الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المبحث الأول - في تكوين عقد البيع.
المبحث الثاني - شروط البيع.
المبحث الثالث - حكم البيع والكلام في المبيع والثمن.
المبحث الرابع - البيع الباطل والبيع الفاسد.
المبحث الخامس - الخيارات.
المبحث السادس- أنواع البيع:
1 - السلم أو السلف
_________
(1) عقد البيع للأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء: ص 5،21.
(5/3303)
2 - الاستصناع
3 - الصرف
4 - بيع الجزاف
5 - الربا
6 - بيوع الأمانة (المرابحة والتولية والوضيعة)
7 - الإقالة
المبحث الأول - تكوين عقد البيع وفيه
مطلبان:
المطلب الأول - تعريف البيع ومشروعيته
وآدابه
المطلب الثاني - ركن البيع أو كيفية انعقاده
المطلب الأول - تعريف البيع ومشروعيته وآدابه:
تعريف البيع:
البيع لغة: مقابلة شيء بشيء، وهو من أسماء الأ ضداد أي التي تطلق على الشيء
وعلى ضده، مثل الشراء (1) كما في قوله تعالى: {وشروه بثمن بخس}
_________
(1) ومثل القرء والجون: يطلق على الشيء وضده. قال المعلِّق على نيل
الأوطار: 5 ص142: للبيع تفسير لغة وشرعاً وركن وشرط ومحل وحكم وحكمة. أما
معناه لغة: فمطلق المبادلة، وهو والشراء ضدان، ويطلق البيع على الشراء
أيضاً، فلفظ البيع والشراء يطلق كل منهما على مايطلق عليه الآخر، فهما من
الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة. وشرعاً هو مبادلة مال بمال على
سبيل التراضي. ثم قال: وأما ركنه فإيجاب وقبول. وأما شرطه: فأهلية
العاقدين. وأما محله فهو المال. وأما حكمه: فهو ثبوت الملك للمشتري في
المبيع، وللبائع في الثمن إذا كان تاماً، وعند الإجازة إذا كان موقوفاً،
وأما حكمته على ماذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أن حاجة الإنسان تتعلق
بما في يد صاحبه غالباً، وصاحبه قد لايبذله، ففي شرعيةالبيع وسيلة إلى بلوغ
الغرض من غير حرج. ثم ذكر صاحب التعليق حكماً أخرى.
(5/3304)
[يوسف:20/ 12] أي باعوه، وقوله سبحانه:
{ولبئس ما شروا به أنفسهم} [البقرة:102/ 2] ويقال لكل من المتعاقدين: بائع
وبيّع، ومشتر وشار.
واصطلاحاً عند الحنفية: مبادلة مال بمال على وجه مخصوص أو هو مبادلة شيء
مرغوب فيه بمثله على وجه مفيد مخصوص أي بإيجاب أو تعاطٍ. وخرج بقيد: (مفيد)
ما لا يفيد كبيع درهم بدرهم. وغير المرغوب: مثل الميتة والدم والتراب (1).
وقال النووي في المجموع: البيع: مقابلة مال بمال تمليكاً (2).
وعرفه ابن قدامة في المغني (3): مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً.
وهو مشتق من الباع؛ لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه للأخذ والإعطاء،
ويحتمل أن كل واحد منهما كان يبايع صاحبه، أي يصافحه عند البيع، فسمي البيع
صفقة (4).
والمراد بالمال عند الحنفية: ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة،
والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم. وقد انتقد الأستاذ الزرقاء هذا
التعريف، واستبدل به تعريفاً آخر، فقال: المال هو كل عين ذات قيمة مادية
بين
_________
(1) البدائع: 5 ص133، فتح القدير: 5 ص73، حاشية ابن عابدين: 4 ص3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 2 ص2.
(3) انظر ج3 ص 559.
(4) المرجع السابق.
