الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

المبحث الرابع ـ البيع الباطل والبيع الفاسد تمهيد:
العقد من حيث حكمه أو وصفه الذي يعطيه الشارع له، بناء على مقدار استيفائه لأركانه وشروطه، ينقسم عند جمهور الفقهاء إلى صحيح وغير صحيح.
_________
(1) البدائع: 5 ص 248، فتح القدير: 5 ص 200.

(5/3393)


الصحيح: هو ما استوفى شروطه وأركانه. وغير الصحيح: هو ما اختل فيه ركن من أركانه أوشرط من شروطه، ولا يترتب عليه أي أثر، ويشمل الباطل والفاسد، وهما بمعنى واحد.
وأما الحنفية: فيقسمون العقد إلى صحيح وفاسد وباطل، فغير الصحيح عندهم، إما فاسد أو باطل.
ومنشأ الخلاف: هو في مفهوم نهي الشرع عن عقد ما .. هل النهي يقتضي الفساد أي عدم الاعتبار والوقوع في الإثم معاً، أو يقتصر على إيجاب الإثم وحده مع اعتباره أحياناً، ثم هل يستوي النهي عن ركن من أركان العقد مع النهي عن وصف عارض للعقد؟
قال جمهور الفقهاء: إن نهي الشارع عن عقد ما: يعني عدم اعتباره أصلاً، وإثم من يقدم عليه، ولا فرق بين النهي عن أركان العقد أو النهي لوصف عارض للعقد، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، ومن أدخل في ديننا ما ليس فيه فهو رد» (1).
ومتى خالف العمل أمر الشارع وطلبه، وصف بالفساد أو البطلان، سواء أكانت المخالفة راجعة إلى حقيقة العمل أم وصفه، وسواء في ذلك العبادة والمعاملة.
وقال الحنفية: قد يكون نهي الشارع عن عقد: معناه إثم من يرتكبه فقط، لا إبطاله. ويفرق بين النهي عن أصل العقد أو أركانه، فيوجب بطلان العقد، وبين
_________
(1) رواه مسلم عن عائشة، وفي رواية للبخاري ومسلم وأبي داود «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (راجع جامع الأصول: 1 ص 197).

(5/3394)


النهي عن أمر آخر كوصف من أوصاف العقد، فيوجب فساد العقد فقط (1)، لأن المعاملات ينظر فيها إلى جانب مصالح العباد، فإذا كانت مخالفة العمل راجعة إلى حقيقته كبيع المعدوم، لم تتحقق به مصلحة أصلاً، فكان باطلاً.
وأما إذا تحققت بالعمل مصلحة على وجه ما، ترتب أثر العمل عليه، ويتدارك النقص بإزالة سببه، وهذا يتحقق فيما لو كانت مخالفة العمل راجعة إلى وصفه مع سلامة حقيقته، بوجود ركنه وطرفيه ومحله، فيسمى فاسداً.
أما العبادات فإن البطلان والفساد فيها مترادفان، فمخالفة أمر الشارع فيها يجعلها موصوفة بالفساد والبطلان، سواء أكان الخلل في ناحية جوهرية أم في ناحية فرعية متممة؛ لأن العبادة ينظر فيها إلى تحقيق الامتثال والطاعة التامة، ولا يحصل ذلك إلا بزوال كل مخالفة فيها.

وعلى هذا الأساس نعرف أن أنواع البيوع عند الحنفية بحسب وصف الشارع لها ثلاثة: صحيح، وباطل، وفاسد.
البيع الصحيح: هو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه (2) ولم يتعلق به حق الغير، ولا خيار فيه، وحكمه: أنه يثبت أثره في الحال. وأثر البيع الصحيح هو
_________
(1) انظر الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 436 ومابعدها. والذي يترجح أن أثر النهي المتوجه إلى الوصف كأثر النهي المتوجه إلى ما تتوقف عليه حقيقة الشيء، سواء في اعتبار الشرع، وأن البيع الفاسد والباطل سيان لا يترتب عليه حكم من الأحكام (راجع أصول البيوع الممنوعة للأستاذ عبد السميع إمام، وهي رسالة دكتوراه من الأزهر: ص 147).
(2) أصل العقد أي ركنه ومحله، والركن: الإيجاب والقبول، والمحل: محل العقد: ومعنى كون الركن مشروعاً: ألا يعرض له خلل كأن يصدر الإيجاب والقبول من مجنون أو صبي لا يعقل. ومعنى كون المحل مشروعاً: أن يكون مالاً متقوماً. وأما وصف العقد: فهو ما كان خارجاً عن الركن والمحل كالشرط المخالف لمقتضى العقد، أو كون المبيع غير مقدور التسليم، وكالثمنية فإنها صفة تابعة للعقد.

(5/3395)


تبادل الملكية في العوضين، فيثبت ملك المبيع للمشتري، وملك الثمن للبائع فور انتهاء الإيجاب والقبول إذا لم يكن في البيع خيار.

والبيع الباطل: هو ما اختل ركنه أو محله، أو هو ما لا يكون مشروعاً بأصله ولا بوصفه، أي أن يكون العاقد ليس أهلاً للعقد، أو أن يكون محل العقد ليس قابلاً له. وحكمه: أنه لا يعتبر منعقداً فعلاً، وإن وجدت صورته في الخارج فلا يفيد الملك أصلاً. مثل عقد الطفل أو المجنون أو بيع ما ليس بمال كالميتة، أو ما ليس بمتقوم كالخمر والخنزير.
وإذا كان البيع الباطل لا يفيد الملك بالقبض، فلو هلك المبيع في يد المشتري فيطبق عليه حكم هلاك الأمانات؛ لأن العقد غير معتبر فبقي القبض بإذن المالك. قيل: وهو قول أبي حنيفة. وعند البعض: يكون مضموناً لأنه لا يكون أدنى حالاً من المقبوض على سوم الشراء. قيل: وهو قول الصاحبين. وأما الثمن المقبوض ببيع باطل فالصحيح أنه مضمون كالمقبوض ببيع فاسد.

والبيع الفاسد: هو ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه، أي أن يصدر من أهل له في محل قابل للبيع، ولكن عرض له أمر أو وصف غير مشروع. مثل بيع المجهول جهالة تؤدي للنزاع كبيع دار من الدور أو سيارة من السيارات المملوكة لشخص، دون تعيين، وكإبرام صفقتين في صفقة كبيع دار على أن يبيعه سيارته مثلاً: وسأذكر أمثلة أخرى بالتفصيل. وحكمه: أنه يثبت فيه الملك بالقبض بإذن المالك صراحة أو دلالة، كأن يقبضه في مجلس العقد أمام البائع دون أن يعترض عليه، خلافاً لجمهور الفقهاء الذين يقررون أنه لا يفيد الملك أصلاً كالبيع الباطل (1).
_________
(1) انظر فتح القدير مع العناية: 5 ص 185 وما بعدها، البدائع: 5 ص 299، رد المحتار لابن عابدين: 4 ص 104، مجمع الضمانات: ص 215 وما بعدها، الأموال ونظرية العقد للدكتور يوسف موسى: ص 440 وما بعدها.

(5/3396)


الضابط الذي يميز الفاسد عن الباطل إذا كان الفساد يرجع للمبيع فالبيع باطل، كما إذا باع خمراً أو خنزيراً أو ميتة أو دماً أو صيد الحرم أو الإحرام، فلا يفيد الملك أصلاً وإن قبض؛ لأن الخلل واقع على المبيع ذاته، وهو أن الخمر والخنزير لا يثبت الملك فيهما للمسلم بالبيع، والبيع لا ينعقد بلا مبيع، والميتة والدم ليسا بمال متقوم، وقد أبطل الشارع تملك صيد الحرم والإحرام.
وإن كان الفساد يرجع للثمن: فإن كان الثمن مالاً في الجملة أي في بعض الأديان أو مرغوباً عند بعض الناس، كالخمر والخنزير وصيد الحرم والإحرام فإن البيع يكون فاسداً أي أنه ينعقد بقيمة المبيع، ويفيد الملك في المبيع بالقبض؛ لأن ذكر الثمن المرغوب دليل على أن غرضهما البيع فينعقد بيعاً بقيمة المبيع (1).
وأما إن كان الثمن ميتة أو دماً، فاختلف الحنفية: فقال عامتهم: يبطل، وقال بعضهم: يفسد، والصحيح أنه يبطل؛ لأن المسمى ثمناً ليس بمال أصلاً (2).

وبعد هذا التمهيد:
أذكر أمثلة من أنواع البيع الباطل ولو في رأي بعض الفقهاء، ثم أردفها بأمثلة أخرى من أنواع البيع الفاسد، ثم أعقبها بتفصيل حكم البيع الفاسد وما يترتب عليه.
_________
(1) الفرق بين الثمن والقيمة: أن الثمن ما تراضى عليه المتعاقدان، سواء زاد على القيمة أو نقص عنها. والقيمة: ما قوم به الشيء بمنزلة المعيار من غير زيادة ولا نقص (انظر رد المحتار: 4 ص 53).
(2) المبسوط: 13 ص 22 ومابعدها، فتح القدير والعناية: 5 ص 186، 227، البدائع: 5 ص 299، 305.

(5/3397)


وقد ميزت بين أمثلة نوعي البيع المذكورين منعاً للإبهام أو الإشكال، على عكس ما يوجد في أغلب كتب الحنفية التي تذكر باب البيع الفاسد. وتريد به الأعم من كونه فاسداً أو باطلاً وهو المنهي عنه الممنوع شرعاً (1) بل إنهم قد يطلقون لفظ الفاسد ويريدون به الباطل، ويفهم المقصود إما بالقرائن أحياناً أو بما يشعر بأن البيع باطل كقولهم: لا ينقلب العقد صحيحاً، وفي البيع الفاسد بالعكس: يعود العقد صحيحاً.

المطلب الأول ـ أنواع البيع الباطل أهم أنواع البيع الباطل ما يأتي:
1 - بيع المعدوم:
اتفق أئمة المذاهب على أنه لا ينعقد بيع المعدوم وما له خطر العدم، كبيع نتاج النتاج بأن قال: بعت ولد ولد هذه الناقة، وبيع الحمل الموجود لأنه على خطر الوجود، وبيع الثمر والزرع قبل ظهوره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع حبل الحبلة» (2) أي نتاج النتاج. ونهى أيضاً عن بيع المضامين والملاقيح (3) (والمضامين: ما
_________
(1) انظر فتح القدير: 5 ص 185، رد المحتار: 4 ص 104.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد والموطأ وأبو داود والنسائي والترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع حبل الحبلة» (انظر جامع الأصول: 1 ص 441، نيل الأوطار: 5 ص 147).
(3) فيه عدة روايات: منها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة: قال: والمضامين: ما في أصلا ب الإبل، والملاقيح، ما في بطونها، وحبل الحبلة: ولد ولد هذه الناقة، وقيل: إن المبيع هو ولد الناقة (انظر نصب الراية: 4 ص 10) والخلاصة أن المضامين: ما في ظهر الفحل بمعنى أن يحمل البائع الفحل على ناقته، فما أنتجته كان للمشتري، أو بيع ما يضربه الفحل مدة عام أو عامين. والملاقيح: بيع الجنين في بطن أمه، أو ما في البطن من المني قبل أن يطلق عليه اسم الحمل، وهذه البيوع كانت متعارفة في الجاهلية.

(5/3398)


في أصلاب الذكور، والملاقيح: ما في بطون الإناث) ونهى كذلك عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، كما سيأتي.

ومن الملحق بالمعدوم: بيع لؤلؤ في صدف، وبيع اللبن في الضرع وبيع الصوف على ظهر الغنم، ومثله بيع الكتاب قبل طبعه، فإن بيع ذلك باطل عند الشافعية والحنابلة؛ لأن محل العقد غير موجود بالتأكيد، ولما روي عن ابن عباس رضي الله صلّى الله عليه وسلم عنهما أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى
تطعم (1)، ولا يباع صوف على ظهر ولا لبن في ضرع» (2) ولأن بيع اللبن في الضرع مجهول الصفة والمقدار. وجهالة مقداره، لأنه قد يرى امتلاء الضرع من السمن، فيظن أنه من اللبن. وجهالة الصفة: لأنه قد يكون اللبن صافياً، وقد يكون كدراً فأشبه الحمل، لأنه بيع عين لم تخلق، فلم يجز كبيع ما تحمل الناقة، والعادة في ذلك تختلف. وفيه علة أخرى وهي: أنه معجوز التسليم، لأن اللبن لا يجتمع في الضرع دفعة واحدة، بل شيئاً فشيئاً، فيختلط المبيع بغيره على وجه يتعذر التمييز بينهما.
وأما لبن الظئر (أي المرضع) فيجوز بيعه للحضانة، للحاجة.
وقال الحنفية ما عدا أبا يوسف: بيع اللبن في الضرع واللؤلؤ في الصدف والصوف على ظهر الغنم فاسد؛ للجهالة وللنهي عنه، ولأن الصوف ينمو من أسفل، فيختلط المبيع بغيره، ويصعب التمييز بينهما، فيفسد لذلك (3).
_________
(1) تطعم ـ بكسر العين أي يبدو صلاحها.
(2) حديث مرفوع مسند رواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس، وأخرجه الدارقطني والبيهقي في سننيهما (انظر نصب الراية: 4 ص 11، نيل الأوطار: 5 ص 149).
(3) الدر المختار ورد المحتار: 113/ 4، البدائع: 148/ 5، وعبر الكاساني بأن البيع لا ينعقد في ظاهر الرواية، ومراده أنه فاسد.

(5/3399)


وقال أبو يوسف: يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم والصلح عليه؛ لأنه يجوز جزه قبل الذبح، فيجوز بيعه كبيع القصيل في الأرض.
وأما سبب بطلان بيع الصوف على ظهر الغنم عند القائلين بالبطلان، فلأنه يقع الاختلاف في موضع القطع من الحيوان، فيقع الإضرار به فكان مشتملاً على الغرر، وفيه علة أخرى: وهي أنه معجوز التسليم، لأن الصوف ينمو ساعة فساعة، فيختلط الموجود عند العقد بالحادث بعده على وجه لا يمكن التمييز بينهما.
وخالف الإمام مالك في الحالتين، فقال: يجوز بيع اللبن في الضرع في الغنم السائمة التي لا يختلف لبنها، لا في الشاة الواحدة، أياماً معلومة، إذا عرف قدر حلابها، لسقي الصبي، كلبن الظئر، لتسامح غالب الناس به أياماً معلومة غالباً، بل رأينا من يسامح بلبن بقرته الشهر وأكثر بطريق الإباحة أو الهبة. وقال أيضاً: يصح بيع الصوف على ظهر الغنم، لأنه مشاهد يمكن تسليمه.
وهناك رواية عند الحنابلة تقرر مثل هذا الحكم وهو أنه يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم، بشرط جزّه في الحال، لأنه معلوم يمكن تسليمه. وكذلك الظاهرية أجازوا بيع الصوف على
ظهور الغنم (1).

رأي بعض الحنابلة في بيع المعدوم: أجاز ابن القيم وأستاذه ابن تيمية بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، لأنه لم يثبت
_________
(1) انظر المبسوط: 12 ص 194 وما بعدها، 13 ص 23، البدائع: 5 ص 139، 148، فتح القدير: 5 ص 192، رد المحتار: 4 ص 106، 112، 113، بداية المجتهد: 2 ص 147، 157، الميزان: 2 ص 67، مغني المحتاج: 2 ص 30، المهذب: 1 ص 262، المغني: 4 ص 208 ومابعدها، سبل السلام: 3 ص 32 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 256، المحلى: 8 ص 458.

(5/3400)


النهي عن بيع المعدوم لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً كبيع الفرس النافر والجمل الشارد، فليست العلة في المنع لاالعدم ولا الوجود.
بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فنره أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد. وعلى هذا فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر لا للعدم، فالأصل إذن هو الغرر (1).

2 - بيع معجوز التسليم يرى جمهور الحنفية كما في ظاهر الرواية: أنه لا ينعقد بيع معجوز التسليم عند العقد، ولو كان مملوكاً، كالطير الذي طار من يد صاحبه، أو العبد الآبق (الفارّ) واللقطة، ويكون البيع باطلاً، حتى لو ظهر الآبق ونحوه يحتاج إلى تجديد الإيجاب والقبول، إلا إذا تراضيا حينئذ، فيكون بيعاً مبتدءاً بالتعاطي.
ولو قدر على التسليم في المجلس لا يعود جائزاً، لأنه وقع باطلاً، وعن الكرخي والطحاوي: أنه يعود جائزاً.
فإن كان الطائر يذهب ويعود كالحمام الأهلي، ففي ظاهر الرواية: لا يجوز أيضاً بيعه لعدم القدرة على التسليم في الحال، وقال بعض الحنفية: إن كان الطائر داجناً يعود إلى بيته ويقدر على أخذه بلا تكلف جاز بيعه، وإلا فلا.
_________
(1) راجع أعلام الموقعين: 2 ص 8 وما بعدها، مصادر الحق: 3 ص 40 ومابعدها، الغرر وأثره في العقود: ص 356 ومابعدها، الأموال ونظرية العقد: ص 308.

(5/3401)


وكذا يبطل العقد إذا جعل معجوز التسليم ثمناً؛ لأن الثمن إذا كان عيناً، فهو مبيع في حق صاحبه (1).
وقال المالكية: لا ينعقد بيع البعير الشارد والبقرة المتوحشة والمغصوب إلا أن يبيعه من غاصبه.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز (أي لا ينعقد) بيع ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء أو السمك في الماء والجمل الشارد، والفرس العائر (أي الهائم على وجهه) والمال المغصوب في يد الغاصب والعبد الآبق، سواء علم مكانه أو جهل، ومثله بيع الدار أو الأرض تحت يد العدو (2)؛لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع
_________
(1) وذكر الكرخي رحمه الله أنه ينعقد بيع الآبق، حتى لو ظهر وسلم يجوز ولايحتاج إلى تجديد البيع، ودليله: أن الإباق لايوجب زوال الملك، ألا ترى أنه لم ينفذ للحال للعجز عن التسليم، فإن سلم زال المانع، فينفذ، كبيع المغصوب الذي في يد الغاصب إذا باعه المالك لغيره، فإنه ينعقد موقوفاً على التسليم.
ووجه ظاهر الرواية: هو أن القدرة على التسليم شرط انعقاد العقد، لأنه لاينعقد إلا لفائدة، ولايفيد إذا لم يكن قادراً على التسليم، والعجز عن التسليم ثابت حالة العقد، وفي حصول القدرة بعد ذلك شك، واحتمال قد يحصل وقد لايحصل. ومالم يكن منعقداً بيقين لاينعقد لفائدة محتملة، بخلاف بيع المغصوب من غير الغاصب، فإنه ينعقد موقوفاً على التسليم، حتى لو سلم ينفذ، لأن المالك هنا قادر على التسليم بقدرة السلطان والقاضي وجماعة المسلمين إلا أنه لم ينفذ للحال، لوجود يد الغاصب صورة، فإذا سلم زال المانع، فينفذ، بخلاف الآبق، لأنه معجوز التسليم على الإطلاق، فأشبه بيع الآبق بيع الطير في الهواء، والسمك في الماء (البدائع: 5 ص 147 ومابعدها، فتح القدير: 5 ص 199، رد المحتار: 4ص112، مختصر الطحاوي: ص82، الأموال ونظرية العقد لأستاذنا محمد يوسف موسى: ص 314).
وقال المالكية: لايجوز (أي لاينعقد) بيع الآبق حال إباقه، إذا لم يعلم موضعه أو علم أنه عند من لايسهل خلاصه منه أو عند من يسهل خلاصه منه، ولم تعلم صفته فإذا كان معلوم الصفة، معلوم الموضع عند البائع والمشتري جاز، قال ابن رشد: وأظنه (أي الإمام مالك) اشترط أن يكون معلوم الإباق، ويتواضعان الثمن أي لايقبضه البائع حتى يقبض المشتري المبيع (بداية المجتهد: 2 ص 156، الشرح الكبير للدردير: 3 ص 11) وقد ذكرت حكم العبد الآبق لمجرد الاطلاع من الناحية التاريخية.
(2) المهذب: 1 ص 263، المغني: 4 ص 200 ومابعدها، غاية المنتهى: 2 ص 10.

(5/3402)


الحصاة، وعن بيع الغرر (1)، وهذا غرر، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد الآبق، وعن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع وعن شراء ما في ضروعها، وعن شراء الغنائم حتى تقسم (2). وعن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر» (3) علل النهي عن بيع السمك بأنه غرر، فدل على أن الغرر: ما لا يقدر على تسليمه. والمراد بالماء الذي لايجوز بيع السمك فيه هو الماء غير المحصور كماء البحر والنهر، فإن كان الماء محصوراً كماء البركة، فقال الحنفية والشافعية والحنابلة في الجملة: يجوز بيع السمك فيه إذا كان يمكن أخذه بدون اصطياد وحيلة. ولكن للمشتري خيار الرؤية عند الحنفية. ومنع المالكية بيع السمك في الغدير أو البركة (4).
والخلاصة: أن المذاهب الأربعة متفقة على بطلان بيع ما لا يقدر على تسليمه، مع الخلاف في بعض القيود أحياناً أو مع أقوال ضعيفة في المذهب.
وذهب الظاهرية إلى أنه لا يشترط في صحة البيع أن يكون المعقود عليه مقدور التسليم، وإنما الواجب ألا يحول البائع بين المشتري وبين ما اشتراه (5).
_________
(1) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر» وقد سبق تخريجه. وبيع الحصاة مثل أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ماوقعت عليه هذه الحصاة ثم يرمي الحصاة (انظر جامع الأصول: 1ص441، نيل الأوطار: 5 ص 147).
(2) رواه أحمد وابن ماجه عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري ونصه: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن شراء مافي بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع مافي ضروعها إلا بكيل، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص» (انظر نيل الأوطار: 5 ص 149).
(3) رواه أحمد موقوفاً ومرفوعاً والطبراني في الكبير كذلك، ورجال الموقوف رجال الصحيح (انظر مجمع الزوائد: 4 ص 80).
(4) البدائع: 5 ص 295، بداية المجتهد: 2 ص 156، المهذب: 1 ص 263، المغني: 4 ص 202.
(5) المحلى: 8 ص 449 وما بعدها، أصول البيوع الممنوعة: ص 130.

(5/3403)


بيع الدين:
الدين (1): كثمن مبيع، وبدل قرض، ومهر بعد دخول بالمرأة أو قبل الدخول بها، وأجرة مقابل منفعة، وأرش (2) جناية، وغرامة متلف، وعوض خلع، ومسلم فيه. وبيع الدين: إما أن يكون لمن في ذمته الدين، أو لغير من عليه الدين. وفي كل من الحالتين إما أن يباع الدين نقداً في الحال، أو نسيئة مؤجلاً.

وبيع الدين نسيئة: هو ما يعرف ببيع الكالئ بالكالئ أي الدين بالدين وهو بيع ممنوع شرعاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (3)، وقد قيل: أجمع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، سواء أكان البيع للمدين، أم لغير المدين.
مثال الأول وهو بيع الدين للمدين: أن يقول شخص لآخر اشتريت منك مداً من الحنطة بدينار على أن يتم تسليم العوضين بعد شهر مثلاً. أو أن يشتري شخص شيئاً إلى أجل، فإذا حل الأجل، لم يجد البائع ما يقضي به دينه، فيقول للمشتري: بعني هذا الشيء إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض. فيكون هذا رباً حراماً تطبيقاً لقاعدة: (زدني في الأجل، وأزيدك في القدر). أما لو باع الدين بنحو آخر كأن يبيعه الألف الذي له في ذمته بمتاع كسجادة مثلاً، أو بقدر من المال يدفعه من عليه الدين، فيصح البيع؛ لأنه في معنى الصلح.
ومثال بيع الدين لغير المدين: أن يقول رجل لغيره: بعتك العشرين مداً من
_________
(1) يلاحظ أن (الدين) في القوانين الوضعية المعاصرة: هو العمل الذي يجب على الشخص أن يقوم به. فيشمل ما إذا كان محل هذا العمل ديناً موصوفاً في الذمة الذي يقول به فقهاؤنا، أو عيناً: وهي الشيء المعين المشخص بذاته.
(2) الأرش: هو العوض المالي المقدر شرعاً بدلاً عن الجناية التي ألحقت بعضو من الأعضاء.
(3) رواه الدارقطني عن ابن عمر وصححه الحاكم على شرط مسلم، ورواه الطبراني عن رافع بن خديج، ولكن تفرد به موسى بن عبيدة الربذي، وفيه كلام (نيل الأوطار: 156/ 5).

(5/3404)


القمح التي لي عند فلان بكذا تدفعها لي بعد شهر (1)، أو بسلعة حاضرة (عين) لم يصح البيع، لعدم القدرة على تسليم المبيع.

وبيع الدين نقداً في الحال: اختلف الفقهاء في شأنه على التفصيل الآتي:
أولاً ـ بيع الدين للمدين: أجاز جمهور الفقهاء أئمة المذاهب الأربعة بيع الدين لمن عليه الدين أو هبته له؛ لأن المانع من صحة بيع الدين بالدين هو العجز عن التسليم، ولا حاجة إلى التسليم ههنا، فما في ذمة المدين مسلم له (2). ومثاله: أن يبيع الدائن للمدين ديناً له في ذمته بدين آخر من غير جنسه، فيسقط الدين المبيع، ويجب عوضه، لأنه في معنى الصلح، وهو جائز،، ويدل ما أخرجه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع الدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وأخذ الدنانير؟ فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء» فهذا البيع بين الدنانير والدراهم بيع للدين بعين ممن عليه الدين، لأنه قوله: «أبيع بالدنانير» أي ديناً؛ لأنه لم يقبضهما، ثم يستبدل بها دراهم يقبضها.
وقال الظاهرية: لا يجوز بيع الدين إلى المدين لوجود الغرر فيه، قال ابن حزم: لأنه بيع مجهول، وما لا يدرى عينه، وهذا هو أكل مال بالباطل (3).
_________
(1) راجع سبل السلام: 3 ص 45، نيل الأوطار: 5 ص 156، الشرح الكبير والدسوقي: 3 ص 61 ومابعدها، الغرر وأثره في العقود للدكتور الصدّيق: ص 311 ومابعدها، غاية المنتهى: 2 ص 58، المهذب: 1 ص 262.
(2) البدائع: 5 ص 148، تكملة ابن عابدين: 326/ 2، الفتاوى الهندية: 365/ 4، أصول البيوع الممنوعة: ص 111، المغني: 4 ص 120.
(3) المحلى: 9 ص 7 ومابعدها، أصول البيوع، المكان السابق.

(5/3405)


ثانياً ـ بيع الدين لغير المدين: قال الحنفية والظاهرية: بما أنه لا يجوز بيع معجوز التسليم، فلا ينعقد بيع الدين من غير من عليه الدين، لأن الدين غير مقدور التسليم إلا للمدين نفسه في حق البائع؛ لأن الدين عبارة عن مال حكمي في الذمة، أو عبارة عن فعل تمليك المال وتسليمه، وكل ذلك غير مقدور التسليم من البائع. ولو شرط التسليم على المدين لا يصح البيع أيضاً؛ لأن البائع شرط التسليم على غيره، فيكون شرطاً فاسداً، فيفسد البيع (1)، لعدم القدرة على تسليم المبيع.
وقال بعض الشافعية (2): يجوز بيع الدين المستقر (3) للمدين ولغير المدين قبل القبض، لأن الظاهر القدرة على التسليم من غير منع ولا جحود، ومثال الدين المستقر: قيمة المتلفات، والمال الموجود عند المقترض.
وأما إن كان الدين غير مستقر: فإن كان مسلَماً فيه في عقد السلم، فلا يجوز التصرف فيه قبل قبضه، لعموم النهي عن بيع مالم يقبض، ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر، لأنه ربما تعذر تسليمه لفقدانه، فانفسخ البيع فيه.
وإن كان الدين ثمناً في بيع، ففي قول للشافعي: يجوز التصرف فيه قبل قبضه لخبر ابن عمر في هذا الشأن عن الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لابأس مالم تتفرقا، وبينكما شيء» (4) ولأنه لايخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك، فصار ذلك مثل المبيع بعد
_________
(1) البدائع، في المكانين السابقين.
(2) المهذب: 1 ص 262 وما بعدها.
(3) الدين المستقر: هو الثابت استيفاؤه والذي يكون الملك عليه لازماً مستحقاً لصاحبه دون أن يكون هناك أي احتمال آخر لسقوطه.
(4) رواه الترمذي وغيره، وصححه الحاكم على شرط مسلم، والقصة معروفة وهي أن ابن عمر قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير، فآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، فآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لابأس مالم تتفرقا وبينكما شيء».

(5/3406)


القبض. هذا ولايصح اتفاقاً بيع الدين بالدين إلى أجل كما تقدم في النقود والمطعومات وغيرها من أموال الربا، ولايصح لأحد أن يعتمد على هذا القول وغيره فيما يخالف الأحكام المقررة قطعاً. قال النووي في المنهاج: وبيع الدين لغير من هو عليه الدين باطل في الأظهر.
وقال الحنابلة: يصح في الصحيح من المذهب بيع الدين المستقر للمدين كبدل قرض ومهر بعد الدخول. ولايصح بيع الدين لغير المدين، كما لاتصح هبة الدين لغير من هو في ذمته؛ لأن الهبة تقتضي وجود معين، وهو منتفٍ هنا. كما لايصح بيع الدين غير المستقر كأجرة عقار قبل مضي مدة الإيجار، ومهر قبل دخول بالمرأة، ومسلم فيه قبل القبض، إلا أن ابن القيم أجاز بيع الدين
للمدين ولغير المدين (1).
وقال المالكية: يجوز بيع الدين لغير المدين بشروط ثمانية تبعده عن الغرر والربا وأي محظور آخر كبيع الطعام قبل قبضه، وتتلخص هذه الشروط هنا في شرطين هما:
1ً - ألا يؤدي البيع إلى محظور شرعي كالربا والغرر ونحوهما: فلابد من أن يكون الدين ممايجوز بيعه قبل قبضه، كأن يكون من قرض ونحوه، ويكون الدين المبيع غير طعام، وأن يباع بثمن مقبوض أي معجل لئلا يكون ديناً بدين، وأن يكون الثمن من غير جنس الدين المبيع أو من جنسه مع التساوي بينهما حذراً من الوقوع في الربا، وألا يكون الثمن ذهباً إذا كان الدين فضة، حتى لايؤدي ذلك إلى بيع النقد بالنقد نسيئة من غير مناجزة، فهذه أربعة شروط في شرط.
_________
(1) المغني: 4 ص 120، 301، غاية المنتهى: 2 ص 80 ومابعدها، أعلام الموقعين: 1ص388 ومابعدها. كشاف القناع: 337/ 4.

