الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المبحث الثاني ـ
شروط البيع يجب أن يتوافر في عقد البيع أربعة أنواع
من الشروط وهي: شروط انعقاد، وشروط صحة، وشروط نفاذ، وشروط لزوم (1)،
والقصد من هذه الشروط في الجملة منع وقوع المنازعات بين الناس، وحماية
مصالح العاقدين، ونفي الغرر (أي الاحتمال) والبعد عن المخاطر بسبب الجهالة،
فإذا اختل شرط الانعقاد كان العقد باطلاً، وإذا اختل شرط الصحة كان العقد
عند الحنفية فاسداً، وإذا لم يتوافر شرط النفاذ كان العقد موقوفاً على
الإجازة ولا تنتقل به الملكية إلا بالإجازة، وإذا انعدم شرط اللزوم كان
العقد مخيراً فيه أي مشتملاً على خيار الإمضاء أو الإبطال.
أولاً - شرائط الانعقاد: وهي ما يشترط تحققه لاعتبار العقد منعقداً شرعاً،
وإلا كان باطلاً. وقد اشترط الحنفية لانعقاد البيع أربعة أنواع من الشروط:
في العاقد، وفي نفس العقد، وفي مكانه، وفي المعقود عليه (2).
أما ما يشترط في العاقد فهو شرطان:
1 - أن يكون العاقد عاقلاً أي مميزاً، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي غير
العاقل.
ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، فيصح تصرف الصبي المميز البالغ من العمر سبع
سنوات كما سيأتي تفصيله، وفي الجملة: إن تصرفات الصبي المميز العاقل تنقسم
عند الحنفية إلى ثلاثة أقسام:
آـ التصرفات النافعة نفعاً محضاً: كالاحتطاب والاحتشاش والاصطياد
_________
(1) راجع التفصيل في حاشية ابن عابدين: 4 ص 5 ومابعدها.
(2) انظر أيضاً البدائع: 5 ص135 ومابعدها، 2 ص 332، حاشية ابن عابدين: 2 ص
448.
(5/3317)
وقبول الهبة والصدقة والوصية والكفالة
بالدين، فهذه التصرفات تصح من الصبي العاقل دون إذن ولا إجازة من الولي،
لأنها لنفعة التام.
ب ـ التصرفات الضارة ضرراً محضاً: كالطلاق والهبة والصدقة والإقراض وكفالته
لغيره بالدين أو بالنفس، فهذه لا تصح من الصبي العاقل، ولا تنفذ، ولو
أجازها وليه؛ لأن الولي لا يملك إجازة هذه التصرفات لما فيها من الضرر.
ج ـ التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع: كالبيع والشراء والإيجار
والاستئجار والزواج والمزارعة والمساقاة والشركات ونحوها. فهذه التصرفات
تصح من الصبي المميز، ولكنها تكون موقوفة على إذن الولي أو إجازته ما دام
صغيراً، أو على إجازته بنفسه بعد البلوغ؛ لأن للمميز جانباً من الإدراك غير
قليل (1).
2 - أن يكون العاقد متعددا ً: فلا ينعقد
البيع بواسطة وكيل من الجانبين إلا في الأب ووصيه والقاضي والرسول من
الجانبين، بخلاف الوكيل في عقد النكاح، فإنه يصح أن يعقد النكاحَ وكيل من
الجانبين.
والفرق بين البيع والنكاح: هو أن للبيع حقوقاً متضادة مثل التسليم والتسلم
والمطالبة بتسليم المبيع وقبض الثمن والرد بالعيب والخيارات. ويستحيل أن
يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً، طالباً ومطالباً، وهذا
محال. وبما أن حقوق العقد مقتصرة على العاقد فلا يصير كلام العاقد كلام
الشخصين. وأما الوكيل في النكاح فإن حقوق العقد لا ترجع إليه، وإنما ترجع
إلى الموكل فكان سفيراً محضاً بمنزلة الرسول.
_________
(1) انظر كتب الأصول عند الحنفية مثل التلويح على التوضيح: 2 ص 165
ومابعدها.
[التعليق]
الفرق بين البيع والنكاح انظر أيضاً:
5/ 3311
* أبو أكرم الحلبي
(5/3318)
وقد استثني الأب فيما يبيع مال نفسه من
ابنه الصغير، بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس فيه عادة، أو يشتري مال
الصغير لنفسه، لأنه حينئذ اقترب من مال اليتيم بالتي هي أحسن، لكمال شفقته
ووفرة رعايته بحكم طبيعة الحال.
والوصي مثل الأب عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا تصرف بما فيه نفع ظاهر لليتيم
أو بمثل القيمة، لأنه مرضي الأب، والظاهر ما رضي به إلا لوفور شفقته على
الصغير. وقال محمد: لا يجوز تصرف الوصي بمال الصبي لنفسه بمثل القيمة؛ لأن
القياس يأبى جوازه أصلاً من الأب والوصي جميعاً. والتساهل في الأب لكمال
شفقته بخلاف الوصي.
والقاضي لا ترجع إليه حقوق العقد، فكان بمنزلة الرسول، والرسول لا تلزمه
حقوق العقد، لأنه معبر وسفير، فجاز لكل من القاضي والرسول تولي العقد عن
الجانبين.
وأجاز جمهور الحنفية بخلاف الشافعي وزفر للشخص الواحد أن يتولى طرفي عقد
النكاح بإيجاب يقوم مقام القبول في خمس صور:
إذا كان ولياً أو وكيلاً من الجانبين كأن يقول شخص: زوجت ابني ببنت أخي، أو
زوجت موكلي فلاناً موكلتي فلانة، أو أصيلاً من جانب ووكيلاً من جانب آخر
كما لو وكلت امرأة شخصاً في أن يزوجها من نفسه، أو أصيلاً من جانب وولياً
من جانب كأن يتزوج بنت عمه الصغيرة، أو ولياً من جانب ووكيلاً من جانب: مثل
زوجت بنتي من موكلي. أما صورة الأصيل من الجانبين فهي مستحيلة عقلاً (1).
_________
(1) البدائع: 5 ص 136، مجمع الضمانات: ص 410، الفرائد البهية في القواعد
الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 139.
(5/3319)
وأما ما يشترط
في نفس العقد فهو شرط واحد: وهو أن يكون القبول موافقاً للإيجاب (1)
كما سيأتي تفصيله.
وأما ما يشترط في مكان العقد: فهو شرط
واحد أيضاً وهو اتحاد مجلس الإيجاب والقبول كما سيذكر تفصيله. ومجلس البيع:
هو الاجتماع الواقع لعقد البيع (م 181 مجلة).
وأما ما يشترط في المعقود عليه أي
المبيع فهو أربعة شروط (2):
1 - أن يكون المبيع موجودا ً: فلا ينعقد
بيع المعدوم قبل وجوده وماله خطر العدم. من أمثلة الأول: بيع نتاج النتاج
أي ولد ولد هذه الناقة مثلاً، وبيع الثمر قبل انعقاد شيء منه على الشجرة.
ومن أمثلة الثاني: بيع الحمل، وبيع اللبن في الضرع، فكل من الحمل واللبن
متردد بين الوجود وعدم الوجود فهما على خطر العدم.
ودليله في الجملة: أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار قبل بدو
صلاحها (3). ويلحق به بيع ياقوتة فإذا هي زجاج، ففي هذا غلط في الجنس فلا
ينعقد البيع، لأن المبيع معدوم.
ويستثنى بيع السلم والاستصناع وبيع الثمر على الشجر بعد ظهور بعضه في رأي
بعض الحنفية.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 137.
(2) المرجع السابق: ص 138 - 148.
(3) نص الحديث رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع»
(انظر جامع الأصول: 1/ 389).
(5/3320)
2 - أن يكون المبيع مالاً متقوماً: والمال
عند الحنفية كما عرفنا سابقاً: ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت
الحاجة. وبعبارة أخرى: هو كل ما يمكن أن يملكه الإنسان وينتفع به على وجه
معتاد. والأصح أنه هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس. والمتقوم: ما يمكن
ادخاره مع إباحته شرعاً. وبعبارة أخرى: هو ما
كان محرزاً فعلاً ويجوز الانتفاع به في حالة الاختيار (1)، فلا ينعقد بيع
ما ليس بمال كالإنسان الحر والميتة والدم، ولا بيع مال غير متقوم كالخمر
والخنزير في حق مسلم، ويجوز بيع آلات الملاهي عند أبي حنيفة لإمكان
الانتفاع بالأدوات المركبة منها، وعند الصاحبين وبقية الأئمة: لا ينعقد بيع
هذه الأشياء، لأنها معدة للفساد.
3 - أن يكون مملوكاً في نفسه: أي محرزاً وهو ما دخل تحت حيازة مالك خاص.
فلا ينعقد بيع ما ليس بمملوك لأحد من الناس مثل بيع الكلأ ولو في أرض
مملوكة، والماء (2) غير المحرز، والحطب، والحشيش، والصيود التي في البراري،
وتراب الصحراء ومعادنها، وأشعة الشمس والهواء، ولقطات البحر وحيوانات البر
في البراري.
أما كون المبيع مملوكاً للبائع، فليس شرط انعقاد، وإنما هو شرط نفاذ كما
سيأتي.
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 4 ص 3، 150، الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف
موسى: ص162، 164.
(2) لا يجوز عند جمهور الفقهاء بيع الماء غير المحرز كمياه البحار والأنهار
ونحوها، لأنها مباحة لجميع الناس، لا يختص بها أحد دون غيره، فلا يجوز
بيعها ما دامت في مقرها، ويجوز بيع الماء المحرز كماء البئر أو العين
ونحوهما المملوك لشخص ما. وقال فقهاء الظاهرية: لا يجوز بيع الماء ما لم
يكن تابعاً للبئر أو العين المملوكة.
(5/3321)
4 - أن يكون مقدور
التسليم عند العقد:
فلا ينعقد بيع معجوز التسليم، وإن كان مملوكاً للبائع، مثل الحيوان الشارد
والطير في الهواء، والسمك في البحر بعد أن كان في يده.
شروط الإيجاب والقبول:
يفهم مما ذكر من شرائط الانعقاد أنه يشترط في الإيجاب والقبول ثلاثة شروط:
1 - الأهلية: هي عند الحنفية أن يكون كل
من الموجب والقابل عاقلاً مميزاً يدرك ما يقول ويعينه حقاً (1)، فهو في
الحقيقة شرط في العاقد لا في الصيغة، إلا بالنظر لصدورها من العاقدين.
والتمييز مقدر عند الحنفية بتمام السنوات السبع وعند غيرهم ببلوغ السبع
سنوات، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي غير المميز؛ لأن العقد ارتباط بين
إرادتي طرفيه.
والكلام ونحوه كالكتابة والإشارة دليل على هاتين الإرادتين، فكان لا بد من
أن يكون هذا الدليل صادراً من مميز عاقل.
والبلوغ والاختيار ليسا من شروط الانعقاد عند الحنفية، لذا كان من الضروري
الكلام في بيع الصبي والمكره عند فقهاء المذاهب.
بيع الصبي المميز:
قال الحنفية والمالكية والحنابلة: ينعقد تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء
فيما أذن له الولي، وإلا كان موقوفاً على إجازة وليه. ودليلهم أن المدار في
التصرف
_________
(1) البدائع: 5 ص 135، الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص
255.
(5/3322)
على إذن الولي، لا على الصبي، فصح البيع؛
لأن الصبي حينئذ كالدلال، والعاقد غيره، ولأن دفع المال إلى الصبي بعد رشده
متوقف على اختباره بالبيع والشراء، وأنه يغبن أم لا، فكان لا بد من القول
بصحة تصرفاته وعقوده، ولكن بإذن الولي لتحصيل المصلحة وحفظ أمواله (1).
وقال الشافعية (2): لا ينعقد بيع الصبي لعدم أهليته، وشرط العاقد بائعاً أو
مشترياً: أن يكون راشداً: وهو أن يتصف بالبلوغ وصلاح الدين والمال، ودليلهم
قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً}
[النساء:5/ 4] والتصرف بالبيع والشراء في معنى إعطاء السفهاء المال
لاستلزام البيع والشراء لبذل المال، والجامع بينهما نقص العقل المؤدي بكل
منهما لإضاعة المال في غير طريقه الشرعي (3).
بيع المكره وبيع التلجئة:
بيع المكره:
قال جمهور الحنفية: إن عقود البيع والشراء والإيجار ونحوها من المكره
إكراهاً ملجئاً أو غير ملجئ تكون فاسدة؛ لأن الإكراه يزيل الرضا الذي هو
شرط في صحة هذه العقود، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:92/ 4]
وحينئذ يحق
_________
(1) البدائع: 5 ص 135، بداية المجتهد: 2 ص 278، حاشية الدسوقي: 3 ص 5،
المغني: 4 ص 246.
