الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

المبحث السادس - أنواع البيوع تمهيد: ينقسم البيع بالنسبة للبدلين إلى أنواع أربعة (1):
الأول ـ بيع المقايضة: وهو بيع العين بالعين، كبيع السلع بأمثالها، نحو بيع الثوب بالحنطة، وغيره.
الثاني ـ البيع المطلق: وهو بيع العين بالدين، نحو بيع السلع بالأثمان المطلقة: وهي الدراهم والدنانير، وبيعها بالفلوس الرائجة (وهي قطع معدنية اصطلح الناس على أنها نقود صالحة للتعامل) وبالمكيل والموزون الموصوفين في الذمة، والعددي المتقارب الموصوف في الذمة.
الثالث ـ الصرف: وهو بيع الدين بالدين، وهو بيع الثمن المطلق بالثمن المطلق: وهو الدراهم والدنانير، أو كل عملة نقدية رائجة في الأسواق.
الرابع ـ السلم: وهو بيع الدين بالعين، فإن المسلم فيه بمثابة المبيع وهو دين، ورأس المال بمثابة الثمن، وقد يكون عيناً، وقد يكون ديناً، ولكن يشترط قبضه قبل افتراق العاقدين عن المجلس، فيصير عيناً.
ولايشترط القبض في النوعين الأولين: وهما بيع المقايضة، والبيع المطلق أي العادي الغالب. ويشترط القبض في النوعين الأخيرين، ففي الصرف يشترط قبض البدلين، وفي السلم يشترط قبض أحد البدلين: وهو رأس المال، كما ذكر.
وينقسم البيع أيضاً بالنظر إلى الثمن إلى أربعة أنواع:
1 - بيع المرابحة: وهو مبادلة المبيع بمثل الثمن الأول وزيادة ربح معين.
_________
(1) راجع المبسوط: 84/ 5 ومابعدها.

(5/3600)


2 - بيع التولية: وهو المبادلة بمثل الثمن الأول (أي برأس المال) من غير زيادة ولانقصان.
3 - بيع الوضيعة: وهو المبادلة بمثل الثمن الأول مع نقصان شيء منه أي البيع بخسارة معينة.
4 - بيع المساومة: وهو مبادلة المبيع بما يتراضى عليه العاقدان؛ لأن البائع يرغب عادة بكتمان رأس المال، وهذا هو البيع الشائع الآن.
وهناك أنواع أخرى من البيوع مثل (الاستصناع) المعروف من قديم، وهو بيع ماسيصنع قبل صنعه، ومثل (الضمان) وهو بيع الثمار على أشجارها (1).
والكلام فيما يلي عن السلم والصرف، والمرابحة والتولية والاستصناع، وقد سبق الكلام عن البيع المطلق، ولكن بقي شيئان يتعلقان به وهما الربا وإقالة البيع أذكرهما هنا أيضاً.
_________
(1) البدائع: 134/ 5، فتح القدير: 323/ 5، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص11 ومابعدها.

(5/3601)


.................... 1 ............................................

...................................... عقد السلم .........................................
خطة الموضوع:
الكلام عن هذا العقد في المطالب الآتية:

المطلب الأول ـ مشروعية السلم.
المطلب الثاني ـ تعريف السلم وركنه.
المطلب الثالث ـ شروط السلم.
المطلب الرابع ـ حكم السلم.
المطلب الخامس ـ أوجه الاختلاف بين البيع والسلم.
المطلب الأول ـ مشروعية السلم
السلم مشروع في الكتاب والسنة وإجماع الأمة:
أما الكتاب: فقد فسرت به آية الدين: وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمىً فاكتبوه} [البقرة:282/ 2]، قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية (1).
_________
(1) نصب الراية: 44/ 4، التلخيص الحبير: ص242، والحديث رواه الشافعي والطبراني والحاكم والبيهقي.

(5/3602)


وأما السنة: فما روى ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قدم المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (1).
وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز، ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم أو على الزروع ونحوها حتى تنضج، فجوز لهم السلم دفعاً للحاجة.
وقد استثني عقد السلم من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم، لما فيه من تحقيق مصلحة اقتصادية، ترخيصاً للناس، وتيسيراً عليهم (2).
المطلب الثاني ـ تعريف السلم وركنه
تعريف السلم: السلم أو السلف: بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة أي أنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المثمن لأجل، وبعبارة أخرى: هو أن يسلم عوضاً حاضراً في عوض موصوف في الذمة إلى أجل (3).
وعرفه الشافعية والحنابلة بقولهم: هو عقد على موصوف بذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس عقد (4).
_________
(1) أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن ابن عباس (انظر جامع الأصول: 17/ 2، نصب الراية: 46/ 4، تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 4/ 2).
(2) المبسوط: 124/ 12، فتح القدير: 323/ 5، البدائع: 201/ 5، رد المحتار: 212/ 4، بداية المجتهد: 199/ 2، مغني المحتاج: 102/ 2، المغني: 275/ 4.
(3) المراجع السابقة، ويلاحظ أن السلم والسلف بمعنى واحد في لغة العرب، والسلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق.
(4) غاية المنتهى: 71/ 2، مغني المحتاج: 102/ 2، كشاف القناع: 276/ 3.

(5/3603)


وعرفه المالكية بأنه بيع يتقدم فيه رأس المال ويتأخر المثمن لأجل (1).
ويشترط فيه ما يشترط في البيع، ويزاد فيه شرائط خاصة سنعرفها.

ركنه: ركن السلم هو الإيجاب والقبول. والإيجاب عند الحنفية والمالكية والحنابلة: هو لفظ السلم والسلف والبيع، بأن يقول رب السلم: (أسلمت إليك في كذا) أو أسلفت، وقال الآخر: (قبلت) أو يقول المسلم إليه: (بعت منك كذا) وذكر شرائط السلم، فقال رب السلم: (قبلت) (2).
وقال زفر والشافعية: لا ينعقد السلم إلا بلفظ السلم أو السلف؛ لأن القياس ألا ينعقد أصلاً، لأنه بيع المعدوم، إلا أن الشرع ورد بجوازه بهذين اللفظين. وفي لفظ البيع وجهان عند الشافعية: بعضهم قال: لا ينعقد السلم بلفظ البيع، وإلا كان بيعاً؛ لأن السلم غير البيع فلا ينعقد بلفظه، وبعضهم الآخر قال: ينعقد، لأنه نوع بيع، يقتضي القبض في المجلس، فانعقد بلفظ البيع كالصرف (3).
ويسمى المشتري: (رب السلم) أو (المسلم)، والبائع: يسمى (المسلم إلىه)، والمبيع: (المسلَم فيه)، والثمن: (رأس مال السلَم).
وأركان السلم عند غير الحنفية ثلاثة كالبيع: عاقد (مسلم ومسلم إليه) ومعقود عليه (رأس مال السلم والمسلم فيه) وصيغة (إيجاب وقبول).

المطلب الثالث ـ شروط السلم يشترط في السلم شروط، منها في رأس المال، ومنها في المسلم فيه، واتفق
_________
(1) الشرح الكبير: 195/ 3.
(2) البدائع: 201/ 5، غاية المنتهى، المكان السابق.
(3) مغني المحتاج: 102/ 2، المهذب: 297/ 1.

