الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المبحث الخامس ـ
الخيارات عرفنا سابقاً أن العقد اللازم هو الخالي
من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد العاقدين فسخه وإبطاله.
ومعنى الخيار: أن يكون للمتعاقد الخيار
بين إمضاء العقد وعدم إمضائه بفسخه إن كان الأمر أمر خيار شرط أو رؤية أو
عيب، أو أن يختار أحد المبيعين إن كان الأمر أمر خيار التعيين (1)، علماً
بأن الأصل في البيع اللزوم؛ لأن القصد منه نقل الملك، إلا أن الشارع أثبت
فيه الخيار رفقاً بالمتعاقدين.
_________
(1) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 466.
(5/3516)
عدد الخيارات:
ذكر الحنفية (1) سبعة عشر خياراً وهي
خيار الشرط، والرؤية، والعيب، والوصف، والنقد، والتعيين، والغبن مع
التغرير، وهذه السبعة هي التي ذكرتها المجلة (م 300 - 360)، وخيار الكمية،
والاستحقاق، والتغرير الفعلي، وكشف الحال، وخيانة المرابحة والتولية،
وتفريق الصفقة بهلاك بعض المبيع، وإجازة عقد الفضولي، وتعلق حق الغير
بالمبيع بسبب كونه مستأجراً أو مرهوناً.
وقال المالكية (2): الخيار نوعان: خيار
التروي أي التأمل والنظر للبائعين أو لغيرهما، وهو خيار الشرط الذي ينصرف
إليه لفظ الخيار عند الإطلاق. وخيار نقيصة: وهو ماكان موجبه نقصاً في
المبيع من عيب أو استحقاق، ويسمى الحكمي؛ لأنه جرَّ إليه الحكم.
وأما خيار المجلس: فهو باطل عندهم، وهو رأي الفقهاء السبعة بالمدينة وأبي
حنيفة، ويتم البيع بالقول (الإيجاب والقبول) وإن لم يفترقا من المجلس.
وأجازه الشافعي وابن حنبل وسفيان الثوري وإسحاق، فإذا تم العقد، فالعاقدان
بالخيار مالم يفترقا من المجلس، للحديث الصحيح المتقدم في بحث هذا الخيار
في ركن البيع.
وقال الشافعية (3): الخيار نوعان: خيار
التشهي، وخيار النقيصة. وخيار التشهي: مايتعاطاه المتعاقدان باختيارهما
وشهوتهما من غير توقف على فوات أمر في المبيع، وسببه المجلس أو الشرط.
وخيار النقيصة: سببه خُلْف لفظي أو تغرير
_________
(1) الدر المختار: 47/ 4.
(2) الشرح الكبير: 91/ 3، القوانين الفقهية: ص 272 - 274، بداية المجتهد:
169/ 2.
(3) مغني المحتاج: 43/ 2، تحفة الطلاب: ص150 - 152، حاشية الشرقاوي: 40/ 2
- 50.
(5/3517)
فعلي أو قضاء عرفي، ومنه خيار العيب،
والتصرية (1)، والخلف، وتلقي الركبان، ونحو ذلك.
وبناء عليه، الخيار المشروع عند الشافعية ستة عشر، وهي مايأتي:
1 - خيار المجلس، لثبوت مشروعيته في الصحيحين.
2 - خيار الشرط: وأكثر مدته ثلاثة أيام، لثبوت ذلك في خبر البيهقي وغيره،
فإن زاد عليها، لم يصح العقد؛ لأنه صار شرطاً فاسداً.
3 - خيار العيب عند الاطلاع عليه، سواء أكان موجوداً قبل البيع، أم بعده
وقبل القبض، لثبوت ذلك في خبر الترمذي وغيره.
4 - خيار تلقي الركبان إذا وجدوا السعر أغلى مما ذكره المتلقي، لثبوته في
خبر الصحيحين.
5 - خيار تفرق الصفقة بعد العقد كتلف أحد المبيعين قبل القبض، أو قبل العقد
كبيع حلال وحرام إن جهل المشتري الحال.
6 - خيار فقد الوصف المشروط في العقد: أي وصف يقصد، ليخرج غيره كالزنا
والسرقة، فإنه لا خيار بفقده.
7، 8 - الخيار لجهل الغصب مع القدرة على انتزاع المعقود عليه من الغاصب،
دفعاً للضرر، ولطريان العجز عن انتزاعه من الغاصب، مع العلم بالغصب.
_________
(1) التصرية: ربط أخلاف (حلمات ثدي) الناقة أو ضرع الشاة ونحوها لتجميع أو
حبس اللبن في الضرع، فيظن المشتري أنها غزيرة اللبن، وهو أحد أمثلة التغرير
الفعلي أو التغرير في الوصف.
(5/3518)
9 - الخيار لجهل كون المبيع مكترى أو
مزروعاً.
10 - الخيار للامتناع من الوفاء بالشرط الصحيح، كشرط رهن أو كفيل في البيع.
11 - الخيار للتحالف فيما إذا اتفقا على صحة العقد، واختلفا في كيفيته،
فيفسخانه أو أحدهما أو الحاكم إن لم يتراضيا. ويكون الفسخ بعد حلف كل منهما
يميناً على دعوى الآخر.
12 - الخيار للبائع لظهور زيادة الثمن في المرابحة: فلو قال البائع: اشتريت
هذا بمئة، وباعه بمئة، وربح درهم لكل عشرة، ثم زعم أنه كان اشتراه بمئة
وعشرة، وصدقه المشتري، ثبت للبائع الخيار؛ لأنه لاتثبت له العشرة المذكورة.
13 - الخيار للمشتري لاختلاط الثمرة المبيعة بالمتجددة قبل التخلية، إن لم
يهبه البائع ماتجدد.
14 - الخيار للعجز عن الثمن: بأن عجز عنه المشتري، والمبيع باق عنده، لثبوت
ذلك في الصحيحين.
15 - الخيار لتغير صفة مارآه قبل العقد، وإن لم يكن عيباً.
16 - الخيار لتعيب الثمرة بترك البائع السقي بعد التخلية.
وقال الحنابلة (1): الخيار ثمانية
أنواع:
خيار المجلس، والشرط، والغبن، والتدليس، والعيب، والخيانة، وخيار اختلاف
المتبايعين في الثمن، والمؤجر والمستأجر في الأجرة، وخيار تفرق الصفقة.
_________
(1) كشاف القناع: 166/ 3، 186 - 187، 190، 199، 201، 203، 217، 224، ط مكة.
(5/3519)
وأبحث بعون الله تعالى بالتفصيل الخيارات
الثلاثة المشهورة: وهي خيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية. أما بقية
الخيارات فأكتفي ببيانها الإجمالي، علماً بأن خيار المجلس سبق الكلام عليه
تفصيلاً.
1 - خيار الوصف (1)، أو خيار فوات الوصف المرغوب فيه: هو في مذهب الحنفية:
أن يكون المشتري مخيراً بين أن يقبل بكل الثمن المسمى أو أن يفسخ البيع حيث
فات وصف مرغوب فيه، في بيع شيء غائب عن مجلس العقد. مثاله أن يشتري شيئاً
يشترط فيه صفة معينة غير ظاهرة، وإنما تعرف بالتجربة، ثم يتبين عدم وجودها،
أو يشتري بقرة على أنها حلوب، فظهرت غير حلوب، أو يشتري جوهرة على أنها
أصلية، فظهرت أنها تقليد صناعي للأصلية، فيكون المشتري مخيراً إن شاء فسخ
البيع، وإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن المسمى؛ لأن هذا وصف مرغوب فيه،
يستحق في العقد بالشرط، فإذا فات أوجب التخيير؛ لأن المشتري مارضي به دونه،
فصار كفوات وصف السلامة.
وأما سبب أخذه بجميع الثمن في رأي الحنفية: فهو لأن الأوصاف لايقابلها شيء
من الثمن، لكونها تابعة في العقد.
ودليل مشروعيته: الأخذ باستحسان المصلحة
على خلاف القياس. ويعده الشافعية والحنابلة داخلاً في خيار العيب.
وشروطه ثلاثة:
1ً - أن يكون الوصف المشروط
مباحاً شرعاً: فإذا كان حراماً لم يصح.
_________
(1) رد المحتار: 49/ 4، المجلة: م/310 - 312، فتح القدير: 135/ 5 ومابعدها.
(5/3520)
2ً - أن يكون الوصف
مرغوباً فيه عادة: فإذا لم يكن مرغوباً فيه في العرف، لغا الشرط، وصح
البيع، ولا خيار، مثل وصف الذكورة والأنوثة في الحيوانات، فمن اشترى شيئاً
على أنه ذكر فإذا هو أنثى، صح البيع ولم يثبت الخيار.
3ً - ألا يكون تحديد الوصف
المرغوب فيه مؤدياً إلى جهالة مفضية للمنازعة؛ فإن فعل فسد البيع والشرط،
كأن يشترط في البقرة الحلوب أن تحلب كذا رطلاً يومياً، فهذا شرط فاسد؛ لأنه
لايمكن ضبطه.
أحكام هذا الخيار:
أ - يورث خيار الوصف، فلو مات المشتري الذي له خيار الوصف، فظهر المبيع
خالياً من ذلك الوصف، كان للوارث حق الفسخ.
ب - إذا تصرف المشتري الذي له خيار الوصف بالمبيع تصرف الملاك، بطل خياره.
جـ - يثبت للمشتري الحق في فسخ البيع أو استبقاء المبيع بجميع الثمن، فإن
هلك المبيع أو تعيب في يده، فله الرجوع على البائع بمقدار نقص المبيع بسبب
فوات الوصف المرغوب فيه، ويعرف ذلك بتقويم المبيع مع الوصف، وبدون الوصف،
ويضمن المشتري الفرق بينهما.
2 - خيار النقد (1):
هو فرع عن خيار الشرط، وهو أن يشترط المتبايعان في عقد البيع بالنسيئة أن
_________
(1) المبسوط: 50/ 13، فتح القدير مع العناية: 114/ 5 ومابعدها، رد المحتار
والدر المختار: 51/ 4، المجلة: م/313 - 315، كشاف القناع: 184/ 3.
(5/3521)
المشتري إذا لم يدفع الثمن في الأجل
المعين، وهو ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما. فإن اشترى على هذا النحو على أنه
إن لم ينقد (يدفع) الثمن إلى أربعة أيام، لم يصح خلافاً لمحمد؛ لأن هذه هي
المدة المشروعة في خيار الشرط. وراعى محمد مصلحة العاقدين في اشتراطه إلى
أي مدة كانت.
فإن نقد في مدة الثلاثة أيام، جاز باتفاق الحنفية؛ لأن خيار النقد ملحق
بخيار الشرط. وهو جائز أيضاً عند الحنابلة كشرط الخيار، لكن ينفسخ البيع
عندهم إن لم ينقد المشتري الثمن في المدة. أو هو أن يشترط البائع على
المشتري أنه إذا رد الثمن إلى المشتري في مدة ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما،
فله وجهان إذن.
والفرق بينه وبين خيار الشرط: أن الأصل
في خيار الشرط اللزوم، فإذا انتهت المدة المشروطة دون فسخ، لزم. أما خيار
النقد فالأصل فيه عدم اللزوم، فإذا لم ينقد الثمن في الثلاث فسد البيع إذا
بقي المبيع على حاله، ولاينفسخ، بدليل أن المشتري يتملك المبيع بالقبض.
وعند الحنابلة: ينفسخ البيع، وقد أجازه الحنفية عدا زفر؛ لأنه داخل في خيار
الشرط، ولم يجزه زفر؛ لأنه شرط ليس من مقتضى العقد، وفيه مصلحة لمن شرط له.
حكم سقوطه:
1 - إذا مات المشتري المخير بخيار النقد في أثناء مدة الخيار، بطل البيع.
2 - إذا تصرف المشتري بالمبيع بالبيع ونحوه في مدة الخيار، قبل أن ينقد
الثمن، سقط خياره، وصح بيعه ولزم، ولزم المشتري نقد الثمن.
3 - إذا أتلف المشتري أو الأجنبي المبيع في مدة الخيار بعد القبض، سقط به
الخيار، للعجز عن الرد.
(5/3522)
4 - إذا أحدث المشتري في المبيع عيباً يمنع
رده للبائع، ولم ينقد الثمن، سقط الخيار، ويخير البائع حينئذ بين أخذ
المبيع ناقصاً، ولا شيء له من الثمن، وبين تركه وأخذ الثمن.
3 - خيار التعيين (1):
هو أن يتفق العاقدان على تأخير تعيين المبيع الواجب التعيين إلى أجل، على
أن يكون حق تعيينه لأحدهما، مثل أن يشتري أحد ثوبين أو ثلاثة غير معين على
أن يأخذ أيهما شاء، على أنه بالخيار ثلاثة أيام.
وله وجهان كخيار النقد: إما أن يأخذ المشتري أحد الأشياء المبيعة بالثمن
الذي بينه له البائع لكل واحد، أو يعطي البائع أي واحد أراد من الأشياء
المعينة، وله أن يلزم المشتري به إلا إذا تغيب فلا يلزمه إلا بالرضا. ولو
هلك أحدهما كان له أن يلزمه بالباقي.
أجازه الحنفية استحساناً لحاجة الناس إليه، بالرغم من الجهالة، عملاً
بالمصلحة والعرف للحاجة إلى اختيار ما هو الأوفق والأرفق، وأبطله الشافعية
والحنابلة للجهالة.
والأصح عند الحنفية أنه لا يشترط اقترانه بخيار الشرط، وإنما يجوز للعاقدين
ذلك.
شروطه: اشترط الحنفية لهذا الخيار
شروطاً هي ما يأتي:
1 - أن يكون التخيير على شيء من اثنين أو ثلاثة فقط: فإذا كان على شيء
_________
(1) فتح القدير مع العناية: 125/ 5، 130، رد المحتار: 60/ 4 وما بعدها،
المجلة: م 316 - 319.
(5/3523)
من أربعة لم يجز؛ لأن الحاجة في الثلاثة،
لانقسام الأشياء إلى جيد ووسط ورديء.
2 - أن يوافق البائع صراحة على خيار التعيين: بأن يقول للمشتري: بعتك أحد
الشيئين أو الثلاثة على أنك بالخيار في واحد منها، فإن لم يوافق على ذلك،
فسد البيع للجهالة.
3 - أن يكون البيع في القيميات كأنواع الألبسة والمفروشات، لا في المثليات
كالكتب المطبوعة الجديدة، لعدم الفائدة في التخيير بينها لعدم تفاوتها.
4 - أن تكون مدته كمدة خيار الشرط: وهي ثلاثة أيام عند أبي حنيفة، وأي مدة
معلومة كانت عند الصاحبين.
أحكامه:
أـ يلزم البيع في واحد غير معين من أفراد المبيع المتفق عليها، ويلزم صاحب
الحق في الخيار أن يعين الشيء الذي يأخذه في انقضاء المدة التي عينت ودفع
ثمنه.
ب ـ يورث هذا الخيار عند الحنفية، بخلاف خيار الشرط، فلو مات من له الخيار
قبل التعيين، يكون الوارث مجبراً أيضاً على تعيين أحد المبيعات ودفع ثمنه.
جـ ـ هلاك أو تعيب أحد الأشياء أو كلها:
إذا هلك أحد المبيعين تعين الآخر مبيعاً، وكان الباقي أمانة في يد المشتري.
وإذا هلك المبيعان معاً، ضمن المشتري نصف ثمن كل منهما لعدم التعيين، وإن
هلك المبيعان على التعاقب، تعين الأول مبيعاً. فلو اختلف العاقدان في
الهالك أولاً، فالقول للمشتري بيمينه، وبينة البائع أولى.
(5/3524)
والتعيب كالهلاك في الأحوال المذكورة. ولو
باع المشتري المبيعين ثم اختار أحدهما، صح بيعه فيه. والمبيع مضمون بالثمن،
وغيره أمانة.
4 - خيار الغبن (1):
هذا الخيار مشروع عند الحنفية إذا اشتمل الغبن على تغرير، فيسمى خيار الغبن
مع التغرير: وهو أن يغرر البائع المشتري أو بالعكس تغريراً قولياً وهو
التغرير في السعر، أو تغريراً فعلياً وهو التغرير في الوصف، ويكون الغبن
فاحشاً: وهو مالا يدخل تحت تقويم المقومين. أما الغبن اليسير: وهو ما يدخل
تحت تقويم المقومين، فلا يؤثر، إذ لا يتحقق كونه زيادة، أما الفاحش فزيادته
متحققة (2). فيثبت حينئذ حق إبطال العقد دفعاً للضرر عنه.
والتغرير القولي في السعر: كأن يقول البائع أو المؤجر للمشتري أو للمستأجر:
يساوي هذا الشيء أكثر ولا تجد مثله، أو دفع لي فلان فيه كذا، وكل ذلك كذب.
والتغرير الفعلي في الوصف: يكون بتزوير وصف في محل العقد يوهم المتعاقد في
المعقود عليه مزية ما غير حقيقية، كتوجيه البضاعة المعروضة للبيع، بجعل
الجيد منها في الأعلى، وجعل الرديء منها في الأسفل. ومنه التصرية: جمع
اللبن في الضرع، وهي حرام، توجب الخيار للعاقد المغرور كفوات الصفة
المشروطة. أما تدليس العيب: وهو كتمان أحد المتعاقدين عيباً خفياً يعلمه في
محل العقد عن المتعاقد الآخر في عقود المعاوضة، فهو المسمى عندهم خيار
العيب.
_________
(1) رد المحتار: 47/ 4، المجلة: م/256 - 360.
(2) البدائع: 30/ 6.
(5/3525)
وحكمه: إعطاء المغبون المغرور حق خيار فسخ
العقد دفعاً للضرر عنه، نظراً لعدم تحقق رضاه، بسبب التغرير والغبن الفاحش.
وإذا مات المغرور بغبن فاحش لاتنتقل دعوى التغرير لوارثه.
ويسقط حق المغرور في الفسخ للمشتري إذا تصرف في المبيع بعد أن اطلع على
الغبن الفاحش، أو بنى بناء في الأرض المشتراة، أو إذا هلك المبيع أو استهلك
أو حدث فيه عيب.
وقال الحنابلة (1): هناك خيار غبن، وخيار تدليس، وخيار عيب.
أما خيار الغبن عند الحنابلة فيثبت في ثلاث صور:
إحداها ـ تلقي الركبان: وهم القادمون من السفر بجلوبة: (وهي ما يجلب للبيع)
وإن كانوا مشاة، وهو عند الجمهور: يحرم، وقال الحنيفة: يكره، ولو كان
تلقيهم بغير قصد التلقي لهم. فإذا اشترى المتلقي منهم أو باعهم شيئاً، ثبت
لهم الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم قد غبنوا غبناً يخرج عن العادة،
لقوله عليه السلام: «لا تلقوا الجَلَب فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى
السوق، فهو بالخيار» (2).
والثانية ـ النجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها. وهو حرام، لما
فيه من تغرير المشتري وخديعته، فهو في معنى الغش، ويثبت للمشتري بالنجش
الخيار إذا غبن غبناً غير معتاد.
ولا يتم النجش إلا بحذق من زاد في السلعة، وأن يكون المشترى جاهلاً، فلو
كان عارفاً واغتر بذلك، فلا خيار له لعجلته وعدم تأمله.
_________
(1) المغني: 134/ 4 - 142، كشاف القناع: 199/ 3، 201، 203، ط مكة.
(2) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
(5/3526)
فإن زاد من لا يريد الشراء بغير مواطأة مع
البائع، أو زاد البائع في الثمن بنفسه، والمشتري لا يعلم ذلك، فيخير
المشتري لوجود التغرير بين رد المبيع وإمساكه.
الثالثة ـ بيع المسترسل أو إجارته: وهو الجاهل بالقيمة، من بائع ومشتر، ولا
يحسن المماكسة. فله الخيار إذا غبن غبناً غير معتاد. ويقبل قوله بيمينه أنه
جاهل بالقيمة، ما لم تكن قرينة تكذبه في دعوى الجهل، فلا تقبل منه.
وخيار الغبن كخيار العيب على التراخي عندهم.
وأما خيار التدليس: فهو بسبب التغرير، والعقد معه صحيح، والتدليس حرام وهو
نوعان:
أحدهما ـ كتمان العيب، ويسمى هذا عند الحنفية خيار العيب.
