بدهي القول إعلان أن الشريعة الإسلامية ذات المصدر السماوي الإلهي المستقل لا تزال شريعة حية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، أكد ذلك فقهاء القانون في الغرب والشرق، وعمداء الحقوق في البلاد العربية والأجنبية، ومؤتمرات القانون المقارن والمحامين الدولية في العصر الحديث (2).
قال الدكتور السنهوري (3): «ولا أريد الاقتصار على شهادة الفقهاء المنصفين من علماء الغرب، كالفقيه الألماني كوهلر والأستاذ الإيطالي دلفيشيو والعميد الأمريكي ويجمور وكثيرين غيرهم، يشهدون بما انطوت عليه الشريعة الإسلامية من مرونة وقابلية للتطور، ويضعونها إلى جانب القانون الروماني والقانون الإنكليزي إحدى الشرائع الأساسية الثلاث التي سادت ولا تزال تسود العالم. وقد أشار الأستاذ لا مبير الفقيه الفرنسي المعروف في المؤتمر الدولي للقانون
_________
(1) راجع كتابه الوسيط في شرح القانون المدني الجديد: حاشية ص48.
(2) انظر قرار مؤتمر القانون المقارن في لاهاي سنة 1938م، ومؤتمر المحامين الدولي في لاهاي سنة 1948، وتوصيات ندوة عمداء كليات الحقوق والقانون والشريعة بالجامعات العربية بجامعة بيروت العربية، عام 1973م، وبجامعة بغداد عام 1974م، وتوصيات ندوة التشريع الإسلامي في مدينة البيضاء، ليبيا عام 1972م، وتوصيات مؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض عام 1976م.
(3) بحث الدكتور السنهوري في مجلة نقابة المحامين بدمشق - السنة الأولى - العدد السابع: ص 506.

(4/3220)


المقارن، الذي انعقد في مدينة لا هاي في سنة (1932م) إلى هذا التقدير الكبير للشريعة الإسلامية، الذي بدأ يسود بين فقهاء أوروبا وأمريكا في العصر الحاضر.
ولكني أرجع للشريعة نفسها لأثبت صحة ما قررته. ففي هذه الشريعة عناصر لو تولتها يد الصياغة، فأحسنت صياغتها، لصنعت منها نظريات ومبادئ لا تقل في الرقي وفي الشمول وفي مسايرة التطور عن أخطر النظريات الفقهية التي نتلقاها اليوم عن الفقه الغربي الحديث.
وآتي بأمثلة أربعة اضطررت إلى الاقتصار عليها لضيق المقام: يدرك كل مطلع على فقه الغرب أن من أحدث نظرياته في القرن العشرين: نظرية التعسف في استعمال الحق، ونظرية الظروف الطارئة، ونظرية تحمل التبعة، ومسؤولية عديم التمييز. ولكل نظرية من هذه النظريات الأربع أساس في الشريعة الإسلامية لا يحتاج إلا للصياغة والبناء ليقوم على أركان قوية، ويسامت نظريات الفقه الحديث».
وقد أحدثت هذه الصيحة بالاعتراف بالحق دوياً في نفوس واضعي القوانين العربية، ولم يعد مقبولاً بحال ترك مصادرنا الفقهية الإسلامية، وأخذ قانون مترجم ترجمة حرفية عن القانون المدني الفرنسي.
وأثمر هذا الدوي القوي في أفكار القانونيين، فصدر في دنيا العرب قانونان مدنيان مستمدان من الفقه الإسلامي، وهما القانون المدني العراقي عام (1951م)، والقانون المدني الأردني عام (1976م)، وصدر في ليبيا ـ الثورة إلغاء صريح فوري لكل مواد القانون المدني المعارضة للشريعة، وبدئ بوضع قانون جديد مستمد من الفقه الإسلامي، كما بدئ في مصر بوضع مشاريع قوانين مدنية وجزائية مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية، غير الملتزمة مذهباً فقهياً معيناً،

(4/3221)


وإنما تأخذ من مجموع أحكام المذاهب الإسلامية ـ السنية والشيعية ما يناسب ظروف العصر، وبدأت لجان منبثقة من قرارات وزراء العدل العرب بوضع قانون مدني وآخر جزائي مستمد من الشريعة الإسلامية منذ عام (1980م) وكذا قانون موحد للأحوال الشخصية، وتم إنجاز مشروعات هذه القوانين الثلاثة.
وقد جاء في الأسباب الموجبة للائحة القانون المدني العراقي المكون من 1383 مادة ما يلي: إن قواعد القانون المدني العراقي استمدت من مصادر متباينة، فبعضها أخذ من الفقه الإسلامي مباشرة، وبعضها نقل عن الفقه الإسلامي مقنناً في المجلة، والبعض الآخر هو بقية من القوانين العثمانية العتيقة، وهذه القوانين بدورها قد اشتقت أحكامها بوجه خاص من القانون الفرنسي والعرف المحلي.
والكثرة الغالبة من أحكام القانون العراقي قد خرِّجت على الفقه الإسلامي في مذاهبه المختلفة دون تقيد بمذهب معين، واستطاع مشروع هذا القانون أن يجد في غير عناء مادة خصبة في الفقه الإسلامي يصوغ منها طائفة العقود المسماة، سواء وقع العقد على الملكية كالبيع والهبة والشركة والقرض، أم وقع على المنفعة كالإيجار والإعارة، أو وقع على العمل كالمقاولة وعقد العمل والوكالة والوديعة.
وجاء في نص البيان الصحفي الذي أعلن به مشروع القانون المدني الأردني سنة 1976م المكون من (1449) مادة ما يلي:
اعتمدت لجنة واضعيه على المراجع والمصادر التالية:
1 - مجلة الأحكام العدلية والفقه الإسلامي بجميع مذاهبه.
2 - التشريعات والقوانين الأردنية المعمول بها.
3 - مشروع القانون المدني الموجود حالياً في مجلس الأعيان.

(4/3222)


4 - كافة التشريعات والقوانين المعاصرة والمستمدة من الفقه الإسلامي.
وتناول المشروع أحكام المعاملات مستمدة من الفقه الإسلامي بأحكامه الواسعة المتفتحة على الحياة وقواعده المتطورة دائماً مع متطلبات العصر والصالحة للغد ولتبدل الأزمان. وهو مشروع رائد ينتظره العرب والمسلمون بفارغ الصبر، وهو يحقق رغبة طالما تمناها كثير من رجال القضاء والقانون وعلى رأسهم المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري.
ويقع المشروع في نحو (140) مادة، وتستند كل مادة من مواده إلى مآخذها ونظائرها في القوانين المعاصرة ومرجعها الفقهي في مذكرات إيضاحية تقع في نحو (1500) صفحة، وهي شروح وافية لكل مادة وثروة قانونية لقضائنا ورجال القانون.
فمن المقطوع به أن كل نص تشريعي أو مادة قانونية ينبغي أن تعيش في البيئة التي تطبق فيها والبلد الذي تنفذ فيه، مهما كان مصدرها، لكن يلاحظ أن القانون الأردني وكذا الكويتي لم يجز الفوائد الربوية، على عكس القانون العراقي الذي أباح الاتفاق على الفائدة بنسبة 7%.

مدى الاعتماد على الشريعة في القانونين المصري والسوري:
القانون المدني السوري الصادر عام (1949م) وأصله القانون المصري الصادر عام (1948م) ما يزالان قائمين على أساس من القانون المدني الفرنسي، إلا أنهما جعلا الفقه الإسلامي (م 2/ 1) مصدراً رسمياً للقانون يأتي في المرتبة الثانية بعد نصوص القانون في قانوننا السوري (ومثله القانون الجزائري الصادر عام 1975) وفي المرتبة الثالثة بعد نصوص القانون والعرف والعادة في القانون المصري.

(4/3223)


وفي تقديري أن اعتبار الفقه الإسلامي مصدراً رسمياً احتياطياً في كلا القانونين ليس له فائدة عملية كبيرة؛ لأن القاضي لا يلجأ إليه إلا إذا استحال عليه الوصول إلى الحكم القانوني من نصوص التشريع، وهذا احتمال نادر، لكنه لا شك يزيد كثيراً في أهمية الشريعة الإسلامية، ويجعل دراستها دراسة عملية في ضوء القانون المقارن أمراً ضرورياً لا من الناحية النظرية الفقهية فحسب، بل كذلك من الناحية العملية التطبيقية.
فكل من الفقيه والقاضي أصبح الآن مطالباً أن يستكمل أحكام القانون المدني، فيما لم يرد فيه نص بالرجوع إلى أحكام الفقه الإسلامي (1).
ولكن المفيد التعرف على الأحكام التي استمدها القانون المدني السوري (وأصله المصري) من الفقه الإسلامي. وبعض هذه الأحكام هي مبادئ عامة، وبعضها مسائل تفصيلية (2):

بعض المبادئ والنظريات العامة المقتبسة من الفقه الإسلامي:
1 - النزعة الموضوعية
2 - الأهلية، ومسؤولية عديم التمييز
3 - نظرية التعسف في استعمال الحق
4 - نظرية الظروف الطارئة
5 - حوالة الدين
6 - لا تركة إلا بعد سداد الدين
_________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 48.
(2) الوسيط للسنهوري: ص 46، 47.

(4/3224)


بعض الأحكام التفصيلية المستقاة من الفقه الإسلامي:
1 - في عقد البيع (أحكام مجلس العقد، البيع بالصفة، تبعة الهلاك في البيع ـ نظرية تحمل التبعة، حق الحبس، الغبن في بيع القاصر، ضمان العيوب الخفية وضمان التعرض والاستحقاق).
2 - في عقد الإيجار (إيجار الأراضي الزراعية، غرس الأشجار في العين المؤجرة، هلاك الزرع في العين المؤجرة، المزارعة، انقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه للعذر، إيجار الوقف).
3 - حقوق الارتفاق: (حق العلو والسفل، الحائط المشترك).
4 - أحكام عقد الهبة ـ شكلاً وموضوعاً (تكوين العقد، محل العقد، الرجوع في الهبة).
5 - تصرف المريض مرض الموت.
6 - أحكام متفرقة (مدة التقادم، الإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده).

بيان أهم المبادئ والنظريات المقتبسة من الفقه الإسلامي:
1 - النزعة الموضوعية: أخذ القانونان المصري والسوري بالنزعة الموضوعية التي تخللت كثيراً من النصوص (1). وهذه هي نزعة الفقه الإسلامي والقوانين الجرمانية، آثرها التقنين على النزعة الذاتية التي هي طابع القوانين اللاتينية، وجعل الفقه الإسلامي عمدته
_________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 47، 93، 96.

(4/3225)


في الترجيح. فأخذ بالإرادة الظاهرة وبالموضوعية معاً، ولكن بقدر متفاوت، إذ أقلَّ من الأخذ بالإرادة الظاهرة، وأكثر من الأخذ بالموضوعية، إلى حد أنه حينما كان في بعض المسائل يتخذ معايير ذاتية لم يتخذها ذاتية محضة، بل رسم لها ضوابط موضوعية ليضفي عليها شيئاً من الثبات والاستقرار.
ومن أمثلة المعايير الموضوعية (عناية الشخص المعتاد) أي أن الشخص مطالب بأن يبذل من العناية في حفظ مال الغير كالوديعة مثلاً ما يبذله عادة في حفظ ماله الخاص.
انظر القانون المدني السوري (المواد 1/ 212 في الالتزام بعمل، 2/ 489 في آثار الشركة، 1/ 551 في استعمال العين المؤجرة، 1/ 607 التزام المستعير، 1/ 651 التزام العامل، 2/ 670 التزام الوكيل، 686 التزام الوديع، 1/ 700 التزام الحارس، 1/ 193 التزام الفضولي، 1/ 130 إبطال العقد بسبب الغبن، 147 انتقال الالتزام إلى الخلف الخاص، 179 مسؤولية حارس الأشياء، 222 تعويض الضرر، 1/ 415 التزام البائع بضمان العيوب الخفية، 1/ 580 استغلال المستأجر الأراضي الزراعية).
وهذا المعيار الموضوعي مقرر في الفقه الإسلامي في الأحوال السابقة، فقد قرر فقهاؤنا أنه يجب على الأمين أن يحفظ الأمانة، كما يحفظ ماله على النحو الذي جرت به عادة الناس في كيفية حفظ أموالهم (1).
أما الفقه الإسلامي فيقرر مسؤولية الصبي غير المميز والمجنون مطلقاً عن الإتلافات، قال الحنفية: «الصبي المحجور عليه مؤاخذ بأفعاله، فيضمن ما أتلفه
_________
(1) بداية المجتهد: 307/ 2، وانظر كتابنا نظرية الضمان: ص 177 - 183.