(5/3604)


أئمة المذاهب على أن السلم يصح بستة شروط: وهي أن يكون في جنس معلوم، بصفة معلومة، ومقدار معلوم، وأجل معلوم، ومعرفة مقدار رأس المال، وتسمية مكان التسليم إذا كان لحمله مؤنة ونفقة.
واتفقوا أيضاً على جواز السلم في المكيلات والموزونات والمذرعات والمعدودات المتقاربة كالجوز واللوز والبيض، ونحوها، كما سيأتي بيانه.
واختلفوا في شروط تتعلق برأس المال وبالمسلم فيه، وفي إقالة بعض السلم، وسأذكر هذه الشروط والخلاف في أهمها.

شروط رأس مال السلم، أي (الثمن) اشترط الحنفية في رأس المال ستة شروط:
1 - بيان الجنس: أي أنه دراهم أو دنانير، أو من المكيل: حنطة أو شعير، أو من الموزون: قطن أو حديد، ونحوها.
2 - بيان النوع: إذا كان في البلد نقود، مثل دنانير نيسابورية أو دراهم غطرفية (1) أو حنطة سقية أو بعلية. فإذا كان في البلد نقد واحد، فيكتفى بذكر الجنس، وينصرف إليه لتعينه عرفاً.
3 - بيان الصفة: أي أنه جيد أو وسط أو رديء.
واشتراط هذه الشروط الثلاثة لإزالة الجهالة في العقد؛ لأن جهالة الجنس والنوع والصفة مفضية إلى المنازعة، ومثل هذه الجهالة تفسد البيع (2).
_________
(1) نسبة إلى غطريف بن عطاء الكندي، أمير خراسان في عهد الرشيد.
(2) البدائع: 201/ 5، فتح القدير: 337/ 5، رد المحتار: 215/ 4.

(5/3605)


4 - إعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد فيه بالقدر من المكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة، ولا يكتفى بالإشارة إليه. وهذا الشرط عند أبي حنيفة وسفيان الثوري، فإذا قال رب السلم: (أسلمت إليك هذه الدراهم أو الدنانير) وأشار إليها ولم يعرف وزنها، أو قال: (هذه الحنطة) ولم يعرف مقدار كيلها، فلا يصح السلم؛ لأن جهالة رأس المال تؤدي إلى جهالة قدر المسلم فيه، وجهالة قدر المسلم فيه تفسد العقد (1).
فإن أسلم فيما لا يتعلق العقد فيه بالقدر كالذرعيات أي (المقيسة بالذراع كالثياب والبسط والحصر) والعدديات المتفاوتة (كالبطيخ والرمان) فإنه لا يشترط بيان الذرع في الذرعيات ولا بيان القيمة فيها، ويكتفى بالإشارة والتعيين باتفاق علماء الحنفية (2).
واتفقوا أيضاً على أن إعلام قدر الثمن في بيع العين المعتاد ليس بشرط إذا كان مشاراً إليه.
وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة في الأصح عندهم: لا يشترط معرفة قدر رأس المال، فإن رؤية رأس المال تكفي عن معرفة قدره؛ لأنه عوض مشاهد، كالثمن والمبيع المعين (3).
وأما الإمام مالك: فلم يحفظ عنه في ذلك نص إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف إلا فيما يعظم الغرر فيه، بأن كان كثيراً مثلاً (4).
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) فتح القدير: 338/ 5، البدائع: 202/ 5.
(3) مغني المحتاج: 104/ 2، المهذب: 300/ 1، المغني: 298/ 4.
(4) بداية المجتهد: 203/ 2، حاشية الدسوقي: 197/ 3، 218.

(5/3606)


5 - أن تكون الدراهم والدنانير منتقدة (1) عند أبي حنيفة؛ لأن كل جهالة تفضي إلى المنازعة، فهي مفسدة للعقد.
وقال الصاحبان: ليس هذا بشرط.

6 - تعجيل رأس المال وقبضه فعلاً في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين بنفسيهما، سواء أكان رأس المال عيناً أم ديناً، فإن تفرق المتعاقدان قبل القبض بطل العقد وانفسخ، لأنه يختل عندئذ الغرض المقصود من السلم، وهو الاستعانة على الإنتاج والتحصيل. فلو كان الثمن عيناً وافترق العاقدان دون قبض، اختل معنى السلم؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم يقول: «أسلفوا في كيل معلوم» (2) والإسلاف: هو التقديم، ولأنه إنما سمي سلماً لتسليم رأس المال، فإذا تأخر لم يكن سلماً، فلم يصح، فلابد من قبض أحد العوضين ليتحقق معنى اسم السلم.
وإن كان الثمن ديناً في الذمة أي (من النقود مثلاً) فلابد من تسليمه أيضاً، حتى لايكون السلم بيعاً للدين بالدين؛ لأن المسلم فيه دين في الذمة، فلو أخر تسليم رأس مال السلم عن مجلس العقد، لكان التأخير في معنى مبادلة الدين بالدين. وقد «نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ» (3) أي الدين بالدين،
_________
(1) انتقد الدراهم: نظرها ليعرف جيدها وزيفها.
(2) هذا مأخوذ من الحديث السابق تخريجه وهو «من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم .. الحديث» قال الشافعي: «معناه إذا أسلف أحدكم في كيل فليسلف في كيل معلوم .. » (نصب الراية: 46/ 4).
(3) رواه الدارقطني في سننه وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والبزار في مسانيدهم عن ابن عمر، ولفظ البزار «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعن بيع كالئ بكالئ، وعن بيع عاجل بآجل. فالغرر: أن تبيع ماليس عندك، والكالئ: دين بدين، والعاجل بالآجل: أن يكون له عليك ألف درهم مؤجل فتعجل عنها بخمس مئة» رواه ابن عدي في الكامل، وأعله بموسى بن عبيدة، وقد صحح الحاكم رواية الدارقطني المذكورة في صلب الكلام عندنا، وتعقب بأنه تفرد به موسى بن عبيدة، وقد ضعفه أحمد إلا أنه قال: ولكن إجماع الناس على أنه لايجوز بيع دين بدين. وقال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث (انظر نصب الراية: 39/ 4، مجمع الزوائد: 80/ 4، الموطأ: 153/ 2، نيل الأوطار: 156/ 5).

(5/3607)


ولأن في السلم غرراً «أي تعريضاً للهلاك أو على خطر الوجود»، فلا يضم إليه غرر تأخير تسليم رأس المال.
وهذا الشرط متفق عليه بين الحنفية والشافعية والحنابلة (1).
وقال الإمام مالك: يجوز تأخير قبض رأس المال إلى ثلاثة أيام فأقل، ولو بشرط في العقد، سواء أكان رأس المال عيناً أم ديناً؛ لأن السلم معاوضة لايخرج بتأخير قبض رأس المال عن أن يكون سلماً، فأشبه مالو تأخر إلى آخر المجلس، وكل ماقارب الشيء يعطى حكمه، ولايكون له بذلك حكم الكالئ.
فإن أخر رأس المال عن ثلاثة أيام، فإن كان التأخير بشرط، فسد السلم اتفاقاً، سواء أكان التأخير كثيراً جداً بأن حل أجل المسلم فيه، أم لم يكثر جداً بأن لم يحل أجله.
وإن كان التأخير بلا شرط: فقولان في المدونة الكبرى لمالك بفساد السلم وعدم فساده، سواء كثر التأخير جداً، أم لا، والمعتمد الفساد بالزيادة عن الثلاثة الأيام، ولو قلت مدة الزيادة بغير شرط (2).