والثاني ـ فعل يزيد به الثمن، وإن لم يكن عيباً، كجمع ماء الرحى وإرساله
عند عرضها للبيع، ليزيد دورانها بإرسال الماء بعد حبسه، فيظن المشتري أن
ذلك عادتها، فيزيد في الثمن. ومنه تحسين وجه الصبرة (الكومة)، وصقل السكاف
وجه الحذاء، وتصنع النساج وجه الثوب، والتصرية أي جمع اللبن في ضرع بهيمة
الأنعام، ونحو ذلك. وهذا النوع هو المسمى عند الحنفية بالتغرير الفعلي في
الوصف.
والتدليس بنوعيه يثبت للمشتري خيار الرد إن لم يعلم به، أو الإمساك، لقوله
عليه السلام: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن
يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها، وصاعاً من تمر» (1). وغير التصرية من
التدليس ملحق بها.
_________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة مرفوعاً.
(5/3527)
وقد أخذ الجمهور وأبو يوسف بمضمون هذا
الحديث: وهو التخيير بعد الحلب بين إمساك المبيع إن رضيه، وبين رده مع صاع
من تمر إن سخطه.
وقال أبو حنيفة ومحمد: يرجع المشتري بالنقصان فقط إن شاء.
وأما خيار العيب عند الحنابلة: فهو بسبب نقص عين المبيع، كخصاء، ولو لم
تنقص به القيمة، بل زادت، أو نقص قيمته عادة في عرف التجار، وإن لم تنقص
عينه.
5 - خيار كشف الحال (1):
وهو أن يشتري شيئاً بوزن غير معلوم القدر، أو بكيل غير معلوم المقدار، كأن
يشتري بوزن هذا الحجر ذهباً، أو هذه الصبرة (الكومة) كل صاع بكذا، يصح
البيع في الحالتين، ويكون للمشتري الخيار: إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه.
6 - خيار الخيانة (2):
هو الذي يثبت في بيوع الأمانة من تولية أو شركة أو مرابحة أو وضيعة إذا
أخبر البائع المشتري بزيادة في الثمن أو نحو ذلك، كإخفاء تأجيله، ثم يظهر
كذبه أو خيانته بإقرار أو برهان على ذلك، أو بما عند الحنفية أيضاً بنكول
عن اليمين. ويخير المشتري بسبب ذلك عند الحنفية والمالكية بين أخذ المبيع
بكل ثمنه، أو رده لفوات الرضا، وله الحط من الثمن قدر الخيانة في التولية.
وقال الشافعية في الأظهر والحنابلة: لا خيار للمشتري بسبب الخيانة، وإنما
له الحط من الثمن مقدار الخيانة.
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 47/ 4.
(2) ابن عابدين: 47/ 4، الشرح الكبير مع الدسوقي: 168/ 3 وما بعدها، مغني
المحتاج: 79/ 2، كشاف القناع: 217/ 3 ومابعدها.
(5/3528)
7 - خيار تفرق
الصفقة (1):
هو الذي يثبت للمشتري بسبب تجزئة المبيع، فيكون له الخيار بين فسخ البيع
واسترداد الثمن كله إن دفعه، أو أخذ باقي المبيع مع حسم ما يقابل العيب أو
الهلاك من الثمن. وله صور متعددة.
فيثبت عند الحنفية بهلاك أو تعيب بعض المبيع بيد البائع قبل قبض المشتري،
ومجمل حكم الهلاك: أنه إن كان بآفة سماوية أو بفعل البائع يبطل البيع، وإن
كان بفعل أجنبي يتخير المشتري إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أجاز، وضمَّن
المستهلك.
وقال المالكية: يثبت هذا الخيار في حالة كون المبيع معيباً، أو استحقاق بعض
مبيع متعدد اشتري صفقة واحدة، فإن كان وجه الصفقة نقضت، ولا يجوز له التمسك
بالباقي، وإن كان غير وجهها، جاز التمسك به، وأخذ الباقي بالتقويم،
لابنسبته من الثمن المسمى، فيقال: ما قيمة هذا الباقي؟ فإذا قيل: ثمانية،
قيل: وماقيمة المستحق أو المتعيب؟ فإذا قيل: اثنان، رجع المشتري على بائعه
بخمس الثمن الذي دفعه له.
وقال المالكية أيضاً: إذا اشتملت الصفقة على حلال وحرام كالعقد على سلعة،
وخمر أو خنزير أو غير ذلك، فالصفقة كلها باطلة، ولو باع الرجل ملكه وملك
غيره في صفقة واحدة، صح البيع فيهما، ولزمه في ملكه، وتوقف اللزوم في ملك
غيره على إجازته.
وذكر الشافعية لتفريق الصفقة وتعددها ثلاثة أقسام:
_________
(1) ابن عابدين: 47/ 4، الشرح الكبير مع الدسوقي: 469/ 3، القوانين
الفقهية: ص 260، مغني المحتاج: 40/ 2، المهذب: 269/ 1، المغني: 238/ 4،
كشاف القناع: 166/ 3 ومابعدها، 291.
(5/3529)
الأول ـ إذا باع شخص في صفقة واحدة حلالاً
وحراماً كشاة مذكاة وميتة، أو خل وخمر، أو شاة وخنزير، أو شيئاً له وشيئاً
لغيره، أو شيئاً مشتركاً بغير إذن الشريك الآخر، صح البيع في الحلال
المملوك له، وبطل في غيره في الأظهر، إعطاءً لكل منهما حكمه. ويكون الخيار
للمشتري إن جهل الحال لضرر التبعيض بين أخذ حصة الحلال من الثمن المسمى
باعتبار قيمة كل منهما أي من الحلال والحرام، أو أن يفسخ البيع. ولا خيار
للبائع؛ لأنه المفرط في البيع ببيع ما لا يملكه، وبالطبع في ثمن ما لا
يستحقه.
الثاني ـ إذا باع شخص متاعين مثلاً، فتلف أحدهما قبل قبضه، انفسخ البيع في
التالف، ولم ينفسخ في الآخر على المذهب، بل يتخير المشتري بين الفسخ
والإجازة، فإن أجاز أخذ الباقي بالحصة من المسمى باعتبار قيمته وقيمة
التالف؛ لأن الثمن قد توزع عليهما في مبدأ البيع، فلا يتغير بهلاك أحدهما.
الثالث ـ لو جمع في صفقة عقدين مختلفي الحكم كإجارة وبيع، مثل: آجرتك داري
شهراً، وبعتك ثوبي هذا بدينار، وكإجارة وسلم مثل: آجرتك داري شهراً وبعتك
صاع قمح في ذمتي سلماً بكذا، صح العقدان في الأظهر، ويوزع المسمى على قيمة
المعقود عليهما، أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة، وقيمة المبيع أو المسلم
فيه.
وتتعدد الصفقة بتفصيل الثمن من البائع: كبعتك ذا بكذا، وذا بكذا. وبتعدد
البائع: كبعناك هذا بكذا، والمبيع مشترك بينهما.
وكذا بتعدد المشتري: كبعتكما هذا بكذا، في الأظهر.
والخلاصة: إن في تفريق الصفقة قولين عند الشافعية، أظهرهما ـ أن البيع يبطل
فيما لا يجوز، ويصح فيما يجوز؛ لأنه ليس بطلانه فيهما لبطلانه في
(5/3530)
أحدهما بأولى من تصحيحه فيهما، لصحته في
أحدهما؛ فبطل حمل أحدهما على الآخر، وبقيا على حكمهما، فصح فيما يجوز، وبطل
فيما لا يجوز. والقول الثاني أن الصفقة لا تفرق، فيبطل العقد فيهما.
وقال الحنابلة: معنى تفريق الصفقة: أي تفريق ما اشتراه في عقد واحد: وهو أن
يجمع بين ما يصح بيعه وما لا يصح بيعه، صفقة واحدة بثمن واحد. ولهذا الجمع
ثلاث صور:
إحداها ـ أن يبيع شخص معلوماً ومجهولاً تجهل قيمته أي يتعذر علمه، فلا مطمع
في معرفته، مثل: بعتك هذه الفرس، وما في بطن هذه الفرس الأخرى بكذا، فلا
يصح البيع فيهما؛ لأن المجهول لا يصح بيعه لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن،
ولا سبيل إلى معرفته؛ لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، وحمل
الفرس لا يمكن تقويمه، فيتعذر التقسيط.
الثانية ـ أن يبيع شخص مشاعاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه، فيصح البيع
في نصيبه بقسطه، كما قال الشافعية في القسم الأول، وللمشتري الخيار بين
الرد والإمساك إذا لم يكن عالماً بأن المبيع مشترك بينه وبين غيره؛ لأن
الشركة عيب. فإن كان عالماً فلا خيار له ولا للبائع أيضاً. وللمشتري الأرش
إن أمسك فيما ينقصه التفريق، كزوج خف.
الثالثة ـ أن يبيع رجل متاعه ومتاع غيره بغير إذنه صفقة واحدة، أو يبيع
خلاً وخمراً صفقة واحدة، فيصح البيع في متاعه بقسطه دون متاع غيره، ويصح في
الخل بقسطه من الثمن، فيوزع على قدر قيمة المبيعين ليعلم ما يخص كلاً
منهما. ويقدر الخمر إذا بيع مع الخلّ خلاً، ليقسط الثمن عليهما، ولا خيار
للبائع. وهذه الصور وما قبلها هي النوع الأول عند الشافعية.
(5/3531)
وقال الحنابلة أيضاً: إذا وقع العقد على
مكيل أو موزون، فتلف بعضه قبل قبضه، لم ينفسخ العقد في الباقي، رواية أخرى،
أي هي رواية واحدة، ويأخذ المشتري الباقي بحصته من الثمن؛ لأن العقد وقع
صحيحاً. فذهاب بعضه لايفسخه كما بعد القبض، وكما لو وجد أحد المبيعين
معيباً فردّه، أو أقال أحد المتبايعين الآخر في بعض المبيع.
8 - خيار إجازة عقد الفضول (1):
هو الخيار الثابت للمالك إذا باع غيره له سلعة بغير أمره، ويعد البيع
موقوفاً عند الحنفية والمالكية، ويخير المالك بين إجازة العقد فيصبح
نافذاً، وبين رده فيبطل.
9 - خيار تعلق حق الغير بالمبيع (2):
هو الخيار الثابت لمن له حق في المبيع من دائن مرتهن أو مستأجر، فإذا اشترى
رجل داراً ثم ظهر أنها مرهونة أو مؤجرة، خير بين الفسخ وعدمه، دفعاً للضرر
عن نفسه، حتى ولو كان عالماً بذلك في ظاهر الرواية، وهو الصحيح وعليه
الفتوى.
فإن أجاز المستأجر أو المرتهن فلا خيار للمشتري، وإن لم يجز ثبت الخيار له
بين الانتظار حتى نهاية مدة الإجارة وفكاك الرهن، أو الفسخ.
10 - خيار الكمية للبائع (3):
هو أن يشتري إنسان بما في هذه الخابية أو الوعاء أو اليد ونحوها، ولا يعرف
البائع شيئاً عن الموجود كمية ونوعاً، فيكون البائع بعد فتح الخابية أو
الوعاء أو اليد
_________
(1) ابن عابدين: 47/ 4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 260.
(2) ابن عابدين: 48/ 4.
(3) ابن عابدين: 47/ 4.
(5/3532)
مخيراً بين إمضاء البيع وفسخه بعد رؤية
الثمن. وهذا يسمى عند الحنفية خيار كمية، لا خيار رؤية؛ لأن خيار الرؤية لا
يثبت في النقود.
11 - خيار الاستحقاق (1):
هو الخيار الثابت للمشتري بسبب استحقاق المبيع كله أو بعضه، وتفصيله عند
الحنفية: إن كان استحقاق المبيع قبل قبض الكل خير في الكل، وإن كان
استحقاقه بعد القبض خيِّر في الشيء القيمي، لا في المثلي كالمكيل والموزون.
وإن كان الاستحقاق لبعض المبيع قبل القبض، يبطل العقد في الجزء المستحق،
ويخير المشتري في أخذ الجزء الباقي بحصته من الثمن أو رده.
وإن كان الاستحقاق لبعض المبيع بعد القبض، يبطل البيع في الجزء المستحق
أيضاً، وأما الجزء الباقي فيخير المشتري في قبول الباقي بحصته من الثمن إن
أضره التبعيض كالثوب والدار، ويلتزم بالباقي إن لم يضره التبعيض كالمكيل
والموزون.
وذلك كله إن لم يجز المستحق البيع، فإن أجازه، لزم البيع، إذ لا ضرر
بالتبعيض.
12 ـ خيار الشرط:
خطة الموضوع:
الكلام في خيار الشرط في المواضع الآتية:
المطلب الأول - الخيار المفسد والخيار
المشروع.
_________
(1) المرجع والمكان السابق.
(5/3533)
المطلب الثاني ـ مدة الخيار المشروع.
المطلب الثالث ـ طرق إسقاط الخيار.
المطلب الرابع ـ حكم العقد في مدة الخيار.
المطلب الخامس ـ كيفية الفسخ والإجازة.
المطلب الأول ـ الخيار المفسد والخيار المشروع:
الخيار المفسد: اتفق الحنفية والشافعية والحنابلة في الصحيح من مذهبهم على
أن العاقدين إذا ذكرا الخيار مؤبداً، كأن يقول أحدهما: (بعت، أو اشتريت على
أني بالخيار أبدًا) أو ذكرا الخيار مطلقاً، كأن يقول أحدهما: (على أني
بالخيار أو متى شئت) أو ذكرا وقتاً مجهولاً كقدوم زيد، أوهبوب ريح، أونزول
مطر، أو أياماً، فإن العقد غير صحيح لوجود الجهالة الفاحشة.
إلا أن الشافعية والحنابلة قالوا: العقد باطل (1). وقال الحنفية: العقد
فاسد فقط، فإذا أسقط الشرط قبل مضي مدة ثلاثة أيام، أو حذف الزائد، أو بينت
مدة الخيار، صح البيع، لزوال المفسد (2).
استدل الشافعية والحنابلة: بأن مدة الخيار حينئذ ملحقة بالعقد، فلا تجوز مع
الجهالة، كما لا تجوز جهالة الأجل، ولأن اشتراط الخيار أبداً ونحوه يقتضي
المنع من التصرف على الأبد، وهو ينافي مقتضى العقد، فلم يصح، كما لو قال:
بعتك بشرط ألا تتصرف.
_________
(1) المهذب: 1 ص 259، المغني: 3 ص 589.
(2) البدائع: 5 ص 174، رد المحتار: 4 ص 49.
(5/3534)
واستدل الحنفية بنحوه فقالوا: إن شرط
الخيار مغير لمقتضى العقد بحسب الأصل، إلا أنا أجزناه بنص حديث حبان بن
منقذ الذي حدد فيه الخيار بثلاثة أيام، فبقي ما عدا المنصوص عليه موافقاً
لمقتضى الأصل.
وقال مالك وأحمد في رواية عنه: يجوز الخيار المطلق، إلا أن الإمام أحمد قال
فيه: «وهما على خيارهما أبداً، أو يقطعاه، أو تنتهي مدته». وقال الإمام
مالك: السلطان يحدد له مدة كمدة خيار مثله في العادة؛ لأن اختيار المبيع في
مثله مقدَّر في العادة، فإذا أطلق الخيار حمل على المعتاد، ويفسد البيع عند
المالكية إذا وقع بشرط مدة زائدة على مدته بكثير (أي بعد يوم) أو بشرط
مدة مجهولة كإلى أن تمطر السماء أو يقدم زيد (1).
الخيار المشروع: وهو أن يذكر وقت معلوم،
وسيأتي الخلاف فيه بين الفقهاء، وقد ثبتت مشروعية خيار الشرط بحديث حبان بن
منقذ الذي كان يغبن في البيع والشراء، فشكا أهله إلى رسول الله صلّى الله
عليه وسلم، فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة (2) وليَ الخيار ثلاثة أيام»
ولمساس الحاجة إليه لدفع الغبن (3). وخيار الشرط مشروع عند جمهور الحنفية
والشافعية وغيرهم، سواء أكان الشرط للعاقد أم لغيره لتحقيق حاجة الناس.
وقال زفر: لا يجوز لغير العاقد. ولا يجوز الخيار والأجل في البيوع التي
فيها الربا: وهي عقد الصرف، وبيع المكيل والموزون عند الحنفية، والطعام
بالطعام عند الشافعية، لأنه يشترط فيها القبض قبل التفرق بالأبدان، وذكر
الخيار أو الأجل ينافي القبض (4).
_________
(1) حاشية الدسوقي: 3 ص 95، بداية المجتهد: 2 ص 208.
(2) أي لا خديعة ولا غبن، أي لا يحل لك خديعتي، أو لا تلزمني خديعتك، وقد
سبق تخريجه وروايته عند الحاكم والبيهقي والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي
والموطأ عن ابن عمر (انظر تحفة الفقهاء بتخريج وتحقيق أحاديثها للمؤلف مع
الأستاذ الكتاني: 2 ص 82).
(3) سبل السلام: 3 ص 35، البدائع: 5 ص 174، المنتقى على الموطأ: 5 ص 108.
(4) فتح القدير: 5 ص 372، المهذب: 1 ص 258.
(5/3535)
المطلب الثاني ـ
آراء الفقهاء في مدة الخيار المشروع للفقهاء
اتجاهات ثلاثة في مدة الخيار: قال أبو حنيفة وزفر والشافعي: يجوز شرط
الخيار في مدة معلومة لا تزيد على ثلاثة أيام؛ لأن الأصل امتناع الخيار،
لكونه مخالفاً لوضع البيع، فإنه يمنع نقل الملك أو لزومه، إلا أنه ثبت على
خلاف هذا الأصل بحديث حبان بن منقذ السابق ذكره، والذي رواه ابن عمر،
وبحديث أنس: «أن رجلاً اشترى من رجل بعيراً، واشترط عليه الخيار أربعة
أيام، فأبطل رسول الله صلّى الله عليه وسلم البيع، وقال: الخيار ثلاثة
أيام» (1) ولأن الحاجة تندفع بالثلاث غالباً، فلو زاد عليها فسد البيع عند
أبي حنيفة وزفر، ولكنه يعود صحيحاً عند أبي حنيفة إذا أجاز له الخيار في
الثلاثة، لزوال المفسد قبل أن يتقرر الفساد، وعند زفر: الفاسد من العقود لا
يعود صحيحاً بحال.
ويبطل العقد عند الشافعي (بخلاف ما ذكر في تحفة الفقهاء). وكونه لا يجوز
أكثر من ثلاثة، لأنه غرر، وفيما دون الثلاث رخصة، فلا يجوز الزيادة عليها،
وفي الجملة: إن الخيار ينافي مقتضى البيع لولا ثبوته بالشرع (2).
وقال الصاحبان والحنابلة: يجوز اشتراط مدة الخيار بحسب ما يتفق عليه البائع
والمشتري من المدة المعلومة، قلَّت مدته أو كثرت. ودليلهم ما روي أن ابن
عمر «أجاز الخيار إلى شهرىن» (3) ولأن الخيار حق يعتمد الشرط، فرجع في
تقديره
_________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه وذكره عبد الحق في «أحكامه» من جهة عبد
الرزاق، وأعله بأبان ابن أبي عياش، وقال: إنه لا يحتج بحديثه مع أنه كان
رجلاً صالحاً (انظر نصب الراية: 4ص 8).
(2) المبسوط للسرخسي: 13 ص 40 ومابعدها، البدائع: 5 ص 174، فتح القدير: 5 ص
110 ومابعدها، مغني المحتاج: 2 ص 47.
(3) قال الزيلعي عن هذا الحديث: غريب جداً (انظر نصب الراية: 4 ص 8).
(5/3536)
إلى مشترطه، كالأجل. وبعبارة أخرى: إن مدة
الخيار ملحقة بالعقد، فكانت إلى تقدير المتعاقدين كالأجل (1).