(2) مغني المحتاج: 2 ص 7.
(3) قال الشافعية (تحفة المحتاج وغيرها من شروح المنهاج): لا ينعقد بيع
أربعة وهم: الصبي مميزاً أو غير مميز، والمجنون، والعبد ولو كان مكلفاً،
والأعمى، ويقع بيعهم باطلاً.
(5/3323)
للمستكره فسخ ما عقد أو إمضاؤه. ويثبت
الملك للمشتري عند القبض كبقية العقود الفاسدة، ويلزم العقد بقبض المستكره
الثمن، أو تسليم المبيع طوعاً، إلا أنه يخالف البيع الفاسد في صور منها:
أنه يجوز بالإجازة القولية والفعلية، ويزول الفساد بخلاف غيره من البيوع
الفاسدة لا تجوز، وإن أجيزت؛ لأن الفساد فيها لحق الشرع، والفساد هنا إنما
كان صيانة لمصلحة خاصة لا لمصلحة شرعية عامة، وبه يشبه المكره البيع
الموقوف، ومن هنا قالوا: إنه بيع فاسد موقوف.
لذا قال زفر: إن الإكراه يجعل العقد غير نافذ، فهو كعقد الفضولي صحيح موقوف
بالنسبة إلى المستكره، فيتوقف على إجازته بعد زوال الإكراه؛ لأن الإكراه
إنمايخل بحق المستكره ومصلحته، فيكفي لحمايته جعل العقد موقوف النفاذ على
رضاه بعد زوال الإكراه، ورأي زفر أقوى دليلاً (1).
وقال الشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون العاقد مختاراً طائعاً في بيع متاع
نفسه، فلا ينعقد بيع المكره في ماله بغير حق، لقوله تعالى: {إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم} [النساء:92/ 4] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (2).
وأما الإكراه بحق فلا يمنع من انعقاد العقد، إقامة لرضا الشرع مقام رضاه،
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 4 ص 4، 5 ص 89 - 91، الأموال ونظرية العقد للدكتور
يوسف موسى: ص398، مختصر الطحاوي: ص 408، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف
185 في الحاشية، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص
324.
(2) أخرجه الطبراني عن ثوبان بلفظ «إن الله تجاوز» قال النووي: حديث حسن،
وتعقبه الهيثمي بأن فيه يزيد بن ربيعة الرحبي، وهو ضعيف، ورواه ابن ماجه
وابن حبان، والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم في المستدرك من حديث
الأوزاعي، واختلف عليه: فقيل: عن ابن عساكر بلفظ «إن الله وضع» وللحاكم
والدارقطني والطبراني: «تجاوز» (انظر التلخيص الحبير: 109/ 1، مجمع
الزوائد: 250/ 6).
(5/3324)
مثل الإجبار على بيع الدار لتوسعة المسجد
أو الطريق أو المقبرة، أو على بيع سلعة لوفاء دين أو لنفقة زوجة أو ولد أو
الأبوين، أو لأجل وفاء ما عليه من الخراج الحق.
وقال المالكية: بيع المكره غير لازم، فيكون للعاقد المستكره الخيار بين فسخ
العقد أو إمضائه. هذا ما وجدته في مختصر خليل وشراحه، لكن قال ابن جزي:
يشترط في البائع والمشتري أن يكونا طائعين، فإن بيع المكره وشراءه باطلان
(1).
بيع المضطر: أن يضطر شخص إلى بيع شيء من
ماله، ولم يرض المشتري إلا بشرائه بدون ثمن المثل بغبن فاحش. مثاله: أن
يلزم القاضي شخصاً ببيع ماله لإيفاء دينه، أو ألزم الذمي بائعاً ببيع مصحف
أو عبد مسلم ونحو ذلك. وحكمه عند الحنفية كما قالوا: بيع المضطر وشراؤه
فاسد (2). وأجازه فقهاء آخرون للضرورة.
بيع التلجئة: صورة بيع التلجئة أو بيع
الأمانة: أن يخاف إنسان اعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه
لثالث فراراً منه، ويتم العقد مستوفياً أركانه وشرائطه. واختلف العلماء في
شأنه.
فقال الحنابلة: إنه عقد باطل غير صحيح، لأن العاقدين ماقصدا البيع، فلم يصح
منهما كالهازلين (3).
وقال الحنفية والشافعي: هو بيع صحيح، لأن البيع تم بأركانه وشروطه،
_________
(1) الميزان 62/ 2، حاشية الدسوقي: 6/ 3، مغني المحتاج: 7/ 2 ومابعدها،
القوانين الفقهية: ص246، غاية المنتهى: 5/ 2.
(2) حاشية ابن عابدين: 111/ 4، 255، المغني: 214/ 4.
(3) المغني: 214/ 4.
(5/3325)
وأتي باللفظ مع قصد واختيار خالياً عن
مقارنة مفسد، فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقد البيع بغير شرط. وأما
عدم رضاه بوقوعه فهو كظنه أنه لا يقع، لا أثر له لخطأ ظنه (1).
بيع السمسرة: السمسرة: هي الوساطة بين البائع والمشتري لإجراء البيع.
والسمسرة جائزة، والأجر الذي يأخذه السمسار حلال؛ لأنه أجر على عمل وجهد
معقول، لكن قال الشافعية: لا يصح استئجار بيّاع على كلمة لا تتعب، وإن
روّجت السلعة؛ إذ لا قيمة لها (2). ولا بأس أن يقول شخص لآخر: بع هذا الشيء
بكذا، وما زاد فهو لك، أو بيني وبينك، لما رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن
أبي هريرة: «المسلمون على شروطهم».
2 - الشرط الثاني ـ من شروط صيغة البيع: أن يكون القبول موافقاً للإيجاب:
بأن يرد على كل ما أوجبه البائع وبما أوجبه (3) فإذا قال إنسان لآخر: بعتك
هذين الثوبين بألف ليرة، فقال المشتري: قبلت في هذا الثوب، وأشار إلى واحد
منهما، لا ينعقد البيع. وإذا قال لآخر: بعتك هذه الدار بما فيها من مفروشات
بألفي ليرة، فقال المشتري: قبلت شراءها دون ما فيها بألف ليرة مثلاً، لم
ينعقد العقد أيضاً، لتفريق الصفقة على البائع، والمشتري لا يملك تفريقها؛
لأن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد، ترويجاً للرديء بواسطة الجيد.
_________
(1) مغني المحتاج: 16/ 2.
(2) مغني المحتاج: 335/ 2 وفي الإحياء للغزالي: لا يجوز أخذ عوض على كلمة
يقولها طبيب بدواء ينفرد به بمعرفته، إذ لا مشقة عليه في التلفظ به، بخلاف
ما لو عرف الصيقل الماهر إزالة اعوجاج السيف والمرآة بضربة واحدة، فإن له
أخذ العوض وإن كثر؛ لأن هذه صناعات يتعب في تعليمها ليكتسب بها، ويخفف عن
نفسه التعب. وأفتى القفال بأنه لا يصح استئجار له، وهذا هو الظاهر، وإن قال
الأذرعي: المختار ما قاله الغزالي.
(3) البدائع: 136/ 5 - 137، مغني المحتاج: 5/ 2 ومابعدها، كشاف القناع:
136/ 3، الأموال ونظرية العقد، يوسف موسى: 256.
(5/3326)
فلو قبل المشتري بأكثر مما طلب، انعقد
البيع؛ لأن القابل بالأكثر قابل بالأقل طبعاً، غير أنه لا يكون ملزماً إلا
بالثمن الذي طلبه البائع.
ولو قبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد.
وكذا لو خالف في وصف الثمن لا في قدره، كأن أوجب البائع البيع بثمن حالّ،
فقبل المشتري بثمن مؤجل، أو أوجب بأجل إلى شهر معين فقبل المشتري بأجل أبعد
منه، فلا ينعقد البيع في الحالتين، لعدم تطابق القبول مع الإيجاب.
3 - أن يتحد مجلس العقد: بأن يكون
الإيجاب والقبول في مجلس واحد، بأن كان الطرفان حاضرين معاً، أو في مجلس
علم الطرف الغائب بالإيجاب (1). ونتائج هذا الشرط ما يلي:
لو أوجب أحد الطرفين البيع فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل
آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل، لا ينعقد البيع. ولكن لا يشترط الفور في
القبول؛ لأن القابل يحتاج إلى التأمل، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه
التأمل، واعتبر المجلس الواحد جمعاً للمتفرقات للضرورة.
وكذلك قال المالكية (2): لا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن
يخرج عن البيع لغيره عرفاً.
وقال الشافعية والحنابلة (3): يشترط أن يكون القبول بعد الإيجاب بألا يفصل
بينهما فاصل كثير: وهو ما أشعر بالإعراض عن القبول. ولا يضر الفصل اليسير
_________
(1) البدائع: 137/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 80/ 5، الأموال للدكتور يوسف
موسى: 257.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 17/ 3.
(3) مغني المحتاج: 5/ 2 - 6، كشاف القناع: 163/ 3.
(5/3327)
لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول. ويضر تخلل
كلام أجنبي عن العقد ولو يسيراً بين الإيجاب والقبول.
التعاقد حالة المشي أو الركوب: إذا
تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابة واحدة أو دابتين: فإن اتصل الإيجاب
والقبول من غير فصل بينهما، انعقد العقد، حتى ولو مشيا خطوة أو خطوتين جاز،
فإن كان بين القبول والإيجاب فصل وسكوت، وإن قل، لا ينعقد العقد؛ لأن
المجلس تبدل بالمشي والسير، وقاسوا ذلك على قراءة آية السجدة وخيار المخيرة
(1). فلو قرأ آية سجدة وهو يمشي على الأرض، أو يسير على دابة لا يصلى
عليها، يلزمه لكل قراءة سجدة، وكذا لو خير امرأته في المجلس بأن تطلق نفسها
منه وهي تمشي على الأرض أو تسير على دابة لا يصلى عليها، فمشت أو سارت:
يبطل خيارها لتبدل المجلس، لأن «التفويض يقتصر على المجلس بخلاف الوكالة
فإنها لا تقتصر عليها» وتوكيل الرجل زوجته بتطليق نفسها يقتصر على المجلس
(2).
ولو تبايعا وهما واقفان، انعقد البيع، لاتحاد المجلس.
ولو أوجب أحدهما البيع وهما واقفان، فسار الآخر قبل القبول أو سارا جميعاً
أو سار البائع قبل القبول، ثم قبل المشتري بعدئذ لا ينعقد، لأنه لما سار
أحدهما أو سارا، فقد تبدل المجلس قبل القبول، ويجعل السير دليلاً على
الإعراض.
أما لو وقف الزوج، فخير امرأته، ثم سار وهي واقفة، فلها الخيار. ولو
_________
(1) خيار المخيرة: هو أن يخير الرجل امرأته في المجلس بأن تطلق نفسها منه
بأن يقول لها: طلقي نفسك إن شئت.
(2) القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: 24.
(5/3328)
سارت هي والزوج واقف بطل خيارها، فالعبرة
إذن لمجلسها لا لمجلس الزوج، فما دامت في مجلسها، لم يوجد منها دليل
الإعراض، فيظل لها الخيار. وأما الزوج فلا يبطل كلامه بالإعراض؛ لأن
التخيير من قبله لازم، أما في البيع فيعتبر مجلسهما جميعاً.
التعاقد على ظهر سفينة أو طائرة: لو
تبايع الطرفان على سفينة أو طائرة أوقطار، انعقد العقد، سواء كانت هذه
الوسائل واقفة أم جارية، بخلاف المشي على الأرض والسير على الدابة؛ لأن
الشخص لا يستطع إيقاف تلك الوسائل، فاعتبر المجلس فيها مجلساً واحداً، وإن
طال، أما الدابة، فإنه يستطيع إيقافها.
التعاقد مع غائب: إذا أوجب أحد
المتعاقدين البيع أو الشراء والآخر غائب، فبلغه الإيجاب، فقبل، لا ينعقد
البيع، كأن يقول: «بعت هذه البضاعة من فلان الغائب» فبلغه الخبر، فقبل: لا
يصح، لأن القاعدة الأصلية في هذا: أن أحد شطري العقد الصادر من أحد
العاقدين في البيع يتوقف على الآخر في مجلس العقد (أي يظل قائماً ساري
المفعول ضمن المجلس لا بعده) ولا يتوقف على الشطر الآخر من العاقد الآخر
فيما وراء المجلس بالاتفاق، إلا إذا كان عنه قابل (أي وكيل) أو كان
بالرسالة أو الكتابة (1).