شروط المسلم فيه:
اشترط الحنفية في المسلم فيه أحد عشر شرطاً:

أحدها: أن يكون معلوم الجنس: كأن يبين أنه حنطة أو شعير أو نحوهما.
الثاني: أن يكون معلوم النوع: كأن يقال حنطة سقية أو سهلية أو جبلية.
_________
(1) فتح القدير مع العناية: 342/ 5، البدائع: 202/ 5، رد المحتار: 218/ 4، مغني المحتاج: 102/ 2، المهذب: 300/ 1، المغني: 295/ 4، غاية المنتهى: 79/ 2.
(2) حاشية الدسوقي: 195/ 3، المنتقى على الموطأ: 300/ 4، القوانين الفقهية: ص 269.

(5/3608)


الثالث: أن يكون معلوم الصفة: كأن يقال: حنطة جيدة أو رديئة أو وسط. ويلاحظ أنه يكتفى ببيان الجنس والنوع والصفة، فلا يصح أن يذكر في العقد أنه من الناتج الذي سيظهر جديداً، وهو لم يتكون بعد، لأنه يكون بيع المعدوم صراحة، وهو لايجوز.
الرابع: أن يكون معلوم القدر بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع، والسبب في اشتراط هذه الشروط الأربعة: هو ماذكر في شرط رأس المال: وهو إزالة الجهالة؛ لأن جهالة النوع والجنس والصفة والقدر جهالة مفضية إلى المنازعة، وأنها مفسدة للعقد، وقال عليه السلام: «من أسلف منكم فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (1).
الخامس: ألا يكون في البدلين إحدى علتي ربا الفضل: وهي إما القدر المتفق أو الجنس المتحد؛ لأن العقد حينئذ يتضمن الربا؛ لأن حرمة ربا النسيئة تتحقق بأحد هذين الوصفين.
وبعبارة أخرى: إنه يشترط ألا يكون في السلم أحد وصفي علة ربا الفضل: وهو إما الكيل أو الوزن وإما الجنس؛ لأن أحد وصفي علة ربا الفضل هو علة ربا النسيئة، فإذا اجتمع أحد هذين الوصفين في بدلي السلم يتحقق ربا النسيئة، والعقد الذي فيه ربا فاسد.
فإن لم يتحقق القدر المتفق، بأن اختلف المسلم فيه ورأس مال السلم كبيع حنطة بنقود، أو زعفران بدراهم أو دنانير، فيصح السلم، لانعدام علة ربا النسيئة: وهي القد ر المتفق أو الجنس. أما المجانسة فظاهرة الانتفاء، وأما القدر المتفق فلأن
_________
(1) المبسوط: 124/ 12، فتح القدير: 337/ 5 ومابعدها، البدائع: 207/ 5، رد المحتار: 215/ 4.

(5/3609)


وزن الثمن يخالف وزن المثمن، فالنقود توزن بالمثاقيل، والزعفران ونحوه يوزن بالرطل أو القبان، وأما الحنطة فهي مكيلة، والنقود موزونة (1).
وعبر المالكية عن هذا الشرط بقولهم: أن يكون رأس مال السلم والمسلم فيه مختلفين جنساً تجوز النسيئة فيه بينهما، فلايجوز إسلاف الذهب والفضة أحدهما في الآخر؛ لأن ذلك ربا، وكذلك لايجوز تسليم الطعام بعضه في بعض على الإطلاق لأنه ربا، ويجوز إسلاف الذهب والفضة في الحيوان والعروض والطعام، ويجوز إسلاف العروض بعضها في بعض (2).

السادس: أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين: فإن كان ممالا يتعين بالتعيين كالدراهم والدنانير لايجوز السلم فيه؛ لأن المسلم فيه مبيع، والمبيع مما يتعين بالتعيين، والدراهم والدنانير لاتتعين في عقود المعاوضات، فلم تكن مبيعة، فلا يجوز السلم فيها.
وهل يجوز السلم في التبر والسبائك؟ فيه روايتان: رواية: لايجوز؛ لأن التبر والسبيكة بمنزلة الدراهم المضروبة. ورواية أخرى: يجوز لأنها بمنزلة العروض.
ويخرَّج على هذا: السلم في الفلوس (3) عدداً: يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لأن الفلوس عندهما ليست بثمن مطلق (4) بل مما تتعين بالتعيين في الجملة كالسلع العددية.
_________
(1) البدائع: 186/ 5، 214، رد المحتار: 217/ 4.
(2) القوانين الفقهية: ص 269.
(3) الفلس: قطعة مضروبة من النحاس كان يتعامل بها.
(4) أي أن ثمنيتها ليست بلازمة بل تحتمل الزوال، لأنها ثبتت بالاصطلاح، فتزول بالاصطلاح، والعقد عليها: معناه الاتفاق على إبطال ثمنيتها في حق العاقدين.

(5/3610)


ولايجوز السلم فيها عند محمد؛ لأنها أثمان عنده (1).

السابع: أن يكون المسلم فيه مؤجلا، واختلف العلماء في هذا الشرط. وفيه يعرف حكم السلم الحال.
فقال الحنفية والمالكية والحنابلة: يشترط لصحة السلم أن يكون مؤجلاً، ولايصح السلم الحال، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» فهذا الحديث أمر بالأجل، والأمر يقتضي الوجوب، كما أوجب كون المسلم فيه مقدراً بالكيل أو الوزن، ولأن السلم أجيز رخصة للرفق بالناس، ولايحصل الرفق إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق، فلا يصح، وباعتباره رخصة فيقتصر على حال ورودها (2).
وقال الشافعي: يصح السلم حالاً ومؤجلاً، فإن أطلق عن الحلول والتأجيل وكان المسلم فيه موجوداً انعقد حالاً، لأنه إذا جاز السلم مؤجلاً، فلأن يجوز حالاً بالأولى، لبعده عن الغرر. والمراد من الحديث «إلى أجل معلوم» هو العلم بالأجل، لا الأجل نفسه. وفائدة العدول من البيع إلى السلم الحال حينئذ: هو جواز العقد مع غيبة المبيع، فإن المبيع إذا لم يكن حاضراً مرئياً لايصح بيعه عند الشافعية. وإن أخر العقد لإحضاره، فربما تلف، أو لايتمكن المشتري من الحصول عليه، كما لايتمكن حينئذ من فسخ العقد؛ لأن العقد متعلق بالذمة، وماثبت بالذمة يلزم العاقد به (3).
_________
(1) المبسوط: 136/ 12، البدائع: 208/ 5، 212.
(2) المبسوط: 125/ 12، البدائع: 212/ 5، فتح القدير: 335/ 5، المنتقى على الموطأ: 297/ 4، بداية المجتهد: 201/ 2، حاشية الدسوقي: 205/ 3 ومابعدها، المغني: 289/ 4، القوانين الفقهية: ص269، غاية المنتهى: 78/ 2.
(3) المهذب: 1ص297، مغني المحتاج: 2ص105.