(5/3407)


2 - أن يغلب على الظن الحصول على الدين بأن يكون المدين حاضراً في بلد العقد، ليعلم حاله من عسر أو يسر، وأن يكون المدين مقراً بالدين، حتى لاينكره بعدئذ، فلا يجوز بيع حق متنازع فيه، وأن يكون أهلاً للالتزام بالدين بألا يكون قاصراً ولا محجوراً عليه مثلاً ليكون الدين مقدور التسليم، وألا يكون بين المشتري وبين المدين عداوة حتى لايتضرر المشتري أو حتى لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين خصمه منه (1).
فهذه أربعة شروط أخرى في شرط. ويظهر لنا أن مذهب المالكية هو الراجح بين المذاهب. وفي الواقع لايجوز بيع الدين بالدين، مثل أن يبيع ديناً له على رجل من آخر بالتأخير، ولايجوز أيضاً فسخ الدين في الدين، مثل أن يدفع الغريم لصاحب الدين ثمرة يجنيها، أو داراً يسكنها، لتأخر القبض في ذلك (2).
خصم (حسم) الكمبيالة: ذكر الحنفية (3) أن بيع أوراق الكمبيالة المتعارف في زماننا إلى غير الغريم (المدين) أو لمن عليه أموال أميرية بأنقص من الحق غير صحيح.

3 - بيع الغرر:
الغرر في اللغة: الخطر، والتغرير: التعريض للهلاك، وأصل الغرر لغة: هو ماله ظاهر محبوب، وباطن مكروه. ولذلك سميت الدنيا متاع الغرور. فالغرر:
_________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 3ص63، بداية المجتهد: 2 ص 146، القوانين الفقهية: ص210، 289، أصول البيوع الممنوعة: 109، الغرر وأثره في العقود: ص 315.
(2) القوانين الفقهية: ص 289.
(3) أصول البيوع الممنوعة في الشريعة الإسلامية وموقف القوانين منها للأستاذ عبد السميع إمام: ص 120.

(5/3408)


تعريض المرء نفسه أو ماله للهلاك من غير أن يعرف.
وبيع الغرر: هو بمعنى مغرور اسم مفعول، فهو من إضافة المصدر إلى اسم المفعول. ورجح بعضهم (1) أن الإضافة هنا من إضافة الموصوف إلى صفته، أو من إضافة المصدر إلى نوعه، ولايصح جعل الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، كما يقول ابن تيمية، لأنه يترتب على هذا كون الغرر خاصاً بمحل العقد، وليس كذلك، فإن من الغرر المنهي عنه باتفاق الفقهاء مايرجع إلى الصفة التي وقع عليها العقد، كبيع الحصاة. أما إذا جعلنا الإضافة إلى الصفة أو نوع المصدر، فإن النهي يعم كل بيوع الغرر، سواء أكان الغرر في محل العقد كبيع الطير في الهواء، وشاة من قطيع، أم في صيغته كالبيعتين في بيعة، والشرطين في بيع وبيع العربان، وبيع الحصاة ونحوها. والغرر لغة: معناه الخداع الذي هو مظنة ألا رضا به عند تحققه، فيكون من أكل المال بالباطل (2). والغرر فقهاً يتناول الغش والخداع والجهالة بالمعقود عليه، وعدم القدرة على التسليم. قال الصنعاني: يتحقق بيع الغرر في صور: إما بعدم القدر ة على التسليم كبيع الفرس النافر والجمل الشارد، أو بكونه معدوماً أو مجهولاً، أو لا يتم ملك البائع له، كالسمك في الماء الكثير، وغيرها من الصور (3).

الغرر في اصطلاح الفقهاء: ذكر فقهاء المذاهب تعريفات للغرر متقاربة نسبياً، منها:
قال السرخسي الحنفية: الغرر: ما يكون مستور العاقبة (4).
_________
(1) انظر رسالة الزميل الدكتور الصدّيق الأمين «الغرر وأثره في العقود» ص 62.
(2) سبل السلام: 3 ص 15.
(3) المرجع السابق، القوانين الفقهية: ص 256.
(4) المبسوط: 12 ص 194.

(5/3409)


وقال القرافي من المالكية: أصل الغرر: هو الذي لا يدرى هل يحصل أم لا كالطير في الهواء والسمك في الماء (1).
وقال الشيرازي الشافعي: الغرر: ما انطوى عنه أمره وخفي عليه عاقبته (2).
وقال الإسنوي الشافعي: الغرر: هو ما تردد بين شيئين أغلبهما أخوفهما (3).
وقال ابن تيمية: الغرر هو المجهول العاقبة. وقال ابن القيم: هو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أو معدوماً كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد، وإن كان موجوداً (4).
وقال ابن حزم: ما لا يدري المشتري ما اشترى، أو البائع ما باع (5).
والخلاصة: أن بيع الغرر: هو البيع الذي يتضمن خطراً يلحق أحد المتعاقدين، فيؤدي إلى ضياع ماله (6). وعرفه الأستاذ الزرقاء فقال: هو بيع الأشياء الاحتمالية غير المحققة الوجود أو الحدود، لما فيه من مغامرة وتغريريجعله أشبه بالقمار. والغرر الذي يبطل البيع: هو غرر الوجود: وهوكل ما كان المبيع فيه محتملاً للوجود والعدم. أما غرر الوصف فمفسد للبيع (7)، كما عرفنا في شرائط الصحة.
الغرر إذن: هو الخطر بمعنى أن وجوده غير متحقق، فقد يوجد وقد لا
_________
(1) الفروق: 3 ص 265.
(2) المهذب: 1 ص 262.
(3) نهاية السول شرح منهاج الأصول: 2 ص 89.
(4) أعلام الموقعين: 2 ص 9، الفتاوى لابن تيمية: 3 ص 275.
(5) المحلى: 396/ 8.
(6) أصول البيوع الممنوعة: ص 130.
(7) المدخل الفقهي العام له: 1 ص 97، عقد البيع له أيضاً، حاشية ص 20.

(5/3410)


يوجد. وبيع الغرر: بيع ما لا يعلم وجوده وعدمه، أو لا تعلم قلته وكثرته، أو لا يقدر على تسليمه.

ملاحظات على التعاريف: قصر الظاهرية الغرر على المجهول، وقصره بعض الحنفية على ما لا يدرى حصوله، وأخرجوا عنه المجهول، والراجح عند أكثر الفقهاء أن الغرر يشمل ما لا يدرى حصوله، والمجهول (1)، فيكون تعريف السرخسي للغرر هو أرجح التعاريف: وهو ماكان مستور العاقبة.
حكم بيع الغرر: قال الإمام النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جداً. ويستثنى من بيع الغرر أمران:
أحدهما ـ ما يدخل في المبيع تبعا ً، بحيث لو أفرد، لم يصح بيعه كبيع أساس البناء تبعاً للبناء، واللبن في الضرع تبعاً للدابة.
والثاني ـ ما يتسامح بمثله عادة، إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه أو تعيينه، كدخول الحمام بالأجر، مع اختلاف الناس في الزمان، ومقدار الماء المستعمل، وكالشرب من الماء المحرز، وكالجبة المحشوة قطناً (2).
اتفق الفقهاء على عدم صحة بيع الغرر، مثل بيع اللبن في الضرع، والصوف على الظهر، واللؤلؤ في الصدف، والحمل في البطن، والسمك في الماء، والطير في الهواء قبل صيدهما، وبيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه، أي بيع ما سيملكه قبل ملكه له، لأن البائع باع ما ليس بمملوك له في الحال، سواء أكان السمك في البحر، أم في النهر، أم في حظيرة لا يؤخذ منها إلا باصطياد، وسواء أكان الغرر في المبيع أم في الثمن.
_________
(1) راجع رسالة الغرر وأثره في العقود: ص 33 ومابعدها.
(2) المجموع: 9 ص 280 ومابعدها، نيل الأوطار: 5 ص 148، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 76/ 2.

(5/3411)


ومن البيوع غير الصحيحة بسبب الغرر: بيع المضامين والملاقيح، وبيع الملامسة والمنابذة والحصاة (1)، وبيع ضربة القانص (بأن يقول البائع: بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة
بكذا) وضربة الغائص (بأن يقول: أغوص غوصة، فما أخرجته من اللآلئ، فهو لك بكذا) (2) فالمبيع في الأنواع الخمسة الأخيرة مجهول الذات أو المقدار، وقد ثبت النهي عنها، وهي من بيوع الجاهلية.

ومنها بيع المزابنة: وهو بيع الرطب أو العنب على النخل أو الكرمة بتمر مقطوع، أوزبيب مثل كيله خرصاً أي بتقديره حَزْراً أو تخميناً. وبيع المحاقلة: أي بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصاً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن المزابنة والمحاقلة» (3) لما في ذلك من الربا لجهالة مقدار المبيع، إذ أنه كما هو معلوم يشترط
_________
(1) سبق شرح المضامين والملاقيح، وأما بيع الملامسة: فهو مثل بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته، أو إن لمسته، أو أي ثوب من هذه الأثواب لمسته، فهو لك. وبيع المنابذة مثل: إن أو متى نبذت هذا، أو أي ثوب نبذته لك (أي طرحته) فهو لك بكذا. وبيع الحصاة الذي يشبه بيع اليانصيب اليوم، كأن يقول: ارم بهذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك، أو بعتك من هذه الأرض ما انتهت إليه الحصاة في الرمي. ولفظ الغرر يشملها، إلا أنها أفردت في الحديث بالنهي كما سنلاحظ، لكونها كانت مما يبتاعها أهل الجاهلية. (سبل السلام: 3 ص 15، غاية المنتهى: 2 ص 11) وفسر الحنفية هذه البيوع الثلاثة تفسيراً يشعر بأن اللمس أمارة على لزوم البيع، سواء أكان المشتري عالماً بالمبيع أم جاهلاً به، في حين أن مفهوم بيع الملامسة عند المحدثين هو أن اللمس يقوم مقام نظر السلعة إذا احتاج الأمر إلى ذلك كالثوب، قال المرغيناني: هي أن يتراوض الرجلان على سلعة (أي يتساومان) فإذا لمسها المشتري، أو نبذها إليه البائع، أو وضع المشتري عليها حصاة، لزم المبيع، فالأول بيع الملامسة، والثاني: المنابذة، والثالث: إلقاء الحجر أي بيع الحصاة (راجع فتح القدير: 5 ص 196).
(2) الصائد بالآلة هو القانص سواء في البر أو البحر. وأما من يغوص في البحر لاستخراج اللآلئ مثلاً فهو الغائص، وقد ورد النهي عن ضربة الغائص في حديث أبي سعيد الخدري (نيل الأوطار: 148/ 5).
(3) أخرجه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، وأخرجه البخاري أيضاً من حديث ابن عباس، وأنس. وأخرجه مسلم أيضاً من حديث أنس (راجع نصب الراية: 4 ص 12 ومابعدها، نيل الأوطار: 5 ص 198 ومابعدها).

(5/3412)


التماثل حقيقة في بيع الأموال الربوية. لكن للحاجة رخص الشافعية والحنابلة والظاهرية، وفي الراجح عند المالكية بيع العرايا (1): وهو عند الشافعية بيع الرطب على النخل خرصاً بتمر في الأرض كيلاً، أو بيع العنب على الشجر خرصاً بزبيب في الأرض كيلاً، فيما دون خمس أوسق (2) بشرط التقابض في المجلس عند الفقهاء ما عدا المالكية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرايا (3). وأما الحنفية فقد أجازوا بيع العرايا للضرورة فقط، وذكر الشوكاني أن أبا حنيفة منع صور بيع العرايا كلها، وقصر العرية على الهبة: وهي أن يهب صاحب البستان لرجل ثمر نخلات معلومة من بستانه، ثم يتضرر بدخوله عليه، فيخرصها، ويشتري رطبها منه بقدر خرصه بتمر معجل أي بقدر ما وهبه له من الرطب بما يساويه تخميناً من التمر (4).
ويلاحظ أن هذه البيوع غير الصحيحة بسبب الغرر، منها الباطل، ومنها الفاسد في اصطلاح الحنفية، والفاسد منها فقط: هو بيع ضربة القانص والغائص والمزابنة والمحاقلة والملامسة والمنابذة وبيع الحصاة، وبيع ثوب من أثواب ونحوها
_________
(1) العرايا: جمع عَرِيّة، والعرية: النخلة المعراة والتي أكل ما عليها، وهي في الأصل: عطية ثمر النخل دون الرقبة، وقال الجوهري: هي النخلة التي يعريها (أي يعطيها) صاحبها رجلاً محتاجاً بأن يجعل له ثمرها عاماً، من عراه: إذا قصده. وتكون العرية في اللغة: هي الشجرة التي يفردها مالكها للأكل، سميت بذلك لأنها عريت عن حكم جميع أشجار البستان.
(2) الوسق: ستون صاعاً بصاع النبي صلّى الله عليه وسلم والخمسة أوسق تساوي 257 رطلاً شامياً أي قنطارين ونصف تقريباً أو 653 كغ. وقد قصر الحنابلة والظاهرية بيع العرايا على ثمر النخل دون العنب، وأجازه مالك في كل ماييبس ويدخر كالجوز واللوز والتين.
(3) أخرجه البخاري ومسلم من حديث سهل بن أبي حثمة، وأخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق (شك من الراوي) والمقصود من بيع الثمر بالتمر أي بيع ثمر النخلة الجديد بالتمر القديم (راجع نصب الراية: 4 ص 13، نيل الأوطار: 5 ص 200).
(4) نيل الأوطار: 5ص201، مختصر الطحاوي: ص78.

(5/3413)


مما فيه جهالة. وأما ما عداها فهو باطل (1). فبيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة باطل، لنهيه صلّى الله عليه وسلم عنه، ولما فيه من الغرر، كما تقدم في بحث بيع المعدوم.
والدليل على عدم صحة بيع الغرر في الجملة: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر. وعن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لاتشتروا السمك في الماء، فإنه غرر» (2)، ولأنه غير مقدور على تسليمه، وفيه جهالة فاحشة بمحل العقد أو بمقدار المبيع، ولأنه غير مملوك للبائع محل العقد.

الغرر اليسير: الغرر والجهالة ثلاثة أقسام (3): كثير ممتنع إجماعاً كالطير في الهواء. وقليل جائز إجماعاً كأساس الدار وقطن الجبة. ومتوسط اختلف فيه: هل يلحق بالأول أو بالثاني، فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير، ولانحطاطه عن الكثير، ألحق بالقليل. أجاز الحنفية بيع مايشتمل على غرر يسير، كالأشياء التي تختفي في قشرها كالجوز واللوز والفستق والباقلاء (4) الأخضر، والأرز والسمسم في قشرها الأعلى، والحنطة في سنبلها، والبطيخ والرمان على أن يكون للمشتري خيار الرؤية كما سيأتي بيانه في بحث هذا الخيار.
أما المالكية والحنابلة: فأجازوا مطلقاً كل مافيه غرر يسير، أو التي تدعو إليه الضرورة، كهذه الأشياء التي ذكرت.
وأما الشافعية: فإنهم أجازوا بيع هذه الأشياء في قشرها الأسفل. أما بيعها
_________
(1) التبس على بعض المؤلفين أن بيع الطير في الهواء والسمك في الماء قبل الاصطياد بيع فاسد عند الحنفية، والتحقيق أنه باطل، لأنه بيع شيء غير مملوك في الحال (راجع رد المحتار: 4ص111 ومابعدها، وقارن اللباب شرح الكتاب: 2ص25، الغرر وأثره في العقود: ص 347).
(2) سبق قريباً تخريج هذين الحديثين.
(3) الفروق: 265/ 3.
(4) هو الفول الأخضر أي ونحوه.

(5/3414)


بقشرها الأعلى فاختلفوا فيه على رأيين مشهورين في المذهب، رجح النووي والبغوي والشيرازي عدم الصحة. وقال إمام الحرمين والغزالي: الأصح صحته؛ لأن الشافعي رضي الله عنه أمر أن يشترى له الباقلاء الرطب، ولتعارف ذلك في جميع البلدان من غير إنكار (1).
وإني أرجح جواز بيع هذه الأشياء مطلقاً كما رأى المالكية والحنابلة لتعارف الناس هذه البيوع، فإذا وجد فيها عيب أمكن فسخ العقد بمقتضى خيار العيب.

حكم التأمين مع شركات التأمين في الإسلام التأمين حديث النشأة، فقد ظهر بمعناه الحقيقي في القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا في صورة التأمين البحري. والتأمين (أو السوكرة) نوعان: تأمين تعاوني وتأمين بقسط ثابت (2).
أما التأمين التعاوني: فهو أن يتفق عدة أشخاص على أن يدفع كل منهم اشتراكاً معيناً، لتعويض الأضرار التي قد تصيب أحدهم إذا تحقق خطر معين. وهو قليل التطبيق في الحياة العملية.
وأما التأمين بقسط ثابت: فهو أن يلتزم المؤمَّن له بدفع قسط محدد إلى
_________
(1) راجع مذاهب الفقهاء في الغرر: المبسوط: 12 ص 194 ومابعدها، تبيين الحقائق: 4ص45 ومابعدها، فتح القدير: 5 ص 106، 191 ومابعدها، البدائع: 5 ص 147 ومابعدها، 294، رد المحتار والدر المختار: 4 ص 111 - 114، المنتقى على الموطأ: 5ص41، بداية المجتهد: 2 ص 151، 156، 158، الشرح الكبير للدردير: 3ص55 - 60، القوانين الفقهية: ص256 ومابعدها، الفروق للقرافي: 1ص150 ومابعدها، مغني المحتاج: 2ص31، 90، 93، المهذب: 1 ص 263 ومابعدها، المجموع: 9ص281، 374، 335، المغني: 4ص56، 92، 201، تنوير الحوالك شرح الموطأ: 2ص125 ومابعدها، نيل الأوطار: 5ص147، 200 ومابعدها، سبل السلام: 3ص15.
(2) التأمين في القانون المصري والمقارن للدكتور عبد المنعم البدراوي: ص 36 ومابعدها.

(5/3415)


المؤمِّن: وهو شركة التأمين المكونة من أفراد المساهمين، يتعهد (أي المؤمن) بمقتضاه دفع أداء معين عند تحقق خطر معين. وهو النوع السائد الآن. ويدفع العوض إما إلى مستفيد معين أو إلى شخص المؤمن أو إلى ورثته، فهو عقد معاوضة ملزم للطرفين.

والفرق بين النوعين: أن الذي يتولى التأمين التعاوني ليس هيئة مستقلة عن المؤمن لهم، ولايسعى أعضاؤه إلى تحقيق ربح، وإنما يسعون إلى تخفيف الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء. أما التأمين بقسط ثابت فيتولاه المؤمن (أي الشركة المساهمة) الذي يهدف إلى تحقيق ربح، على حساب المشتركين المؤمن لهم. وكون المؤمن له قد لايأخذ شيئاً في بعض الأحيان لايخرج التأمين من عقود المعاوضات، لأن من طبيعة العقد الاحتمالي ألا يحصل فيه أحد العاقدين على العوض أحياناً.
حكم التأمين التعاوني: لاشك في جواز التأمين التعاوني في الإسلام، لأنه يدخل في عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون على البر؛ لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أيا كان نوع الضرر، سواء في التأمين على الحياة، أو الحوادث الجسمانية، أو على الأشياء (بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان) أو ضد المسؤولية من حوادث السير، أو حوادث العمل (1)، ويجوز أيضاً للمؤمن له التأمين الإلزامي كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير، وتجوز التأمينات الاجتماعية ضد العجز والشيخوخة والمرض والتقاعد.
التأمين بقسط ثابت ـ فتوى ابن عابدين: أفتى ابن عابدين بحرمة التأمين البحري (2)، لضمان ما قد يهلك من البضائع المستوردة بطريق النقل البحري، بالمراكب، فلا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من مال المؤمِّن لأسباب ثلاثة:
_________
(1) انظر الغرر وأثره في العقود للدكتور الصدّيق محمد الأمين الضرير: ص 521 وما بعدها.
(2) رد المحتار: 273/ 3 ومابعدها ـ فصل في استئمان الكافر الحربي.

(5/3416)


1 - إن هذا العقد التزام ما لا يلزم، لعدم وجود سبب شرعي من أسباب الضمان الأربعة وهي العدوان من قتل وهدم وإحراق ونحوها، وتسبب الإتلاف كحفر بئر بدون ترخيص في الطريق العام، ووضع اليد غير المؤتمنة كالغصب والسرقة وبقاء المبيع في يد البائع، والكفالة. وليس المؤمِّن متعدياً، ولا متسبباً في الإتلاف، ولا واضع يد على المؤمن عليه، وليس في التأمين مكفول معين.
2 - ليس التأمين من قبيل تضمين الوديع إذا أخذ أجراً على الوديعة إذا هلكت: لأن المال ليس في يد المؤمن، بل في يد صاحب المركب، ولو كان صاحب المركب هو المؤمن، فإنه يكون أجيراً مشتركاً، لا وديعاً، وكل من الوديع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه، كالموت والغرق والحرق الغالب.
3 - ليس التأمين من قبيل تضمين التغرير: لأن الغارّ لا بد من أن يكون عالماً بالخطر، وأن يكون المغرور جاهلاً به غير عالم. والمؤمن (شركة التأمين أو الضمان) لا يقصد تغرير التجار (المؤمن لهم)، ولا يعلم بحصول الخطر ـ الغرق مثلاً ـ هل يكون أو لا، أي لا يعلم: هل تغرق المركب أو لا؟
أما في حال العلم بالخطر من المؤمن والتاجر كالخطر من اللصوص قطاع الطرق، فيجوز الضمان، ولكن ليس التأمين منطبقاً عليها. فلو قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق، فإن كان مخوفاً وأخذ مالك، فأنا ضامن: ضمن.
وأضاف ابن عابدين: أنه إن جرى عقد التأمين الفاسد في بلاد الحرب بين المؤمَّن وشريك حربي غير مسلم للمؤمن له، أو بين التاجر المؤمن له الموجود في دار الحرب وبين المؤمِّن، وأخذ بدل الهالك، وأرسله في الحالة الأولى إلى التاجر المسلم، أو قبض التاجر البدل في بلادنا في الحالة الثانية، فالظاهر أنه يحل للتاجر أخذه؛ لأن العقد الفاسد جرى بين حربيين في بلاد الحرب، وقد وصل إلى التاجر

(5/3417)


مالهم برضاهم، فلا مانع من أخذه. أما إن كان العقد في بلادنا، والقبض في بلاد الحرب، فلا يحل أخذ البدل، ولو برضا الحربي، لانبنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام.
ولا يصح اعتبار التأمين من قبيل شركة المضاربة التي هي مال من طرف وعمل من طرف آخر، لسببين: أولهما ـ أن الأقساط التي يدفعها المؤمَّن له تدخل في ملك شركة التأمين (المؤمِّن)، وهي مطلقة اليد في أن تتصرف بها كيفما تشاء. ويخسرها المؤمن له إن لم يقع الحادث.
ثانيهما ـ أن شرط صحة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل شائعاً بالنسبة كالربع أو الثلث، وفي التأمين يشترط للمشترك المؤمن له قدر معين في الربح 3% أو 4% فتكون هذه المضاربة غير صحيحة. ولو تجاوز العاقد هذا السبب، يظل السبب الأول، كما أنه في حال موت المؤمن له قد لا يذهب المبلغ المؤمن عليه للورثة مطلقاً وإنما للمستفيد، بخلاف حال موت رب المال في المضاربة.
ولا يصح اعتبار التأمين من قبيل الضمان أو الكفالة، لأنه ليس واحداً من أسباب الضمان الأربعة المشروعة المتقدمة، كما أنه في كثير من صور عقد التأمين لا يوجد فيه ما يمكن أن يعتبر مكفولاً، وإن وجد المكفول كما في التأمين من حوادث السيارات، فهو مجهول.
والحقيقة أن عقد التأمين من عقود الغرر ـ العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. ويقاس عليه عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها كما يؤثر في عقد البيع.

(5/3418)


وعقد التأمين مع الشركات من عقود المعاوضات المالية، فيؤثر فيه الغرر، كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات المالية. وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان «عقود الغرر»؛ لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين.
والغرر في التأمين كثير، لا يسير، ولا متوسط، لأن من أركان التأمين: «الخطر» والخطر هو حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين (1).
والحاجة التي من أجلها يجوز العقد المشتمل على الغرر ولو كان كثيراً: (وهي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لو لم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة، ولكنه لا يهلك) (2) يشترط فيها أن تكون عامة، أو خاصة بفئة، وأن تكون متعينة.
والحاجة العامة: هي ما يكون الاحتياج فيها شاملاً لجميع الناس. والحاجة الخاصة: هي ما يكون الاحتياج فيها خاصاً بطائفة من الناس كأهل بلد، أو حرفة.
ومعنى كون الحاجة متعينة: أن تسد جميع الطرق المشروعة للوصول للغرض، سوى ذلك العقد الذي فيه الغرر.
ولو سلمنا بوجود حاجة عامة للتأمين في الوقت الحاضر، فإن الحاجة إليه غير متعينة، إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس الذي يسعى إلى الربح، وهو شركة الضمان. فيكون التأمين عقد معاوضة مشتملاً على غرر كثير من غير حاجة، فيمنع في الإسلام.
_________
(1) انظر الغرر وأثره في العقود للدكتور الصدّيق محمد الأمين الضرير: ص 656، 661.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 77، القاعدة الرابعة.

(5/3419)


وبناء عليه لا يحل للتاجر وغيره من المستأمنين أخذ بدل الهالك من مال السوكرة؛ لأنه مال لا يلزم من التزم به، ولأن اشتراط الضمان على الأمين باطل.
التأمين وإعادة التأمين
تعريف عقد التأمين: عرَّف القانون المصري (م 747) والقانون السوري (م 713) وغيرهما التأمين بأنه «عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّن له ـ المستأمن ـ أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغاً من المال، أو إيراداً مرتباً، أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث، أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط، أو أية دفعة أخرى يؤديها المؤمَّن له إلى المؤمِّن».
يظهر من هذا التعريف اتجاهه إلى بيان عقد التأمين التجاري التبادلي الذي يقوم بين عاقدين: المؤمِّن وهو شركة التأمين، والمستأمن وهو المتعامل مع الشركة، مقابل قسط ثابت هو قسط التأمين وأخذ عوض هو عوض التأمين عند حصول الخطر أو الحادث المؤمن عليه، وهو من العقود الاحتمالية وعقود المعاوضات المالية. لكن لايلزم في العقد الاحتمالي الحصول على العوض أحياناً، وليس العوض تبرعاً من المؤمن.
ويتبين من التعريف أيضاً أن التأمين من عقود الغرر، إذ لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي كل من العاقدين أو يأخذ، فقد يدفع المستأمن قسطاً واحداً من الأقساط، ثم يقع الحادث، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الحادث.
وهو كذلك عقد من عقود التراضي، وملزم للطرفين، ومن عقود المدة، فلا بد من زمن لتنفيذ التزامات الطرفين، وعقد من عقود الإذعان؛ لأن المستأمن يخضع لشروط وقيود محددة سلفاً من قبل شركات التأمين.

(5/3420)


أنواع التأمين:
التأمين من حيث الشكل نوعان:

1 ً - تأمين تعاوني: وهوأن يشترك مجموعة من الأشخاص بدفع مبلغ معين، ثم يؤدى من الاشتراكات تعويض لمن يصيبه ضرر.
2 ً - تأمين تجاري أو التأمين ذو القسط الثابت، وهو المراد عادة عند إطلاق كلمة التأمين، وفيه يلتزم المستأمن بدفع قسط معين إلى شركة التأمين القائمة على المساهمة، على أن يتحمل المؤمِّن (الشركة) تعويض الضرر الذي يصيب المؤمَّن له أو المستأمن. فإن لم يقع الحادث فَقَد المستأمن حقه في الأقساط، وصارت حقاً للمؤمِّن.
وهذا النوع ينقسم من حيث موضوعه إلى:

1 ً - تأمين الأضرار: وهو يتناول المخاطر التي تؤثر في ذمة المؤمَّن له، لتعويضه عن الخسارة التي تلحقه. وهذا يشمل:
التأمين من المسؤولية: وهو ضمان المؤمَّن له ضد مسؤوليته عن الغير الذي أصيب بضرر، مثل حوادث السير، والعمل.
والتأمين على الأشياء: وهو تعويض المؤمَّن له عن الخسارة التي تلحقه في ماله، بسبب السرقة أو الحريق أو الفيضان، أو الآفات الزراعية ونحو ذلك.

2 ً - وتأمين الأشخاص: وهو يشمل:
التأمين على الحياة: وهو أن يلتزم المؤمّن بدفع مبلغ لشخص المستأمن أو للورثة عند الوفاة، أو الشيخوخة، أو المرض أو العاهة، بحسب مقدار الإصابة.

(5/3421)


والتأمين من الحوادث الجسمانية: وهو أن يلتزم المؤمّن بدفع مبلغ معين إلى المؤمن له في حالة إصابته أثناء المدة المؤمن فيها بحادث جسماني، أو إلى مستفيد آخر إذا مات المستأمن.

والتأمين من حيث العموم والخصوص ينقسم إلى قسمين:
1 ً - تأمين خاص أو فردي: خاص بشخص المستأمن من خطر معين.
2ً - تأمين اجتماعي أو عام: يشمل مجموعة من الأفراد يعتمدون على كسب عملهم، من أخطار معينة، كالمرض والشيخوخة والبطالة والعجز، وهذا في الغالب يكون إجبارياً، ومنه التأمينات الاجتماعية، والصحية والتقاعدية.

موقف الفقه الإسلامي من التأمين:
لا شك كما تبين سابقاً في جواز التأمين التعاوني في منظار الفقهاء المسلمين المعاصرين؛ لأنه يدخل في عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون المطلوب شرعاً على البر والخير؛ لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس، لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أياً كان نوع الضرر، سواء في التأمين على الحياة، أو الحوادث الجسدية، أو على الأشياء بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان، أو ضد المسؤولية من حوادث السير، أو حوادث العمل، ولأنه لا يستهدف تحقيق الأرباح.
وعلى هذا الأساس نشأت شركات التأمين التعاوني في السودان وغيره، ونجحت في مهامها وأعمالها، بالرغم من وصف القانونيين لها بأنها بدائية.
كذلك يجوز التأمين الإجباري أو الإلزامي الذي تفرضه الدولة؛ لأنه بمثابة دفع ضريبة للدولة، كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير.