(4/3226)


من المال» (1) «لو أن طفلاً ابن يوم انقلب على قارورة فكسرها، لزمه الضمان» (2) وقال المالكية: «إن تقويم المتلفات لا يختلف باختلاف الناس، إنما باختلاف البلاد والأزمان» (3).
ونصت المجلة على ذلك فيما يأتي: « .... يلزم الضمان على الصبي إذا أتلف مال الغير، وإن كان غير مميز» (م 960): «إذا أتلف صبي مال غيره يلزم الضمان من ماله، وإن لم يكن له مال ينتظر إلى حال يساره، ولا يضمن وليه» (م916) (م 912).
ولكن لا يكون غير المميز مسؤولاً مسؤولية جنائية عن حوادث القتل، فلا ينفَّذ في حقه القصاص، وإنما يقتصر على تعزيره بالحبس أو بالتوبيخ ونحوهما.

2 - أحكام الأهلية ومسؤولية عديم التمييز:
إن أحكام الأهلية (المواد 46 - 50، 109 - 129) مستمدة من الفقه الإسلامي (4)، سواء فيما
يتعلق بأهلية التملك أو بمباشرة التصرفات والعقود، ووجود الحاجة أحياناً إلى النائب الشرعي عن الغير، والحكم ببطلان التصرف بسبب انعدام الأهلية، إلا أن القانون في حالة وجود عيب من عيوب الرضا كالإكراه والتدليس والغلط يجعل العقد قابلاً للإبطال، أي أن العقد قائم وموجود، لكنه عرضة للإبطال من طريق القاضي بناء على طلب صاحب المصلحة
_________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: 78/ 2، درر الحكام: 273/ 2.
(2) مجمع الضمانات: ص 146 - 154، 161، 165، جامع الفصولين: 113/ 2، 124، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 99/ 2.
(3) الفروق للقرافي: 31/ 4.
(4) نظرية العقد للسنهوري: 322/ 1 ومابعدها.

(4/3227)


في حماية حقه الخاص. وأما في الفقه فيسمى العقد حينئذ غير لازم أي يجوز فسخه من صاحب الحق بمحض إرادته من غير قضاء إلا في حالة وجود التدليس المتضمن إخفاء عيب (خيار العيب) فيحتاج إلى القضاء لتقدير وجود العيب. وقد يسمى العقد المعيب بعيب (كما في حالة الإكراه) غير نافذ أو موقوفاً على الإجازة كما في حالة تجاوز العاقد حدود النيابة المتعارف عليها، إلا أن العقد الموقوف لا ينتج أي أثر، أما العقد القابل للإبطال فهوعقد صحيح منتج لآثاره.
وكذلك أخذ القانون المدني بمبدأ مسؤولية عديم التمييز عن أعماله غير المشروعة التي تسبب ضرراً للغير، مسايرة لمبادئ الشريعة الإسلامية التي توجب تعويض الضرر الواقع باعتباره واقعة مادية، ولو لم يتوفر عنصر الخطأ أحد أركان المسؤولية المدنية التقصيرية، وهو ما تقرره نظرية تحمل التبعة التي لا تقيم المسؤولية على أساس فكرة الخطأ، وإنما تكتفي بمراعاة مبدأ «الغرم بالغنم». وقد نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة (2/ 165): «ومع ذلك إذا وقع الضرر من شخص غير مميز، ولم يكن هناك من هو مسؤول عنه، أو تعذر الحصول على تعويض من المسؤول، جاز للقاضي أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل، مراعياً في ذلك مركز الخصوم» أي أن هذه المسؤولية لغير المميز تتميز بأنها مشروطة، ومسؤولية مخففة أي في حدود التعويض العادل (1).
وبهذا يكون ولي القاصر بصفة عامة هو المسؤول عن عمل القاصر أو المجنون على أساس الخطأ المفترض أو التقصير في الرقابة (راجع المادة 174).
وسألقي الضوء إجمالاً على هذه المبادئ والنظريات والأحكام التفصيلية المستمدة من الفقه الإسلامي، تاركاً الشرح لفقهاء القانون المدني الذين يبينون عادة منشأ هذه الأحكام، وموطن استمداد المشرع لها.
_________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 63، النظرية العامة للالتزام للدكتور وحيد سوار: 70/ 2.

(4/3228)


3 - نظرية التعسف في استعمال الحق:
ليس حق الملكية حقاً مطلقاً، وإنما هو مقيد بعدم إلحاق الضرر بالغير، فإذا ترتب على استعمال الحق إحداث ضرر بالغير نتيجة إساءة استعمال هذا الحق، كان محدث الضرر مسؤولاً.
ونص القانون المدني السوري على هذا المبدأ في المادتين (5، 6) «من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسؤولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر» (م5).
يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:
«أـ إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
ب ـ إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية، بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر».
ج ـ إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة (م6) وقد حرص واضعو القانون ـ لدى صياغة النص الذي أورد في هذه النظرية ـ على الاستفادة من القواعد التي استقرت في الفقه الإسلامي (1) ومن أهمها: «تصرف الإنسان في خالص حقه إنما يصح إذا لم يتضرر به غيره» فهذه القاعدة أساس واضح لنظرية منع التعسف في استعمال الحق، وهي القاعدة المنظمة لحقوق الجوار (2).
أما نص المادة (5) فمأخوذ من المبدأ المقرر في الشريعة المعبر عنه في القاعدة الفقهية الكلية القائلة: (الجواز الشرعي ينافي الضمان) أي أن الفعل المباح شرعاً لا يستوجب الضمان أو تعويض الضرر الذي قد يحدث.
_________
(1) الوسيط للسنهوري: 836/ 1، النظرية العامة للالتزام للدكتور سوار: ص 96، الحقوق العينية الأصلية للدكتور سوار: ص 311.
(2) راجع تطبيقات القاعدة في نظرية الضمان للمؤلف: ص 207.

(4/3229)


وأما نص المادة (6) فمستمد من حيث المبدأ من الحديث النبوي المتقدم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» الذي يقضي بمنع الضرر في حالتين:
الأولى ـ استعمال الحق بقصد الإضرار.
الثانية ـ أن يترتب على استعمال الحق المشروع إضرار الآخرين، سواء أكان الاستعمال على وجه معتاد، أم على غير الوجه المعتاد.
وفي كلتا الحالتين توجب قواعد الإسلام إزالة الضرر عيناً، سواء أكان مادياً أم معنوياً؛ لأن الراجح أن المنافع أموال متقومة، فإن تعذر ذلك يجب الحكم بتعويض مالي عادل لرفع آثار الضرر ومنع بقائه أو تجدده في المستقبل.
ويلاحظ أن القانون قصر التعسف على حالات الاستعمال غيرالمشروع (1).
أما الحالة الأولى قانوناً فتقابل الحالة الأولى المفهومة من الحديث، والحالة الثانية تقابل الحالة الثانية المأخوذة من الحديث، وتتفق مع ما أخذت به المجلة (المادة 19، 20) ويقتضيه الاستحسان الفقهي. وأما الحالة الثالثة في القانون فهي مستقاة من مجموع ما تقرره المذاهب الإسلامية وتقتضيه روح التشريع الإسلامي في محاربة الأعمال غير المشروعة، أو المعاصي والمنكرات الضارة بمصلحة المجتمع، وأنه يتحمل الضرر الخاص لمنع الضرر العام ونحو ذلك من كل ما يجعل للحق صلة اجتماعية في الإسلام.
وقد ذكرت المادة (1199) من المجلة مبدأ نظرية التعسف: لا يمنع أحد من التصرف في ملكه أبداً إلا إذا كان ضرره لغيره فاحشاً، كما يأتي تفصيله في الفصل الثان وفي هذا الفصل وضع معيار الضرر الفاحش (في المادة 1199) وفي المادة (1200) ذكرت أمثلة عديدة عن الأضرار.
_________
(1) راجع كتابنا نظرية الضمان: ص 53 ومابعدها.

(4/3230)


4 - نظرية الظروف الطارئة:
لقد نشأت هذه النظرية في نطاق القضاء الإداري، ثم تسللت إلى ميدان الحقوق الخاصة. وهي في أصلها تقوم على فكرة إسعاف المتعاقد المنكوب الذي اختل توازن عقده اقتصادياً مما قد يجره إلى الهلاك، فهي تهدف إلى تحقيق العدالة في العقود ورفع الغبن منها (1). والمصدر الأساسي لهذه النظرية هو مبدأ العدالة الذي يقضي بإزالة الإرهاق عن المدين، بسبب ظرف طارئ، لم يكن يتوقعه عند إبرام العقد (2).
وأخذ بهذه النظرية القانون المدني السوري، فنص في المادة (1/ 148) على ما يلي: «العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون».
وأردفتها الفقرة الثانية من هذه المادة، فقررت «ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك».
النص الثاني يدل على أنه، وإن كان الأصل العام في القواعد المدنية التقليدية شريعةالمتعاقدين (أو أن المتعاقد عبد عقده)، وأنه ليس للقاضي أن يعدل في العقد، فإن وجود الظرف الطارئ يجيز للقاضي إجراء هذا التعديل.
وبهذا النص قيد القانون من سلطان الإرادة عند تنفيذ العقد، فجعل نظرية
_________
(1) راجع كتابنا نظرية الضرورة الشرعية: ص 310 ومابعدها.
(2) نظرية الظروف الطارئة للدكتور الترمانيني: ص 106.

(4/3231)


الحوادث الطارئة وقت هذا التنفيذ تقابل نظريتي الاستغلال والإذعان وقت تكوين العقد.
أخذ القانون المدني بهذه النظرية استناداً إلى نظرية الضرورة في الشريعة الإسلامية، وهي ـ كما قال الدكتور السنهوري (1) ـ نظرية فسيحة المدى، خصبة النتائج، تتسع لنظرية الظروف الطارئة؛ لأن الضرورة توجب إزالة الضرر، ولها تطبيقات كثيرة منها نظرية العذر في فسخ الإيجار، وإنقاص الثمن بسبب الجوائح في بيع الثمار.
أما فسخ الإجارة بالأعذار، فقد أجازه فقهاء الحنفية كما تقدم، فقالوا: تفسخ الإجارة بالأعذار؛ لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر؛ لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد. والعذر: هو كل ما يكون أمراً عارضاً، يتضرر به العاقد في نفسه أو ماله مع بقاء العقد، ولا يندفع بدون الفسخ. والأعذار ثلاثة أنواع (2):
أـ عذر من جانب المستأجر: كإفلاسه أو انتقاله من حرفة إلى أخرى؛ لأن المفلس أو المنتقل من عمل لا ينتفع به إلا بضرر، فلا يجبر على البقاء في الحرفة الأولى مثلاً.
ب ـ عذر من جانب المؤجر: كأن يلحقه دين فادح لا يجد طريقاً لوفائه إلا ببيع الشيء المأجور وأدائه من ثمنه، بشرط أن يثبت الدين بالبينة أو الإقرار.
_________
(1) الوسيط: ص 47، 81، نظرية العقد: 969/ 1، مصادر الحق: 96/ 6، مجلة القانون والاقتصاد عام 1936، السنة السادسة، للسنهوري.
(2) المبسوط للسرخسي:16/ 2، مختصر الطحاوي: ص 130، البدائع: 197/ 4، الفتاوى الهندية: 198/ 4، 458، 463، تبيين الحقائق: 145/ 5، رد المحتار: 55/ 5.

(4/3232)


ج ـ عذر راجع للعين المؤجرة أو الشيء المأجور: كأن يستأجر شخص حماماً في قرية ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية، فلا يجب عليه الأجر للمؤجر. ومثل استئجار مرضع لإرضاع طفل، ثم يأبى الصبي لبنها، أو إمساك الثدي، أو تمرض هي، أو يريد أهل الصبي السفر، فامتنعت، كان هذا عذراً في فسخ الإجارة.
وأما إنقاص الثمن بسبب الجوائح (1) في بيع الثمار: فقد قرره فقهاء المالكية والحنابلة (2)؛ لأن «النبي صلّى الله عليه وسلم وضع الجوائح» أو «أمر بوضع الجوائح» وفي رواية: «إن بعت من أخيك تمراً فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» (3).
ومجمل القول: إن فسخ الإجارة بالأعذار، وإنقاص الثمن بالجوائح في بيع الثمار ونحوهما من الحوادث الطارئة عند فقهاء الإسلام مثل كساد الأوراق النقدية، أو انقطاعها المستوجب لبطلان البيع، تعتبر أمثلة حية لنظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي، تطبيقاً لمبدأ العدالة، ومراعاة لما يجب من توفر التعادل والتوازن في الالتزامات وتنفيذها (4).
_________
(1) الجوائح: ي الآفات التي تصيب الثمار، فتهلكها، مثل البرد والقحط والعطش والعفن وأمراض النباتات والزرع ونحوها من الآفات السماوية.
(2) بداية المجتهد: 184/ 2، القوانين الفقهية: ص 262، المنتقى على الموطأ: 231/ 4، الشرح الكبير للدردير:، المغني: 104/ 4، أعلام الموقعين: 337/ 2 ومابعدها.
(3) الحديث الأول رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن جابر، والأمر بوضع الجوائح رواية مسلم، والرواية الثالثة عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار: 178/ 5، موطأ مالك: 126/ 3، سنن أبي داود: 248/ 2).
(4) كتابنا نظرية الضرورة الشرعية: ص 324.