(5/3611)


واختلف العلماء أيضاً في مدة أجل السلم:
فقال الحنفية والحنابلة: إن أجل السلم مقدر بشهر أو ماقاربه؛ لأنه أدنى الآجل وأقصى العاجل.
وقال المالكية: أقل الأجل نصف شهر؛ لأن هذه المدة مظنة اختلاف الأسواق غالباً، واختلافها مظنّة لحصول المسلم فيه. وذلك. إلا إذا اشترط قبض المسلم فيه بمجرد الوصول لبلد غير بلد العقد، وكانت المسافة يومين من بلد العقد، لأنها مظنة اختلاف الأسواق في البلدين، وإن لم تختلف بالفعل، واشترط في العقد أيضاً الخروج فوراً إلى البلد، كما اشترط أن يخرج رب السلم والمسلم إليه أو وكيلهما بالفعل، وأن يعجل قبض رأس المال في المجلس أو قربه، وأن يكون السفر في يومين ببر أو بغير ريح؛ لأنه ربما أدى إلى قطع مسافة اليومين في نصف يوم، فيؤدي إلى السلم الحالّ، فمتى اختل شرط من هذه الشروط الخمسة، فلابد من تعيين الأجل.
وإذا وجدت هذه الشروط الخمسة، لايشترط التأجيل بنصف شهر عندهم.
واتفق العلماء على أن الأجل لابد من أن يكون معلوماً، لقوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجلٍ مسمى} [البقرة:282/ 2] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إلى أجل معلوم» ولأنه بمعرفة الأجل يتحدد الوقت الذي يقع فيه قضاء المسلم فيه، فإذا جهل الأجل لم يفد معرفة ذلك، ووقع رب السلم في الغرر. ولكنهم اختلفوا في كيفية العلم بالأجل.
فقال الحنفية والحنابلة والشافعية: لابد من تحديد زمان بعينه، لايختلف، فلا يصح التأجيل للحصاد والدراس والنيروز (اليوم الأول من السنة القبطية، وهوأول الربيع) والمهرجان (أول الخريف) وعيد النصارى وقدوم الحاج،

(5/3612)


والصيف والشتاء، ونحوها (1)، ودليلهم: أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال: «إلى أجل معلوم» والتحديد بهذه الأوقات مثار النزاع، لأنه غير معلوم إذ أنه يتقدم ويتأخر، ويقرب ويبعد، ويؤيده ماروي عن ابن عباس أنه قال: «لاتتبايعوا إلى الحصاد والدياس (2) ولاتتبايعوا إلا إلى شهر معلوم» (3).
وقال المالكية: يجوز السلم إلى هذه الأوقات، ويعتبر ميقاتها: هو الوقت الذي يحصل فيه غالب ماذكر: وهو وسط الوقت المعد لها الذي يغلب فيه الوقوع. ودليلهم: أن هذا أجل يتعلق بوقت من الزمن يعرف في العادة، لايتفاوت فيه تفاوتاً كثيراً، فأشبه ما إذا قال إلى رأس السنة (4).

الثامن: أن يكون جنس المسلم فيه أي (المبيع) موجوداً في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم، ولايتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب. فإن لم يكن موجوداً عند العقد أو وقت حلول الأجل، أو انقطع من أيدي الناس فيما بين ذلك كالثمار والفواكه واللبن ونحوها، لايجوز السلم؛ لأن القدرة على التسليم ثابتة للحال، وفي وجودها عند حلول الأجل شك، لاحتمال الهلاك، فإن بقي الشيء المسلم فيه في الأسواق إلى الوقت المؤجل، ثبتت القدرة على التسليم، وإن هلك قبله لاتثبت. وبعبارة أخرى: إن اشتراط هذا الشرط لضمان تنفيذ تسليم المسلم فيه.
_________
(1) فتح القدير: 5 ص 222، 336.
(2) هو دوس الحب بالقدم ونحوها لينقشر.
(3) قال الحافظ الزيلعي: روى البيهقي في كتاب المعرفة من طريق الشافعي عن ابن عباس أنه قال: «لاتبيعوا إلى العطاء، ولا إلى الأندر (أي البيدر أو المكدس من القمح خاصة) ولا إلى الدياس» (راجع نصب الراية: 4 ص 21).
(4) المنتقى على الموطأ: 4 ص 298، القوانين الفقهية: ص 269.

(5/3613)


وعلى هذا: إذا كان المسلم فيه منسوباً إلى موضع معلوم: فإن كان ممايحتمل انقطاعه بالآفة كحنطة قرية كذا بعينها أو أرض كذا بعينها: لايجوز السلم، لعدم تحقق القدرة على التسليم، وهو غرر من غير حاجة، فمنع صحة العقد.
وإن كان مما لايحتمل الانقطاع، كأن يسلم في حنطة إقليم كالعراق أو خراسان، أو في حنطة بلدة كبيرة كسمرقند وبخارى ومحافظة حوران، فيجوز السلم، إذ لايتوهم الانقطاع؛ لأن الغالب في أحكام الشرع ملحق بالمتيقن.
وقال بعض مشايخ الحنفية: لايجوز السلم إذا كان المسلم فيه منسوباً إلى بلدة كبيرة. وعبارتهم: لايجوز إلا في طعام ولاية؛ لأن وهم الانقطاع فيما وراء ذلك ثابت. والصحيح هو ماذكر أولاً (1). هذا هو مذهب الحنفية.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون المسلم فيه عام الوجود مأمون الانقطاع، وقت حلول الأجل فقط، سواء وجد عند العقد أم لم يوجد؛ لأن المهم هو القدرة على التسليم، فيعتبر وقت وجوب التسليم، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنين، فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم» ولم يشترط وجود المسلم فيه حال عقد السلم، ولو كان شرطاً لذكره، ولنهاهم عن السلم سنتين، لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة (2).
إلا أن المالكية شرطوا أن يكون التزام المسلم فيه مطلقاً في الذمة، فلا يجوز
_________
(1) المبسوط: 12 ص 134، فتح القدير: 5 ص 331، البدائع: 5 ص 211.
(2) المنتقى على الموطأ: 4 ص 300، حاشية الدسوقي: 3 ص 211، مغني المحتاج: 2ص106، المهذب 1 ص 298، المغني: 4ص293ومابعدها، غاية المنتهى: 2ص79.

(5/3614)


السلم في شيء معين كزرع قرية بعينها، وعليه لم يجز السلم في العقار اتفاقاً لتعينه (1).
واجتهاد غير الحنفية أوجه وأوسع (2).
وفي اجتهاد الحنفية: إذا حل أجل تسليم المسلم فيه، وانقطع وجود المبيع بحيث يتعذر تسليمه، كان المشتري بالخيار بين أن ينتظر وجوده، أو يفسخ البيع، ويسترد الثمن (3).

التاسع: أن يكون العقد باتا ً: ليس فيه خيار الشرط للعاقدين أو لأحدهما. فلو أسلم شخص ديناراً في مد حنطة، على أنه بالخيار ثلاثة أيام، وقبض المسلم إليه الثمن (رأس المال)، وتفرقا ببدنيهما، يفسد عقد السلم؛ لأن جواز البيع بشرط الخيار ثبت على خلاف القياس لحاجة الناس إليه، فلا يقاس عليه غيره، إذ لاحاجة في السلم إلى الخيار؛ ولأن شرعية الخيار لدفع الغبن، والسلم مبني على الغبن ونقص الثمن، لأنه بيع المفاليس كما يسمى، فلم يكن داخلاً تحت مورد النص الذي يجيز الخيار.
فلو اتفق المسلم إليه ورب السلم على إبطال الخيار قبل التفرق من المجلس، وكان رأس المال (الثمن) قائماً في يد المسلم إليه، انقلب العقد جائزاً عند جمهور الحنفية، خلافاً لزفر. أما لو كان رأس المال هالكاً فلا ينقلب العقد جائزاً؛ لأن رأس المال يصير حينئذ ديناً على المسلم إليه، والسلم لاينعقد برأس مال دين.
ويمكن تفريع هذا الشرط على اشتراط قبض رأس المال في مجلس عقد السلم؛ لأن اشتراط الخيار يؤدي إلى عدم دفع الثمن في مجلس العقد.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص269.
(2) عقد البيع للأستاذ الزرقاء: حاشية ص 120.
(3) رد المحتار والدر المختار: 4 ص 214، عقد البيع، المرجع السابق.