وقال المالكية: يجوز الخيار بقدر ما تدعو إليه الحاجة، ويختلف ذلك باختلاف
المبيعات، فالفاكهة التي لا تبقى أكثر من يوم لا يجوز شرط الخيار فيها أكثر
من يوم، والثياب أو الدابة: ثلاثة أيام، والأرض التي لا يمكن الوصول إليها
في ثلاثة أيام يجوز شرط الخيار فيها أكثر من ثلاثة أيام، والدار ونحوها
تحتاج مدة شهر.
ودليلهم أن المفهوم من الخيار هو اختبار المبيع، وإذا كان الأمر كذلك، وجب
أن يكون الخيار محدوداً بزمان إمكان اختبار المبيع، وهو يختلف بحسب
المبيعات، فكأن النص إنما ورد عندهم تنبيهاً على هذا المعنى، وهو أن الخيار
لحاجة العاقد، فيقدر بها، فيكون النص عندهم من باب الخاص أريد به العام
(2).
وعند الشافعية وأبي حنيفة وزفر من باب الخاص أريد به الخاص. وتبدأ مدة
الخيار من تاريخ العقد.
حكم الغاية في مدة الخيار:
قال أبو حنيفة: إذا شرط الخيار إلى الليل أو إلى الغد، فيدخل الليل والغد
في مدة الخيار؛ لأن المقصود من الغاية هنا هو إخراج ما بعدها من حكم ما
قبلها، كما في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}
[المائدة:6/ 5] بدليل أنه لو لم يذكر الوقت أصلاً لاقتضى ثبوت الخيار في
الأوقات كلها (3).
_________
(1) المغني: 3 ص 585، غاية المنتهى: 2 ص 30، المبسوط: 13 ص 41، فتح القدير:
5ص111، البدائع: 5 ص 174.
(2) بداية المجتهد: 2 ص 207، حاشية الدسوقي: 3 ص 91، 95، القوانين الفقهية:
ص273.
(3) البدائع: 5 ص 267.
(5/3537)
وقال الصاحبان والمالكية والشافعية
والحنابلة: لا يدخل الليل أو الغد في مدة الخيار لأن لفظ (إلى) موضوع
لانتهاء الغاية، فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها، كما في قوله تعالى: {ثم
أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187/ 2] والأصل هو حمل اللفظ على موضوعه،
فكأن واضع اللغة قال:
متى سمعتم هذه اللفظة، فافهموا منها انتهاء الغاية (1).
المطلب الثالث ـ طرق إسقاط الخيار:
العقد الذي فيه الخيار عقد غير لازم، ويصبح لازماً إذا سقط الخيار بعد
ثبوته، وطرق الإسقاط ثلاثة:
1 - الإسقاط الصريح: هو أن يقول صاحب
الخيار: أسقطت الخيار أو أبطلته أو أجزأت البيع أو رضيت به، ونحوها، فيبطل
الخيار، سواء علم المشتري بالإجازة أو لم يعلم؛ لأن الخيار شرع للفسخ، فإذا
سقط يبطل الخياررجوعاً إلى الأصل في العقد: وهو لزومه ونفاذه.
وكذلك يسقط الخيار إذا قال من له الحق فيه: (فسخت العقد، أو نقضته، أو
أبطلته) لأن الخيار هو التخيير بين الفسخ والإجازة، فأيهما وجد سقط الخيار
(2).
2 - الإسقاط دلالة: وهو أن يوجد ممن له
الخيار تصرف يدل على إجازة البيع وإثبات الملك، فالإقدام عليه يكون إجازة
للبيع دلالة (3).
وبناء على هذا:
_________
(1) المغني لابن قدامة: 3 ص 588، غاية المنتهى: 2 ص 31، الميزان للشعراني:
2 ص 64، البدائع، المرجع السابق.
(2) البدائع: 267/ 5، 271.
(3) البدائع: 272/ 5.
(5/3538)
إذا كان الخيار للمشتري، والمبيع في يده،
فعَرَضه على البيع، يبطل خياره، لأن عرض المشتري المبيع على البيع معناه
اختيار التملك وهو يكون بإبطال الخيار.
وإذا كان الخيار للبائع فعَرَضه على البيع، فالأصح من الروايتين عن أبي
حنيفة: أن يكون إسقاطاً للخيار، لأنه دليل على اختيار إبقاء الملك في
المبيع.
وكذلك يسقط خيار المشتري إذا باع الشيء الذي اشتراه أو رهنه أو وهبه ـ سلم
أو لم يسلم ـ أو آجره؛ لأن نفاذ هذه التصرفات مختص بقيام الملك، فيكون
الإقدام عليها دليلاً على قصد إبقاء الملك، وهو يتم بإجازة البيع.
ويسقط الخيار أيضاً بهذه التصرفات في الثمن إذا صدرت من البائع الذي له
الخيار؛ إذ أنه لا تصح هذه التصرفات إلا بعد نقض التصرف الأول.
إلا أن هناك فرقاً بين البائع والمشتري بالنسبة لتسليم الهبة والرهن، فإنه
إذا كان الخيار للبائع لا
يسقط في الهبة والرهن إلا بعد التسليم بخلاف المشتري كما عرفنا (1).
وأما الإجازة فلا فرق فيها بين البائع والمشتري، فإنها تسقط الخيار من غير
شرط القبض، لأنها عقد لازم، بخلاف الرهن والهبة قبل القبض، فإنهما عقدان
غير لازمين.
ومن مسقطات الخيار دلالة: أن يُسكن المشتري الدار المبيعة رجلاً بأجر أو
بغير أجر، أو يرمم شيئاً منها بالتطيين أو التجصيص، أو يحدث فيها بناء أو
يهدم شيئاً منها؛ لأن هذه التصرفات دليل اختيار الملك.
ومن مسقطات الخيار دلالة أيضاً: أن يسقي المشتري الزروع والثمار أو
_________
(1) البدائع: 267/ 5، تحفة الفقهاء: ج 95/ 2.
(5/3539)
يحصدها أو يقطع منها شيئاً لدوابه، لأنه
يعد إجازة للبيع واختياراً للتملك كما ذكر (1).
أما ركوب الدابة لسقيها أو لردها على البائع، فلا يسقط الخيار استحساناً؛
لأن الدابة قد لا يمكن تسييرها إلا بالركوب، ويسقط قياساً، لأن الركوب دليل
اختيار الملك.
وكذا ركوب الدابة لينظر إلى سيرها وقوتها، لا يسقط الخيار.
وكذا أيضاً لبس الثوب لينظر إلى طوله وعرضه لا يسقط الخيار، لاحتياجه إلى
التجربة والاختبار، أما لبسه ثانية للغرض الأول نفسه، فيسقط الخيار.
وركوب الدابة مرة ثانية لمعرفة العَدْو أو لمعرفة سير آخر كمشي الهملاج (أي
السير السهل) لا يسقط الخيار أيضاً، أما ركوبها لمعرفة الغرض الأول، فيسقط
الخيار.
ويرى بعض مشايخ الحنفية أن ركوب الدابة للمرة الثانية للغرض الأول نفسه: لا
يسقط الخيار؛ لأن الاختبار لا يحصل بالفعل مرة، لاحتمال وقوع ذلك صدفة،
فيحتاج إلى معرفة العادة الثابتة، بخلاف الثوب، فإن الغرض يحصل بالمرة
الواحدة (2).
3 - إسقاط الخيار بطريق الضرورة:
يسقط الخيار ضرورة بأمور:
_________
(1) تحفة: الفقهاء: 100/ 2 ومابعدها، البدائع: 270/ 5.
(2) تحفة الفقهاء: 101/ 2 ومابعدها، البدائع: 270/ 5.
(5/3540)
أولاً - مضي مدة الخيار: يسقط الخيار بمضي
مدته دون اختيار فسخ العقد، لأن الخيار مؤقت بها، فيبقى العقد بلا خيار،
فيصبح لازماً (1).
وكذلك قال الشافعية والحنابلة: يسقط الخيار إذا انقضت مدته، ولم يفسخ
أحدهما العقد ويصبح لازماً؛ لأن مدة الخيار ملحقة بالعقد فبطلت بانقضائها
كالأجل، ولأن الحكم ببقائها يفضي إلى بقاء الخيار في غير المدة المشروطة،
والشرط سبب الخيار، فلا يجوز أن يثبت به ما لم يتناوله، ولأنه حكم مؤقت،
فصار بفوات وقته كسائر المؤقتات، ولأن البيع يقتضي اللزوم، وإنما تخلَّف
موجبه بالشرط، ففيما لم يتناوله الشرط يجب أن يثبت موجبه لعدم وجود ما
ينافي مقتضى العقد كما لو أمضوا العقد (2).
وقال الإمام مالك: لا يلزم البيع بمضي المدة بل لا بد من اختيار أو إجازة،
لأن مدة الخيار جعلت حقاً لصاحب الخيار لا واجباً عليه، فلم يلزم الحكم
بمرور الزمان نفسه، كمضي الأجل في حق المولى بالنسبة للمكاتب، لايلزم
المولى بالعتق بمجرد مضي المدة (3).
ثانياً - موت المشروط له الخيار: إذا مات المشروط له الخيار، يسقط الخيار،
سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري، أو لهما، ويصير العقد لازماً، لأنه
وقع العجز عن الفسخ، فيلزم ضرورة، واتفق الفقهاء على أنه يورث خيار العيب
وخيار التعيين، ولا يورث خيار الإجازة في بيع الفضولي، ولا خيار الرؤية على
الصحيح، كما لا يورث
_________
(1) البدائع: 267/ 5.
(2) الميزان: 64/ 2، المغني: 591/ 3.
(3) حاشية الدسوقي: 95/ 3، 98.
(5/3541)
الأجل (1)،وكذلك لا يورث خيار القبول عند
الحنفية والمالكية، ويورث خيار المجلس عند الشافعية (2)، فلو مات من له
الخيار أو أغمي عليه في المجلس لم يبطل خياره، بل ينتقل إلى وارثه والناظر
في أمره. وقال الحنابلة: ينقطع هذا الخيار بالموت لا بالجنون والإغماء (3).
أما خيار الشرط فاختلفوا في إرثه:
فقال الحنفية: لا يورث خيار الشرط، وإنما يسقط بموت المشروط له، كما تقدم؛
لأن الوارث يستحق الباقي بعد موت المورِّث، وخيار المورِّث لا يبقى بعد
موته؛ لأن خياره يخيره بين الفسخ والإجازة، ولا يتصور ذلك منه بعد موته،
فلا يورث، بخلاف خيار العيب والتعيين؛ لأن الموروث هناك محتمل للإرث وهو
العين المملوكة، أما الخيار فهو عرض لا يبقى (4).
والخلاصة: أن خيار القبول والإجازة في بيع الفضولي والأجل وخيار الشرط لا
يورث. أما خيار العيب والتعيين والقصاص وخيار الرؤية وخيار الوصف وخيار
التغرير، فإنه يورث (5).
وقال الحنابلة: المذهب أن خيار الشرط يبطل بموت صاحبه، ويبقى خيار الآخر
بحاله، إلا أن يكون الميت قد طالب بالفسخ قبل موته في مدة الخيار، فيكون
حينئذ لورثته (6).
_________
(1) البدائع: 268/ 5، بداية المجتهد: 209/ 2.
(2) المجموع للنووي: 196/ 9، حاشية الباجوري: 160/ 1.
(3) غاية المنتهى: 30/ 2.
(4) المبسوط: 42/ 13، فتح القدير: 125/ 5، البدائع: 268/ 5، رد المحتار:
57/ 4.
(5) رد المحتار: 538/ 5.
(6) المغني: 579/ 3، غاية المنتهى: 33/ 2.
(5/3542)
وقال المالكية والشافعية: إذا مات صاحب
الخيار: فلورثته من الخيار مثل ما كان له؛ لأن الخيار حق ثابت لضمان صلاحية
المال المشترى، فلم يسقط بالموت كالرهن وحبس المبيع على الثمن ونحوها من
الحقوق المالية، فينتقل إلى الوارث كالأجل وخيار الرد بالعيب، ولأنه حق
فسخٍ للبيع، فينتقل إلى الوارث كالرد بالعيب، والفسخ بالتحالف (1).
ويلاحظ أن مرجع الخلاف في إرث الخيار هو: هل الأصل أن تورث الحقوق كالأموال
أو لا؟
فقال الجمهور: الأصل أن تورث الحقوق والأموال إلا إذا قام دليل على وجود
اختلاف بين الحق والمال بالنسبة للإرث.
وقال الحنفية: الأصل هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من
إلحاق الحقوق بالأموال.
ثالثاً - ما هو في معنى الموت: كالجنون والإغماء والنوم والسُكْر والردة
واللحاق بدار الحرب (2). فإذا ذهب عقل صاحب الخيار بالجنون أو الإغماء، في
مدة الخيار، ومضت المدة على تلك الحال صار العقد لازماً لأنه عجز عن الفسخ
فتزول فائدة الخيار، فإن أفاق في مدة الخيار، بقي الخيار، لإمكان ممارسة حق
الفسخ والإجازة.
_________
(1) بداية المجتهد: 209/ 2، القوانين الفقهية: ص 273، المهذب: 259/ 1، مغني
المحتاج: 45/ 2، والفسخ بالتحالف: يحصل عند اختلاف البائع والمشتري في قدر
الثمن أو قدر المبيع، ولم يكن لكل واحد منهما بينة، ولم يتراضيا، فيحلف
الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر، فإن حلفا فسخ القاضي البيع بينهما
(انظر نتائج الأفكار: 183/ 6 ومابعدها).
(2) المبسوط: 44/ 13، فتح القدير: 121/ 5.
(5/3543)
وكذا يسقط الخيار لو بقي صاحبه نائماً لآخر
مدة الخيار، كما يسقط على الصحيح لو سكر وظل سكراناً حتى مضت مدة الخيار.
ولو ارتد من له الخيار في مدة الخيار، فقتل على الردة أو مات: لزم البيع.
وكذا لو لحق بدار الحرب، وقضى القاضي بلحاقه؛ لأن الردة بمنزلة الموت بعد
الالتحاق بدار الحرب.
فإن عاد المرتد إلى الإسلام في مدة الخيار، فهو على خياره.
كل ذلك إذا لم يتصرف المرتد بالخيار فسخاً أو إجازة، فإذا تصرف في مدة
الخيار ينظر:
إن أجاز البيع جاز بالاتفاق، ولو فسخ يصبح حكم العقد موقوفاً عند أبي
حنيفة: فإن عاد مسلماً نفذ، وإن مات أو قتل على الردة، بطل الفسخ.
وقال الصاحبان: تنفذ تصرفات المرتد حال ردته. ومنشأ الخلاف: هل تصرفات
المرتد موقوفة أو نافذة؟
قال أبو حنيفة: هي موقوفة. وقال الصاحبان: هي نافذة، سواء أسلم أو مات أو
قتل (1).
وقال الشافعية والحنابلة: لو جن صاحب الخيار أو أغمي عليه أو أصابه خرس فلم
تفهم إشارته، ينتقل الخيار إلى وليه من حاكم أو غيره (2).
رابعاً - هلاك المبيع في مدة الخيار: فيه تفصيل؛ لأن الهلاك إما أن يكون
قبل القبض أو بعد القبض، والخيار إما للبائع، أو للمشتري (3).
_________
(1) انظر التفصيل في فتح القدير: 395/ 4 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 45/ 2، غاية المنتهى: 33/ 2.
(3) انظر المبسوط: 44/ 13، البدائع: 272/ 5، فتح القدير: 117/ 5.
(5/3544)
آ - فإن هلك المبيع قبل القبض أي (في يد
البائع) بطل البيع وسقط الخيار، سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري، أم
لهما معاً، لأنه لو كان العقد باتاً لبطل البيع بسبب العجز عن التسليم،
فيبطل إذا كان فيه خيار شرط من باب أولى.
ب ـ وإن هلك المبيع بعد القبض أي (في يد المشتري): فإن كان الخيار للبائع،
فيبطل البيع أيضاً، ويسقط الخيار، ولكن يلزم المشتري القيمة إن لم يكن له
مثل، والمثل إن كان له مثل.
وقال ابن أبي ليلى: إنه يهلك هلاك الأمانات؛ لأن الخيار منع انعقاد العقد
بالنسبة لحكم العقد، فكان المبيع على حكم ملك البائع أمانة في يد المشتري،
فيهلك هلاك الأمانات.
والصحيح قول عامة العلماء، لأن البيع وإن لم ينعقد بالنسبة لحكم العقد، لكن
المبيع في قبض المشتري على حكم البيع، فلا يكون دون المقبوض على سوم الشراء
(1) وهو مضمون بالقيمة أو بالمثل، سواء تعدى في القبض أو قصر في الحفظ، أو
لم يحصل منه شيء من ذلك، فهذا أولى، لأن العقد موجود هنا، بخلاف المقبوض
على سوم الشراء لم يوجد العقد بالنسبة إليه أصلاً.
وإن كان الخيار للمشتري فهلك المبيع بفعل المشتري أو البائع أو بآفة
سماوية: لا يبطل البيع، ولكن يسقط الخيار، ويلزم البيع، ويهلك على المشتري
بالثمن، لأن المشتري وإن لم يملك المبيع عند أبي حنيفة إلا أنه اعترض عليه
في يده ما يمنع الرد وهو التعيب بعيب لم يكن عند البائع؛ لأن الهلاك في يده
لا يخلو عادة عن
_________
(1) وهو أن يسمي البائع أو المشتري ثمن شيء، ثم يقبضه المساوم على وجه
الشراء، لينظر فيه أو ليريه غيره ويقول: إن رضيته أخذته بالثمن الذي اتفق
عليه. فإذا ضاع أو هلك يضمن قيمته (رد المحتار: 52/ 4).
(5/3545)
سبب له، وهذا السبب يكون عيباً، وتعيب
المبيع في يد المشتري يمنع الرد، ويلزم البيع إذ لافائدة من بقاء الخيار،
فيهلك بالثمن؛ لأن العقد قد انبرم.
وقال الشافعية كالحنفية فيما إذا حدث الهلاك بآفة سماوية قبل القبض: ينفسخ
البيع ويسقط الخيار، كما ينفسخ العقد ويسقط الخيار إذا كان الهلاك بعد
القبض ويضمن المشتري القيمة إذا كان الخيار للبائع.
فإن كان الخيار للمشتري فيقرر الشافعية أنه يضمن المبيع في هذه الحالة
بقيمته، لأنه إن فسخ البيع تعذر رد العين، فوجب رد القيمة، وإن أمضى العقد
فقد هلك من ملكه فيجب عليه قيمته (1).
وقال المالكية: إن هلك المبيع بيد البائع، فلا خلاف في ضمانه إياه وينفسخ
البيع. وإن كان هلك بيد المشتري فالحكم كالحكم في الرهن والعارية:
إن كان المبيع مما يغاب عليه (أي يمكن إخفاؤه) كالحلي والثياب، فيضمن
المشتري للبائع الأكثر من ثمنه الذي بيع به، أو القيمة؛ لأن من حق البائع
إمضاء البيع إن كان الثمن أكثر، ورد البيع إن كانت القيمة أكثر، إلا إذا
ثبت الهلاك ببينة فلا يضمن المشتري.
وإن كان المبيع مما لا يغاب عليه (أي لا يمكن إخفاؤه) كالدور والعقارات
فالبائع يضمنه، بعد أن يحلف المشتري حيث اتهمه البائع: لقد ضاع وما فرَّط،
إذا لم يظهر كذب المشتري (2).
_________
(1) المهذب: 260/ 1.
(2) بداية المجتهد: 208/ 2، حاشية الدسوقي: 104/ 3 ومابعدها.
(5/3546)
ويلاحظ أن ابن رشد في بداية المجتهد جعل
الضمان مطلقاً على البائع من غير تفصيل، والمشتري أمين، سواء كان الخيار
لهما أو لأحدهما. وقال الحنابلة: إن تلفت السلعة في مدة الخيار قبل القبض،
وكان المبيع مكيلاً أو موزوناً انفسخ البيع، وضمنه البائع، ويبطل خيار
المشتري.
وإن كان المبيع غير مكيل ولا موزون ولم يمنع البائع المشتري من قبضه، فظاهر
المذهب أنه من ضمان المشتري، ويكون كتلفه بعد القبض.
وأما إن تلف المبيع بعد القبض في مدة الخيار، فهو من ضمان المشتري، ويبطل
خياره. وأما خيار البائع ففيه روايتان:
إحداهما: يبطل كخيار الرد بالعيب إذا تلف المبيع، وهو اختيار الخرقي وأبي
بكر.