(4/3233)


5 - حوالة الدين:
أخذ القانون المدني (في المواد 315 - 321) بمبدأ حوالة الدين جرياً على سنن التقنينات الحديثةوالفقه الإسلامي الذي نظم حوالة الدين تنظيماً محكماً دقيقاً (1).
وتتم حوالة الدين قانوناًإما باتفاق بين المدين وشخص آخر يتحمل عنه الدين، دون حاجة إلى قبول الدائن، وإما باتفاق بين الدائن وشخص آخر يتحمل قبله الدين من دون حاجة إلى قبول المدين. فإذا تمت الحوالة، جاز للمدين الجديد أن يتمسك قِبَل الدائن بالدفوع التي كان للمدين الأصلي أن يتمسك بها، ويضمن المدين الأصلي للدائن أن يكون المدين الجديد موسراً وقت إقرار الدائن للحوالة.
ولم يجز التشريع الروماني حوالة الدين وحوالة الحق، لتأثره بالنظرية الشخصية في طبيعة الالتزام، ومقتضاها أن لأحد الطرفين سلطة شخصية على الآخر، يحق للدائن بموجبها إجبار المدين على إيفاء دينه بالإكراه البدني كالحبس والمضايقة.
ثم اتجه التشريع الألماني إلى الأخذ بالنظرية المادية التي تعتبر الالتزام علاقة مادية بحتة، فلا تجيز الإجبار، وإنما يبحث الدائن عن مال المدين، فإن عثر عليه، أمكن استيفاء الحق منه بواسطة القضاء.
أما التشريع الإسلامي، فإنه جعل الالتزام في ذاته علاقة مادية إما بمال المكلف كما في المدين، وإما بعمله كما في الأجير، ولكن يرافق هذا الالتزام سلطة شخصية تأييداً لتنفيذه، منعاً من قيام المكلف بإخفاء ماله، أو امتناعه عن عمله. ويجوز للقاضي الحكم بحبس المدين أو الأجير تعزيراً بناءً على طلب الدائن،
_________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 61.

(4/3234)


ليحمله على الوفاء بالتزامه. ولا يجوز للدائن أن يمارس شيئاً من هذه الضغوط على المدين بسلطته الشخصية وإنما من طريق القضاء (1).
والتقنين المدني المصري والسوري وقف موقف الاعتدال في النظرية الشخصية والنظرية المادية للالتزام، فلم يغرق في الأخذ بالمذهب المادي، ولكنه من جهة أخرى سجل ما تم فعلاً من تطور نحو هذا المذهب بحكم تأثر النظريات اللاتينية بالنظريات الجرمانية (2). وهذا هو اتجاه الفقه الإسلامي.
وحوالة الدين عند فقهاء الحنفية: هي نقل المطالبة من ذمة المدين إلى ذمةالملتزم (3). وعرفها غير فقهاء الحنفية بأنها عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى ذمة (4). فالحوالة عند الحنفية يترتب عليها براءة مؤقتة من الدين، ويجوز للمحال العودة إلى مطالبة المحيل بالدين في حال إفلاس المحال عليه في رأي صاحبي أبي حنيفة، أوفي حال موت المحال عليه مفلساً، أوعند جحوده أو إنكاره الحوالة. وعند غير الحنفية يبرأ المحيل براءة نهائية بالحوالة، إلا إذا وجد تغرير كالإحالة على مفلس، فيجوز عند المالكية الرجوع على المحيل. كما يجوز الرجوع عندهم حال اشتراط يسار المحال عليه.
وتنعقد الحوالة عند الحنفية: بإيجاب وقبول، إيجاب من المحيل، وقبول من المحال والمحال عليه، أي أنه لا بد من رضا المحيل والمحال عليه. أما رضا المحيل فمطلوب؛ لأن ذوي المروءات قد يأنفون بتحمل غيرهم ما عليهم من الدين. وأما رضا المحال فلا بد منه، لأن الدين حقه، وهو في ذمة
المحيل، والدين هو الذي
_________
(1) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي للأستاذ الزرقاء: ص 55/ف28.
(2) الوسيط للسنهوري: ص 28.
(3) فتح القدير مع العناية: 443/ 5، الدر المختار: 300/ 4، مجمع الضمانات: ص 282.
(4) الشرح الكبير للدردير: 325/ 3، مغني المحتاج: 193/ 2، المغني: 528/ 4.

(4/3235)


ينتقل بالحوالة، والذمم متفاوتة في حسن القضاء والمطل، فلا بد من رضاه، وإلا لزم الضرر بإلزامه اتباع من لا يوفيه.
وأما رضا المحال عليه فضروري لأنه الذي يلزمه الدين، ولا لزوم إلا بالتزامه، وكونه مديناً لا يمنع من تغير صفة الالتزام؛ لأن الناس يتفاوتون في اقتضاء الدين سهولة ويسراً، أو صعوبة وعسراً.
وقال الحنابلة والظاهرية: يشترط رضا المحيل فقط، وأما المحال والمحال عليه فيلزمهما قبول الحوالة، عملاً بالأمر الوارد في الحديث النبوي المفيد للوجوب، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتْبَع» (1) وفي رواية: «ومن أحيل على مليء فليحتل».
وقال المالكية في المشهور عندهم، والشافعية في الأصح عندهم: يشترط لصحة الحوالة رضا المحيل والمحال فقط؛ لأن للمحيل إيفاء الحق من حيث شاء، فلا يلزم بجهة معينة. وحق المحال في ذمة المحيل، فلا ينتقل إلا برضاه؛ لأن الذمم تتفاوت في الأداء والقضاء.
ولايشترط عند هؤلاء رضا المحال عليه، لأنه محل الحق والتصرف، ولأن الحق للمحيل فله أن يستوفيه بغيره، والأمر هو مجرد تفويض بالقبض فلا يعتبر رضا من عليه، كما لو وكل إنسان غيره بقبض دينه (2).
والخلاصة: أن رضا المحيل مشروط في كل المذاهب، وأما رضا المحال والمحال عليه، ففيه اختلاف اجتهادي بين المذاهب.
_________
(1) المطل بالدين: المماطلة به، والمليء: الغني، وأصله الواسع الطويل، والحديث رواه الجماعة عن أبي هريرة. والرواية الثانية «فليحتل» عند أحمد (نيل الأوطار:236/ 5).
(2) سيأتي تفصيل القول في بحث الحوالة.

(4/3236)


نوعا الحوالة: الحوالة نوعان متميزان بحسب صفة المحيل، فإن كان المحيل هو الدائن فهي حوالة حق، وإن كان المحيل هو المدين فهي حوالة دين.
حوالة الحق: هي نقل الحق من دائن إلى دائن، أو حلول دائن محل دائن بالنسبة للمدين. فإذا تبدل دائن بدائن في حق مالي متعلق بالذمة، لا بعين، كانت الحوالة حوالة حق. والدائن فيها هو المحيل، إذ هو يحيل غيره ليستوفي حقه.
وحوالة الدين: هي تبدل المدين بالنسبة للدائن أي تبدل مدين بمدين، والمحيل فيها هو المدين، إذ هو إنما يحيل على غيره لوفاء دينه، وهي مشروعة باتفاق العلماء، عملاً بالحديث النبوي المار ذكره.
وحوالة الحق جائزة أيضاً باتفاق المذاهب الأربعة، وليس فقط عند غير الحنفية، كما فهم بعض أساتذة القانون والشريعة (1)؛ لأن حوالة الدين عند الحنفية والشيعة نوعان: مطلقة ومقيدة. وأما غير الحنفية فلم يتصوروا غير الحوالة المقيدة.
أما الحوالة المطلقة: فهي أن يحيل شخص غيره بالدين على فلان، ولا يقيده بالدين الذي عليه، ويقبل المحال عليه. نصت المادة (679) من المجلة على ذلك بقولها: «الحوالة المطلقة: هي التي لم تقيد بأن تعطى من مال المحيل الذي هو عند المحال عليه».
وأما الحوالة المقيدة: فهي أن يحيل شخص غيره على آخر، ليستوفي منه دينه، ويقيده بالدين الذي له عليه. جاء في المادة (678) من المجلة: «الحوالة المقيدة: هي الحوالة التي قيدت بأن تعطى من مال المحيل الذي هو في ذمة المحال عليه، وفي يده».
_________
(1) انظر الوسيط للسنهوري: ص 61، 64.

(4/3237)


والحوالة المقيدة المشروعة باتفاق الفقهاء تتضمن حوالة حق، إذ يكون الإنسان فيها مديناً لشخص، ودائناً لآخر، فيحيل دائنه على مدينه ليقبض ذلك الدائن المحال دين المحيل من مدينه المحال عليه، فهي حوالة حق ودين في وقت واحد.
أما الحوالة المطلقة فهي حوالة دين فقط، إذ يحيل بها المدين دائنه على آخر، فيتبدل فيها المدين، ويبقى الدائن هو نفسه.
ومن صور حوالة الحق ضمن الحوالة المقيدة: أن يحيل البائع دائنه على المشتري بالثمن، ويحيل المرتهن على الراهن بالدين، وتحيل الزوجة على زوجها بالمهر. ويحيل صاحب الحق في ريع الوقف دائنه على ناظر الوقف في حقه من الغلة بعد حصولها في يد الناظر. ويحيل الغانم حقه من الغنيمة المحرزة على الإمام. ففي كل هذه الأمثلة حل دائن جديد ـ وهو المحال ـ محل الدائن الأصلي، وهو البائع، أو المرتهن، أو الزوجة، أو مستحق غلة الوقف، أو الغانم.
هذا ويرجع في أحكام الحوالة الأخرى من أهلية وتنظيم علاقات أطراف الحوالة إلى كتب الفقه الإسلامي، فهي غنية بالمراد.

6 - لا تركة إلا بعد سداد الدين:
وضع التقنين المدني السوري وأصله المصري نظاماً لتصفية التركة مؤلفاً من (39) مادة (المواد 836 - 875) مستمداً من أحكام الفقه الإسلامي (1)، حتى يتسلم الورثة تركة المتوفى خالية من الديون، ما دامت التركة لاتنتقل إليهم إلا بعد سدادها (2).
_________
(1) الوسيط للسنهوري: ص62، مصادر الحق للسنهوري: 87/ 5.
(2) ونص قانون الأحوال الشخصية السوري الجديد على نظام المواريث في المواد 260 - 308.

(4/3238)


وأصل هذه القاعدة الأول ما تضمنته آيات المواريث في أربعة مواطن في الآيتين (11 - 12) من سورة النساء: {مِنْ بَعْد وَصِيَةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْن} أي أن توزيع الإرث بين المستحقين على النحو الذي وضعه القرآن الكريم يكون عقب إيفاء الديون المتعلقة بالتركة، وتنفيذ الوصايا المشروعة.
وقد رتب الفقهاء الحقوق المتعلقة بالتركة على النحو التالي (1):
1 - نفقات التكفين والتجهيز للدفن بلا تبذير ولا تقتير.
2 - قضاء ديون المدين من جميع مال التركة.
3 - تنفيذ الوصايا الموصى بها قبل الموت من ثلث التركة.
4 - توزيع الباقي من المال بين الورثة الذين ثبت إرثهم بالقرآن والسنة وإجماع الأمة.
أما قانون الأحوال الشخصية السوري، فإنه عدل عن هذا الترتيب إلى ما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل والظاهرية وجماعة كما نصت المادة (262):
1 - يؤدى من التركة بحسب الترتيب الآتي:
أـ ما يكفي لتجهيز الميت ومن تلزمه نفقته من الموت إلى الدفن بالقدر المشروع.
ب ـ ديون الميت.
جـ ـ الوصية الواجبة.
_________
(1) شرح السراجية: ص 3 - 7، نظام المواريث للشيخ عبد العظيم فياض: ص 38 ومابعدها، أحكام المواريث للشيخ عيسوي: ص 11 ومابعدها.

