الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

المبحث الثالث - حكم البيع والكلام عن المبيع والثمن:
وفيه مطلبان:

المطلب الأول - حكم العقد:
حكم العقد: هو الغرض والغاية منه، ففي عقد البيع: يكون الحكم هو ملكية المبيع للمشتري وملكية الثمن للبائع، وفي عقد الإجارة: الحكم هو ملك منفعة العين المستأجرة للمستأجر، وملك المؤجر للأجرة (1).
وللحكم إطلاقات ثلاثة:
_________
(1) الأموال ونظرية العقد لأستاذنا محمد يوسف موسى: ص 372.

(5/3367)


1 - إما أن يراد به الحكم التكليفي: وهو إما الوجوب أو الندب أو الإباحة أو التحريم أو الكراهية، فيقال: حكم الصوم الوجوب، وحكم السرقة التحريم وهكذا.
2 - أو يراد به الوصف الشرعي للفعل من حيث الصحة واللزوم وعدم اللزوم مثلاً، فيقال: حكم العقد المستوفي لأركانه وشرائطه أنه صحيح لازم.
3 - أو يراد به الأثر المترتب على التصرف الشرعي، وذلك كالوصية إذا استوفت شرائطها وأركانها، ترتبت عليها آثار تتعلق بالموصى له، وآثار تتعلق بالموصى به (1).
والمقصود هنا المعنى الثالث، أي الحكم الشرعي الثابت للبيع، وأثره المترتب عليه. فأثر البيع: هو ثبوت الملك في المبيع للمشتري، وثبوت الملك في الثمن للبائع، إذ اكان البيع لازماً لا خيار فيه (2).
والمقصود بحقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها للحصول على حكمه: مثل تسليم المبيع وقبض الثمن والرد بالعيب، أو خيار الرؤية أو الشرط، وضمان رد الثمن إذا استحق المبيع مثلاً (3).

حقوق البيع التابعة للحكم: هي كل تابع للمبيع من الحقوق التي لا بد له منه ولا يقصد إلا لأجله كالطريق والشرب للأرض، وهي التي تسمى بالمرافق، والقاعدة فيها أو الأصل: أن كل ما كان من الدار متصلاً بها يدخل في بيعها تبعاً بلا
_________
(1) التلويح شرح التوضيح للتفتازاني: 2 ص 122، الأحوال الشخصية للأستاذ مصطفى السباعي: 2 ص 114.
(2) البدائع: 5 ص 233.
(3) الأموال ونظرية العقد، المرجع السابق.

(5/3368)


ذكر، وما لا فلا يدخل بلا ذكر إلا ما جرى العرف أن البائع لا يمنعه عن المشتري، فيدخل المفتاح استحساناً للعرف بعدم منعه بخلاف القفل ومفتاحه والسُّلَّم غير المتصل بالبناء، وأما الدرج (السلم) في بنايات الطبقات فتدخل عرفاً، وتفصيل ذلك ما يأتي (1):
أـ من اشترى بيتاً فوقه آخر لا يدخل فيه العلو؛ لأن الشيء لا يستتبع مثله.
ب ـ يدخل في المبيع ما هو من حقوقه أو مرافقه الخاصة التابعة له كطريق ومطبخ ومتوضأ ونحوها، لأنها توابع له. فيدخل في بيع الدار الطريق الداخلي فيها أو النافذ إلى سكة أو طريق عام، والكنيف (وهو المستراح أو بيت الماء) وبئر الماء، والأشجار التي في صحنها، والحديقة التابعة لها والبستان الذي هو أصغر منها، وإن لم يصرح بذلك. أما الحديقة أو البستان الخارج عن الدار وكان مثل الدار أو أكبر، فلا يدخل في البيع. ويدخل الباب الأصلي للدار، والباب الخارجي المجاور للشارع وهو المسمى بالباب الأعظم؛ لأنه من مرافقها.
ولا تدخل الظلة في بيع الدار لبنائها على الطريق، فتأخذ حكمه ولا يدخل الطريق والمسيل والشِّرب غير الخاص بالدار إلا بالتصريح بها؛ لأنها خارج الحدود، كأن يشتريها بكل حق هو لها أو بمرافقها أو بكل قليل وكثير. وذلك بخلاف الإجارة والرهن والوقف، تدخل فيها كل هذه المرافق بلا حاجة لذكرها لأنها تعقد للانتفاع بها لا غير. هذا رأي الحنفية القديم، والمعول عليه في ذلك هو العرف السائد في كل إقليم وعصر.
والإقرار بالدار والصلح عليها والوصية بها والهبة والنكاح والخلع على مال كالبيع في دخول الطريق ونحوه.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 197/ 4 - 199.

(5/3369)


المطلب الثاني ـ الثمن والمبيع:
الكلام عن الثمن والمبيع في موضعين:

أولاً ـ في تعريف المبيع والثمن.
ثانياً ـ في الأحكام المتعلقة بهما.
تعريف المبيع والثمن:
المبيع والثمن عند جمهور الحنفية من الأسماء المتباينة الواقعة على معانٍ مختلفة. فالمبيع في الغالب: ما يتعين بالتعيين (1)، والثمن في الغالب: ما لا يتعين بالتعيين.
وهذا الأصل العام الغالب يحتمل تغيره في الحالتين بعارض من العوارض، فيصير ما لا يحتمل التعيين مبيعاً كالمسلم فيه، وما يحتمل التعيين ثمناً كرأس مال السلم، إذا كان عيناً من الأعيان. وعلى هذا فاعتبار الثمن ديناً في الذمة هو الأغلب، وذلك عندما يكون الثمن نقوداً أو أموالاً أخرى مثلية ملتزمة بلا تعيين بالذات كالقمح والزيت ونحوهما من كل مكيل أو موزون أو ذَرْعي أو عددي متقارب.
ويمكن أيضاً أن يكون الثمن أعياناً قيمية كالحيوان والثياب ونحوهما، كما لو بيعت كمية من السكر إلى أجل بشيء من القيميات، فالسكر مبيع والعين القيمية ثمن، ويكون البيع سلماً، لأنه بيع مؤجل بمعجل.
_________
(1) قال القرافي: أجمع الناس على أن العروض (أي السلع التجارية) تتعين بالتعيين، وكذلك الحيوان والطعام لأن لهذه الأشياء من الخصوصيات والأوصاف ما تتعلق به الأغراض الصحيحة، وتميل إليه العقول السليمة والنفوس الخاصة، لما في تلك المعينات من الأهداف الخاصة بكل إنسان (الفروق: 4 ص 7).