والثانية: لا يبطل، وللبائع فسخ البيع، ومطالبة المشتري بالقيمة (1).
خامساً - تعيب المبيع: فيه تفصيل أيضاً؛ لأن الخيار إما أن يكون للبائع أو
للمشتري.
آـ فإن كان الخيار للبائع: فيسقط خياره إذا تعيب المبيع بآفة سماوية أو
بفعل البائع، سواء أكان المبيع في يد البائع أم في يد المشتري، لأنه هلك
بعض المبيع بلا بدل عنه، إذ لا يجب الضمان على البائع، لأن المبيع ملكه،
فينفسخ البيع في هذا البعض،،ولا يمكن بقاء العقد في الجزء الباقي، لما
يترتب عليه من تفريق الصفقة على المشتري قبل تمام العقد، وهو لا يجوز.
فإذا تعيب المبيع بفعل المشتري، أو بفعل أجنبي لم يبطل البيع، ويبقى البائع
على خياره لأنه يمكنه إجازة البيع فيما بقي وفيما نقص؛ لأن قدر النقصان
انتقل إلى بدل عنه: وهو الضمان بالقيمة على المشتري أو الأجنبي لإتلافهما
ملك الغير بغير إذن، فكان قدر النقصان قائماً معنى.
_________
(1) المغني: 569/ 3.
(5/3547)
وإذا بقي البائع على خياره والمبيع في يد
المشتري: فإما أن يجيز العقد أو يفسخ: فإن أجاز البيع، وجب على المشتري
جميع الثمن؛ لأن البيع جاز في الكل، ولا يكون للمشتري خيار الرد بحدوث
التغير في المبيع، لأنه حدث في يده وفي ضمانه.
غير أنه إذا كان التعييب بفعل المشتري، فلا سبيل له على أحد، لأنه ضمن
القيمة بفعل نفسه، وإن كان بفعل الأجنبي فللمشتري خيارأن يتبع الجاني
بالأرش (أي الغرامة) لأنه بإجازة البيع ملك المبيع، من وقت البيع فحصلت
الجناية على ملكه.
وإن فسخ البائع العقد ينظر:
إن كان التعييب بفعل المشتري: فإن البائع يأخذ الباقي، ويأخذ أرش الجناية
من المشتري؛ لأن المبيع كان مضموناً على المشتري بالقيمة، وقد عجز عن رد ما
أتلفه بالجناية، فعليه رد قيمته.
وإن كان التعييب بفعل أجنبي: فالبائع بالخيار إن شاء اتبع الجاني بالأرش،
لأن الجناية حصلت على ملكه، وإن شاء اتبع المشتري؛ لأن الجناية حدثت في
ضمان المشتري.
فإن اختار اتباع الأجنبي: فالأجنبي لا يرجع على أحد، لأنه ضمن القيمة بفعل
نفسه، وإن اختار اتباع المشتري، فالمشتري يرجع بما ضمن من الأرش على
الجاني؛ لأن المشتري بأداء الضمان قام مقام البائع في حق تملك بدل الشيء
المجني عليه، وإن لم يقم مقامه في حق ملك نفس الشيء المجني عليه.
ب ـ وإن كان الخيار للمشتري: فيسقط خياره بالتعييب ولا ينفسخ البيع سواء
(5/3548)
حصل بآفة سماوية أو بفعل البائع، أو بفعل
المشتري أو بفعل الأجنبي؛ لأن في حالة الآفة السماوية واعتداء البائع حدث
التعيب في المبيع في يد المشتري وفي ضمانه، فيلزمه رد قيمته. وأما في حالة
اعتداء المشتري أو الأجنبي فلأنه تعذر رد المبيع؛ لأنه لا يمكن المشتري أن
يرد جميع ما قبض كما قبض
سليماً، وفي رد البعض تفريق للصفقة على البائع قبل تمام العقد (1).
وعلى هذا، إذا حدث نقص في المبيع في يد المشتري، كأن سقط حائط من دار بغير
صنع أحد، يسقط الخيار بهذا النقصان لتعذر رد الشيء على صاحبه كما قبضه
سليماً من أي نقص، ويتقرر على المشتري جميع الثمن؛ لأن النقصان حصل في
ضمانه.
المطلب الرابع ـ حكم العقد في مدة الخيار:
يقول الحنفية: لا ينعقد البيع بشرط
الخيار في الحال في حق الحكم (أي نقل الملكية) بالنسبة لمن له الخيار من
المتعاقدين، بل يكون موقوفاً إلى وقت سقوط الخيار: إما بإجازة البيع أو
فسخه، فإن أجازه ظهر أن العقد كان قد انعقد حال وجوده، أي قبل الإجازة متى
كان موضوع العقد قابلاً له، وإن فسخه استمر على عدم انعقاده استصحاباً
للحالة الأولى.
وتفصيله يظهر فيما يأتي (2):
إن كان الخيار للعاقدين: كان العقد غير منعقد من ناحية حكمه في حقهما
_________
(1) انظر تحفة الفقهاء: 106/ 2 - 109، فتح القدير: 117/ 5 ومابعدها، وانظر
البدائع: 269/ 5، 272، مع ملاحظة الفارق بين ما هنا وبين ما اختاره
الكاساني من اعتبار التعيب بالآفة السماوية في يد البائع غير مسقط للخيار.
(2) البدائع: 264/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 115/ 5 ومابعدها، رد المحتار:
51/ 4 ومابعدها.
(5/3549)
معاً أي أنه لا يزول المبيع عن ملك البائع
ولا يدخل في ملك المشتري، كما لا يزول الثمن عن ملك المشتري ولا يدخل في
ملك البائع؛ لأن الخيار المانع من الانعقاد من ناحية الحكم موجود في جانبي
البائع والمشتري.
وإن كان الخيار للبائع وحده: كان العقد غير منعقد في حقه من ناحية ثبوت
الحكم، فلا يزول المبيع عن ملكه ويخرج الثمن عن ملك المشتري؛ لأن العقد
لازم في حقه، ولكنه لا يدخل في ملك البائع عند أبي حنيفة حتى لا يجتمع
البدلان (المبيع والثمن) في يد واحدة، وهذا لا يجوز في عقود المبادلة التي
تتطلب المساواة بين البائع والمشتري.
وقال الصاحبان: إن الثمن يدخل في ملك البائع ويجب له ما دام البيع وقع
باتاً، أي لازماً بالنسبة للمشتري، لأنه لم يشترط الخيار لنفسه، ودليلهما:
أن الشيء لايصح أن يكون بلا مالك.
يظهر مما تقدم أن العقد من ناحية حكمه: لا ينعقد عند أبي حنيفة في كلا
البدلين (المبيع والثمن). وعند الصاحبين: لا ينعقد في بدل من له الخيار
فقط.
وإن كان الخيار للمشتري وحده: كان البيع غير منعقد بالنسبة له من ناحية
حكمه، فلا يخرج الثمن عن ملكه، أما المبيع فيخرج عن ملك البائع فليس له
التصرف فيه، ولكنه لا يدخل في ملك المشتري عند أبي حنيفة، ويدخل في ملكه
عند الصاحبين على النحو السابق.
ويترتب على هذا الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه نتائج، منها ما يأتي:
1 - إذا اشترى ذمي من ذمي خمراً أو خنزيراً على أنه بالخيار وقبض المشتري
المبيع، ثم أسلم بطل البيع عند أبي حنيفة؛ لأن المبيع لم يدخل في مدة
الخيار في ملك المشتري، والمسلم ممنوع من تملك الخمر أو الخنزير.
(5/3550)
وعند الصاحبين: لا يبطل البيع، بل يسقط
الخيار ويلزم العقد؛ لأن المشتري ملك المبيع في مدة الخيار وهو ذمي، له أن
يتملك الخمروالخنزير، وبعد الإسلام: ليس له أن يرد البيع، لأنه ممنوع من
تمليك شيء مما ذكر.
أما إذا أسلم البائع وكان الخيار للمشتري: فلا يبطل البيع ويبقى المشتري
على خياره بالاتفاق بين الإمام وصاحبيه، وكونه لا يبطل لأن البيع باتٌّ في
جانب البائع. وأما المشتري فيبقى خياره: فإن أجاز البيع صار لازماً، وعليه
الثمن ويملك المبيع، لأنه ذمي له أن يملك الخمر والخنزير. وإن رد البيع
انفسخ العقد وصار المبيع على ملك البائع، والمسلم قد يملك الخمر أو الخنزير
حكماً، كما إذا أسلم الذمي وعنده خمر أو خنزير.
فإن كان الخيار للبائع وأسلم في مدة الخيار بطل الخيار والعقد؛ لأن خيار
البائع يمنع إجماعاً خروج المبيع عن ملكه، وإسلامه يمنع إخراج الخمر ونحوها
عن ملكه. ولو كان الذي أسلم هو المشتري، لم يبطل العقد، وبقي البائع على
خياره، لأن العقد لازم من جهة المشتري إذ لا خيار له، وحينئذ له إجازة
البيع، فيتملك المشتري المبيع وهو أهل له أي لتملك الخمر ونحوها حكماً، كما
عرفنا، وإن رد البيع انفسخ العقد واستمر المبيع ملكاً للبائع.
2 - إذا كان المبيع داراً: فإن كان للبائع خيار، لم يكن للشفيع الشفعة
بالاتفاق بين الإمام وصاحبيه؛ لأن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه.
وإن كان الخيار للمشتري، تثبت الشفعة بالاتفاق أيضاً؛ لأن خيار المشتري على
قول أبي حنيفة، وإن منع دخول السلعة في ملك المشتري، لم يمنع زوال ملكيتها
عن ملك البائع، وحق الشفيع يثبت بزوال ملك البائع لا ملك المشتري.
وأما على قول الصاحبين: فإن خيار المشتري لا يمنعه تملك السلعة، فتثبت
(5/3551)
الشفعة للشفيع (1).
هذا هو تفصيل مذهب الحنفية في حكم عقد البيع خلال مدة الخيار.
وأما غير الحنفية فمذاهبهم ما يأتي: قال
المالكية وفي رواية عن أحمد: للبائع ملك المبيع زمن الخيار، حتى ينقضي
الخيار.
وإمضاء البيع: معناه نقل المبيع من ملك البائع لملك المشتري، وليس تقريراً
للملك. ودليلهم أن المبيع على ملك البائع، وأما المشتري فملكه غير تام
لاحتمال رده. وعلى هذا: تكون غلة المبيع الحاصلة في زمن الخيار للبائع (2).
وقال الشافعية في الأظهر عندهم: إن كان الخيار المشروط للبائع فملك المبيع
وتوابعه كلبن ومهر وثمر وكسب له. وإن كان الخيار للمشتري فيكون الملك له،
لأنه إذا كان الخيار لأحدهما كان هو وحده متصرفاً في المبيع، ونفوذ التصرف
دليل على الملك.
وإن كان الخيار للبائع والمشتري معاً، فالملك موقوف لأنه ليس أحد الجانبين
أولى من الآخر، فيحصل التوقف، فإن تم البيع تبين أن الملك للمشتري من حين
العقد، وإلا فللبائع، وكأنه لم يخرج عن ملكه (3).
وقال الحنابلة في ظاهر المذهب: ينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس
العقد، ولا فرق بين كون الخيار لهما، أو لأحدهما أيهما كان. ودليلهم قول
النبي صلّى الله عليه وسلم: «من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن
يشترط المبتاع» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر،
فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» (4) جعل
_________
(1) فتح القدير: 133/ 5، تحفة الفقهاء: 113/ 2.
(2) حاشية الدسوقي: 103/ 3، القوانين الفقهية: ص 273.
(3) مغني المحتاج: 48/ 2، المهذب: 259/ 1.
(4) هذا الحديث رواه الموطأ وأصحاب الكتب عن ابن عمر أن النبي صلّى الله
عليه وسلم قال: «من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع،
ومن باع نخلاً مؤبراً فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع»، وهناك ألفاظ
أخرى للحديث (انظر نصب الراية: 5/ 4، جامع الأصول: 34/ 2 ومابعدها).
(5/3552)
الرسول عليه الصلاة والسلام المبيع للمبتاع
(أي المشتري) بمجرد اشتراطه، وهو عام في كل بيع، ولأنه بيع صحيح، فنقل
الملكية عقبه كالذي لا خيار له، ولأن البيع تمليك بدليل قوله: (ملكتك) فثبت
به الملك كسائر البيوع (1).
ويترتب على هذا الخلاف بين الفقهاء: الخلاف في حكم تسليم الثمن أو استحقاقه
للبائع، كما ذكر عند الحنفية، فعند الحنابلة: يلزم تسليم الثمن إذا كان
الخيار للمشتري ولا يلزم إذا كان الخيار للبائع أو لهما.
المطلب الخامس ـ كيفية الفسخ والإجازة:
الفسخ والإجازة إما بطريق الضرورة أو بطريق القصد والاختيار (2):
أما الفسخ والإجازة بطريق الضرورة: فيصح من غير وجود الخصم وعلمه، كمضي مدة
الخيار وهلاك المبيع ونقصانه، كما ذكر في طرق إسقاط الخيار.
وأما الفسخ والإجازة بطريق القصد: فاتفق الحنفية على أن صاحب الخيار يملك
إجازة العقد بغير علم صاحبه، لأنه كان قد رضي بالبيع، وتوقف نفاذ البيع على
رضا صاحب الخيار، فإذا رضي نفذ البيع، علم الآخر أو لم يعلم.
ولكن يشترط الرضا باللسان بأن يقول: أجزت هذا العقد أو رضيت به، فإذا رضي
بقلبه فقط، فإنه لا يسقط خياره؛ لأن الأحكام الشرعية تتعلق بالأقوال
والأفعال الظاهرة الدالة على القلوب.
_________
(1) المغني: 571/ 3، غاية المنتهى: 32/ 2، القواعد لابن رجب: ص 377.
(2) فتح القدير: 120/ 5.
(5/3553)
وأما الفسخ: فإنه ينبغي أن يكون باللسان
(1) دون القلب، فإن فسخ بلسانه بعلم صاحبه، فيصح بالاتفاق بين علماء
الحنفية، سواء رضي به الطرف الآخر أو أبى. وإن فسخ بغيرعلم صاحبه فلا يصح
عند أبي حنيفة ومحمد، سواء أكان الخيار للمشتري أم للبائع، ويكون الفسخ
حينئذ موقوفاً: إن علم به صاحبه في مدة الخيار نفذ، وإن لم يعلم حتى مضت
المدة لزم العقد؛ لأن الفسخ تصرف في حق الغير؛ لأن العقد تعلق به حق كل
واحد من المتعاقدين، فلم يملك أحدهما فسخه بغير علم صاحبه، لما في ذلك من
المضرة. فإن كان الخيار للبائع: فربما يتصرف المشتري بالمشترى اعتماداً منه
على نفاذ البيع بسبب مضي المدة دون فسخ، فتلزمه غرامة القيمة بهلاك المبيع،
وقد تكون القيمة أكثر من الثمن، وفي هذا ضرر.
وإذا كان الخيار للمشتري: فربما لا يطلب البائع لسلعته مشترياً آخر
اعتماداً على تمام البيع، وهذا ضرر أيضاً.
وقال أبو يوسف: إن كان الخيار للبائع فلا يشترط علم المشتري بالفسخ، وإن
كان الخيار للمشتري اشترط علم البائع بالفسخ. وفي رواية عنه: إنه لا يشترط
علم الطرف الآخر بالفسخ مطلقاً؛ لأن الفاسخ منهما مسلط على الفسخ من صاحبه
الذي لا خيار له، فلا يتوقف الفسخ على علمه، كبيع الوكيل يجوز مع عدم علم
الموكل (2).
ويجري هذا الخلاف في خيار الرؤية، أما خيار العيب فاتفق الحنفية على أن
الفسخ فيه يشترط أن يكون بعلم البائع (3).
_________
(1) يلاحظ أن الإجازة والفسخ كما يكونان قوليين بكل لفظ يفيد ذلك كأجزت
البيع ونحوه، يكونان فعليين أيضاً كما لو تصرف المشتري المخير في المبيع
تصرفاً يعتمد الملكية كرهن المبيع أو إجارته أو عرضه للبيع فيكون إجازة.
ولو فعل البائع ذلك كان فسخاً.
(2) البدائع: 273/ 5، فتح القدير والعناية: 122/ 5، رد المحتار: 57/ 4.
(3) البدائع، المرجع السابق.
(5/3554)
وإذا كان الخيار لرجلين ـ خيار شرط أو رؤية
أو عيب ـ فلا يملك أحدهما دون الآخر أن ينفرد بالفسخ عند أبي حنيفة؛ لأن
المبيع خرج عن ملك البائع غير معيب بعيب الشركة، فلو رده أحدهما رده معيباً
به، وفي رده ضرر.
وقال الصاحبان: يصح لأحد الرجلين اللذين ثبت الخيار لهما أن ينفرد بالفسخ؛
لأن إثبات الخيار لهما إثباته لكل واحد منهما، فلا يسقط بإسقاط صاحبه، لما
فيه من إبطال حقه (1).
وعلى هذا، يصح عند أبي حنيفة أن يتفق الرجلان على الإجازة أو الفسخ، فإذا
رد أحدهما، وأجاز الآخر، فهو على الخلاف المذكور.
وكذا يجري الخلاف إذا اختارا رد البيع في النصف، وإجازة البيع في النصف
الآخر. هذا هو تفصيل كيفية الفسخ والإجازة عند الحنفية، وخالفهم جمهور
العلماء في كيفية الفسخ:
فقال المالكية والشافعية والحنابلة: يصح لصاحب الخيار فسخ البيع في حضور
صاحبه وفي غيبته، إذ أن صاحبه لما رضي لأخيه بالخيار، فكأنه أذن له في
الفسخ متى شاء، فلا يحتاج إلى حضوره (أي علمه) عند الفسخ، ولأن الفسخ رفع
للعقد، فلا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلم يفتقر إلى حضوره كالطلاق (2).
13 - خيار العيب هو خيار ثابت بالشرط
دلالة، لذا ذكرته عقب خيار الشرط. والكلام عن خيار العيب في المطالب
الآتية:
_________
(1) المبسوط: 50/ 13، البدائع: 268/ 5.
(2) المغني: 591/ 3، مغني المحتاج: 49/ 2، الميزان: 64/ 2.
(5/3555)
المطلب الأول ـ في
مشروعية خيار العيب وحكمه.
المطلب الثاني ـ في العيوب الموجبة للخيار.
المطلب الثالث ـ في طرق إثبات العيب وشروط ثبوت الخيار.
المطلب الرابع ـ مقتضى الخيار وكيفية الرد بالعيب.
المطلب الخامس ـ موانع الرد بالعيب وسقوط الخيار.
المطلب السادس ـ اختلاف الفقهاء في شرط البراءة عن العيب.
المطلب الأول ـ في مشروعية خيار العيب وحكم
العقد مشروعية خيار العيب: الأصل في مشروعية هذا الخيار أحاديث منها
ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع
من أخيه بيعاً، وفيه عيب إلا بينه له» (1).
ومنها ـ قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بيَّن
ما فيه، ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه» (2).
ومنها ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاماً، فأدخل يده فيه،
فإذا هو مبلول،
_________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم والطبراني عن عقبة بن عامر،
قال في الفتح: وإسناده جيد (انظر مجمع الزوائد: 80/ 4، نيل الأوطار: 211/
5) ورواه البخاري بلفظ آخر (انظر جامع الأصول: 420/ 1).
(2) أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك، قال في (نيل الأوطار: 212/
5) «وفي إسناده أحمد أبو جعفر الرازي وأبو سباع، والأول مختلف فيه، والثاني
قيل: إنه مجهول».
(5/3556)
فقال: «من غشنا فليس منا» (1).
وقال الكاساني: الأصل في مشروعية هذا الخيار ما روي عن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم أنه قال: «من اشترى شاة محفَّلة (2)، فوجدها مصراة (3)، فهو بخير
النظرين ثلاثة أيام» وفي رواية «فهو بأحد النظرين إلى ثلاثة: إن شاء أمسك،
وإن شاء رد، ورد معها صاعاً من تمر» (4)، والنظران المذكوران: هما نظر
الإمساك والرد، وذكر الثلاث في الحديث ليس للتوقيت، بل هو بناء الأمر على
الغالب المعتاد، والصاع من التمر كأنه قيمة اللبن الذي حلبه المشتري.