التعاقد بواسطة رسول: أما الرسالة: فهي
أن يرسل أحد المتعاقدين رسولاً إلى رجل فيقول المتعاقد الآخر: (إني بعت هذا
الثوب من فلان الغائب بكذا) فاذهب إلىه، وقل له: (إن فلاناً باع ثوبه منك
بكذا) فجاء الرسول، وأخبره بما قال، فقال المشتري في مجلس أداء الرسالة:
(اشتريت) أو (قبلت): تم البيع بينهما؛ لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام
المرسل، فكأنه حضر بنفسه وخوطب بالإيجاب فقبل، فينعقد العقد.
_________
(1) البدائع: 137/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 79/ 5.
(5/3329)
التعاقد بالمراسلة:
أما الكتابة: فهي أن يكتب رجل إلى آخر: (أما بعد، فقد بعت فرسي منك بكذا)
فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه (أي مجلس بلوغ الكتاب): (اشتريت أو قبلت).
ينعقد البيع لأن خطاب الغائب كتابة يجعله كأنه حضر بنفسه، وخوطب بالإيجاب
فقبل في المجلس، فإن تأخر القبول إلى مجلس ثان لم ينعقد البيع.
وللكاتب أن يرجع عن إيجابه أمام شهود بشرط أن يكون قبل قبول الآخر ووصول
الرسالة. ويرى جمهور المالكية أنه ليس للموجب الرجوع قبل أن يترك فرصة
للقابل يقرر العرف مداها.
واتحاد المجلس شرط للانعقاد أيضاً في الإجارة والهبة، على التفصيل السابق
في البيع.
وأما الخلع فإن شطر العقد الصادر من
الزوج يتوقف (أي يظل ساري المفعول) على قبول الآخر وراء المجلس بالاتفاق،
كأن يقول: خالعت امرأتي الغائبة على كذا، فبلغها الخبر، فقبلت، جاز.
وأما النكاح فهو كالبيع عند أبي حنيفة
ومحمد، لا يتوقف شطر العقد فيه (أي لا يسري مفعوله) إلا إذا كان عن الغائب
قابل، فإذا قال رجل للشهود: (اشهدوا أني قد تزوجت فلانة بكذا) وبلغها الخبر
فأجازت أو قالت امرأة: (اشهدوا أني زوجت نفسي من فلان بكذا) فبلغه،
فأجازها، لا ينعقد العقد في الحالتين عند أبي حنيفة ومحمد إلا إذا كان عن
الغائب قابل.
وعند أبي يوسف: يتوقف شطر العقد في النكاح على قبول الآخر فيما وراء
المجلس، فينعقد العقد في هذين المثالين بقبول الغائب، وإن لم يقبل عنه أحد
في مجلس العقد.
(5/3330)
مبدأ وحدة الصفقة
وتفرقها:
الصفقة: ضرب اليد على اليد في البيع،
والبيعة للإمام، ثم جعلت عبارة عن العقد نفسه (1). قال النووي: الصفقة: هي
عقد البيع، لأنه كان من عادتهم أن يضرب كل واحد من المتعاقدين يده على يد
صاحبه عند تمام العقد (2).
والعقد يحتاج في تكوينه كما هو معلوم إلى مبيع، وثمن، وبائع، ومشتر، وبيع
وشراء. وباتحاد بعض هذه الأشياء مع بعض وتفرقها، يحصل اتحاد الصفقة،
وتفريقها (3).
وقد اتفق العلماء على ضرورة اتحاد الصفقة من حيث المبدأ، لأن من شرائط
انعقاد البيع الشرط المذكور قريباً: وهو أن يكون القبول موافقاً للإيجاب،
إلا أن هناك اختلافات جزئية في تحقيق هذا المبدأ أو عدم تحقيقه أي تفريق
الصفقة.
فقال الحنفية (4): لا بد من معرفة ما
يوجب اتحاد الصفقة وتفريقها، وذلك إما بسبب العاقدين أو بسبب المبيع.
أـ أما بالنسبة للعاقدين: فإن اتحد شخص الموجب سواء أكان بائعاً، أم
مشترياً، وتعدد القابل المخاطب، لم يجز للقابلين تفريق الصفقة بأن يقبل
أحدهما البيع دون الآخر. وإن انعكس الأمر فتعدد الموجب واتحد القابل، لم
يجز للقابل القبول في حصة أحد الموجبين دون الآخر. مثل الحالة الأولى: أن
يقول البائع لمشتريين: بعتكما هذه السلعة بألف ليرة، فقال أحدهما: اشتريت،
ولم يقبل
_________
(1) العناية بهامش فتح القدير: 5 ص 80.
(2) المجموع للنووي: 9 ص 425.
(3) العناية، المكان السابق، المجموع: 9 ص 432 ومابعدها.
(4) فتح القدير: 80/ 5، البدائع: 136/ 5 ومابعدها، رد المحتار لابن عابدين:
20/ 4.
(5/3331)
الآخر، كانت الصفقة متعددة، فلم ينعقد
العقد إلا باتفاق جديد. ومثل الحالة الثانية: أن يقول شخص لمالكي سلعة:
اشتريت منكما هذه السلعة بألف ليرة مثلاً، فباعه أحدهما دون الآخر، فإن
الصفقة تتعدد في هذه الحالة، فلا ينعقد العقد.
ب ـ وأما بالنسبة للمبيع: فإن اتحد العاقدان، وقبل أحدهما في بعض المبيع
دون بعض، لم يصح العقد، لتفرق الصفقة.
وإن اتحد العاقدان، وتعدد المبيع، فإما أن يكون المبيع مثليين أو مثليا
وقيمياً وفي كلتا الحالتين لايجوز للمشتري أن يقبل في أحد المبيعين، ويرفض
الآخر، فإن فعل، تعددت الصفقة، وحينئذ لا يتم البيع إلا برضا جديد من
البائع بما قبل به المشتري، فيصبح القبول إيجاباً، والرضا قبولاً، ويبطل
الإيجاب الأول.
غير أن هناك فرقاً بين الحالتين: وذلك في قسمة الثمن على أجزاء المبيع وفي
وحدة الصفقة وتعددها. فإذا كان المبيع مثليين كقفيزين من أرز أو كمدين من
حنطة أو رطلين من حديد، وقبل المشتري في أحدهما، انقسم الثمن بنسبة أجزاء
المبيع، فيكون ثمن الجزء الذي تم فيه المبيع في هذا المثال نصف الثمن
الأصلي المذكور لجزئي المبيع؛ لأن الثمن في المثليات ينقسم على المبيع
باعتبار الأجزاء، فكانت حصة كل جزء من الثمن معلوماً. وتكون الصفقة عندئذ
واحدة. ويشبه المثليات (المكيل والموزون) في قسمة الثمن عليه بالأجزاء ما
إذا كان المبيع شيئاً واحداً كحيوان واحد.
وإذا كان المبيع من غير المثليات أي القيميات كثوبين ودابتين، لا ينقسم
الثمن على المبيع باعتبار الأجزاء، لعدم تماثل الأجزاء، وإذا لم ينقسم
الثمن في هذه الحالة، بقيت حصة كل واحد من جزئي المبيع من الثمن مجهولة،
وجهالة الثمن
(5/3332)
تمنع صحة البيع. فإن أريد تصحيح الصفقة فلا
بد من أحد أمرين:
إما أن يكرر البائع لفظ البيع بأن يقول: بعتك هذين الثوبين، بعتك هذا بألف،
وبعتك هذا بألف، أو اشتريت منك هذين المتاعين، اشتريت هذا بمئة، واشتريت
هذا بمئة، فيصح العقد، ويصبح هنا صفقتان.
وإما أن يفرق الثمن على أجزاء المبيع، بأن يقول البائع: بعتك هذين
الكتابين، هذا بمئة، وهذا بخمسين، فقبل المشتري في أحدهما، جاز البيع
لانعدام تفريق الصفقة الواحدة من المشتري، بل البائع هو الذي فرق الصفقة،
حيث سمى لكل واحد من المبيعين ثمناً على حدة، فكانت هذه الحالة صفقات معنى،
وإلا لو كان غرض البائع ألا يبيع المبيعين للمشتري إلا جملة واحدة، لم تكن
هناك فائدة لتعيين ثمن كل منهما على انفراد.
وإذا تطابق الإيجاب والقبول، لزم البيع، ولا خيار لواحد من العاقدين إلا
بسبب وجود عيب أو عدم رؤية للمبيع. نصت المادة (351) من المجلة على ما
يأتي: «ما بيع صفقة واحدة إذا ظهر بعضه معيباً: فإن كان قبل القبض، كان
المشتري مخيراً: إن شاء رد مجموعه، وإن شاء قبله بجميع الثمن، وليس له أن
يرد المعيب وحده، ويمسك الباقي. وإ ن كان بعد القبض: فإذا لم يكن في
التفريق ضرر، كان له أن يرد المعيب بحصته من الثمن سالماً، وليس له أن يرد
الجميع حينئذ مالم يرضَ البائع. وأما إذا كان في تفريقه ضرر، رد الجميع، أو
قبل الجميع بكل الثمن، مثلاً: لو اشترى قلنسوتين بأربعين قرشاً، فظهرت
إحداهما معيبة قبل القبض، يردهما معاً، وإن كان بعد القبض يرد المعيبة
وحدها بحصتها من الثمن سالمة، ويمسك الثانية بما بقي من الثمن. أما لو
اشترى زوجي خف، فظهر أحدهما معيباً بعد القبض، كان له ردهما معاً للبائع،
وأخذ ثمنهما منه».
(5/3333)
وقال أبو حنيفة
والمالكية (1): إذا اشتملت الصفقة على حلال وحرام، كالعقد على سلعة
متقومة وخمر، أو خنزير، أو غيرهما، فالصفقة كلها باطلة. وقال الصاحبان: يصح
العقد في الصحيح، ويفسد في الفاسد. ومنشأ الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه هو:
أن الصفقة إذا اشتملت على الصحيح والفاسد يتعدى الفساد إلى الكل عند أبي
حنيفة. وأما عند الصاحبين فلا يتعدى الى الصحيح، وإنما يقتصر أثر الفساد
على الفاسد.
ولو باع الرجل ملكه وملك غيره في صفقة واحدة، صح البيع فيهما، ويلزم البيع
فيما يملكه المالك، ويتوقف اللزوم في ملك الغير على إجازته، وهذا باتفاق
الحنفية والمالكية، لأنهم يصححون العقد الموقوف أو عقد الفضولي، كما سنعلم.
وقال الشافعية والحنابلة في الأرجح
عندهم (2): تفريق الصفقة معناه: أن يبيع ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه
صفقة واحدة بثمن واحد، وهو ثلاثة أقسام:
أحدها ـ أن يبيع معلوماً ومجهولاً بثمن واحد، لقوله: بعتك هذا الكتاب
وكتاباً آخر، وهما ملك له بمئة ليرة مثلاً، لم يصح البيع فيهما؛ لأن
المجهول لا يصح بيعه لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى معرفته،
لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، والمجهول لا يمكن تقويمه،
فيتعذر التقسيط.
الثاني ـ أن يكون المبيعان مما ينقسم عليهما بالأجزاء، كشيء مشترك بين
اثنين، فباعه كله أحدهما بغير إذن شريكه، وكشيئين من المثليات مثل قفيزين
من صبرة واحدة باعهما من لا يملك إلا بعضهما، فالأصح أن يصح البيع فيما
يملكه
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 260، البدائع: 217/ 5.
(2) المجموع: 425/ 9 - 437، المهذب: 269/ 1، المغني: 236/ 4 وما بعدها،
القواعد لابن رجب: ص 421، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 98، غاية المنتهى:
16/ 2.
(5/3334)
بقسطه من الثمن، ويفسد فيما لا يملكه؛ لأن
لكل واحد منهما حكماً مستقلاً حالة إفراده بالبيع، فإذا جمع مع غيره ثبت
لكل واحد منهما حكمه الخاص به، كما لو باع رجل شقصاً (1) وسيفاً فإنه تثبت
الشفعة في الشقص بلا خلاف، كما لو أفرده.