(5/3615)


ويلاحظ أن خيار الرؤية وخيار العيب في رأس المال (الثمن) إذا كان عيناً قيمية أو مثلية، لايفسد عقد السلم؛ لأن الخيارين المذكورين لايمنعان ثبوت الملك في البدل.
وأما بالنسبة للمسلم فيه (المبيع) فلا يثبت خيار الرؤية فيه بالاتفاق؛ لأن هذا الخيار لايجري فيما يملكه الإنسان ديناً في الذمة، إذ لافائدة في الخيار حينئذ؛ لأن ثمرته في الأصل رد المبيع الغائب عند رؤيته إذا لم يعجب المشتري، والمبيع المسلم فيه ليس عيناً معينة، بل دين في الذمة يقضى بأمثاله، فعند رؤيته إذا ساغ رده بخيار الرؤية يعود ديناً كما كان، ويجب أداء مثل آخر، فيمكن رده أيضاً بالخيار، وهكذا فيتسلسل، فلذا يكتفى بوصف المبيع لصحة السلم، فيقوم بيان الوصف مقام المعاينة.
وأما خيار العيب في المسلم فيه: فإنه يصح ثبوته؛ لأنه لايمنع تمام القبض الذي تتم به الصفقة (1).

العاشر: بيان مكان الإيفاء إذا كان للمبيع كلفة ومؤونة، كالحنطة والشعير، وهذا الشرط في جواز السلم عند أبي حنيفة، وأما عند الصاحبين، فلا يشترط ذلك.
ومنشأ الخلاف هو: هل يتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء فيما يحتاج لحمل ومؤونة؟ مع اتفاقهم على أن مكان الإيفاء إذا كان مجهولاً لايجوز السلم؛ لأنها جهالة مفضية إلى المنازعة (2).
_________
(1) فتح القدير: 5 ص 343، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 119.
(2) البدائع: 5 ص 213، المبسوط: 12 ص 128، فتح القدير: 5 ص 341، رد المحتار: 4ص 216.

(5/3616)


قال أبو حنيفة: لايتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء؛ لأن العقد إذا وجد مطلقاً عن تعيين مكان، فلايتعين مكان العقد للإيفاء، وإذا لم يتعين مكان العقد للإيفاء، بقي مكان الإيفاء مجهولاً جهالة مفضية إلى المنازعة بسبب الخلاف على نفقات النقل.
وقال الصاحبان: يتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء، فلا يكون هناك جهالة فيصح السلم؛ لأن سبب وجوب الإيفاء هو العقد، والعقد وجد في هذا المكان، فيتعين مكان العقد لوجوب الإيفاء فيه كما في بيع العين.
ويرد عليهما: بأن العقد قائم بالعاقدين، لا بالمكان، وهذا مكان المتعاقدين وليس مكاناً للعقد، فلم يوجد العقد في هذا المكان.
ويجري هذا الخلاف في بيان مكان أداء الأجرة في عقد الإجارة إذا احتاج الأمر إلى نفقة نقل، فعند أبي حنيفة: لايصح العقد إذا لم يعين مكان أداء الأجرة. وعند الصاحبين: تصح الإجارة، ويتعين مكان إيفاء الأجرة بتعيين مكان إيفاء المعقود عليه. فإن كان المأجور داراً أو أرضاً، فتسلم الأجرة عند الدار والأرض، وإن كان المأجور دابة فعند بدء انطلاق السير. وإن كان ثوباً دفع إلى مصبغة مثلاً، ففي الموضع الذي يسلم فيه الثوب. ويلاحظ أن مكان العقد يتعين مكاناً للتسليم عند الصاحبين إذا أمكن التسليم في مكان العقد. فإذا لم يمكن: بأن كان في البحر أو على رأس الجبل، فإنه لايتعين مكان العقد للتسليم، ولكن يسلم في أقرب الأماكن الذي يمكن التسليم فيه من مكان العقد.
وأما إذا لم يكن لتسليم المسلم فيه كلفة ومؤونة كالجواهر واللآلئ ونحوها من المنقولات الخفيفة الحمل، فهناك روايتان عن الحنفية:
في رواية: يتعين مكان العقد، وهذا قول الصاحبين.

(5/3617)


وفي رواية، وهي الأصح عندهم: يسلم الشيء حيثما لقي أحد العاقدين صاحبه، ولايتعين مكان العقد؛ لأن الأماكن كلها سواء، إذ المالية لاتختلف باختلاف الأماكن فيما لاحمل له ولا مؤونة (1). ولو عينا مكاناً آخر للإيفاء سوى مكان العقد: فإن كان فيما له حمل ومؤونة يتعين، وإن كان فيما ليس له حمل ومؤونة ففيه روايتان:
في رواية: لايتعين، وله أن يوفيه في أي مكان شاء.
وفي رواية: يتعين وهو الأصح، لأنه يفيد رب السلم بعدم تحمل خطر الطريق (2).
وقال المالكية: الأحسن اشتراط مكان الدفع (3).
وقال الشافعية: المذهب أن المسلم فيه إذا سلم بموضع لايصلح للتسليم، أو يصلح ولحمله مؤونة، اشترط بيان محل تسليم المسلم فيه، لتفاوتت الأغراض فيما يراد من الأمكنة في ذلك. فإن صلح المكان للتسليم ولم يكن لحمله مؤنة، فلا يشترط ذكر مكان التسليم، ويتعين مكان العقد للتسليم للعرف (4).
وقال الحنابلة: لايشترط ذكر مكان الوفاء إن لم يعقد بنحو برية وسفينة. ويتعين مكان العقد للتسليم عند الاختلاف (5).
الحادي عشر: أن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن
_________
(1) فتح القدير: 5 ص 342، البدائع: 5 ص 213.
(2) فتح القدير مع العناية: 5 ص 342، رد المحتار: 4 ص 216 ومابعدها.
(3) القوانين الفقهية: ص 270.
(4) مغني المحتاج: 2 ص 104.
(5) غاية المنتهى: 2 ص 80.

(5/3618)


باختلافها ظاهرا ً، أي أن يكون المبيع من الأموال التي تقبل الثبوت في الذمة: وهي المثليات، بأن يكون من المكيلات أو الموزونات أو الذرعيات أو الأعداد المتقاربة، مثل الحبوب والثمار والدقيق والثياب، والقطن والكتان والحديد والرصاص والأدوية، والجوز والبيض؛ لأن المكيلات والموزونات ممكنة الضبط قدراً وصفة على وجه لايبقى فيها إلا تفاوت يسير، لأنها من ذوات الأمثال. وأما المتقارب من الذرعيات والعدديات، فلأن الجهالة فيها يسيرة لاتفضي إلى المنازعة.
فإن كان مما لايضبط بالوصف، كالعدديات المتفاوتة، والذرعيات المتفاوتة، مثل الدور والعقارات والجواهر واللآلئ والجلود والخشب والرؤوس والأكارع والرمان والسفرجل والبطاطيخ ونحوها: لايجوز السلم فيها، لأنه لايمكن ضبطها بالوصف، إذ يبقى بعد بيان جنسها ونوعها وصفتها وقدرها جهالة فاحشة مفضية إلى المنازعة بسبب التفاوت في المالية بين آحاد هذه الأشياء، فهناك تفاوت فاحش بين جوهر وجوهر، ولؤلؤ ولؤلؤ، وحيوان وحيوان، وجلد وجلد، وهكذا لأن أثمانها تختلف اختلافاً متبايناً بالصغر والكبر وحسن التدوير وزيادة الضوء والصفاء، فيقع البيع فيها على مجهول، وبيع المجهول لايجوز.
هذا هو مذهب الحنفية. ويلاحظ أنهم أجازوا السلم في العدديات المتقاربة مطلقاً كيلاً، ووزناً وعددا ً. أما العدديات المتفاوتة: فلم يجيزوا السلم فيها لا وزناً ولا عدداً (1).
وقال المالكية: يصح السلم فيما ينضبط، وفيما لاينضبط بالوصف، إذا اشترط رب السلم منها شيئاً معلوماً جنسه وصفته ومقداره إما بالوزن فيما يوزن
_________
(1) المبسوط: 12 ص131، 136، البدائع: 5ص208 ومابعدها، فتح القدير: 5ص324 ومابعدها، 354، رد المحتار: 4ص213، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص39.