(5/3422)


ولا مانع من جواز التأمين الاجتماعي ضد طوارئ العجز والشيخوخة والمرض والبطالة والتقاعد عن العمل الوظيفي، لأن الدولة مطالبة برعاية رعاياها في مثل هذه الأحوال، ولخلوه من الربا، والغرر، والمقامرة.
وقد أجاز مؤتمر علماء المسلمين الثاني في القاهرة عام (1385هـ/1965م)، ومؤتمر علماء المسلمين السابع عام (1392هـ/1972م) كلاً من التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة عام (1398هـ/1978م).

أما التأمين التجاري أو التأمين ذو القسط الثابت: فهو غير جائز شرعاً، وهو رأي أكثر فقهاء العصر، وهو ما قرره المؤتمر العالمي الأولي للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة عام (1396هـ/1976م)، وسبب عدم الجواز يكاد ينحصر في أمرين: هما الغرر والربا.
أما الربا: فلا يستطيع أحد إنكاره؛ لأن عوض التأمين ناشئ من مصدر مشبوه قطعاً؛ لأن كل شركات التأمين تستثمر أموالها في الربا، وقد تعطي المستأمن (المؤمَّن له) في التأمين على الحياة جزءاً من الفائدة، والربا حرام قطعاً في الإسلام.
والقائلون بجواز عقد التأمين يرفضون صراحة استثمار شركات التأمين في معاملات ربوية، ولا يقرون للمستأمن أن يقبض شيئاً من الفوائد التي تدفعها شركة التأمين.
والربا واضح بين العاقدين: المؤمِّن والمستأمن، لأنه لا تعادل ولا مساواة بين أقساط التأمين وعوض التأمين، فما تدفعه الشركة قد يكون أقل أو أكثر، أو مساوياً للأقساط، وهذا نادر.

(5/3423)


والدفع متأخر في المستقبل. فإن كان التعويض أكثر من الأقساط، كان فيه ربا فضل وربا نسيئة، وإن كان مساوياً ففيه ربا نسيئة، وكلاهما حرام.
فإن قيل: إن التأمين التعاقدي قائم على أساس التعاون لجبر الضرر وترميم الأضرار والمصائب، فلا يكون فيه ربا أو شبهة ربا، أجيب بأن المستأمن يقصد أحياناً المراباة، ويبقى الربا قائماً في عوض التأمين؛ لأنه حصيلة الفوائد والمعاملات الربوية.
أما الغرر: فواضح في التأمين؛ لأنه من عقود الغرر: وهي العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد ثبت في السنة حديث صحيح، رواه الثقات عن جمع من الصحابة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (1). ويقاس على البيع عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها، كما يؤثر في عقد البيع.
وعقد التأمين مع الشركات من عقود المعاوضات المالية، لا التبرعات، فيؤثر فيه الغرر، كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات المالية، وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان (عقود الغرر) لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين.
والغرر في التأمين في الواقع كثير، لا يسير، ولا متوسط؛ لأن من أركان التأمين: الخطر، والخطر حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين. والمؤمَّن له لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي، أو يأخذ، فقد يدفع قسطاً واحداً، ويقع الخطر، فيستحق جميع ما التزم به المؤمِّن، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الخطر، فلا يأخذ شيئاً.
_________
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(5/3424)


وكذلك حال المؤمِّن، لا يعرف عند العقد مقدار ما يأخذ، أو ما يعطي، وإن كان يستطيع إلى حد كبير معرفة كل ذلك بالنسبة لجميع المؤمن لهم، بالاستعانة بقواعد الإحصاء الدقيق وبحث الأحوال الاجتماعية لشخص المستأمن وظروفه وأوضاعه.
وما قد يقال من اعتماد شركة التأمين على حسابات دقيقة تنتفي معها صفة الاحتمال والغرر والغبن في الظروف العادية، لا يبيح التأمين؛ لأن انتفاء الغرر بالنسبة للمؤمِّن وحده لا يكفي لانتفاء الغرر عن عقد التأمين، فلا بد من انتفائه بالنسبة للمستأمن أيضاً. والفقه الإسلامي لا ينظر إلى مجموع العقود التي تبرمها شركات التأمين، وإنما ينظر في الحكم على العقد صحة وفساداً إلى كل عقد على حدة.
والقول بأنه لا غرر ولا احتمال بالنسبة للمستأمن؛ لأن محل العقد في التأمين هو الأمان دون توقف على الخطر، وقد حصل عليه عند دفع القسط الأول، هو قول باطل؛ لأن الأمان هو الباعث على عقد التأمين. وليس هو محل العقد، ومحل العقد: هو ما يدفعه كل من العاقدين: المؤمن والمستأمن، أو ما يدفعه أحدهما. ولو قلنا: إن الأمان هو المحل، لكان عقد التأمين باطلاً؛ لأن المحل يلزم أن يكون ممكناً غير مستحيل، والأمان يستحيل الالتزام به.
ومحل عقد المعاوضة، كما تدل الأحاديث الناهية عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وتأمن العاهة، يجب أن يكون موجوداً وقت التعاقد، وأن يكون في حال يمكن معها الانتفاع منه على الوجه المقصود في العقد أو المعتاد، فإن لم يكن كذلك أو كان معدوماً، ولو محتمل الوجود في المستقبل، فلا يجوز شرعاً، ومحل التأمين احتمالي الوجود؛ إذ هو ما يدفعه كلا العاقدين، أو ما يدفعه أحدهما

(5/3425)


كالتعويض الذي يدفعه المؤمن (شركات التأمين) حين وقوع الضرر أو الموت بحسب شروط العقد.
والحاجة التي من أجلها يجوز العقد المشتمل على الغرر، ولو كان كثيراً: (وهي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لولم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة، ولكنه لايهلك) يشترط فيها أن تكون عامة أو خاصةبفئة معينة، وأن تكون متعينة.
أما الحاجة العامة: فهي ما يكون الاحتياج فيها شاملاً لجميع الناس. وأما الحاجة الخاصة: فهي ما يكون الاحتياج فيها خاصاً بطائفة من الناس كأهل بلد أو حرفة كما تقدم.
ومعنى كون الحاجة متعينة: أن تنسد جميع الطرق المشروعة للوصول إلى الغرض، سوى ذلك العقد الذي فيه الغرر.
ولو سلمنا بوجود الحاجة للتأمين في الوقت الحاضر، فإن الحاجة إلىه غير متعينة؛ إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس، والذي يسعى إلى الربح، وهو شركة الضمان، فيكون التأمين عقد معاوضة مشتملاً على غرر كثير من غير حاجة متعينة في الإسلام، فيمنع.
وإذا سلَّمنا بكون الحاجة متعينة، جاز التأمين بالقدر الذي يزيل الحاجة فقط، عملاً بالقاعدة الشرعية: (الحاجة تقدر بقدرها).
ومما يدل على فساد التأمين: أن الغرر المفسد للعقد يشترط فيه أن يكون المعقود عليه أصالة، وهذا متحقق في عقد التأمين التجاري.

(5/3426)


ويفهم من اشتمال التأمين على الغرر اشتماله أيضاً على الجهالة، والجهالة في البدلين بارزة في التأمين، وهي جهالة مقدار ما يدفعه كل من طرفي العقد (المؤمِّن والمستأمن) للآخر، وهو قابل للكثرة والقلة، بل إن ما يدفعه المؤمن بدلاً أو عوضاً عن الضرر أو الهلاك على خطر الوجود، والخطر الذي هو مسوغ العقد قد يقع وقد لا يقع، وكل هذا يجعل الجهالة فاحشة كثيرة تؤدي إلى إبطال العقد.
ويكون عقد التأمين ممنوعاً شرعاً لاشتماله على فاحش الغرر والجهالة. ولايؤبه بالعلم بمبلغ كل قسط عند حلول ميعاده، فهو صحيح أنه مبلغ معلوم، لكن كمية الأقساط هي التي فيها الجهالة، ورضا المؤمن بدفع التعويض عند وفاة المستأمن أو حدوث حادث له، ضمن مدة محددة بالعقد، مهما بلغ عدد الأقساط قلة وكثرة، لا قيمة له؛ لأنه رضا مخالف لقواعد الشرع ونصوصه المانعة من الغرر، كالرضا في القمار أو الزنى لا يحل واحداً منهما.
وكون الجهالة فاحشة فإنها توثر في العقد وتبطله، ولو لم تفض إلى المنازعة، أما الجهالة اليسيرة غير المفضية إلى النزاع فهي المغتفرة. والجهالة في التأمين أفحش مما صوره الفقهاء للجهالة الفاحشة المفضية إلى النزاع وإفساد عقد البيع مثلاً، كبيع الفجل والجزر في الأرض، فهذان موجودان في الأرض، ولكنهما مجهولان على طريق الظهور والعلم، أما في التأمين فبدل الهلاك أو عوض التأمين مرجوح الوجود، قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا احتمال يضعف مشروعية العقد.
لكل ما سبق وغيره من الموانع لا يحل للتاجر وغيره من المستأمنين أخذ بدل الهالك من مال (السوكرة) أو التأمين؛ لأنه مال لا يلزم من التزم به، كما قال ابن عابدين: ولأن اشتراط الضمان على الأمين باطل كما قرر فقهاء الحنفية.

(5/3427)


والخلاصة: يشتمل التأمين ذي القسط الثابت على خمسة أسباب تجعله حراما ً (1):
1ً - الربا: ففي عوض التأمين زيادة على الأقساط المدفوعة بلا عوض، وهو ربا، وتستثمر شركات التأمين أموالها في أنشطة ربوية، وتحتسب فائدة على المستأمن إذا تأخر في سداد الأقساط المستحقة.
2ً - الغرر: إن مقابل التأمين يكون على أمر احتمالي غير ثابت ولا محقق الوجود وهذا غرر. وقد تغرم شركات التأمين مبلغاً كبيراً دون مقابل، بناء على الغرر.
3ً - الغبن: يشتمل التأمين على غبن لعدم وضوح محل العقد، والعلم بالمحل شرط لصحة العقد.
4ً - القمار: في التأمين مخاطرة لتعريض النفس والمال لفرصة مجهولة، وهذا هو القمار بعينه، والمستأمن يبذل اليسير من المال في انتظار أخذ مبلغ كبير، وهذا قمار.
5ً - الجهالة: ما يدفعه المستأمن مجهول القدر لكل من العاقدين كما هو واضح في التأمين على الحياة، ويتعامل العاقدان بموجب عقد لا يعرف ما يحققه من الربح أو الخسارة.
إعادة التأمين أو التأمين المركَّب:
إن مبدأ التعاون في التأمين يتحقق بتجزئة المصائب وتوزيع نتائجها على أكبر عدد ممكن، فبقدر ما يزداد عدد المستأمنين تزداد تجزئة الأضرار وتوزيعها، فهي
_________
(1) المعاملات المالية المعاصرة للدكتور علي السالوس: ص 380 وما بعدها.

(5/3428)


عملية تفتيت وتشتيت للأضرار المؤمن منها، ولهذا التشتيت وسائل كثيرة، منها ما يسمى ب إعادة التأمين أو التأمين المركب، حيث تلجأ شركة التأمين نفسها إلى التأمين مما يلحقها من تعويضات لدى شركات عالمية كبرى.
وإعادة التأمين له حكم أصل التأمين، فيجوز لشركات التأمين التعاوني التأمين لدى شركات تعاونية أخرى. أما إعادة التأمين التجاري فتطبق عليه أحكام التأمين التجاري ذاته، فهو عقد تأمين تجاري يكون المستأمن فيه شركات التأمين بدلاً من الأفراد.
وضوابط الغرر المؤثر والمفسد للعقد (وهي كون الغرر في عقد معاوضة، وكونه كثيراً، وكونه المعقود عليه أصالة، وألا تدعو إلى العقد حاجة) تقضي بمنع إعادة التأمين، إلا إذا دعت إليه الحاجة المتعينة، كما ذكرت هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي في السودان في الفتوى رقم (16 و 17)، أي هل تكون شركات التأمين في مشقة وحرج إذا لم تتعامل مع شركات إعادة التأمين؟.
ترى هذه الهيئة وأؤيدها في فتواها جواز إعادة التأمين، لوجود الحاجة المتعينة كما قدر خبراء البنك بالشروط التالية التي سموها بالملحوظات والتحفظات:
1 - أن يقلل ما يدفع لشركة إعادة التأمين إلى أدنى حد ممكن (وهو القدر الذي يزيل الحاجة) عملاً بقاعدة (الحاجة تقدر بقدرها). وتقدير ما يزيل الحاجة متروك لخبراء البنك.
2 - ألا تتقاضى شركة التأمين التعاوني عمولة أرباح، ولا أية عمولة أخرى من شركة إعادة التأمين.

(5/3429)


3 - ألا تحتفظ شركة التأمين التعاوني بأي احتياطات عن الأخطار السماوية؛ لأن حفظها يترتب عليه دفع فائدة ربوية لشركة إعادة التأمين.
4 - ألا تدخل شركة التأمين التعاوني في طريقة استثمار شركة إعادة التأمين لأقساط إعادة التأمين المدفوعة لها، وألا تطالب بنصيب في عائد استثماراتها، وألا تسأل عن الخسارة التي تتعرض لها.
5 - أن يكون الاتفاق مع شركة إعادة التأمين لأقصر مدة ممكنة.
6 - أن تعمل شركة التأمين التعاوني على إنشاء شركة إعادة تأمين تعاوني، تغنيه عن التعامل مع شركات إعادة التأمين التجاري.
هذا ما أدين الله عليه، وما أزال أستغرب وأستهجن كلام القائلين بمشروعية التأمين التجاري، ولم أجد حاجة لتفنيد أدلتهم، فقد كثر الرد عليها في المجلات والمؤلفات والبحوث والمؤتمرات، بدءاً من أسبوع الفقه الإسلامي بدمشق من 1 - 6 نيسان (1961م)، وانتهاء بقرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في شعبان (1398هـ) بمكة المكرمة، بمقر رابطة العالم الإسلامي. ومن أراد الطمأنينة القلبية لحرمة التأمين وإبطال حجج القائلين بالجواز، فليرجع إلى بحوث الأسبوع المذكور في دمشق وإلى قرار هذا المجمع، والله يهدينا إلى سواء السبيل.

التأمينات الاجتماعية: إن التأمينات الاجتماعية التي تدفعها الدولة أو صندوق المعاشات والتأمين أو مصلحة التأمينات للعمال والعاملين والموظفين في الدولة كلها في تقديري جائزة؛ لأن الدولة ملزمة برعاية مواطنيها في حال العجز والشيخوخة والمرض ونحو ذلك من إعاقة العمل أو الكسب، ولا ينظر إلى الضريبة التي تقتطعها الدولة من الراتب الشهري، أو التي يدفعها شهرياً أرباب العمل لمصلحة التأمينات الاجتماعية، أو المبلغ الذي يدفعه العامل أو الموظف

(5/3430)


باختياره في حدود نسبة مئوية كل سنة، ليحصل على تعويض إجمالي عند الإحالة على التقاعد أو المعاش، فكل هذه المدفوعات لا ينظر إليها نظرة ربوية، وإن أخذ الموظف أو العامل أكثر مما دفع؛ لأن المدفوع في الحقيقة يعد تبرعاً أو هبة مبتدأة وتعاوناً من قبل المشتركين في الصندوق التقاعدي أو التأمينات الاجتماعية، والتي هي إحدى مؤسسات الدولة.

4 - بيع النجس والمتنجس:
قال الحنفية: لا ينعقد بيع الخمر والخنزير والميتة والدم؛ لأنها ليست بمال أصلاً. ويكره بيع العَذِرة، ولا بأس ببيع السرقين أو السرجين: وهو (الزبل) وبيع البعر، لأنه منتفع به، لأنه يلقى في الأرض لاستكثار الريع، فكان مالاً، والمال محل للبيع بخلاف العذرة، لأنه لا ينتفع بها إلا مخلوطة، ويجوز بيع المخلوط كالزيت الذي خالطته النجاسة.
ويصح عندهم بيع كل ذي ناب من السباع، كالكلب والفهد والأسد والنمر والذئب والهر ونحوهما؛ لأن الكلب ونحوه مال، بدليل أنه منتفع به حقيقة، مباح الانتفاع به شرعاً على الإطلاق كالحراسة والاصطياد، فكان مالاً. ويصح بيع الحشرات والهوام كالحيات والعقارب إذا كان ينتفع به.
ويصح بيع المتنجس والانتفاع به في غير الأكل كالدبغ والدهان والاستضاءة به في غير المسجد، ما عدا دهن الميتة، فإنه لا يحل الانتفاع به.
والضابط عندهم: أن كل ما فيه منفعة تحل شرعاً، فإن بيعه يجوز (1)، لأن الأعيان خلقت لمنفعة الإنسان، بدليل قوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2].
_________
(1) البدائع: 5 ص 142 ومابعدها، فتح القدير: 5 ص 188، 8 ص 122، الفقه على المذاهب الأربعة: 2 ص 231 ومابعدها.

(5/3431)


وقال المالكية: لا ينعقد بيع الخمر والخنزير والميتة لحديث جابر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جملوه ـ أذابوه ـ ثم باعوه فأكلوا ثمنه» (1) وقال في الخمر: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» (2).
ولا ينعقد بيع الكلب مع كونه طاهراً، سواء أكان كلب صيد أم حراسة، لأنه نهي عن بيعه، ففي الحديث: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن» (3). وقال سحنون: أبيعه وأحج بثمنه.
ولا ينعقد بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره، كزيت وعسل وسمن وقعت فيه نجاسة. أما المتنجس الذي يمكن تطهيره، كثوب، فإنه يجوز بيعه.
ولا ينعقد أيضاً بيع ما نجاسته أصلية كزبل ما لا يؤكل لحمه، وكعذرة وعظم ميتة، وجلدها، ويصح بيع روث البقر وبعر الغنم والإبل ونحوها للحاجة إليها لتسميد الأرض وغيره من ضروب الانتفاع (4).
_________
(1) رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد والموطأ عن جابر بن عبد الله (انظر جامع الأصول: 1 ص 375، سبل السلام: 3 ص 5).
(2) رواه مسلم والموطأ النسائي عن عبد الرحمن بن وعلة رحمه الله أن ابن عباس روى له هذا الحديث (انظر جامع الأصول: 1 ص 377).
(3) رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد عن أبي مسعود الأنصاري ـ عقبة بن عمرو (انظر نيل الأوطار: 5 ص 143، نصب الراية: 4 ص 52).
(4) حاشية الدسوقي: 3 ص 10 ومابعدها، الحطاب على متن خليل: 4 ص 258 ومابعدها، بداية المجتهد: 2 ص 125 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 246.

(5/3432)


وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز بيع الخنزير والميتة والدم والخمر، وما أشبه ذلك من النجاسات، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله حرم (1) بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» ولأنه يجب اجتناب النجس وعدم الاقتراب، والبيع وسيلة إلى الاقتراب (2).
ولا يجوز بيع الكلب ولو كان معلَّماً للنهي الوارد فيه في الحديث السابق: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب .. ».
ولا يصح بيع ما لا منفعة فيه كالحشرات وسباع البهائم التي لا تصلح للاصطياد، كالأسد والذئب، والطيور التي لا تؤكل، ولا تصطاد، كالرخمة والحدأة والغراب؛ لأن ما لا منفعة فيه لا قيمة له، فأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل، وبذل العوض فيه من السفه.
ولا يجوز بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره من النجاسة كالخل والدبس، ولكن يصح بيع المتنجس الذي يمكن تطهيره كالثوب ونحوه.
ولا يجوز بيع السرجين ونحوه من النجاسات (3)، إلا أن الحنابلة أجازوا بيع السرجين الطاهر كروث الحمام وكل ما يؤكل لحمه.
والخلاصة: أن فقهاء الحنفية والظاهرية يجيزون بيع النجاسات للانتفاع بها إلا ما ورد النهي عن بيعه منها؛ لأن جواز البيع يتبع الانتفاع، فكل ما كان منتفعاً به
_________
(1) رواية الصحيحين هكذا بإفراد الضمير، وفي بعض الطرق «إن الله حرم» وفي رواية سبق ذكرها «إن الله ورسوله حرما».
(2) وهناك طريقة عند الشافعية لمبادلة النجاسات المنتفع بها وهي طريقة (رفع اليد) بأن يقول البائع: رفعت يدي عن هذا الشيء بكذا.
(3) المهذب: 1 ص 261، مغني المحتاج: 2 ص 11، المغني: 4 ص 251، 255 ومابعدها، غاية المنتهى: 2 ص 6 ومابعدها، أصول البيوع الممنوعة: ص 41.

(5/3433)


جاز بيعه عندهم. وأما فقهاء المالكية والشافعية والمشهور عند الحنابلة: فلا يجيزون بيع النجاسات؛ لأن جواز البيع يتبع الطهارة، فكل ما كان طاهراً، أي مالاً يباح الانتفاع به شرعاً يجوز بيعه عندهم.

5 - بيع العربون:
في العربون ست لغات أفصحها فتح العين والراء، وضم العين وإسكان الراء. وعربان بالضم والإسكان، وهو أعجمي معرب، وأصله في اللغة: التسليف والتقديم.
وبيع العربون: هو أن يشتري الرجل شيئاً، فيدفع إلى البائع من ثمن المبيع درهماً، أو غيره مثلاً، على أنه إن نفذ البيع بينهما احتسب المدفوع من الثمن، وإن لم ينفذ، يجعل هبة من المشتري للبائع (1). فهو بيع يثبت فيه الخيار للمشتري: إن أمضى البيع كان العربون جزءاً من الثمن، وإن رد البيع فقد العربون، ومدة الخيار غير محددة بزمن، وأما البائع فإن البيع لازم له.
قال بعض الحنابلة (2): لابد أن تقيَّد فترة الانتظار بزمن محدد وإلا فإلى متى ينتظر البائع؟
واختلف فيه العلماء، فقال الجمهور: إنه بيع ممنوع غير صحيح، فاسد عند الحنفية، باطل عند غيرهم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان (3) ولأنه من باب
_________
(1) يلاحظ أن هذا البيع وإن كان فاسداً بحسب قواعد الحنفية، لأن الفساد يرجع للثمن، إلا أني ذكرته في أنواع البيع الباطل، لأن الغالب بقاؤه على الفساد فيصبح باطلاً، ولأن فيه غرراً.
(2) غاية المنتهى: 2 ص 26.
(3) هذا حديث منقطع رواه أحمد والنسائي وأبو داود وهو لمالك في الموطأ، وفيه راو لم يسم، وسمي في رواية، فإذا هو ضعيف، وفيه طرق لاتخلو عن مقال، وهو مروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفسر الإمام مالك بيع العربان، فقال: «هو أن يشتري الرجل العبد أو الأمة أو يكتري، ثم يقول للذي اشترى منه أو اكترى منه: أعطيتك ديناراً أو درهماً على أني إن أخذت السلعة فهو من ثمنها وإلا فهو لك» (انظر سبل السلام: 3 ص 17، نيل الأوطار: 5 ص 153، الموطأ: 2 ص 151).

(5/3434)


الغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض، ولأن فيه شرطين فاسدين:
أحدهما ـ شرط الهبة، والثاني ـ شرط الرد على تقدير ألا يرضى، ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن يكون له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهماً. وهذا هو مقتضى القياس (1).
وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به ودليله ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث زيد بن أسلم أنه «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأحله» (2) وما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث: «أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر، كان البيع نافذاً، وإن لم يرض فلصفوان أربع مئة درهم». وضعف أحمد الحديث المروي في بيع العربان، وقد أصبحت طريقة البيع بالعربون في عصرنا الحاضر أساساً للارتباط في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار (3).
وفي تقديري أنه يصح ويحل بيع العربون وأخذه عملاً بالعرف؛ لأن الأحاديث الواردة في شأنه عند الفريقين لم تصح. وهذا هو قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة في بروني في غرة المحرم 1414هـ.
_________
(1) بداية المجتهد: 2ص161، الشرح الكبير للدردير: 3ص63، القوانين الفقهية: ص258، مغني المحتاج: 2ص39، نيل الأوطار: 5ص153، المنتقى على الموطأ: 4ص157، شرح المجموع للإمام النووي: 9ص368.
(2) حديث مرسل وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف (نيل الأوطار: 153/ 5).
(3) المغني: 4 ص 232، انظر مصادر الحق للسنهوري: 2ص96 ومابعدها، المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 234. وكذلك صحح الحنابلة الإجارة بالعربون (راجع غاية المنتهى: 2ص26).

(5/3435)


6 - بيع الماء:
عرفنا سابقاً أنه يشترط في المعقود عليه كونه مالاً محرزاً، أي مملوكاً لواحد من الناس، فلا ينعقد بيع شيء غير محرز كالماء والهواء والتراب، فما المقصود بالماء، وما مذاهب العلماء في تملكه وبيعه؟

قال الحنفية: المياه أربعة أنواع (1):
الأول - ماء البحار: وهو مشاع لجميع الناس، ولكل إنسان حق الانتفاع به على أي وجه شاء كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء، فله أن ينتفع به لحوائجه الخاصة ولسقاية أراضيه، أي أن له ما يسمى بحق الشَفة وحق الشِّرب (2) أو سقي الأراضي الزراعية والأشجار.
الثاني ـ ماء الأودية العظام، مثل أنهار دجلة والفرات والنيل وبردى والعاصي وسيحون وجيحون ونحوها من الأنهار العامة. وللناس فيها حق الشفة مطلقاً، وحق سقي الأراضي إن لم يضر السقي بمصلحة الجماعة، فإن أضر بهم فلا يجوز السقي؛ لأن دفع الضرر العام واجب، ويجوز أيضاً تركيب المطاحن المائية على هذه الأنهار إن لم يكن هناك ضرر عام.
الثالث ـ الماء المملوك لجماعة مخصوصة كأهل قرية تختص بنهر صغير أو عين ماء أو بئر. ومنه الماء المأخوذ من الأنهار العامة الذي يجري في المقاسم، أي المجاري المملوكة بشق الجداول ونحوها. ويثبت فيه لكل إنسان حق الشفة فقط
_________
(1) راجع تكملة فتح القدير والهداية: 8 ص 144، رد المحتار على الدر المختار: 5ص311.
(2) الشفة - بفتحتين: وحق الشفة: هو الشرب بالشفاه بأن يتناول الإنسان بفمه ماشاء منه، ويسقي بهائمه لدفع العطش، ويغسل به حوائجه ونحو ذلك. والشرب بكسر الشين: هو لغة النصيب من الماء، وشرعاً: نوبة الانتفاع بالماء (أي وقته وزمنه) لسقي الزراعة والدواب.

(5/3436)


للضرورة المقتضية إباحته لاحتياج الناس إلىه، ولعدم إمكان استصحاب الماء إلى كل مكان.

الرابع ـ الماء المحرز في الأواني، وهو مملوك لمن أحرزه، ولا حق فيه لأحد غير صاحبه، ولا يجوز الانتفاع به إلا بإذن مالكه.
يظهر من هذا أن الماء بالنسبة للتملك والبيع إما مباح، أو غير مباح، والمباح حق للجميع لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار» (1) والمقصود بالمباح: ما يشمل النوعين الأولين، وهو ما لا يختص به أحد من الناس. وغير المباح أو المملوك: هو ما يدخل تحت الملكية سواء أكانت لفرد أم لجماعة، ويشمل النوعين الآخرين.
وهذا هو المعنى المقصود أيضاً عند المالكية والشافعية والحنابلة (2) وقد يسمى هذان النوعان: الماء الخاص والماء العام. فالأول: هو الماء المتملك في الأرض المملوكة كالبئر والعين. والثاني: هو غير المتملك في أرض غير مملوكة كالأنهار والعيون.

حكم بيع الماء: اتفق العلماء على أنه يستحب بذل الماء بغير ثمن حتى ولو كان مملوكاً ولا يجبر المالك على بذل الماء، إلا في حال الضرورة بأن يكون قوم اشتد بهم العطش، فخافوا الموت، فيجب عليه سقيهم، فإن منعهم، فلهم أن يقاتلوه عليه.
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنفه من حديث رجل من الصحابة. وأخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، ورواه الطبراني عن ابن عمر (نصب الراية: 4 ص 294).
(2) راجع القوانين الفقهية: ص 339، المهذب: 1ص427 ومابعدها، المغني: 4ص78 ومابعدها.

(5/3437)


ولكن الحنفية فصلوا فيما يباح به القتال فقالوا: يجوز للمضطر أن يقاتل بالسلاح مالك الماء في الحوض أو البئر أو النهر الذي في ملكه لأنه قصد إتلافه بمنع حقه وهو الشفة، والماء في البئر مباح غير مملوك. أما إن كان الماء محرزاً في الأواني، فيقاتل المضطر بغير السلاح، ويضمن له ما أخذ كما في حال أخذ الطعام عند المخمصة، لأن حل الأخذ للاضطرار لا ينافي الضمان. هذا إذا كان الماء فاضلاً عن حاجة مالكه بأن كان يكفي لدفع الرمق لكل منهما، وإلا وجب تركه لمالكه (1).
أما بيع الماء فللعلماء فيه رأيان مشهوران: رأي الجمهور، ورأي الظاهرية.

أولاً ـ قال جمهور العلماء (2): يجوز بيع غير المباح للناس جميعاً كماء البئر والعين والمحرز في الأواني ونحوها، ولصاحبه أن ينتفع به لنفسه، ويمنع غيره من الانتفاع. فله أن يمنع صاحب الحق في الشفة من الدخول في ملكه إذا كان يجد ماء بقربه، فإن لم يجد، يقال لصاحب البئر ونحوه: إما أن تخرج الماء إليه، أو تتركه ليأخذ الماء.
واستدلوا على الجواز بدليلين:
1 - ثبت في الحديث الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه اشترى بئر رُومة من اليهودي في المدينة، وسبّلها أو حبسها على المسلمين، وذلك بعد أن سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «من يشتري بئر رومة، فيوسع بها على المسلمين وله الجنة» وكان اليهودي يبيع ماءها للناس. فهذا الحديث كما يدل على جواز بيع البئر
_________
(1) رد المحتار والدر المختار: 5 ص 313، تكملة فتح القدير: 8 ص 145.
(2) البدائع: 5 ص 146، رد المحتار: 5ص311 - 312، 4ص6، القوانين الفقهية: ص339، المهذب، المكان السابق، المجموع: 9ص278، المغني: 4ص79، غاية المنتهى: 2ص9، 277.