الثالث ـ أن يكون المبيعان معلومين مما لا ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء، أي
أن تشتمل الصفقة على حلال وحرام كخل وخمر وشاة وخنزير، وميتة وشاة مذكاة،
ونحوهما من القيميات، فأصح القولين عند الشافعي وفي رواية عند الحنابلة عن
أحمد أن البيع يصح في الحلال ويبطل في الحرام (2). وفي كيفية توزيع الثمن
على المبيعين باعتبار الأجزاء، فيقدر الخمر خلاً، والخنزير شاة، والميتة
مذكاة. وهذا ما قاله أنصار هذه الرواية الأولى عن أحمد.
ورجح ابن قدامة الحنبلي الرواية الثانية عن أحمد: وهو أنه يفسد البيع في
المبيعين جميعاً.
فإن كانت الصفقة مشتملة على مال للبائع ومال لغيره لا ينقسم الثمن عليهما
بالأجزاء، فالأصح عند الشافعية أيضاً أن البيع يصح فيما يملكه، ويبطل فيما
لا يملكه، ويوزع الثمن بحسب القيمة لكل منهما، وعند الحنابلة: الأصح أنه
يبطل البيع في المبيعين جميعاً.
وقال الحنابلة والشافعية فيما يتعلق بخيار تفرق الصفقة: متى صح البيع في
بعض الصفقة: فإن كان المشتري عالماً بالحال كأن يعلم أن المبيع مما ينقسم
الثمن عليه
_________
(1) الشقص: الطائفة من الشيء، والمراد به هنا قطعة من أرض أو دار.
(2) وهكذا يعرف المقصود من عبارة يتردد ذكرها عند الشافعية وهي «قولا تفريق
الصفقة» الأشهر عند الشافعية: أنها تفرق الصفقة، فيبطل البيع فيما لا يجوز،
ويصح فيما يجوز، لأنه ليس إبطاله فيهما بأولى من تصحيحه فيهما. والقول
الثاني: أن الصفقة لا تفرق فيبطل العقد فيهما.
(5/3335)
بالأجزاء كما ذكر، فلا خيار له، لأنه اشترى
على بصيرة. وإن لم يعلم بالحال، مثل أن يشتري رجل متاعاً يظنه كله للبائع،
فبان أنه لا يملك إلا نصفه، أو متاعين فتبين أنه لا يملك البائع إلا
أحدهما، فله الخيار بين الفسخ والإمساك، لأن الصفقة تبعضت عليه. وأما
البائع عند إمساك المشتري جزء المبيع، فلا خيار له في الأصح؛ لأنه رضي
بزوال ملكه عما يجوز بيعه بقسطه من الثمن.
فإن تلف أحد المبيعين صفقة واحدة قبل القبض، فينفسخ العقد في التالف بلا
خلاف. وأما الباقي فللمشتري الخيار فيه بين إمساكه بحصته من الثمن، وبين
الفسخ، لتبعض الصفقة عليه.
وقال الظاهرية (1): كل صفقة جمعت حراماً وحلالاً، فهي باطل كلها، لا يصح
منها شيء، مثل أن يكون بعض المبيع مغصوباً، أو غير مملوك للبائع، أو آل
إليه بعقد فاسد.
والخلاصة: أن جمهور العلماء يبطلون الصفقة المشتملة على حلال وحرام أو
مملوك وغير مملوك. وقال الشافعية كما رجح النووي: يصح العقد فيما يجوز،
ويبطل فيما لا يجوز.
ثانياً - شروط النفاذ: لنفاذ (2) العقد شرطان:
1ً
- الملك أو الولاية: الملك هو حيازة
الشيء متى كان الحائز له قادراً وحده
_________
(1) المحلى: 20/ 9.
(2) النفاذ في الأصل المضي والجواز، ثم أطلق عند الفقهاء على مضي العقد دون
توقف على الإجازة أو الإذن.
(5/3336)
على التصرف فيه عند عدم المانع الشرعي،
فالقيم على المجنون أو السفيه، والوصي على القاصر، لا يعتبر أحدهما مالكاً
يتصرف في الشيء، على حين أن المجنون والسفيه والقاصر يعتبر كل منهم مالكاً؛
لأن له حق الاستقلال في التصرف والانتفاع لولا المانع الشرعي من ذلك وهو
أنه تحت ولاية غيره (1).
والولاية: سلطة شرعية بها ينعقد العقد وينفذ، هي إما أصلية: وهي أن يتولى
الإنسان أمور نفسه بنفسه، أو نيابية: وهي أن يتولى الشخص أمور غيره من
ناقصي الأهلية، إما بإنابة المالك كالوكيل أو بإنابة الشارع كالأولياء وهم:
الأب والجد والقاضي ووصي الأب أو الجد أو القاضي وترتيبهم كالآتي: الأب ثم
وصيه ثم الجد ثم وصيه ثم القاضي ثم وصيه (2).
ومدلول هذا الشرط أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، فلا ينفذ بيع الفضولي،
لانعدام الملك والولاية، لكنه ينعقد عند الحنفية موقوفاً على إجازة المالك.
واعتبر الشافعي الملك أو الولاية من شرائط الانعقاد، فتعتبر تصرفات الفضولي
عنده باطلة. وسأبحث ذلك بالتفصيل قريباً (3).
2 - ألا يكون في المبيع حق لغير البائع:
إن كان في المبيع حق لغير البائع كان العقد موقوفاً غير نافذ، وعلى هذا فلا
ينفذ بيع الراهن المرهون، ولا بيع المؤجر المأجور ولا بيع المالك الأرض
التي عليها عقد مزارعة، وإنما يكون البيع موقوفاً على إجازة المرتهن، أو
المستأجر، أو المزارع،
_________
(1) الأموال ونظرية العقد: ص 165.
(2) المرجع السابق: ص 348، حاشية ابن عابدين: 6/ 4، البدائع: 146/ 5، 155.
(3) البدائع: 148/ 5.
(5/3337)
وليس فاسداً، وهذا هو الصحيح عند الحنفية؛
لأن ركن البيع صدر من أهله مضافاً إلى مال متقوم مملوك له مقدرو على
التسليم، من غير ضرر يلزمه (1). ويثبت حينئذ للمشتري الخيار بين إمضاء
البيع أو فسخه. أما المستأجر أو المرتهن أو المزارع، فإن أجاز العقد نفذ،
فلو لم يجز المستأجر حتى انفسخت الإجارة، نفذ البيع السابق، وكذا المرتهن
إذا قضى دينه، ولا حاجة لتجديد العقد، وهو الصحيح كما قال ابن عابدين.
وعليه يكون حكم بيع الفضولي أحد البيوع الجائزة هو قبول الإجازة من المالك.
والفسخ من المشتري لا الإجازة. كما أن للفضولي فسخ البيع دون النكاح.
وذكر الأستاذ مصطفى الزرقاء: أن الرأي الراجح فقهاً: أنه لا يكون البيع
موقوفاً على إجازة المرتهن أو المستأجر وإن كانا أصحاب حق في المبيع، إذ
الإجازة لاتكون شرعاً إلا لمالك أو ذي ولاية، بل البيع نافذ، ولكن لا يسلم
المبيع إلى المشتري دون رضا المرتهن أو المستأجر صيانة لحقهما، بل يمنح
المشتري الخيار في أن يفسخ البيع أو ينتظر إلى فكاك الرهن أو إلى انقضاء
مدة الإجارة ليتسلم المبيع (2).
تقسيم البيع من حيث النفاذ والوقف:
يترتب على ما ذكر من شروط النفاذ عند الحنفية أن البيع قسمان: نافذ وموقوف.
أما البيع النافذ: فهو أن يتوافر فيه ركن العقد مع وجود شرائط الانعقاد
والنفاذ.
_________
(1) البدائع: 155/ 5، حاشية ابن عابدين: 6/ 4، 145 - 148.
(2) عقد البيع: ص 31، رد المحتار لابن عابدين: 361/ 5.
(5/3338)
وأما البيع الموقوف: فهو أن يوجد فيه ركن
العقد مع وجود شرائط الانعقاد، ولكن لم يوجد فيه شرط النفاذ: وهو الملك أو
الولاية.
واختلال شرط النفاذ: يكون إما في المبيع كما في بيع الفضولي شيئاً لغيره،
وإما في التصرف كما في بيع الصغير المميز أو المعتوه أو شرائهما.
آراء العلماء في تصرف الفضولي:
الفضولي في الأصل: من يشتغل بما لا
يعنيه أو يعمل عملاً ليس من شأنه، ومنه سمي فضولياً: من يتصرف في شيء أو
يعقد عقداً من العقود، دون أن يكون له ولاية ما على القيام به، كمن يبيع أو
يشتري للغير، أو يؤجر أو يستأجر لغيره، دون وكالة أو وصاية أو ولاية على
العقد، وبدون إذن من الغير (1). وبيع الإنسان ملك غيره دون إذن منه شائع في
الحياة العملية كما في بيع الأزواج ملك زوجاتهم أو بيع الأفراد ملك الحكومة
أو ملك من تغيب حتى طالت غيبته.
ويلاحظ أن الفضولي: هو من يتصرف فيما تظهر ملكية غيره له، وإلا كان تصرفه
من بيع ما لا يملك، وهو منهي عنه.
ومحل البحث: أن يبيع الرجل مال غيره
بشرط: إن رضي به صاحب المال أمضي البيع، وإن لم يرض فسخ، أو يشتري الرجل
للرجل بغير إذنه على أنه إن رضي المشتري، صح الشراء وإلا لم يصح (2)،
فالفضولي: هو المتصرف للغير بغير إذنه.
وقد اختلف الفقهاء في حكم تصرف الفضولي.
_________
(1) بداية المجتهد: 171/ 2، الأموال ونظرية العقد: ص 380، أصول البيع
الممنوعة للأستاذ عبد السميع: ص 134.
(2) بداية المجتهد: 171/ 2.
[التعليق]
انظر بحث الفضالة في هذا الكتاب:
4/ 3013
* أبو أكرم الحلبي
(5/3339)
فأما الحنفية: فقد فرقوا بين البيع
والشراء، ففي حالة البيع ينعقد تصرف الفضولي صحيحاً موقوفاً، سواء أضاف
الفضولي العقد إلى نفسه أم إلى المالك، لأنه لا يمكن نفاذ العقد على
العاقد.
وفي حالة الشراء: إن أضاف الفضولي الشراء لنفسه، مع أنه يريد في نيته
الشراء لغيره، كان الشراء له هو نفسه إن صح أن ينفذ عليه؛ لأن الأصل أن
يكون تصرف الإنسان لنفسه لا لغيره.
وأما إن أضاف الشراء لغيره أو لم يجد عقد الشراء نفاذاً على الفضولي بأن
كان صبياً أو محجوراً عن التصرف، انعقد الشراء صحيحاً موقوفاً على إجازة
الغير، أو من اشتري له، فإن أجازه نفذ عليه، واعتبر الفضولي وكيلاً ترجع
إليه حقوق العقد.
وفي الجملة: إن تصرفات الفضولي جائزة موقوفة على إجازة صاحب الشأن عند
الحنفية (1)، وتصرفات الفضولي مثل بيع
المسلم فيه والمغصوب وبيع الوكيل (2) هي من الحالات المستثناة من بيع ما
ليس مملوكاً للإنسان.
وقال المالكية: تعتبر تصرفات الفضولي وعقوده بصفة عامة في حالة البيع وحالة
الشراء منعقدة موقوفة على إجازة صاحب الشأن. فإن أجازها جازت ونفذت وإلا
بطلت؛ لأن الإجازة اللاحقة كالإذن أو الوكالة السابقة (3).
استدل الحنفية والمالكية بآيات البيع
التي وردت عامة لم يستثن منها كون
_________
(1) البدائع: 148/ 5 - 150، فتح القدير مع العناية بهامشه: 309/ 5
ومابعدها، رد المحتار لابن عابدين: 5/ 4 - 6.
(2) يصح بيع المسلم فيه وإن لم يكن مملوكاً للبائع وقت العقد، وأما المغصوب
فيصح بيعه من الغاصب ويضمن قيمته، وبيع الوكيل نافذ.
(3) بداية المجتهد، المرجع السابق، حاشية الدسوقي: 12/ 3، القوانين
الفقهية: س 245.
(5/3340)
العاقد فضولياً، مثل قوله تعالى: {وأحلَّ
الله ُ البَيْعَ} [البقرة:275/ 2] وقوله سبحانه: {يا أيُّها الَّذينَ
آمَنُوا لا تَأْكُلوا أمْوالكُمْ بَينَكُمْ بِالباطِلِ، إلا أنْ تكونَ
تِجارَة عَن تَراضٍ مَنكُم} [النساء:29/ 4] وقوله: {فَإذا قُضيت الصلاة
فانتَشِروا في الأرْضِ وابْتَغوا منْ فَضْلِ الله} [الجمعة:10/ 62].