(5/3305)
الناس (1). وعليه لا تعتبر المنافع والحقوق
المحضة ما لاً عند الحنفية. أما جمهور الفقهاء فقد اعتبروها مالاً متقوماً؛
لأن المقصود من الأعيان منافعها.
والمقصود من البيع هنا: هو العقد المركب من الإيجاب والقبول.
مشروعية البيع:
البيع جائز بأدلة من القرآن والسنة والإجماع (2).
أما القرآن: فقوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:2/ 275] وقوله سبحانه:
{وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة:282/ 2] وقوله عز وجل: {إلا أن تكون تجارة
عن تراضٍ منكم} [النساء:29/ 4] وقوله جل جلاله: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا
فضلاً من ربكم} [البقرة:198/ 2].
وأما السنة فأحاديث، منها: سئل النبي صلّى الله عليه وسلم: أي الكسب أطيب؟
فقال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» (3) أي لا غش فيه ولا خيانة، ومنها
حديث: «إنما البيع عن تراض» (4) وقد بعث الرسول صلّى الله عليه وسلم والناس
يتبايعون فأقرهم عليه،
_________
(1) راجع المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي له: ص 114 -
118.
(2) المراجع السابقة، المبسوط: 2 ص 108، المهذب: 1 ص257.
(3) رواه البزار وصححه الحاكم عن رفاعة بن رافع، وذكره ابن حجر في التلخيص
الحبير عن رافع بن خديج وعزاه لأحمد، وذكره السيوطي في الجامع الصغير عن
رافع (سبل السلام: 3 ص4).
(4) هذا حديث طويل رواه البيهقي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي سعيد
الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لألقين الله من قبل أن أعطي
أحداً من مال أحد شيئاً بغير طيب نفسه، إنما البيع عن تراض» ورواه عبد
الرزاق في الجامع عن عبد الله بن أبي أوفى بلفظ: «البيع عن تراض والتخيير
بعد صفقة» الجامع عن عبد الله بن أبي أوفى بلفظ: «البيع عن تراض والتخيير
بعد صفقة» (الجامع الصغير: 1ص102، كنز الدقائق: 2ص212، شرح المجموع للنووي:
9 ص158) وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة حديثاً بمعناه بلفظ «لايفترق
اثنان إلا عن تراض» (جامع الأصول: 2ص9، مجموع الزوائد: 4 ص100).
(5/3306)
وقال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين،
والصديقين، والشهداء» قال الترمذي: «هذا حديث حسن».
وأجمع المسلمون على جواز البيع، والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق
بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي تشريع البيع طريق إلى
تحقيق كل واحد غرضه ودفع حاجته، والإنسان مدني بالطبع، لايستطيع العيش بدون
التعاون مع الآخرين.
والأصل في البيوع الإباحة، قال الإمام الشافعي: «فأصل البيوع كلها مباح إذا
كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر فيما تبايعا، إلا ما نهى عنه رسول الله
صلّى الله عليه وسلم منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلّى الله
عليه وسلم محرم بإذنه داخل في المعنى المنهي عنه، وما فارق ذلك أبحناه
بماوصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى» أي في قوله سبحانه: {وأحل
الله البيع} [البقرة:275/ 2] وقوله: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}
[النساء:29/ 4].
آداب البيع: للبيع آداب كثيرة منها:
1 - عدم المغالاة في الربح: إن الغبن الفاحش في الدنيا ممنوع بإجماع
الشرائع، إذ هو من باب الخداع المحرَّم شرعاً في كل ملة، لكن اليسير منه
الذي لا يمكن الاحتراز عنه لأحد أمر جائز، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع
أبداً، لأنه لا يخلو منه بيع عادة. فإن كان الغبن كثيراً أمكن الاحتراز
منه، فوجب رد البيع به. وقدر علماء المالكية الغبن الكثير بالثلث فأكثر؛
لأنه المشروع في الوصية وغيرها (1)، فيكون الربح الطيب المبارك فيه ما كان
بقدر الثلث فأكثر.