(5/3370)


قال ابن الهمام وغيره: إن الثياب كما تثبت مبيعاً في الذمة بطريق السلم تثبت ديناً مؤجلاً في الذمة، على أنها ثمن، وحينئذ يشترط الأجل لا لأنها ثمن، بل لتصير ملحقة بالسلم في كونها ديناً في الذمة، فإذا قلنا: إذا باع كتاباً بثوب موصوف في الذمة إلى أجل جاز، ويكون بيعاً بالنسبة للكتاب، حتى لا يشترط قبضه في المجلس، بخلاف ما لو أسلم الدراهم في الثوب، وإنما ظهرت أحكام المسلم فيه في الثوب، حتى شرط فيه الأجل، وامتنع بيعه قبل قبضه لإلحاقه بالمسلم فيه (1).
وقال الشافعي وزفر: المبيع والثمن من الأسماء المترادفة الواقعة على مسمى واحد، وإنما يتميز أحدهما عن الآخر في الأحكام بحرف الباء.
ولكل من الفريقين دليله (2) والقضية اصطلاحية.

تعيين المبيع:
التعيين: هو التمييز عما سوى الشيء في الوجود الخارجي، ويتعين المبيع إذا كان معيناً في العقد، سواء أكان حاضراً في مجلس البيع، أم غائباً عنه. فإذا كان المبيع غير معين في العقد، فإنه لا يتعين إلا بالتسليم (3).

الفرق بين الثمن والقيمة والدين:
الثمن: لا يتحقق إلا في عقد، فهو ما يتراضى عليه المتبايعان، سواء أكان أكثر من القيمة أم أقل أم مساوياً.
_________
(1) رد المحتار لابن عابدين: 4 ص 26.
(2) انظر البدائع: 5 ص 233.
(3) انظر عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 34.

(5/3371)


وقيمة الشيء: هي ما يساويه بين الناس.
والثمن: هو ما تراضى عليه المتبايعان مقابلاً للمبيع.
أما الدين: فهو كل ما ثبت في الذمة من الأموال القابلة للثبوت فيها بأي سبب من أسباب الالتزام، كالإتلاف والغصب والكفالة والقرض والبيع، ونحوها (1).

التمييز بين الثمن والمبيع:
القاعدة المقررة في الأصل: أن كل ما أمكن أن يكون مبيعاً أمكن أن يكون ثمناً ولا عكس، وأن الثمن كما تقدم في تعريفه ربما لا يكون متعلقاً بالذمة، بل قد يتعين أحياناً، فيكون من الأعيان القيمية كالحيوان والثياب ونحوها، كما يتعين المبيع.
لهذا كان واجباً أن نميز بين الثمن والمبيع لما يترتب على التفرقة من أحكام، والتمييز يكون في أموال المعاوضات: وهي النقود والأعيان القيمية والمثليات (2).
1 - فالنقود عامة من ذهب أو فضة أو فلوس رائجة (3) إذا كانت عوضاً في المبيع، تعتبر هي الثمن. ومقابلها أي السلعة هو المبيع مطلقاً سواء دخل عليها حرف الباء. أو دخل على مقابلها، مثل: بعتك هذا بدينار، أو بعتك ديناراً بهذا.
_________
(1) عقد البيع، المرجع السابق: ص 56 ومابعدها، رد المحتار: 4 ص 53، 173.
(2) انظر البدائع: 5 ص 233 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 4 ص 23، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 59 ومابعدها.
(3) وهي القطع المعدنية المسكوكة المصطلح على ثمنيتها، ويلحق بها الأوراق النقدية المتعامل بها في العصر الحاضر.

(5/3372)


قرر جمهور الحنفية أن النقود المسكوكة من ذهب أو فضة أو فلوس معدنية لا تتعين في عقود المعاوضات بالتعيين في حق الاستحقاق لذات العملة النقدية، فلو قال: بعتك هذا الثوب بهذه الدراهم أو بهذه الدنانير، فللمشتري أن يمسك المشار إليه ويبدله بمثله، ولا يحق للبائع أن يطلب ذات المشار إليه؛ لأن الثمن النقدي محله في الذمة، وما يثبت في الذمة لا ينحصر ببعض أفراده الخارجية، فلا فائدة في استحقاق عينها في المعاوضات؛ لأن المثل يقوم مقامها في كل عوض، وإنما يتعين فقط بالنسبة لضمان الجنس والنوع والصفة والقدر، حتى إنه يجب على المشتري رد مثل المشار إليه في الأوصاف المذكورة، فلو كان الواجب عليه ألف درهم جيدة، فيجب عليه رد ألف درهم بتلك الصفة؛ لأن في تعيين الجنس والقدر والصفة فائدة، وعلى هذا فلو هلك المشار إليه لا يبطل العقد.
وقال الشافعية وزفر: تتعين النقود بالتعيين، ويستحق البائع على المشتري ذات الدراهم المشار إليها، كما في سائر الأعيان، لأنه قد يكون للشخص غرض فيها، والثمن المعين كالمبيع في تعلق الحق بالعين.
فلو هلك المشار إليه قبل القبض يبطل العقد، كما لو هلك سائر الأعيان.
فإن لم يكن الثمن من المسكوكات، فإنه بالاتفاق كسائر السلع يقبل التعيين.
2 - إن الأعيان القيمية أي (التي ليست من ذوات الأمثال) إذا قوبلت بالمثليات المعينة تعتبر هي المبيع، والمثلي هو الثمن مطلقاً، دون نظر إلى اقتران حرف الباء، لأن المثلي أليق بالثمنية من حيث قابليته للثبوت في الذمم كالنقود.
من أمثلة القيميات: الثياب والدور والعقارات والعدديات المتفاوتة (أي التي تفاوتت آحادها) كالغنم وسائر الدواب والبطيخ إذا بيع بالعدد لا بالوزن.