(4/3239)


د ـ الوصية الاختيارية.
هـ ـ المواريث بحسب ترتيبها في هذا القانون.
2 - إذا لم توجد ورثة قضي من التركة بالترتيب الآتي:
أـ استحقاق من أقر له الميت بنسب على غيره.
ب ـ ما أوصي به فيما زاد على الحد الذي تنفذ فيه الوصية.
3 - إذا لم يوجد أحد من هؤلاء آلت التركة، أو ما بقي منها إلى الخزانة العامة، وبما أن قانون الأحوال الشخصية هو المعمول به في سورية، فتطبق على التركة أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بتعيين الورثة، وتقدير أنصبتهم، وبيان وقت انتقال التركة إلى الورثة. وقد أخذ التقنين المدني فيما نص عليه بالمبادئ الأساسية المعمول بها في الفقه الإسلامي في مذاهبه المختلفة وذلك في انتقال أموال التركة إلى الورثة، وفي حق الورثة في التصرف في هذه الأموال، وفي حقوق الدائنين المتعلقة بالتركة وكيفية سداد الديون، فنصت المادة (836) من القانون المدني على ذلك: «أـ تعيين الورثة وتحديد أنصبائهم في الإرث وانتقال أموال التركة إليهم تسري في شأنها أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في شأن الإرث والانتقال».

لكن متى يتم انتقال التركة إلى الورثة؟ هل يكون وقت موت المورث، أو تبقى التركة على ملك الميت حتى تسدد الديون؟
أخذ التقنين المدني بالمبدأ الفقهي الإسلامي الذي يقرر أن أموال التركة تنتقل إلى الورثة بمجرد موت المورث، مع تعلق حقوق الدائنين بها، فتنتقل هذه الأموال

(4/3240)


مثقلة بحق عيني هو أقرب إلى أن يكون حق رهن، ولكنه رهن مصدره القانون (1). وهذا هو مذهب الشافعية.

وللفقهاء آراء ثلاثة في هذا الموضوع أي تحديد وقت انتقال التركة إلى الورثة أو بيان المراد من (لا تركة إلا بعد سداد الدين).
الرأي الأول للمالكية: تبقى أموال التركة على ملك الميت بعد موته إلى أن يسدد الدين، سواء أكان الدين مستغرقاً للتركة، أم لم يكن مستغرقاً لها، عملاً بقوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء:11/ 4]. وعليه يكون نماء أعيان التركة بزيادتها المتولدة منها ملكاً للميت، كما أن نفقات أعيان التركة من حفظ وصيانة ومصروفات حمل ونقل وطعام حيوان تكون على التركة.
الرأي الثاني للشافعية، والحنابلة (في أشهر الروايتين): تنتقل أموال التركة إلى ملك الورثة فوراً بموت المورث، مع تعلق الدين بها، كما يتعلق الرهن، سواء أكان الدين مستغرقاً للتركة أم غير مستغرق لها. وعليه يكون نماء أعيان التركة للورثة، وعليهم ما تحتاجه من نفقات، عملاً بالحديث النبوي: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته».
الرأي الثالث للحنفية: يميز بين ما إذا كانت مستغرقة بالدين، أو كانت غير مستغرقة (أي محاطة) بالدين. فإذا استغرق الدين أموال التركة، تبقى أموال التركة على ملك الميت، ولا تنتقل إلى ملك الورثة. وأما إن كان الدين غير مستغرق، فالرأي الراجح أن أموال التركة تنتقل إلى الورثة بمجرد موت المورث مع تعلق الدين بهذه الأموال.
_________
(1) مصادر الحق للسنهوري: 88/ 5، ط ثالثة.

(4/3241)


فالاحتمال الأول من مذهب الحنفية يوافق مذهب المالكية، والاحتمال الثاني يوافق مذهبي الشافعية والحنابلة.
وأما تصرف الورثة في أعيان التركة قبل سداد الدين: فإنه يجوز في القانون المدني، ولكن التصرف خاضع لحقوق الدائنين، فلهم تتبع العين المتصرف فيها في يد الغير، بعد تأشيرهم بالدين أمام اسم المورث في سجل عام تدون فيه أسماء المورثين، وإخضاع التركة لنظام التصفية المنصوص عليه في القانون، يقوم مقام التأشير بالدين.

وللفقهاء آراء في تصرف الورثة:
قال الحنفية والشافعية، والمالكية (في رأي عندهم): يكون تصرف الوارث في أموال التركة المدينة باطلاً. والرأي الثاني عند المالكية يجيز تصرف الوارث في التركة المدينة قبل أداء الدين إذا لم يتضرر الدائن به.
وقال الحنابلة (في أشهر الروايتين): يصح تصرف الورثة في التركة قبل سداد الدين، ولزمهم أداء الدين، فإن أدوه نفذ، وإن لم يؤدوه فسخ.
بيان بعض الأحكام المأخوذة من الفقه الإسلامي:
أخذ التقنين المدني السوري والمصري طائفة من الأحكام من الفقه الإسلامي، دون تقيد بمذهب معين، وهذا صنيع حسن، إذ الأخذ بأي مذهب إسلامي أفضل بكثير من أخذه من أي مصدر أجنبي. وسأذكر بعض هذه الأحكام:

أولاً ـ في عقد البيع:
وردت أحكام كثيرة في تنظيم عقد البيع في التقنين المدني مستمدة من الفقه الإسلامي، منها:

(4/3242)


1 - أحكام مجلس العقد:
نصت المادة (95) على ما يلي: «1 - إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد، دون أن يعين ميعاد للقبول، فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فوراً، وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق التلفون أو بأي طريق مماثل.
2 - ومع ذلك يتم العقد، ولو لم يصدر القبول فوراً، إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول، وكان القبول قد صدرقبل أن ينفض مجلس العقد».
دلت هذه المادة على أحكام تتعلق بمجلس العقد: وهي جواز الرجوع عن الإيجاب الموجه قبل صدور القبول الفوري من القابل. ولا يشترط القبول الفوري، وإنما يكفي حدوثه ما دام مجلس العقد قائماً بأن لم يحدث إعراض عنه أو انشغال بغيره. وهذه الأحكام تتفق مع ما عرفناه من مذهب الحنفية في تكوين العقد.
قال الدكتور السنهوري: ولا شك في أن الوضع على هذا الأساس المستمد من الشريعة الإسلامية قد أصبح وضعاً عملياً معقولاً، ولم تعد الفورية في القبول لازمة، بل يجوز فيه التراخي مدة معقولة لا ينشغل فيها المتعاقدان بغير العقد، ويبقى فيها الموجب على إيجابه. وهذا هو في نظرنا خير تفسير لقواعد الفقه الإسلامي في مجلس العقد (1).
_________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 215.

(4/3243)


2 - البيع بالصفة أو بالعينة (النموذج):
أجاز القانون المدني البيع بالصفة، إذا ذكرت أوصاف المبيع الأساسية، فنصت المادة (387) على ما يلي: «1 - يجب أن يكون المشتري عالماً بالمبيع علماَ كافياً. ويعتبر العلم كافياً إذا اشتمل العقد على بيان المبيع وأوصافه الأساسية بياناً يمكن من تعرفه». ونصت المادة (388) على جواز البيع بالنموذج: «إذا كان البيع (بالعينة) وجب أن يكون المبيع مطابقاً لها».
وهذا مأخوذ من الفقه الإسلامي الذي يشترط أن يكون محل العقد معروفاً لطرفيه ومعيناً، بحيث لا يكون فيه جهالة تؤدي إلى الغرر والنزاع بين المتعاقدين. وهذا شرط متفق عليه بين الفقهاء (1).
وتحصل المعرفة برؤية المبيع حال العقد، أو رؤية بعضه (رؤية النموذج) أو بيان أوصافه الأساسية. وقد أجاز البيع بالصفة فقهاء الحنفية والمالكية، والشافعية (في الأظهر) والظاهرية، والزيدية والإمامية وفي قول عند الإباضية (2).
جاء في المادة (320) من المجلة: «من اشترى شيئاً ولم يره، كان له الخيار إلى أن يراه، فإذا رآه: إن شاء قبله، وإن شاء فسخ البيع، ويقال لهذا الخيار: خيار الرؤية».
وفي المادة (324): «الأشياء التي تباع على مقتضى أنموذجها تكفي رؤية الأنموذج منها فقط».
ويثبت للمشتري عند فقهائنا حق خيار الوصف بعد رؤية المبيع، فإن شاء أنفذ
_________
(1) الأموال ونظرية العقد في الفقه لأستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى: ص311 ومابعدها.
(2) سيأتي مزيد بحث لذاك في عقد البيع.

(4/3244)


البيع، وإن شاء رده، سواء أكان موافقاً للصفة أم لا، وهذا لا يتفق مع القانون. وقال المالكية ورأيهم هو المتفق مع القانون (1): إذا جاء المبيع على الصفة صار العقد لازماً. لكن القانون على الرغم من محاولته التوفيق بين خيار الرؤية المقرر في الشريعة وبين مبادئ القانون العامة، فقد خالف الفقه الحنفي في الاكتفاء بوصف المبيع وصفاً كافياً، وفي إسقاط حق المشتري إذا ذكر أنه عالم بالمبيع، وفي حصر حق المشتري بإبطال البيع عن طريق القاضي، لا فسخه بدون تقاض أو تراض.

3 - تبعة هلاك المبيع:
يتحمل البائع تبعة هلاك المبيع إذا كان الهلاك بسبب أجنبي لا يد للبائع فيه. وينفسخ البيع حالة الهلاك الكلي. ويجوز للمشتري طلب فسخ البيع حالة الهلاك الجزئي. وهذا هو المنصوص عليه في المادتين (405، 406) من القانون المدني.
نصت المادة (405) على ما يلي: «إذا هلك المبيع قبل التسليم لسبب لا يد للبائع فيه، انفسخ البيع، واسترد المشتري الثمن إلا إذا كان الهلاك بعد إعذار المشتري لتسلم المبيع».
ونص المادة (406) هو: «إذا نقصت قيمة المبيع قبل التسلم لتلف أصابه، جاز للمشتري إما أن يطلب فسخ البيع إذا كان النقص جسيماً بحيث لو طرأ قبل العقد لما تم البيع، وإما أن يبقى البيع مع إنقاص الثمن».
وهذه الأحكام في جملتها مستقاة من الفقه الإسلامي، فقد قرر فقهاء الحنفية أن المبيع إذا هلك كله أو بعضه قبل التسليم، فإن البائع (أي المدين) الذي استحال
_________
(1) قال فقهاء القانون: البيع بالعينة: هو بيع بات من الوقت الذي اتفق فيه المتعاقدان على النموذج الذي تم البيع على أساسه، راجع العقود المسماة للدكتور عبد المنعم البدراوي: ص 161، ط أولى.

(4/3245)


عليه الوفاء بالتزامه بالتسليم هو الذي يتحمل تبعة الهلاك، وينفسخ البيع في حالة الهلاك الكلي أو فيما يقابل الجزء التالف في حالة الهلاك الجزئي. وقد نصت على ذلك المادة (392) من مجلة الأحكام العدلية ونصها: «المبيع إذا هلك في يد البائع قبل أن يقبضه المشتري يكون من مال البائع ولا شيء على المشتري».
وإذا كان ذلك هو المقرر في عقد البيع، وهو أيضاً المقرر في عقد الإيجار بأن الهلاك على المدين (المؤجر في إجارة المنافع، والأجير في إجارة الأعمال)، فإن الفقه الإسلامي يكون قد أخذ بنظرية تحمل التبعة المعروفة لدى القانونيين (1).

4 - حق البائع في حبس المبيع:
أجاز القانون المدني للبائع أن يمتنع عن تسليم المبيع إلى المشتري، على الرغم من حلول أجله، إذا لم يقم المشتري بدفع الثمن كله أو بعضه، وذلك هو الحق في حبس المبيع، نصت المادة (427) على ذلك فيما يأتي: «إذا كان الثمن كله أو بعضه مستحق الدفع في الحال، فللبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفي ما هو مستحق له، ولو قدم المشتري رهناً أو كفالة، هذا ما لم يمنح البائع المشتري أجلاً بعد البيع».
وإعطاء البائع حق الحبس مبدأ مقرر في الفقه الإسلامي، قال الحنفية: يثبت للبائع حق حبس المبيع عن المشتري إلى أن يستوفي ما وجب تعجيله، سواء أكان كل الثمن أم بعضه. ولا يسقط حق الحبس حتى ولو قدم المشتري رهناً أو كفيلاً بالثمن (2).
_________
(1) راجع رسالة (نظرية تحمل التبعة في الفقه الإسلامي) للدكتور زكي عبد البر: ص 144 ومابعدها، وكتابنا نظرية الضمان: ص 148، 165، 169، العقود المسماة للدكتور422/ 1 البدراوي: ومابعدها.
(2) المبسوط:192/ 13، البدائع: 249/ 5، رد المحتار: 44/ 4، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 77، العقود المسماة للبدراوي: 420/ 1.