ويلاحظ أن جمهور الفقهاء يعتبرون تصرية الإبل والغنم تغريراً فعلياً في
الوصف، يوجب للمغرور خياراً في إبطال العقد، ولو لم يصحبه غبن فهو من خيار
الوصف (5).
ويثبتون للمشتري الخيار بين إمساك المبيع إن رضيه، أو رد المبيع مع صاع من
_________
(1) نيل الأوطار: 211/ 5 وما بعدها، وقد روى الحديث مسلم وأبو داود
والترمذي وابن ماجه وأحمد عن أبي هريرة، وفي رواية أبي داود «ليس منا من
غش» (انظر جامع الأصول: 419/ 1 وما بعدها، مجمع الزوائد: 78/ 4، نيل
الأوطار: 212/ 5).
(2) أي مجمع اللبن في ضرعها.
(3) قال الشافعي: التصرية: هي ربط أخلاف (حلمات) الشاة أو الناقة، وترك
حلبها حتى يجمع لبنها، فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في ثمنها
لما يرى من كثرة لبنها.
(4) انظر للمقارنة نيل الأوطار: 214/ 5، جامع الأصول: 420/ 1 وما بعدها،
مجمع الزوائد: 108/ 4، الموطأ: 170/ 2 ففي هذا الحديث عدة روايات رواها
البخاري ومسلم وأحمد والموطأ وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وهذه
الرواية المذكورة كما يظهر لي هي ملفقة من أكثر من رواية.
(5) انظر ابن عابدين: /4 47، والمدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء:
جـ1 ص 374، الطبعة السابعة.
(5/3557)
تمر إن سخطه، ويوافق أبو يوسف الجمهور على
هذا الرأي أخذاً بالحديث السابق. وقال أبو حنيفة ومحمد: يرجع المشتري
بالنقصان فقط إن شاء.
حكم البيع:
حكم البيع لشيء معيب: هو ثبوت الملك للمشتري في المبيع للحال لأن ركن البيع
مطلق عن الشرط، وإنما يثبت فيه دلالة شرط سلامة المبيع عن العيوب، فإذا لم
تتوافر السلامة تأثر العقد في لزومه، لا في أصل حكمه، بخلاف خيار الشرط؛
لأن الشرط المنصوص عليه ورد على أصل الحكم، فمنع انعقاده بالنسبة للحكم في
مدة الخيار (1).
وصفة حكم البيع لشيء معيب: هو أنه يفيد الملك غير لازم؛ لأن سلامة البدلين
في عقد المعاوضة مطلوبة عادة، فكانت السلامة مشروطة في العقد دلالة أي
ضمناً، فكانت كالمشروطة نصاً، فإذا لم تتحقق صفة السلامة في البدلين، كان
للعاقد الخيار، فيكون العقد غير لازم (2).
المطلب الثاني ـ العيوب الموجبة للخيار
العيب: هو كل ما يخلو عنه أصل الفطرة
السليمة ويوجب نقصان الثمن في عرف التجار نقصاناً فاحشاً أو يسيراً كالعمى
والعور والحول (3).
_________
(1) البدائع: 273/ 5.
(2) البدائع، المرجع نفسه: ص 274.
(3) فتح القدير والعناية: 151/ 5، 153، البدائع: 274/ 5، رد المحتار: 74/
4، الشرح الصغير: 152/ 3 وما بعدها، والحَوَل: أن تميل إحدى الحدقتين إلى
الأنف، والأخرى إلى الصدغ.
(5/3558)
وتعريف العيب عند الشافعية: هو كل ما ينقص
العين أو القيمة أو ما يفوت به غرض صحيح إذا غلب في جنس المبيع عدمه.
واحترزوا بالقيد الأخير عن قطع أصبع زائدة أو جزء يسير من الفخذ أو الساق
لا يورث شيناً، ولا يفوت غرضاً، فلا يرد المبيع به (1). مثال إنقاص القيمة:
جماح الدابة عند ركوبها، ومثال ما يفوت به غرض صحيح: قطع بعض أذن الشاة
المشتراة للأضحية، فللمشتري ردها.
والفرق بين التعريفين: أن تعريف الحنفية ذو معيار مادي، وتعريف الشافعية ذو
معيار شخصي.
والعيوب نوعان:
أحدها ـ ما يوجب نقصان جزء من المبيع أو تغيره من حيث الظاهر دون الباطن.
ثانيهما ـ ما يوجب النقصان من حيث المعنى، دون الصورة.
أما الأول ـ فكثير نحو العمى، والعور، والحَوَل، والشلل، والقرع، والزمانة
(أي الأمراض المزمنة) والأصبع الناقصة والسن السوداء والسن الساقطة والسن
الشاغية (الزائدة) والظفر الأسود، والصمم والخرس، والبكم، والقروح،
والشجاج، وأثر الجراح، والحميات وسائر الأمراض التي تعم البدن (2).
وأما الثاني ـ فنحو جماح الدابة، وبطء غير معتاد في سيارة ونحوها (3).
_________
(1) مغني المحتاج: 51/ 2، وقال الحنابلة: العيب: هو نقص عين مبيع كقطع أصبع
ولو زادت قيمته، أو نقص قيمته عرفاً كمرض ونحوه (غاية المنتهى: 35/ 2).
(2) البدائع: 274/ 5.
(3) انظر البدائع: 274/ 5 - 276، فتح القدير: 154/ 5 - 155 ومابعدها، رد
المحتار: 78/ 4.
(5/3559)
المطلب الثالث ـ طرق
إثبات العيب وشروط ثبوت الخيار
شرائط ثبوت الخيار: يشترط لثبوت الخيار
شرائط هي (1):
1 - ثبوت العيب عند البيع أو بعده قبل التسليم، فلو حدث بعدئذ لا يثبت
الخيار.
2 - ثبوت العيب عند المشتري بعد قبضه المبيع، ولا يكتفى بالثبوت عند البائع
لثبوت حق الرد في جميع العيوب عند عامة المشايخ.
3 - جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، فإن كان عالماً به عند
أحدهما فلا خيار له، لأنه يكون راضياً به دلالة.
4 - عدم اشتراط البراءة عن العيب في البيع، فلو شرط فلا خيار للمشتري، لأنه
إذا أبرأه فقد أسقط حق نفسه.
5 - أن تكون السلامة من العيب غالبة في مثل المبيع المعيب.
6 - ألا يزول العيب قبل الفسخ.
7 - ألا يكون العيب طفيفاً مما يمكن إزالته دون مشقة، كالنجاسة في الثوب
الذي لا يضره الغسل.
8 - عدم اشتراط البراءة من العيب في البيع، على التفصيل الآتي في آخر
البحث.
طرق إثبات العيب:
يختلف طريق إثبات العيب باختلاف العيب، والعيب أربعة أنواع:
_________
(1) البدائع: 275/ 5 وما بعدها، فتح القدير: 153/ 5.
(5/3560)
إما عيب ظاهر مشاهد، كالأصبع الزائدة
والناقصة والسن الساقطة والعمى والعور ونحوها.
أو عيب باطن خفي لا يعرفه إلا الأطباء.
أو عيب لا يطلع عليه إلا النساء.
أو عيب لا يعرف بالمشاهدة، وإنما يحتاج إلى التجربة والامتحان عند الخصومة.
1 - فإن كان عيباً مشاهداً: فلا حاجة لتكليف القاضي للمشتري بإقامة البينة
على وجود العيب عنده، لكونه ثابتاً بالعيان والمشاهدة، وللمشتري حق خصومة
البائع، بسبب هذا التعريف، وللقاضي حينئذ النظر في الأمر.
فإن كان العيب لا يحدث مثله عادة في يد المشتري كالأصبع الزائدة ونحوها،
فإنه يرد على البائع، ولا يكلف المشتري بإقامة البينة على ثبوت العيب عند
البائع لتيقن ثبوته عنده إلا أن يدعي البائع الرضا به، والإبراء عنه، فتطلب
البينة منه.
فإن أقام البينة عليه قضي بموجبها، وإلا فيستحلف المشتري على دعواه، فإن
نكل لم يرد المبيع المعيب على البائع وإن حلف رد على البائع.
وأما إن كان العيب ممايجوز أن يحدث مثله في يد المشتري: فيقول القاضي
للبائع: (هل حدث هذا عندك؟) فإن قال: (نعم) قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي
الرضا والإبراء. وإن أنكر فقال? لا) كان القول قوله إلا أن يقيم المشتري
البينة، فإن أقامها، قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي البائع الرضا والإبراء،
وإن لم يكن له بينة على إثبات العيب عند البائع، وطلب المشتري يمينه، فإنه
يستحلف بالله بنحوٍ باتٍّ قاطع جازم لا على مجرد نفي العلم: (لقد بعته
وسلمته، وما به هذا العيب)
(5/3561)
لأن هذا أمر لو أقر به لزمه، فإذا أنكر
يحلف، وإنما يحلف على هذا الوجه بالجمع بين البيع والتسليم؛ لأنه قد يحدث
العيب بعد البيع قبل التسليم فيثبت للمشتري حق الرد، فكان الاحتياط هو
الجمع بينهما. وهذا ما ذكره محمد في الأصل.
وقال بعض المشايخ: لا احتياط في هذا، لأنه لو استحلف على هذا الوجه، فمن
الجائز حدوث العيب بعد البيع قبل التسليم، فيكون البائع صادقاً في يمينه؛
لأن شرط حنثه: وجود العيب عند البيع والتسليم معاً فلا يحنث بوجوده في
أحدهما، فيبطل حق المشتري. والاحتياط للمشتري يتحقق فيما إذا حلف البائع
بالله: (ما للمشتري رد السلعة بهذا العيب الذي يدعي) وقال بعضهم: يحلف
بالله (لقد سلمته وما به هذا العيب الذي يدعي) قال الكاساني: «وهو صحيح،
لأنه يدخل فيه الموجود عند البيع، والحادث قبل التسليم».
فإذا حلف برئ، ولا يرد عليه المبيع، وإن نكل يرد عليه ويفسخ العقد، إلا إذا
ادعى البائع على المشتري الرضا بالعيب أو الإبراء عنه.
وقد صحح بعضهم صيغة اليمين الأولى التي ذكرها محمد بإضمار زيادة في الكلام،
فتصير الصيغة: «لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب، لا عند البيع ولا عند
التسليم» (1).
2 ًـ وأما إذا كان العيب باطناً خفياً لا يعرفه إلا المختصون: كالأطباء
والبياطرة مثل وجع الكبد والطحال ونحوه، فإنه يثبت لممارسة حق
_________
(1) البدائع: 279/ 5 ومابعدها، تحفة الفقهاء: 139/ 2 ومابعدها، رد المحتار:
92/ 4، مختصر الطحاوي: ص 80 ومابعدها.
(5/3562)
الخصومة بشهادة رجلين مسلمين أو رجل مسلم
عدل، وبعده يقول القاضي للبائع: «هل حدث عندك العيب المدعى به» فإن قال:
«نعم» قضى عليه بالرد، وإن أنكر أقام المشتري البينة، فإن لم يكن له بينة
استحلف البائع على الوجه السابق ذكره في العيب المشاهد. فإن حلف، لم يرد
عليه، وإن نكل قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا أو الإبراء (1).
3 - وإن كان العيب مما لا يطلع عليه إلا النساء:
فيرجع القاضي إلى قول النساء، فيريهن العيب لقوله تعالى: {فاسألوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء:7/ 21] ولا يشترط العدد منهن، بل يكتفى
بقول امرأة واحدة عدل، والثنتان أحوط؛ لأن قول المرأة فيما لا يطلع عليه
الرجال حجة في الشرع، كشهادة القابلة في النسب.
فإذا شهدت المرأة على العيب، فهناك روايتان عن كل واحد من الصاحبين:
في رواية عن أبي يوسف أنه يفرق بين ما إذا كان المبيع في يد البائع أو في
يد المشتري.
فإن كان في يد البائع فيثبت العيب بشهادتها، ويرد المبيع، ويفسخ البيع، لأن
ما لا يطلع عليه الرجال، فقول المرأة الواحدة بمنزلة البينة.
وإن كان في يد المشتري فيثبت حق الخصومة أي (حق الادعاء) بقولها، ولايثبت
بالنسبة لحق الرد على البائع؛ لأن المبيع وجد معيباً في ضمان المشتري، فلا
ينقل الضمان إلى البائع بقول النساء، ثم يسأل القاضي البائع: (هل كان هذا
العيب عندك) كما تبين في صورة العيب الباطن.
_________
(1) البدائع: 278/ 5، رد المحتار: 92/ 4.
(5/3563)
وفي رواية أخرى عن أبي يوسف قال: إن كان
العيب مما لا يحدث مثله: يفسخ البيع بقول النساء؛ لأن العيب قد ثبت
بشهادتهن، وقد علمنا كون العيب عند البائع بيقين.
وإن كان عيباً يحدث مثله، لم يثبت حق الفسخ بقولهن؛ لأن هذا مما يعلم من
جهة غيرهن.
والروايتان عن محمد ما يأتي:
قال في رواية: لا يُفسخ البيع بقولهن بحال. وفي رواية: يفسخ قبل القبض
وبعده بقولهن؛ لأن قولهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالبينة كما في النسب.
والحاصل أن شهادة المرأة الواحدة أو الثنتين يثبت بها العيب الذي لا يطلع
عليه الرجال بالنسبة لحق إقامة الخصومة لا بالنسبة لحق الرد، سواء أكان
العيب قبل القبض أم بعده في ظاهر الرواية عن علماء الحنفية الثلاث، فكان هو
المذهب المعتمد (1).
4 - وأما العيب الذي ليس بمشاهد عند الخصومة
ولايعرف إلا بالتجربة:
كالإباق والجنون والسرقة والبول على الفراش، فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو
رجل وامرأتين.
إذا أثبت المشتري حدوث العيب عنده، يقول القاضي للبائع: (هل أبق عندك) فإن
قال: (نعم) قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا أو الإبراء، وإن أنكر الإباق
أصلاً، وادعى اختلاف الحالة في هذا العيب بين الصغر والكبر، كما سلف بيانه،
يقول القاضي للمشتري: (ألك بينة؟) فإن قال: (نعم) وأقام البينة
_________
(1) البدائع: 279/ 5 ومابعدها، رد المحتار: 92/ 4 ومابعدها.
(5/3564)
على مايدعي، قضى عليه بالرد، وإن قال: (لا)
يستحلف البائع بالله: (ماأبق عندك قط) فإن حلف انقطعت الخصومة بينهما، وإن
نكل عن اليمين قضى عليه بالرد.
وإذا لم يستطع المشتري إثبات العيب عنده، هل
يستحلف القاضي البائع على ذلك أو لا؟.
قال الصاحبان: يستحلف، وقال أبو حنيفة: لايستحلف.
دليلهما: أن المشتري يدعي حق الرد ولايمكنه الرد إلا بإثبات العيب عند
نفسه، وطريق الإثبات: إما البينة أو نكول البائع، فإذا لم تقم له بينة
يستحلف لينكل أي (البائع) فيثبت العيب عند نفسه، ولهذا يستحلف أي المشتري
عند عدم البينة على إثبات العيب عند البائع فكذا هذا. ودليل أبي حنيفة: أن
الاستحلاف يكون عقب الدعوى على البائع، ولا دعوى له على البائع إلا بعد
ثبوت العيب عند نفسه، ولم يثبت، فلم تثبت دعواه على البائع، فلا يستحلف،
والنكول لايكون إلا بعد الاستحلاف (1).
وكيفية استحلاف البائع:
هي أن يحلف على العلم: لا على سبيل البت والقطع، فيقول: (بالله مايعلم أن
هذا العيب موجود في هذا الشيء الآن) والسبب فيه: هو أنه يحلف على غير فعله،
ومن حلف على غير فعله، يحلف على العلم لأنه لا علم له بما ليس بفعله، أما
من حلف على فعل نفسه، فيحلف على البتات (أي بصيغة البت
_________
(1) البدائع: 279/ 5، رد المحتار: 92/ 4.
(5/3565)
والجزم) فإن نكل أي البائع عن اليمين، ثبت
العيب عند المشتري، فيثبت له حق الخصومة، وإن حلف برئ (1).
المطلب الرابع ـ مقتضى الخيار وكيفية
الفسخ والرد بالعيب
مقتضى الخيار: يترتب على ظهور العيب في
المبيع أن يكون المشتري مخيراً بين أمرين:
إما أن يمضي العقد، وفي هذه الحالة يلتزم بأداء الثمن كاملاً؛ أو يفسخ
العقد، فيسترد الثمن إن كان قد دفعه، ويعفى من أدائه إن لم يكن قد أداه،
وعليه أن يرد العين المعيبة إذا كان قد تسلّمها (2).
وقال الشافعية والحنابلة: إذا تعيب المبيع في يد البائع أو تلف بعضه بأمر
سماوي، فيكون المشتري مخيراً بين قبوله ناقصاً بجميع الثمن، ولا شيء له،
وبين فسخ العقد والرجوع بالثمن (3).
كيفية الفسخ والرد: المبيع لا يخلو من
أحد حالين:
1 - إما أن يكون في يد البائع، فينفسخ البيع بقول المشتري: «رددت» ولا
يحتاج إلى قضاء القاضي، ولا إلى التراضي بالاتفاق بين الحنفية والشافعية.
2 - وإما أن يكون في يد المشتري، فلا ينفسخ إلا بقضاء القاضي أو بالتراضي
عند الحنفية؛ لأن الفسخ بعد القبض يكون على حسب العقد؛ لأنه يرفع العقد،
وبما أن العقد لا ينعقد بأحد العاقدين فلا ينفسخ بأحدهما من غير رضا
_________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) فتح القدير: 151/ 5.
(3) الروضة للنووي: 504/ 3، المغني: 109/ 4 ومابعدها.
(5/3566)
الآخر، ومن غير قضاء القاضي، بخلاف الفسخ
قبل القبض؛ لأن الصفقة ليست تامة حينئذ، بل تمامها بالقبض، فكان بمنزلة
القبض.
وعند الشافعي: ينفسخ العقد بقوله: «رددت» بغير حاجة إلى قضاء، ولا إلى رضا
البائع؛ لأن الفسخ لا تفتقر صحته إلى القضاء، ولا إلى الرضا كالفسخ بخيار
الشرط بالاتفاق، وبخيار الرؤية على أصل الحنفية (1).
هل الفسخ بعد العلم بالعيب على الفور أو على
التراخي؟ قال الحنفية والحنابلة: خيار الرد بالعيب على التراخي، ولا
يشترط أن يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور، فمتى علم العيب فأخر
الرد، لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا، وإذا أعلن المشتري
البائع بالعيب وخاصمه في رد المبيع، ثم ترك مخاصمته بعدئذ، ورجع إليها وطلب
الرد، فإن له أن يرد ما لم يمتنع الرد لمانع، لأنه خيار لدفع ضرر متحقق،
فكان على التراخي كالقصاص، ولا نسلم دلالة الإمساك على الرضا به (2).
وقال الشافعية: يشترط أن يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور، فلو
علم ثم أخر رده بلا عذر؛ سقط حقه في الرد، والمراد بالفور: ما لا يعد
تراخياً في العادة، فلو اشتغل بصلاة دخل وقتها، أو بأكل أو نحوه، فلا يكون
تراخياً في العادة، فلا يمنع الرد، وكذا لو علم بالعيب، ثم تراخى لعذر كمرض
أو خوف لص أو حيوان مفترس أو نحوه، فإن حقه لا يسقط، وإنما يكون له حق الرد
بعد العلم بالعيب إذا لم يفعل ما يدل على الرضا، كاستعمال الحيوان ولبس
الثوب أو نحوه.
_________
(1) البدائع: 281/ 5، مغني المحتاج: 57/ 2، المهذب: 284/ 1.
(2) رد المحتار: 93/ 4، المغني: 144/ 4، غاية المنتهى: 41/ 2.
(5/3567)
ودليلهم: أن الأصل في البيع اللزوم، وعدم
اللزوم عارض، ولأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال، فكان فورياً
كالشفعة، فيبطل بالتأخير بغير عذر (1).