(5/3438)


نفسها، وكذلك العين بالقياس عليها، يدل على جواز بيع الماء، لتقريره صلّى الله عليه وسلم اليهودي على البيع. ونوقش هذا بأنه كان في صدر الإسلام وكانت شوكة اليهود في ذلك الوقت قوية، والنبي صلّى الله عليه وسلم صالحهم في مبدأ الأمر على ما كانوا عليه، ثم استقرت أحكام الشريعة، التي شرع فيها للأمة تحريم بيع الماء. ثم إن الماء هنا داخل في البيع تبعاً لبيع البئر، وهذا لا خلاف فيه (1).
2 - يقاس بيع الماء المباح على بيع الحطب بعد إحرازه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم أقر بيعه بقوله: «لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس» (2) ونوقش ذلك بأن تخصيص النص بالقياس مختلف فيه بين علماء الأصول، وبأن هذا القياس يقتضي جواز بيع الماء المحرز فقط، دون ماء البئر ونحوه.

ثانياً ـ قال الظاهرية (3): لا يحل بيع الماء مطلقاً، لا في ساقية ولا في نهر، ولا في عين، ولا في بئر، ولا في صهريج، ولا مجموعاً في قربة ولا في إناء، إلا أن تباع البئر كلها أو جزء مسمى منها، فيجوز البيع حينئذ، ويدخل الماء تبعاً للمبيع الأصلي.
وقال أحمد في رواية عنه: لا يعجبني بيع الماء البتة.
واحتج هؤلاء على المنع بما يأتي:
_________
(1) نيل الأوطار: 5 ص 146.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 4 ص 162، الجامع الصغير: 2 ص 122).
(3) المحلى: 9 ص 8.

(5/3439)


1 - ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ» (1) فهذا النفي يدل على النهي عن بيع الماء الزائد عن الحاجة. ونوقش ذلك بأن النهي قد ورد على حالة خاصة: وهي أن يقصد ببيع الماء حماية الكلأ الذي حوله ويحتاج إلىه الرعاء لرعي مواشيهم له.
2 - صح أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع فضل الماء» (2) هذا الحديث صريح بتحريم بيع فضل الماء وهو الفاضل عن كفاية صاحبه، سواء أكان في أرض مباحة، أم في أرض مملوكة، وسواء أكان للشرب أم لغيره. ونوقش ذلك بأنه معارض بحديث بئر رومة السابق ذكره، أو بأنه محمول على حالة خاصة كما ذكر.
وإني أرى أن النهي عن بيع فضل الماء يقصد به الماء الكثير كماء الآبار والعيون والأمطار التي تجتمع في أرض مملوكة، ويكون منعها عبثاً لا معنى له (3).

المطلب الثاني ـ أنواع البيع الفاسد البيع الفاسد في اصطلاح الحنفية كما تقدم: ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفه ويفيد الملك بالقبض. وعند غير الحنفية: البيع إما صحيح أو باطل، وغير الصحيح لا يفيد الملك أصلاً.
وسأذكر هنا أمثلة من أنواع البيوع الفاسدة عند الحنفية، مع الإشارة إلى حكمها عند غيرهم.
_________
(1) أخرجه مسلم عن أبي هريرة، وأخرجه البخاري وأحمد وأحمد أيضاً بلفظ آخر (نيل الأوطار: 5 ص 303).
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن اياس بن عبد (نيل الأوطار: 5 ص 145).
(3) راجع أصول البيوع الممنوعة: ص 46 ومابعدها.

(5/3440)


1 - بيع المجهول:
قال الحنفية: إذا كان المبيع أو الثمن مجهولاً جهالة فاحشة وهي التي تفضي إلى المنازعة، فسد البيع؛ لأن هذه الجهالة مانعة من التسليم والتسلم، فلا يحصل مقصود البيع.
فإن كان مجهولاً جهالة يسيرة وهي التي لا تؤدي إلى المنازعة، لا يفسد البيع؛ لأن هذه الجهالة لا تمنع من التسليم والتسلم، فيحصل مقصود البيع.
والعرف هو المحكم في بيان نوع الجهالة: يسيرة أو فاحشة. فإذا لم يبين مثلا ً جنس الحيوان أو لم يبين «ماركة» المذياع أو آلة التصوير، يعد المبيع مجهولاً جهالة فاحشة تمنع من صحة العقد على بيعه، إذ تؤدي حتماً إلى نزاع شديد بين المتعاقدين (1).

ومن الجهالة اليسيرة:
أن يبيع شخص قفيزاً (2) من صُبرة معينة بدراهم، أو عِدلاً من الثياب بكذا، ولا يعرف عددها، أو هذه الصبرة بكذا، ولا يعلم عدد القفزان: جاز البيع (3) لزوال الغرر، ولأن الجهالة مغتفرة لا تفضي إلى المنازعة عادة. ومثله أن يبيع أحد الشيئين أو الثلاثة دون ما زاد عليها، مع اشتراط المشتري الخيار لنفسه بين أن يأخذ واحداً ويرد الباقي، وهو المعروف بخيار التعيين، يصح البيع استحساناً، والقياس أن يفسد البيع وهو قول زفر.
_________
(1) الأموال ونظرية العقد: ص 312.
(2) القفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك: صاع ونصف، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغدادي تقريباً، والرطل مئة وثلاثون درهماً، والدرهم (975،2 غم).
(3) البدائع: 5 ص 157 ومابعدها، المهذب: 1 ص 263.

(5/3441)


وجه القياس: هو أن المبيع مجهول، لأنه باع أحد الشيئين، وهو غير معلوم، فكان المبيع مجهولاً، فيمنع صحة المبيع، كما لو باع أحد الأثواب الأربعة، وذكر الخيار، وعليه فلا يجيز زفر خيار التعيين.
وأما وجه الاستحسان فهو:
أولاً ـ القياس على مشروعية خيار الشرط، والجامع بينهما مساس الحاجة إلى دفع الغبن، وكل واحد من الخيارين طريق إلى دفع الغبن، فورود الشرع في خيار الشرط يكون وروداً ههنا، والحاجة تتحقق بالتحري في ثلاثة أشياء، لاقتصار الأشياء في العادة على الجيد والوسط والرديء، فيبقى الحكم في الزيادة مردوداً إلى أصل القياس وهو أن يكون المبيع معلوماً، وعليه يكون بيع واحد من أربعة مثلاً مع الخيار فاسداً، لعدم حاجة الناس إلى تشريعه باعتبار أن أصناف الأشياء إجمالاً تتراوح بين جيد ووسط ورديء.
وثانياً ـ لأن الناس تعاملوا هذا البيع لحاجتهم إليه، فإن كل أحد لا يمكن أن يدخل السوق، فيشتري ما يحتاج إليه، وعلى التخصيص الأكابر (أي كبار السن) والنساء، فيحتاج الواحد من هؤلاء إلى أن يكلف غيره بشراء شيء، ولا تتحقق حاجته بشراء شيء واحد من جنس ما؛ لأنه قد لا يوافق حاجته أو رغبته، فيحتاج إلى أن يشتري أحد اثنين من الجنس، فيحملهما الشخص إلى من كلفه بالشراء، فيختار أيهما شاء، بالثمن المذكور، ويرد الباقي، فجاز الشراء لتعامل الناس، ولاتعامل فيما زاد على الأشياء الثلاثة، فيبقى الحكم فيه على أصل القياس (1).
ويلاحظ أن الأصح عند الحنفية في هذه الحالة عدم اشتراط تعيين مدة للخيار، كما في المدة المشترطة في خيار الشرط وهي: (ثلاثة أيام فما دونها عند
_________
(1) البدائع: 157/ 5، فتح القدير: 130/ 5، 197.

(5/3442)


أبي حنيفة. وعند الصاحبين: ثلاثة أيام وما زاد عليها بعد أن يكون الوقت معلوماً) فيصح البيع من غير ذكر المدة.
وقال بعض الحنفية: لا يجوز هذا البيع إلا بذكر مدة خيار الشرط؛ لأن المبيع لو كان شيئاً واحداً معيناً، وفيه خيار شرط، فإن بيان المدة شرط لصحة البيع، فكذا إذا كان واحداً غير معين. والجامع بينهما: أن ترك التوقيت تجهيل لمدة الخيار، وأنه مفسد للبيع.
واستدل الأولون: بأن هناك فرقاً بين خيار الشرط وخيار التعيين: وهو أن خيار الشرط يمنع ثبوت حكم البيع، وهو نقل الملكية في مدة الخيار، فكان توقيت المدة أمراً ضرورياً في حدود الحاجة إلى دفع الغبن بالتأمل في صلاحية المبيع. أما خيار التعيين فلا يمنع ثبوت حكم البيع بل يثبت الحكم في أحد الشيئين غير معين، وإنما يمنع تعين المبيع فقط، فلا يشترط له بيان المدة.

ومن الجهالة الفاحشة أن يبيع إنسان أحد الأشياء الأربعة، أو شاة من قطيع على أنه بالخيار بين أن يأخذ واحداً منها ويرد الباقي، وكذا إذا اشترى أحد الأشياء الثلاثة أو أحد الشيئين، ولم يذكر فيه الخيار، فلا يجوز بيع ثوب من ثوبين، أو من أثواب ثلاثة مثلاً، ويكون البيع فاسداً لجهالة المبيع، وهي جهالة تفضي إلى المنازعة؛ لأن البائع يريد إعطاء الرديء، والمشتري يريد أخذ الجيد بحجة عدم التعيين (1).
وفي الجملة: إن الجهالة الفاحشة ترجع غالباً إلى أربع جهات (2) ذكرتها سابقاً:
_________
(1) المرجعان السابقان، الدر المختار بهامش رد المحتار لابن عابدين: 115/ 4.
(2) عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 26.

(5/3443)


الأولى ـ جهالة المبيع: جنساً أو نوعاً أو قدراً بالنسبة إلى المشتري، وقد أوردت بعض الأمثلة عليها.
الثانية ـ جهالة الثمن: كما إذا باع الفرس بمئة شاة من هذا القطيع ونحوه فيكون العقد فاسداً لجهالة الثمن.
وكذا إذا باع هذا الثوب بقيمته، يكون البيع فاسداً، لأنه جعل ثمنه قيمته، والقيمة تختلف باختلاف تقويم المقومين، فكان الثمن مجهولاً.
وكذا لو اشترى شخص بحكم البائع أو المشتري أو بحكم فلان، يكون البيع فاسداً، لأنه لا يدري بماذا يحكم فلان، فكان الثمن مجهولاً.
وإذا قال: (بعتك هذا بقفيز حنطة أو بقفيزي شعير) يكون البيع فاسداً؛ لأن الثمن مجهول. وقيل: إنه البيعان في بيع، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن البيعتين في بيعة (1). وإذا قال: (إن أخذته حالاً بخمسة وإن أخذته مؤجلاً بسبعة) فالبيع فاسد، لأنه لم يستقر الثمن على شيء، هل حالاً أو مؤجلاً؟ فلو رفع الإبهام وقبل على إحدى الصورتين، صح.
وكذا البيع برأس المال المجهول أو بالرقم (2) (بسكون القاف) دون أن يعلم
_________
(1) رواه الموطأ والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (انظر جامع الأصول: 446/ 1).
(2) وهو أن يعلم البائع على الثوب بعلامة كالكتابة يعلم بها الدلال أو غيره ثمن الثوب ولايعلم المشتري ذلك المقدار (العناية: 113/ 5) ففي هذا البيع جهالة بذات المبيع ووصفه. وصورته: أن يكون هناك سلع متعددة تتفاوت أجناسها وقيمها، وكل سلعة منها ذات رقم خاص يختلف عن أرقام سواها، فيدفع المشتري قدراً من المال، ويأخذ ورقة تحمل رقماً خاصاً، فما وافق رقمه من السلع كان هو المبيع الذي يستحقه في نظير مبلغه، قل أو كثر، فيؤدي ذلك إلى فقد عنصر الاختيار والإرادة، وهذا يشبه بيع الحصاة الذي كان سائداً في الجاهلية (انظر أصول البيوع الممنوعة للأستاذ عبد السميع: ص72، 75) والخلاصة: أن الرقم: هو الكتاب، ورقم الثوب كتابه، ومعنى بيع السلعة برقمها: هو أن يبيعها بما هو مكتوب فيها من الثمن، ولا يعلم به المشتري حتى ينظره بعد العقد، ومنه قوله تعالى: {كتاب مرقوم} [المطففين:9/ 83] (هامش المهذب: 266/ 1)، واتفقت المذاهب الأربعة والظاهرية على عدم جواز بيع شيء بما رقم أي كتب عليه من الثمن المجهول القدر.

(5/3444)


المشتري رقمه ولا رأس ماله فالبيع فاسد، فإن علم المشتري رأس ماله أو رقمه في مجلس البيع، فإنه يعود جائزاً استحساناً؛ لأن المانع من الجواز هو الجهالة عند العقد وقد زالت في المجلس، ولما كان للمجلس حكم حالة العقد، فقد صار كأنه كان معلوماً عند العقد، فإذا لم يعلم حتى تفرقا تقرر الفساد (1).
وقال زفر: إذا وقع العقد فاسداً من حين وجوده لايحتمل الجواز بحال، لاستحالة انقلاب الفاسد جائزاً عنده (2).
وهذا متفق عليه بين المذاهب لجهالة الثمن، فإن علم الثمن فلابأس اتفاقاً أن يبيع بالرقم، بمعنى أن يقول: بعتك هذا الثوب برقمه، وهو الثمن المكتوب عليه، إذا كان معلوماً لهما حال العقد؛ لأنه بيع بثمن معلوم (3).
ولايجوز البيع عند الفقهاء بما ينقطع عليه السعر في السوق، أو بما يبيع الناس أو بما يقول فلان لجهالة الثمن، وقد نقل عن الإمام أحمد جواز البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس وتعاملهم به في كل زمان ومكان، وقد رجح جوازه ابن تيمية وابن القيم. والمراد به سعر السوق وقت البيع لا أي سعر في المستقبل (4).
_________
(1) البدائع: 158/ 5، رد المحتار: 30/ 4، فتح القدير مع العناية: 113/ 5، المبسوط: 49/ 13.
(2) البدائع: 124/ 6.
(3) مغني المحتاج: 17/ 2، المغني: 187/ 4.
(4) راجع مغني المحتاج: 17/ 2، المهذب: 266/ 1، القوانين الفقهية: ص 257، الشرح الكبير للدردير: 15/ 3، غاية المنتهى: 14/ 2، أعلام الموقعين: 5/ 4 ومابعدها، المحلى: 19/ 9، نظرية الضروة الشرعية للمؤلف: ص 178 ومابعدها.

(5/3445)


الثالثة ـ جهالة الأجل: كما إذا باع إلى أجل كذا أو كذا، فيفسد البيع لأن الأجهل مجهول. وكذا الجهالة في مدة خيار الشرط تفسد البيع، ودليل الفساد: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع حبل الحبلة» بحسب المعنى الذي فسره به ابن عمر راوي الحديث: وهوالبيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة مافي بطنها، ثم تلد التي ولدتها. فالنهي ورد على التأجيل إلى أجل مجهول.
ولو باع إلى قدوم الحاج والحصاد والدياس أو الدراس (دوس الحب بالقدم ونحوها) والقطاف (قطاف العنب) والجزاز (جز صوف الغنم) فالبيع فاسد؛ لأن هذه الجهالة مفضية إلى النزاع بسبب تقدم هذه الأوقات وتأخرها.
ولو باع شخص إلى هذه الآجال، ثم تراضى الطرفان على إسقاط الأجل قبل أن يأخذ الناس في الحصاد والدياس وقبل قدوم الحاج، جاز البيع؛ لأن الفساد للمنازعة، وقد ارتفع قبل تقرره، وهذه الجهالة ليست في صلب العقد، وإنما هي في أمر خارج: وهو الأجل (1).

الرابعة ـ الجهالة في وسائل التوثيق: كما لو اشترط البائع تقديم كفيل أو رهن بالثمن المؤجل فيجب أن يكونا معينين، وإلا فسد البيع.
هذا هو تفصيل مذهب الحنفية في بيع المجهول.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية: لا يجوز بيع عين مجهولة كسيارة من سيارات أو ثوب من ثوبين أو أثواب، ولا بيع بثمن مجهول ولا بثمن مؤجل إلى أجل مجهول ونحو ذلك، ويكون البيع حينئذ باطلاً، لوجود الغرر بسبب جهالة المبيع، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. ومن هنا قرروا في
_________
(1) فتح القدير: 322/ 5 ومابعدها، المبسوط: 26/ 13، رد المحتار: 125/ 4.

(5/3446)


ويلاحظ أن البيع إلى هذه الآجال فاسد، وأما تأجيل ثمن البيع إلى هذه الآجال فهو صحيح. شروط صحة البيع أن يكون المبيع معلوماً للمتعاقدين، لا من كل وجه، بل عيناً في المعين وقدراً وصفة فيما في الذمة، وأن يكون الثمن معلوم الصفة والقدر والأجل، فلا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء الشهر وقدوم الحاج، لأنه بيع غرر (1). إلا أن المالكية أجازوا البيع إلى الحصاد أو الجداد أو العصير أو خروج الحاج أوالنيروز والمهرجان والميلاد لأنها آجال معروفة، وأجازوا أيضاً البيع مع خيار التعيين، وسموه بيع الاختيار، لكنهم اشترطوا اتحاد جنس المبيعين وصنفهما واتحاد الثمن، فلو وجد اختلاف لم يصح البيع (2).
الفرق بين الغرر والجهالة: الغرر أعم من الجهالة، فكل مجهول غرر، وليس كل غرر مجهولاً، فقد يوجد الغرر بدون الجهالة كما في شراء الآبق المعلوم الصفة، ولكن لا توجد الجهالة بدون الغرر (3).

2 - البيع المعلق على شرط والبيع المضاف:
البيع المعلق على شرط أو العقد المعلق عموماً: هو ما علق وجوده على وجود أمر آخر ممكن الحصول بإحدى أدوات التعليق نحو إن وإذا ومتى ونحوها. مثاله: أن يقول شخص لآخر: بعتك داري هذه بكذا إن باع لي فلان داره، أو إن جاء والدي من السفر مثلاً.
والبيع المضاف أو العقد المضاف عموماً: هو ما أضيف فيه الإيجاب إلى زمن مستقبل، كأن يقول شخص لغيره: بعتك هذه السيارة بكذا من أول الشهر القادم.
_________
(1) حاشية الدسوقي: 15/ 3، المهذب: 263/ 1، 266، مغني المحتاج: 16/ 2، المغني: 209/ 4، 234، غاية المنتهى: 11/ 2، المحلى: 497/ 8 ومابعدها.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير: 106/ 3، القوانين الفقهية: ص 269، المنتقى على الموطأ: 298/ 4، وأجاز الظاهرية تأجيل الثمن إلى الميسرة (المحلى: 477/ 8 وما بعدها).
(3) الغرر وأثره في العقود: ص 39، الفروق للقرافي المالكي: 265/ 3، تهذيب الفروق بهامشه: 270/ 3 ومابعدها.

(5/3447)


والفرق بين هذين النوعين عند الحنفية: أن العقد المعلق لا يعد موجوداً ولاينعقد سبباً في الحال، وإنما هو معلق على وجود الشرط، والشرط قد يوجد وقد لايوجد.
وأما العقد المضاف فهو عقد تام يترتب عليه حكمه وآثاره إلا أن هذه الآثار يتأخر سريانها إلى الوقت الذي عينه العاقدان لها.

حكمهما: اتفق الفقهاء على عدم صحة البيع المعلق أو المضاف، لكن يسمى ذلك فاسداً في اصطلاح الحنفية، وعند غيرهم هو باطل.
وعلى هذا، فلا يصح تعليق البيع ولا إضافته إلى زمن في المستقبل؛ لأنه من عقود التمليكات للحال، وهي لا تقبل الإضافة للمستقبل، كما لا تعلق بالشرط لما فيه من المقامرة، أي التعليق بالخطر.
يظهر مما ذكر أن علة فساد هذين النوعين من البيوع: هو ما تشتمل عليه من الغرر، إذ لا يدري العاقدان في البيع المعلق هل يحصل الأمر المعلق عليه، أو لا يحصل، كما لا يدريان متى يحصل. وفي البيع المضاف لا يدري العاقدان كيف يكون المبيع في المستقبل، وكيف يكون رضاهما بالعقد ومصلحتهما فيه عند ترتب أثر البيع عليه (1).

3 - بيع العين الغائبة أو غير المرئية:
العين الغائبة: هي العين المملوكة للبائع الموجودة في الواقع، ولكنها غير مرئية.
_________
(1) انظر رد المحتار والدر المختار: 244/ 4، الفروق للقرافي: 229/ 1، المجموع للنووي: 374/ 9، المهذب: 266/ 1، المغني: 599/ 5، الأموال ونظرية العقد للمرحوم محمد يوسف موسى: ص451 وما بعدها، الغرر وأثره في العقود للزميل صديق الأمين: ص 137 - 149.

(5/3448)


قال الحنفية: يجوز بيع العين الغائبة من غير رؤية ولا وصف، فإذا رآها المشتري كان له الخيار: فإن شاء أنفذ البيع، وإن شاء رده. وكذلك المبيع على الصفة يثبت فيه خيار الرؤية، وإن جاء على الصفة التي عينها البائع كأن يشتري فرساً مجللاً «مغطى» أو متاعاً في صندوق أو مقداراً من الحنطة في هذا البيت.
ودليلهم على صحة البيع في الحالتين: أنه إذا كان للمشتري خيار الرؤية، فلا غرر عليه، فلا تؤدي الجهالة إلى النزاع مطلقاً، ما دام للمشتري الخيار (1).
واستدلوا أيضاً بحديث «من اشترى شيئاً لم يره، فهو بالخيار إذا رآه» (2).
وقال المالكية: يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه صفته قبل القبض. فإذا جاء على الصفة المذكورة كان البيع لازماً، إذ أن هذا من الغرر اليسير، والصفة تنوب عن المعاينة بسبب غيبة المبيع، أو المشقة التي تحصل في إظهاره، وما قد يلحقه من الفساد بتكرار الظهور والنشر مثلاً، بل وإن لم يكن في فتحه فساد. فإن خالف الصفة المتفق عليها فللمشتري الخيار. وكذلك أجاز المالكية في المشهور عندهم بيع الغائب بلا وصف لنوعه وجنسه في حالة معينة (3)،
_________
(1) البدائع: 163/ 5، فتح القدير: 137/ 5.
(2) روي مسنداً ومرسلاً، فالمسند أخرجه الدارقطني في سننه عن أبي هريرة. والمرسل رواه ابن أبي شيبة والدارقطني في سننيهما عن مكحول، نقل النووي اتفاق الحفاظ على تضعيفه (انظر نصب الراية: 9/ 4، المقاصد الحسنة: ص 403).
(3) مواهب الجليل 294/ 4 ومابعدها، الشرح الكبير: 25/ 3 ومابعدها، الشرح الصغير: 41/ 3 - 44، القوانين الفقهية: ص 257. هذا وقد ذكر المالكية خمسة شروط للزوم البيع على الصفة: وهي ألا يكون المبيع بعيداً جداً كالأندلس وإفريقية أي بحيث يظن تغيره قبل قبضه، وألا يكون قريباً جداً كالحاضرفي البلد، (والراجح أن الحاضر في مجلس العقد يجوز بيعه على الصفة) وأن يصفه غير البائع عند بعضهم (والأصح أنه يصح بوصف البائع)، وأن يحصر بالأوصاف المقصودة كلها، وألا ينقد ثمنه بشرط إلا فيما يؤمن تغيره كالعقار، ويجوز النقد من غير شرط أي ألا يشترط البائع على المشتري
دفع الثمن عند العقد، ويدفعه المشتري له بناء على ذلك الشرط، أما إذا دفع له الثمن تطوعاً من غير شرط فيجوز. وهذا الشرط الأخير خاص بالعين غير المأمونة التغير، أما المأمونة التي لا يسرع إليها التغير كالعقار فيجوز اشتراط النقد فيها. والسبب في هذا الشرط هو ألا يكون العقد مشتملاً على الغرر بأن يتردد بين اعتباره سلماً أو بيعاً.

(5/3449)


ويسمى هذا البيع عند المالكية: البيع على البَرْنامِج أو البرامج (1): وهو الدفتر المكتوب فيه صفة ما في الوعاء من الثياب المبيعة، دون اطلاع البائع على الجنس والنوع. والجواز للضرورة، أي لما في حَلّ العِدْل من الحرج والمشقة على البائع، فأقيمت الصفة مقام الرؤية.
وقال الشافعية في الأظهر عندهم وفي قول عند الإباضية: لا يصح مطلقاً بيع الغائب وهو ما لم يره المتعاقدان، أو أحدهما، وإن كان المبيع حاضراً، لما فيه من الغرر، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وفي بيع ما لا يعرف جنسه أو نوعه غرر كبير، وكذا ما عرف جنسه أو نوعه، مثل بعتك فرسي العربي، لا يصح بيعه في المذهب الجديد لوجود الغرر فيه بسبب الجهل بصفة المبيع، كما لا يصح السلم مع جهالة صفة المسلم فيه، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.
وأما حديث خيار الرؤية: «من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذ رآه» فهو حديث ضعيف كما قال البيهقي. وقال الدارقطني عنه: إنه باطل لا يصح، لم يروه غيره (2).
وقال الحنابلة في أظهر الروايتين عندهم: إن الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته لا يصح بيعه، فإن صححناه بحسب الرواية الأخرى، فيثبت الخيار للبائع والمشتري عند الرؤية. ودليل الرواية الأولى أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر.
_________
(1) البرنامج: الورقة المكتوبة فيها ما في الوعاء: العدل أو الظرف (راجع الموطأ: 160/ 2).
(2) المهذب: 263/ 1، المجموع: 315/ 9، مغني المحتاج: 18/ 2، شرح النيل: 143/ 4.

(5/3450)


أما إذا وصف المبيع للمشتري فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم، فيصح بيعه في ظاهر المذهب، وعن أحمد: لا يصح حتى يراه؛ لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع، فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه.
استدلوا على ظاهر المذهب: بأنه بيع بالصفة فصح كالسلم، ولا يقال بأنه لا تحصل به معرفة المبيع، فإن تلك المعرفة تحصل بالصفات الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهراً، وهذا يكفي بدليل أنه يكفي في السلم (1).
والخلاصة: أن الحنفية والمالكية، والحنابلة في الأظهر، والظاهرية، والزيدية والإمامية، وفي قول عند الإباضية: يجيزون بيع العين الغائبة على الصفة (2). أما بيعها بغير رؤية ولا وصف فقد أجازه الحنفية.
بيع ما يكمن في الأرض أو بيع ما في رؤيته مشقة أوضرر: قد تكون مع رؤية المبيع مشقة أو ضرر مثل بيع الأطعمة المحفوظة ونحوها من الأدوية والسوائل والغازات التي لا تفتح إلا عند الاستعمال، ومثل بيع المغيب في الأرض كالجزر واللفت والبطاطا، فإن الحنفية أجازوه كإجازة بيع العين الغائبة، كما أجازه المالكية؛ لأن المبيع معلوم بالعادة، والغرر فيه يسير، وأبطله الشافعية والحنابلة والظاهرية (3) إذ لا يمكن وصفه، فيتحقق فيه الغرر والجهالة المنهي عنهما.

4 - بيع الأعمى وشراؤه:
هذا النوع مفرع على شرط رؤية المبيع على الخلاف السابق في بيع الغائب.
_________
(1) المغني: 580/ 3 - 582، غاية المنتهى: 10/ 2.
(2) المحلى: 389/ 8، الروض النضير: 259/ 3، المختصر النافع: ص 145، شرح النيل: 137/ 4.
(3) الدر المختار: 106/ 4، بداية المجتهد: 156/ 2، المجموع: 338/ 9، المغني: 91/ 4، المحلى: 456/ 8، البيوع الممنوعة للأستاذ عبد السميع: ص 67.

(5/3451)


قال الحنفية والمالكية والحنابلة: يصح بيع الأعمى وشراؤه وإجارته ورهنه وهبته، ويثبت له الخيار بما يفيد معرفته بالمبيع كالجس والشم والذوق فيما يعرف بذلك، أو بالاعتماد على أوصاف المبيع، كالوصف في الثمار على رؤوس الأشجار والدور والعقارات. ودليلهم حديث: «إنما البيع عن تراض» (1) وقد رضي الأعمى بالبيع، ويمكنه التعرف على المبيع بوسائل مختلفة، فأشبه بيع البصير، ولأن إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه، فكذلك شم الأعمى وذوقه (2).
إلا أن الحنفية والمالكية كما هو معلوم لا يثبتون خيار الرؤية للبائع سواء أكان بصيراً أم أعمى.
وقال الشافعية: لا يصح بيع الأعمى وشراؤه إلا إذا كان قد رأى شيئاً قبل العمى مما لا يتغير كالحديد ونحوه، ودليلهم قصور الأعمى عن إدراك الجيد والرديء، فيكون محل العقد بالنسبة له مجهولاً (3).

5 - البيع بالثمن المحرّم: إذا كان البيع بثمن محرم كالخمر والخنزير: يكون فاسداً عند الحنفية لوجود حقيقة البيع: وهي مبادلة المال بالمال، فإن الخمر والخنزير مال متقوم عند بعض الكفار، وهما وإن كانا مالين عند الحنفية، إلا أنهما ليسا بمتقومين شرعاً، والقاعدة المقررة في هذا الشأن: أن أحد العوضين إذا لم يكن مالاً في دين سماوي، فالبيع باطل سواء أكان مبيعاً أم ثمناً، فبيع الميتة والدم والإنسان الحر باطل، وكذا البيع به وهو الصحيح عند الحنفية؛ لأن المسمى ثمناً ليس بمال أصلاً، وكون الثمن مالاً في الجملة شرط من شروط الانعقاد.
_________
(1) رواه ابن ماجه والبيهقي وصححه ابن حبان عن أبي سعيد الخدري، وقد سبق تخريجه.
(2) مختصر الطحاوي: ص 83، البدائع: 164/ 5، 298، حاشية الدسوقي: 24/ 3، المغني: 4 ص 210، غاية المنتهى: 10/ 2.
(3) المهذب: 264/ 1.

(5/3452)


وإن كان العوض في بعض الأديان مالاً دون بعض: فإن أمكن اعتباره ثمناً، فالمبيع فاسد، فبيع الثوب بالخمر أو الخمر بالثوب فاسد، وإن تعين كونه مبيعاً، فالبيع باطل، فبيع الخمر بالدراهم أو الدراهم بالخمر باطل.
وعلى هذا: إذا كان الثمن محرَّماً: ينعقد البيع بالقيمة (1) ومن الواضح أن هذا البيع عند غير الحنفية يقع باطلاً.