والفضولي كامل الأهلية، فإعمال عقده أولى من إهماله، وربما كان في العقد
مصلحة للمالك، وليس فيه أي ضرر بأحد؛ لأن المالك له ألا يجيز العقد، إن لم
يجد فيه فائدته. وقد ثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري
وغيره: أعطى عروة البارقي ديناراً ليشتري له به شاة فاشترى له به شاتين،
فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فقال: «بارك الله لك في صفقة
يمينك». وروى الترمذي وأبو داود عن حكيم بن حزام: أن النبي صلّى الله عليه
وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاة يضحيها، فاشترى شاتين بالدينار، وباع
إحداهما بدينار جاء به هو الشاة للرسول صلّى الله عليه وسلم، فأثنى عليه،
ودعا له بالبركة قائلاً: «بارك الله لك في صفقتك» (1) فالنبي عليه السلام
لم يأمر في الحالتين في الشاة الثانية لا بالشراء ولا بالبيع.
وقال الحنابلة (2): لا يصح تصرف فضولي
مطلقاً أي ببيع أو شراء أو غيرهما، ولو أجيز تصرفه بعد وقوعه إلا إن اشترى
الفضولي في ذمته، ونوى الشراء لشخص لم يسمه، فيصح، أو اشترى بنقد حاضر ونوى
لشخص لم يسمه، فيصح، ثم إن أجاز الشراء من اشتري له، ملكه من حين الشراء،
وإن لم يجزه وقع الشراء للمشتري ولزمه حكمه. وقال ابن رجب: تصرف الفضولي
جائز موقوف على الإجازة إذا دعت الحاجة إلى التصرف في مال الغير أو حقه،
وتعذر استئذانه إما للجهل بعينه أو لغيبته ومشقة انتظاره.
_________
(1) انظر سبل السلام: 31/ 3.
(2) كشاف القناع: 11/ 2 ومابعدها، القواعد لابن رجب: ص 417، غاية المنتهى:
8/ 2، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى: 18/ 3.
(5/3341)
ونصت المادة (13) من مشروع تقنين الشريعة
على مذهب أحمد: «تصرف الفضولي باطل، ولو أجيز بعد، إلا إذا اشترى في ذمته
ونوى الشراء لشخص لم يسمه، فيصح البيع».
وقال الشافعية والظاهرية: يشترط في
المبيع أن يكون مملوكاً لمن له العقد، فبيع الفضولي باطل من أساسه لاينعقد
أصلاً فلا تلحقه إجازة صاحب الشأن، ودليلهم مارواه أبو داود والترمذي ـ
وقال: إنه حسن ـ عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لابيع إلا فيما تملك».
وصح أيضاً النهي عن بيع ماليس عند الإنسان (1) أي ماليس مملوكاً للبائع،
وذلك للغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، ومايترتب عليه من
النزاع. وقالوا عن حديث عروة البارقي أو حكيم بن حزام: إنه محمول على أنه
كان وكيلاً مطلقاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ويدل عليه أنه باع الشاة
وسلمها (2)، فهي وكالة خالف فيها الوكيل إلى خير فينفذ تصرفه. وأما شراء
الفضولي في رأي هؤلاء فيعتبر شراء لنفسه، ويلزمه هو وحده ولاينتقل الملك
عنه إلى غيره إلا بعقد جديد كما هو رأي الحنفية.
شروط إجازة تصرف الفضولي:
اشترط الحنفية لإجازة عقد الفضولي شروطاً (3):
1 - أن يكون للعقد مجيز حالة العقد: أي من كان يستطيع إصدار العقد بنفسه،
لأن ما له مجيز متصور منه الإذن بإتمام العقد للحال، وبعد صدور
_________
(1) نص الحديث رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن حكيم بن حزام، وهو أن
النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «لاتبع ماليس عندك» حسنه الترمذي (انظر
نصب الراية: 45/ 4، نيل الأوطار: 155/ 5).
(2) مغني المحتاج: 15/ 2، المجموع للنووي: 281/ 9، 284 ومابعدها.
(3) البدائع: 149/ 5 - 151، فتح القدير: 311/ 5، الدر المختار ورد المحتار:
142/ 4.
(5/3342)
التصرف.
وأما ما لا مجيز له فلا يتصور منه الإذن للحال، والإذن في المستقبل قد يحدث
وقد لا يحدث. وعلى هذا: إذا طلق فضولي امرأة زوج بالغ، أو وهب ماله، أو
تصدق به، انعقد التصرف موقوفاً على الإجازة؛ لأن صاحب الشأن كان يستطيع أن
يصدر هذه العقود بنفسه، فيستطيع لهذا أن يجيزها بعد وقوعها، فكان للتصرف
مجيز حال العقد. أما لو فعل فضولي شيئاً مما ذكر بالنسبة لصغير، فلا ينعقد
العقد؛ لأن الصبي ليس من أهل هذه التصرفات بنفسه، فلم يكن لها مجيز حين
العقد، وكذلك ولي الصبي لا قيمة لإجازته؛ لأنه لا يملك هذه التصرفات بنفسه.
2 - أن تكون الإجازة حين وجود البائع، والمشتري، والمالك، والمبيع، فلو
حصلت الإجازة بعد هلاك أحد هؤلاء، بطل العقد ولم تفد الإجازة شيئاً؛ لأن
الإجازة تصرف في العقد، فلا بد من قيام العقد، وقيامه بقيام العاقدين
والمعقود عليه.
3 - ألا يمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند رفض صاحب الشأن، على ما تبين
سابقاً.
فسخ عقد الفضولي وإجازته:
فسخ العقد الصادر من الفضولي كبيع مثلاً: قد يكون من صاحب الشأن المالك
للمبيع كما هو واضح، وقد يكون من الفضولي البائع قبل إجازة المالك، حتى
يدفع عن نفسه الحقوق التي تلزمه لو أجاز المالك، وقد يكون من المشتري ليدفع
عن نفسه ما قد يلحقه من ضرر بشرائه من غير صاحب الشأن. أما في عقد الزواج:
فليس للفضولي فسخه، لأنه عقد ترجع فيه الحقوق إلى الأصيل صاحب الشأن (1).
_________
(1) البدائع: 151/ 5، فتح القدير: /309 - 312.
(5/3343)
أما إجازة عقد الفضولي فمقصورة على المالك
(مالك المال) أو الغير الذي تعلق له حق بالمبيع، وذلك إذا كان البائع
والمشتري والمبيع قائماً، بأن لايتغير المبيع بحيث يعد شيئاً آخر؛ لأن
إجازته كالبيع حكماً، وكذا يشترط قيام الثمن إذا كان عرضاً معيناً؛ لأنه
مبيع من وجه، فيكون ملكاً للفضولي، فإذا هلك هلك عليه (1).
هل للفضولي الواحد أن يعقد العقد عن الطرفين:
إذا باع الفضولي دار إنسان مثلاً وهما غائبان، وقبل عن المشتري، أو زوج
إنساناً من امرأة وقبل عنهما، فلا ينعقد العقد؛ لأن تعدد العاقد شرط في
انعقاد العقد، كما سبق بيانه، فلا يتوقف الإيجاب على قبول غائب عن المجلس
في سائر العقود من نكاح وبيع وغيرهما، بل يبطل الإيجاب ولا تلحقه الإجازة
اتفاقاً.
وعلى هذا: إذا كان الشخص في عقد النكاح فضولياً من الجانبين أو من جانب
واحد وكان من الجانب الآخر أصيلاً أو وكيلاً أو ولياً، فلا يتوقف إيجابه،
بل يبطل عند أبي حنيفة ومحمد، سواء تكلم بكلام واحد أو بكلامين: أي إيجاب
وقبول، كزوجت فلاناً وقبلت عنه. وقال أبو يوسف: يتوقف إيجاب الفضولي على
قبول الغائب، كما يتوقف اتفاقاً لو قبل عنه فضولي آخر، فلو زوج فضوليان
رجلاً من امرأة بغير علمهما جاز، وتوقف على قبولهما، فإن قبلا نفذ العقد،
وإن رفضا لم ينفذ.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 146/ 4 وما بعدها.
(5/3344)
دليل الطرفين: أن قبول الفضولي غير معتبر
شرعاً؛ لأن الإيجاب لما صدر من الفضولي، وليس له قابل في المجلس، ولو
فضولياً آخر، صدر باطلاً، غير متوقف على قبول الغائب، فلا يفيد قبول العاقد
بعده.
وبعبارة أخرى: إن الموجود حينئذ هو شطر العقد، ولا يمكن أن يعتبر الشطر
الآخر متحققاً إلا بوكالة أو ولاية.
ودليل أبي يوسف: أن عبارة الفضولي تتضمن شطري العقد، فيجوز كما في الولي
والوكيل (1).
توقف تصرف الصبي المميز:
إذا كان الصبي عاقلاً مميزاً: تصح تصرفاته في رأي الحنفية والحنابلة موقوفة
على إجازة وليه، ما دام صغيراً أو على إجازته بنفسه بعد البلوغ إن لم توجد
الإجازة من وليه حال صغره. فلو بلغ الصبي قبل إجازة الولي، فأجاز بنفسه جاز
(2)، وقد سبق ذكره، وتعرضت له هنا لصلته بالبيع الموقوف.
ثالثاً ـ شروط صحة البيع: شروط الصحة قسمان: عامة وخاصة (3).
ف الشروط العامة: هي التي يجب أن تتحقق
في كل أنواع البيع لتعتبر
_________
(1) انظر حاشية ابن عابدين: 448/ 2، الأحوال الشخصية للأستاذ المرحوم
الدكتور مصطفى السباعي: 95/ 1.
(2) البدائع: 149/ 5، المغني: /246.
(3) انظر التفصيل في حاشية ابن عابدين: 6/ 4، عقد البيع للأستاذ الزرقاء ص
25 ومابعدها، الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 394
ومابعدها.
(5/3345)
صحيحة شرعاً. وهي إجمالاً أن يخلو عقد
البيع من العيوب الستة، وهي: الجهالة، والإكراه، والتوقيت، والغرر، والضرر،
والشروط المفسدة.
الأول ـ الجهالة: يراد بها الجهالة
الفاحشة أو التي تفضي إلى نزاع يتعذر حله وهو النزاع الذي تتساوى فيه حجة
الطرفين بالاستناد إلى الجهالة، كما لو باع إنسان شاة من قطيع. وهذه
الجهالة أربعة أنواع:
1 - جهالة المبيع جنساً أو نوعاً أو قدراً بالنسبة إلى المشتري.
2 - جهالة الثمن كذلك: فلا يصح بيع الشيء بثمن مثله، أو بما سيستقر عليه
السعر.
3 - جهالة الآجال، كما في الثمن المؤجل، أو في خيار الشرط، فيجب أن تكون
المدة معلومة وإلا فسد العقد. ويلاحظ أن الذي يجوز تأجيله لأجل معلوم في
عقد البيع هو الثمن أو المبيع إذا كان كل منها ديناً ثابتاً في الذمة، فإن
كان الثمن أو المبيع عيناً، فلا يجوز تأجيله باتفاق العلماء، فلو باع شخص
سلعة معينة على أن يسلمها بعد شهر، أو اشترى شخص بثمن عين (أي ذات معينة
غير دين) على أن يدفع الثمن بعد شهر، فالبيع فاسد، ولو كان الأجل معلوماً؛
لأن الأجل شرع ترفيها ليتمكن العاقد من الحصول على العوض أثناءه، وهذا أمر
يليق بالديون لأنها ليست معينة في البيع، ولا يليق بالأعيان المعينة لأن
العين معين حاضر، فيكون تأخير تسليمه ملحقاً ضرراً من غير فائدة أو تحصيلاً
لحاصل (1).
4 - الجهالة في وسائل التوثيق، كما لو اشترط البائع تقديم كفيل أو رهن
بالثمن المؤجل، فيجب أن يكونا معينين وإلا فسد العقد.
_________
(1) راجع فتح القدير: 219/ 5، المجموع: 373/ 9، بداية المجتهد: 155/ 2.
(5/3346)
الثاني ـ الإكراه:
هو حمل المستكره على أمر يفعله وهو نوعان:
1 - إكراه ملجئ أو تام: وهو الذي يجد المستكره نفسه مضطراً به لفعل الأمر
المكره عليه، وذلك كالتهديد بالقتل أو الضرب الذي يخشى منه ضياع عضو.
2 - إكراه غير ملجئ أو ناقص: كالتهديد بالحبس أو الضرب أو إيقاع الظلم به
كمنع ترقيته في وظيفته أو إنزاله درجة.