(5/3373)


وأما إذا قوبلت الأعيان القيمية بالأموال غير المعينة أي (الملتزمة في الذمم) فالعبرة في الثمنية لمقارنة حرف الباء، فما دخل عليه حرف الباء كان ثمناً، والآخر مبيعاً. فلو قال: بعتك هذا المتاع بقنطار من السكر، فالسكر: هو الثمن. ولو قال بعتك قنطاراً من السكر بهذا المتاع. كان السكر مبيعاً، والمتاع ثمناً، ويكون العقد بيع سلم.
3 - المثليات إذا كان في مقابلتها النقود فهي مبيعة، كما ذكرت أولاً، وإن كان في مقابلتها أمثالها مثل بيع قمح بزيت، فما كان منها معيناً يكون مبيعاً، وكل ما كان موصوفاً في الذمة يكون ثمناً.
وإن كان كل واحد منهما موصوفاً في الذمة فما صحبه حرف الباء يكون ثمناً، والآخر يكون مبيعاً.
ـ والمثليات: إما مكيلات وهي التي تباع بالكيل كالقمح والشعير، وكبعض السوائل التي تباع اليوم باللتر كالبترول والبنزين.
ـ أو موزونات: وهي التي تباع بالوزن كالسمن والزيت والسكر.
ـ أو ذَرْعيات: وهي التي تباع بالذراع كالقطع الكبرى من المنسوجات الصوفية أو القطنية أو الحريرية، وكالأراضي.
ـ أو عدديات متقاربة: وهي التي لا تتفاوت آحادها إلا تفاوتاً بسيطاً كالبيض والجوز، وكالمصنوعات المتماثلة من صنع المعامل كالكؤوس وصحون الخزف والبلّور ونحوها (1).
_________
(1) انظر عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 50، رد المحتار: 173/ 4، مغني المحتاج: 281/ 2.

(5/3374)


4 - إذا بيعت القيميات ببعضها يعتبر كل من العوضين مبيعاً من وجه، وثمناً من وجه آخر.

أحكام المبيع والثمن أو نتائج التمييز بينهما يترتب على التمييز بين المبيع والثمن أحكام أذكر ستة منها بإيجاز، وأفصل الكلام في ثلاثة أخرى.
1 - يشترط لانعقاد البيع أن يكون المبيع مالاً متقوماً ولا يشترط ذلك في الثمن.
2 - يشترط لنفاذ البيع أن يكون المبيع موجوداً في ملك البائع ولايشترط ذلك في الثمن.
3 - لا يجوز تأجيل الثمن في بيع السلم، ويجب تأجيل المبيع.
4 - مؤونة تسليم الثمن أي (كلفته) على المشتري، ومؤونة تسليم المبيع على البائع.
5 - البيع مع عدم تسمية الثمن فاسد، أما مع عدم تسمية المبيع نحو: بعتك بعشرة دنانير، فباطل غير منعقد.

6 - هلاك المبيع بعد التقابض يمنع إقالة البيع، ولا يمنع ذلك هلاك الثمن.
7 - هلاك المبيع قبل التسليم مبطل للبيع، ولا يبطله هلاك الثمن.
8 - لا يجوز تصرف المشتري في المبيع المنقول قبل قبضه، ويصح تصرف البائع في الثمن قبل قبضه.

(5/3375)


9 - على المشتري تسليم الثمن أولاً ليحق له استلام المبيع، ما لم يرض البائع (1) وأفصل الكلام في الثلاثة الأخيرة.

حكم هلاك المبيع، وهلاك الثمن وكساده هلاك المبيع:
المبيع إما أن يهلك كله أو بعضه قبل القبض أو بعده (2).

آ - إذا هلك المبيع كله قبل القبض:
1 - فإذا هلك بآفة سماوية أو بفعل المبيع نفسه، أو بفعل البائع، ينفسخ عقد البيع.
2 - إذا هلك بفعل المشتري، فلا ينفسخ البيع وعليه الثمن.
3 - إذا هلك بفعل أجنبي، لا ينفسخ البيع، ويكون المشتري بالخيار: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن، وطالب الأجنبي بالضمان.

ب ـ إذا هلك المبيع كله بعد القبض:
1 - إن كان بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو بفعل المبيع أو بفعل أجنبي فلا ينفسخ البيع، ويكون هلاكه على ضمان المشتري؛ لأن المبيع خرج عن ضمان البائع بقبض المشتري، فتقرر الثمن عليه، ويرجع بالضمان على الأجنبي حال كون الاعتداء منه.
_________
(1) انظرعقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 61.
(2) انظر التفصيل في البدائع: 238/ 5 ومابعدها، المبسوط: 9/ 13، حاشية ابن عابدين: 44/ 4، عقد البيع، المرجع السابق: ص 92.

(5/3376)


2 - إذا هلك بفعل البائع فينظر في حالتين:
أولاً ـ إذا كان المشتري قد قبضه بإذن البائع أو بدون إذنه، لكنه قد نقد الثمن، أو كان الثمن مؤجلاً، فيكون هلاكه من قبل البائع، كهلاكه من قبل الأجنبي، فعليه ضمانه.
ثانياً ـ أما إذا كان المشتري قد قبض المبيع بدون إذن البائع، والثمن حالّ غير منقود (أي غير معطى إلى البائع) فيتوجب فسخ البيع، ويكون البائع باعتدائه مسترداً للمبيع، وعليه ضمانه.
وقال المالكية (1): الضمان ينتقل إلى المشتري بنفس العقد في كل بيع إلا في خمسة مواضع:
الأول ـ بيع الغائب على الصفة، وكان المبيع غير عقار، فإن كان المبيع عقاراً، فضمانه على المشتري.
الثاني ـ ما بيع على الخيار.
الثالث ـ ما بيع من الثمار قبل كمال طيبها.
الرابع ـ ما فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عدّ.
الخامس ـ البيع الفاسد، فالضمان في هذه الخمسة من البائع حتى يقبضه المشتري.
وقال الشافعية (2): كل مبيع من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 247، الشرح الصغير: 45/ 3.
(2) مغني المحتاج: 65/ 2.