(5/3619)


وإما بالكيل فيما يكال أو بالذرع فيما يذرع، أو بالعدد فيما يعد أو بالوصف فيما لايوزن ولايكال ولايعد؛ لأن شرط صحة السلم: أن يضبط المسلم فيه، وأن يكون ضبطه بما جرت العادة بضبطه به بالوزن أو الكيل أو العدد أو الذرع.
أما بالنسبة للعدديات المتقاربة، فيجوز السلم فيها عدداً، لأنها لاتتباين كثيراً (1).
وقال الشافعية: يصح السلم فيما ينضبط بالوصف دون مالا ينضبط، أما بالنسبة للعدديات المتقاربة كالجوز واللوز فيصح السلم كيلاً أو وزناً، أو ذرعاً ولايجوز عدداً؛ لأن ذلك يتباين ويختلف، فلم يجز عدداً كالبطيخ. وأما العدديات المتفاوتة، فيصح السلم فيها وزناً في البطيخ والباذنجان والقثاء والسفرجل والرمان، وما أشبه ذلك مما لايضبطه الكيل لتفاوت وحداته وتنافرها في المكيال، ولايكفي فيها العدّ لكثرة التفاوت فيها، فلم يمكن تقديرها بغير الوزن (2).
وقال الحنابلة: يصح السلم فيما ينضبط بالوصف كمكيل وموزون دون مالا ينضبط. أما العدديات المتفاوتة ففيها وجهان: وجه يصح السلم فيها عدداً وتضبط وحداتها بالصغر والكبر. ووجه: لايصح السلم فيها إلا وزناً، كما قال الشافعية (3).
وهكذا يكون مذهب الشافعية والحنابلة قريباً من مذهب الحنفية، والخلاف بينهم محصور في السلم في العدديات المتقاربة عدداً، وفي العدديات المتفاوتة. وأجاز المالكية السلم فيما لاينضبط بالوصف.
_________
(1) بداية المجتهد: 2ص200، حاشية الدسوقي: 3ص207، 215، المنتقى على الموطأ: 4ص292، 294، 296.
(2) المهذب: 1ص297، 299، مغني المحتاج: 2ص107.
(3) المغني: 4ص276، 288 ومابعدها.

(5/3620)


وسأذكر حكم بعض المبيعات التي لها صلة بشرط انضباط الوصف .. ومنها:
السلم في الحيوان:
يجوز السلم في الأليات والشحوم وزناً بلا خلاف، وأما السلم في الحيوان ذاته، فقد اختلف فيه الفقهاء:
فقال الحنفية: لايجوز السلم في الحيوان كيفما كان، لما روي عن ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان» (1) ولأن الحيوان يختلف اختلافاً متبايناً في تقدير ماليته، فلا يمكن ضبطه، وإن استقصى الواصف صفاته التي يختلف بها الثمن، والاختلاف فيه يفضي إلى المنازعة مثل سائر العدديات المتفاوتة (2). وعليه فلا يصح السلم في الخرفان كما يفعل بعض الناس، لأنها لاتنضبط.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجوز السلم في الحيوان قياساً على جواز القرض فيه، روى مسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم اقترض بَكْراً ـ وهو الفتيّ من الإبل» (3) وروى أبو داود «أنه صلّى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن يشتري بعيراً ببعيرين إلى أجل» (4) وهذا سلم لا قرض لما فيه من الفضل والأجل. وأما
_________
(1) أخرجه الحاكم والدارقطني عن ابن عباس، قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والصحيح أن في إسناده إسحاق بن إبراهيم بن جوتى، وهو واهي الحديث. وقال عنه ابن حبان: «منكر الحديث جداً، يأتي عن الثقات بالموضوعات، لايحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب» (انظر نصب الراية: 4ص46، التلخيص الحبير: ص245).
(2) المبسوط: 12ص131، فتح القدير: 5ص327 ومابعدها، البدائع: 5ص209.
(3) سيأتي تخريجه في باب القرض.
(4) رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي من طريقه، وفي إسناده ابن إسحاق، وقد اختلف عليه فيه، ولكن أورده البيهقي في الخلافيات من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وصححه (انظر التلخيص الحبير لابن حجر: ص235).

(5/3621)


حديث النهي عن السلف في الحيوان فقال ابن السمعاني عنه في الاصطلام: «غير ثابت وإن أخرجه الحاكم» ولكن صحة السلم في الحيوان عند هؤلاء مشروطة بذكر نوعه وسنه وذكورته وأنوثته ولونه وقدِّه طولاً وقصراً على التقريب (1).

السلم في اللحم مع العظم:
قال أبو حنيفة: لايجوز السلم في اللحم مع العظم، لوجود الجهالة المفضية إلى المنازعة من جهتين: جهة السمن والهزال، وجهة قلة العظم وكثرته. وكذلك لايجوز في الأصح عنده السلم في اللحم المنزوع العظم، لوجود الجهالة فيه أيضاً من جهة السمن والهزال، وهذا كاف لأن الحكم المعلل بعلتين مستقلتين يثبت مع إحداهما، كما يثبت معهما (2).
وقال الصاحبان والمالكية والشافعية والحنابلة: يصح السلم في اللحم بشرط ضبط صفاته بذكر جنس اللحم: لحم شاة أو بقر، ونوعه: لحم شاة ذكر أو أنثى، خصي أو فحل، معلوفة أو سائمة، وسنه: لحم شاة ثني أو جذعة، وصفته: سمين أو مهزول أو وسط، وموضعه: من الفخذ أو الكتف أو الجنب، ومقداره: عشرة أرطال مثلاً. ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم» وظاهره: إباحة السلم في كل موزون، ولأنه إذا جاز السلم في الحيوان، فاللحم أولى (3).
_________
(1) المنتقى على الموطأ: 4ص293، بداية المجتهد: 2ص200، حاشية الدسوقي: 3ص207، 209، مغني المحتاج: 2ص110، المغني: 4ص278، 282، غاية المنتهى: 2ص72.
(2) المبسوط: 12ص133، البدائع: 5ص210، فتح القدير: 5ص333، رد المحتار: 4ص214.
(3) بداية المجتهد: 2ص200، حاشية الدسوقي: 3ص270، 209، مغني المحتاج: 2ص111 ومابعدها، المهذب: 1ص298، المغني: 3ص280، غاية المنتهى: 2ص71.

(5/3622)


السلم في السمك:
السلم في السمك عند الجمهور كالسلم في اللحم. وأما عند أبي حنيفة فاختلفت عبارات الروايات، والصحيح من المذهب: أن السلم يجوز في السمك الصغار، كيلاً أو وزناً، ويستوي فيه المملح والطري؛ لأن الصغار منه لايتحقق فيه اختلاف السمن والهزال، ولا اختلاف العظم، بخلاف اللحم.
وأما الكبار ففي ظاهر الرواية: يجوز كيفما كان وزناً (1).