_________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1804/ 4.
(5/3307)
2 - صدق المعاملة: بأن يصف البضاعة بوصفها
الحقيقي، دون كذب في الإخبار عن نوعها وجنسها ومصدرها وتكاليفها، أخرج
الترمذي عن رفاعة حديثاً: «إن التجار يبعثون يوم القيامة فجّاراً إلا من
اتقى الله وبرَّ وصَدَق» والبر: الإحسان في المعاملة. وأخرج الترمذي الحديث
السابق عن الخدري: «التاجر الصدوق .. ».
3 - السماحة في المعاملة: بأن يتساهل البائع في الثمن فينقص منه، والمشتري
في المبيع فلا يتشدد في شروط البيع ويزيد في الثمن، أخرج البخاري عن جابر
حديثاً: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى بدينه» أي
طالب به.
4 - اجتناب الحلف ولو كان التاجرصادقاً: يندب الامتناع عن الحلف بالله
مطلقاً في البيع، لأنه امتحان لا سم الله تعالى، قال سبحانه: «ولا تجعلوا
عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس» وأخرج البخاري ومسلم عن
أبي هريرة حديثاً: «الحلف مَنْفَقة للسلعة، مَمْحَقة للبركة».
5 - كثرة الصدقات: يندب للتاجر كثرة التصدق تكفيراً لما يقع فيه من حلف
أوغش أو كتمان عيب أو غبن في السعر أو سوء خلق ونحو ذلك، أخرج الترمذي وأبو
داود وابن ماجه عن قيس بن أبي غرزة حديثاً: «يا معشر التجار، إن الشيطان
والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة».
6 - كتابة الدين والإشهاد عليه: تستحب كتابة العقد ومقدار الدين المؤجل،
ويندب الإشهاد على البيع نسيئةً (لأجل) وعلى كتابة الدين، لقوله تعالى: {يا
أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} .. {واستشهدوا
شهيدين من رجالكم} [البقرة:2/ 282].
(5/3308)
المطلب الثاني - ركن
البيع أو كيفية انعقاده ركن (1) البيع عند الحنفية:
هو الإيجاب والقبول الدالان على التبادل أو ما يقوم مقامهما من التعاطي.
فركنه بعبارة أخرى: الفعل الدال على الرضا بتبادل الملكين من قول أو فعل
(2)، وهذا قولهم في العقود.
وللبيع عند الجمهور أركان أربعة: وهي البائع والمشتري والصيغة والمعقود
عليه وهذا رأيهم في كل العقود.
والإيجاب عند الحنفية: إثبات الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولاً من
كلام أحد المتعاقدين، سواء وقع من البائع كبعت، أو من المشتري كأن يبتدئ
المشتري فيقول: اشتريت بكذا.
والقبول: ما ذكر ثانياً من كلام أحد المتعاقدين (3). فالمعتبر إذن أولية
الصدور وثانويته فقط سواء أكان من جهة البائع أم من جهة المشتري.
وعند الجمهور: الإيجاب: هو ما صدر ممن يكون منه التمليك وإن جاء متأخراً.
والقبول: هو ما صدر ممن يصير له الملك وإن صدر أولاً (4).
وأركان البيع عند الجمهور غير الحنفية ثلاثة أو أربعة (5): عاقد (بائع
ومشتر) ومعقود عليه (ثمن ومثمن) وصيغة (إيجاب وقبول).
_________
(1) الركن عند الحنفية: هو مايتوقف عليه وجود الشيء وكان جزءاً منه، وعند
الجمهور: هو مايتوقف عليه وجود الشيء وتصوره في العقل سواء أكان جزءاً منه،
أم كان مختصاً به وليس جزءاً منه. وأما الشرط فهو مايتوقف عليه وجود الشيء
وليس جزءاً منه.
(2) فتح القدير: 5 ص 74، البدائع: 5 ص 133، حاشية ابن عابدين: 4ص 5
ومابعدها.