(5/3377)


وقال الحنابلة (1): إذا كان المبيع مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً فتلف قبل قبضه، فهو من مال البائع، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض، وإن تلف فهو من مال المشتري.

ج ـ إذا هلك بعض المبيع قبل القبض ينظر عند الحنفية:
1 - فإن كان بآفة سماوية ففيه تفصيل: إن كان النقصان نقصان قدر بأن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً، فهلك بعضه: ينفسخ العقد بقدر الهالك، وتسقط حصته من الثمن، ثم يكون المشتري بالخيار في الباقي لتفرق الصفقة عليه: إن شاء أخذه بحصته، وإن شاء فسخ البيع.
وإن كان النقصان نقصان وصف (وهو كل ما يدخل في البيع من غير تسمية كالشجر والبناء في الأرض والجودة في المكيل والموزون) فلا ينفسخ البيع أصلاً، ولا يسقط عن المشتري شيء من الثمن؛ لأن الأوصاف لا حصة لها من الثمن؛ ويكون المشتري بالخيار: إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء تركه لتعيب المبيع.
2 - وإن كان الهلاك بفعل المبيع نفسه كحيوان جرح نفسه، فلا ينفسخ البيع، ولا يسقط شيء من الثمن، والمشتري بالخيار: إن شاء أخذ الباقي بجميع الثمن، وإن شاء فسخ العقد.
3 - وإن كان الهلاك بفعل البائع فيبطل البيع بقدره، ويسقط عن المشتري حصة الهالك من الثمن، سواء أكان النقصان نقصان قدر، أم نقصان وصف؛ لأن الأوصاف لها حصة من الثمن عند ورود الجناية عليها، والمشتري بالخيار في الباقي بحصته من الثمن.
_________
(1) المغني: 110/ 4.

(5/3378)


4 - وإن كان الهلاك بفعل المشتري فلا يبطل البيع، ولا يسقط عنه شيء من الثمن، لأنه صار قابضاً لكل المبيع بإتلاف بعضه.

د ـ إذا هلك بعض المبيع بعد القبض:
1 - فإن كان الهلاك بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو المبيع نفسه أو بفعل أجنبي، فالهلاك على المشتري.
2 - وإن كان بفعل البائع ينظر:
إذا كان القبض بإذنه، أو كان الثمن منقوداً أو مؤجلاً، فحكمه كالأجنبي. وإن كان القبض بغير إذنه، والثمن حالّ غير منقود، ينفسخ البيع في قدر الشيء التالف، ويسقط عن المشتري حصته.

هلاك الثمن عند الحنفية:
إذا هلك الثمن في مجلس العقد قبل القبض:
1 - فإن كان عيناً مثلياً: لا ينفسخ العقد، لأنه يمكن تسليم مثله بخلاف المبيع لأنه عين، وللناس أغراض في الأعيان.
2 - وأما إذا هلك وليس له مثل في الحال: بأن كان شيئاً مما ينقطع عن أيدي الناس، وقد كان موجوداً وقت العقد، ثم انقطع قبل القبض، فقال أبو حنيفة: ينفسخ العقد.
وقال الصاحبان: لا ينفسخ (1). وسيأتي في بحث كساد الثمن الآتي بيان الأدلة.
_________
(1) تحفة الفقهاء، الطبعة القديمة: 54/ 2.

(5/3379)


كساد الثمن عند الحنفية: إذا اشترى شخص بفلوس رائجة، ثم كسدت قبل القبض بضرب فلوس جديدة، انفسخ العقد عند أبي حنيفة، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائماً، وقيمته أو مثله إن كان هالكاً؛ لأن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمناً، ولا بيع بلا ثمن، فينفسخ البيع ضرورة، فهو قد اعتبر الكساد كالهلاك.
وقال الصاحبان: لا ينفسخ البيع، ولكن يخير البائع: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ قيمة الفلوس؛ لأن الفلوس ثابتة في الذمة، وما يثبت في الذمة لايحتمل الهلاك، فلا يكون الكساد هلاكاً، بل يكون عيباً فيها، فيوجب الخيار للبائع، كما إذا كان الثمن رطباً، فانقطع قبل القبض، فهما اعتبرا الكساد كالعيب.
واتفقوا على أنه لو لم تكسد الفلوس، ولكنها رخصت قيمتها، أو غلت، لاينفسخ البيع؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية.
ثم اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما في وقت اعتبار قيمة الفلوس: فقال أبو يوسف: تعتبر قيمتها وقت العقد؛ لأن الثمن يجب عند العقد، فيضمن قيمته حينئذ.
وقال محمد: تعتبر قيمتها وقت الكساد، وهو آخر يوم ترك الناس التعامل بها؛ لأنه وقت العجز عن التسليم (1).

التصرف في المبيع وفي الثمن قبل القبض التصرف في المبيع قبل القبض:
قال الحنفية: لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض بلا خلاف، لأن
_________
(1) انظر البدائع: 242/ 5، حاشية ابن عابدين: 25/ 4.

(5/3380)


النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض (1) والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر لتعرضه إلى الانفساخ بهلاك المعقود عليه، فيبطل البيع الأول، وينفسخ الثاني، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر.
وأما العقار: فيجوز التصرف فيه قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحساناً استدلالاً بعمومات آيات البيع من غير تخصيص، ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد. ولا غرر في العقار، إذ لا يتوهم هلاك العقار، ويندر هلاكه في الغالب، فلا يكون في بيعه غرر.
وقال محمد وزفر والشافعي: لا يجوز بيع العقار قبل القبض لعموم النهي عن البيع قبل القبض، ولعدم وجود القدرة على التسليم، ولتحقق الغرر (2). وسيأتي تفصيل آراء الفقهاء في هذا الموضوع في البيع الفاسد.