والإكراه بنوعيه يؤثر في البيع، فيجعله فاسداً عند جمهور الحنفية وموقوفاً
عند زفر. فيملك المشتري المبيع بالقبض إذا اعتبر فاسداً، ولا يملكه مطلقاً
بالقبض إذا اعتبر موقوفاً، والأرجح اعتبار عقد المكره موقوفاً، لأنه باتفاق
الحنفية إذا أجازه المستكره بعد زوال الإكراه يجوز ويلزم في حقه، وهذا هو
حكم العقد الموقوف لا الفاسد (1).
الثالث ـ التوقيت: هو أن يوقت البيع
بمدة كما لو قال: بعتك هذا الثوب شهراً أو سنة، فيكون البيع فاسداً، لأن
ملكية العين لاتقبل التأقيت.
الرابع ـ الغرر: المراد به غرر الوصف،
كما لو باع بقرة على أنها تحلب كذا رطلاً، لأنه موهوم التحقق فقد ينقص.
أما لو باعها على أنها حلوب دون تحديد مقدار، فإنه شرط صحيح. وأما غرر
الوجود فهو مبطل للبيع لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (2):
وهو ماكان المبيع فيه محتملا ً للوجود والعدم، كبيع نتاج النتاج، وبيع
الحمل الموجود.
_________
(1) انظر البدائع: 188/ 7، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: 364/ 1 في
الحاشية ف 185.
(2) رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه (انظر
جامع الأصول: 441/ 1، مجمع الزوائد: 80/ 4).
(5/3347)
الخامس ـ الضرر:
يراد به ما إذا كان تسليم المبيع لا يمكن إلا بإدخال ضرر على البائع، فيما
سوى المبيع من ماله، كما لو باع جذعاً معيناً في سقف مبني، أو ذراعاً من
ثوب يضره التبعيض، فإن التنفيذ يقضي بهدم ما حول الجذع وتعطيل الثوب.
وبما أن الفساد هنا لصيانة حق شخصي، لا لحق الشرع، قرر الفقهاء أن البائع
لو نفذ الضرر على نفسه، بأن قلع الجذع أو قطع الثوب وسلمه إلى المشتري،
انقلب البيع صحيحاً.
السادس ـ الشرط المفسد: هو كل شرط فيه
نفع لأحد المتبايعين، إذا لم يكن قد ورد به الشرع، أو جرى به العرف، أو
يقتضيه العقد، أو يلائم مقتضاه، مثل أن يبيع سيارة على أن يستخدمها شهراً
بعد البيع، أو داراً على أن يظل مقيماً بها مدة معينة، أو أن يشترط المشتري
على البائع في صلب العقد أن يقرضه مبلغاً من المال.
والشرط الفاسد إذا وجد في عقد من عقود المعاوضات المالية كالبيع والإجارة
والقسمة مثلاً أفسده، ولكنه يكون لغواً في العقود الأخرى، مثل التبرعات
والتوثيقات والزواج، وتكون هذه العقود حينئذ صحيحة (1).
وقد علق الأستاذ مصطفى الزرقاء على ذلك، فقال: وبما أن عرف الناس مصحح
للشروط في نظر الفقهاء، فكل شرط فاسد في الأصل ينقلب صحيحاً ملزماً إذا
تعارفه الناس، وشاع بينهم اشتراطه. وعندئذ يمكن القول: بأن الشرط الفاسد قد
زال فقهياً من معاملات الناس بمفعول الزمن، وأصبحت الشروط في هذا العصر
كلها صحيحة بمقتضى قواعد الاجتهاد الحنفي نفسه (2).
_________
(1) الأموال ونظرية العقد لأستاذنا المرحوم محمد يوسف موسى: ص 423.
(2) عقد البيع: ص 28.
(5/3348)
وأما الشروط
الخاصة: فهي التي تخص بعض أنواع البيع دون بعض وهي كما يأتي:
1 - القبض في بيع المنقولات: أي أنه إذا باع شخص شيئاً من المنقولات التي
كان قد اشتراها، فيشترط لصحة بيعه: أن يكون قد قبضها من بائعها الأول، لأن
المنقول يكثر هلاكه، فيكون في بيعه ثانية قبل قبضه غرر، أما إذا كان عقاراً
فيجوز بيعه قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف كما سيأتي.
2 - معرفة الثمن الأول في بيوع الأمانة، أي إذا كان البيع مرابحة أو تولية
أو وضيعة أو إشراكاً. وسيأتي تفسيرها.
3 - التقابض في البدلين قبل الافتراق إذا كان البيع صرفاً.
4 - توافر شروط السلم التي سيأتي ذكرها إذا كان البيع سلماً.
5 - المماثلة في البدلين إذا كان المال ربوياً والخلو عن شبهة الربا.
6 - القبض في الديون الثابتة في الذمة، كالمسلم فيه، ورأس مال السلم، وبيع
شيء بدين على غير البائع، فلا يصح بيعها من غير من عليه الدين إلا بعد
قبضها. مثاله: لا يصح لرب السلَم أي (المشتري) أن يبيع المال المسلم فيه
قبل قبضه من المسلم إلىه (البائع)، ولا يصح للدائن أن يشتري بدينه شيئاً من
غير المدين قبل قبضه.
رابعاً ـ شروط لزوم البيع: شرائط اللزوم تأتي بعد شرائط الانعقاد والنفاذ،
فيشترط للزوم البيع: خلوه من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد العاقدين فسخ
العقد: مثل خيار الشرط والوصف والنقد والتعيين، والرؤية، والعيب، والغبن مع
التغرير. فإذا وجد في
(5/3349)
البيع شيء من هذه الخيارات منع لزومه في حق
من له الخيار، فكان له أن يفسخ البيع أو أن يقبله، إلا إذا حدث ما نع من
ذلك، كما سيأتي في مباحث الخيارات (1).
ويلاحظ أن الانعقاد يقابله البطلان، والصحة يقابلها الفساد، والنفاذ يقابله
التوقف، واللزوم يقابله عدم اللزوم أي التخيير.
خلاصة أنواع شروط البيع في المذاهب وبيان
الاتفاق والاختلاف فيها:
اختلف الفقهاء في أنواع شروط البيع، فهي عند الحنفية ثلاثة وعشرون شرطاً،
وفي مذهب المالكية أحد عشر شرطاً، ولدى الشافعية اثنان وعشرون شرطاً، وفي
رأي الحنابلة أحد عشر شرطاً.
الشروط في مذهب الحنفية:
شروط البيع عند الحنفية أربعة أقسام: شروط
الانعقاد، وشروط الصحة، وشروط النفاذ، وشروط اللزوم، وجملتها ثلاثة
وعشرون شرطاً (2).
أما شروط الانعقاد، فهي أربعة أنواع:
النوع الأول ـ شروط العاقد: يشترط في
العاقد، سواء أكان بائعاً أم مشترياً شرطان هما:
1ً - أن يكون عاقلاً أو
مميزاً: فلا ينعقد بيع المجنون ولا شراؤه، ومثله الصغير غير المميز.
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 6/ 4، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 32.
(2) البدائع: 135/ 5 - 148، 155.
(5/3350)
2ً - أن يكون
متعدداً: فلا ينعقد البيع بشخص واحد، بل يلزم أن يكون الإيجاب من شخص،
والقبول من شخص آخر، إلا الأب ووصيه والقاضي والرسول من الجانبين، يكون كل
منهم بائعاً ومشترياً بنفسه.
النوع الثاني ـ شروط الصيغة: يشترط في
صيغة العقد من الإيجاب والقبول ثلاثة شروط هي:
1ً - سماع الصيغة: فلا
ينعقد البيع إلا إذا سمع كل واحد من العاقدين كلام صاحبه.
2ً - توافق الإيجاب
والقبول: بأن يقبل المشتري كل ما أوجبه البائع وبما أوجبه من الثمن، فإذا
اختلف القبول مع الإيجاب، لا ينعقد البيع، إلا إذا كانت المخالفة إلى خير،
بأن يقبل المشتري زيادة عن الثمن الموجب به.
3ً - اتحاد مجلس العقد: بأن
يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، دون فاصل، فإن اختلف المجلس لا ينعقد
البيع، وإن تخلل انقطاع أجنبي عن العقد بأن يقوم أحدهما عن المجلس قبل
القبول، أو يشتغل بعمل آخر، لم ينعقد البيع. واعتبر المجلس الواحد جمعاً
للمتفرقات بحسب التعاقد وعادة الناس. ولا يشترط الفور في القبول؛ لأن
القابل يحتاج إلى التأمل.
وفي التعاقد بين غائبين بطريق المراسلة يعتبر مجلس بلوغ الرسالة من العاقد
الأول إلى الثاني هو مجلس التعاقد.
النوع الثالث ـ شروط المعقود عليه:
يشترط في المعقود عليه خمسة شروط هي:
(5/3351)
1ً - أن يكون
المبيع مالاً: وهو ما يمكن الانتفاع به في العادة، فلا ينعقد بيع الميتة
وبيع اليسير من المال كحبة حنطة؛ لأنه ليس بمال.
2ً - أن يكون متقوماً: وهو
ما يباح الانتفاع به شرعاً، فلا ينعقد بيع الخمر والخنزير؛ إذ لا يباح
الانتفاع بهما شرعاً. وقد جمعت هذين الشرطين سابقاً في شرط واحد.
3ً - أن يكون محرزاً، أي
مملوكاً في نفسه: وهو ما دخل تحت حيازة ملك خاص، فلا ينعقد بيع ما ليس
بمملوك لأحد من الناس، كالعشب المباح ولو في أرض مملوكة.
4ً - أن يكون المعقود عليه
موجوداً حين التعاقد: فلا ينعقد بيع المعدوم كنتاج النتاج (ولد الولد)، ولا
ماله خطر العدم واحتمال الوجود كالحمل في البطن، واللبن في الضرع.
5ً - أن يكون مقدور التسليم
حين العقد: فلا ينعقد بيع السمك في الماء والطير في الهواء.
النوع الرابع ـ شرط البدل:
وهو شرط واحد وهو أن يكون مالاً متقوماً قائماً، فلا ينعقد البيع بثمن لا
يعد مالاً متقوماً كالخمر والخنزير.
وأما شروط الصحة: فهي قسمان: عامة
وخاصة.
أما العامة: فهي المتعلقة بكل أنواع
البيع، وهي جميع شروط الانعقاد المذكورة آنفاً؛ لأن كل عقد لا ينعقد، فلا
يصح أيضاً، ويزاد عليها شروط أربعة هي:
(5/3352)
1ً - أن يكون
المبيع معلوماً والثمن معلوماً علماً يمنع من المنازعة: فلا يصح بيع
المجهول كشاة من قطيع غنم، ولا أن يبيع شيئاً بثمن مجهول غير معين، كأن
يبيع شيئاً بقيمته، أو بما في يده أو جيبه.
2ً - ألا يكون البيع
مؤقتاً: فإن أقته بوقت لا يصح؛ لأن مقتضى البيع هو إفادة نقل الملكية في
البدلين (المبيع والثمن) أبدياً على الدوام.
3ً - أن يكون للبيع فائدة:
فلا يصح بيع درهم بدرهم مساوٍ له.
4ً - أن يخلو عن الشرط
المفسد: وهو كل شرط فيه منفعة زائدة لأحد المتعاقدين، إذ لم يرد به الشرع،
ولم يجز به العرف، ولا يلائم مقتضى العقد، كاشتراط أن تكون الدابة حاملاً،
أو أن ينتفع بالمبيع مدة بعد البيع، أو أن يقرض المشتري البائع مبلغاً من
المال.
وأما الشروط الخاصة ببعض أنواع البيوع
فهي خمسة:
1ً - القبض في بيع المنقول
والعقار الذي يخشى هلاكه: فإن اشترى شخص شيئاً، لم يصح بيعه لآخر قبل قبضه
للنهي عن بيع مالم يقبض. أما العقار الذي لا يخشى هلاكه، فيجوز بيعه قبل
القبض في رأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف.
2ً - أن يكون الثمن الأول
معلوماً في بيوع الأمانة: وهي بيع المرابحة والتولية والوضيعة.
3ً - التقابض والتساوي في
البدلين المتحدي الجنس وكانا مما يكال أو يوزن، وهذا شرط في بيع الأموال
الربوية.
(5/3353)
4ً - توافر شروط
السلم الخاصة به مثل قبض رأس مال السلم كله في مجلس العقد.
5ً - ألا يكون أحد البدلين
دَيْناً في بيع الدين إلى غير المدين.