السلم في الثياب:
الثياب من العدديات المتفاوتة، فلا يجوز فيها السلم قياساً عند الحنفية، لأنها ليست من ذوات الأمثال لتفاوت فاحش بين ثوب وثوب، ويجوز السلم فيها استحساناً إذا بين الجنس والنوع، والصفة والرقعة (أي القدر من الثخانة والغلط) والذرع طولاً وعرضاً، فيلحق بالمثليات لحاجة الناس إليه وتعاملهم به.
وإن كان ثوب حرير فاختلف المشايخ في بيان وزنه، والأصح قول بعضهم: لابد من بيان وزنه أيضاً؛ لأنه مقصود فيه، وقيمة الحرير تختلف باختلاف الوزن (2).
وأجاز المالكية والشافعية والحنابلة أيضاً السلم في الثياب كما لاحظنا (3)، قال ابن المنذر: وأجمعوا على جواز السلم في الثياب (4).
_________
(1) المبسوط: 12ص138، البدائع: 5ص211، فتح القدير: 5 ص333، رد المحتار: 4ص213.
(2) المبسوط: 12 ص 133، فتح القدير: 5 ص 353، البدائع: 5 ص 209.
(3) القوانين الفقهية: ص 269، مغني المحتاج: 2 ص 107، غاية المنتهى: 2 ص 72.
(4) المغني: 4 ص 276.

(5/3623)


السلم في التبن:
لايجوز عند الحنفية السلم في التبن أوقاراً (أي أحمالاً) لتفاوت فاحش بين الوقرين. ولكن يجوز فيه بقبان معلوم من قبابين التجار، فلا يكون هناك اختلاف. والحكم يجري في الحطب: لايجوز حِزَماً، ويجوز وزناً (1).

السلم في الخبز:
لايجوز السلم في الخبز عدداً بالاتفاق لتفاوت فاحش بين خبز وخبز في الصغر والكبر. وأما وزناً فقد ذكر الكرخي أن السلم في الخبز لايجوز، للتفاوت الفاحش بين الخبز في النضوج، فتبقى جهالة مفضية إلى المنازعة.
وفي نوادر ابن رستم: لايجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وهذا قول الشافعية لأن عمل النار فيه يختلف فلا يضبط. ويجوز عند أبي يوسف: إذا شرط نوعاً معلوماً ووزناً معلوماً وأجلاً معلوماً (2).
وقال المالكية والحنابلة: يصح السلم في الخبز ونحوه مما أمكن ضبطه ومسته النار؛ لأن ظاهر الحديث: «من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم» إباحة السلم في كل مكيل وموزون ومعدود، ولأن عمل النار فيه معلوم بالعادة ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة، فصح السلم فيه (3).

قرض الخبز:
قال أبو حنيفة: لايجوز استقراض الخبز، كالسلم لاوزناً ولاعدداً. وجوز
_________
(1) المبسوط: 12 ص 141، البدائع: 5 ص 209.
(2) البدائع: 5 ص 211، المهذب: 1 ص 297.
(3) المغني: 4 ص 277، الميزان للشعراني: 2 ص 74.

(5/3624)


أبو يوسف القرض فيه وزناً لاعدداً كالسلم. وجوز محمد استقراض الخبز عدداً ووزناً لحاجة الناس وتعارفهم إياه، وإن لم يكن من ذوات الأمثال، وهذا هو المفتى به عند الحنفية لتعامل الناس وحاجاتهم إليه (1).
وقال المالكية: يجوز قرض الخبز وزناً وعدداً لحاجة الناس إليه، والمماثلة في العدد مما يتسامح فيه (2).
وقال الشافعية والحنابلة في أصح الوجهين: يجوز قرض الخبز عدداً ويجوز وزناً لإجماع أهل الأمصار على فعله في الأعصار بلا إنكار (3). وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يارسول الله، إن الجيران يستقرضون الخبز، والخمير، ويردون زيادة ونقصاناً؟ فقال: لابأس إن ذلك من مرافق الناس، ولايراد به الفضل» (4).

خلاصة شروط السلم عند الشافعية:
أذكر شروط السلم بإيجاز عند الشافعية في مقابل مذهب الحنفية، وهي مايأتي:
1 - يشترط في العاقدين مايشترط في البائع والمشتري في عقد البيع من البلوغ والعقل والاختيار، لكن يصح السلم من الأعمى، لأن المسلم فيه (المبيع)
_________
(1) تحفة الفقهاء: 2ص19، الدر المختار ورد المحتار: 4ص195، فتح القدير: 5ص299.
(2) حاشية الدسوقي: 3ص222.
(3) المهذب: 1 ص 304، مغني المحتاج: 2 ص 119، المغني: 4 ص 319.
(4) ذكره أبو بكر الشافي بإسناده عن عائشة رضي الله عنها، وفيه أيضاً بإسناده عن معاذ بن جبل «أنه سئل عن استقراض الخبز والخمير؟ فقال: سبحان الله، إنما هذا من مكارم الأخلاق، فخذ الكبير، وأعط الصغير، وخذ الصغير وأعط الكبير، خيركم أحسنكم قضاء، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ذلك» (انظر المغني: 4 ص319).

(5/3625)


موصوف في الذمة، بينما لايصح عندهم البيع من الأعمى لاشتراط رؤية المبيع.
2 - ويشترط في الصيغة مايشترط في صيغة البيع من اتحاد المجلس وتوافق القبول مع الإيجاب، ولكن يضاف في السلم أن تكون الصيغة بلفظ السلم أو السلف، ولايصح بغيرهما. وأن يخلو العقد من خيار الشرط بأن يكون العقد باتاً؛ لأن اشتراط الخيار يؤدي إلى تأجيل تسليم رأس المال في مجلس العقد، وهو ممنوع في السلم.
3 - ويشترط في رأس المال (الثمن) أن يكون معلوماً للعاقدين قدراً وصفة، وأن يتم تسليمه في مجلس العقد قبل تفرق العاقدين بأبدانهما، حتى لايصير في معنى بيع الدَّيْن بالدَّيْن.
4 - ويشترط في المسلم فيه (المبيع):
أولاً - أن يمكن ضبطه بالوصف بحيث تنتقى الجهالة عنه، ولايتفاوت بين أفراد جنسه إلا تفاوتاً يسيراً.
ثانياً - وأن يكون معلوم الجنس والنوع والقد ر والصفة للعاقدين.
ثالثاً - وألا يكون مختلطاً من أجناس مختلفة كحنطة بشعير، ومسك وعنبر بغيرهما.
رابعاً - وأن يكون المسلم فيه دَيْناً، أي شيئاً موصوفاً في الذمة غير معين، فإن عين المسلم فيه، لم يصح السلم.
خامساً - وأن يكون مقدوراً على تسليمه في النوع والأجل، فلا يجوز أن يستبدل المسلم فيه بغيره، كبر بدلاً من سمن، وثياب بحديد، ونحو ذلك، ولايصح السلم فيما ينقطع وجوده غالباً وقت حلول الأجل كعنب في الشتاء.

(5/3626)


سادساً - وأن يعين الأجل الذي يجب التسليم عنده، وأن يكون الأجل معلوماً محدداً، فلا يصح السلم مع جهالة الأجل أو من غير ذكر الأجل، مثل إلى قدوم فلان من سفره أو إلى الحصاد مثلاً.
سابعاً - وأن يعين موضع تسليم المسلم فيه إذا لم يصلح محل العقد للتسليم، أو كان يصلح ولكن يحتاج نقله إلى كلفة ونفقة.