(3) المراجع السابقة.
(4) شرح المنهج للشيخ زكريا الأنصاري: 2 ص 180 ومابعدها، كشاف القناع: 2 ص
3.
(5) الشرح الكبير: 2/ 3، مغني المحتاج: 3/ 2، كشاف القناع: 135/ 3.
(5/3309)
والكلام في الإيجاب والقبول في موضعين:
أحدهما ـ في صيغة الإيجاب والقبول.
والثاني ـ في صفة الإيجاب والقبول.
1 - صيغة الإيجاب والقبول صيغة العقد:
هي صورته التي يقوم بها من إيجاب وقبول إن كان العقد التزاماً بين طرفين،
أو إيجاب فقط إن كان التزاماً من جانب واحد.
اتفقت الشرائع على أن مدار وجود العقد وتحققه هو صدور ما يدل على التراضي
من كلا الجانبين بإنشاء التزام بينهما. وهذا هو ما يعرف عند العلماء (بصيغة
العقد) وهو ما يسمى عند القانونيين (التعبير عن الإرادة) ويشترط في صيغة
العقد أن يكون صدورها من المتعاقدين بطريق يعتبره الشارع، وطريق اعتبار
الشارع عند الحنفية: هو أن البيع ينعقد بكل لفظ يدل على التراضي بتبادل
الملك في الأموال بحسب عرف الناس وعاداتهم (1).
فقالوا (2): ينعقد البيع بصيغة الماضي مثل: بعت، واشتريت. وبصيغة الحال مع
النية مثل: أبيع وأشتري.
أما البيع بلفظ الاستدعاء الذي يعبر به
عن المستقبل، فلا ينعقد به البيع عند الحنفية كأن يقول: (بعني أو اشتر مني)
ما لم يقل المشتري مرة ثانية في المثال الأول: اشتريت، وفي المثال الثاني:
يقول البائع ثانية: (بعت) لأن طالب البيع أو الشراء وهو المستدعي، ينسب إلى
الغش والتدليس في العادة، فربما فهم الناس منه
_________
(1) أصول البيوع الممنوعة في الشريعة والقانون للأستاذ الشيخ عبد السميع
إمام: ص (16، 18).
(2) البدائع: 133/ 5.
(5/3310)
أنه لو لم يكن في البيع عيب، لما كان يسأل
غيره في أخذه، وإنما غيره هو الذي يطلبه، كما هو المعروف في الأسواق، ثم
إنه لو تأخر القبول عن الإيجاب لم يصح به البيع، فلم يصح إذا تقدم، ولأنه
عقد خلا عن القبول، فلم ينعقد كما لو لم يطلب البيع أو الشراء.
الفرق بين البيع والزواج: البيع بخلاف
عقد النكاح، فإنه يصح بلفظ الاستدعاء، مثل أن يقول: (زوجني) لأنه في هذه
الحالة يكون قوله: (زوجني) توكيلاً بالزواج، فإن زوجه امتثل أمره، ولبى
طلبه فيكون المزّوج ولياً من طرف ووكيلاً من طرف، والشخص الواحد: يتولى
طرفي عقد النكاح، بخلاف البيع، فإنه لا يجوز أن يتولى الواحد طرفي العقد في
البيع إلا الأب يشتري مال ابنه لنفسه أو يبيع ماله منه، وكذلك الوصي عند
أبي حنيفة إذا اشترى لليتيم من نفسه أو لنفسه منه.
وهناك فرق آخر بين البيع والنكاح: وهو أن لفظ الأمر للمساومة حقيقة، فلا
تكون صيغته إيجاباً وقبولاً حقيقة، بل هي طلب الإيجاب والقبول، فلا بد
للإيجاب والقبول من لفظ آخر يدل عليهما، ولا يمكن حمل هذه الصيغة على
المساومة في النكاح؛ لأن المساومة لا توجد فيه عادة؛ لأنه مبني على مقدمة
الخطبة، فتحمل هذه الصيغة على الإيجاب والقبول. أما البيع فلا يكون مسبوقاً
بمثل ذلك، فكان الأمر فيه مساومة، عملاً بحقيقة لفظ الأمر، ولا يعدل عن
الحقيقة إلى شيء آخر إلا بدليل، ولم يوجد في البيع، بخلاف النكاح كما تقدم.