6 - البيع نسيئة ثم الشراء نقداً ـ بيوع الآجال: النسيئة: تأخير الثمن إلى أجل معين، والنقد: دفع الثمن في الحال.
إذا اتخذ العقد وسيلة لتحقيق غرض غير مباح شرعاً، فهل ينعقد العقد لوجود أركانه من الإيجاب والقبول أو يعتبر غير صحيح لسببه غير المشروع؟، مثل (2) أن يبيع الشخص مالاً إلى
آخر بثمن مؤجل، ثم يشتريه منه بثمن عاجل، كأن يبيع قنطاراً من القطن بخمسة آلاف ليرة لا تقبض إلا بعد سنة، ثم يشتريه البائع من المشتري بأربعة آلاف يدفعها إليه فوراً، فقد حصل ههنا عقدا بيع: كلاهما ظاهره الصحة لاشتماله على أركان العقد وشروطه. هذه البيوع تسمى عند المالكية (بيوع العينة) وهي في الحقيقة نوع من بيوع الأجل التي يقصد منها التحيل على الربا، والوصول إلى ما هو ممنوع شرعاً، ومع ذلك اختلف العلماء في حكم بيع الأجل، علماً بأن المالكية فرقوا بين النوعين، فقالوا: بيوع الآجال: هي بيع المشتري ما اشتراه لبائعه أو لوكيله، لأجل. وبيع العينة: أن يقول شخص لآخر: اشتر سلعة بعشرة نقداً، وأنا آخذها منك باثني عشر لأجل.
_________
(1) فتح القدير مع العناية: 186/ 5، البدائع: /141، 305، رد المحتار: 105/ 4، 108.
(2) انظر مواهب الجليل للحطاب: 390/ 4 ومابعدها، 404 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير: 76/ 3، 88، الشرح الصغير: /116، 132.

(5/3453)


فقال الشافعية والظاهرية: يصح هذا العقد لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول، ويترك أمر النية لله وحده يعاقب صاحبها عليها.

وقال المالكية والحنابلة: العقد باطل متى قام الدليل على وجود قصد آثم سداً للذريعة. وتطبيقات هذا الخلاف تظهر في زواج المحلل وبيع العينة وبيع العنب لعاصر الخمر (1).
وأما أبو حنيفة فيحكم في الظاهر بصحة زواج المحلّل، وبيع العنب لعاصره خمراً، ما لم يصرح في العقد بشرط يخل به، ويجعل بيع العينة فاسداً إن خلا من توسط شخص ثالث.
بيع العينة:
هو بيع يراد منه أن يكون حيلة للقرض بالربا، بأن يبيع رجل شيئاً بثمن نسيئة أو لم يقبض، ثم يشتريه في الحال، وسمي بالعينة لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عيناً أي نقداً حاضراً، وعكسها مثلها. مثاله: أن يبيعه الرجل سلعة بثمن إلى أجل معلوم، ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر، أو نقداً بثمن أقل، وفي نهاية الأجل الذي حدد في العقد الأول يدفع الثمن الأول كله، فيكون الفرق بين الثمنين فائدة أو ربا لصاحب المتاع الذي يبيع بيعاً صورياً، مثل أن يبيع شخص لآخر ثوباً باثنتي عشرة ليرة مؤجلاً دفعها إلى شهر مثلاً، ثم يبيع المشتري هذا الثوب نفسه ـ قبل أو بعد تسلمه ـ إلى بائعه الأول بعشر ليرات تدفع حالاً إلى المشتري، وفي نهاية الأجل المحدد لدفع الثمن في العقد الأول يدفع المشتري كامل الثمن وهو (12) ل. س، فيكون الفرق بين الثمنين فائدة أو ربا لصاحب الثوب
_________
(1) الأموال ونظرية العقد: ص297 ومابعدها، أصول البيوع الممنوعة للشيخ عبد السميع: ص102.

(5/3454)


الذي بيع بيعاً صورياً، والعملية كلها للتحايل على الإقراض بالربا عن طريق البيع والشراء.
وقد يوسط المتعاقدان بينهما شخصاً ثالثاً يشتري العين بثمن حال من مريد الاقتراض، بعد أن اشتراها هذا من مالكها المقرض، ثم يبيعها للمالك الأول بالثمن الذي اشترى به، فيكون الفرق رباً له.
اختلف العلماء في الحكم على العقد الثاني، مع أن قصد التعامل بالربا واضح من البائع والمشتري.
قال أبو حنيفة: هو عقد فاسد إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض، كما في المثال، إلا أنه يلاحظ أن أبا حنيفة خالف أصله السابق الذكر الذي يقتضي القول بصحة هذا العقد (1) وذلك استحساناً بنص الحديث الذي سيأتي في قصة زيد بن أرقم، ولأن الثمن إذا لم يستوف لم يتم البيع الأول، فيصير البيع الثاني مبنياً عليه، فليس للبائع الأول أن يشتري شيئاً ممن لم يتملكه بعد، فيكون البيع الثاني فاسداً.
وقال أبو يوسف: هذا البيع صحيح بلا كراهة. وقال محمد: إنه صحيح مع الكراهة، حتى إنه قال: «هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أكلة الربا» (2).
_________
(1) وهو أن المعتبر في العقود: هو الألفاظ دون النيات، لأن نية الغرض غير المباح شرعاً مستترة، فيترك أمرها إلى الله وحده يعاقب عليها صاحبها، مادام أثم بنيته، وهذا بخلاف مذهب الإمام أحمد الذي يتشدد بحق في رعاية النية والقصد دون اللفظ (انظر أعلام الموقعين 106/ 1 ومابعدها، ونظرية العقد لأستاذنا الجليل الشيخ محمد أبو زهرة: ص215).
(2) فتح القدير: 207/ 5 ومابعدها، رد المحتار لابن عابدين: 255/ 4، 291، الأموال ونظرية العقد: ص 301.

(5/3455)


وقال الشافعية وداود الظاهري: هذا العقد صحيح مع الكراهة لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول الصحيحان، ولا عبرة في إبطال العقد بالنية التي لا نعرفها لعدم وجود ما يدل عليها (1)، أي أن القصد الآثم مرجعه إلى الله، والحكم على ظاهر العقد شيء آخر، لذا فإنه يحمل العقد على عدم التهمة.
وقال المالكية والحنابلة: إن هذا العقد يقع باطلاً (2) سداً للذرائع كما سأبين، ولما روي من قصة زيد بن أرقم مع السيدة عائشة رضي الله عنها: وهي أن العالية بنت أيفع قالت: دخلت وأنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: «إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمان مئة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بست مئة درهم (أي حالّة) فقالت عائشة: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن لم يتب» (3) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب
_________
(1) الميزان: 70/ 2، إرشاد الفحول للشوكاني: ص 217، القوانين الفقهية: ص 271.
(2) بداية المجتهد: 140/ 2 وما بعدها، حاشية الدسوقي: 91/ 3، الحطاب: 404/ 4، القوانين الفقهية: ص 258، 271 وما بعدها، الشرح الصغير: 130/ 3. المغني: 175/ 4 ومابعدها، نيل الأوطار: 206/ 5، الموافقات للشاطبي: 361/ 2، الفروق للقرافي: 266/ 3 وما بعدها، أصول الفقه لنا: 895/ 2 ومابعدها. هذا وقد أبطل الحنابلة العقد الأول حيث كان وسيلة للثاني. وقالوا: إن تغيرت صفة الشيء المشترى بما ينقصها أو يزيدها، واشتراها من غير مشتريها أو بمثل الثمن أو بنقد آخر، صح البيع، وكذا لو اشتراها أبوه أوابنه أو غلامه ونحوها ما لم يكن حيلة، فلا يصح (غاية المنتهى: 20/ 2).
(3) هذا الحديث رواه الدارقطني عن يونس بن إسحاق عن أمه العالية عن أم مُحبة عن عائشة. روي عن الشافعي أنه لا يصح، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، قال في التنقيح: إسناده جيد، وإن كان الشافعي لا يثبت مثله عن عائشة، وكذلك الدارقطني قال في العالية: هي مجهولة لا يحتج بها (انظر جامع الأصول: 478/ 1).

(5/3456)


البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم» (1).
واستدلوا من جهة المعقول بالقياس على الذرائع المجمع على منعها بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل منها هي الباعثة على عقدها، لأنه المحصل لها.
والخلاصة: إن جمهور الفقهاء غير الشافعية: قالوا بفساد هذا البيع وعدم صحته؛ لأنه ذريعة إلى الربا، وبه يتوصل إلى إباحة ما نهى الله عنه، فلا يصح.
غير أن الشافعي قال عن الحديث الأول: «لا يثبت، وأيضاً فإن زيداً قد خالفها، وإذا اختلف الصحابة فمذهبنا القياس».
ويلاحظ أن الشافعية والظاهرية اعتمدوا على ظاهر عقد المتبايعين، فحكموا بصحته عملاً بمقتضى آية: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/ 2] وهذا مردود، لأن الظاهر إنما يعمل به إذا لم تقم قرينة تفيد غيره، وههنا قرينة العرف المعهود، وغلبة قصد الناس إلى المحرم، والشيء المتعارف ينزل منزلة الشرط المنصوص، فكان ذلك من أقوى القرائن التي يجب العمل بها؛ لأنها تجعل الظاهر من أمر البائعين هو التذرع إلى المحرم، فإبطال بيعهما هو مقتضى الظاهر (2).
بيع التورّق: هو أن يشتري الشخص السلعة إلى أجل، ثم يبيعها لغير بائعها الأول نقداً في الحال، ويأخذ ثمنها، بقصد الحصول على الدراهم، وهو بيع مكروه عند مالك وعند أحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا يكره في رواية أخرى.
_________
(1) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر وأخرجه أيضاً الطبراني وابن القطان وصححه، قال الذهبي: إن هذا الحديث من مناكير عطاء الخراساني (نيل الأوطار: 206/ 5).
(2) أصول البيوع الممنوعة: ص 105.

(5/3457)


7 - بيع العنب لعاصر الخمر:
يتفرع أيضاً على القاعدة السابقة في أوائل بحث البيع السابق: الخلاف في بيع العنب لمن يعرف أنه يعصره خمراً. وأذكر هنا خلاف العلماء فيه.
قال أبو حنيفة والشافعي: يصح في الظاهر مع الكراهة بيع العنب لعاصر الخمر، وبيع السلاح لمن يقاتل به المسلمين، لعدم تحققنا أنه يتمكن من اتخاذه خمراً أو يقاتل بالسلاح المسلمين، ويؤاخذ الإنسان على مقاصده. أما الوسائل فقد يحال بين الإنسان وبينها، والمحرم في البيع هو الاعتقاد الفاسد، دون العقد نفسه، فلم يمنع صحة العقد، كما لو دلس العيب (1) أي أن الحكم على العقد بظاهره شيء، والدافع إليه شيء آخر.
وقال المالكية والحنابلة: بيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل، وكذا بيع السلاح لأهل الحرب أو لأهل الفتنة، أو لقطاع الطرق، سداً للذرائع؛ لأن ما يتوصل به إلى الحرام فهو حرام، ولو بالقصد، ولقوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/ 5] وهذا نهي يقتضي التحريم، وإذا ثبت التحريم فالبيع باطل (2).

8 - البيعتان في بيعة أو الشرطان في بيع واحد:
لقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم النهي عن بيعتين وعن شرطين في بيع، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة» وعن عمرو بن
_________
(1) المهذب: 267/ 1، تكملة فتح القدير: 127/ 8، مختصر الطحاوي: ص 280.
(2) المغني: 222/ 4 ومابعدها، الموافقات للشاطبي: 361/ 2.

(5/3458)


شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يَضْمن، ولا بيع ما ليس عندك» (1).
واختلف في تفسير البيعتين في بيعة: فقال الشافعي: «له تأويلان: أحدهما ـ أن يقول: بعتك بألفين نسيئة، وبألف نقداً، فأيهما شئت أخذت به، على أن البيع قد لزم في أحدهما وهذا بيع فاسد (أي باطل) لأنه إبهام وتعليق. والثاني ـ أن يقول: (بعتك منزلي على أن تبيعني فرسك).
وحكمة منع صورة الصفقة الأولى هو اشتمالها على غرر بسبب الجهل بمقدار الثمن، فإن المشتري لا يدري وقت تمام العقد هل الثمن عشرة مثلاً أو خمسة عشر.
ومن الحكمة في تحريم العقد الثاني منع استغلال حاجات الآخرين، وذلك في حالة كون المشتري مضطراً إلى شراء شيء، فيكون اشتراط البائع عليه في شراء شيء منه من قبيل الاستغلال مما يؤدي إلى فوات حقيقة الرضا في هذا العقد، ثم إن فيه غرراً أيضاً لا يدري البائع هل يتم البيع الثاني أو لا.
واختلف في تفسير الشرطين في بيع: فقيل: هو أن يقول: بعت هذا نقداً بكذا، وبكذا نسيئة. وقيل: هو أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع السلعة ولايهبها. وقيل: هو أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا» (2) وقيل في تفسير ذلك: هو أن يسلفه ديناراً في قفيز حنطة إلى
_________
(1) أخرجه أصحاب السنن، ورواه أحمد أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (عبد الله بن عمرو ابن العاص) قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» واختصره ابن ماجه، فذكر منه: «ربح مالم يضمن، وبيع ماليس عندك» فقط. والمراد بربح مالم يضمن: أنه لايجوز أن يأخذ ربح سلعة لم يضمنها، مثل: أن يشتري سلعة ويبيعها إلى آخر قبل قبضها من البائع الأول، فهذا البيع باطل، وربحه لايجوز، لأن المبيع في ضمان البائع الأول، وليس في ضمان المشتري (انظر نصب الراية: 18/ 4، نيل الأوطار: 179/ 5).
(2) المنتقى على الموطأ: 36/ 5، نيل الأوطار: 151/ 5 - 153، سبل السلام: 16/ 3 ومابعدها.

(5/3459)


شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة؛ لأن البيع الثاني قد دخل على الأول، فيرد إليه أو كسهما (أنقصهما) وهو الأول.
وبهذا يظهر أن البيعتين في بيعة والشرطين في بيع واحد بمعنى واحد. وقد اختلف العلماء في حكمه.
قال الحنفية: البيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول، لما فيه من تعليق وإبهام دون أن يستقر الثمن على شيء: هل حالاً أو مؤجلاً. فلو رفع الإبهام وقبل على إحدى الصورتين، صح العقد (1). والعلة في تحريم بيعتين في بيعة: عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة بيع قفيز الحنطة.
وقال الشافعية والحنابلة: إن هذا العقد باطل؛ لأنه من بيوع الغرر بسبب الجهالة، لأنه لم يجزم البائع ببيع واحد، فأشبه مالو قال: بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول، فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معين ولامعلوم، فلم يصح كما لو قال: بعتك أحد منازلي (2).
وقال مالك: يصح هذا البيع، ويكون من باب الخيار، فيذهب العقد على إحدى الحالتين، وهومحمول على أنه جرى بينهما بعدئذ مايجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال: خذه، أو قد رضيت، ونحو ذلك
_________
(1) البدائع: 158/ 5، رد المحتار: 30/ 4.
(2) المهذب: 267/ 1، مغني المحتاج: 31/ 2، المغني: 234/ 4.

(5/3460)


فيكون عقداً كافياً (1). هذا مع العلم بأن حديث النهي عن بيعتين في بيعة أو عن صفقتين ضعيف بسبب اشتمال إسناده على راو فيه مقال، وهو محمد بن عمرو بن علقمة، الذي تكلم فيه غير واحد، وهو إن صح محمول على المنع من صورة البيع التالية: وهي أن يقول: نقداً بكذا ونسيئة بكذا، فإن قال من أول الأمر: نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يوم صح البيع (2).

9 - البيع لأجل أو بالتقسيط:
أجاز الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور (3): بيع الشيء في الحال لأجل أو بالتقسيط بأكثر من ثمنه النقدي إذا كان العقد مستقلاً بهذا النحو، ولم يكن فيه جهالة بصفقة أو بيعة من صفقتين أو بيعتين، حتى لايكون بيعتان في بيعة. قال ابن قدامة في المغني: البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقاً ولايكره. فإذا تم الاتفاق في الحال على شراء هذه الآلة أو السلعة بألف ومئة لأجل أو بالتقسيط، مع أن سعرها النقدي ألف، جاز البيع وإن ذكر في المساومة سعران: سعر للنقد وسعر للتقسيط، ثم تم البيع في نهاية المساومة تقسيطاً. أما لو قال في عقد واحد: بعتك السلعة بألف نقداً، وبألف ومئة تقسيطاً، فقال المشتري: قبلت، ولم يحدد نوع القبول الصادر مبهماً دون تحديد مراده أو عدم تعيين أي صفقة يريد، كان العقد باطلاً عند الجمهور، فاسداً عند الحنفية بسبب الجهالة. وقال بعض الزيدية: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه، لأجل النَّساء.
_________
(1) بداية المجتهد: 153/ 2، المنتقى على الموطأ: 37/ 5. قال ابن جزي في القوانين: ص257: «البيعتان في بيعة: هو أن يبيع مثموناً واحداً بأحد ثمنين مختلفين، أو يبيع أحد مثمونين بثمن واحد، فالأول أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً أو بعشرين إلى أجل على أن البيع قد لزم في أحدهما. والثاني: أن يقول: بعتك أحد هذين الثوبين بكذا على أن البيع قد لزم في أحدهما» وقد عدَّ ابن جزي هذا النوع من أنواع بيوع الغرر العشرة الممنوعة.
(2) نيل الأوطار: 152/ 5 ومابعدها.
(3) نيل الأوطار: 152/ 5 ومابعدها، المغني: 176/ 4.

(5/3461)


والواقع يختلف البيع لأجل أو بالتقسيط عن الربا، وإن وجد تشابه بينهما في كون سعر الأجل أو التقسيط في مقابل الأجل، ووجه الفرق أن الله أحل البيع لحاجة، وحرَّم الربا بسبب كون الزيادة متمحضة للأجل. ولأن الربا أي الزيادة من جنس ماأعطاه أحد المتعاملين مقابل الأجل، كبيع صاع حنطة مثلاً في الحال بصاع ونصف يدفعان بعد أجل، أو إقراض ألف درهم مثلاً على أن يسدد القرض ألفاً ومئة درهم. أما في البيع لأجل أو بالتقسيط فالمبيع سلعة قيمتها الآن ألف، وألف ومئة بعد أشهر مثلاً، وهذا ليس من الربا، بل هو نوع من التسامح في البيع؛ لأن المشتري أخذ سلعة لا دراهم، ولم يعط زيادة من جنس ماأعطى، ومن المعلوم أن الشيء الحالّ أفضل وأكثر قيمة من المؤجل الذي يدفع في المستقبل، والشرع لايصادم طبائع الأشياء إذا لم يتحد المبيع والثمن في الجنس. كما أن بائع التقسيط يضحي في سبيل توفير السلعة لمن يشتريها بأجل، لتعطيل السعر أو الثمن، وعدم استعماله في أثمان مشتريات أخرى.

10 - بيع الأتباع والأوصاف مقصودا ً:
إذا كان الشيء تبعاً لغيره، فبيع مستقلاً عنه كبيع الألية من الشاة الحية والذراع والرأس ونحوهما، وكبيع ذراع من ثوب، فقال الحنفية: إن بيع اللحم في الشاة الحية، أو الشحم الذي فيها، أو أليتها، أو أكارعها، أو رأسها: كل هذا باطل لا ينعقد؛ لأنه بيع لمعدوم؛ لأن اللحم لا يصير لحماً إلا بالذبح والسلخ.
ومثله بيع ياقوتة فإذا هي زجاج، أو بيع قطعة جوخ، فإذا هي قطن، لا ينعقد البيع لأن المبيع معدوم.
وأما بيع ذراع من ثوب: فإن كان يضره التبعيض، كالثوب المهيأ للبس، نحو

(5/3462)


القميص: كان العقد فاسداً، لأن المبيع تبع لغيره، ولا يمكن تسليمه إلا بضرر لم يوجبه العقد يلحق بالبائع، وهو قطع الثوب.
وكذا بيع جذع من سقف أو آجر من حائط يكون العقد فاسداً. فإن قطع البائع الذراع من الثوب أو قلع الجذع قبل أن يفسخ المشتري العقد، وسلمه إلى المشتري: يعود العقد صحيحاً، لزوال المفسد قبل نقض البيع، فلو فعل ذلك بعد الفسخ: لايجوز.
وإن كان المبيع لا يضره التبعيض مثل بيع قفيز من صبرة أو بيع عشرة دراهم من نُقرة (1) ونحوها، جاز البيع، لأنه ليس في التبعيض ضرر، وليس المبيع تبعاً لغيره أيضاً (2).

11 - بيع الشيء المملوك قبل قبضه من مالك آخر:
قال الحنفية: لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض (3) والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، أي أنه يحتمل الهلاك فلا يدري المشتري هل يبقى المبيع أو يهلك قبل القبض، فيبطل البيع الأول وينفسخ الثاني، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر (4).
وأما العقار، كالأراضي والدور، فيجوز بيعه قبل القبض عند أبي حنيفة
_________
(1) النقرة: هي القطعة المذابة من الذهب أو الفضة.
(2) فتح القدير: 193/ 4، البدائع: 139/ 5 وما بعدها، رد المحتار: 114/ 4.
(3) فيه أحاديث منها ما أخرجه أبو داود عن ابن عمر أن زيد بن ثابت قال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (وقد سبق ذكر بعض رواياته).
(4) رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة، وقد سبق تخريجه.

(5/3463)


وأبي يوسف استحساناً، استدلالاً بعمومات البيع من غير تخصيص ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر واحد، ولا غرر في العقار إذ يتوهم هلاك العقار، ولا يخاف تغيره غالباً بعد وقوع البيع، وقبل القبض، أي أن
تلف العقار غير محتمل فلا يتقرر الغرر (1). والخلاصة: أن العلة عند الحنفية في عدم جواز بيع الشيء قل قبضه هي الغرر.
وقال المالكية: لا يجوز بيع الطعام (2) قبل القبض ربوياً كان أو غير ربوي، لحديث ابن عباس وابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه» (3) وأما ما سوى ذلك أو بيع الطعام جزافاً فيجوز بيعه قبل قبضه لغلبة تغير الطعام، بخلاف ما سواه، وأخذاً بمفهوم الحديث السابق (4).
والعلة في منع بيع الطعام قبل قبضه عند المالكية: هي أنه قد يتخذ البيع ذريعة للتوصل إلى ربا النسيئة، فهو شبيه ببيع الطعام بالطعام نساء، فيحرم سداً للذرائع.
وقال الحنابلة: لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه إذا كان مكيلاً أو موزوناً أومعدوداً (أي المقدرات)، لسهولة قبض المكيل والموزون والمعدود عادة، فلا يتعذر عليه القبض، واستدلالاً بمفهوم حديث الطعام السابق، فإن تخصيصه
_________
(1) المبسوط: 8/ 13 وما بعدها، البدائع: 234/ 5، فتح القدير: 264/ 5، مختصر الطحاوي: ص 84.
(2) الطعام عندهم يشمل كل ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والأدم بجميع أنواعها كالزيت والعسل ونحوها.
(3) حديث ابن عباس رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وحديث ابن عمر رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا الترمذي (انظر جامع الأصول: 383/ 1، مجمع الزوائد: 98/ 4، نيل الأوطار: 158/ 5).
(4) بداية المجتهد: 142/ 2 ومابعدها، المنتقى على الموطأ: 279/ 4، القوانين الفقهية: ص 258، ط فاس.

(5/3464)


الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة البيع فيما سواه، ولم يصح غيره من الأحاديث. واشتراط الكيل أو الوزن أو العدد، لأن المكيل والموزون والمعدود لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن أوالعدد، وقد نهى الرسول عليه السلام عن بيع ما لم يضمن، فالعلة في منع هذا البيع عند الحنابلة هي الغرر كالحنفية.
وأما ما عدا المكيل والموزون والمعدود أي غير المقدرات، فيصح بيعه قبل قبضه (1).
وقال الشافعي ومحمد بن الحسن وزفر: لا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه مطلقاً قبل قبضه، عقاراً كان أو منقولاً، لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض، روى أحمد عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قلت: «يا رسول الله، إني أشتري بيوعاً، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه» وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن (2) ولا بيع ما ليس عندك» وهذا من باب بيع ما لم يضمن.
واستدلوا من طريق المعقول: وهو أنه بيع باطل لعدم القدرة على تسليم المبيع، ولأن ملكه عليه غير مستقر، لأنه ربما هلك، فانفسخ العقد، وفيه غرر من غير حاجة، فلم يجز (3). فالعلة في منع البيع عند الشافعية هي الغرر كالحنفية.
وأرجح أن الحكمة في النهي أصلاً عن بيع ما لم يقبض: هي أن هذا البيع
_________
(1) المغني: 110/ 4، 113 ومابعدها.
(2) قيل: معناه ما لم يقبض، لأن السلعة قبل تلفها ليست في ضمان المشتري، وإنما إذا تلفت، فتلفها من مال البائع، وقد سبق تخريج هذا الحديث وشرح «ما لم يضمن».
(3) المهذب: 264/ 1، الميزان: 66/ 2، مغني المحتاج: 68/ 2.

(5/3465)


يشبه الربا إذ أن المشتري إذا دفع دراهمه إلى البائع في سلعة، ثم عمد إليها، فباعها قبل أن يقبضها، فكأنما دفع دراهمه واستفاد بها ربحاً بمجرد دفعها إلى البائع دون القيام بعمل ما، وهذا شبيه بالربا (1)، ثم إن في هذا البيع غرراً ناشئاً عن عدم القدرة على التسليم. وبه تكون علة النهي عن بيع الشيء قبل قبضه هو مجموع ما ذكره فقهاء المذاهب.

12 - اشتراط الأجل في المبيع المعين والثمن المعين: إذا اشترط الأجل لتسليم المبيع المعين أو الثمن المعين، كان البيع فاسداً عند الحنفية؛ لأن الأصل وجوب التسليم حال العقد، بسبب أن البيع عقد معاوضة: تمليك بتمليك وتسليم بتسليم، والتأجيل ينفي وجوب التسليم للحال، فكان مغيراً مقتضى العقد، فيوجب فساد العقد.
ولكن يجوز التأجيل في المبيع المؤجل وهو السلم، بل لا يجوز بدون الأجل عند الحنفية، وكذا يجوز التأجيل في الثمن الثابت ديناً في الذمة إن كان الأجل معلوماً، لأن التأجيل يلائم الديون، ولا يلائم الأعيان لمساس حاجة الناس إليه في الديون، لا في الأعيان، وذلك لتمكين صاحب الأجل من اكتساب الثمن في المدة المعينة، ولا حاجة لهذا في الأعيان (2).

13 - البيع بشرط فاسد:
لإيضاحه أبيّن أنواع الشروط في البيوع:

الشروط في البيوع عند الحنفية ثلاثة أقسام:
_________
(1) أصول البيوع الممنوعة: ص 64.
(2) البدائع: 174/ 5، رد المحتار: 23/ 5.

(5/3466)


شرط صحيح، وشرط فاسد، وشرط لغو باطل (1).

أولاً - الشرط الصحيح: أي المقبول شرعاً، الملزم للمتعاقدين، وهو أربعة أنواع:
1 - ما يقتضيه العقد: كأن يشتري شخص شيئاً بشرط أن يسلم البائع المبيع، أو يسلم المشتري الثمن، أو بشرط أن يملك المبيع أو الثمن، أو بشرط أن يحبس البائع المبيع حتى أداء جميع الثمن، فهذه شروط تبين مقتضى العقد، لأن ثبوت الملك، والتسليم والتسلم، وحبس المبيع من مقتضى المعاوضات (2).
2 - ما ورد الشرع بجوازه: كشرط الأجل والخيار لأحد المتعاقدين، فقد أثبت الشرع في وقائع عن النبي عليه الصلاة والسلام جواز التأجيل لمدة معلومة لحاجة الناس إلىه، لما فيه من المصلحة، كما ثبت في الشرع جواز خيار الشرط في إمضاء البيع أو رده خلال مدة معلومة، وهو قوله عليه السلام لحبَّان بن مُنْقِذ: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، وليَ الخيار ثلاثة أيام» (3) على ما سيأتي في الخيارات، وهذا مقتضى الاستحسان. وأما مقتضى القياس فالشرط فاسد، لكونه مخالفاً لمقتضى العقد: وهو ثبوت الملك في العوضين معاً في الحال.
3 - ما يلائم مقتضى العقد، كالبيع بثمن مؤجل على شرط أن يقدم المشتري
_________
(1) انظر البدائع: 168/ 5 - 172، المبسوط: 13/ 13 - 18، فتح القدير: 214/ 5 ومابعدها، رد المحتار: 126/ 4 وما بعدها، عقد البيع للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 27.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 171.
(3) هذا الحديث رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عمر بلفظ «بع، وقل: لا خلابة» وفي لفظ عند البيهقي «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فاردد» ورواه أيضاً البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والموطأ بلفظ «من بايعت فقل: لا خلابة» أي لا خديعة أي لا يحل لك خديعتي أو لا تلزمني خديعتك (انظر نصب الراية: 6/ 4، جامع الأصول: 414/ 1، تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 82/ 2).

(5/3467)


كفيلاً أو رهناً معينين بالثمن، فإن الكفالة والرهن: استيثاق بالثمن، فيلائم البيع ويؤيد التسليم.
وهذا الشرط يحتاج إلى تفصيل (1) لأن الكفيل أو الرهن إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً، ثم هل الحوالة مثل الكفالة والرهن؟
إذا كان الرهن والكفيل مجهولين فسد البيع، كأن يقول البائع: (أبيعك بشرط أن تعطيني رهناً بالثمن) ولم يسم شيئاً ولا أشار إليه أو يقول: (بشرط أن تعطيني كفيلاً بالثمن) ولم يسم إنساناً ولا أشار إلى إنسان؛ لأن هذه جهالة تفضي إلى منازعة مانعة من التسليم والتسلم؛ إذ أن معنى التوثق والتأكد بالحصول على الثمن بالرهن أو الكفالة لا يحصل إلا بالتسليم، وذلك لا يتحقق في المجهول.
فإن اتفق المتعاقدان على تعيين رهن في مجلس البيع، جاز البيع، لأن المانع هو جهالة الرهن، وقد زال، فكأنه كان معلوماً معيناً من ابتداء الأمر؛ لأن المجلس له حكم حالة واحدة.
وكذا إذا لم يتفقا على تعيين الرهن، ولكن المشتري نقد الثمن، جاز البيع أيضاً، لأن المقصود من الرهن، هو الوصول إلى الثمن، وقد حصل، فسقط اعتبار الوثيقة.
وإن افترق المتعاقدان عن المجلس تقرر الفساد؛ لأن تمام القبول توقف على الرهن المشروط في العقد، فإذا لم يوجد الرهن لم يوجد القبول معنى.
وأما إذا كان الرهن والكفالة معلومين بالإشارة أو بالتسمية، فالقياس: ألا يجوز البيع، وبه أخذ زفر؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسداً.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 171 ومابعدها، المبسوط: 18/ 13.