المطلب الخامس ـ موانع الرد بالعيب وسقوط
الخيار يمتنع الرد بالعيب ويسقط الخيار بعد ثبوته ويلزم البيع
بأسباب، منها: ما يكون بعد ثبوت التزام البائع بضمان العيب. ومنها: ما لا
يكون البائع ملتزماً فيها بضمان العيوب من أول الأمر.
أما ما يكون بعد ثبوت التزام البائع بضمان
العيب فهي (2):
1 - الرضا بالعيب بعد العلم به، إما
صراحة كأن يقول: رضيت بالعيب أو أجزت البيع، أو دلالة كالتصرف في المبيع
تصرفاً يدل على الرضا بالعيب كصبغ الثوب أو قطعه، أو البناء على الأرض أو
طحن الحنطة أو شيّ اللحم، أو بيع الشيء أو هبته أو رهنه ولو بلا تسليم أو
استعماله بأي وجه كلبس الثوب وركوب الدابة أو مداواة المبيع ونحوها كما ذكر
في مبحث خيار الشرط، أو وصول عوض العيب إلىه حقيقة، أو اعتباراً كأن يقتله
أجنبي وهو في يده خطأ، فيأخذ قيمته منه.
وذلك لأن حق الرد لفوات السلامة المشروطة في العقد ضمناً، ولَّما رضي
المشتري بالعيب بعد العلم به، دل على أنه ما شرط السلامة، ولأنه إذا رضي
بالعيب فقد رضي بالضرر: وهو إسقاط ضمان العيب الذي يعوض به عن الجزء
المعيب، وفي حالة العوض: إذا حصل التعويض، فكأن الجزء المعيب عاد سليماً
_________
(1) مغني المحتاج: 56/ 2، المهذب: 274/ 1.
(2) البدائع: 282/ 5، 291، رد المحتار: 94/ 4، 103.
(5/3568)
معنىً، بقيام بدله، وهذا في ظاهر الرواية،
لأنه لما وصلت إليه قيمته، قامت القيمة مقام العين، فصار كأنه باعه.
2 - إسقاط الخيار صراحة أو في معنى الصريح:
مثل أن يقول المشتري: أسقطت الخيار أو أبطلته، أو ألزمت البيع أو أوجبته،
وما يجري مجراه.
وأما ما يمنع الرد دون أن يكون البائع ملتزماً بالضمان من أول الأمر فهو
مايأتي:
1 - المانع الطبيعي: وهو هلاك المبيع
بآفة سماوية، أو بفعل المبيع، أو باستعمال المشتري كأكل الطعام، فيمتنع
الرد في هذه الحالات لهلاك المبيع، ويثبت للمشتري حق الرجوع على البائع
بنقصان العيب (1).
2 - المانع الشرعي: وهو أن يحدث في
المبيع قبل القبض زيادة متصلة غير متولدة من الأصل كصبغ الثوب والبناء على
الأرض، أو يحدث بعد القبض زيادة متصلة غير متولدة أو زيادة منفصلة متولدة
كالولد والثمرة. وأما بقية أنواع الزيادات فلا تمنع الرد.
وتفصيله ما يأتي (2):
الزيادة في المبيع: إما أن تحدث قبل
القبض أو بعده، وكل منها إما متصلة أو منفصلة.
ف الزيادة الحادثة قبل القبض:
_________
(1) البدائع: 282/ 5، رد المحتار: 86/ 4، 99، مجمع الضمانات: ص 219، عقد
البيع للأستاذ الزرقاء: ص 110، مغني المحتاج: 54/ 2.
(2) البدائع: 284/ 5 ومابعدها، التقريرات على رد المحتار: 85/ 4، 98، عقد
البيع، المرجع المذكور: ص 111.
(5/3569)
1 - إذا كانت متصلة:
فإما أن تكون متولدة من الأصل كالحسن والجمال والكبر والسمن ونحوها، فلا
تمنع الرد، لأنها تابعة للأصل حقيقة.
أو تكون غير متولدة كصبغ الثوب أو خياطته، وكالبناء أو الغرس على الأرض،
فتمنع الرد؛ لأنها أصل قام بذاته، وليست تابعة، فلا يرد المبيع بدونها،
لتعذر الرد، ولا يرد معها، لأنها ليست تابعة في البيع فلا تتبع في الفسخ.
2 - وإن كانت منفصلة:
فإما أن تكون أيضاً متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن، فلا تمنع الرد،
فإن شاء المشتري ردهما جميعاً، وإن شاء رضي بهما بجميع الثمن.
أو أن تكون غير متولدة، كالكسب والصدقة والغلة، فلا تمنع الرد؛ لأنها ليست
بمبيعة، وإنما هي مملوكة بملك الأصل.
وأما الزيادة الحادثة في المبيع بعد القبض
(أي عند المشتري):
1 - إن كانت زيادة متصلة.
فإن كانت متولدة من الأصل كسمن الدابة، فلا تمنع الرد عند الحنفية
والشافعية والحنابلة والمالكية (1)، ويبقى حكم العيب معها على موجبه
الأصلي: فإن رضي المشتري أن يردها مع الأصل ردها، وإن أبى وأراد أن يأخذ
نقصان العيب، وأبى البائع إلا الرد ودفع جميع الثمن، فقال أبو حنيفة وأبو
يوسف: ليس
_________
(1) مغني المحتاج: 61/ 2، المغني: 144/ 4، حاشية الدسوقي: 121/ 3.
(5/3570)
للبائع أن يأبى وللمشتري أخذ نقصان العيب
منه؛ لأن الزيادة المتصلة بعد القبض تمنع الفسخ عندهما إذا لم يوجد الرضا
من صاحب الزيادة.
وقال محمد: له أن يأبى الرد، وليس للمشتري أن يرجع بالنقصان عليه (أي على
البائع) لأن الزيادة المتصلة عنده لا تمنع الفسخ، وأصل الخلاف راجع إلى حكم
الزيادة المتصلة بالمهر بعد القبض إذا طلق الزوج امرأته قبل الدخول.
وإن كانت غير متولدة: فإنها تمنع الرد بالاتفاق؛ لأن هذه الزيادة ملك
للمشتري، فلا يحق للبائع عندئذ أخذها بلا مقابل، ويتعين الرجوع بنقصان
العيب.
2 - وإن كانت زيادة منفصلة: فإن كانت
متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن، فإنها تمنع الرد عند الحنفية؛
لأنها لو رد الأصل دونها تبقى للمشتري بلا مقابل، وهو ممنوع شرعاً، لأنه
ربا.
وقال الشافعية والحنابلة: لا تمنع هذه الزيادة الرد، وهي للمشتري بعد
القبض، لأنها حدثت في ملك المشتري، فلا تمنع الرد، كالزيادة غير المتولدة،
ولما روي «أن رجلاً ابتاع من آخر غلاماً، فأقام عنده ما شاء الله، ثم وجد
به عيباً، فخاصمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فرده عليه، فقال: يا رسول
الله، قد استغل غلامي، فقال: الخراج بالضمان» (1) ومعناه أن فوائد المبيع
للمشتري في مقابلة أنه لو تلف كان من ضمانه، وقيس الثمن على المبيع.
_________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها، وهذه رواية أبي
داود. ومعنى الخراج بالضمان أي الغنم بالغرم إذ أن الخراج هو الدخل
والمنفعة، أي يملك المشتري الخراج الحاصل من المبيع بضمان الأصل الذي عليه
أي بسببه، فالباء للسببية (انظر جامع الأصول: 28/ 2، نيل الأوطار: 213/ 5).
(5/3571)
وإن كانت الزيادة غير متولدة كالكسب
والصدقة، لم يمتنع الرد، ويرد الأصل على البائع، والزيادة للمشتري طيبة له؛
لأن هذه الزيادة ليست بمبيعة أصلاً، فأمكن فسخ العقد بدون الزيادة.
3 - المانع بسبب حق البائع: وهو حدوث
عيب جديد عند المشتري بعد قبضه، إذا كان المبيع معيباً بعيب قديم عند
البائع، كأن انكسرت يد الدابة المبيعة عند المشتري، وظهر فيها مرض قديم كان
عند البائع؛ لأن المبيع خرج عن ملك البائع معيباً بعيب واحد، فلو رد يرد
بعيبين، فيتضرر البائع. وشرط الرد أن يرد على الوجه الذي أخذ، وإنما يكون
للمشتري أن يرجع على بائعه بالنقصان. ولو زال العيب الحادث، كما لو شفيت
الدابة المريضة، عاد الموجب الأصلي: وهو حق الرد (1).
4 - المانع بسبب حق الغير: كما لو أخرج
المشتري المبيع عن ملكه بعقد من عقود التمليك كبيع أو هبة أوصلح، ثم اطلع
على أنه كان معيباً بعيب قديم، فلا يمكن المشتري الأول أن يفسخ البيع بينه
وبين بائعه، لأنه قد تعلق بالمبيع حق مالك جديد، أنشأه المشتري نفسه (2).
5 - إتلاف المشتري المبيع:
كما لو كان المبيع دابة فقتلها، أو ثوباً فمزقه ونحوه، ثم علم بوجود العيب
القديم فيه، فيستقر عليه الثمن المسمى نهائياً دون رجوع بنقصان. والفرق بين
هذا العيب وبين المانع بسبب حق الغير: أنه في الحالة الثانية يحتمل زوال
المانع، فيعود حق الرد، وفي الحالة الأولى لا يحتمل زواله (3).
_________
(1) البدائع: 283/ 5، رد المحتار: 82/ 4، 101، عقد البيع للأستاذ الزرقاء:
ص 111.
(2) عقد البيع، المرجع السابق.
(3) عقد البيع: ص 112 ومابعدها.
(5/3572)
وإذا حصل في المبيع عيب عند المشتري، ثم
اطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان على البائع ولا يرد
المبيع إلا أن يرى البائع أخذ المبيع بعينه فله أخذه. وتعتبر قيمة النقصان
يوم البيع (1).
والخلاصة: أنه يجوز الرجوع على البائع للمطالبة بفرق نقصان العيب في حالات
ثلاث: هي هلاك المبيع، وتعيبه بعيب جديد، وتغيير صورته بحيث أصبح له اسم
جديد.
ويلاحظ أن الكلام في هذه الموانع المذكورة فيما إذا كان المشتري عاقداً
لنفسه، فإن كان عاقداً لغيره ففيه تفصيل:
إذا كان العاقد لغيره ممن يجوز أن تلزمه الخصومة (أي الادعاء) في الرجوع
بنقصان العيب كالوكيل، والشريك، والمضارب، فتلزمه الخصومة، ويقوم برد
المبيع المعيب على البائع؛ لأن الرد بالعيب من حقوق العقد، وحقوق العقد
ترجع إلى العاقد إذا كان ممن تلزمه الخصومة كالعاقد لنفسه، فما قضي به على
العاقد ـ إن كان وكيلاً بالبيع ـ رجع به على من وقع له العقد، لكونه قائماً
مقامه (2).
وإذا كان العاقد ممن لا تلزمه الخصومة كالقاضي والإمام إذا عقدا عقداً بحكم
الولاية، فإنه ينصب خصماً يخاصم في العيب، فما قضي به عليه، رجع في مال من
وقع التصرف له، وإن كان التصرف للمسلمين رجع في بيت مالهم.
وأما العاقد: إذا كان صبياً محجوراً، فباع أو اشترى بإذن إنسان، فلا تلزمه
الخصومة، ولا ضمان عليه، وإنما الخصومة على من وكله في التصرف؛ لأن حكم
_________
(1) مجمع الضمانات: ص 220، فتح القدير: 164/ 5.
(2) رد المحتار: 89/ 4.
(5/3573)
العقد وقع للموكل، والعاقد ليس من أهل لزوم
العهدة (أي حقوق العقد) فيقتصر دوره على مباشرة التصرف لا غير، كالرسول
والوكيل في عقد النكاح.
المطلب السادس ـ آراء الفقهاء في شرط البراءة
عن العيوب اختلف الفقهاء فيما إذا شرط البائع براءته من ضمان العيب
(أي عدم مسؤوليته عما يمكن أن يظهر من عيوب في المبيع) فرضي المشتري بهذا
الشرط، اعتماداً على السلامة الظاهرة ثم ظهر في المبيع عيب قديم (1).
قال الحنفية: يصح البيع بشرط البراءة من كل عيب (2) وإن لم تعين العيوب
بتعداد أسمائها، سواء أكان جاهلاً وجود العيب في مبيعه فاشترط هذا الشرط
احتياطاً، أم كان عالماً بعيب المبيع، فكتمه عن المشتري، واشترط البراءة من
ضمان العيب ليحمي بهذا الشرط سوء نيته، فيصح البيع، لأن الإبراء إسقاط، لا
تمليك، والإسقاط لا تفضي الجهالة فيه إلى المنازعة، لعدم الحاجة إلى
التسليم. ويشمل هذا الشرط كل عيب موجود قبل البيع أو حادث بعده قبل القبض،
فلا يرد المبيع بالعيب حينئذ. وهذا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي
يوسف؛ لأن غرض البائع إلزام العقد بإسقاط المشتري حقه في وصف سلامة المبيع،
ليلزم البيع على كل حال، ولا يتحقق هذا الغرض إلا بشمول العيب الحادث قبل
التسليم، فكان داخلاً ضمناً.
_________
(1) المدخل الفقهي العام: ص 377، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 107.
(2) للناس عبارات مختلفة في شرط البراءة عن العيوب مثل بيع الشيء على أنه
حاضر حلال، أو على أنه مكسر محطم، أو كوم تراب أو عظام، أو حراق على
الزناد، أو لا يصلح لشيء أو لأجل الطرح. وفي بيع الدابة يقولون: على أنها
لحم: أي لا ينتفع من حياتها بعمل (رد المحتار: 100/ 4، عقد البيع: ص 117).
(5/3574)
وقال محمد وزفر والحسن بن زياد ومالك
والشافعي، وهو المعمول به في قانوننا المدني: يشمل البراءة العيب الموجود
عند العقد فقط، لا الحادث بعد العقد وقبل القبض؛ لأن البراءة تتناول الشيء
الثابت الموجود، بسبب أن الإبراء عن المعدوم لا يتصور، والحادث لم يكن
موجوداً عند
البيع، فلا يدخل تحت الإبراء (1).
وهذا الخلاف فيما إذا قال: (أبرأتك عن كل عيب مطلقاً) فأما إذا قال: (أبيعك
على أني بريء من كل عيب به) لم يدخل فيه العيب الحادث بالاتفاق، لأنه لم
يعمم البراءة، وإنما خصها بالموجود عند العقد.
وبناء على قول محمد وزفر والحسن: إذا كانت البراءة من العيوب عامة فاختلف
البائع والمشتري في وجود عيب، فقال البائع: كان موجوداً عند العقد، فدخل
تحت البراءة، وقال المشتري: بل هو حادث لم يدخل تحت البراءة، وبناء عليه،
قال محمد: القول قول البائع، مع يمينه؛ لأن البراءة عامة والمشتري يدعي حق
الرد بعد عموم البراءة عن حق الرد بالعيب، والبائع ينكر ذلك، فكان القول
قوله.
وقال زفر والحسن: القول قول المشتري لأن الأصل هو ثبوت الحق، والمشتري هو
المبرئ، فيكون القول قوله في مقدار البراءة (2).
ويشمل هذا الشرط أيضاً كل عيب من العيوب الظاهرة والباطنة؛ لأن اسم العيب
يقع على الكل.
_________
(1) البدائع: 227/ 5، فتح القدير: 182/ 5، رد المحتار: 100/ 4.
(2) البدائع: 277/ 5.
(5/3575)
فإذا قال: (أبرأتك عن كل داء) فيقع على كل
عيب ظاهر، دون الباطن من طحال ونحوه عند أبي يوسف. وروي عن أبي حنيفة أنه
يقع على كل عيب باطن، من طحال أو فساد حيض وأما العيب الظاهر فيسمى مرضاً.
وقد رجح بعضهم وهو صاحب الدر المختار الرأي الثاني اعتماداً على ما هو
المعروف في العادة، إلا أن المشهور في المذهب هو الأول أي يقع على كل مرض؛
لأن الداء في اللغة هو المرض، سواء أكان بالجوف أم بغيره، والعرف الآن
موافق للغة (1) أي أن الداء هو المرض.
ولو أبرأ البائع عن كل غائلة (2) فيقع على السرقة والإباق والفجور، وكل ما
يعد عيباً عند التجار (3).
وإذا خصص الإبراء عن بعض العيوب لم يشمل غيرها، كأن يبرئ من القروح أو الكي
أو نحوها، لأنه أسقط حقه من نوع خاص (4).
فإذا كانت البراءة خاصة بعيب موجود عند العقد سماه المشتري، ثم اختلف
المتعاقدان، فقال البائع: (كان بها) وقال المشتري: (حدث قبل القبض) فقال
محمد: القول قول المشتري لأن هذه البراءة خاصة بحال العقد، لا تتناول إلا
الموجود حالة العقد، والمشتري يدعي العيب لأقرب الوقتين، والبائع يدعيه
لأبعدهما، فكان الظاهر شاهداً للمشتري (5).
_________
(1) رد المحتار: 100/ 4، البدائع: 278/ 5.
(2) الغائلة: الفجور أي (الزنا)، والإباق، والسرقة، ونحو ذلك.
(3) البدائع: 278/ 5، رد المحتار، المرجع السابق.
(4) البدائع: 277/ 5.
(5) البدائع: 278/ 5.
(5/3576)
هذا هو مذهب الحنفية في شرط البراءة عن
العيوب عموماً.
وأما مذاهب غيرهم من حيث العلم بالعيب والجهل به فهي ما يلي:
قال المالكية: إن شرط البراءة عن العيوب لا يصح إلا في عيب في الرقيق
لايعلم به البائع، وطالت إقامة الرقيق عند بائعه. أما ما يعلم به، أو كان
في غير الرقيق، أو في رقيق لم تطل إقامته عند بائعه (مالكه) فلا تصح
البراءة عنه (1).
وقال الشافعية: لو باع بشرط براءته من العيوب، فالأظهر أنه يبرأ عن كل عيب
باطن بالحيوان خاصة، إذا لم يعلمه البائع، ولا يبرأ عن عيب بغير الحيوان،
كالثياب والعقار مطلقاً، ولا عن عيب ظاهر بالحيوان، علمه، أم لا، ولا عن
عيب باطن بالحيوان كان قد علمه. والمراد بالباطن: ما لا يطلع عليه غالباً.
وينصرف الإبراء إلى العيب الموجود عند العقد، لا الذي حدث قبل القبض. ولو
اختلف المتعاقدان في قدم العيب فيصدق البائع.
ولو شرط البائع البراءة عما يحدث من العيوب قبل القبض ولو مع الموجود منها،
لم يصح الشرط في الأصح؛ لأنه إسقاط للشيء قبل ثبوته، كما لو أبرأ عن ثمن ما
يبيعه له (2).
وأما الحنابلة فعندهم روايتان عن أحمد: رواية تقرر أنه لا يبرأ إلا أن يعلم
المشتري بالعيب، وهو قول الشافعي، ورواية: تقرر أنه يبرأ من كل عيب لم
يعلمه، ولا يبرأ من عيب علمه.
واختار ابن قدامة وغيره أن من باع حيواناً أو غيره بالبراءة من كل عيب أو
من
_________
(1) حاشية الدسوقي: 119/ 3، القوانين الفقهية: ص 265، الشرح الصغير: 164/
3.
(2) مغني المحتاج: 53/ 2.
(5/3577)
عيب معين موجود: لم يبرأ، سواء علم به
البائع أو لم يعلم (1).
14 - خيار الرؤية يذكر بعض المؤلفين هذا
الخيار قبل خيار العيب، لكونه أقوى منه، لأنه يمنع تمام البيع، أما خيار
العيب فيمنع لزوم الحكم، واللزوم بعد التمام. وإني خالفت ذلك لتشابه خيار
الشرط وخيار العيب، كما أشرت سابقاً، ثم إن خيار الشرط، وخيار العيب، وخيار
التعيين ثبتت باشتراط المتعاقدين، أما خيار الرؤية فقد ثبت من ناحية الشرع.
خطة الموضوع:
الكلام في هذا الخيار على وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: مشروعية خيار الرؤية.
المطلب الثاني: وقت ثبوت الخيار.