(4/3246)


وذكرت المجلة المواد المتعلقة بحبس المبيع (من 278 - 284)، نصت المادة (278) على ما يلي: «في البيع بالثمن الحال أعني غير المؤجل، للبائع أن يحبس المبيع إلى أن يؤدي المشتري جميع الثمن».

5 - الغبن في بيع عقار القاصر:
إذا اشتمل بيع عقار لغير كامل الأهلية بسبب الصغر أو الجنون مثلاً على غبن فاحش يزيد على الخمس، جاز للبائع طلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل، بأن صدر البيع من ناقص الأهلية نفسه (1)، وهذا نص المادة (393 مدني):
«1 - إذا بيع عقار مملوك لشخص لا تتوافر فيه الأهلية وكان في البيع غبن يزيد على الخمس، فللبائع أن يطلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل.
2 - ويجب لتقدير ما إذا كان الغبن يزيد على الخمس أن يقوَّم العقار بحسب قيمته وقت البيع».
أخذ هذا الحكم من الفقه الإسلامي (2)، فقد أجاز فقهاء الحنفية فسخ البيع بسبب الغبن الفاحش وحده بدون أن ينضم إليه تغرير، وذلك في أحوال هي: «حقوق اليتيم والوقف، وبيت المال».
وضابط التمييز بين الغبن اليسير أو القليل وبين الغبن الفاحش أو الكثير هو أن الغبن اليسير: ما يدخل تحت تقويم المقومين. والغبن الفاحش: هو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين (3).
_________
(1) راجع العقود المسماة للدكتور البدراوي: 218/ 1 ومابعدها.
(2) الوسيط للسنهوري: ص 46.
(3) البدائع: 30/ 6.

(4/3247)


لكن المادة (165) من المجلة قدرت الغبن بما يأتي، وهو رأي متأخري فقهاء الحنفية: «الغبن الفاحش غبن على قدر نصف العشر في العروض، والعشر في الحيوانات، والخمس في العقار أو زيادة». ولا مانع فقهاً من تقدير الغبن الفاحش بما أخذ به القانون أي بما يزيد عن الخمس وهو
رأي نصر بن يحيى من الحنفية (1).

6 - ضمان العيوب الخفية، وضمان التعرض والاستحقاق:
يلتزم البائع بضمان العيب القديم الذي قد يوجد في المبيع، لأن عقد البيع يقتضي بذاته سلامة المبيع من العيوب، وسلامته من حقوق الغير (ضمان الدَّرَك (2) أو ضمان التعرض والاستحقاق)، دون حاجة إلى شرط؛ لأن العيب ضرر لايقتضيه العقد، والضرر مرفوع، عملاً بالحديث النبوي: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن المفروض في البيع سلامة المبيع من كل علاقة للغير به.
فإذا وجد عيب في المبيع جاز فسخ العقد، فيتخير المشتري بين أمرين: إن شاء فسخ البيع ورد المبيع، وإن شاء أمسكه بكل الثمن، وليس له إسقاط شيء من الثمن دون رضا البائع.
وإذا ظهر كون المبيع مستحقاً لغير البائع أصبح البيع متوقفاً على إجازة المستحق، فإن أجاز البيع بقي المبيع للمشتري، ويأخذ المستحق الثمن من البائع. وإن لم يجز المستحق البيع انفسخ البيع السابق، ويلتزم البائع للمشتري رد الثمن (3).
_________
(1) البدائع: المرجع السابق.
(2) ضمان الدَّر َك: هو التزام سلامة المبيع مما يمكن أن يلحقه ويدركه من حقوق لغير البائع في عينه، وتحمل تبعة الاستحقاق عند ظهور حق فيه لأحد.
(3) عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص97 - 116.

(4/3248)


أخذ القانون المدني أحكام ضمان العيوب الخفية، من الفقه الإسلامي، كما أنه من حيث المبدأ أخذ أحكام ضمان التعرض والاستحقاق من هذا الفقه
أيضاً (1) مع مراعاة المبادئ القانونية التي تجيز الفوائد عن قيمة المبيع وقت الاستحقاق، وتوجب تعويض المشتري عما لحقه من خسارة أو فاته من كسب بسبب استحقاق المبيع.
ونصت المواد (415 - 419) مدني على ضمان العيوب الخفية، كما نصت المواد (407 - 414) على ضمان التعرض والاستحقاق.
أما المادة (415) فهي: «1 - يكون البائع ملزماً بالضمان إذا لم يتوافر في المبيع وقت التسليم الصفات التي كفل المشتري وجودها فيه، أو إذا كان بالمبيع عيب ينقص من قيمته أو من نفعه بحسب الغاية المقصودة مستفادة مما هو مبين في العقد، أو مما هو ظاهر من طبيعة الشيء أو الغرض الذي أعد له، ويضمن البائع هذا العيب، ولو لم يكن عالماً بوجوده.
2 - ومع ذلك لا يضمن البائع العيوب التي كان المشتري يعرفها وقت البيع، أو كان يستطيع أن يتبينها بنفسه لو أنه فحص المبيع بعناية الرجل العادي، إلا إذا أثبت المشتري أن البائع قد أكد له خلو المبيع من هذا العيب، أو أثبت أن البائع قد تعمد إخفاء العيب غشاً منه».
وقد نصت المواد (336 - 355) من مجلة الأحكام العدلية على أحكام ضمان العيوب الخفية تحت عنوان (خيار العيب). أما المادة (336) فهي: «البيع المطلق يقتضي سلامة المبيع من العيوب يعني أن بيع المال بدون البراءة من العيوب وبلا ذكر أنه معيب أو سالم، يقتضي أن يكون المبيع سالماً خالياً من العيب».
_________
(1) راجع العقود المسماة للدكتور البدراوي: 433/ 1 ومابعدها

(4/3249)


ونص المادة (337) هو: «ما بيع بيعاً مطلقاً إذا ظهر به عيب قديم، يكون المشتري مخيراً: إن شاء رده، وإن شاء قبله بثمنه المسمى، وليس له أن يمسك المبيع، ويأخذ ما نقصه العيب، وهذا يقال له خيار العيب».
وأما المادة (407) مدني التي تنص على مبدأ ضمان تعرض الغير في الانتفاع فهي: «يضمن البائع عدم التعرض للمشتري في الانتفاع بالمبيع كله أو بعضه، سواء كان التعرض من فعله هو، أو من فعل أجنبي يكون له وقت البيع حق على المبيع يحتج به على المشتري ويكون البائع ملزماً بالضمان ولو كان الأجنبي قد ثبت حقه بعد البيع، إذا كان هذا الحق قد آل إليه من البائع نفسه».
ونصت المادة (408) على التزام البائع المزدوج أي المكون من التزامين في حال استحقاق المبيع:
الأول: التزام الدفاع عن المشتري في الدعوى القائمة بينه وبين الغير. والثاني: التزامه بتعويض المشتري إذا لم يمكن توقي الاستحقاق. والالتزام بالضمان: التزام بعمل، والأصل أنه يجب تنفيذه عيناً ما دام التنفيذ العيني ممكناً. فإذا لم يمكن التنفيذ العيني لم يكن أمام البائع سوى التنفيذ بطريق التعويض.

ثانياً ـ في عقد الإيجار:
اقتبس التقنين المدني من الفقه الإسلامي أحكام بعض أنواع الإيجار، وبعض أحكام إجارة المنافع، منها مايأتي:

1 - إيجار الأراضي الزراعية:
ورد النص على إيجار الأراضي الزراعية في المواد التالية (577 - 585) حدد فيها التزامات المؤجر بتسليم أدوات الزراعة لإقامة المباني والتزام المستأجر

(4/3250)


لاستغلال الأرض طبقاً لمقتضيات الاستغلال المألوف، وبالقيام بإجراءات الإصلاح التي يقتضيها الانتفاع المألوف بالأرض المؤجرة وتحديد مدة الإيجار بالدورة الزراعية السنوية وبقاء المستأجر في العين المؤجرة عند انتهاء الإيجار بسبب قاهر حتى تنضج الغلة بالأجر المناسب. وهذا النوع من العقود إجارة بالنقود في الذمة أو معينة.
وهي أحكام مقررة في الفقه الإسلامي، وجاء النص على بعضها في المجلة، نصت المادة (524) مجلة على ضرورة تعيين نوع الزرع: «من استأجر أرضاً ولم يعين ما يزرعه فيها ولم يعمم على أن يزرع ما شاء، فإجارته فاسدة، ولكن لو عين قبل الفسخ، ورضي الآخر تنقلب إلى الصحة».
ونصت المادة (525) على الدورة الزراعية: «من استأجر أرضاً على أن يزرعها ما شاء فله أن يزرعها مكرراً في ظرف السنة صيفياً وشتائياً».
ونصت المادة (526) على بقاء المستأجر في الأرض بعد انتهاء العقد: «لو انقضت مدة الإيجار قبل إدراك الزرع فللمستأجر أن يبقى الزرع في الأرض إلى إدراكه، ويعطي أجرة المثل».

2 - هلاك الزرع في العين المؤجرة:
نصت المادة (583) مدني على أن هلاك الزرع يسوغ طلب إسقاط الأجرة:
«1 - إذا بذر المستأجر الأرض، ثم هلك الزرع كله قبل حصاده بسبب قوة قاهرة جاز للمستأجر أن يطلب إسقاط الأجرة.
2 - أما إذا لم يهلك إلا بعض الزرع، ولكن ترتب على الهلاك نقص كبير في ريع الأرض كان للمستأجر أن يطلب إنقاص الأجرة.

(4/3251)


3 - وليس للمستأجر أن يطلب إسقاط الأجرة أو إنقاصها إذا كان قد عوض عما أصابه من ضرر بما عاد عليه من أرباح في مدة الإجارة كلها أو بما حصل عليه من طريق التأمين أو من طريق آخر».
وهذا النص تطبيق لأثر القوة القاهرة (الآفة السماوية) المبني على نظرية الضرورة الشرعية والذي يترتب عليه سقوط الالتزام بدفع المقابل (الأجرة أو الثمن) إذا تلف الشيء المعقود عليه. قال الحنفية: إذا انقطع الماء عن الطاحون مدة شهر مثلاً، يسقط عن المستأجر أجر المدة (1)، وجاء في الحديث النبوي: «أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه» (2).

3 - غرس الأشجار في العين المؤجرة:
ورد النص على هذه القضية في المادة (559) مستمداً من الفقه الإسلامي، حيث تضمنت الفقرة الأولى إلزام المؤجر نفقة ما ترتب على البناء أو الغرس من تحسينات إذأ0حدآ شلك بموافقته أي المؤجر، وتضمنت الفقرة الثانية ما يلي:
«2 - فإذا كانت تلك التحسينات قد استحدثت دون موافقة المؤجر، كان له أيضاً أن يطلب من المستأجر إزالتها، وله أن يطلب فوق ذلك تعويضاً عن الضرر الذي يصيب العقار من هذه الإزالة، إن كان للتعويض مقتض».
وهذا الحكم مقتبس من الفقه الإسلامي، فقد ألزم فقهاء الحنفية المستأجر بعد انقضاء مدة الإيجار بقلع الغراس وتسليم الأرض فارغة (3). وجاء في المادة
_________
(1) راجع كتابنا نظرية الظمان: ص 164، وكتابنا نظرية الضرورة الشرعية: ص 328 ومابعدها.
(2) أخرجه البخاري ومسلم عن أنس بلفظ: «إذا منع الله الثمرة، فبِمَ تستحل مال أخيك» (نيل الأوطار: 173/ 5).
(3) اللباب في شرح الكتاب للميداني: 90/ 2.

(4/3252)


(531) من المجلة ما يؤيده: «لو أحدث المستأجر بناء في العقار المأجور أو غرس شجرة، فالآجر مخير عند انقضاء مدة الإجارة إن شاء قلع البناء والشجرة، وإن شاء أبقاهما، وأعطى قيمتها كثيرة كانت أو قليلة». ونصت المادة (532) بعدها على ضمان الضرر: «إزالة التراب والزبل الذي يتراكم في مدة الإجارة والتطهير عنهما على المستأجر».