التصرف في الثمن قبل القبض:
يجوز التصرف في الأثمان (3) قبل القبض، لأنها ديون، وكذلك يجوز التصرف في سائر الديون كالمهر والأجرة وضمان المتلفات وغيرها قبل القبض،
_________
(1) فيه أحاديث منها ما هو متفق عليه عند الشيخين والترمذي من حديث ابن عباس من النهي عن بيع ما لم يقبض، ومنها ما أخرجه النسائي عن حكيم بن حزام، قال: «قلت يا رسول الله، إني رجل أبتاع هذه البيوع، وأبيعها، فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: لا تبيعن شيئاً حتى تقبضه» رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه، ولفظه: «إذا ابتعت بيعاً، فلا تبعه حتى تقبضه» (انظر نصب الراية: 32/ 4، جامع الأصول: 380/ 1، تخريج أحاديث الإحياء: 61/ 2).
(2) فتح القدير: 5 ص 264، البدائع: 5 ص 180 ومابعدها، ص 234، رد المحتار لابن عابدين: 4 ص 169 ومابعدها.
(3) الثمن: ما يثبت في الذمة ديناً عند المقابلة وهو النقدان، والمثليات، كالمكيل والموزون إذا كانت معينة وقوبلت بالأعيان، أو غير معينة وصحبها حرف الباء (رد المحتار: 4 ص 173).

(5/3381)


بدليل ما روي عن سيدنا عمر أنه قال: «يا رسول الله: إنا نبيع الإبل بالبقيع، ونأخذ مكان الدراهم الدنانير، ومكان الدنانير الدراهم، فقال عليه السلام: لابأس إذا كان بسعر يومهما، وافترقتما وليس بينكما شيء» (1) فهذا يدل على جواز استبدال ثمن المبيع. وأما المراد من حديث (النهي عما لا يقبض) فهو بالنسبة للعين، لا بالنسبة للدين؛ لأن المبيع شيء يحتمل القبض، والدين لا يحتمل القبض حقيقة، لأنه مال حكمي في الذمة، فيكون قبضه بقبض بدله.
وقد استثنوا من جواز التصرف في الثمن قبل القبض عقدي الصرف والسلم. أما الصرف: فلأن كلاً من بدلي الصرف مبيع من وجه وثمن من وجه، فباعتبار كونه مبيعاً لا يجوز التصرف فيه، وقد رجحت جانب الحرمة احتياطاً.
وأما السلم: فالمسلم فيه لا يجوز التصرف فيه لأنه مبيع، ورأس المال (أي الثمن) ألحق بالمبيع العين في حرمة الاستبدال شرعاً (2).
هذا .. ويلاحظ أن التصرف في الأثمان والديون جائز بالبيع والهبة والإجارة والوصية أي بعوض أو بغير عوض، سواء مما لا يتعين كالنقود، أو مما يتعين كالمكيل والموزون، وذلك ممن عليه الدين كأن يشتري البائع من المشتري شيئاً بالثمن الذي له عليه، أو يستأجر بالثمن داراً للمشتري، أو أن يهبه الثمن.
ولا يجوز تمليك الدين من غير من عليه الدين كأن يشتري إنسان فرس زيد مثلاً بمئة ليرة على عمرو، لأنه لا يقدر على تسليمه إلا في ثلاث صور (3).
_________
(1) أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر (انظر جامع الأصول: 1 ص 469، نصب الراية: 4 ص 33).
(2) البدائع: 5 ص 234، فتح القدير: 5 ص 269 ومابعدها، رد المحتار: 4 ص 173 ومابعدها.
(3) رد المحتار: 4 ص 173، مغني المحتاج: 2 ص 71.

(5/3382)


الأولى ـ إذا سلطه على قبضه، فيكون وكيلاً قابضاً للموكل ثم لنفسه.
الثانية ـ الحوالة.
الثالثة ـ الوصية.

تسليم (1) المبيع والثمن: إن تسليم المبيع إلى المشتري هو من التزامات البائع الناشئة من عقد البيع، كما أن تسليم الثمن إلى البائع هو من التزامات المشتري الناشئة من البيع أيضاً؛ لأن تسليم البدلين واجب على العاقدين، لتحقق الملك لكل منهما في البدلين.
فمن الذي يجب عليه التسليم أولاً، وهل للبائع حق حبس المبيع حتى يستوفي جميع الثمن، وكيف يتم التسليم أو القبض؟

أما من يجب عليه التسليم أولا ً: فيختلف بحسب نوع البدلين:
فإذا كان بيع عين بعين، فإنه يجب على العاقدين التسليم معاً، تحقيقاً للمساواة في المعاوضة المقتضية للمساواة عادة المطلوبة بين العاقدين، إذ ليس أحدهما بالتقديم أولى من الآخر.
وكذلك إن تبايعا ديناً بدين، كما في عقد الصرف، لما ذكرت.
وأما إن كان بيع عين بدين (2) فيراعى فيه الترتيب عند الحنفية: فيجب على
_________
(1) التسليم: هو التخلية أي أن يخلي البائع بين المشتري والمبيع بحيث يستطيع المشتري أخذه والتصرف فيه.
(2) الدين: ما يصح أن ثبت في الذمة، سواء أكان نقداً أو غيره. والعين: ما لا يصح أن يثبت ديناً في الذمة (رد المحتار لابن عابدين: 4 ص 26).