(5/3468)


وفي الاستحسان: يجوز وهو الصحيح عند جمهور الحنفية؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفاً مقتضى العقد صورة، فهو موافق له معنى، لأن الرهن والكفالة شرعاً توثيق للثمن، فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقرراً لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن.
ويلاحظ أن جواز البيع استحساناً حالة اشتراط الكفالة مقيد بما إذا كان الكفيل حاضراً في المجلس وقبل، أو كان غائباً ثم حضر في المجلس وقبل، فكان كما لو قبل عند العقد، لأن لمجلس العقد حكم العقد.
فأما إذا كان الكفيل غائباً، أو حاضراً ولم يقبل، أو قبل وهو غائب، لم تصح الكفالة؛ لأنه لم يحصل معنى التوثيق، فبقي الحكم على أصل القياس؛ لأن وجوب الثمن في ذمة الكفيل كان بسبب البيع، فيصير الكفيل بمنزلة المشتري إذا اشترطت الكفالة في البيع، ووجود المشتري في مجلس البيع شرط لصحة الإيجاب من البائع، فكذلك وجود الكفيل.
هذا بخلاف الرهن، فلا يشترط وجود المرهون في مجلس البيع؛ لأن تقديم الرهن يكون من المشتري، والمشتري حاضر وقد التزم الرهن، فالرهن صحيح.
وحينئذ إذا لم يسلِّم المشتري الرهن إلى البائع لا يثبت حكم الرهن؛ لأن ثبوت حكم الرهن متوقف على القبض؛ كما هو معروف في باب الرهن، فإن سلّم الرهن تم العقد.
وإن امتنع المشتري عن تسليم الرهن يجبر عند زفر؛ لأن الرهن إذا شرط في البيع، صار حقاً من حقوقه، والجبر على التسليم من حقوق عقد البيع، فيجبر عليه.

(5/3469)


ولا يجبر عند جمهور الحنفية على التسليم؛ لأن الرهن عقد تبرع في الأصل، واشتراطه في البيع لا يخرجه عن أن يكون تبرعاً، والجبر على التبرع ليس بمشروع، فلا يجبر عليه، وحينئذ يقال للمشتري: (إما أن تدفع الرهن أو قيمته، أو تدفع الثمن أو تفسخ البيع) لأن البائع ما رضي بوجوب الثمن في ذمة المشتري، إلا بوثيقة الرهن، فإن لم يفعل المشتري شيئاًَ من المذكور، فللبائع أن يفسخ البيع، لأنه فات غرضه.
الحوالة: شرط الحوالة إما من البائع أو من المشتري:
فإن شرط البائع في البيع أن يحيله المشتري بالثمن على غريم من غرمائه «أي مدين له» فهذا على حالتين:
أـ إن أحال بجميع الثمن: فالبيع فاسد، لأنه يصير بائعاً بشرط أن يكون الثمن على غير المشتري، وهو باطل، لمخالفته لمقتضى العقد.
ب ـ وإن شرط عليه أن يحيل نصف الثمن على فلان، فالبيع جائز إذا كان المحال عليه حاضراً وقبل الحوالة، كما إذا باع شيئاً بألف ليرة على أن يكون نصفه على فلان وهو حاضر فقبل، جاز، أو كان المحال عليه غائباً، ثم حضر في المجلس وقبل، لأن لمجلس العقد حكم العقد.
وإن شرط المشتري في البيع شرطاً وهو «أن يحيل البائع على غريم من غرمائه بالثمن ليدفع له» أو باع البائع شيئاً بشرط «أن يضمن المشتري لغريم ـ دائن ـ من غرماء البائع الثمن» فالبيع فاسد (1) لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، بل هو شرط فيه منفعة العاقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في
_________
(1) البدائع: 172/ 5.

(5/3470)


الأصل، إلا إذا كان فيه تقرير موجَب العقد وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن، وإسقاط له، فلم يكن ملائماً للعقد، بخلاف الكفالة والرهن، والضمان ليس بصفة للثمن، بل هو شرط فيه منفعة العاقد.
4 - من الشروط الصحيحة: ما جرى به العرف: كشراء القفل على أن يسمّره البائع في الباب أو الحذاء على أن يخرزه البائع أو يضع له نعلاً، وكشراء الساعة أو الغسالة أو الثلاجة أو المذياع بشرط أن يصلحها البائع لمدة سنة مثلاً إذا أصابها خلل، فيجوز البيع استحساناً، والقياس ألا يجوز وهو قول زفر.
وجه القياس: أن هذا شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين، وأنه مفسد، كما إذا اشترى قماشاً بشرط أن يخيطه البائع له قميصاً، ونحوه.
ووجه الاستحسان: أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع، كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع.

ثانياً ـ الشرط الفاسد: أو بتعبير أوضح: المفسد: وهو ما خرج عن الأقسام الأربعة السابقة أي لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا ورد به الشرع ولا يتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة لأحد المتعاقدين، كأن اشترى حنطة على أن يطحنها البائع، أو قماشاً على أن يخيطه البائع قميصاً، أو اشترى حنطة على أن يتركها في دار البائع شهراً، أو يبيع شخص داراً على أن يسكنها البائع شهراً، ثم يسلمها إليه، أوأرضاً على أن يزرعها سنة أو دابة على أن يركبها شهراً، أو على أن يقرضه المشتري قرضاً، أو على أن يهب له هبة ونحوها.
البيع في هذا كله فاسد؛ لأن كل زيادة منفعة مشروطة في العقد تكون ربا؛ لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع، وهو تفسير الربا.

(5/3471)


والبيع الذي فيه الربا فاسد، أو فيه شبهة الربا، وأنها
مفسدة للبيع كحقيقة الربا (1).

ثالثاً ـ الشرط اللغو أو الباطل: وهو ما كان فيه ضرر لأحد العاقدين، كأن يبيع بشرط ألا يبيعه المشتري أو لايهبه، البيع جائز والشرط باطل على الصحيح عند الحنفية؛ لأن هذا شرط لامنفعة فيه لأحد، فلا يوجب الفساد؛ لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا، بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض، ولم توجد المنفعة في هذا الشرط، لأنه لا منفعة فيه لأحد إلا أنه شرط فاسد في نفسه، لكنه لا يؤثر في العقد، فيكون العقد جائزاً، والشرط باطلاً (2). ويلاحظ أن الحنفية اتفقوا على أنه لو ألحق المتعاقدان بالعقد الصحيح شرطاً صحيحاً كالخيار الصحيح في البيع البات ونحوه يلتحق به.
أما الشرط الفاسد: فقرانه بالعقد وإلحاقه به سواء عند أبي حنيفة، حتى لو باع شخص بيعاً صحيحاً، ثم ألحق به شيئاً من الشروط الفاسدة التي ذكرت يلتحق به، ويفسد العقد؛ لأن اعتبار التصرف على الوجه الذي أوقعه المتصرف واجب إذا كان هو أهلاً، والمحل قابلاً للعقد.
وقال الصاحبان: لايلتحق به ولا يفسد العقد ويلغو الشرط؛ لأن إلحاق الشرط الفاسد بالعقد يغير العقد من الصحة إلى الفساد، فلا يصح فبقي العقد صحيحاً، كما كان؛ لأن العقد كلام لا بقاء له، والالتحاق بالمعدوم لا يجوز،
_________
(1) البدائع: 169/ 5، المبسوط: 15/ 13، 18، رد المحتار: 126/ 4، فتح القدير: 214/ 5.
(2) المبسوط، 15/ 13، البدائع: 170/ 5، فتح القدير:111/ 5.

(5/3472)


فكان ينبغي ألا يصح الإلحاق أصلاً، إلا أن إلحاق الشرط
الصحيح بأصل العقد ثبت شرعاً للحاجة إليه، حتى صح قرانه بالعقد، فيصح إلحاقه به (1).
والأصح هو قول الصاحبين، كما ذكر ابن عابدين نقلاً عن جامع الفصولين (2).

حكم البيع وشرط عند غير الحنفية:
من المعلوم أن البيع غير الصحيح عند غير الحنفية لا فرق فيه بأن يسمى فاسداً أم باطلاً، فإذا لم يصح اقتران الشرط بالبيع أبطله أو أفسده، والنتيجة فيهما سواء. والبيع بشرط هو الذي يسميه الفقهاء بيع الثُّنيا، وقد اختلفوا في حكمه، فقال الحنفية على التفصيل المذكور والشافعية عملاً بالحديث: البيع فاسد، وقال الحنابلة: البيع صحيح والشرط صحيح، ولم يأخذوا بالحديث، وفي مذهب المالكية تفصيل.

أما تفصيل مذهب الشافعية فهو ما يأتي (3): إذا شرط في البيع شرط فإن كان شرطاً يقتضيه العقد كتسليم المبيع والرد بالعيب ونحوهما، صح العقد، لأن الشرط المذكور مبين لما يقتضيه العقد. وكذلك يكون العقد صحيحاً إن شرط شرطاً لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والضمان أو الكفالة؛ لأن الشرع ورد بجوازه؛ ولأن الحاجة تدعو إليه.
فإن شرط ما سواه من الشروط التي تنافي مقتضى البيع كأن اشترط البائع
_________
(1) البدائع: 176/ 5، فتح القدير: 227/ 5.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 127/ 4.
(3) مغني المحتاج: 31/ 2، المهذب: 265/ 1، 268.

(5/3473)


على المشتري ألا يبيع المبيع، أو لا يهبه، أو أن يبيعه شيئاً أو يقرضه مبلغاً من المال أو اشترط أن يسكن الدار مدة، أو اشترط المشتري على البائع أن يخيط له الثوب الذي اشتراه منه، أو يحصد له الزرع الذي اشتراه منه، أو يحذو له قطعة الجلد التي اشتراها، ففي كل هذه الحالات يكون البيع باطلاً، لما روي عن
النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط (1).

وقال الحنابلة (2): يبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ولا يبطله شرط واحد لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك» (3) والمراد بالشرطين: ما ليسا من مصلحة العقد، كأن اشترى ثوباً واشترط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاماً واشترط طحنه وحمله، فإن اشترط أحد هذه الأشياء، فالبيع جائز.
والشروط عندهم أربعة أقسام:

أحدها ـ ما هو من مقتضى العقد كاشتراط التسليم، وخيار المجلس، والتقابض في الحال فهذا وجوده كعدمه، لا يفيد حكماً معيناً، ولا يؤثر في العقد.
الثاني ـ ما تتعلق به مصلحة لأحد العاقدين أو لكليهما، كالأجل والخيار والرهن والضمين أي الكفيل، والشهادة على البيع، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع، فهذا شرط جائز يلزم الوفاء به. قال ابن قدامة: ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافاً.
_________
(1) رواه عبد الحق في أحكامه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه أبو حنيفة أيضاً.
(2) المغني: 224/ 4 - 226، 235، غاية المنتهى: 23/ 2 وما بعدها.
(3) رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(5/3474)


الثالث ـ ما ليس من مقتضى العقد، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه، وهو نوعان:
1ً - اشتراط منفعة للبائع في المبيع، فإن كان شرطاً واحداً فلا بأس به كاشتراط المشتري على البائع أن يخيط له الثوب المشترى، أو اشتراط حمل حزمة الحطب إلى موضع معلوم، أو سكنى الدار مدة شهر مثلاً، أو حملانه على الدابة إلى محل معين. والدليل على الجواز حديث جابر، وهو
أن النبي صلّى الله عليه وسلم اشترى من جابر بعيراً، واشترط حُملانه عليه إلى أهله في المدينة (1).
2ً - أن يشترط عقد في عقد، نحو أن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً آخر، أو يشتري منه، أو يؤجره، أو يزوجه، أو يسلفه، ويصرف له الثمن أوغيره، فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، للنهي عن بيعتين في بيعة.

الرابع ـ اشتراط ما ينافي مقتضى البيع، مثل أن يشترط ألا يبيع المبيع أو ألا يهبه، أو يشترط عليه أن يبيعه أو يقفه، ففي هذا روايتان عن أحمد، أصحهما أن البيع صحيح، والشرط باطل.
وقال المالكية: في المذهب تفصيل (2):
فإن كان الشرط يقتضي منع المشتري من تصرف خاص أو عام، فيبطل الشرط والبيع، مثل أن يشترط عليه ألا يبيع المبيع أو لا يهبه، فلا يجوز لأنه من
_________
(1) هذا معنى الحديث، وقد أخرج لفظه أحمد والشيخان عن جابر (راجع نيل الأوطار: 178/ 5).
(2) راجع بداية المجتهد: 159/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 259، الشرح الكبير للدردير: 65/ 3.

(5/3475)


الثنيا (1) وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم (2)، فإن أسقط هذا الشرط عن المشتري، جاز البيع.
وإن اشترط البائع منفعة لنفسه كركوب الدابة، أو سكنى الدار مدة معلومة يسيرة كشهر وقيل: سنة، جاز البيع والشرط، عملاً بحديث جابر الآنف الذكر.
وإن اشترط البائع شرطاً يعود بخلل في الثمن، فيجوز البيع ويبطل الشرط مثل أن يشترط «إن لم يأته بالثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما». فإن قال البائع للمشتري: «متى جئتك بالثمن رددت إلي المبيع، وهو المعروف ببيع الوفاء عند الحنفية، لم يجز البيع.

14 - بيع الثمار أو الزروع:
هذه الحالة تعرض كثيراً في الحياة العملية التجارية، لهذا تحتاج لتفصيل الكلام فيها:
أجمع العلماء على أن بيع الثمار قبل أن تخلق لا ينعقد؛ لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق ومن باب بيع السنين والمعاومة (3).
_________
(1) الثنيا ـ بضم الثاء وسكون النون: الاستثناء في البيع نحو أن يبيع الرجل شيئاً ويستثني بعضه، فإن كان الذي استثناه معلوماً نحو أن يستثني واحدة من الأشجار، أو منزلاً من المنازل أوموضعاً معلوماً من الأرض، صح الاتفاق على البيع، وإن كان مجهولاً نحو أن يستثني شيئاً غير معلوم لم يصح البيع.
(2) رواه النسائي والترمذي وصححه عن جابر (نيل الأوطار: 151/ 5).
(3) النهي عن بيع مالم يخلق داخل تحت النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، وعن بيع حبل الحبلة، وبيع الغرر ونحوها، وقد سبق تخريج أحاديثها. وأما النهي عن بيع السنين والمعاومة فهو مروي بعدة ألفاظ عن جابر بن عبد الله عند البخاري ومسلم وأحمد وأبي داود والترمذي والنسائي، ففي رواية للبخاري «نهى عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة» وفي رواية أخرى: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين». معنى المحاقلة كما قال صاحب القاموس: هو بيع الزرع قبل بدو صلاحه، أو بيعه في سنبله، أو المزارعة بالثلث أو الربع أو أقل أو أكثر، أو اكتراء الأرض بالحنطة. والمزابنة كما في الصحيحين: بيع رطب النخل بكيل من التمر، أو بيع العنب بالزبيب، والمعاومة: هي بيع الشجر أعواماً كثيرة، وقيل: هي اكتراء الأرض سنين، وكذلك بيع السنين: هو أن يبيع ثمر النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد؛ لأنه بيع غرر، لكونه بيع ما لم يوجد، والمخابرة: كراء الأرض أي إجارتها بالثلث والربع (انظر جامع الأصول: 403/ 1 ومابعدها، نيل الأوطار: 175/ 5، مجمع الزوائد: 104/ 4).

(5/3476)


وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه «نهى عن بيع السنين وعن بيع المعاومة» وهو بيع الشجر أعواماً، لأنه بيع المعدوم، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، والغرر كما عرفنا: هو ما انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته، ونوع الغرر: هو أن المبيع مجهول الوجود قد يظهر وقد لايظهر، ومجهول المقدار إن وجد.
وأما بيع الثمار بعد القطع أو الصرام، فلا خلاف في جوازه.

وأما بيع الثمار على الشجر أو بيع الزرع في الأرض بعد أن يخلق، فاختلف فيه العلماء: فقال الحنفية: إما أن يكون البيع قبل بدو الصلاح أو بعد بدو الصلاح بشرط القطع، أو مطلقاً أو بشرط الترك.
أولاً ـ فإن كان البيع قبل بدو صلاح الزرع أو الثمر، فهناك حالات:
1ً - إن كان بشرط القطع جاز، ويجب القطع للحال، إلا بإذن البائع.
2ً - وإن كان البيع مطلقاً عن الشرط: جاز أيضاً عند الحنفية خلافاً للشافعية ومالك وأحمد؛ لأن الترك ليس بمشروط نصاً؛ إذ العقد مطلق عن الشرط أصلاً، فلا يجوز تقييده بشرط الترك من غير دليل، خصوصاً إذا كان في التقييدفساد العقد. وجواز بيعه على الصحيح عند الحنفية لأنه مال منتفع به ولو علفاً للدواب، وإن لم يكن منتفعاً به في الحال عند الإنسان.
3ً - وإن كان بشرط الترك فالعقد فاسد باتفاق علماء الحنفية؛ لأنه شرط لا

(5/3477)


يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين: وهو المشتري ولا يلائم العقد، ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع كما لو اشترى حنطة بشرط أن يتركها في دار البائع شهراً، ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجر والأرض، وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطاً الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة، وهذا منهي عنه كما عرفنا. ثم إنه مشتمل على الغرر إذ لا يدري المشتري هل يبقى الثمر أم تصيبه آفة فيهلك، فتكون علة فساد البيع إذن ثلاثة أمور: فيه غرر، وشرط فاسد، وصفقة في صفقة.

ثانياً ـ وأما إن كان البيع بعد بدو الصلاح: 1 - فإن باع بشرط القطع جاز.
2 - وكذا إن باع مطلقاً عن الشرط يجوز أيضاً كما قدمنا.
3 - وإن باع بشرط الترك، فإن لم يتناه عِظمه، فالبيع فاسد بلا خلاف، كما تقدم في الحالة الثالثة السابقة.
وإن تناهى عظمه فالبيع فاسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن شرط الترك فيه منفعة للمشتري، والعقد لا يقتضيه، ولا يلائمه، كما إذا اشترى حنطة على أن يتركها في دار البائع شهراً. وقال محمد: يجوز استحساناً لتعارف الناس وتعاطيهم بذلك (1). والجواز عنده ليس لتعامل الناس شرط الترك في المبيع، وإنما التعامل بالمسامحة بالترك من غير شرط في عقد البيع. قال في الدر المختار: وبه يفتى أي بقول محمد.
_________
(1) المبسوط: 195/ 12، البدائع: 173/ 5، فتح القدير: 102/ 5 وما بعدها، رد المحتار: 40/ 4، الأموال ونظرية العقد: ص 307 ومابعدها.

(5/3478)


حكم ترك الثمار بعد بدو الصلاح حالة الشراء مطلقا ً:
لو اشترى الشخص مطلقاً عن شرط، فترك الثمار حتى نضجت، ففيه تفصيل:
آـ إن كان قد تناهى عظمه، ولم يبق إلا النضج: لم يتصدق المشتري بشيء سواء ترك بإذن البائع أو بغير إذنه، لأنه لا يزداد بعد التناهي، وإنما يتغير إلى حال النضج. وأما الزرع فالنماء فيه يكون للمشتري طيباً، حتى وإن تركه بغير إذن البائع لأنه نماء ملك المشتري؛ لأن الساق ملكه، حتى يكون التبن له بخلاف الشجرة.
ب ـ وإن لم يتناه عظمه ينظر: إن كان الترك بإذن البائع، جاز وطاب له الفضل. وإن كان بغير إذنه تصدق بما زاد على ما كان عند العقد؛ لأن الزيادة حصلت بسبب محظور، فأوجب خبثاً فيها، فكان سبيلها التصدُّق (1).

حكم الثمرة المتجددة في مدة الترك غير المشروطة: إذا أخرجت الشجرة في مدة الترك ثمرة أخرى، فهي للبائع سواء أكان الترك بإذنه أم بغير إذنه، لأنه نماء ملك البائع، فيكون له، ولو حللها له البائع جاز.
وإن اختلط الحادث بعد العقد بالموجود عنده، بحيث لا يمكن التمييز بينهما ينظر:
إن كان ذلك قبل أن يخلي البائع بين المشتري والثمار، بطل البيع، كما قرر الكاساني في البدائع؛ لأن المبيع صار معجوز التسليم بالاختلاط، للجهالة وتعذر التمييز.
وإن كان بعد التخلية لم يبطل البيع؛ لأن التخلية قبض، ويتم البيع، والثمرة
_________
(1) البدائع، المرجع السابق.

(5/3479)


تكون بينهما، لاختلاط ملك أحدهما بالآخر اختلاطاً لا يمكن التمييز بينهما، فكان الكل مشتركاً بينهما، والقول في مقدار الزيادة قول المشتري، لأنه صاحب يد لوجود التخلية (1). هذا هو مذهب الحنفية في بيع الثمار أو الزروع.

وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن بدا صلاح الثمر جاز بيعه مطلقاً أو بشرط القطع أو بشرط الترك على الشجر.
أما قبل بدو الصلاح فإن كان البيع بشرط الترك أو البقاء فلا يصح إجماعاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع» (2) والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث، وذلك لأن له خطر المعدوم (3).
وإن كان البيع بشرط القطع في الحال فيصح بالإجماع؛ لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة وحدوث العاهة فيها، قبل أخذها، بدليل ما روى أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، فقلنا لأنس ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، قال: أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟» (4) وهذا مأمون فيما يقطع في الحال، فصح بيعه، كما لو بدا صلاحه. قال ابن رشد: بما أن العلة في النهي هو خوف ما يصيب الثمار من الجائحة غالباً قبل أن تزهى، لم يحمل العلماء النهي في هذا على الإطلاق: أعني النهي عن البيع قبل الإزهاء، بل
_________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي والترمذي والموطأ عن ابن عمر (انظر جامع الأصول: 389/ 1).
(3) يلاحظ أن هذا الإجماع المدعى محل نظر، فقد أجاز البيع بشرط الترك يزيد بن أبي حبيب واللخمي من المالكية (بداية المجتهد: 148/ 2، المنتقى على الموطأ: 218/ 4).
(4) أخرجه البخاري ومسلم والموطأ والنسائي (انظر جامع الأصول: 390/ 1).

(5/3480)


رأوا أن معنى النهي هو بيعه بشرط التبقية إلى الإزهاء، فأجازوا بيعها قبل الإزهاء بشرط القطع.
واستدلوا على عدم جواز بيع الزرع الأخضر في الأرض إلا بشرط القطع في الحال بحديث ابن عمر وهو: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو (1)، وعن بيع السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري» (2) قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً يعدل عن القول به.
وأما إذا كان البيع قبل بدو الصلاح مطلقاً دون اشتراط تبقية ولا قطع، فالبيع باطل، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أطلق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح (الزهو)، فيدخل فيه محل النزاع. وإطلاق العقد يقتضي التبقية، لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف، والمتعارف هو الترك، بدليل سياق الحديث، فيصير العقد المطلق كالذي شرطت فيه التبقية، يتناولهما النهي جميعاً، ويصح التعليل بالعلة التي علل بها النبي صلّى الله عليه وسلم من منع الثمرة وهلاكها. ويدل الحديث أيضاً على أن مابعد الغاية: (حتى يبدو صلاحها) بخلاف ماقبل الغاية، وأن هذا النهي يتناول البيع المطلق عن شرط التبقية (3).
والخلاصة كما قال صاحب فتح القدير (4): لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر، ولا في عدم جوازه بعد الظهور قبل بدو الصلاح بشرط الترك، ولا في جوازه قبل بدو الصلاح بشرط القطع فيما ينتفع به، ولا في الجواز بعد بدو الصلاح، والخلاف إنما هو في بيعها قبل بدو الصلاح.
_________
(1) زها النخل يزهو: إذا ظهرت ثمرته، وروي «حتى يزهى» يقال: أزهى البسر: إذا احمر أو اصفر.
(2) أخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن ابن عمر (نصب الراية: 5/ 4).
(3) المنتقى على الموطأ: 218/ 4، بداية المجتهد: 148/ 2، القوانين الفقهية: ص 261، مغني المحتاج: 86/ 3، 89، المغني: 80/ 4 ومابعدها، غاية المنتهى: 69/ 2.
(4) فتح القدير: 102/ 5.

(5/3481)


ورجح ابن عابدين في رسالته نشر العرف جوازه بيع الثمار مطلقاً قبل بدو الصلاح أو بعده إذا جرى العرف بترك ذلك؛ لأن الشرط الفاسد إذا جرى به العرف صار صحيحاً ويصح العقد معه استحساناً (1).

وب دو الصلاح أو الإزهاء في المشهور عند الجمهور: هو ظهور الحمرة أو الصفرة في ثمر النخل، وظهور الماء الحلو، واللين، والاصفرار في ثمرة الكرم. وفيما عدا ذلك أن يبدو النضج، أي أن العبرة فيما يتلون: هو أن يأخذ في الحمرة أو السواد أو الصفرة، كالبلح والعناب والمشمش والإجاص. وفيما لايتلون: العبرة بظهور مبادئ النضج والحلاوة بأن يتموه «أي يبدو فيه الماء الحلو» ويلين ويصفر لونه، وفي الحبوب والزروع يعتبر اشتدادها (2). والدليل على هذا: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمر، حتى يطيب» (3) ونهى أيضاً عن بيع الثمار حتى تزهو، قيل: ومازهوها؟ قال: تحمروتصفر (4)، ونهى عن بيع العنب حتى يسود (5)، وقال الحنفية: بدو الصلاح: أن تؤمن العاهة والفساد (6) أي أن الحنفية اعتبروا مجرد ظهور الثمرة، والجمهور اعتبروا ظهور النضج وبدو الحلاوة في الثمار، وفي الحب والزرع اشتدادهما.
وينظر في بدو الصلاح إلى كل نوع أو صنف على حدة من أنواع الثمار عند
_________
(1) نشر العرف: ص 38، رسالة العرف والعادة للأستاذ الشيخ فهمي أبي سنة: ص 140.
(2) المنتقى على الموطأ: 217/ 4، بداية المجتهد: 150/ 2، القوانين الفقهية: ص 261، تكملة المجموع: 351/ 11، 360، مغني المحتاج: 91/ 2، المغني: 87/ 4، 89، غاية المنتهى: 70/ 2.
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله.
(4) رواه البخاري ومسلم والموطأ والنسائي عن أنس.
(5) رواه أصحاب السنن ماعدا النسائي عن أنس (انظر تخريج هذه الأحاديث في جامع الأصول: 390/ 1 ومابعدها، نيل الأوطار: 173/ 5).
(6) رد المحتار: 40/ 4.

(5/3482)


الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة في أظهر الروايتين عندهم: ينظر إلى كل صنف على حدة وفي بستان واحد، فلا يصح بيع الرمان مثلاً إن بدا صلاح العنب، ولابيع عنب في بستان إن بدا الصلاح في بستان آخر، إذ أن الجنس الواحد لايتبع جنساً آخر، والبساتين تختلف في إبان نضوجها بحسب موقعها الجغرافي.
وقال المالكية: إن بدا الصلاح في صنف من أصناف الثمار، جا ز بيع جميع مافي البساتين المجاورة. ولايجوز بيع صنف لم يبد صلاحه ببدو صلاح صنف آخر.
وقال الظاهرية: إذا بدا الصلاح في صنف من أصناف الثمار في بستان واحد جاز بيع جميع أصناف الثمار الأخرى بشرط كون البيع صفقة واحدة ماعدا النخل والعنب، فلا يجوز بيع شيء من ثمارهما إلا بعد الإزهاء أو ظهور الطيب بالسواد أو بغيره، لورود نص خاص بهما (1).

بيع الثمار المتلاحقة الظهور أو المقاثي والمباطخ (2):
إذا بيع ثمر أو زرع بعد بدو الصلاح ولو بعضه، وكان يغلب تلاحقه واختلاط حادثه بالموجود كتين، وقثاء، وموز، وورد، وبطيخ،،وباذنجان، وخيار، وقرع، فقال الحنفية في ظاهر الرواية والشافعية والحنابلة والظاهرية والزيدية والإباضية: يجوز بيع ماظهر منها من الخارج الأول. وأما بيع ماظهر وما لم يظهر، فلايجوز، لأن العقد اشتمل على معلوم ومجهول، قد لايخرجه الله تعالى من الشجرة. ولايصح أيضاً البيع، لعدم القدرة على تسليم المبيع، والحاجة تندفع ببيع أصوله، ولأن مالم يبد صلاحه يجوز إفراده بالبيع بخلاف مالم يخلق.
_________
(1) المراجع السابقة، المحلى: 530/ 8 ومابعدها.
(2) المقاثي جمع مقثاة: وهو موضع زراعة القثاء. والمطابخ ـ جمع مبطخة: وهو موضع زراعة البطيخ.