4 - المزارعة:
المزارعة عبارة عن عقد الزراعة، ببعض الناتج، وهو إجارة الأرض ببعض ماخرج منها. وهو عقد مقرر في الفقه الإسلامي، أخذت منه أحكامه المعمول بها في القانون المدني (في المواد 586 - 594).
ونص المادة (586) هو ما يلي: «يجوز أن تعطى الأرض الزراعية والأرض المغروسة بالأشجار مزارعة للمستأجر في مقابل أخذ المؤجر جزءاً معيناً من المحصول».
قال الحنفية (1): يصح استئجار الأرضين للزراعة على أي مدة كانت طالت أو قصرت، لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوماً.

5 - انقضاء الإيجار بموت المستأجر:
ورد النص على انتهاء عقد الإيجار بالموت في المادة (568) مدني ومابعدها:
«1 - لا ينتهي الإيجار بموت المؤجر ولا بموت المستأجر.
2 - ومع ذلك إذا مات المستأجرجاز لورثته أن يطلبوا إنهاء العقد إذا أثبتوا أنه
_________
(1) اللباب في شرح الكتاب: 88/ 2.

(4/3253)


بسبب موت مورثهم أصبحت أعباء العقد أثقل من أن تتحملها مواردهم، أو أصبح الإيجار مجاوزاً حدود حاجتهم. وفي هذه الحالة يجب أن تراعى مواعيد التنبيه بالإخلاء المبينة في المادة (531)، وأن يكون طلب إنهاء العقد في مدة ستة أشهر على الأكثر من وقت موت المستأجر».
ونص المادة (569) هو: «إذا لم يعقد الإيجار إلا بسبب حرفة المستأجر أو لاعتبارات أخرى تتعلق بشخصه ثم مات، جاز لورثته أو للمؤجر أن يطلبوا إنهاء العقد».
دل النص على أنه لا ينتهي عقد الإيجار بموت المؤجر أو المستأجر عملاً بما قرره جمهور فقهاء الإسلام غير الحنفية، واستثنى النص حالتين ينقضي بهما الإيجار بموت المستأجر وهما:
1 - حالة صيرورة أعباء العقد أثقل من أن تتحملها موارد ورثة المستأجر، أو أن الإيجار أصبح يجاوز حدود حاجتهم.
2 - إذا كان الإيجار قد عقد بسبب حرفة المستأجر كعيادة طبيب أو صيدلية.
ويمكن تسويغهما بما قرره الحنفية من انتهاء الإجارة بموت أحد العاقدين.

6 - انتهاء الإيجار للعذر:
أخذ المشرع المدني عن الفقه الإسلامي فكرة فسخ الإيجار للعذر، فنص في المادة (575) على أنه:
«1 - إذا كان الإيجار معين المدة، جاز لكل من المتعاقدين أن يطلب إنهاء العقد قبل انقضاء مدته إذا جدَّت ظروف خطيرة غير متوقعة من شأنها أن تجعل

(4/3254)


تنفيذ الإيجار من مبدأ الأمر، أو في أثناء سريانه مرهقاً، على أن يراعي من يطلب إنهاء العقد مواعيد التنبيه بالإخلاء المبينة بالمادة (531)، وعلى أن يعوض الطرف الآخر تعويضاً عادلاً.
وهذا النص يشير إلى عذر خاص بالمستأجر، أو المؤجر، يجيز طلب فسخ الإيجار بسبب العذر بشرطين:
1 - أن تكون الإجارة معينة المدة، فإن لم تكن معينة جاز لأي طرف إنهاؤها قبل نهاية أي فترة دفعت أجرتها.
2 - أن يطرأ ظرف خطير من شأنه أن يجعل التنفيذ مرهقاً لأحد الطرفين، كأن يترك المحامي الذي استأجر مكتباً مهنته لمرض أو منع قانوني من ممارسة المهنة. أو تطرأ ظروف غير متوقعة تجعل القيام ببناء التزم المؤجر بإقامته مرهقاً له.
وقد عرفنا سابقاً أن الحنفية أجازوا فسخ الإجارة بالأعذار، وإن وقعت الإجارة صحيحة لازمة (1).

7 - إيجار الوقف:
نص القانون المدني في المواد (595 - 601) على أحكام إيجار الوقف مستمدة من الفقه الإسلامي، ومن أخصها ما نصت عليه المادة (598): «لا تصح إجارة الوقف بالغبن الفاحش إلا إذا كان المؤجر هو المستحق الوحيد الذي له ولاية التصرف في الوقف، فتجوز إجارته بالغبن الفاحش في حق نفسه، لا في حق من يليه من المستحقين».
وقد نصت المادة (256) من المجلة على مبدأ الفسخ بسبب الغبن: «إذا وجد غبن فاحش في البيع، ولم يوجد تغرير، فليس للمغبون أن يفسخ البيع، إلا أنه إذا
_________
(1) تحفة الفقهاء: 533/ 2.

(4/3255)


وجد الغبن وحده في مال اليتيم لا يصح البيع، ومال الوقف وبيت المال حكمه حكم مال اليتيم».

ثالثاً - حقوق الارتفاق:
حق الارتفاق: هو تكليف مفروض على عقار معين لمنفعة عقار معين جارٍ في ملكية شخص غير مالك العقار الأول (م 960) مدني. وهو أحد الحقوق العينية المتفرعة عن حق الملكية. والارتفاقات تختلف فيما بينها من حيث موضوعها. فهناك ارتفاق بالمجرى، وارتفاق بالمرور، وارتفاق بالصرف، وارتفاق بالمطل، ونحو ذلك. والارتفاق إما أن يكون طبيعياً، أو قانونياً أي يقرره القانون، كحق الشِّرب وحق المجرى وحق المسيل وحق المرور.
أخذ القانون المدني طائفة من أحكام الارتفاق من الفقه الإسلامي من أهمها حق العلو والسفل، وأحكام الحائط المشترك.
ففي حق العلو والسفل نصت المادة (963) مدني على حق إسالة الماء سيلاً طبيعياً من الأراضي العالية. وأوجب القانون بعض التزامات على صاحب السفل وصاحب العلو في ضمن القيود الواردة على حق الملكية - ملكية الطبقات، نصت على ذلك المادة (814):
«1 - على صاحب السفل أن يقوم بالأعمال والترميمات اللازمة لمنع سقوط العلو.
2 - فإذا امتنع عن القيام بهذه الترميمات جاز للقاضي أن يأمر ببيع السفل. ويجوز في كل حال لقاضي الأمور المستعجلة أن يأمر بإجراء الترميمات العاجلة». ونصت المادة (415) على التزام صاحب السفل بإعادة بناء سفله إذا انهدم فإن امتنع جاز لصاحب العلو إعادة البناء على نفقة صاحبه، ولصاحب العلو منع صاحب السفل من السكنى والانتفاع حتى يؤدي ما في ذمته.

(4/3256)


ومضمون هاتين المادتين مستمد من الفقه الإسلامي (1).
والقانون المدني بالإضافة إلى المعايير الثلاثة السابقة لبيان حد المشروعية في استعمال الحقوق (التعسف في استعمال الحق م 5و6) أقر معياراً آخر لمضار الجوار غير المألوفة لبيان حد المشروعية في استعمال حق الملكية (2) ومنه حق العلو والسفل، في المادة (776) ونصها ما يأتي:
«1 - على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار.
2 - وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف، على أن يراعى في ذلك العرف، وطبيعة العقارات وموقع كل منها بالنسبة إلى الآخر، والغرض الذي خصصت له، ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق». وهذا النص تطبيق لنظرية التعسف، وأقرب إلى تكييف الفقه الإسلامي الذي اعتمد عليه القانون المدني في صياغة نظرية عامة للتعسف.
ونصت المجلة على مضار الجوار غير المألوفة في المواد (1198 - 1212) ونص المادة (1198) هو ما يلي: «كل أحد له التعلي على حائط الملك وبناء ما يريد، وليس لجاره منعه ما لم يكن ضرره فاحشاً». وحددت المادة (1199) الضرر الفاحش بقولها: «والضرر الفاحش: كل ما يمنع الحوائج الأصلية، يعني المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى، أو يضر البناء أي يجلب عليه وهناً ويكون سبب انهدامه».

وأما الحائط المشترك: فإن القانون المدني نص على أحكامه أثناء بيان أحوال الارتفاق القانوني، فوضع قيوداً على المالك في استعمال أجزاء أرضه، ففي الحائط المشترك ليس لأحد الجارين أن يفتح فيه مطلات أو مناور؛ لأن هذا
_________
(1) تحفة الفقهاء: 314/ 2 ومابعدها، الأموال ونظرية العقد، يوسف موسى: ص 182.
(2) الحقوق العينية الأصلية للأستاذ الدكتور وحيد سوار: ص 314 ومابعدها.

(4/3257)


يتعارض مع الغرض الذي أعد له الحائط، وهو ستر كل من العقارين اللذين يفصل بينهما. ويستعمل الحائط المشترك بحسب الغرض الذي أعد له، وبالقدر الذي يحتمله كالاستناد المألوف عليه (انظر المادة 974، و 970 وما بعدها).
وهذا كله من الفقه الإسلامي عملاً بقاعدة: «الضرر يزال» (1) نصت المادة (1202) من المجلة على ذلك فيما يأتي: «رؤية المحل الذي هو مقر النساء كصحن الدار أو المطبخ والبئر يعد ضرراً فاحشاً، فإذا أحدث رجل في داره شباكاً أو بناءً مجدداً وجعل له شباكاً مطلاً على المحل الذي هو مقر نساء جاره الملاصق أو الفاصل بينهما طريق، فإنه يؤمر برفع الضرر، ويصير ذلك الرجل مجبوراً لدفع هذا الضرر بصورة تمنع وقوع النظر إما ببناء حائط أو وضع طبلة (حاجز خشبي)، لكن لايجبر على سد الشباك بالكلية، كما إذا عمل ساتراً من الأغصان التي يرى من بينها مقر نساء جاره، فإنه يؤمر بسد محلات النظر، ولا يجبر على هدمه، وبناء حائط محله، انظر المادة (22) وهي «الضرورات تقدر بقدرها».

رابعاً ـ عقد الهبة: استمد التقنين المدني في المواد (454 - 472) الأحكام الموضوعية لعقد الهبة من الفقه الإسلامي، وعلى التخصيص من كتاب الأحوال الشخصية لقدري باشا حيث قننت هذه الأحكام. ولكن التقنين أدخل تعديلاً جوهرياً على أحكام الفقه الإسلامي فيما يتعلق بالرجوع في الهبة إذ قيد هذا الحق بقيام عذر مقبول (المادة 468)، وضرب أمثلة على العذر المقبول من التقنينات الأجنبية (المادة 469). وذلك مع نقل أحكام موانع الرجوع في الهبة عن الفقه الحنفي (2) (المادة 470) وبذلك أكسب عقد الهبة صلابة وقوة في الإلزام، على النحو الذي يقرره جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة) الذين يعدون عقد الهبة لازماً لا يجوز
_________
(1) كتابنا نظرية الضمان: ص 205.
(2) دروس في العقود المدنية لأستاذنا الدكتور أكثم الخولي: ص 9.

(4/3258)


الرجوع فيه إلا في هبة الوالد لولده، بعكس الحنفية الذين يعتبرون الهبة عقداً غير لازم، يجوز فسخه والرجوع عنه (1).

شكلية الهبة: في الناحية الشكلية اشترط القانون لصحة الهبة كونها بسند رسمي، نصت المادة (456) على ما يأتي:
«
1ً - تكون الهبة بسند رسمي، وإلا وقعت باطلة ما لم تتم تحت ستار عقد آخر.
2 - ومع ذلك يجوز في المنقول أن تتم الهبة بالقبض، دون حاجة إلى سند رسمي». والسبب في اشتراط الرسمية هو تنبيه الواهب إلى خطورة تصرفه، وتوفير أسباب الحرية له في عقد ينزل به عن ماله دون مقابل.
كذلك اشترطت المادة (458) الرسمية في الوعد بالهبة فقررت: «الوعد بالهبة لا ينعقد إلا إذا كان بسند رسمي».
لكن على الرغم من أن رسمية الهبة تتعلق بالنظام العام، ويكون جزاؤها البطلان، فقد اعتبر القانون التنفيذ الاختياري بديلاً عاماً عن الرسمية. نصت المادة (457) على أنه: «إذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلة لعيب في الشكل، فلا يجوز لهم أن يستردوه ما سلموه» ويتضح من هذا النص أن التنفيذ الاختياري للهبة من جانب الواهب أو ورثته يحقق النتيجة نفسها التي تحققها الرسمية. وهذا يدل على أن القانون أوجد نوعاً جديداً ذا صبغة عامة من الشكلية هو التنفيذ الاختياري، وهو أكثر حماية للواهب من الرسمية. والتنفيذ الاختياري يشمل هبة العقار وهبة المنقول، غير أن المشرع القانوني قد نص على أهم تطبيقاته وأكثرها شيوعاً في الحياة العملية، وهو هبة المنقول المادي التي تتم بالقبض أو الهبة اليدوية.
_________
(1) سيأتي تفصيل القول في حكم الهبة.