(5/3383)


المشتري تسليم الثمن (أي الدين) أولاً إذا طالبه البائع حتى يتعين، ولقوله عليه السلام: «الدين مقضي» (1) فلو تأخر تسليم الثمن عن تسليم المبيع لم يكن هذا الدين مقضياً. ثم يجب على البائع تسليم المبيع، إذا طالبه المشتري، حتى يتحقق التساوي بينهما. واستثنوا من ذلك أمرين أولهما ـ المسلم فيه، لأنه دين مؤجل، والثاني ـ الثمن المؤجل فلو كان الثمن مؤجلاً، يجب تسليم المبيع للحال، لأن البائع أسقط حق نفسه في التأجيل (2).
وقال المالكية (3) كالحنفية: يجب على المشتري تسليم الثمن، وعلى البائع تسليم المبيع (المثمون)، فإن قال أحدهما: لا أسلم ما بيدي حتى أقبض ما عاوضت عليه، أجبر المشتري على تسليم الثمن، ثم أخذ المبيع من البائع. وقال مالك: للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن. ودليل المالكية والحنفية: أن للبائع حبس المبيع على تسليم الثمن، ومن استحق ذلك لم يكن عليه التسليم قبل الاستيفاء كالمرتهن.
وقال الشافعية والحنابلة (4): إن اختلف في التسليم، وكان الثمن في الذمة، فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض ثمنه، وقال المشتري في الثمن مثله، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن؛ لأن حق المشتري في
_________
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل عن ابن عباس ونصه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الزعيم غارم والدين مقضي، والعارية مؤادة، والمنحة مردودة» وأعله بإسماعيل بن زياد السكوني، وقال: إنه منكر الحديث، لا يتابع على عامة ما يرويه (انظر نصب الراية: 4 ص 58) وأخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وفيه إسماعيل بن عياش (انظر التلخيص الحبير: ص 250).
(2) المبسوط للسرخسي: 13 ص 192، البدائع: 5 ص 244، فتح القدير: 5 ص 109، رد المحتار: 4 ص 43 ومابعدها.
(3) القوانين الفقهية: ص 247.
(4) مغني المحتاج: 74/ 2، المغني: 198/ 4.

(5/3384)


عين المبيع، وحق البائع في الذمة، فيقدم ما يتعلق بالعين، فمن سلم أجبر صاحبه على التسليم؛ لأن كلاً منهما ثبت له إيفاء واستيفاء، ولا سبيل إلى تكليف الإيفاء. لكن قيد الشافعية هذا الحكم بما إذا لم يخف البائع فوت الثمن، وتنازع البائع والمشتري في مجرد الابتداء، فإن خاف البائع فوت الثمن فله حق حبس المبيع حتى يقبض الثمن. وكذا للمشتري حق حبس الثمن إن خاف فوت المبيع.

حق حبس المبيع أو احتباسه:
يترتب على ما سبق من التزام المشتري بدفع الثمن أولاً: أنه يثبت للبائع حق حبس المبيع عن المشتري إلى أن يستوفي ما وجب تعجيله، سواء أكان كل الثمن أم بعضه (1).
وشرط ثبوت حق الحبس شيئان:
1 - أن يكون أحد البدلين عيناً والآخر ديناً، مثل بيع سلعة بدراهم، أو دنانير، فإن كانا عينين أو دينين فلا يثبت حق الحبس، بل يسلمان معاً.
2 - أن يكون الثمن حالاًّ، فإن كان مؤجلاً، فلا يثبت حق الحبس، لأنه سقط بالتأجيل.
وعلى هذا، فلو أجل الثمن إلا درهماً، كان للبائع حبس كل المبيع، لأن حق الحبس مما لا يتجزأ، وكذا لو استوفى جميع الثمن إلا درهماً، أو أبرأ المشتري عن جميع الثمن إلا درهماً.
وقال الإمام مالك (2): للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن.
_________
(1) انظر المبسوط، المرجع السابق، البدائع: 5 ص 249، رد المحتار: 4 ص44، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 77.
(2) القوانين الفقهية: ص 247.

(5/3385)


وقال الحنابلة (1): ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن؛ لأن التسليم من مقتضيات العقد، فإن اختلف العاقدان في التسليم، فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع، والثمن في الذمة، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن.
وقال الشافعية (2): للبائع حبس المبيع حتى يقبض الثمن إن خاف فوته، وكذا للمشتري حبس الثمن إن خاف فوت المبيع.

ما يسقط حق الحبس وما لا يسقطه:
لو قدم المشتري رهناً أو كفيلاً بالثمن لا يسقط حق الحبس، لأن الرهن والكفالة لا يسقطان الثمن عن ذمة المشتري، ولا حق المطالبة به، فيبقى حق الحبس لاستيفاء الثمن، وكل ما في الأمر أن الرهن والكفالة وثيقة بالثمن.
وأما الحوالة بالثمن فتسقط حق الحبس عند أبي يوسف سواء أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن وقبل، أم أحال المشتري البائع على رجل؛ لأن البائع حينئذ في حكم المستوفي، لأن حق الحبس مرتبط ببقاء الدين في ذمة المشتري، وذمته برئت من دين المحيل بالحوالة فيبطل حق الحبس، ولذا ينقطع حقه في مطالبة المشتري بالثمن، وينحصر حق المطالبة بالشخص المحال عليه.
وقال محمد: إن كانت الحوالة من المشتري لا تبطل حق الحبس، وللبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفي من المحال عليه. وإن كانت من البائع: فإن كانت الحوالة مطلقة لا تبطل حق الحبس أيضاً، وإن كانت مقيدة بأن أحال غريماً له على المشتري
_________
(1) المغني: 198/ 4.
(2) مغني المحتاج: 75/ 2.

(5/3386)