والخلاصة: أن صيغة البيع عند الحنفية إما أن تكون بلفظين من غير نية، وذلك
بصيغة الماضي، مثل بعت واشتريت، وهذه الصيغة وإن كانت للماضي وضعاً، لكنها
جعلت إيجاباً للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاض على اللغة.
__________
[التعليق]
الفرق بين البيع والنكاح انظر أيضاً:
5/ 3318
* أبو أكرم الحلبي
(5/3311)
أو بلفظين مع النية للحال، وذلك بصيغة
المضارع؛ لأن المضارع يحتمل الحال أو الاستقبال، فتكون النية لدفع المحتمل:
وهو أن يراد الوعد بالبيع في المستقبل، فتكون نية الإيجاب للحال مانعة من
إرادة المستقبل.
أو بثلاثة ألفاظ، وذلك بلفظ الاستفهام: بأن قال المشتري: (أتبيع مني هذا
الشيء؟) أو بلفظ الأمر بأن قال البائع: (اشتر مني هذا الثوب) أو قال
المشتري: (بع مني هذا الثوب) لا ينعقد في هذه الأمثلة ما لم ينضم إليها لفظ
ثالث، فيقول المشتري في المثال الأول: (اشتريت) لأن لفظ الاستفهام لا
يستعمل للحال حقيقة، ويقول البائع في المثال الثاني: (بعت) ويقول المشتري
في المثال الثالث: (اشتريت).
وعلى هذا، لا يصح أصلاً البيع بلفظ الأمر مجرداً سواء نوى، أو لم ينو إلا
إذا دل على الحال مثل: (خذه بكذا) كما لا يصح أصلاً بالمضارع المقترن
بالسين أو سوف، مثل: (سأبيعك) لأن ذكر السين يناقض إرادة الحال (1).
وقال المالكية، والشافعية في الأظهر، والحنابلة: ينعقد العقد سواء أكان
بيعاً أم نكاحاً بلفظ الاستدعاء مثل: «بعني» أو «اشتر مني» فيقول الآخر:
«بعت» أو «اشتريت» لأن أساس العقد هو التراضي، ولفظ الإيجاب والقبول وجد
منهما على وجه تحصل منه الدلالة على تراضيهما به عرفاً، فصح كما لو تقدم
الإيجاب، وبه يحصل الغرض بكون المستدعي بائعاً أو مشترياً (2).
_________
(1) البدائع: 5 ص 133 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 5 ص 75 ومابعدها،
حاشية ابن عابدين: 4ص9 ومابعدها.
(2) بداية المجتهد: 2 ص 168، حاشية الدسوقي: 3 ص 3، الميزان: 2 ص 63، مغني
المحتاج: 2ص4، المغني: 3 ص 560، كشاف القناع: 136/ 3.
(5/3312)
بيع المعاطاة:
بيع المعاطاة أو بيع المراوضة: هو أن
يتفق المتعاقدان على ثمن ومثمن، ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول، وقد يوجد
لفظ من أحدهما.
مثل: أن يأخذ المشتري المبيع، ويدفع للبائع الثمن، أو يدفع البائع المبيع،
فيدفع له الآخر ثمنه من غير تكلم ولا إشارة، سواء أكان المبيع حقيراً أم
نفيساً. وقد اختلف الفقهاء في حكمه.