(4/3259)


كذلك أجاز القانون (في المادة 456) استثناء من اشتراط الرسمية أن تتم الهبة تحت ستار عقد من عقود المعاوضة على سبيل الصورية، فتصح الهبة المستترة دون حاجة لسند رسمي.

وأما موقف الفقهاء المسلمين من الجانب الشكلي للهبة ففيه اتجاهان:
الاتجاه الأول (1) ـ هو مذهب المالكية، والحنابلة في غير المكيل والموزون: وهو يرى الاكتفاء بمبدأ الرضائية في الهبات، فتصبح صحيحة ناقلة للملكية بمجرد قبول الموهوب له. أما القبض (أو الحيازة) فهو شرط عند المالكية لتمام ولزوم الهبة، فإن لم يحصل القبض لم تلزم الهبة، وإن كانت صحيحة.
والاتجاه الثاني - هو مذهب الحنفية والشافعية، والإمام أحمد في هبة المكيل والموزون: وهو يعنى بشكل الهبة، ولا يرتّب على مجرد التراضي أثراً شرعياً، والهبة وإن كانت تنعقد بالإيجاب والقبول، فإنها لا تلزم الواهب ولا تنقل الملكية إلا بالقبض. أي أنه يعتبر التنفيذ الاختياري من جانب الواهب هو روح الهبة في هذا الاتجاه، أما مجرد تلاقي إرادة الطرفين فلا ينشئ الهبة بمعناها الصحيح، بل مجرد وعد بالهبة، لا يلزم الواهب. وإذا تم تنفيذ هذا الوعد اختياراً من جانب الواهب تقوم الهبة وتنتج آثارها وأهمها انتقال الملكية إلى الموهوب له.
والدافع إلى هذا الاتجاه هو الحرص على احترام الطابع التبرعي للهبة الذي يجب أن يميزها عن سائر التمليكات.

وأما الأحكام الموضوعية للهبة التي تضمنها القانون المدني والتي استمدها من الفقه الإسلامي فهي مايأتي:
1 - تعريف الهبة: الهبة عقد تصرَّف بمقتضاه الواهب في مال له دون
_________
(1) سيأتي بحث الموضوع في عقد الهبة.

(4/3260)


عوض (م 454) وعرف الفقهاء الهبة بقولهم: عقد يفيد التمليك بلا عوض حال الحياة تطوعاً.
لكن نصت الفقرة (2) من هذه المادة على أنه يجوز للواهب دون أن يتجرد عن نيةالتبرع أن يفرض على الموهوب له القيام بالتزام معين، كإلزام الموهوب له أن يعوله حتى موته، أو بأن يدفع له إيراداً مرتباً مدى الحياة.
ونصت المادة (855) من المجلة على أنه «تصح الهبة بشرط عوض ... » لكن الإمام الشافعي يرى أن اشتراط العوض صراحة يبطل العقد، لأنه شرط مخالف لمقتضاه.

2 - ركن الهبة: نصت المادة (455) على أن الهبة تتم بالإيجاب والقبول. وعلى أنه ينوب ولي القاصر عنه بقبول الهبة وبقبض الشيء الموهوب إذا كان الواهب هو ولي الموهوب أو وصيه.
وهذا هو المقرر ذاته في الفقه، نصت المادة (837) من المجلة على أنه «تنعقد الهبة بالإيجاب والقبول وتتم بالقبض». وذكر الفقهاء أن الولي ينوب مناب القاصر في القبض، فلو وهب أحد الأولياء للصغير شيئاً، والمال في أيديهم صحت الهبة، ويصيرون قابضين للصغير (1).

3 - الشروط الموضوعية للهبة:
لم يورد القانون المدني شروطاً خاصة بالهبة من حيث تلاقي الإيجاب والقبول، فيجب تطبيق القواعد العامة، فيشترط الرضا لصحة العقد وتطبق القواعد العامة في أحكام عيوب الرضا، وتتميز الهبة بأن الغلط في الشخص يجعل الهبة قابلة للإبطال.
كذلك يشترط في الواهب أن يكون كامل الأهلية؛ لأن الهبة من التصرفات
_________
(1) سيأتي تفصيل الكلام في ذلك في بحث عقد الهبة.

(4/3261)


الضارة بالواهب ضرراً محضاً. أما الموهوب له فيكفي فيه أن يكون مميزاً، لأن الهبة من التصرفات النافعة للموهوب له نفعاً محضاً.
ويستطيع الولي أو الوصي أن يهبا للصغير وينوبا عنه في قبول الهبة وقبض الشيء الموهوب كما تقدم (المادة 2/ 455). ولا يستطيع الولي أن يتبرع بمال القاصر إلا بإذن القاضي بعد تحقق المسوغ، كما نصت المادة (2/ 172) من قانون الأحوال الشخصية السوري. وكذلك يعدّ تبرع الوصي في مال القاصر باطلاً (المادة 180 من قانون الأحوال الشخصية السوري). ويجوز للمتبرع استبعاد الولاية على مال التبرع، بدليل النص في القانون السوري (في المادة 171) على أنه «إذا اشترط بدليل وجود النص في هذا المتبرع بمال للقاصر عدم تصرف وليه به تعين المحكمة وصياً خاصاً على هذا المال».
ويشترط في الموهوب أن يكون مملوكاً للواهب وموجوداً ومعيناً ومشروعاً، وعلى ذلك يكون حكم هبة ملك الغير كحكم بيع ملك الغير: وهو البطلان النسبي (القابلية للإبطال) لمصلحة الموهوب له، وعدم النفاذ في حق المالك الحقيقي (المواد 459، 434، 435).
ونصت المادة (460) على أنه «تقع هبة الأموال المستقبلة باطلة» وذلك استثناء من القواعد العامة في القانون التي تجيز أن يكون محل الالتزام شيئاً مستقبلاً، وهذا الحكم المستثنى مأخوذ من الشريعة الإسلامية التي تشترط وجود محل العقد وقت انعقاده في كل العقود.
ويلاحظ أن هذه الشروط المطلوبة لانعقاد الهبة قانوناً مستقاة من أحكام الفقه الإسلامي. ففي هذا الفقه يشترط اتحاد مجلس الإيجاب والقبول في كل عقود التمليكات، وتوفر الرضا والاختيار، وهذا ما نصت عليه المادة (860) من المجلة، وأن يكون للواهب أهلية التبرع أو كمال الأهلية؛ لأن الهبة تبرع، وهو ما نصت عليه المادة» (859) من المجلة، وألا تصدر الهبة منه في مرض موته، وإلا

(4/3262)


أخذت حكم الوصية فلا تنفذ إلا في حدود ثلث التركة، وألا يكون مديناً بديون مستغرقة، ولو لم يحجر عليه، وإلا توقفت على إجازة الدائنين. جاء النص على هذه الأحكام في المواد (879 - 880) من المجلة.
ويشترط في الموهوب له أن يكون حياً، فلا تجوز الهبة للجنين ولا للمعدوم، وأجازها المالكية، ويحسن الأخذ قانوناً بمبدأ إجازة الهبة للجنين.
كما يشترط أن يكون محل الهبة موجوداً وقت العقد، وهو شرط عام في كل عقود التمليكات في الحال، صوناً للعقد عن الإلغاء عند فوات المحل.
ونصت المادة (856) من المجلة على ذلك.
ويجب أن يكون الشيء مملوكاً للواهب، فإن كان الموهوب ليس مالاً للواهب، كانت هبة الفضولي، وهي موقوفة على إجازة المالك.
ونصت المادة (857) من المجلة على ذلك.
ويلزم أن يكون الموهوب معلوماً ومعيناً، وهو ما نصت عليه المادة (858) من المجلة.
أما هبة الحصة الشائعة فيما يقبل القسمة كالدار والبيت الكبير، فأجازها جمهور الفقهاء، كبيع المشاع. ولم يجزها الحنفية إلا بقسمتها وقبضها مفرزة عن غيرها (1).

4 - الرجوع في الهبة:
نصت المادة (468 - 472) على مبدأ جواز الرجوع في الهبة، وعلى الحالات التي يجوز فيها الرجوع، بشرط وجود عذر مقبول للرجوع. وهذه الأحكام ما عدا اشتراط وجود العذر مستمدة من الفقه الحنفي الذي يعتبر الرجوع مكروهاً لأنه من باب الدناءة، وللموهوب له أن يمتنع عن الرد، ولا يصح الرجوع إلا بالتراضي أو
_________
(1) المراجع تأتي في بحث الهبة.

(4/3263)


بقضاء القاضي؛ لأن الرجوع فسخ للعقد. ولا يجوز الرجوع عند وجود أحد موانع الرجوع السبعة وهي (العوض، أو تقديم بدل عن الهبة، والزيادة المتصلة كالبناء والغرس، وتصرف الموهوب له في الموهوب، وموت أحد العاقدين، وهلاك الموهوب في يد الموهوب له أو استهلاكه، وكون الهبة من أجل الثواب من الله تعالى كالصدقة، أو من أجل صلة الرحم، أو صلة الزوجية) وهذه الحالات نص عليها القانون في المادة (470)، ونصت عليها المجلة في المواد (866 - 874).

خامساً ـ تصرف المريض مرض الموت: استقى التقنين المدني من الفقه الإسلامي أحكام بيع المريض مرض الموت (1)، فاعتبر بيعه في حكم الوصية، كما اعتبر البيع لأحد الورثة بالمحاباة خاضعاً لأحكام الوصية. فلا يجوز بيع المريض مرض الموت محاباة إلا إذا أجازه الورثة إذا كان مقدار المحاباة يجاوز ثلث التركة، وإذا كان مديناً بدين مستغرق كان بيعه المشتمل على الغبن الفاحش موقوفاً على إجازة الدائنين. فإن لم يكن مديناً، وكان البيع بالمحاباة لغير الوارث أي بأقل من ثمن المثل نفذ بيعه من ثلث التركة. وإن لم يشتمل البيع على المحاباة بأن كان بثمن المثل صح البيع ونفذ.
أما البيع لوارث ولو بثمن المثل أي بدون غبن فهو موقوف عند أبي حنيفة وفي المجلة على إجازة الورثة لتعلق حقهم بعين التركة.
لكن هل للمريض مرض الموت التصرف لوارث في حدود ثلث التركة؟
يلاحظ أن المادة (445) من القانون المدني السوري المتعلقة ببيع المريض مرض الموت منقولة عن القانون المدني المصري الذي يجيز بدوره الوصية للوارث ولغيره في حدود الثلث (في المادة 73 من قانون الوصية المصري) وتنفذ من غير إجازة الورثة خلافاً لما يقرره فقهاء المذاهب الأربعة وجمهور فقهاء المسلمين،
_________
(1) الوسيط للسنهوري: ص46.

(4/3264)


ولكن عملاً برأي بعض أئمة الشيعة الزيدية، وبعض أئمة الشيعة الإمامية (الجعفرية)، والإسماعيلية.
وتنص هذه المادة (445) التي تعتبر المحاباة بحكم الوصية على ما يلي:
«1 - إذا باع المريض مرض الموت لوارث أو لغير وارث بثمن يقل عن قيمة المبيع وقت الموت فإن البيع يسري في حق الورثة، إذا كانت زيادة قيمةالمبيع على الثمن لا تتجاوز ثلث التركة داخلاً فيها المبيع ذاته.
2 - إذا كانت هذه الزيادة تجاوز ثلث التركة، فإن البيع فيما يجاوز الثلث لا يسري في حق الورثة إلاإذا أقروه، أو رد المشتري للتركة ما بقي بتكملة الثلثين.
3 - ويسري على بيع المريض مرض الموت أحكام المادة (877). وبناء على هذه المادة إذا كان البيع بالمحاباة خاضعاً لأحكام الوصية فإنه ينفذ من المريض مرض الموت إذا كانت زيادة قيمة المبيع على الثمن في حدود ثلث التركة».
والدليل على أن تصرف المريض مرض الموت تطبق عليه أحكام الوصية هو ما نصت عليه المادة (877) التالي نصها:
1 - كل عمل قانوني يصدر من شخص في مرض الموت، ويكون مقصوداً به التبرع، يعتبر تصرفاً مضافاً إلى ما بعد الموت، وتسري عليه أحكام الوصية أياً كانت التسمية التي تعطى لهذا التصرف.
2 - وعلى ورثة من تصرف أن يثبتوا أن العمل القانوني قد صدر من مورثهم وهو في مرض الموت، ولهم إثبات ذلك بجميع الطرق، ولا يحتج على الورثة بتاريخ السند إذا لم يكن هذا التاريخ ثابتاً.
3 - وإذا أثبت الورثة أن التصرف صدر من مورثهم في مرض الموت، اعتبر التصرف صادراً على سبيل التبرع، ما لم يثبت من صدر له التصرف عكس ذلك. كل هذا ما لم توجد أحكام خاصة تخالفه.