(5/3483)


إلا أن الحنفية يقولون فيما لايجوز: إن البيع فاسد (1). وغيرهم يقولون: إنه باطل. وهناك قول ثان عند الحنفية بجواز هذا البيع؛ لأن الناس اعتادوا بيع الثمار على هذه الصفة، وفي نزع الناس عن عادتهم حرج وضيق. وقد رجح ابن عابدين هذ القول وأخذت به مجلة الأحكام الشرعية.
وقال المالكية وابن تيمية وابن القيم والشيعة الامامية وهو الراجح عند متأخري الحنفية: يصح البيع عملاً بحسن الظن بالله تعالى وبمسامحة الإنسان لأخيه بجزء من الثمن المقابل للذي يخرجه الله تعالى من الثمرة، ولجريان العرف وعادة الناس به، ولأن ذلك يشق تمييزه، فجعل مالم يظهر تبعاً لما ظهر، كما أن مالم يبد صلاحه تبع لما بدا (2). وإني أرجح هذا الرأي لمسايرته متطلبات الحياة الواقعية، واعتياد الناس لهذا البيع وحاجتهم إليه، وإلا أدى منعه إلى منازعات لاتنتهي.
_________
(1) البدائع: 173/ 5 ومابعدها، تكملة المجموع: 359/ 11، مغني المحتاج: 92/ 2، المغني: 90/ 4، غاية المنتهى: 68/ 2، البحر الزخار: 317/ 3، شرح النيل: 72/ 4 ومابعدها، حاشية الشلبي على الزيلعي: 12/ 4، المحلى: 471/ 8، رد المحتار: 40/ 4، رسائل ابن عابدين: 139/ 2، قال ابن عابدين في حاشية رد المحتار (المكان المذكور): لايخفى تحقق الضرورة لهذا البيع في زماننا، ولاسيما في مثل دمشق الشام كثيرة الأشجار والثمار، وفي نزع الناس عن عادتهم حرج، ويلزم تحريم أكل الثمار في هذه البلدان، إذ لاتباع إلا كذلك، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما رخص في السلم للضرورة مع أنه بيع المعدوم، فحيث تحققت الضرورة هنا أيضاً أمكن الحاقه بالسلم بطريق الدلالة، فلم يكن مصادماً للنص، فلذا جعلوه من الاستحسان، لأن القياس عدم الجواز، وظاهر كلام الفتح الميل إلى الجواز، ولذا أورد له الرواية عن محمد، بل تقدم أن الحلواني رواه عن أصحابنا، وماضاق الأمر إلا اتسع، ولايخفى أن هذا مسوغ للعدول عن ظاهر الرواية.
(2) بداية المجتهد: 2ص156، بلغة السالك: 2ص79، المنتقى على الموطأ: 4ص219، القوانين الفقهية: ص 261، المختصر النافع: ص 154، أعلام الموقعين: 2ص12.

(5/3484)


بيع الحنطة في سنبلها:
قال الحنفية: يجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاّ في قشره، وكذا الأرز والسمسم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري» ولأنه حب منتفع به فيجوز بيعه في سنبله كالشعير (1).
وكذلك قال المالكية والحنابلة والظاهرية: يجوز بيع الحب في سنبله، ولكن لايجوز بالاتفاق بيع الحب من دون السنبل، لأنه بيع مالم تعلم صفته ولاكثرته. ودليلهم الحديث السابق، والمعقول: وهوأنه إذا اشتد الحب بدا صلاحه، فصار كالثمرة إذا بدا صلاحها، وإذا اشتد شيء من الحب جاز بيع جميع مافي البستان من نوعه، كالشجرة إذا بدا الصلاح في شيء منها (2).
وقال الشافعية في الأصح عندهم: مالايرى حبه كالحنطة والعدس والسمسم في السنبل لايصح بيعه وإن اشتد دون سنبله لاستتاره، ولابيعه مع السنبل؛ لأن المقصود منه مستتر بما ليس من صلاحه، فلا يصح قياساً على بيع الحنطة في تبنها بعد الدياس، فإنه لايصح قطعاً، ولأنه من باب الغرر، وأما حديث: «نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع السنبل حتى يبيض» أي يشتد، فهو محمول على الشعير ونحوه جمعاً بين الدليلين. والأرز كالشعير، والذرة بارزة الحبات كالشعير، وأما المستورة بكمام فكالحنطة (3).
_________
(1) فتح القدير: 5ص106.
(2) المنتقى على الموطأ: 4ص220، بداية المجتهد: 2ص151، حاشية الدسوقي: 3ص16، المغني: 4ص83، المحلى: 8ص395.
(3) مغني المحتاج: 2ص90، المجموع للنووي: 9ص338 ومابعدها.

(5/3485)


حكم البيع الفاسد:
سأذكر حكم البيع الفاسد ومايلحق به من الكلام في التصرف بالمبيع، وفسخ المشترى شراء فاسداً، والزيادة في المبيع بيعاً فاسداً.
للبيع الفاسد عند الحنفية أحكام (1)، منها: أن البيع ينعقد بقيمة المبيع أو بالمثل، لا بالثمن المسمى، ويفيد الملك في المبيع بالقبض؛ لأن ذكر الثمن المرغوب كالخمر مثلاً، أو إدخال شرط فاسد، أو وجود الجهالة في الثمن ونحوها، دليل على أن غرض المتعاقدين البيع، فينعقد بيعاً بقيمة المبيع باعتبار أن القيمة هي الواجب الأصلي في المبايعات؛ لأنها مثل المبيع في المالية. ويكون المبيع ببيع فاسد مضموناً في يد المشتري يلزمه مثله إن كان مثلياً، والقيمة إن كان قيمياً.
والدليل على أن البيع الفاسد منعقد يفيد الملك: هو أن ركن البيع «وهو مبادلة مال بمال» صدر من أهله مضافاً إلى محله، فوجب القول بانعقاده، وإنما المحظور ليس لمعنى في ذات المنهي عنه، وإنما لما يجاور البيع، كما في البيع وقت النداء إلى صلاة الجمعة، فكان ذكر هذه الشروط لايصح، فالتحق ذكرها بالعدم أي فكأنها لم تذكر.
وإنما لايثبت الملك قبل القبض كيلا يتقرر الفساد، لأنه إذا ثبت المالك قبل القبض وجب تسليم الثمن، وتسليم المبيع، فيتقرر الفساد، وهو لايجوز؛ لأن الفساد واجب الإزالة والرفع شرعاً.
وعند جمهور الفقهاء: لاينعقد البيع الفاسد، ولايفيد الملك أصلاً، وإن
_________
(1) المبسوط للسرخسي: 13ص23، البدائع: 5ص304، فتح القدير والعناية: 5ص227 ومابعدها، رد المحتار: 4ص136، مجمع الضمانات: ص216.

(5/3486)


قبض المشتري المبيع؛ لأن المحظور لايكون طريقاً إلى الملك،،ولأن النهي عن المبيع الفاسد يقتضي عدم المشروعية، وغير المشروع لايفيد حكماً شرعياً.

ويشترط في البيع الفاسد لإفادة الملك عند الحنفية شرطان:
1 ً - القبض: فلا يثبت الملك قبل القبض، لأنه واجب الفسخ رفعاً للفساد، وفي التسليم تقرير الفساد، كما تقدم.
2 ً - أن يكون القبض بإذن البائع: فإن قبض بغير إذنه أصلاً لايثبت الملك، وذلك بأن نهاه عن القبض أو قبض بغير محضر منه من غير إذنه.
فإن لم ينهه عن القبض ولا أذن له في القبض صريحاً، فقبضه في مجلس العقد بحضرة البائع: ففي المشهور من الروايات عن الحنفية أن الملك لايثبت. وذكر محمد في الزيادات أنه يثبت الملك، وهو الصحيح كما قال المرغيناني، لأن ذلك إذن منه بالقبض دلالة، كما في باب الهبة إذا قبض الموهوب له بحضرة الواهب، فلم ينهه، صح قبضه، ولأن البيع تسليط من البائع على القبض، فإذا قبضه المشتري بحضرة البائع، كان بحكم التسليط السابق.
ووجه الرواية التي سماها صاحب الإيضاح مشهورة: هو أن العقد الفاسد ليس فيه تسليط على القبض، لوجود المانع من القبض، لأن في قبض المبيع تقرير الفساد، فكان الإذن بالقبض إذناً بما فيه تقرير الفساد، بخلاف الهبة لامانع فيها من القبض، وحينئذ فلا سبيل إلى إثبات الإذن بطريق الدلالة (1).

التصرف في المشترى شراء فاسدا ً:
من أحكام البيع الفاسد: أن المشتري بعد قبض المبيع يملك التصرفات الناقلة
_________
(1) البدائع: 5ص304، فتح القدير: 5ص230.

(5/3487)


للملكية التي تتعلق بعين الشيء، وتكون نافذة مثل البيع والهبة والصدقة والرهن والإجارة؛ لأن هذه التصرفات تزيل حق الانتفاع بالحرام، ولكن الصحيح عند الحنفية أن هذه التصرفات تكون مكروهة لأنه يجب فسخ العقد الفاسد لحق الشرع، وفي هذه التصرفات إبطال أو تأخير لحق الفسخ، فتكره.
وأما التصرفات التي تتعلق بعين الشيء، أي في الانتفاع بالعين كأكل الطعام ولبس الثوب وركوب الدابة وسكنى الدار، فلا تباح للمشتري شراء فاسداً؛ لأن الثابت بالبيع الفاسد ملك خبيث، والملك الخبيث لايفيد إطلاق الانتفاع، لأنه واجب الرفع والبطلان، وهذا هو الصحيح
عن الحنفية (1).

مايبطل حق الفسخ:
1 - التصرف الواقع على المشترى شراءً فاسداً: من المعروف أن الملك الثابت في البيع الفاسد ملك غير لازم، بل هو مستحق الفسخ، ويحق لكل من العاقدين قبل القبض فسخ العقد من غير رضا الآخر، كيفما كان الفساد، كما يحق لهما الفسخ بعد القبض إذا كان الفساد راجعاً إلى العوض، كأن يكون الثمن خمراً أو خنزيراً.
وإن لم يكن الفساد راجعاً إلى العوض بعد القبض كالبيع بشرط منفعة زائدة لأحد العاقدين أو إلى أجل مجهول، فلكل واحد من العاقدين الفسخ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن العقد في نفسه غير لازم. وفي قول محمد: حق الفسخ لمن شرط له المنفعة لا غير؛ لأن من له شرط المنفعة قادر على تصحيح العقد بإزالة المفسد وإسقاطه (2).
_________
(1) فتح القدير: 5ص232، البدائع: 5ص304.
(2) البدائع: 5 ص 300، فتح القدير: ص 231.

(5/3488)


هذا بالنسبة لأصل التصرف الفاسد، فهل يبطل حق الفسخ بسبب التصرف الواقع بعد القبض على المشترى شراء فاسداً؟ فيه تفصيل (1).
1 - إن كان التصرف مزيلاً للملك من كل وجه كالبيع والهبة والإعتاق، فلا يفسخ (أي أن حق الفسخ في البيع الفاسد يبطل) وعلى المشتري القيمة أو المثل، لأنه تصرف في محل مملوك له، فنفذ تصرفه.
2 - وإن كان تصرفاً مزيلاً للملك من وجه، أو ليس مزيلاً للملك:
آـ فإن كان تصرفاً لا يحتمل الفسخ ومثلوا له بالتدبير والاستيلاد والكتابة (2) فإنه يبطل الفسخ.
ب ـ وإن كان التصرف يحتمل الفسخ، كالإجارة فإنه يفسخ، فلو آجر رجل الشيء، حقَّ للمالك الأول فسخ الإجارة، ثم يفسخ البيع بسب الفساد؛ لأن الإجارة وإن كانت عقداً لازماً، إلا أنها تفسخ بالعذر، ولا عذر أقوى من رفع الفساد.
ولو أوصى شخص بالمبيع بيعاً فاسداً، صحت الوصية، ويجوز فسخها ما دام الموصي حياً؛ لأن الوصية تصرف غير لازم حال حياة الموصي.
فلو مات الموصي قبل الفسخ، سقط حق الفسخ؛ لأن الملك انتقل إلى الموصى له، كما ينتقل بالبيع.
ويلاحظ أن حق الفسخ يورث، فلو مات المشتري شراء فاسداً فورثه الورثة،
_________
(1) البدائع: 5 ص 301 ومابعدها.
(2) هذه التصرفات تزيل الملك من وجه إذ أنها تؤول بالعبد إلى الحرية بعد الموت في التدبير والاستيلاد، أو بعد تنفيذ مقتضى الكتابة بوفاء الالتزام المالي.

(5/3489)


فيحق للبائع الفسخ، وكذا الورثة؛ لأن الوارث يقوم مقام الميت في حق الفسخ، وكذا يحق لورثة البائع إن مات أن يطالب ورثته باسترداد المبيع.

2 - الزيادة في المبيع بيعاً فاسداً: إذا حدثت زيادة في المبيع بيعاً فاسداً، فإما أن تكون زيادة منفصلة أو متصلة:
1 - الزيادة المتصلة: الزيادة المتصلة إما أن تكون متولدة من الأصل أو غير متولدة.
آـ فإن كانت متولدة من الأصل كالسمن والجمال، فلا تمنع الفسخ؛ لأن هذه الزيادة تابعة للأصل حقيقة، والأصل مضمون الرد، فكذلك التبع، كما في الغصب.
ب ـ وإن كانت غير متولدة من الأصل كخلط الدقيق بالسمن أو العسل، فإنها تمنع الفسخ؛ لأنه لو فسخ إما أن يفسخ على الأصل وحده أو على الأصل والزيادة معاً، ولا سبيل إلى الأول لتعذر الفصل، ولا سبيل إلى الثاني؛ لأن الزيادة لم تدخل تحت البيع، لا أصلاً ولا تبعاً، فلا تدخل تحت الفسخ.

2 - الزيادة المنفصلة: هذه الزيادة أيضاً إما متولدة من الأصل أوغير متولدة منه.
آـ فإن كانت متولدة من الأصل كالولد واللبن والثمرة، فلا تمنع حق الفسخ، وللبائع أن يسترد الأصل مع الزيادة تابعة للأصل، لكونها متولدة منه، والأصل مضمون الرد، فكذلك الزيادة، كما هو المقرر في حالة الغصب. ويلاحظ أن

(5/3490)


الأرش (1) يعد من هذا القسم؛ لأنه بدل جزء فائت من الأصل حقيقة كالمتولد من الأصل.
ب ـ وإن كانت غير متولدة، كالهبة والصدقة والكسب، فإنها لا تمنع الرد، وللبائع أن يسترد الأصل مع الزيادة، لأنها حصلت على ملكه، إلا أنها لا تطيب له، لأنها لم تحدث في ضمانه، بل في ضمان المشتري.
والخلاصة: أن الزيادة المتصلة غير المتولدة: هي التي تبطل حق الفسخ فقط دون غيرها من أنواع الزيادة. ولا تضمن الزيادة بالهلاك، وتضمن بالاستهلاك.
وكذلك الزيادة بالصنع تبطل حق الفسخ: وهي أن يحدث المشتري في المبيع بيعاً فاسداً صنعاً، لو فعله الغاصب في المغصوب يصير ملكاً له، كما إذا كان المبيع قطناً، فغزله، أو غزلاً فنسجه، أو حنطة فطحنها، أو سمسماً أوعنباً فعصره، أو ساحة فبنى عليها، أو شاة فذبحها وشواها أو طبخها ونحوها؛ إذ القبض في البيع الفاسد كقبض الغصب؛ لأن كل واحد منهما مضمون الرد حال قيامه، ومضمون القيمة أو المثل حال هلاكه، فكل ما يبطل حق المالك في الغصب يبطله في البيع. وحينئذ يلزم المشتري بدفع قيمة الشيء المبيع يوم القبض، كما في الغصب (2).
وعلى هذا فليس للبائع المطالبة بنقض البناء الذي بناه المشتري في الأرض المبيعة بيعاً فاسداً، وإنما على المشتري قيمتها، وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه.
وقال الصاحبان: لا يبطل حق الفسخ حينئذ، وللبائع أن ينقض البناء ويقلع الغرس كما في الغصب، إذا بنى على الأرض المغصوبة لا يبطل حق المالك في الأرض.
_________
(1) الأرش: هو العوض المالي الذي يقدَّر شرعاً، ويجب على الجاني في غير النفس والأعضاء، فإذا كان العوض عن النفس أو العضو فيسمى دية.
(2) البدائع: 5 ص 302 ومابعدها، رد المحتار: 4 ص 137، مجمع الضمانات: ص216.

(5/3491)


ودليل أبي حنيفة: أن البناء والغرس مما يقصد به الدوام، وقد حصل البناء أو الغرس بتسليط من البائع؛ لأن المبيع صار ملكاً للمشتري وفي النقض ضرر كبير، فلا ينقض البناء، ولا يقلع
الغرس، كما في تصرف البيع والهبة، بخلاف الغاصب، لأنه لم يوجد التسليط على البناء (1).
وأما نقصان المبيع بيعاً فاسداً فلا يمنع البائع من الاسترداد، سواء حصل النقص بآفة سماوية أو بفعل المبيع أو بفعل المشتري، فإن حصل بفعل أجنبي، فالبائع بالخيار: إن شاء أخذ قيمة النقص من المشتري، والمشتري يرجع به على الجاني، وإن شاء طالب الجاني وهو لا يرجع على المشتري (2).

خلاصة البيوع الممنوعة في الإسلام البيوع الممنوعة أو المنهي عنها في الإسلام كثيرة، لا فرق فيها عند الجمهور بين باطل وفاسد، وفرق الحنفية بينهما، كما تقدم، وقد عرفنا طائفة من هذه البيوع، أذكر هنا أهمها بالنظر إلى سبب الخلل الذي صاحبها، وهو أنواع أربعة:
بسبب أهلية العاقد: وبسبب الصيغة، وبسبب المعقود عليه أو محل التعاقد، وبسبب اقتران العقد بوصف أو شرط أو نهي شرعي.

أولاً ـ البيوع الممنوعة بسبب أهلية العاقد: اتفق الفقهاء على أنه يصح البيع من كل بالغ عاقل مختار مطلق التصرف غير محجور عليه لحق نفسه كالسفيه أو لحق غيره كالمدين. وأما من لا يصح بيعه فهو ما يأتي:
_________
(1) فتح القدير: 5 ص 302 ومابعدها، رد المحتار: 4 ص 137، البدائع: 5 ص 304.
(2) البدائع: 5 ص 303.

(5/3492)


1 - بيع المجنون: لا يصح بالاتفاق، لانعدام الأهلية، ومثله المغمى عليه والسكران والمخدَّر.
2 - بيع الصبي: لا يصح بيع غير المميز اتفاقاً إلا في الشيء اليسير، وأما المميز فلا يصح بيعه عند الشافعية والحنابلة؛ لعدم الأهلية، ويصح بيعه موقوفاً على إذن وليه أو إجازته عند الحنفية والمالكية، فإذا أجيز صار نافذاً، إذ لا يمكن اختباره إلا بتفويض التصرف إليه بالبيع والشراء، عملاً بالآية: {وابتلوا اليتامى ... } [النساء:6/ 4] ويصح تصرف المميز والسفيه بإذن وليهما عند الحنابلة.
3 - بيع الأعمى إذا وصف له المبيع صحيح عند الجمهور، لوجود الرضا، باطل غير صحيح عند الشافعية لقصوره في إدراك الجيد والرديء، فيكون المعقود عليه في حقه مجهولاً.
4 - بيع المكره: موقوف غير نافذ كالفضولي على التحقيق عند الحنفية، فإذا أجازه المكره بعد زوال الإكراه نفذ. وغير لازم في رأي المالكية، فيكون له الخيار بين فسخ العقد وإمضائه، وغير صحيح في مذهبي الشافعية والحنابلة لعدم توافر الرضا عند إبرام العقد.
5 - بيع الفضولي: صحيح موقوف على إجازة المالك الحقيقي في رأي الحنفية والمالكية؛ لأن الإجازة اللاحقة كالإذن السابق. ولا يصح أصلاً عند الشافعية والحنابلة، للنهي عن بيع ما لم يملكه الإنسان، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
6 - بيع المحجور عليه بسبب السفه أو الإفلاس أو المرض: أما السفيه المبذر فبيعه موقوف عند الحنفية والمالكية وفي الراجح لدى الحنابلة، ولا يصح في رأي الشافعية لعدم أهليته، وعدم اعتبار كلامه.

(5/3493)


وأما المفلس بسبب الحكم عليه بالإفلاس لحق الدائنين الغرماء فتصرفه بالبيع موقوف عند الحنفية والمالكية، غير صحيح لدى الشافعية والحنابلة.
وأما المريض مرض الموت فتبرعاته عند الجمهور غير المالكية نافذة في حدود ثلث التركة، موقوفة في الزائد عن الثلث على إجازة الورثة. ولا ينفذ تبرعه من الثلث في مذهب المالكية في المنقول، وينفذ من العقار كدار وأرض وشجر ونحوها مما لا يخشى تغييره.

7 - بيع المُلْجَأ: وهو المضطر إلى البيع لتهريب أمواله من وجه ظالم. وبيعه فاسد عند الحنفية، باطل عند الحنابلة.
ثانياً ـ البيوع الممنوعة بسبب الصيغة: يصح البيع بالاتفاق بتراضي العاقدين، وتوافق الإيجاب والقبول فيما يجب التراضي عليه من مبيع وثمن وغيرهما، وكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد دون أن يحدث بينهما فاصل. ولا يصح البيع في حالات، منها ما يأتي:
1 - بيع المعاطاة: المعاطاة: أن يتفق العاقدان على ثمن ومثمن، ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول، وقد يوجد لفظ من أحدهما. وهو بيع صحيح عند الجمهور؛ لأن البيع ينعقد بكل ما يدل على الرضا بتبادل الملك في الأموال، سواء بالصيغة المعبرة عن الإرادة صراحة من إيجاب وقبول، أم بما يدل على الرضا عرفاً، اعتباراً بعرف الناس واحتراماً لعاداتهم السائدة فيما بينهم، ما لم تصادم نصاً من نصوص الشرع. فيصح البيع باللفظ أو الإشارة أو بغيرهما، ما دام يدل على المقصود من العلم بتراضي العاقدين، ولم يثبت اشتراط لفظ، فيرجع للعرف كسائر الألفاظ المطلقة. ولا ينعقد البيع بالمعاطاة عند الشافعية (1)، بل لا بد من
_________
(1) فتح القدير: 5 ص 302 وما بعدها، رد المحتار: 4 ص 137، البدائع: 5 ص 304.

(5/3494)


الإيجاب والقبول في كل عقد بيعاً وإجارة ورهناً وهبة ونحوها؛ لأن اسم البيع لا يقع عليه، ولعدم توافر الدليل الظاهر المطلوب شرعاً الدال على الرضا؛ لأن البيع منوط بالرضا، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما البيع عن
تراض» (1) والرضا أمر خفي لا يطلع عليه، فأنيط الحكم بسبب ظاهر، وهو الصيغة، فلا ينعقد بالمعاطاة، إذ الفعل لا يدل بوضعه، فيكون المقبوض بالمعاطاة كالمقبوض ببيع فاسد، فيطالب كل عاقد صاحبه بما دفع إليه إن بقي، وببدله إن تلف.
وأجاز بعض الشافعية كابن سريج والرُوياني المعاطاة في المحقَّرات: وهي ماجرت العادة فيها بالمعاطاة، كرطل خبز، وحزمة بقل. وقال بعضهم: كل من وسم بالبيع، اكتفي منه بالمعاطاة، كالعامي والتاجر، وكل من لم يعرف بذلك لا يصح منه إلا باللفظ. وقال النووي في المجموع: وأما إذا كان يأخذ من البياع ويحاسبه بعد مدة ويعطيه، كما يفعل كثير من الناس، فإنه باطل بلا خلاف؛ لأنه ليس ببيع لفظي ولا معاطاة. وصحح النووي المعاطاة، فقال: المختار والراجح دليلاً الصحة؛ لأنه لم يصح في الشرع اعتبار لفظ، فوجب الرجوع إلى العرف، كغيره من الألفاظ (2).

2 - البيع بالمراسلة أو بواسطة رسول: يصح اتفاقاً، ويكون مجلس التعاقد هومجلس بلوغ الرسالة من العاقد الأول إلى العاقد الثاني، فإن تم القبول بعد هذا المجلس لم ينعقد العقد.
_________
(1) صححه ابن حبان.
(2) الأشباه للسيوطي: ص 89.

(5/3495)


3 - بيع الأخرس بالإشارة المفهومة أو الكتابة: صحيح اتفاقاً، كالنطق من الناطق، للضرورة؛ لأن ذلك يدل على ما في فؤاده، كما يدل عليه النطق من الناطق، فإن لم تكن له إشارة مفهومة ولا يحسن الكتابة لم يصح عقده.
4 - البيع مع غائب عن مجلس العقد: لا يصح اتفاقاً؛ لأن اتحاد المجلس شرط لانعقاد البيع.
5 - البيع مع عدم تطابق القبول والإيجاب: لا يصح اتفاقاً، إلا إذا كانت المخالفة إلى خير، كزيادة المشتري على الثمن المتفق عليه، يصح بها العقد عند الحنفية، ولا يصح عند الشافعية.
6 - البيع غير المنجز: وهو المعلق على شرط أو المضاف لوقت في المستقبل: فاسد عند الحنفية، باطل عند الجمهور.
ثالثاً ـ البيوع الممنوعة بسبب المعقود عليه (محل التعاقد): المعقود عليه بالمعنى الأعم: هو المال المبذول من كلا المتعاقدين، ويسمى أحد البدلين مبيعاً، ويسمى الآخر ثمناً.
وقد اتفق الفقهاء على صحة البيع إذا كان المعقود عليه مالاً متقوماً محرزاً موجوداً، مقدوراً على تسليمه، معلوماً للعاقدين، لم يتعلق به حق الغير، ولم ينه عنه الشرع. واختلفوا في صفة بعض البيوع المنهي عنها على النحو التالي:

1 - بيع المعدوم أو ماله خطر العدم، كبيع المضامين (ما في أصلاب الذكور) والملاقيح (ما في أصلاب الإناث) وحبل الحبلة (نتاج النتاج): باطل لا ينعقد باتفاق أئمة المذاهب الأربعة، للنهي عنه في الأحاديث الصحيحة.

(5/3496)


2 - بيع معجوز التسليم، كالطير في الهواء والسمك في الماء، باطل لا ينعقد باتفاق المذاهب، للنهي الثابت عنه في السنة.
3 - بيع الدين نسيئة وهو بيع الكالئ بالكالئ: باطل اتفاقاً، للنهي عنه شرعاً. وبيع الدين للمدين في الحال جائز اتفاقاً، وبيع الدين لغير المدين في الحال باطل عند الحنفية والحنابلة والظاهرية، جائز في المذاهب الأخرى.
4 - بيع الغرر الفاحش أو غير اليسير: وهو غير المتحقق الموجود، لا يصح اتفاقاً للنهي عنه، لكن منه ما هو باطل اتفاقاً كبيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة، ومنه ما هو فاسد في اصطلاح الحنفية باطل عند غيرهم: وهو بيع ضربة القانص والغائص والمزابنة (بيع الرطب على النخل، والعنب على الكرمة بثمر مقطوع، بالحزر والتخمين) والمحاقلة (بيع الحنطة في سنبلها بمثلها بالحرز والتخمين) والملامسة (تنجيز البيع بمجرد اللمس) والمنابذة (إبرام البيع بمجرد نبذ المبيع إلى المشتري أو بنبذ أحد المبيعات) وبيع الحصاة (ما تقع عليه الحصاة)، وبيع المجهول من أصناف متعددة أكثر من ثلاثة. قال ابن جزي المالكي (1): الغرر الممنوع عشرة أنواع:
النوع الأول ـ تعذر التسليم كالبعير الشارد، ومنه بيع الجنين في البطن دون بيع أمه، وكذلك استثناؤه في بطن أمه، وكذلك بيع ما لم يخلق كبيع حبل الحبلة: وهو نتاج ما تنتج الناقة، وبيع المضامين: وهي ما في ظهور الفحول.
النوع الثاني ـ الجهل بجنس الثمن أو المثمون: كقوله: بعتك ما في كمي.
النوع الثالث ـ الجهل بصفة أحدهما، كقوله: بعتك ثوباً من منزلي، أو بيع الشيء من غير تقليب ولا وصف.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 256 وما بعدها.

(5/3497)


النوع الرابع ـ الجهل بمقدار المبيع أو الثمن، مثل الثاني: بعت منك بسعر اليوم، أو بما يبيع الناس، أو بما يقول فلان إلا بيع الجزاف يجوز.
ومثال الأول: لايجوز بيع القمح في سنبله للجهل به، ويجوز بيعه مع سنبله، خلافاً للشافعي، وكذلك لايجوز بيعه في تبنه، ويجوز بيعه مع تبنه، ولا يجوز بيع تراب الصاغة، ويجوز بيع الفول الأخضر والجوز واللوز في القشر الأعلى، خلافاً للشافعي.

النوع الخامس ـ الجهل بالأجل: مثل بعتك إلى قدوم زيد أو إلى موت عمرو، ويجوز أن يقول: إلى الحصاد، أو إلى معظم الدراس أو إلى شهر كذا، ويحمل على وسطه.
النوع السادس ـ بيعتان في بيعة: وهو أن يبيع مبيعاً واحداً بأحد ثمنين مختلفين، أو يبيع أحد مبيعين بثمن واحد، فالأول: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً، أو بعشرين، إلى أجل، على أن البيع قد لزم في أحدهما. والثاني ـ أن يقول: بعتك أحد هذين الثوبين بكذا، على أن البيع قد لزم في أحدهما.
النوع السابع ـ بيع ما لا ترجى سلامته، كالمريض في السباق.
النوع الثامن ـ بيع الحصى: هو أن يكون بيده حصى، فإذا سقطت وجب البيع.
النوع التاسع ـ بيع المنابذة: وهو أن ينبذ أحدهما ثوبه إلى الآخر، وينبذ الآخر ثوبه إليه، فيجب البيع بذلك.
النوع العاشر ـ بيع الملامسة: وهو أن يلمس الثوب، فيلزمه البيع بلمسه، وإن لم يتبينه. وحاصل هذه الأنواع يرجع إلى بيع معجوز التسليم، وبيع المجهول، وبيع الأشياء المحتملة، وبيع الحصى وبيع المنابذة وبيع الملامسة.

(5/3498)


5 - بيع النجس والمتنجس: لا يصح اتفاقاً بيع النجس كالخمر والخنزير والميتة والدم، ولا يصح عند الجمهور أيضاً بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالسمن والزيت والعسل الذي وقعت فيه نجاسة كفأرة مثلاً. وأجاز المالكية الاستصباح وعمل الصابون بالزيت النجس، وأباح الحنفية بيع المتنجس لغير الأكل كالدبغ والدهان والاستضاءة في غير المسجد، ما عدا دهن الميتة، فإنه لا يحل الانتفاع به، تنزهاً عن فعل اليهود، حينما حرمت عليهم الميتة أذابوها وباعوها وأكلوا ثمنها. وكذلك بيع المعازف (آلات الطرب) لا يصح في رأي الجمهور للنهي عن الانتفاع بها، وأجاز الظاهرية وبعض المالكية بيعها، للأحاديث الثابتة الدالة على جواز ضرب الدف ونحوه.
6 - بيع الماء: يجوز عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة بيع الماء المملوك، أو المحرز في الأواني، أو ماء العين أو البئر. وقال الظاهرية: لا يحل بيع الماء مطلقاً. واتفق العلماء على أنه لا يصح بيع الماء المباح أي الماء العام المشترك بين الناس؛ لأن الناس شركاء فيه وفي النار والكلأ والملح.
7 - بيع المجهول: البيع المشتمل على جهالة فاحشة في المبيع أو الثمن أو الأجل أو نوع المرهون أو الكفيل فاسد عند الحنفية، باطل في رأي الجمهور؛ لأنه يفضي إلى النزاع والخلاف.
8 - بيع الشيء الغائب عن المجلس أو غير المرئي: يصح في رأي الحنفية من غير رؤية ولا وصف، وللمشتري الخيار عند الرؤية، ويصح في رأي المالكية على الصفة، ويثبت فيه خيار الرؤية. ولا يصح مطلقاً عند الشافعية، والحنابلة في الأظهر.
لكن اشترط المالكية (1) في البيع على الصفة خمسة شروط:
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 256.