فقال الحنفية والمالكية والحنابلة في الأرجح عندهم: يصح بيع المعاطاة متى
كان هذا معتاداً دالاً على الرضا ومعبراً تماماً عن إرادة كل من
المتعاقدين، والبيع يصح بكل ما يدل على الرضا، ولأن الناس يتبايعون في
أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر، ولم ينقل إنكاره عن أحد، فكان ذلك إجماعاً،
فالقرينة كافية هنا في الدلالة على الرضا (1).
وقال الشافعية: يشترط أن يقع العقد بالألفاظ الصريحة أو الكنائية، بالإيجاب
والقبول، فلا يصح بيع المعاطاة، سواء أكان المبيع نفيساً أم حقيراً؛ لأن
الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إنما البيع عن تراض» (2) والرضا أمر خفي،
فاعتبر ما يدل عليه من اللفظ، لا سيما عند إثبات العقد حالة التنازع، فلا
تقبل شهادة الشهود لدى الحاكم إلا بما سمعوه من اللفظ.
وقد اختار جماعة من الشافعية منهم النووي والبغوي والمتولي صحة انعقاد بيع
المعاطاة في كل ما يعده الناس بها بيعاً، لأنه لم يثبت اشتراط لفظ، فيرجع
_________
(1) البدائع: 5 ص 134، فتح القدير: 5 ص 77، بداية المجتهد: 2 ص 161،
المغني: 3 ص 561.
(2) صححه ابن حبان.
(5/3313)
للعرف كسائر الألفاظ المطلقة، قال النووي:
وهذا هو المختار للفتوى. وبعض الشافعية كابن سريج والروياني خصص جواز بيع
المعاطاة بالمحقرات أي غير النفيسة: وهي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة كرطل
خبز وحزمة بقل
ونحوها (1).
ويلاحظ أن الفقهاء أجمعوا على أن الزواج لا ينعقد بالفعل، بل لا بد من
القول للقادر عليه لخطره، فكان لا بد من الاحتياط له، وإتمامه بأقوى
الدلالات على الإرادة: وهو القول.
2 - صفة الإيجاب والقبول ـ الكلام في خيار
المجلس:
لا يكون كل من الإيجاب والقبول لازماً قبل وجود الآخر، فإذا وجد أحدهما لا
يلزم قبل وجود الشطر الآخر، ويكون لكل من المتعاقدين حينئذ خيار القبول
والرجوع، فإذا تم الإيجاب والقبول، فهل يكون لأحد العاقدين في مجلس العقد
خيار الرجوع؟
اختلف العلماء فيه.
فقال الحنفية والمالكية والفقهاء السبعة بالمدينة (2): يلزم العقد بالإيجاب
والقبول؛ لأن البيع عقد معاوضة، يلزم بمجرد تمام لفظ البيع والشراء، ولا
يحتاج إلى خيار مجلس، ولقول عمر رضي الله عنه: «البيع صفقة أو خيار».
وقالوا عن حديث «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا»: المراد بالمتبايعين: هما
_________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 3 ومابعدها، المهذب: 1 ص 257، الأشباه والنظائر
للسيوطي: ص 89، ط التجارية.
(2) فقهاء المدينة السبعة هم: سعيد بن المسيب (توفي 94 هـ)، عروة بن الزبير
(94 هـ)، القاسم بن محمد (106هـ)، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
(94هـ)، عبيد الله بن عتبة بن مسعود (98هـ)، سليمان بن يسار (107هـ)، خارجة
بن زيد بن ثابت (99هـ).
(5/3314)
المتساومان والمتشاغلان بأمر البيع،
والمراد بالتفرق التفرق بالأقوال: وهو أن يقول الآخر بعد الإيجاب: لا
أشتري، أو يرجع الموجب قبل القبول، فالخيار قبل القبول ثابت. ورد بعضهم هذا
الحديث لمعارضته لآية {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4]
وآية {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] وقال بعضهم: إنه منسوخ.
يظهر من هذا أن خيار المجلس مقصور عند هؤلاء على ما قبل تمام العقد، فإذا
أوجب أحد المتعاقدين، فالآخر بالخيار: إن شاء قبل في المجلس، وإن شاء رد،
وهذا هو خيار القبول (1) وخيار الرجوع.