وأما شروط النفاذ: فهي اثنان:
1ً - أن يكون المبيع
مملوكاً للبائع، أو له عليه ولاية: فلا ينفذ بيع غير المملوك للبائع وهو
بيع ملك الغير أو بيع الفضولي، إلا في عقد السلم، فإنه يصح بيع ما سيملكه
بعد العقد.
2ً - ألا يكون في المبيع حق
لغير البائع: فلا ينفذ بيع المرهون والمأجور؛ لأنه وإن كان مملوكاً له،
ولكن للغير حق فيه.
وأما ما يشترط في لزوم العقد؛ فهو شرط
واحد:
وهو خلو البيع من الخيار، فلا يلزم البيع المشتمل على الخيار، ويجوز فسخه.
شروط البيع في مذهب المالكية:
اشترط المالكية شروطاً في العاقد وفي الصيغة وفي المعقود عليه، وجملتها أحد
عشر شرطاً (1).
أما شروط العاقد بائعاً أو مشترياً فهي
ثلاثة، يزاد عليها رابع في البائع:
1ً - أن يكون كل من البائع
والمشتري مميزاً: فلا ينعقد بيع الصبي غير
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 245 وما بعدها، بداية المجتهد: 125/ 2 - 127، 168
- 171.
(5/3354)
المميز، والمجنون والمغمى عليه والسكران.
أما بيع المميز فلا يلزم وإن كان صحيحاً إلا إذا كان وكيلاً عن مكلف، فإن
بيعه يلزم.
2ً - أن يكون كلاهما
مالكين، أو وكيلين لمالكين، أو ناظرين عليهما: فينعقد بيع الفضولي:
وهوالشراء لأحد بغير إذنه أو البيع عليه بغير إذنه، ويتوقف على إذن المالك.
3ً - أن يكونا طائعين: فبيع
المكره وشراؤه باطلان. والمعتمد لدى المالكية أن بيع المكره غير لازم.
4ً - أن يكون البائع
رشيداً: فلا ينفذ بيع السفيه والمحجور، وشراؤه موقوف على إجازة وليه.
ولا يشترط الإسلام في العاقد إلا في شراء العبد المسلم، وفي شراء المصحف،
لكن يكون البيع صحيحاً نافذاً، ويجبر المشتري الكافر على إخراج المبيع من
ملكه؛ لأن في تملكه العبد المسلم أو المصحف إهانة، ويصح بيع الأعمى وشراؤه.
وأما شروط الصيغة فهي اثنان:
1ً - أن يتحد المجلس: بأن
يكون القبول مع الإيجاب في مجلس واحد: فلو قال البائع للمشتري: بعتك الكتاب
بكذا، فلم يجبه، ثم تفرقا عن المجلس، لم ينعقد البيع.
2ً - ألا يفصل بين الإيجاب
والقبول فاصل يدل على الإعراض عن البيع عرفاً: فإن وجد فاصل يدل على
الإعراض عرفاً، لم ينعقد البيع.
(5/3355)
وأما شروط
الثمن والمثمن فهي خمسة:
1ً - أن يكون غير منهي عنه
شرعاً: فلا ينعقد بيع الميتة والدم وما لم يقبض.
2ً - أن يكون طاهراً: فلا
يجوز بيع النجس كالخمر والخنزير، والمشهور منع بيع العاج والزبل والزيت
النجس مطلقاً. وأجاز ابن وهب ذلك البيع، فمن رأى أن عاج الفيل ناب جعله
كالميتة، ومن رأى أنه قرن معكوس جعل حكمه حكم القرن.
3ً - أن يكون منتفعاً به
شرعاً: فلا يجوز بيع ما لا منفعة فيه كالكلاب والخشاش (الحشرات) وآلات
اللهو، واختلف المالكية في بيع الكلاب للصيد وحراسة الغنم على رأيين.
4ً - أن يكون معلوماً
للعاقدين: فلا يجوز بيع المجهول.
5ً - أن يكون مقدوراً على
تسليمه: فلا ينعقد بيع معجوز التسليم كالسمك في الماء.
شروط البيع في مذهب الشافعية:
اشترط الشافعية اثنين وعشرين شرطاً وهي إما في العاقد، وإما في الصيغة،
وإما في المعقود عليه (1).
أما شروط العاقد فهي أربعة:
1ً - الرشد: وهو أن يكون
بالغاً عاقلاً، مصلحاً لدينه وماله: فلا ينعقد بيع
_________
(1) مغني المحتاج: 5/ 2 - 16، تحفة الطلاب: ص 141 - 145.
(5/3356)
صبي وإن قصد اختباره، ولا من مجنون، ولا من
محجور عليه بسفه. لكن لو تعاقد الصبي وأتلف عنده ما ابتاع أو ما اقترض من
رشيد، وأقبضه له، لم يضمن؛ لأن المُقبض أو المُسلِّم هو المضيع لماله، هذا
في الظاهر، أما في الباطن، فيغرم بعد البلوغ، كما نص عليه الشافعي في الأم
في باب الإقرار. أما إن تسلم المبيع من صبي مثله، ولم يأذن الوليان لهما،
ضمن كل منهما ما قبض من الآخر. فإن كان التسليم بإذن الوليين، فالضمان
عليهما فقط، لوجود التسليط منهما.
وعلى البائع للصبي رد الثمن إلى وليه، فلو رده إلى الصبي، ولو بإذن الولي،
وهو ملك الصبي، لم يبرأ منه. وإن رده للولي برئ منه. هذا أي عدم البراءة ما
إذا لم يكن المبيع في مصلحة تتعلق ببدن الصبي من مأكل أو مشرب ونحوهما،
وإلا برئ.
2ً - عدم الإكراه بغير حق:
فلا يصح عقد مكره في ماله بغير حق، لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن
تراض منكم} [النساء:29/ 4].
ولا أثر لقول المكره بغير حق إلا في الصلاة، فتبطل به في الأصح، ولا لفعله
إلا في الرضاع والحدث والتحول عن القبلة وترك القيام في الفريضة مع القدرة،
وكذا القتل ونحوه في الأصح.
أما الإكراه بحق: فيصح، إقامة لرضا الشرع مقام رضاه، كمن توجه عليه دين،
وامتنع من الوفاء والبيع، فإن شاء القاضي، باع ماله بغير إذنه، لوفاء دينه،
وإن شاء عزره وحبسه إلى أن يبيعه.
3ً - إسلام من يشترى له
مصحف ونحوه من كتب حديث وآثار سلف وكتب فقه فيها شيء من القرآن والحديث
وآثار السلف، لما في ذلك من الإهانة
(5/3357)
لها: فلايصح شراء الكافر المصحف ونحوه مما
ذكر، ولا شراء الكافر العبد المسلم في الأظهر، لما فيه من إذلال المسلم،
ولقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/
4].
4ً - ألا يكون المشتري
حربياً محارباً في بيع آلات الحرب كسيف ورمح ونحوهما، لتقوي الحربيين بهما
على المسلمين، واستعانتهم بذلك على قتالنا. أما غير عُدَّة الحرب، ولو مما
يصنع منه كالحديد، فيجوز بيعه للحربي؛ إذ لا يتعين جعله عدة حرب. والذمي في
دار الحرب كالحربي.
وأما شروط الصيغة فهي ثلاثة عشر:
1ً - الخطاب: بأن يخاطب كل
من العاقدين صاحبه، كأن يقول له: بعتك كذا، فلو قال: بعت لزيد، فلا يصح.
2ً - أن يقع الخطاب على
جملة المخاطب: كأن يقول له: بعتك، أما لو قال له: بعت يدك أو رأسك مثلاً،
فلا يصح.
3ً - أن يكون القبول ممن
صدر معه الخطاب: فلو وجه الإيجاب، فقبل عنه آخر ليس وكيلاً عنه، فلا يصح
البيع. ولو مات المخاطب به قبل قبوله، فقبل وارثه، لم ينعقد البيع، وكذا لو
قبل وكيله أو موكله.
4ً - أن يذكر البادئ
بالكلام الثمن والمثمن: كأن يقول: بعتك هذا الشيء بكذا، أو اشتريت منك هذا
الشيء بكذا.
5ً - أن يقصد كلا العاقدين
معنى اللفظ الذي ينطق به: فإذا جرى على لسانه لفظ الإيجاب أو القبول، أو
كان هازلاً، دون أن يقصد التمليك والتملك، لا يصح البيع.
(5/3358)
6ً - أن يصر البادئ
على ما أتى به من الإيجاب إلى القبول، وأن تستمر أهلية العاقدين إلى تمام
القبول: فلو قال: بعتك، ثم جن أو أغمي عليه قبل قبول الآخر، بطل العقد. ولو
أوجب بمؤجل أو شرط الخيار، ثم أسقط الأجل أو الخيار، لم يصح العقد، لضعف
الإيجاب وحده، في الحالتين.
7ً - ألا يطول الفصل بين
لفظي الإيجاب والقبول، ولو بكتابة أو إشارة أخرس بسكوت طويل. والفاصل
الطويل: هو ما أشعر بإعراضه عن القبول. أما الفصل اليسير بالسكوت فلا يضر،
لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول.
8ً - ألا يتخلل بين الإيجاب
والقبول كلام أجنبي عن العقد، ولو يسيراً، فيضر الفصل اليسير بالكلام
الأجنبي؛ وإن لم يتفرقا عن المجلس؛ لأن فيه إعراضاً عن القبول، بخلاف
السكوت اليسير، وبخلاف يسير الكلام الأجنبي في الخلع؛ لأن فيه من جانب
الزوج شائبة التعليق، ومن جانب الزوجة شائبة جعالة، وكل منهما موسع فيه
محتمل للجهالة، بخلاف البيع.
9ً - ألا يغير الموجب كلامه
قبل قبول الآخر: فإذا قال: بعتك بخمسة، ثم قال: بعشرة، قبل أن يقبل الآخر،
لم يصح العقد.
10ً - سماع الصيغة: بأن
يسمع كل عاقد ومن بقربه من الحاضرين كلام الآخر، فإن لم يسمعه من كان
قريباً لم ينعقد العقد.
11ً - أن يتوافق الإيجاب
والقبول تماماً: فلو اختلفا، لم يصح العقد.
12ً - ألا يعلق الصيغة بشيء
لا يقتضيه العقد: مثل إن جاء فلان فقد بعتك كذا، أو بعتك هذه الدار إن شاء
فلان أو إن شاء الله؛ لأن البيع يقتضي التنجيز. أما إن علق بما يقتضيه
العقد، كقوله: بعتك هذا بكذا إن شئت، فقال: اشتريت، صح العقد؛ لأن هذا
التعليق لا ينافي العقد، وهو تصريح بمقتضى العقد.
(5/3359)
13ً - ألا يكون
العقد مؤقتاً: فلو قال: بعتك الدار بألف شهراً مثلاً، لم يصح؛ لأن البيع
يقتضي التأبيد.
وأما شروط المعقود عليه فهي خمسة:
1ً - أن يكون المعقود عليه
طاهراً: فلا يصح بيع الكلب والخمر، والمتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل
واللبن والدبس وكذا الدهن في الأصح.
2ً - أن يكون منتفعاً به
شرعاً: فلا يصح بيع الحشرات التي لا نفع فيها، ولا يصح بيع كل سبع أو طير
لا ينفع كالأسد والذئب والحدأة والغراب غير المأكول. ولا يصح بيع آلة اللهو
كالطنبور والصنج والمزمار والعود والأصنام والصور وإن اتخذت من نقد،
للحرمة، ولأنه لا نفع بها شرعاً. ولا يصح بيع حبتي حنطة ونحوها، لعدم
المالية. ويمكن أن يشمل هذين الشرطين كون المعقود عليه غير منهي عنه شرعاً.
ويصح بيع الماء المحرز على الشط، والحجر عند الجبل والتراب بالصحراء ممن
حازها، في الأصح، لظهور المنفعة فيها.
3ً - أن يكون مقدور
التسليم: فلا يصح بيع الطير في الهواء ولا السمك في الماء، ولا بيع الضالّ
والآبق والمغصوب، لكن إن باعه لقادر على انتزاعه من الغاصب، أو باع الآبق
لقادر على رده، صح على الصحيح، نظراً إلى وصوله إليهما، إلا إن احتاج إلى
مؤنة، فالظاهر البطلان.
4ً - أن يكون مملوكاً
للعاقد أو له عليه ولاية: فبيع الفضولي (وهو البائع مال غيره بغير إذنه ولا
ولاية له) باطل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا بيع إلا فيما تملك» (1).
5ً - أن يكون معلوماً
للعاقدين عيناً وقدراً وصفة: فبيع أحد الثوبين
_________
(1) رواه أبو داود والترمذي، وقال: إنه حسن.