ليقبض الدين الذي له عليه، تبطل الحوالة حق الحبس، دليله: أن حق البائع بمطالبة المشتري بأداء الثمن لم يبطل بحوالة المشتري، أو بحوالته المطلقة، فلم يبطل حق الحبس، وأما في الحوالة المقيدة فيبطل حق المطالبة من البائع للمشتري بهذه الحوالة، فيسقط حق الحبس (1).
قال الكاساني: «والصحيح اعتبار قول محمد، لأن حق الحبس في الشرع يدور مع حق المطالبة بالثمن، لا مع قيام الثمن في ذاته» (2).
والخلاصة: إن حق الحبس يسقط بحوالة البائع على المشتري بالثمن اتفاقاً، وكذا بحوالة المشتري البائع به على رجل عند أبي يوسف. وعند محمد: فيه روايتان، أرجحهما ما ذكر.
ولو أعار البائع المبيع للمشتري أو أودعه عنده، سقط حق الحبس، حتى لا يملك استرداده في ظاهر الرواية؛ لأن الإعارة والإيداع أمانة في يد المشتري، وهو لا يصلح نائباً عن البائع في وضع يده لأنه أصل في ملك الشيء، فكان أصلاً في وضع اليد، فإذا ثبتت يد المشتري على المبيع، كانت يده يد ملك، ويد الملك لازمة، فلا يملك أحد إبطالها بالاسترداد (3).
ولو أودع المشتري المبيع عند البائع أو أعاره منه أو آجره، لم يسقط حق الحبس؛ لأن هذه التصرفات لم تصح من المشتري؛ لأن يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع، فلا يصح أن يصير نائباً عن غيره (4).
_________
(1) المبسوط: 13 ص 195، البدائع: 5 ص 250 ومابعدها، رد المحتار: 4 ص 44.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 251.
(3) البدائع: 5 ص 250، حاشية ابن عابدين: 4 ص 44.
(4) البدائع، المرجع السابق نفسه: 5 ص 246.

(5/3387)


ولو جنى رجل أجنبي على المبيع، فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان سقط حق الحبس عند أبي يوسف (1). وسيأتي التفصيل في بحث القبض الآتي مباشرة.
ولو قبض المشتري المبيع بإذن البائع، سقط حق الحبس، حتى لا يملك البائع الاسترداد، لأنه أبطل حقه بالإذن بالقبض.
ولو قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع بعد وفاء الثمن، سقط حق الحبس، فليس له استرداده، لأنه استوفى حقه بإيفاء الثمن، فيكون قبضاً بحق.
أما لو قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع قبل وفاء الثمن، فلا يسقط حق الحبس، وللبائع استرداده؛ لأن له حق الحبس، حتى يستوفي الثمن، وحق الإنسان لا يجوز إبطاله عليه من غير رضاه.
فإن كان المشتري تصرف في المبيع في الحالة الأخيرة نظر في ذلك (2):
إن كان تصرفاً يحتمل الفسخ كالبيع والهبة والإجارة والرهن ونحوها، فسخه البائع، واسترده، لأنه تعلق به حقه.
وإن كان تصرفاً لا يحتمل الفسخ كالإعتاق والتدبير (أي التحرر بعد موت السيد) والاستيلاد (أي جعل الأمَةَ مستولدة أي حاملاً، فتصبح حرة بعد موت سيدها) فإنه لا يسترده، لأنه لا فائدة في بقاء حق الحبس، لأن حبس الحر، أو الذي سيؤول إلى الحرية لا يجوز.

معنى التسليم أو القبض وكيفية تحققه:
التسليم أو القبض معناه عند الحنفية: هو التخلية أو التخلي، وهو أن يخلي
_________
(1) البدائع: 5 ص 246.
(2) البدائع: 251/ 5.

(5/3388)


البائع بين المبيع وبين المشتري، برفع الحائل بينهما، على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلِّماً للمبيع، والمشتري قابضاً له (1).
وكذلك تسليم الثمن من المشتري إلى البائع:

والقبض يتم بطرق:
1 - التخلية: وهي أن يتمكن المشتري من المبيع بلا مانع (أي أن يكون مفرزا) ولا حائل (أي في حضرة البائع) مع الإذن له بالقبض، فلو اشترى إنسان حنطة في بيت، ودفع البائع المفتاح إليه، وقال: خليت بينك وبينها (أي أذنت) فهو قبض (2). وإن دفع المفتاح إلىه، ولم يقل شيئاً لا يكون قبضاً، وتسليم الدار أو الأرض يتم بأن يقف المشتري في داخلها أو قريباً منها بحيث يرى جانب الأرض أو يقدر على إغلاق باب الدار فوراً، فإن كان بعيداً عنها بغير هذه الحالة، لم يكن قبضاً (3). وعلى هذا فإن القبض عند الحنفية يكون بالتخلية، سواء أكان المبيع عقاراً أم منقولاً إلا المكيل والموزون فإن قبضه يكون باستيفاء قدره أي بكيله أو وزنه.
وقال المالكية والشافعية: قبض العقار كالأرض والبناء ونحوهما يكون بالتخلية بين المبيع وبين المشتري وتمكينه من التصرف فيه بتسليم المفاتيح إن وجدت. وقبض المنقول كالأمتعة والأنعام والدواب بحسب العرف الجاري بين الناس (4). والعرف يقضي إما بتناول الشيء باليد كالثوب والكتاب، وإما بالنقل من مكان لآخر كالسيارة والدابة.
_________
(1) البدائع: 5 ص 244.
(2) من قواعد الحنفية: «التخلية بين المشتري وبين المبيع قبض» فيعد ذلك قبضاً، وإن لم يتم القبض حقيقة، فإذا هلك المبيع يهلك على المشتري (راجع الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 63).
(3) البدائع، المرجع السابق، رد المحتار: 4 ص 44، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 86.
(4) الشرح الكبير للدردير: 3 ص 145، المجموع: 9 ص 301 - 309، المهذب: 1ص263.

(5/3389)


وقال الحنابلة: قبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلاً أو موزوناً فقبضه بكيله ووزنه، أي أنه يجب الرجوع في القبض إلى العرف (1).

2 - الإتلاف: لو أتلف المشتري المبيع في يد البائع صار قابضاً للمبيع، وتقرر عليه الثمن؛ لأن التخلية تمكين من التصرف في المبيع والإتلاف تصرف فيه حقيقة.
والتعييب مثل الإتلاف: وهو أن يحدث المشتري في المبيع عيباً، كأن يقطع يده أو يشج رأسه، أو أن ينقص منه شيئاً.
وكذا لو أمر المشتري البائع بالإتلاف ففعل، أو أمره بطحن الحنطة فطحن (2)، لأن فعل البائع بأمر المشتري بمنزلة فعل المشتري بنفسه.