وقال الشافعية والحنابلة وسفيان الثوري وإسحاق: إذا انعقد البيع بتلاقي
الإيجاب والقبول، يقع العقد جائزاً أي غير لازم، ما دام المتعاقدان في
المجلس، ويكون لكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ما دام
مجتمعين لم يتفرقا أو يتخايرا، والمحكَّم في التفرق: العرف (2): وهو أن
يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه.
_________
(1) البدائع: 5 ص 134، فتح القدير: 5 ص 78، بداية المجتهد: 2 ص 169
ومابعدها، حاشية الدسوقي: 3 ص 81،المنتقى على الموطأ: 5 ص 55، القوانين
الفقهية: ص 274، كشاف القناع: 187/ 3، ط مكة.
(2) مغني المحتاج: 2 ص 43، 45، المغني: 3 ص 563، المهذب: 1 ص 257. قال بعض
الحنابلة: يختلف العرف في التفرق باختلاف مواضع البيع:: ففي فضاء واسع أو
سوق: يكون التفرق بمشي أحد العاقدين مستدبراً لصاحبه خطوات بحيث لا يسمع
كلامه المعتاد، وفي السفينة بصعود أحدهما لأعلاها، أونزوله لأسفلها، وفي
قارب صغير بخروج أحدهما منه ويمشي، وفي دار كبيرة بخروجه من بيت أو مجلس
لآخر، وفي دار صغيرة بصعود أحدهما السطح أو خروجه منها. ولا يحصل التفرق
ببناء حائط بين العاقدين، ولا إن ناما أو مشيا جميعاً (راجع غاية المنتهى:
2 ص 30).
(5/3315)
والمراد به التفرق بالأبدان، وهو التفرق
حقيقة. وهو الذي يكون لذكره في الحديث فائدة، لأنه معلوم لكل واحد أن
المتعاقدين بالخيار إذا لم يقع بينهما عقد بالقول.
وهذا هو خيار المجلس الثابت في أنواع البيع، لما روى الشيخان أنه صلّى الله
عليه وسلم قال: «البيِّعان بالخيار، ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما للآخر:
اختر» (1) أي اختر اللزوم. قال ابن رشد: وهذا حديث إسناده عند الجميع من
أوثق الأسانيد، وأصحها. وقد أثبت ابن حزم في المحلى تواتره.
وردوا على المالكية والحنفية بأن اللفظ الوارد في هذا الحديث لا يحتمل ما
قالوه (أي التفرق بالأقوال) إذ ليس بين المتبايعين تفرق بلفظ ولا اعتقاد،
إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع، بعد الاختلاف فيهما. وتأويلهم يبطل
فائدة الحديث، لأنه من المعلوم أنهما بالخيار قبل العقد في إنشائه،
وإتمامه، أو تركه، ومعنى قول عمر السابق: «البيع صفقة أو خيار» هو أن البيع
ينقسم إلى بيع شرط فيه الخيار، وبيع لم يشترط فيه الخيار، وقد سماه صفقة
لقصر مدة الخيار فيه.
إلا أنه أخذ على هذا الرأي كونه يهدر أو يزعزع القوة الملزمة للعقد، وهو
مبدأ خطير من أهم المبادئ القانونية (2). لكنني رددت على هذا الاتهام في
بحث نظرية الفسخ السابقة.
_________
(1) سبل السلام: 3 ص 33 وما بعدها. وهذا هو بيع الخيار عند الشافعي: وهو أن
يقول أحد المتعاقدين للآخر بعدما تم الإيجاب والقبول وقبل التفرق: اختر: إن
شئت فدع، وإن شئت فخذ. فإذا أخذ لزم البيع وقام الخيار مقام التفرق
بالأبدان.
(2) راجع مصادر الحق للسنهوري: 2 ص 37 وما بعدها.
(5/3316)
|