(5/3360)
ونحوهما باطل للغرر أو الجهالة. ويصح بيع
صاع من صُبرة (وهي الكومة من الطعام) لتساوي أجزائهما، وتغتفر جهالة المبيع
هنا، فإنه ينزل على صاع مبهم، لتعذر الإشاعة. أما بيع شيء من أشياء متفاوتة
الأجزاء كبيع شاة من هذه الشياه، فلا يصح، لتفاوت الأجزاء.
شروط البيع في مذهب الحنابلة:
اشترط الحنابلة أحد عشر شرطاً في البيع: إما في العاقد، وإما في الصيغة،
وإما في المعقود عليه (1).
أما شروط العاقد؛ فهي اثنان:
1ً - الرشد إلا في يسير:
فلا يصح بيع الصبي والمجنون والسكران والسفيه، لكن إذا أذن الولي لمميز
وسفيه لمصلحة، صح العقد، ويحرم الإذن لهما بلا مصلحة، لما فيه من الإضاعة.
ولا يصح من المميز والسفيه قبول هبة ووصية وبيع ونحوها بلا إذن ولي لهما.
ويصح تصرف صغير ولو دون سن التمييز في الأمر اليسير، لما روي «أن أبا
الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله» (2). ويصح تصرف سفيه في شيء يسير
كباقة بقل وكبريت ونحوها؛ لأن الحكمة في الحجر خوف ضياع المال، وهو مفقود
في اليسير.
ويصح توكيل مميز في إرسال هدية ودخول دار، عملاً بالعرف.
_________
(1) غاية المنتهى: 5/ 2 - 14، كشاف القناع: 139/ 3 - 166.
(2) ذكره ابن أبي موسى.
(5/3361)
2ً - التراضي من
المتبايعين والاختيار أو عدم الإكراه إلا بحق: وهو أن يأتي العاقد بالبيع
اختياراً، لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4]
ولحديث «إنما البيع عن تراض» (1). فبيع التلجئة أو الأمانة: بأن يظهر
العاقدان بيعاً لم يريداه باطناً، بل أظهراه خوفاً من ظالم ونحوه: باطل.
وكذا بيع الهازل باطل؛ لأنه لم ترد حقيقته.
ويصح البيع في حالة الإكراه بحق كالذي يكره الحاكم على بيع ماله لوفاء
دينه، أو على شراء ما يوفي ما عليه من دين؛ لأنه قول حمل عليه بحق، فصح.
فأمثلة المكره بحق: راهن ومحتكر ومدين وممتنع.
ويكره الشراء من المضطر: وهو الذي يبيع ماله بأقل من ثمن مثله.
وأما شروط الصيغة فهي ثلاثة:
1ً - اتحاد المجلس: بأن
يكون القبول في مجلس الإيجاب، فإذا قال البائع: بعتك، ثم تفرقا قبل القبول
من المجلس، لم ينعقد البيع.
2ً - ألا يكون بين القبول
والإيجاب فاصل يدل على الإعراض عن البيع عرفاً.
3ً - ألا يكون العقد مؤقتاً
ولا معلقاً بغير مشيئة الله: مثل بعتك سنة أو بعت أو اشتريت إن رضي فلان.
وأما شروط المعقود عليه مبيعاً أو ثمناً
فهي ستة شروط وهي:
1ً - أن يكون مالاً: وهو ما
يباح الانتفاع به شرعاً مطلقاً في غير حاجة ولا ضرورة؛ لأن البيع مبادلة
مال بمال، فلا يصح بيع ما لا نفع فيه أصلاً
_________
(1) رواه ابن حبان، وقد سبق تخريجه مفصلاً.
(5/3362)
كالحشرات، وما فيه منفعة محرَّمة كالخمر،
وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب، وما فيه منفعة تباح للضرورة كالميتة
حال الاضطرار أو المخمصة، والخمر لدفع لقمة غص بها.
ويصح بيع جلد ميتة دبغ وكان اقتناؤه بلا حاجة، ويجوز بيع بغل وحمار ودود قز
ونحل منفرداً بشرط كونه مقدوراً عليه، أو مع كوَّارته إذا شوهد داخلاً
فيها؛ لأن فيه منافع للناس، ويصح بيع ما يصاد عليه من الطيور، وديدان لصيد
سمك، وسباع بهائم وجوارح طير للاصطياد، لا لغيره، ويصح بيع علق لمص دم.
ويصح بيع طير لقصد صوته كبلبل وهزار؛ لأن فيه نفعاً مباحاً، وكذا يصح بيع
ببغاء وهي الدُّرة ونحوها كقُمري.
ويجوز إهداء الكلب المباح والإثابة عليه، لا على وجه البيع.
ولا يجوز بيع سموم قاتلة كسم الأفاعي، لخلوها من نفع مباح، وكذا لايجوز بيع
سم الحشائش والنبات، إلا ما ينتفع به وأمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا
ونحوها.
ويحرم بيع المصحف لمسلم أو لكافر، لأن تعظيمه واجب، وفي بيعه ابتذال له
وترك لتعظيمه، ولأن الكافر يمنع من استدامة ملك المصحف، فيمنع من ابتدائه.
ولا يصح بيع آلة لهو كمزمار وطنبور ونرد وشطرنج، ولا بيع حشرات كخنافس وفأر
وحيات وعقارب وصراصر ونحوها، ولا بيع ميتة ولو لمضطر ولا بيع دم وخنزير
وصنم.
(5/3363)
ولا يصح بيع سرجين نجس (زبل)، ولا بيع
أدهان نجسة العين من شحوم الميتة وغيرها، لحديث البخاري ومسلم: «إن الله
إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» ولا يحل الانتفاع بالأدهان النجسة باستصباح ولا
غيره، فقد حرمه النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث جابر المتفق عليه. ولا
يصح بيع أدهان متنجسة كزيت لاقى نجاسة، ولو لكافر للحديث السابق: «إن الله
تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» ويجوز الاستصباح في الأدهان المتنجسة في غير
مسجد؛ لأنه أمكن الانتفاع بها من غير ضرر.
ولا يصح بيع الحر، لحديث البخاري ومسلم: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة،
ومنهم: ورجل باع حراً وأكل ثمنه». ولا يصح بيع ما ليس بمملوك من المباحات
من نحو كلأ وماء ومعدن قبل حيازتها وتملكها، لفقد الشرط الآتي:
2ً - أن يكون المبيع
مملوكاً لبائعه ملكاً تاماً، لقوله صلّى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا
تبع ما ليس عندك» (1)، فلا يصح تصرف فضولي مطلقاً ولو أجيز بعد.
ولا يصح بيع ما لا يملكه الإنسان كحر ومباح قبل حيازته، ولا بيع أرض موقوفة
مما فتح عنوة ولم تقسم كمصر والشام، ويصح بيع إمام لها لمصلحة كوقفه
وإقطاعه تمليكاً، أو غير إمام وحكم به من يرى صحته. ولا يصح بيع ولا إجارة
رباع مكة والحرم: وهي المنازل، وكذا بقاع المناسك كالمسعى والمرمى والموقف
ونحوها، لأنها كالمساجد لعموم نفعها، ولأن مكة فتحت عنوة. ولا يصح بيع ما
ليس مملوكاً ملكاً تاماً كالمبيع وقت الخيار.
3ً - أن يكون المبيع
مقدوراً على تسليمه حال العقد: لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم،
والمعدوم لا يصح بيعه، فكذا ما أشبهه.
_________
(1) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه
(5/3364)
فلا يصح بيع نصف معين من نحو إناء وسيف
وحيوان، ودين لغير مدين، ولا آبق وشارد ولو لقادر على تحصيلهما. لحديث «نهى
رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن شراء العبد وهو آبق» (1) ولا يصح بيع سمك
بماء إلا مرئياً بمحجوز يسهل أخذه منه، ولا يصح بيع طائر يصعب أخذه، أو في
الهواء وألف الرجوع إلا في مكان مغلق؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.
ولا يصح بيع مغصوب إلا لغاصبه أو قادر على أخذه، وله الفسخ إن عجز.
4ً - أن يكون المبيع
معلوماً للبائع والمشتري برؤية تحصل بها معرفته، عند العقد أو قبله بزمن لا
يتغير فيه المبيع يقيناً أو ظاهراً.
ويصح بيع الأعمى وشراؤه بما يمكنه معرفة ما يبيعه أو يشتريه بغير حاسة
البصر كشم ولمس وذوق، لحصول العلم بحقيقة المبيع. ويصح بيع قفيز من صُبرة
(كومة طعام وغيره).
ولا يصح بيع الأُنموذج: وهو ما يدل على صفة الشيء، كأن يريه صاعاً مثلاً من
صبرة، ويبيعه الصبرة على أنها من جنسه، لعدم رؤية المبيع وقت العقد.
ولا يصح بيع حَمْل ببطن وهو بيع المضامين، ولا بيع لبن بضرع، ونوى بتمر،
وصوف على ظهر إلا تبعاً، كبعتك هذه البهيمة وحملها، أو بعتك الأرض وما فيها
من بذر.
ولا يصح بيع عَسْب فحل، أو نتاج نتاج، أو ما تحمل هذه الشجرة أو الدابة،
ولا مسك في فأرته (صوانه)، ولفت وبصل ونحوه قبل قلعه، ولا ثوب مطوي، أو نسج
بعضه على أن ينسج بقيته.
_________
(1) رواه أحمد عن أبي سعيد.
(5/3365)
ولا يصح بيع الملامسة، مثل بعتك ثوبي هذا
على أنك متى لمسته أو إن لمسته أو أي ثوب لمسته، فعليك بكذا.
ولا يصح بيع المنابذة، مثل متى أو إن نبذت هذا أو أي ثوب نبذته فلك بكذا.
ولا يصح بيع الحصاة مثل: ارمها فعلى أي ثوب تقع، فلك بكذا.
ولا يصح بيع ما لم يعين أي بيع المجهول، كشاة من قطيع، وشجرة من بستان، ولو
تساوت قيمتها.
5ً - أن يكون الثمن معروفاً
للعاقدين حال العقد أو قبله: فلا يصح بيع برقم مجهول، ولا بما باع زيد إلا
إن علم به العاقدان، ولا بما ينقطع به السعر، خلافاً للمتأخرين من
الحنابلة، ولا كما يبيع الناس.
6ً - خلو الثمن والمثمن
والمتعاقدين عن موانع الصحة كالربا، أو الاشتراط أو غيرهما: فلا يصح بيع
أضحية وهدي واجبين إلا بخير منهما، ولا يصح بيع موقوف بلا مسوغ، ولا بيع
مرهون بلا إذن مرتهن، ولا يصح بيع ماء وسترة لمصل عادم غيرهما، ولا بيع
مصحف، ولا بعد نداء جمعة.
أوجه الاتفاق والاختلاف في شروط البيع:
يظهر مما تقدم بيانه ما يلي:
1 ً - في العاقد: التمييز شرط متفق
عليه، وأما البلوغ فهو شرط مختلف فيه، فهو شرط نفاذ عند المالكية والحنفية،
وشرط انعقاد عند الشافعية والحنابلة.
وأما الاختيار أو الطواعية فهو شرط انعقاد عند الجمهور، وشرط نفاذ عند
الحنفية، فبيع المكره باطل عند الجمهور، فاسد أو موقوف غير نافذ عند
الحنفية، غير لازم في المعتمد عند المالكية.
(5/3366)
2 ً - في الصيغة: اتحاد المجلس دون فاصل
بين القبول والإيجاب، وتطابق الإيجاب والقبول، وسماع الصيغة والتنجير أو
عدم التعليق، وعدم التأقيت، كلها شروط متفق عليها، وإن ذكر بعضها بعض
الفقهاء دون غيرهم.
3 ً - في المعقود عليه: كون المعقود
عليه مالاً متقوماً يباح الانتفاع به شرعاً أو طاهراً غير نجس، موجوداً،
مقدور التسليم، معلوماً غير مجهول، كلها شروط متفق عليها؛ إلاأن الجهالة
تفسد البيع عند الحنفية، وتبطله عند الجمهور. أما كون المبيع مملوكاً
للبائع فهو شرط نفاذ عند الحنفية والمالكية، وشرط انعقاد عند الشافعية
والحنابلة، فبيع الفضولي وشراؤه موقوف عند الأولين، باطل عند الآخرين.
وأما شرط ألا يتعلق بالمبيع حق لغير البائع كبيع المرهون والمأجور، فهو شرط
نفاذ عند الحنفية والمالكية. وشرط انعقاد عند الحنابلة والشافعية، فبيع
المرهون والمأجور موقوف على الرأي الأول، باطل على الرأي الثاني. |