المطلب الثالث: كيفية ثبوت الخيار.
المطلب الرابع: صفة البيع الذي فيه خيار رؤية وحكمه.
المطلب الخامس: شرائط ثبوت الخيار، وتوابعها.
المطلب السادس: مسقطات الخيار.
المطلب السابع: ما ينفسخ به العقد وشروط الفسخ.
_________
(1) المغني: 178/ 4، غاية المنتهى: 27/ 2.
(5/3578)
المطلب الأول ـ
مشروعية خيار الرؤية أجاز الحنفية خيار الرؤية في
شراء ما لم يره المشتري وله الخيار إذا رآه: إن شاء أخذ المبيع بجميع
الثمن، وإن شاء رده، وكذا إذا قال: رضيت، ثم رآه: له أن يرده، لأن الخيار
معلق بالرؤية، كما في الحديث الآتي، ولأن الرضا بالشيء قبل العلم بأوصافه
لا يتحقق فلا يعتبر قوله: (رضيت) قبل الرؤية بخلاف قوله: (رددت).
استدلوا على خيار الرؤية بقوله عليه السلام فيما يرويه أبو هريرة وابن عباس
رضي الله عنهما: «من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه» (1).
واستدلوا أيضاً بما روي أن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه باع أرضاً له
من طلحة بن عبد الله رضي الله عنهما، ولم يكونا رأياها، فقيل لطلحة:
(غبنت)، فقال: «لي الخيار، لأني اشتريت ما لم أره» فحكّما في ذلك جبير بن
مطعم، فقضى بالخيار لطلحة رضي الله عنه (2)، أي للمشتري دون البائع وإن باع
مالم يره.
وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليه أحد منهم، فكان
إجماعاً منهم على شرعية هذا الخيار.
واستدلوا أيضاً بالمعقول: وهو أن جهالة الوصف تؤثر في الرضا، فتوجب خللاً
فيه، واختلال الرضا في البيع يوجب الخيار.
_________
(1) روي مسنداً ومرسلاً، فالمسند عن أبي هريرة، والمرسل عن مكحول رفعه إلى
النبي صلّى الله عليه وسلم، نقل النووي اتفاق الحفاظ على تضعيفه. وقد سبق
تخريجه في بيع العين الغائبة.
(2) أخرجه الطحاوي والبيهقي عن علقمة بن أبي وقاص أن طلحة اشترى من عثمان
مالاً .. الحديث (انظر نصب الراية: 9/ 4).
(5/3579)
وبناء على هذا، أجازوا بيع العين الغائبة
من غير صفة، ويثبت للمشتري حينئذ خيار الرؤية، أو بصفة مرغوبة، ويثبت له
خيار الوصف، كما سبقت الإشارة إليه، فإذا رأى المشتري المبيع، كان له
الخيار فإن شاء أنفذ البيع، وإن شاء رده، سواء أكان موافقاً للصفة أم لا،
فيثبت الخيار بكل حال.
ولم يجز الحنفية خيار الرؤية للبائع إذا باع ما لم يره كما إذا ورث عيناً
من الأعيان في بلد غير الذي هو فيه، فباعها قبل الرؤية، صح البيع، ولاخيار
له عندهم. وقد رجع أبو حنيفة عما كان
يقول أولاً بأن له الخيار، كما للمشتري، وكما هو الأمر في خيار الشرط وخيار
العيب (1).
والتفرقة بين البائع والمشتري في هذا أمر معقول؛ لأن البائع يعرف ما يبيعه
أكثر من المشتري، فلا ضرورة لثبوت الخيار له، وعليه أن يتثبت قبل البيع،
حتى لا يقع عليه غبن يطلب من أجله فسخ العقد (2).
وأجاز المالكية خيار الوصف للمشتري فقط، فقالوا: يجوز بيع الغائب على الصفة
إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه صفته قبل القبض، فإذا جاء على الصفة،
صار العقد لازماً (3).
والحنابلة أجازوا أيضاً كالمالكية خيار الوصف فقط فقالوا: يجوز بيع الغائب
إذا وصف للمشتري، فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم، لأنه بيع بالصفة،
فصح كالسلم. وتحصل بالصفة معرفة المبيع؛ لأن معرفته تحصل
_________
(1) المبسوط: 69/ 13 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 137/ 5 - 140،
البدائع: 292/ 5، رد المحتار: 68/ 4.
(2) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 481.
(3) بداية المجتهد: 154/ 2، حاشية الدسوقي: 25/ 3 ومابعدها.
(5/3580)
بالصفات الظاهرة التي يختلف بها الثمن
ظاهراً، وهذا يكفي كما يكفي في السلم، ولا يعتبر في الرؤية الاطلاع على
الصفات الخفية، ومتى وجده المشتري على الصفة المذكورة صار العقد لازماً،
ولم يكن له الفسخ.
ولم يجيزوا في أظهر الروايتين بيع الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته في
غير حالة بيع البرنامج المذكورة سابقاً عند المالكية في بيع العين الغائبة
من البيوع الفاسدة؛ لأن النبي صلّى الله عليه
وسلم «نهى عن بيع الغرر» (1) ولأنه باع ما لم يره ولم يوصف له، فلم يصح،
كبيع النوى في التمر.
وأثبت الحنابلة والظاهرية خيار الرؤية للبائع إذا باع ما لم ير، ووصفه
للمشتري.
وأما حديث خيار الرؤية فهو مروي عن عمر بن إبراهيم الكردي، وهو متروك
الحديث، ويحتمل أن يراد بالحديث: أنه بالخيار بين العقد عليه وتركه (2).
وقال الشافعي في المذهب الجديد: لا ينعقد بيع الغائب أصلاً، سواء أكان
بالصفة، أم بغير الصفة، لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
«نهى عن بيع الغرر» وفي هذا البيع غرر، وبما أنه من أنواع البيوع، فلم يصح
مع الجهل بصفة المبيع كالسلم، ثم إنه داخل تحت النهي عن بيع ما ليس عند
الإنسان أي ما ليس بحاضر أو مرئي للمشتري. وأما حديث «من اشترى ما لم يره
فهو بالخيار إذا رآه» فهو حديث ضعيف كما قال البيهقي، وقال الدارقطني عنه:
«إنه باطل».
وبناء على الأظهر من اشتراط رؤية المبيع قالوا: تكفي رؤية المبيع قبل العقد
_________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة ورواه أيضاً الطبراني في
الكبير عن ابن عباس، وفي الأوسط عن ابن عمر وسهل بن سعد (وقد سبق تخريجه).
(2) المغني: 580/ 3 ومابعدها، المحلى: 394/ 8 وما بعدها.
(5/3581)
فيما لا يتغير غالباً إلى وقت العقد كالأرض
والحديد، دون ما يتغير غالباً كالأطعمة، وتكفي رؤية بعض المبيع إن دل على
باقيه، كظاهر الصبرة من حنطة ونحوها، وجوز ونحوه، وأدقة (جمع دقيق) وكأعالي
المائعات في أوعيتها كالدهن، وأعلى التمر في قوصرته (وعاء من قصب يجعل فيه
التمر ونحوه) والطعام في آنيته، وكأنموذج المتماثل أي (المتساوي الأجزاء)
كالحبوب، فإن رؤيته تكفي عن رؤية باقي المبيع (1).
ورد الحنفية على حجج غيرهم بأن جهالة المبيع غير المرئي لا تؤدي للنزاع
مطلقاً ما دام للمشتري أن يرد المبيع إذا لم يره محققاً لرغبته ويفسخ
العقد.
وحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان (2): معناه النهي عن بيع ما لا
يملك. والنهي عن بيع الغرر ينصرف إلى ما لا يكون معلوم العين (3).
المطلب الثاني ـ وقت ثبوت الخيار يثبت
الخيار للمشتري عند رؤية المبيع، لا قبلها فلو أجاز البيع قبل الرؤية:
لايلزم البيع، ولايسقط الخيار، وله أن يرد المبيع؛ لأن النبي صلّى الله
عليه وسلم أثبت الخيار للمشتري بعد الرؤية، فلو ثبت له خيار الإجازة قبل
الرؤية، وأجاز، لم يثبت له الخيار بعد الرؤية، وهذا خلاف نص الحديث.
وأما الفسخ قبل الرؤية فقد اختلف المشايخ فيه:
_________
(1) مغني المحتاج: 18/ 2 ومابعدها، المهذب: 263/ 1.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي، وقد سبق تخريجه مختصراً.
(3) المبسوط: 69/ 13 ومابعدها.
(5/3582)
قال بعضهم: لا يملك المشتري الفسخ، لأنه
خيار قبل الرؤية، ولهذا لم يملك الإجازة قبل الرؤية، فلا يملك الفسخ.
وقال بعضهم: يملك الفسخ وهو الصحيح، لا لسبب الخيار، لأنه غير ثابت، ولكن
لأن شراء ما لم يره المشتري عقد غير لازم، فكان محل الفسخ، كالعقد الذي فيه
خيار العيب، وعقد الإعارة والإيداع (1).
المطلب الثالث ـ كيفية ثبوت الخيار
اختلف مشايخ الحنفية فيها:
فقال بعضهم: إن خيار الرؤية يثبت مطلقاً في جميع العمر، إلا إذا وجد ما
يسقطه، كما سيأتي في بيان المسقطات، وهو اختيار الكرخي، والأصح عند
الحنفية، لأنه خيار تعلق بالاطلاع على حال المبيع، فأشبه الرد بالعيب، ولأن
سبب ثبوت هذا الخيار هو اختلال الرضا، والحكم يبقى ما بقي سببه.
وقال بعضهم: إنه يثبت مؤقتاً إلى غاية إمكان الفسخ بعد الرؤية، حتى لو رآه
وتمكن من الفسخ بعد الرؤية، ولم يفسخ، يسقط خيار الرؤية، وإن لم توجد
الأسباب المسقطة للخيار (2) الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
وقال الحنابلة: يكون خيار الرؤية على الفور (3).
_________
(1) البدائع: 295/ 5.
(2) فتح القدير:141/ 5، البدائع: 295/ 5، رد المحتار: /67.
(3) المغني: 581/ 3.
(5/3583)
المطلب الرابع ـ صفة
البيع الذي فيه خيار رؤية وحكمه
صفة البيع: إن شراء ما لم يره المشتري
غير لازم، فيخير المشتري بين الفسخ والإجازة إذا رأى المبيع؛ لأن عدم
الرؤية يمنع تمام الصفقة، ولأن جهالة وصف البيع تؤثر في رضا المشتري، فتوجب
الخيار له، تداركاً لما عساه يندم من أجله، وذلك سواء أكان المبيع موافقاً
للوصف المذكور أم مخالفاً له، هذا مذهب الحنفية (1). وقال المالكية
والحنابلة والشيعة الإمامية: البيع لازم للمشتري إذا وجد المبيع مطابقاً
للصفة المذكورة، فإن كان مخالفاً لما وصف، فللمشتري الخيار (2).
وقال الظاهرية: البيع لازم إن طابق الصفة، أما إن خالفها فالبيع باطل (3).
حكم البيع: وأما حكم البيع فهو حكم
العقد الذي لا خيار فيه، فلا يمنع ثبوت الملك في البدلين، أي أنه في البيع
تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري، وملكية الثمن للبائع فور تمام العقد
بالإيجاب والقبول، ولكن يمنع لزوم العقد، بخلاف خيار الشرط.
وسبب التفرقة بين الخيارين: هو أن البيع في خيار الرؤية صدر مطلقاً غير
مقيد بأي شرط، وكان المفهوم أن يكون لازماً، إلا أن الرد بخيار الرؤية ثبت
من جهة الشرع، أما خيار الشرط فقط ثبت باشتراط المتعاقدين، فكان له أثره في
العقد يمنع استقرار حكمه في الحال، كما سبق بيانه (4).
_________
(1) البدائع: 292/ 5، فتح القدير: 137/ 5.
(2) القوانين الفقهية: ص 256، المغني: 582/ 3، المختصر النافع: ص 146.
(3) المحلى: 8 ص 389، 394.
(4) البدائع، المكان السابق.
(5/3584)
المطلب الخامس ـ
شرائط ثبوت الخيار يشترط لثبوت الخيار شروط، وإلا
كان العقد لازماً، منها:
1 - أن يكون محل العقد مما يتعين بالتعيين، أي أن يكون عيناً من الأعيان،
فإذا لم يكن عيناً لا يثبت فيه الخيار، حتى لو كان البيع مقايضة عيناً بعين
يثبت الخيار لكل من البائع والمشتري إذا لم ير كل منهما المبيع قبل العقد
(1).
وفي بيع الدين بالدين وهو عقد الصرف: لا يثبت الخيار لكل من البائع
والمشتري، لأنه لا فائدة فيه، كما سيأتي بيانه.
وفي بيع العين بالدين: يثبت الخيار للمشتري ولا خيار للبائع.
والسبب فيه أن محل العقد إذا لم يكن معيناً لا يصير معيناً للفسخ بموجب
الخيار، فلم يكن الرد مفيداً، ولأن مالا يتعين بالتعيين لا يملك بالعقد، بل
بالقبض، والفسخ إنما يكون فيما يملك بالعقد، ولأن الحق إذا كان عيناً
فللناس أغراض في الأعيان، فكان ثبوت الخيار فيه لينظر المشتري في المبيع:
هل يصلح له أو لا؟
وبناء عليه، يكون خيار الرؤية في العقود التي تحتمل الفسخ، كالبيع والإجارة
والصلح عن دعوى المال، والقسمة، ونحوها؛ لأن هذه العقود تنفسخ برد هذه
الأشياء، فيثبت فيها خيار الرؤية، ولا يثبت فيما لا يحتمل الفسخ، كالمهر
وبدل الخلع والصلح عن دم العمد، ونحوها؛ لأن هذه العقود لا تحتمل الانفساخ
برد هذه الأموال، فصار الأصل أن: «كل ما ينفسخ العقد فيه برده، يثبت خيار
الرؤية فيه، وما لا فلا» كما يقول الكاساني (2).
_________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) البدائع، المرجع السابق.
(5/3585)
2 - عدم رؤية محل العقد: إن كان رآه قبل
الشراء لا يثبت له الخيار، إذا كان لا يزال على حالته التي رآه فيها، وإلا
كان له الخيار لتغيره، فكان مشترياً شيئاً لم يره (1).
كيفية تحقيق الرؤية:
الرؤية قد تكون لجميع المبيع، وقد تكون لبعضه، والضابط فيه: أنه يكفي رؤية
ما يدل على المقصود، ويفيد المعرفة به (2).
وتفصيله: أنه إذا كان غير المرئي تبعاً للمرئي، فلا خيار له سواء أكان رؤية
ما رآه تفيد له العلم بحال ما لم يره، أو لا تفيد، لأن حكم التبع حكم
الأصل.
وإن لم يكن غير المرئي تبعاً للمرئي، فإن كان مقصوداً بنفسه كالمرئي، ينظر
في ذلك:
إن كان رؤية مارأى تعرف حال غير المرئي، فإنه لا خيار له أصلاً في غير
المرئي إذا كان غير المرئي مثل المرئي، أو فوقه؛ لأن المقصود العلم بحال
الباقي، فكأنه رأى الكل.
وإن كان رؤية ما رأى لم تعرف حال غير المرئي، فله الخيار فيما لم يره؛ لأن
المقصود لم يحصل برؤية ما رأى، فكأنه لم ير شيئاً أصلاً.
وبناء عليه: تكفي رؤية ظاهر الكومة من الحبوب، ووجه الدابة وكَفَلها (أي
عجزها) في الأصح، وهو قول أبي يوسف. واكتفى محمد برؤية الوجه وظاهر
_________
(1) المبسوط: 72/ 13، البدائع، المرجع السابق: ص 292 - 293.
(2) البدائع: 293/ 5، رد المحتار: 68/ 4.
(5/3586)
الثوب وهو مطوي• وقال زفر: لابد من نشره
كله، وهو المختار• كما في أكثر معتبرات كتب الحنفية• وعقب عليه ابن عابدين
بقوله: لو لم يختلف باطن الثوب عن ظاهره سقط الخيار إلا إذا ظهر باطنه أردأ
من ظاهره، فله الخيار (1) •
وفي شراء الشاة للحم لا بد من الجس حتى يعرف سمنها، حتى لو رآها من بعيد،
فهو على خياره؛ لأن اللحم مقصود من شاة اللحم، والرؤية من بعيد لا تفيد
العلم بهذا المقصود، وإن اشتراها للدر والنسل فلا بد من رؤية سائر جسدها،
ومن النظر إلى ضرعها أيضاً؛ لأن الضرع مقصود من الشاة الحلوب، والشياه
تختلف باختلاف الضرع، والرؤية من بعيد لا تفيد العلم بالمقصود، كما ذكر (2)
•
وأما البسط والطنافس: فإن كان مما يختلف وجهه وظهره، فرأى وجهه دون ظهره لا
خيار له، وإن رأى ظهره دون الوجه فله الخيار•
وأما الدور والعقارات والبساتين، فإن رأى ظاهر الدار وداخلها ورأى خارج
البستان ورؤوس الأشجار فلا خيار له، ولا يكتفي برؤية صحن الدار، دون الدخول
إلى بيوتها في الأصح، لتفاوت الدور•
وكان أئمة الحنفية ما عدا زفر يرون الاكتفاء برؤية ظاهر الدار وبرؤية
صحنها، إلا أن ذلك لا يكفي الآن، فيكون الحكم متغيراً من باب اختلاف العصر
والزمان، لا اختلاف الحجة والبرهان (3) •
هذا إذا كان المعقود عليه شيئاً واحداً، فإذا كان أشياء:
_________
(1) المبسوط: 72/ 13، البدائع: 293/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 142/ 5
ومابعدها، رد المحتار: 69/ 4.
(2) البدائع، المرجع السابق، رد المحتار: 70/ 4، فتح القدير: 143/ 5.
(3) البدائع: 294/ 5، رد المحتار: 70/ 4، فتح القدير: 144/ 5.
(5/3587)
فإن كان من العدديات المتفاوتة كالدواب
والثياب، كأن اشترى ثياباً في جراب أو قطيع غنم أو إبلاً أو بقراً،
وكالبطيخ في الشريجة (1) والرمان والسفرجل في القفة، ونحوها، فرأى بعضها،
فله الخيار في الباقي؛ لأن الكل مقصود، ورؤية ما رأى لا تعرّف حال الباقي،
لأنها متفاوتة.
وإن كان من المكيلات أو الموزونات أو العدديات المتقاربة كالجوز والبيض،
فإن رؤية البعض تسقط الخيار في الباقي إذا كان ما لم ير مثل الذي رأى، لأن
رؤية البعض من هذه الأشياء تعرف حال الباقي.
هذا إذا كان المبيع كله في وعاء واحد، فإن كان في وعاءين: فإن كان من جنسين
أو من جنس واحد على صفتين فله الخيار بلا خلاف؛ لأن رؤية البعض من جنس
أوعلى وصف لا تفيد العلم بغيره.
وإن كان الكل من جنس واحد أو على صفة واحدة، اختلف المشايخ فيه:
قال مشايخ بلخ: له الخيار لأن اختلاف الوعاءين جعلهما كجنسين. وقال مشايخ
العراق: لا خيار له، وهو الصحيح؛ لأن رؤية البعض من هذا الجنس تفيد العلم
بالباقي، سواء أكان المبيع في وعاء واحد أم في وعاءين (2).
وإن كان المبيع مغيباً في الأرض: لا في الوعاء، كالجزر والبصل والثوم،
والفجل، والبطاطا، ففيه تفصيل مروي عن أبي يوسف رحمه الله:
آـ إذا كان الشيء مما يكال أو يوزن بعد القلع، كالثوم والبصل والجزر: فإن
قلع المشتري شيئاً بإذن البائع، أو قلع البائع برضا المشتري، سقط خياره في
الباقي؛ لأن رؤية بعض المكيل كرؤية الكل.
_________
(1) الشريجة: جوالق كالخرج، ينسج من سعف النخل ونحوه.
(2) البدائع: 294/ 5، حاشية الشلبي على الزيلعي: 26/ 4.