(5/3499)


الأول ـ ألا يكون بعيداً جداً كالأندلس وإفريقية.
الثاني ـ ألا يكون قريباً جداً كالحاضر في البلد.
الثالث ـ أن يصفه غير البائع.
الرابع ـ أن يحصر الأوصاف المقصودة كلها.
الخامس ـ ألا ينقد ثمنه بشرط من البائع إلا في المأمون التغير كالعقار. ويجوز النقد من غير شرط.
ثم إن خرج المبيع على حسب الصفة والرؤية لزم البيع، وإن خرج على خلاف ذلك، فللمشتري الخيار.
ويجوز بيع ما في الأعدال من الثياب على وصف البرنامج (1)، بخلاف الثوب المطوي دون تقليب ونشر.

9 - بيع الشيء قبل القبض: لا يجوز في رأي الحنفية بيع المنقول قبل القبض، للنهي عنه، ويجوز بيع العقار قبل القبض؛ لأنه مأمون التغير غالباً. ولا يجوز إطلاقاً في رأي الشافعية، لعموم النهي: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» (2). وخصص المالكية المنع في الطعام، سواء أكان ربوياً أم غير ربوي. وقصر الحنابلة المنع على الطعام المكيل أو الموزون أو المعدود، لحديث: «إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تستوفيه» (3).
_________
(1) وهو بيع الغائب بلا وصف لنوعه وجنسه، ويجوز بشرطين: إثبات خيار الرؤية للمشتري، وعدم دفع الثمن للبائع. والبرنامج: الورقة المكتوب فيها ما في الوعاء.
(2) رواه أبو داود والدارقطني عن زيد بن ثابت (نيل الأوطار: 157/ 5).
(3) رواه أحمد ومسلم عن جابر (المرجع السابق).

(5/3500)


10 - بيع الثمار أو الزروع: باطل لا ينعقد اتفاقاً إذا كان قبل أن تخلق؛ لأنه معدوم. أما بعد أن تخلق: فإن كان قبل بدو الصلاح بشرط الترك أو الإبقاء، فلا يصح إجماعاً، والبيع فاسد عند الحنفية، باطل عند الجمهور. وإن كان بشرط القطع في الحال فيصح بالإجماع، وهو صحيح عند الحنفية إذا كان البيع مطلقاً عن الشرط، غير صحيح عند الجمهور.
وإن كان بعد بدو الصلاح، جاز بيعه على المفتى به عند الحنفية من رأي محمد بن الحسن ولو بشرط الترك إن تناهى عظمه، ويفسد إن لم يتناه عظمه. ويجوز بيعه مطلقاً ولو بشرط الترك في رأي الجمهور.

رابعاً ـ البيوع الممنوعة بسبب وصف أو شرط أو نهي شرعي: يصح البيع اتفاقاً إذا اكتملت أركانه وشروطه، ولم يكن مشتملاً على صفة ضارة بالمجتمع، أو شرط مخالف لمقتضى العقد، أو لاعتبارات أخرى خارجة عن العقد، كما في الحالات التالية:
1 - بيع العَرَبون: لا يجوز عند الجمهور للنهي عنه في السنة، ويعد فاسداً عند الحنفية، باطلاً عند المالكية والشافعية إن كان على ألا يرد البائع العربون إلى المشتري، إذا لم يتم البيع بينهما. فإن كان على أن يرده إليه إذا لم يتم البيع، فهو جائز.
وهو جائز لا بأس به عند الحنابلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أحله، لكن لم يثبت حديث كل من الفريقين.

2 - بيع العينة: وهو أن يظهر العاقدان فعل ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز، فيمنع ويقع باطلاً في رأي المالكية والحنابلة، للتهمة سداً للذرائع. وهو

(5/3501)


فاسد في رأي أبي حنيفة إن خلا من توسط شخص ثالث، وصحيح مع الكراهة في رأي الشافعية والظاهرية.
وبيع العينة ثلاثة أنواع (1):
الأول ـ أن يقول رجل لآخر: اشتر لي سلعة بكذا، وأربحك فيها كذا، مثل أن يقول: اشترها بعشرة، وأعطيك فيها خمسة عشر، إلى أجل، فإن هذا يؤول في رأي الإمام مالك إلى الربا؛ لأن مذهب مالك النظر إلى ما خرج عن اليد، ودخل فيه، ويلغي الوسائط، فكأن هذا الرجل أعطى لأحد عشرة دنانير، وأخذ منه خمسة عشر ديناراً إلى أجل، والسلعة واسطة ملغاة.
الثاني ـ لو قال: اشتر لي سلعة، وأنا أربحك فيها، ولم يسمّ الثمن، فهذا مكروه، وليس بحرام في مذهب مالك.
الثالث ـ أن يطلب السلعة عنده فلا يجدها، ثم يشتريها الآخر من غير أمره، ويقول: قد اشتريت السلعة التي طلبت مني، فاشترها مني إن شئت، فيجوز أن يبيعها نقداً أو نسيئة بمثل ما اشتراها به أو أقل أو أكثر.

3 - بيع الربا: ربا النسيئة وربا الفضل فاسد عند الحنفية، باطل عند الجمهور للنهي الثابت عنه في القرآن والسنة النبوية معاً.
4 - البيع بثمن محرَّم كالخمر والخنزير: فاسد عند الحنفية فينعقد بالقيمة، باطل عند الجمهور؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ في حديث البخاري ومسلم ـ حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 258.

(5/3502)


5 - بيع حاضر لباد (1) من الذين لا يعرفون الأسعار، وقيل: لكل وارد على مكان وإن كان من مدينة، وهذا هو المقصود الحقيقي من نهي الشرع. وهو بيع حرام لا يجوز للنهي عنه، وعلة النهي نبه عليها صلّى الله عليه وسلم بقوله: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (2) وذلك رفقاً بأهل البلد، فالشارع لاحظ مصلحة الجماعة وقدمها على مصلحة الواحد، ومنع أيضاً الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم في الرخص وقطع الموارد عنهم، وصورته: أن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه الحاضر، فيقول: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. وللفقهاء تخصيصات لعموم هذا النهي (3)، فقالت الحنفية: إنه يختص المنع (أي كراهة التحريم) من ذلك بزمن الغلاء وبما يحتاج إليه أهل المصر.
وقال الشافعية والحنابلة: إن الممنوع إنما هو أن يجيء البلد بسلعة من يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه الحاضر، فيقول: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. قال ابن حجر في الفتح: فجعلوا الحكم منوطاً بالبادي ومن شاركه في معناه، وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب، فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضرين.
وجعلت المالكية البداوة قيداً. وعن مالك: لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه، فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق، فليسوا داخلين في ذلك. وحكم هذا البيع فاسد ويجوز فسخه عند المالكية كالنجش، وصحيح عند الحنفية، وفيه الخيار عند الشافعية والحنابلة.
_________
(1) الحاضر: ساكن الحضر أو المدن، والبادي: ساكن البادية. والحاضر: خلاف البادي.
(2) روى الجماعة إلا البخاري عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (نيل الأوطار: 164/ 5).
(3) نيل الأوطار: 164/ 5.

(5/3503)


6 - تلقي الركبان: أي الذين يجلبون إلى البلد أرزاق العباد للبيع، سواء أكانوا ركباناً أم مشاة، جماعة أم واحداً. والتلقي محرم، وقال الحنفية: مكروه تحريماً، للنهي الوارد فيه: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد» (1) وقد خرج الحديث مخرج الغالب في أن الجالب يكون عدداً، ويكون الجالب في الغالب راكباً.
اختلف العلماء في هذا النهي: هل يقتضي الفساد أو لا، فقيل: يقتضي الفساد، وقيل: لا يقتضي ذلك، وهو الظاهر؛ لأن النهي ههنا لأمر خارج وهو لايقتضيه، كما تقرر في الأصول، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق» (2) قال ابن تيمية في منتقى الأخبار: وفيه دليل على صحة البيع. فالراجح أن هذا البيع وبيع الحاضر للبادي صحيح غير فاسد، وهو رأي الحنفية، ويثبت فيه خيار الغبن عند الحنابلة والشافعية، ولا يجوز لحق أهل الأسواق ويكون فاسداً عند المالكية.

7 - بيع النجش: قال الشافعي: النجش: أن تحضر السلعة تباع، فيعطي بها الشيء، وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السوّام، فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون، لو لم يسمعوا سومه.
فالنجش في الشرع: الزيادة في السلعة، ويقع ذلك بمواطأة البائع، فيشتركان في الإثم. وبعبارة أخرى: الزيادة في ثمن السلعة المعروضة للبيع لا ليشتريها، بل ليغر بذلك غيره. وسمي الناجش في السلعة ناجشاً؛ لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها. وقد أجمع العلماء على أن الناجش عاص بذلك.
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس.
(2) رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة.

(5/3504)


وأما حكم البيع فمختلف فيه: فقال الظاهرية: إنه فاسد. وقال المالكية والحنابلة في المشهور عندهم: البيع صحيح ويثبت فيه الخيار للمشتري، إذا غبن فيه غبناً غير معتاد.
وقال الحنفية، والشافعية في الأصح: البيع صحيح مع الإثم، فهو مكروه تحريماً عند الحنفية، حرام عند الشافعية، لكن لا يكره النجش عند الحنفية إلا إذا زاد المبيع عن قيمته الحقة، فإن لم يكن بلغ القيمة فزاد لا يريد الشراء فجائز، ولا بأس؛ لأنه عون على العدالة.

وأما بيع المزايدة أو المزاد العلني وهو البيع ممن يزيد فجائز ليس من المنهي عنه، كما سأبين هنا وكما تقدمت الإشارة إليه.
بيع المزايدة: هو البيع على الصفة التي فعلها النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد والترمذي عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم باع قَدَحاً وحِلْساً (1) فيمن يزيد» وحكى البخاري عن عطاء: أنه قال: أدركت الناس لا يرون بأساً في بيع المغانم فيمن يزيد (2). وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد، وكذلك كانت تباع الأخماس، أي أخماس الغنائم. وقال الترمذي عقب حديث أنس المذكور: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لم يروا بأساً ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث. قال ابن العربي: لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث، فإن الباب واحد والمعنى مشترك.
والظاهر الجواز مطلقاً؛ لأن القدح والحلس في حديث أنس المذكور لم يكونا من ميراث أو غنيمة، ويكون ذكرهما خارجاً مخرج الغالب؛ لأنهما الغالب على ماكانوا يعتادون البيع فيه مزايدة (3).
_________
(1) القدح الوعاء الذي يشرب فبه، والحِلْس: البساط أو الكساء الرقيق الذي يكون تحت برذعة البعير.
(2) ووصله ابن أبي شيبة عن عطاء ومجاهد.
(3) نيل الأوطار: 169/ 5.

(5/3505)


وبيع المزاد: أن يعرض البائع السلعة على جمهور الناس، فيزيد في السعر من يشاء، ثم يستقر البيع على الشخص الذي يعرض آخر سعر.
وروي عن إبراهيم النخعي أنه كره بيع المزايدة، واحتج بحديث جابر الثابت في الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم قال في مدبّر: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمان مئة درهم. قال الإسماعيلي: ليس في قصة المدبر بيع المزايدة، فإن بيع المزايدة: أن يعطي به واحد ثمناً، ثم يعطي به غيره زيادة عليه.
ولفظ حديث أنس عند أبي داود وأحمد: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه، فقال رجل: هما علي بدرهم، ثم قال آخر: هما علي بدرهمين».

8 - البيع وقت النداء لصلاة الجمعة من حين يصعد الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وعند الحنفية: من الأذان الأول.
وهو مكروه تحريماً عند الحنفية، صحيح حرام عند الشافعية، ويفسخ في المشهور عند المالكية، ولا يصح أصلاً عند الحنابلة.

9 - بيع العنب لعاصر الخمر: صحيح في الظاهر مكروه تحريماً عند الحنفية وحرام عند الشافعية، لاستيفاء العقد شروطه وأركانه الشرعية، والإثم بسبب النية الفاسدة أو الباعث غير المشروع. ومثله بيع السيف لمن يقتل به غيره ظلماً، وبيع الشبكة لمن يصطاد في الحرم، وبيع الخشب لمن يتخذ منه الملاهي.
وهو باطل في رأي المالكية والحنابلة سداً للذرائع، مثل بيع السلاح في الفتنة أو لقطاع الطريق، وبيع العينة المتخذ وسيلة للربا؛ لأن مايتوصل به إلى الحرام حرام، ولو بالقصد أو النية.

(5/3506)


10 - بيع الأم دون ولدها الصغير أو بيعه دونها: لايجوز حتى يستغني الولد، بسبب التفريق بينهما، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن التفريق بين المحارم، فقال: «من فرّق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (1) وأجاز المالكية التفريق بين الولد وبين والده، لكن ورد النهي عن ذلك أيضاً: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من فرق بين الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه» (2) فهذا إن صح أولى بالعمل.
وحكم البيع الأول أنه فاسد لاينعقد في رأي الجمهور. وقال أبو حنيفة: إنه ينعقد البيع.

11 - بيع الإنسان على بيع أخيه: وصورته: أن يكون قد وقع البيع بالخيار، فيأتي في مدة الخيار رجل، فيقول للمشتري: افسخ هذا البيع، وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه، أو أحسن منه. والشراء على الشراء: هو أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع، وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن. والسوم على السوم: أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، فيقول آخر للبائع: أنا أشتريه منك بأكثر، بعد أن كانا قد اتفقا على الثمن.
وقد أجمع العلماء على تحريم هذه الصور كلها، وأن فاعلها عاص (3)؛ للحديث: «لايبع أحدكم على بيع أخيه» (4) أي في الدين، وهذا في رأي أكثر العلماء خرج مخرج الغالب، فلا اعتبار لمفهومه، وأنه يحرم أيضاً على بيع الكافر. وأما حكم البيع المذكور فمختلف فيه: فذهب الحنفية والشافعية إلى صحته مع الإثم. وذهبت الحنابلة وابن حزم الظاهري والمالكية في إحدى الروايتين عنهم إلى
_________
(1) رواه أحمد والترمذي عن أبي أيوب لكن في إسناده مختلف فيه (نيل الأوطار: 161/ 5).
(2) رواه ابن ماجه والدارقطني عن أبي موسى (المرجع السابق) وإسناده لابأس به.
(3) سبل السلام: 23/ 3.
(4) رواه أحمد عن ابن عمر (نيل الأوطار: 167/ 5) ومابعدها.

(5/3507)


فساده، ولكن المعتمد في رأي المالكية وغيرهم ماعدا ابن حزم: بعد الركون والتقارب (1)؛ لأن السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد لايحرم اتفاقاً، كما حكى ابن حجر عن ابن عبد البر، فتعين أن السوم المحرَّم: ماوقع فيه قدر زائد على ذلك.

12 - بيع وشرط: وهو الذي يسميه الفقهاء بيع الثنيا، وللفقهاء تفصيل في حكمه.
فقال الحنفية، يفسد البيع بالشرط الفاسد: وهو الذي لايقتضيه العقد ولايلائمه ولا ورد به الشرع، ولايتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة لأحد المتعاقدين كأن يشتري شخص قماشاً على أن يخيطه البائع قميصاً. ويصح العقد ويلغو الشرط الباطل: وهو ماكان فيه ضرر لأحد العاقدين، كأن يبيع إنسان شيئاً بشرط ألا يبيعه المشتري أو لا يهبه.
وقال المالكية: يبطل البيع والشرط، إن اقتضى الشرط منع المشتري من تصرف عام أو خاص، خلافاً للحنفية في الشرط الباطل. ويجوز البيع والشرط إن اشترط البائع منفعةنفسه، خلافاً للحنفية أيضاً في الشرط الفاسد. ويجوز البيع ويبطل الشرط إن عاد الشرط بخلل في الثمن، مثل: «إن لم تأت بالثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بيننا» فإن قال البائع: (متى جئتك بالثمن، رددت إلي المبيع) لم يجز، وهو المعروف عند الحنفية ببيع الوفاء.
ورأى الشافعية: أنه يصح العقد والشرط إن كان فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والكفالة. ويبطل البيع إن كان الشرط منافياً مقتضى العقد، مثل ألا يبيع المبيع أو لا يهبه، وهذا موافق للمالكية.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص259، نيل الأوطار 169/ 5.

(5/3508)


وذهب الحنابلة إلى أنه لا يبطل البيع بشرط واحد فيه منفعة لأحد العاقدين، ويبطل بالشرطين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك» (1).
وبناء عليه، أجمع العلماء إلى أنه لا يجوز اشتراط السلف من أحد المتبايعين، إذا عزم مشترطه عليه، فإن أسقطه جاز البيع عند المالكية، ولم يجز عند الجمهور.

13 - الجمع في صفقة واحدة بين البيع وبين أحد ستة عقود: وهي الجعالة، والصرف، والمساقاة، والشركة، والنكاح، والقراض (المضاربة): هو فاسد ممنوع في المشهور عند المالكية.
وأجازه أشهب، ونقل ابن جزي (2) أن ذلك وفاق للشافعي وأبي حنيفة.
وأجاز المالكية الجمع بين البيع والإجارة، وبين البيعتين في البيعة ويكون هذا من باب الخيار. ومنع الجمهور ذلك، واعتبر الحنفية البيع فاسداً، والشافعية والحنابلة اعتبروه باطلاً.

البيوع الفاسدة أو الباطلة عند المالكية (3):
الباطل أو الفاسد في البيع يكون من خمسة أوجه وهي: ما يرجع إلى المتعاقدين، وما يرجع إلى الثمن وإلى المثمون، ويعرف ذلك في بيان الأركان، وما يرجع إلى الغرر، وما يرجع إلى الربا، والخامس ـ سائر البيوع المنهي عنها وهي عشرة:
_________
(1) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو.
(2) القوانين الفقهية: ص 360.
(3) القوانين الفقهية: ص 257 - 260، بداية المجتهد: 125/ 2، 146 ومابعدها، 158 - 168.

(5/3509)


1 - بيع الطعام قبل قبضه.
2 - بيع العينة.
3 - بيع العربون.
4 - بيع حاضر لباد.
5 - تلقي السلعة على بعد ميل وهو (1848 م).
6 - بيع الإنسان على بيع أخيه بعد اطمئنان البائع لمن يسومه، وهو صحيح مع الإثم عند الجمهور، فاسد عند الحنابلة، والنهي عنه للتحريم، لما فيه من الإيذاء وإيقاع العداوة والشحناء بين المشترين.
7 - البيع يوم الجمعة.
8 - بيع الأم ولدها الصغير أو بيعه دونها.
9 - بيع وشرط (بيع الثنيا).
10 - الجمع في صفقة واحدة بين البيع وبين أحد ستة عقود وهي (الجعالة، والصرف، والمساقاة، والشركة، والنكاح، والقراض).

البيوع الباطلة لدى الشافعية (1):
هي كثيرة، أهمها واحد وثلاثون وهي:
1 - بيع ما لم يقبض إلا في ميراث وموصى به ورزق سلطان عيِّن لمستحق في بيت المال قدر حصته أو أقل، وغنيمة، ووقف، وموهوب استرجع، وصيد في
_________
(1) تحفة الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري: ص 152 - 158، حاشية الشرقاوي: 50/ 2 - 64.

(5/3510)


شبكة ونحوها، ومُسْلَم فيه، ومكترى ومشترك ومال قراض، ومرهون بعد انفكاكه.
2 - بيع ما عَجَز عن تسليمه حالاً، كالطير في الهواء، إلا في ستة أشياء وهي: إجارة، وسَلَم، وغلة كثيرة لا يمكن كيلها إلا في زمن طويل، ومغصوب أو آبق لقادر عليه، وعَيْن من منقول أو عقار ببلد آخر ونحوه، فيصح البيع في كل منها وإن عجز عن تسليمه في الحال؛ لأن المشتري يصل إلى غرضه فيها.
3 - بيع حَبَل الحَبَلة: كأن يقول: إذا نُتجت هذه الناقة، ثم نتجت التي في بطنها فقد بعتك ولدها، أو بأن يشتري شيئاً بثمن مؤجل بنتاج ناقة معيَّنة، ثم نتاج ما في بطنها.
4 - بيع المضامين: وهي ما في أصلاب الفحول.
5 - وبيع الملاقيح: وهي ما في بطون الإناث.
6 - بيع بشرط إلا بشرط رَهْن أو كفيل أو إشهاد أو خيار، أو أجل، أو إعتاق، أو براءة من العيوب، فيبرأ عن عيب باطن بالحيوان لم يعلمه، أو نقل المبيع من مكان البائع أو قطع الثمار، أو تبقيتها بعد الصلاح، أو بشرط وصف يُقصد ككون الآلة الكاتبة تكتب بلغات معينة، أو بشرط ألا يُسَلِّم البائع المبيع حتى يستوفي ثمنه في الحال، أو بشرط الرد بعيب.
7 - بيع الملامسة: كأن يلمس ثوباً مطوياً أو في ظلمة، ثم يشتريه على ألا خيار له إذا رآه، اكتفاءً بلمسه عن رؤيته.
8 - بيع المنابذة: بإن ينبُذ كل منهما ثوبه على أن أحدهما بالآخر، ولا خيار إذا عَرَفا الطول والعرض، أو بأن ينبذه إليه بثمن معلوم.

(5/3511)


9 - بيع المحاقلة: وهو بيع البر في سنبله.
10 - بيع ما لم يُمْلَك إلا في سَلَم، وإجارة وربا واقعين على ما في الذمة، فيصح كل منهما، وإن كانت المنفعة والمسلم فيه والمبيع غير مملوكة حالة العقد، فيصح بيع المسلم فيه، كقدر من البر صفته كذا، وثوب صفته كذا، وإن لم يكن عند المسلم إلىه شيء من البر أو الثياب حال العقد. ويصح إجارة شيء في الذمة، كأن أجره دابة في ذمته ليركب عليها إلى مكة مثلاً أول شهر كذا، ولم يكن في ملكه وقت العقد شيء من نوع الدابة ولاجنسها، وبحصلها بعد ذلك. ويصح مبايعة مال ربوي في الذمة بمال آخر في الذمة، كأن يبيع شخص لآخر صاع بُرّ مثلاً بصاع آخر في ذمته، ولم يكن واحد منهما مالكاً له حال العقد، ثم قبل تفرقهما من المجلس يحصلان ذلك بقرض أو اتهاب أو نحوهما، ويتقابضان قبل التفرق.
والدليل على بطلان بيع غير المملوك خبر: «لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك» (1) وبناء عليه قالوا: بيع الفضولي باطل.
11 - بيع لحم بحيوان ولو غير مأكول، كبيع لحم بقر ببقر أو بشاة، أو بحمار للنهي في خبر الترمذي.
12 - بيع شاة لبون (2) بمثلها. وكذا بيع كل حيوان مأكول أو فيه بيض بمثله، لجهالة ما يقابل اللبن ونحوه من الثمن، فهو كبيع درهم وثوب بدرهم وثوب.
13 - بيع الحصاة: كأن يبيعه من هذه الأثواب ما تقع عليه الحصاة.
14 - بيع الماء الجاري أو النابع وحده ولو مدة معلومة؛ لأنه غير مملوك
_________
(1) رواه الترمذي وحسنه.
(2) أي ذات لبن يقصد حلب مثله.

(5/3512)


وللجهل بقدره؛ لأنه يزيد شيئاً فشيئاً ويختلط المبيع بغيره، فيتعذر التسليم. فإن باعه بشرط أخذه الآن صح. فإن كان راكداً، جاز بيعه، بشرط تقديره بكيل أو وزن أو مسح بالأذرع.
15 - بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بغير شرط القطع، أي بشرط الإبقاء أو مطلقاً للنهي عن بيعها قبل الصلاح، أما بيعها بشرط القطع قبل الصلاح أو بغيره بعده فجائز. فإن باع نخلاً وعليه ثمرة مؤبرة، فهي للبائع، أو غير مؤبرة فللمشتري.
16، 17 - بيع رُطب بمثله أو بتمر، أو بيع عنب بمثله أو بزبيب، للجهل الآن بالمماثلة وقت الجفاف، لأنه «صلّى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم، فقال: فلا إذن» (1). لكن يجوز البيع للحاجة فيما دون خمسة أوسق (2).
18، 19 - بيع بُرّ بمثله أو بجاف، متفاضلين إن اتحد الجنس، للجهل بالمماثلة ولتحقق الربا.
20، 21، 22 - بيع لحم طري بمثله، أو بقديد، وبيع يابس بمثله متفاضلين إن اتحد الجنس، لتحقق الربا، مثل بيع لحم بقر بمثله متفاضلين.
ويلاحظ أن أنواع اللحوم والألبان والأدهان والسمك والخلول وأنواع الخبز أجناس مختلفة كأصولها، فيجوز بيع جنس منها بآخر متفاضلين، فيجوز بيع لحم بقر بلحم ضأن متفاضلين.
_________
(1) رواه الترمذي وصححه.
(2) تساوي 653 كغ أي قنطارين ونصف.

(5/3513)


23 - بيع نجس ككلب للنهي عن ثمنه، وكخنزير.
24، 25، 26 - بيع حر وأم ولد ومكاتب.
27 - بيع حشرات كعقارب وفئران، إذ لا نفع فيها يقابل بالمال.
28 - بيع عَسْب الفحل: وهو أجر ضرابه، للنهي عنه في خبر البخاري.
29 - بيع عبد مسلم من كافر، لما في ملكه له من الإهانة.
30 - بيع الغرر كمسك في صوانه، وصوف على ضهر غنم، للجهل بقدر المبيع.
31 - بيع العرايا: وهو بيع الرطب على الشجر بتمر، أو العنب على الشجر بزبيب على الأرض في خمسة أوسق فأكثر، ويجوز فيما دونها بعد بدو الصلاح؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم رخص في ذلك في الرطب، وقيس به العنب؛ لأن كلاً منهما ربوي، وذلك إن خرص ماعلى الشجر وكيل الآخر، لا إن وزن أحدهما وخرص الآخر.
هذا .. وتعرف أنواع البيوع الباطلة عند الحنابلة مما ذكرته في شروط البيع.

والبيوع المحرمة غير الباطلة عند الشافعية ثمانية (1) وهي:
1 - بيع المصرَّاة: وهي الدابة التي يترك حلبها عمداً أياماً ليجتمع اللبن في ضرعها، فيتوهم المشتري كثرة اللبن فيها، فيقبل على شرائها. وهو بيع حرام صحيح، للنهي عنه في حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم: «لاتصروا الإبل والغنم .. ».
_________
(1) مغني المحتاج: 35/ 2 - 38.

(5/3514)


2 - بيع الحاضر للبادي: وهو أن يتصدى شخص من أهل البلد لمن يريد بيع متاعه من أهل البادية أو غيرها، قائلاً له: لا تبع هذه البضاعة وانتظر حتى أبيعها لك تدريجياً، علماً بأن أهل البلد بحاجة إليها. وهو حرام لحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم: «لا يبع حاضر لباد».
3 - تلقي الركبان: وهو استقبال القادمين بالبضائع خارج البلد لشرائها منهم بسعر أقل من ثمن السوق العام. وهو حرام لحديث أبي هريرة عند مسلم: «لاتلقوا الركبان للبيع».
4 - الاحتكار: وهو تخزين البضائع التي هي أقوات الناس وانتظار غلاء أسعارها مع حاجة الناس إلىها. وهو حرام لحديث معمر بن عبد الله العدوي عن مسلم: «لايحتكر إلا خاطئ» أي آثم عاصٍ، للتضييق على الناس.
5 - بيع النّجْش: وهو أن يزيد شخص في ثمن السلعة دون قصد شرائها، لإيهام غيره بزيادة الثمن، وهو حرام لحديث عبد الله بن عمر عند البخاري ومسلم: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن النجْش».
6 - السوم على السوم والبيع على بيع غيره والشراء على الشراء:
يحرم السوم على سوم غيره بعد استقرار الثمن، ويحرم البيع على بيع غيره قبل لزوم البيع في زمن خيار المجلس أو الشرط لتمكنه من الفسخ، بأن يأمر المشتري بالفسخ ليبيعه مثل المبيع بأقل من هذا الثمن أو خيراً منه بمثل ثمنه أو أقل. ويحرم الشراء على الشراء في زمن الخيار بأن يأمر المشتري البائع بفسخ البيع ليشتريه بأكثر من ثمنه الذي اشتراه به غيره. والأدلة أحاديث وهي حديث البخاري ومسلم: «لا يسُم المسلم على سوم أخيه» وحديث الصحيحين: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» أو «لا يبع الرجل على بيع أخيه» زاد النسائي: «حتى يبتاع أو يذر» وفي معناه الشراء على الشراء. وحكمة التحريم الإيذاء وإثارة العداوة والبغضاء.

(5/3515)


7 - البيع لمن يعلم أن جميع ماله حرام: كأن يعلم أن مال المشتري ثمن خمر أو خنزير أو ميتة أو كلب، وأن كسبه غير مشروع كالرشوة أو اليانصيب أو القمار أو أجرة عمل حرام كالنواح والرقص ومهر البغي.
فإن لم يكن جميع ماله حراماً، بل كان خليطاً من حرام وحلال، كان التعامل معه مكروهاً، لحديث النعمان بن بشير: «الحلال بيِّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام».
8 - بيع الرُّطب والعنب لعاصر الخمر: يحرم بيع الرطب والعنب ونحوها كتمر وزبيب لعاصر الخمر والنبيذ، أي لمتخذها لذلك بأن يعلم منه ذلك أو يظنه ظناً غالباً.
ومثل ذلك بيع الغلمان المرد ممن عرف بالفجور بالغلمان، وبيع السلاح من باغ وقاطع طريق ونحوهما، وكذا كل تصرف يفضي إلى معصية. أما إذا شك فيما ذكر أو توهمه فالبيع مكروه.