3 - إيداع المبيع عند المشتري أو إعارته منه: لو أودع البائع المبيع عند المشتري أو أعاره منه، يصير المشتري بذلك قابضاً؛ لأن الإيداع والإعارة للمالك لايصح، كما ذكر قريباً.
وكذا لو أودع المشتري المبيع عند أجنبي أو أعاره، وطلب من البائع تسليمه إليه، يصير قابضاً؛ لأن الإعارة والإيداع عند آخر عمل صحيح، فقد أثبت يد النيابة لغيره، ويد أمينه كيده، فصار قابضاً.
أما لو أودع المشتري من البائع أو أعاره له أو آجره، لم يكن ذلك قبضاً؛ لأن هذه التصرفات لم تصح من المشتري؛ لأن يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع، فلا يتصور إثبات يد النيابة له (3).
_________
(1) المغني: 4 ص 111 ومابعدها.
(2) البدائع، المرجع السابق، رد المحتار، المرجع السابق.
(3) البدائع: 5 ص 246.

(5/3390)


4 - اتباع المشتري الجانيَ بالجناية على المبيع: لو جنى أجنبي على المبيع فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان، كان اختياره بمنزلة القبض عند أبي يوسف، حتى لو هلك المبيع يكون الهلاك على المشتري، ويتقرر عليه الثمن، ولا يبطل البيع.
وقال محمد: لا يصير قابضاً ويبقى البيع في ضمان البائع، ويؤمر بالتسليم إليه، ويكون الهلاك على البائع، ويبطل البيع ويسقط الثمن عن المشتري.
دليل أبي يوسف: أن جناية الأجنبي حصلت بإذن المشتري وأمره ضمناً، فيصير قابضاً، كما لو ارتكب الجناية بنفسه. وبيانه: أن اختيار المشتري اتباع الجاني بالضمان تمليك من الشيء المضمون المجني عليه؛ لأن المضمونات تملك باختيار الضمان بأثر رجعي يستند إلى وقت حدوث سبب الضمان، فيصير كأن الجناية حصلت بأمر المشتري.
ودليل محمد: أن الضمان متعلق بالعين لأن قيمة العين قائمة مقامها، والعين لو كانت قائمة فهلكت قبل القبض، كان الهلاك على البائع، فكذا القيمة (1).

5 - القبض السابق: كل ماسبق فيما إذا كان المبيع في يد البائع، فإن كان في يد المشتري بقبض سابق، ثم باعه المالك له، فهل يعتبر قابضاً بمجرد الشراء أو لا بد من تجديد القبض ليتم التسليم؟ فيه تفصيل:
قسم الفقهاء القبض من حيث قوة أثره وضعفه إلى قسمين: قبض الضمان وقبض الأمانة.
قبض الضمان: هو ما كان فيه القابض مسؤولاً عن المقبوض تجاه الغير،
_________
(1) البدائع، المرجع السابق.

(5/3391)


فيضمنه، إذا هلك عنده، ولو بآفة سماوية، كالمغصوب في يد الغاصب، والمبيع في يد المشتري.
وقبض الأمانة: هو ماكان فيه القابض غير مسؤول عن المقبوض إلا بالتعدي، أو التقصير في الحفظ كالوديعة أو العارية أو المأجور أو مال الشركة في يد الوديع، أو المستعير، أو المستأجر، أو الشريك.
وجعلوا قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة بسبب الضمان المترتب.
والمبدأ العام: أن القبض السابق ينوب عن القبض اللازم في البيع إذا كانا متجانسين في الضمان وعدمه، أو كان السابق أقوى بخلاف ما إذا كان أضعف. فقبض الضمان ينوب عن قبض الأمانة وعن قبض الضمان، وأما قبض الأمانة فلا ينوب إلا عن قبض الأمانة فقط، ولا ينوب عن قبض
الضمان؛ لأن الأدنى لا يغني عن الأعلى (1).
وعلى هذا الأساس إذا كان الشيء المبيع موجوداً في يد المشتري قبل البيع: إما أن تكون يده يد ضمان أو يد أمانة.

أـ فإن كانت يد المشتري يد ضمان:
1 - فإما أن تكون يد ضمان بنفسه: كيد الغاصب ويد القابض على سوم الشراء، فيصير المشتري قابضاً للمبيع بالعقد نفسه، ولا يحتاج إلى تجديد القبض، ويبرأ البائع من التزام التسليم، سواء أكان المبيع حاضراً في مجلس العقد، أم غائباً؛ لأن المغصوب مضمون بنفسه، والمبيع بعد القبض مضمون بنفسه، فتجانس القبضان، فناب أحدهما عن الآخر.
_________
(1) البدائع: 248/ 5، فتح القدير: 5 ص 200، حاشية ابن عابدين: 4 ص 535، مجمع الضمانات للبغدادي: ص 217، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 87 ومابعدها.

(5/3392)


أو تكون يد ضمان لغيره، كيد الرهن، بأن باع الراهن المرهون من المرتهن، فإنه لا يصير قابضاً، إلا أن يكون الرهن حاضراً في مجلس العقد، أو يذهب إلى حيث يوجد الرهن، ويتمكن من قبضه؛ لأن المرهون ليس بمضمون بنفسه، بل بغيره، وهو الدين، والمبيع مضمون بنفسه، فلم يتجانس القبضان ولم يتشابها، ولأن الرهن أمانة في الحقيقة، فكان قبضه قبض أمانة في عينه، وليس مضموناً بنفسه، وإنما يسقط الدين بهلاكه، لا لكونه مضموناً، وإنما لمعنى آخر، وهو الاستيثاق بالدين، فيهلك الرهن من مال المرتهن ويسقط الدين بقدر الرهن؛ لأن الرهن وثيقة بالدين.
وإذا كان قبض الرهن قبض أمانة، فقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الضمان، كقبض العارية والوديعة.

ب ـ وإن كانت يد المشتري يد أمانة، كيد المستعير أو الوديع، فلا يصير قابضاً، إلا أن يكون المبيع بحضرته، أو يذهب إليه، فيتمكن من قبضه بالتخلي؛ لأن يد الأمانة ليست من جنس يد الضمان، فلا يتناوبان؛ لأن قبض الأمانة أضعف من قبض الضمان (1).