(5/3588)
وإن حصل القلع من المشتري بغير إذن البائع،
لم يكن له الخيارسواء رضي بالمقلوع، أو لم يرض إذا كان المقلوع شيئاً له
قيمة عند الناس لأنه بالقلع صار معيباً، وإلا لاستمر في نموه وازدياده،
وبعد القلع لا ينمو ولا يزيد، ويتسارع إليه الفساد. وحدوث العيب في المبيع
في يد المشتري بغير صنعه، يمنع الرد، فمع صنعه أولى.
ب ـ وإن كان المغيب في الأرض مما يباع عدداً، كالفجل والجزر ونحوهما فرؤية
البعض لا تكون كرؤية الكل؛ لأن هذا كالعدديات المتفاوتة، فلا تكفي رؤية
البعض، كما في الثياب.
وإن قلع المشتري شيئاً بغير إذن البائع، سقط خياره لأجل العيب إذا كان
المقلوع شيئاً له قيمة، فإن لم يكن له قيمة، فلا يسقط خياره لأنه لا يتحقق
به العيب.
وقد ذكر الكرخي حكم المغيب في الأرض بغير هذا التفصيل، وأثبت الخيار
للمشتري برؤية البعض بعد رؤية الكل.
وروي عن محمد أنه قال: قال أبو حنيفة: المشتري بالخيار إذا قلع الكل أو
البعض.
وأما محمد: فهو مثل أبي يوسف، إذا قلع المشتري شيئاً يستدل به على الباقي،
فرضي به، فهو لازم له (1).
وإذا كان المبيع دهناً في قارورة، فرأى خارج القارورة، فعن محمد روايتان:
_________
(1) تحفة الفقهاء: 124/ 2 ومابعدها.
(5/3589)
الرواية الأولى: أنه تكفي الرؤية، ويسقط
الخيار؛ لأن الرؤية من الخارج تفيد العلم بالداخل، فكأنه رأى الدهن خارج
القارورة.
والرواية الثانية: أن له الخيار لأن العلم بما في داخل القارورة لا يحصل
بالرؤية من خارج
القارورة؛ لأن ما في الداخل يتلون بلون القارورة، فلا يحصل المقصود من هذه
الرؤية (1).
والرؤية عند بعضهم لا تحصل بالمرآة أو بالماء، فإذا رأى المشتري المبيع
بالمرآة، فلا يسقط خياره، لأنه لم ير عين المبيع، وإنما رأى مثاله. والأصح
أنه رأى عين المبيع لا غير المبيع؛ لأن المقابلة ليست من شرط الرؤية، فإنا
نرى الله عز وجل بلا مقابلة. ولكن بما أنه قد لا يحصل للمشتري العلم بهيئة
المبيع لتفاوت المرآة في التكبيروالتصغير فيعلم بأصله، لا بهيئته، فيثبت له
الخيار، لا لما قالوا (2).
وبناء عليه لو اشترى سمكاً في بحرة صغيرة يمكن أخذه منها من غير اصطياد
وحيلة، حتى جاز البيع، فرآه في الماء، ثم أخذه: قال بعضهم: يسقط خياره لأنه
رأى عين المبيع.
وقال بعضهم: لا يسقط خياره، وهو الصحيح، لأن الشيء لا يرى في الماء كما هو،
بل يرى أكثر مما هو، فلم يحصل المقصود بهذه الرؤية، وهو معرفته على حقيقته،
فله الخيار (3).
مذاهب غير الحنفية:
قال المالكية: يجوز بيع مغيب الأصل كالجزر والبصل واللفت والكرنب
_________
(1) البدائع: 294/ 5 ومابعدها، الدر المختار: 70/ 4 - 106.
(2) البدائع: 295/ 5.
(3) البدائع، المرجع السابق.
(5/3590)
والقلقاس بشرط رؤية ظاهره، وقلع شيء منه
ويرى، وأن يحزر إجمالاً، ولا يجوز بيع شيء منه من غير حزر بالقيراط أو
الفدان أو القصبة (24م). ويجوز البيع على رؤية بعض المثلي من مكيل وموزون
كقطن
وكتان، بخلاف القيمي، فلا يكفي رؤية بعضه، كثوب من أثواب (1).
وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز بيع شيء مغيب في الأرض كالفجل والجزر
والبصل والثوم؛ لأنه بيع مجهول مشتمل على الغرر (2).
البيع بالنموذج (3): قد يرى المشتري بعض
المبيع دون سائره، فيصح البيع ويلزم عند جمهور الفقهاء إن كان المرئي يدل
على غير المرئي دلالة كاملة، وأذكر هنا حكم البيع بالنموذج عند الفقهاء
باعتباره صورة متعارفة من صور البيع برؤية بعض المبيع.
مثاله: أن يشتري شخص كمية كبيرة من القمح بعد أن يرى نموذجاً منه. وهذا لا
يكون إلا في المثليات كالحبوب والأقطان والكتان ونحوها.
وحكمه: أنه يجوز عند الحنفية والمالكية والشافعية، ولا يجوز عند الحنابلة
والظاهرية على التفصيل الآتي:
قال الحنفية (4): يجوز بيع المكيل والموزون برؤية بعضه، لجريان العادة
بالاكتفاء بالبعض في الجنس الواحد، ولوقوع العلم به بالباقي، إلا إذا كان
الباقي
_________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 186/ 3، بداية المجتهد: 156/ 2، الشرح الصغير:
40/ 3.
(2) المجموع: 338/ 9، المغني: 91/ 4.
(3) يعبر أكثر الفقهاء عن هذا البيع ببيع الأنموذج، والأصح النموذج، وهو
لفظ معرب، أما التعبير الأول فهو لحن شائع.
(4) تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 26/ 4.
(5/3591)
أردأ، فيكون للمشتري الخيارفيه، وفيما رأى،
لئلا يلزم تفريق الصفقة قبل تمام البيع. والأصح أن هذه الرؤية للبعض تكفي
سواء أكان المبيع في وعاء واحد أم في وعاءين كما تقدم.
ويلاحظ أن الثياب أصبحت في وقتنا الحاضر من المثليات.
وقال المالكية (1): يجوز البيع برؤية بعض المثلي من مكيل وموزون كقطن
وكتان، بخلاف القيمي كعدل مملوء من القماش فلا يكفي رؤية بعضه على ظاهر
المذهب.
وقال الشافعية (2): في بيع النموذج ثلاثة أوجه: أحدها الصحة، والثاني
البطلان، وأصحها: إن دخل النموذج في البيع، صح، وإلا فلا.
وقال الحنابلة (3): لا يصح بيع النموذج، فلو أرى البائع المشتري صاعاً من
صبرة قمح مثلاً، ثم باعه الصبرة على أنها من جنسه، فلا يصح البيع، لأنه
يشترط عندهم رؤية المتعاقدين المبيع رؤية مقارنة للبيع، وذلك برؤية جميع
المبيع أو بعض منه يدل على بقيته، كأحد وجهي ثوب غير منقوش، وظاهر صبرة
متساوية الأجزاء من حب وتمر، وما في ظروف من جنس متساوٍ.
وقال الظاهرية (4): لا يجوز بيع النموذج.
التوكيل بالنظر والرؤية أو بالقبض: لو
وكل المشتري رجلاً بالنظر إلى ما اشتراه، ولم يره فيلزم العقد إن رضي،
ويفسخ العقد إن شاء؛ لأن الوكيل يقوم مقام الموكل في النظر؛ لأنه جعل الرأي
إليه.
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 24/ 3.
(2) المجموع للنووي: 327/ 9، 333 وما بعدها.
(3) غاية المنتهى: 10/ 2، كشاف القناع: 152/ 3، ط مكة.
(4) المحلى: 457/ 8.
(5/3592)
وأما إذا وكله بقبض ما اشتراه قبل رؤيته،
فتقوم رؤية الوكيل مقام رؤية الموكل، فيسقط خياره عند أبي حنيفة. وعند
الصاحبين: لا يسقط خياره بقبض الوكيل مع رؤيته، لأنه وكله بالقبض لا بإسقاط
الخيار، فلا يملك إسقاطه، كما لا يملك إسقاط خيار الشرط، ولا خيار العيب.
ويرى أبو حنيفة أنه لا فرق بين الوكيل بقبض الشيء المشترى وبين الوكيل
بالشراء، ورؤية هذا كافية عن رؤية الموكل، وبها يسقط الخيار إجماعاً؛ لأن
الوكيل بالشيء وكيل بإتمام الشيء، ومن تمام القبض إسقاط الخيار (1).
واتفقوا على أنه إذا أرسل المشتري رسولاً بقبض المبيع، فرآه الرسول ورضي
به، كان المرسل على خياره. والفرق بين الوكيل والرسول: هو أن الوكيل أصل في
نفس القبض، وإنما الواقع للموكل حكم فعله، فكان إتمام القبض إلى الوكيل.
أما الرسول فهو نائب في القبض عن المرسل، فكان قبضه قبض المرسل، فإتمام
القبض إلى المرسل (2).
واتفقوا في خيار العيب على أنه إذا وكل رجلاً بقبض المبيع، فقبض الوكيل
وعلم بالعيب ورضي به: لا يسقط خيار الموكل.
واختلف مشايخ الحنفية في خيار الشرط، فقال بعضهم: إن الاختلاف السابق بين
أبي حنيفة وصاحبيه يجري هنا. وقال بعضهم: لا يسقط بالاتفاق.
وقال الشافعية: الاعتبار في رؤية المبيع وعدمها بالعاقد (3).
_________
(1) البدائع: 295/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 145/ 5.
(2) البدائع، المرجع السابق.
(3) المجموع: 329/ 9.
(5/3593)
والذي نخلص منه
في تحقق رؤية المبيع: أن الرؤية المقصودة ليست هي النظر بالعين
خاصة، وإنما تكون في كل شيء بحسبه، وبالحاسة التي يطلع بها على الناحية
المقصودة منه، فشم المشمومات، وذوق المطعومات ولمس ما يعرف باللمس، وجس
مواطن السمن في شاة الذبح وإن لم ينظر لونها، وجس الضرع في شاة اللبن: يعد
رؤية كافية في هذه الأشياء، وإن لم تشترك العين فيها، ولا يكفي النظر
بالعين فقط (1) كما أبنت تفصيله.
وهذا بالنسبة للبصير. وكذا الأعمى يعد اطلاعه على هذه الأشياء التي تعرف
بغير حاسة النظر رؤية كافية كاطلاع البصير، فيكتفي بالجس فيما يجس، والذوق
فيما يذاق، والشم فيما يشم، وأما ما يعرف بالنظر فوصفه للأعمى يقوم مقام
نظره.
فإن اشترى الأعمى ثماراً على رؤوس الشجر، فيعتبر الوصف لا غير، في أشهر
الروايات.
وإذا اشترى الأعمى داراً أو عقاراً، فالأصح من الروايات أنه يكتفى بالوصف.
وعند زوال العمى: لا يعود له الحق في الخيار؛ لأن الوصف في حقه كالبديل أو
(الخلف) عن الرؤية، لعجزه عن الأصل، والقدرة على الأصل بعد حصول المقصود
بالبديل، لا يبطل حكم البديل، كمن صلى بطهارة التيمم، ثم قدر على الماء
ونحوه (2).
_________
(1) عقد البيع للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 46.
(2) المبسوط: 77/ 13، فتح القدير: 146/ 5 وما بعدها، البدائع: 298/ 5، رد
المحتار: 70/ 4 وما بعدها.
(5/3594)
أما البصير لو اشترى شيئاً لم يره فوصف له،
فرضي به فلا يسقط خياره، لأنه لا عبرة للبديل مع القدرة على الأصل.
الاختلاف في الرؤية:
لو اختلف البائع والمشتري، فقال البائع: (بعتك هذا الشيء، وقد رأيته) وقال
المشتري: (لم أره) فالقول قول المشتري بيمينه؛ لأن البائع يدعي إلزام
العقد، والمشتري منكر، فيكون القول قوله، ولكن بيمينه؛ لأن البائع يدعي
عليه سقوط حق الفسخ ولزوم العقد، وهذا مما يصح الإقرار به،
فيجري فيه الاستحلاف (1).
الرؤية منذ زمن:
من رأى شيئاً ثم اشتراه بعد مدة كشهر، ونحوه: فإن كان على الصفة التي رآه
عليها، فلا خيار له، لأن العلم بأوصافه حاصل له بالرؤية السابقة. وإن وجده
متغيراً فله الخيار، لأن تلك الرؤية لم تقع مُعْلِمة بأوصافه، فكانت رؤيته
وعدمها سواء.
فإن اختلف البائع والمشتري في التغير، فقال البائع: «لم يتغير» وقال
المشتري: «تغير» فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن دعوى التغير دعوى أمر
حادث، والأصل عدمه، فلا تقبل إلا ببينة، بخلاف ما إذا اختلف في الرؤية يكون
القول للمشتري مع يمينه كما تقدم؛ لأن البائع يدعي أمراً عارضاً: هو العلم
بصفة المبيع (2).
_________
(1) فتح القدير: 150/ 5، رد المحتار: 72/ 4.
(2) فتح القدير: 149/ 5، رد المحتار، المرجع السابق.
(5/3595)
المطلب السادس ـ
مسقطات الخيار لا يسقط خيار الرؤية بالإسقاط
الصريح، كأن يقول المشتري: «أسقطت خياري» لا قبل الرؤية ولا بعدها، بخلاف
خيار الشرط، وخيار العيب.
والفرق هو أن خيار الرؤية ثبت شرعاً، لحكمة فيه، فلا يملك الإنسان إسقاطه،
كما في خيار الرجعة بالنسبة للمرأة المطلقة، فإن الإنسان لا يملك إسقاطه
لثبوته شرعاً، ما دامت المرأة في العدة، بخلاف خيار الشرط، فإنه يثبت بشرط
المتعاقدين، فجاز أن يسقط بإسقاطهما. وكذلك خيار العيب: فإن سلامة المبيع
مشروطة عادة من المشتري، فكان ذلك كالمشروط صراحة (1).
وإنما يسقط خيار الرؤية ويلزم البيع بأحد نوعين: فعل اختياري أوضروري،
والاختياري نوعان: صريح الرضا ونحوه، ودلالة الرضا.
الصريح: كأن يقول: (أجزت البيع، أو رضيت
أو اخترت) أو ما يجري مجرى الصريح، سواء علم البائع بالإجازة أم لم يعلم.
ودلالة الرضا: هو أن يوجد تصرف في المبيع بعد الرؤية لا قبلها يدل على
الإجازة والرضا، كما إذا قبض المبيع بعد الرؤية، لأن القبض بعد الرؤية دليل
الرضا بلزوم البيع؛ لأن للقبض شبهاً بالعقد (2).
وبناء عليه: إذا وهب المشتري المبيع من غيره ولم يسلمه أو عرضه على البيع
ونحوهما قبل الرؤية: لا يسقط الخيار؛ لأنه لا يسقط بصريح الرضا في هذه
الحالة، فكذا لا يسقط بدلالة الرضا.
_________
(1) البدائع: 297/ 5.
(2) البدائع: 295/ 5، فتح القدير: 141/ 5.
(5/3596)
ولو رهن المشتري المبيع وسلمه أو آجره من
رجل، أو باعه، على أن المشتري بالخيار: سقط خياره، قبل الرؤية وبعدها، حتى
إن المشتري لو أفتك الرهن بدفع الدين، أو مضت مدة الإجارة، أو رده على
المشتري بخيار الشرط، ثم رآه لا يكون له الرد بخيار الرؤية، لأنه أثبت حقاً
لازماً لغيره بهذه التصرفات، فيكون من ضرورته لزوم الملك له، وذلك بامتناع
ثبوت الخيار، فيبطل ضرورة لأنه لا فائدة فيه (1).
وأما الفعل الضروري المسقط لخيار
الرؤية: فهو كل ما يسقط به الخيار، ويلزم البيع ضرورة من غير صنع المشتري،
مثل موت المشتري عند الحنفية، خلافاً للشافعي كما تقدم في خيار الشرط.
ومثل: إجازة أحد الشريكين دون الآخر ما اشترياه ولم يرياه عند أبي حنيفة.
وكذا هلاك المبيع كله، أو بعضه، وزيادته زيادة منفصلة أو متصلة متولدة، أو
غير متولدة على التفصيل السابق ذكره في خيار الشرط (2).
قال الكاساني: «والأصل أن كل ما يبطل خيار الشرط والعيب، يبطل خيار الرؤية
إلا أن خيار الشرط والعيب يسقط بصريح الإسقاط، وخيار الرؤية لا يسقط بصريح
الإسقاط، لا قبل الرؤية ولا بعدها» (3)؛ لأن خيار الرؤية ثبت شرعاً حقاً
لله تعالى (4)، فلا يسقط بإسقاط المتعاقد قصداً، وخيار الشرط والعيب ثابتان
_________
(1) البدائع: 296/ 5، تحفة الفقهاء: 130/ 2 ومابعدها، فتح القدير: 141/ 5.
(2) البدائع: 296/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 141/ 5، 149.
(3) البدائع: 297/ 5.
(4) أي لرعاية مصالح الأفراد العامة أو إن هذا من قبيل النظام العام الذي
لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلافه.
(5/3597)
باشتراط المتعاقدين، فكان لمن ثبت له خيار
منهما إسقاطه قصداً متى أراد، لأنه حقه، كما تقدم تفصيله.
وقال المرغيناني: ما يبطل خيار الشرط من تعيب أو تصرف يبطل خيار الرؤية، ثم
إن كان تصرفاً لا يمكن رفعه كالإعتاق والتدبير، أو تصرفاً يوجب حقاً للغير
كالبيع المطلق والرهن والإجارة يبطله قبل الرؤية وبعدها؛ لأنه لما لزم،
تعذر الفسخ، فبطل الخيار. وإن كان تصرفاً لا يوجب حقاً للغير كالبيع بشرط
الخيار والمساومة والهبة من غير تسليم، لا يبطله قبل الرؤية لأنه لا يربو
على صريح الرضا (أي وصريح الرضا لا يبطل خيار الرؤية قبل الرؤية) ويبطله
بعد الرؤية لوجود دلالة الرضا (1).
المطلب السابع ـ ما ينفسخ به العقد
وشروط الفسخ ما ينفسخ به العقد: ينفسخ العقد بسبب خيار الرؤية بالتصريح
بالفسخ ونحوه، كأن يقول، فسخت العقد، أو نقضته، أو رددته، ونحوه مما يجري
هذا المجرى، أو بهلاك المبيع قبل القبض، لذهاب ركن البيع (2).
شروط الفسخ: يشترط لصحة الفسخ شروط:
1 - أن يكون الخيار موجوداً؛ لأن الخيار إذا سقط بشيء مما تقدم، لزم العقد،
فلا يحتمل النقض بالفسخ.
2 - ألا يترتب على الفسخ تفريق الصفقة على البائع، برد بعض المبيع
_________
(1) الهداية مع فتح القدير: 141/ 5 وما بعدها.
(2) البدائع: 298/ 5.
(5/3598)
وإجازة العقد في البعض الآخر؛ لأن في
التفريق ضرراً عليه، ولأن خيار الرؤية ـ قبل القبض وبعده ـ يمنع تمام
الصفقة، وتجزئتها قبل تمامها باطل بلا ريب.
3 - أن يعلم البائع بالفسخ، ليكون على بينة من أمره، وأمر سلعته ليتصرف
فيها كما يريد، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. أما أبو يوسف: فلا يشترط علم
البائع، على ما تقدم في خيار
الشرط (1).
ويلاحظ أخيراً أن خيار الرؤية لا يورث كما لا يورث خيار الشرط إذا مات
المشتري مثلاً بعد ثبوت الخيار له، لأن الخيار ثبت بالنص للعاقد، والوارث
ليس بعاقد، فلا يثبت له، كما قال الزيلعي والحنابلة (2).
وقال مالك: يورث خيار الرؤية، كما يورث خيار التعيين والعيب؛ لأن الإرث كما
يثبت في الأملاك، يثبت في الحقوق الثابتة بالبيع (3).
وهذا أقرب إلى المنطق؛ لأن الوارث يخلف المورث في كل ماترك من مال وحقوق
ومنها حق الخيار (4).
_________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) تبيين الحقائق: 30/ 4، غاية المنتهى: 33/ 2.
(3) البدائع: 268/ 5، الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة: 211/ 1، الشرح
الصغير: 145/ 3.
(4) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 477، 487.
(5/3599)
|