(4/3265)


وبما أن الوصية خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامي بنص المادة (876) من القانون السوري، فإن أحكام الشريعة المعمول بها في سورية خلافاً لمصر هي المقررة في قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر عام (1953) والتي بموجبها لا تجوز الوصية لوارث. نصت المادة (238) من هذا القانون على ما يلي:
«1 - تنفذ الوصية لغير وارث بثلث ما يبقى من التركة بعد وفاء الدين من غير إجازة الورثة.
2 - لا تنفذ للوارث ولا بما زاد على الثلث إلا إذا أجازها الورثة بعد وفاة الموصي، وكان المجيز كامل الأهلية.
3 - لا تنفذ فيما يستغرقه دين إلا بإجازة الدائن الكامل الأهلية أو بسقوط الدين.
4 - تنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له بكل ما له من غير توقف على إجازة أحد».
يتبين مما ذكر أن النص الوارد في المادة (445) مدني سوري الذي يجيز للمريض البيع بالمحاباة للوارث في حدود ثلث التركة معطل المفعول، ويكون البيع موقوفاً على إجازة الورثة عملاً بمقتضى الأحوال الشخصية السوري الذي لا يجيز الوصية للوارث إلا بإجازة الورثة.
هذا وقد نصت المجلة على أحكام بيع المريض في المواد (393 - 395) كما نصت المادة (1595) على تعريف مرض الموت بقولها:
«مرض الموت: هو الذي يخاف فيه الموت في الأكثر، الذي يعجز المريض عن رؤية مصالحه الخارجة عن داره إن كان من الذكور، ويعجزه عن رؤية المصالح الداخلة في داره إن كان من الإناث، ويموت على ذلك الحال قبل مرور سنة، صاحب فراش كان أو لم يكن.

(4/3266)


وإن امتد مرضه دائماً على حال، ومضى عليه سنة يكون في حكم الصحيح، وتكون تصرفاته كتصرفات الصحيح، ما لم يشتد مرضه ويتغير حاله، ولكن لو اشتد مرضه وتغير حاله ومات يعد حاله من وقت التغير إلى الوفاة مرض موت».

سادساً - أحكام متفرقة (الإبراء، مدة التقادم):
استمد القانون المدني طائفة من الأحكام في مناسبات مختلفة من الفقه الإسلامي، كانقضاء الالتزام دون الوفاء به، إما بالإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده، وإما بالتقادم المسقط لمضي مدة خمس عشرة سنة في الحقوق الخاصة.
هذا فضلاً عن أن كثيراً من الأحكام المقررة في القانون المدني يمكن تخريجها أو تسويغها بمبدأ من مبادئ الشريعة كالاستصلاح والاستحسان والعرف، أو حملها على مجموعة آراء فقهية من مذاهب مختلفة، كما أنه قد يكون لها شبه أو تطابق تام بينها وبين رأي فقهي معين. لكن مع كل ماسبق يظل القانون المدني السوري وأصله المصري غربي الطراز والتصور والأحكام، فلا يعفى المشرع من عودة حميدة لرياض الفقه الإسلامي الصالح لكل زمان ومكان.
الإبراء: إسقاط الدائن ماله في ذمة المدين من دين كثمن مبيع أو دين قرض، ويترتب عليه انتهاء التزام الدين كله أوبعضه بحسب الإبراء، وتفرغ منه ذمته. وهو عند الحنفية لا يحتاج إلى قبول وإنما يصح بإرادة الدائن وحده، وإنما يرتد بالرد؛ لأنه من قبيل الإسقاط كالطلاق، والإسقاط لا يتوقف على القبول. نصت المادة (8651) من المجلة على أنه: «لايتوقف الإبراء على القبول. ولكن يكون بالرد مردوداً، لأنه إذا أبرأ أحد آخر فلا يشترط قبوله، ولكن إذا رد الإبراء في ذلك المجلس بقوله: لا أقبل، يكون ذلك الإبراء مردوداً يعني لا يبقى له حكم، لكن لورده بعد قبول الإبراء لا يكون الإبراء مردوداً. وأيضاً إذا أبرأ المحال له المحال عليه أو صاحب الطلب الكفيل، ورد ذلك المحال عليه أو الكفيل لا يكون الإبراء مردوداً».

(4/3267)


وأخذ القانون المدني بمبدأ صحة الإبراء بإرادة الدائن وحده وهو المقرر في الفقه الحنفي. نصت المادة (369) منه على ما يأتي: «ينقضي الالتزام إذا أبرأ الدائن مدنيه مختاراً، ويتم الإبراء متى وصل إلى علم المدين، ويرتد برده».

التقادم: لا يعتبر التقادم (أو مضي المدة ومرور الزمن أو وضع اليد) في الشريعة الإسلامية سبباً صحيحاً من أسباب كسب الحقوق أو إسقاطها ديانة إذ «لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي» ولأن الحق أبدي لا يزول إلا بمسوغ شرعي مقبول. وإنما التقادم ما نع فقط للقاضي من سماع الدعوى بالحق القديم الذي أهمل صاحبه الادعاء به زمناً طويلاً معيناً بلا عذر. وذلك للشك في أصل الحق وفي إثباته بعد هذه المدة الطويلة، وحماية لمبدأ الاستقرار في الأوضاع الحقوقية، وتجنباً لإثارة المشكلات في الإثبات ونحوه؛ لأن القضاء في الإسلام مظهر للحق لا مثبت له، والحقوق الثابتة لا يؤثر فيها ديانة مرور الزمان وتقادم العهد. إلا أن القضاء مع هذا يقبل التخصيص بالزمان والمكان والخصومة، ويقبل التعليق بالشرط. وبناء عليه يصح للدولة منع القاضي من سماع دعوى على شخص مضى على وضع يده خمس عشر سنة مثلاً، فيعتبر قضاؤه بعدئذ غير نافذ (1).
ويمكن تسويغ ذلك بنظرية المصالح المرسلة التي تجيز للحاكم اتخاذ التدابير القضائية المناسبة لإقرار الحقوق والاهتمام بها، وإبعاد القضاء عن المشكلات المعقدة في إثبات حقوق قديمة. وهذا المعنى هو أساس الأخذ بفكرة التقادم قانوناً، فإن القانونيين قالوا: إن التقادم يقوم على أساس اعتبارات ذات طابع عام أي متصلة بالصالح العام للمجتمع كله، لا على أساس اعتبارات فردية، فالضرورات الاجتماعية هي التي أدت إلى إقرار هذا النظام.
_________
(1) راجع كتابنا نظرية الضمان: ص 101.

(4/3268)


أخذ القانون من الفقه الإسلامي تقدير مدة التقادم المسقط، حيث نصت المادة (372) مدني سوري على أنه «يتقادم الالتزام بانقضاء خمس عشرة سنة فيما عدا الحالات التي ورد عنها نص خاص في القانون، وفيما عدا الاستثناءات التالية».
وكذلك في التقادم المكسب نصت المادة (919) على ما يلي:
«يُكتسب حق تسجيل التصرف في الأراضي الأميرية غير الخاضعة لإدارة أملاك الدولة، بمرور عشر سنوات من تاريخ الحيازة بسند أو بغير سند، بشرط أن يكون الحائز قائماً بزراعة الأرض».
وتقدير المدة في الحالتين مأخوذ من الفقه الإسلامي، حيث ذكر الفقهاء أن التقادم يسري على الحقوق الخاصة، ومدته العادية خمس عشرة سنة، فإذا مرت مروراً معتبراً دون ادعاء بالمال من قبل صاحبه لا تسمع دعواه بعدها (1).
وأما الأموال العامة فلا تسمع الدعوى فيها بعد مضي (33) سنة في الوقف والإرث، وبعد (36) سنة في أموال بيت المال، وبعد عشر سنوات في الأراضي الأميرية.
وأما المجلة فأخذت في المادة (1662) بمدة (15) سنة في جميع الحقوق غير الوقف فهي (36) سنة، والأراضي الأميرية فهي عشر سنين.
وتبتدئ المدة من وقت ظهور واضع اليد على الشيء بمظهر المالك لها، وعدم المانع الشرعي من إقامة دعواه كالصغر والجنون والعته. وهذا ما نصت عليه المادة (1663) من المجلة.
كما نصت المادة (379) على حالات وقف التقادم بقولها: «1 - لا يسري التقادم كلما وجد مانع يتعذر معه على الدائن أن يطالب بحقه، ولو كان المانع أدبياً، وكذلك لايسري التقادم فيما بين الأصيل والنائب.
_________
(1) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 156 ص 230.

(4/3269)


2 - ولا يسري التقادم الذي تزيد مدته على خمس سنوات في حق من لا تتوافر فيه الأهلية أو في حق الغائب، أو في حق المحكوم عليه بعقوبة جنائية إذا لم يكن له نائب يمثله قانوناً».

خاتمة
في آخر هذا البحث أؤكد ضرورة العودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية واستمداد القوانين منها، ما دمنا نعمنا ولله الحمد بالاستقلال، وقد أوضحت هذا القسم من الأحكام الذي استمده القانون المدني من الفقه ليكون عنواناً مشرقاً وبرهاناً ساطعاً على أن في شريعتنا الغراء كنوزاً خالدة لا تحتاج إلا إلى صياغة جديدة بروح العصر ومفاهيمه على منوال التقنينات الجديدة.
قال الدكتور السنهوري: على أننا لا نريد بتقليد التقنينات الحديثة أن نذهب في ذلك إلى مدى أبعد مما ينبغي. وإذا كنا نقول بالاستفادة دون تحفظ من التقنينات الغربية من ناحية الشكل والصياغة، ففي المادة والموضوع نتحفظ كثيراً في هذا القول.
ثم علق على قرار وزارة العدل العراقية باتخاذ الشريعة الإسلامية أساساً للتقنين قبل صدوره، فقال: ولما كان القرار خطيراً، وهو يؤذن بعهد جديد للفقه الإسلامي، يجاري فيه الزمن، ويساير التطور، كان من الواجب أن نقف عنده حتى نمعن في مراميه.
فأول أثر لهذا القرار أن يرد لهذه الشريعة السمحاء مكانتها بعد أن كادت تضيع، فقد رأينا أن البلاد الشرقية (أي العربية شرق المتوسط) التي راجعت تقنيناتها المدنية عدلت عن الشريعة الإسلامية إلى القوانين الغربية، وبقيت القاعدة

(4/3270)


مطردة من النصف الثاني للقرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر، فمصر تلتها تونس ومراكش وتركيا ولبنان، وكل هذه بلاد كانت تطبق الشريعة الإسلامية. ثم أعادت النظر في تقنيناتها، فقلبتها رأساً على عقب، إما باختيارها أو تحت تأثير نفوذ سياسي، وهجرت الشريعة الإسلامية إلى القوانين الغربية. أما العراق فهو أول بلد عربي اعتز بتراث أجداده، وحرص عليه من الضياع. فالعراق يرفع صوته عالياً بأن الشريعة الإسلامية لا تزال نظاماً قانونياً حياً صالحاً للتطبيق، وليس لسائر الأقطار العربية إلا أن تقتفي أثر العراق.
وهناك فرق جوهري بين أن نجعل مصدر الأحكام الصالحة التقنينات الغربية، وبين أن نجعل مصدرها الشريعة الإسلامية، ففي الحالة الأولى نكون قد قطعنا كل صلة بالقديم، وبدأنا حياة قانونية جديدة، نكون فيها عالة على فقه الغرب وجهوده، نأخذ منه ولا نعطيه. أما في الحالة الثانية فنكون قد احتفظنا بصلة الماضي، وجعلنا من هذه الصلة أساساً يقوم عليه المستقبل، واحتفظنا باستقلالنا القانوني، فلا نكون عالة على فقه الغرب، وفي الوقت ذاته نكون قد استفدنا من هذا الفقه إلى أبعد مدى، إذ تصبح الأحكام التي اخترناها وخرَّجناها على أحكام الشريعة الإسلامية متفقة مع أحدث الأحكام القانونية الغربية وأرقاها (1).
_________
(1) راجع مقال الدكتور السنهوري في مجلة المحامين بدمشق، العددان السادس والسابع، من السنة الأولى: ص 505 - 508.

(4/3271)


انتهى الجزء الرابع
ويليه الجزء الخامس ـ العقود (التصرفات المدنية المالية)

(4/3272)