المطلب الرابع ـ حكم السلم
مقتضى السلم: أنه يثبت الملك فيه لرب السلم، مؤجلاً، بمقابلة ثبوت الملك في رأس المال المعين أو الموصوف في الذمة للمسلم إليه.
وقد أجيز حكمه بطريق الرخصة دفعاً لحاجة الناس، ولكن بالشرائط المخصوصة التي ذكرت والتي هي غير مشروطة في عقد البيع.

المطلب الخامس ـ أوجه الاختلاف بين البيع والسلم يترتب على الشروط الخاصة بعقد السلم أن يختلف السلم عن البيع من وجوه:
1 - استبدال رأس مال السلم والمسلم فيه في مجلس العقد:
وهو أن يأخذ برأس مال السلم شيئاً من غير جنسه. وفيه قال الحنفية: لايجوز الاستبدال برأس مال السلم قبل القبض. أما الثمن فيجوز استبداله إذا كان ديناً؛ لأن قبض رأس المال شرط في السلم، وبالاستبدال لايحصل القبض حقيقة؛ لأن المسلم إليه يقبض بدل رأس المال حينئذ، وبدل الشيء غيره. أما الثمن

(5/3627)


في البيع فلا يشترط قبضه، والبدل يقوم مقامه معنى. وكذلك لايجوز الاستبدال ببدلي الصرف؛ لأن قبضهما شرط حقيقة.
وأما استبدال المسلم فيه: فلايجوز أيضاً قبل القبض كاستبدال المبيع المعين، لأن المسلم فيه مبيع منقول، وإن كان ديناً، وبيع المبيع المنقول قبل القبض لايجوز (1).
وإذا انفسخ عقد السلم أو تقايل العاقدان السلم: فلايجوز الاستبدال برأس مال السلم الموجود مع المسلم إليه، أي أنه لايجوز لرب السلم أن يشتري من المسلم إليه شيئاً برأس المال حتى يقبضه كله، وهذا قول علماء الحنفيةالثلاثة أخذاً بالاستحسان (2)، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لاتأخذ إلا سلمك، أو رأس مالك» (3) أي عند الفسخ، ولأن الإقالة بيع جديد في حق شخص ثالث غير العاقدين، والثالث هنا هو الشرع. ويعتبر رأس المال: هو المبيع، وإذا ثبت تشابه رأس المال والمبيع، فالمبيع لايجوز التصرف فيه قبل القبض، فكذا ماأشبهه.
والقياس أن يجوز الاستبدال برأس المال بعد الإقالة أو بعد انفساخ السلم، سواء أكان رأس المال عيناً أم ديناً أي من النقود، وهو قول زفر لأن رأس المال بعد
_________
(1) البدائع: 5 ص 203.
(2) وذهب مالك إلى أنه لايجوز ذلك إذا كان المسلم فيه طعاماً، لنهي الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل أن يستوفى (بداية المجتهد: 205/ 2) وأجاز الشافعي وفي قول عن أحمد هذا البيع، لأن صاحب المال قد ملك رأس ماله بالإقالة، وصار ديناً في ذمة المسلم إليه الذي برئ من تسليم المسلم فيه، فيجوز له أن يشتري به ماأحب ممن أحب (الأم: 117/ 3، المغني: 304/ 4).
(3) نص الحديث كما رواه الدارقطني عن ابن عمر هو «من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ماأسلف أو رأس ماله» قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: «فلا يأخذ إلا ماأسلم فيه أو رأس ماله» (انظر نيل الأوطار: 5ص227 ومابعدها، نصب الراية: 4ص51). وروى أبو داود في سننه «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره».

(5/3628)


الإقالة صار ديناً في ذمة المسلم إليه، فكما جاز الاستبدال بسائر الديون جاز بهذا الدين، ويرد عليه بالحديث والمعقول السابقين (1).
واتفقوا على أن الاستبدال ببدلي الصرف بعد الإقالة قبل القبض جائز؛ لأن بدل الصرف لا يتعين بالتعيين، فلو تبايعا دراهم بدنانير، جاز استبدالها قبل القبض بأن يمسكا ما أشارا إليه في العقد، ويؤديا بدله قبيل الافتراق من مجلس الإقالة.
واتفقوا على أن قبض رأس المال بعد الإقالة في السلم في مجلس الإقالة: ليس بشرط لصحة الإقالة؛ لأن عقد الإقالة ليس في حكم إنشاء عقد السلم من كل وجه؛ لأن اشتراط القبض في عقد السلم في مجلس العقد كان للاحتراز عن بيع الكالئ بالكالئ (أي الدين بالدين) والمسلم فيه سقط بالإقالة، فلم يصبح لازماً على المسلم إليه، فلا يتحقق فيه بيع الدين بالدين، فلا يشترط القبض (2).
أما في الصرف فيشترط القبض لصحة الإقالة، لأنه إذا اعتبرنا الإقالة بيعاً جديداً، كما يقول أبو يوسف، فالتعليل ظاهر، وإذا اعتبرنا الإقالة فسخاً في حق العاقدين، كما يقول أبو حنيفة فهي في تقدير الشرع بيع، لأن أبا حنيفة يقول: هي بيع جديد في حق غير العاقدين، وإذا كانت الإقالة بيعاً فيجب قبض البدلين منعاً من الوقوع في محظور بيع الدين بالدين (3).
واتفقوا على أن السلم إذا كان فاسداً منذ نشأته، فلا بأس بالاستبدال فيه قبل القبض، إذ ليس له حكم السلم، فيجوز الاستبدال، كما في سائر الديون.
_________
(1) فتح القدير مع العناية: 5 ص 346، رد المحتار: 4 ص 218 ومابعدها.
(2) فتح القدير، المرجع السابق، رد المحتار: 4 ص 219.
(3) البدائع: 5 ص 308، رد المحتار: 4 ص 219، 245.

(5/3629)


وعدم جواز استبدال المسلم فيه ورأس مال السلم متفق عليه أيضاً لدى المذاهب الأخرى (1).

2 - إقالة بعض السلم:
إذا أخذ رب السلم بعض رأس ماله وبعض المسلم فيه بعد حلول الأجل أو قبله برضا صاحبه، فإنه يجوز، ويكون إقالة للسلم فيما أخذ من رأس المال ويبقى السلم في الباقي، وهذا قول جمهور العلماء؛ لأن أخذ رأس المال إقالة، ولو أقاله في الكل جاز اتفاقاً، فكذلك إذا أقال في البعض يجوز أيضاً، كما في بيع العين. والإقالة كما هو معروف: فسخ للعقد ورفع له من أصله، وليست بيعاً على الراجح.
وقال الإمام مالك والقاضي ابن أبي ليلى: لا يجوز ذلك ويفسد العقد (2) ويسترد رب السلم ما بقي من رأس المال لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» فإذا أخذ بعض كل واحد منهما فلم يأخذ لا هذا ولا ذاك، ولأنه حين أخذ بعض رأس المال، فقد اختار فسخ العقد، فينفسخ في الكل (3). فإما أن يقيله من الكل، أو يأخذ الكل.
ورد الجمهور على الحديث بأن المراد به النهي عن أخذ شيء آخر سوى رأس المال والمسلم فيه.
وأما البيع فإنه إذا أقاله العاقدان في البعض دون البعض فيجوز بالاتفاق.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 269، مغني المحتاج: 2 ص 115، غاية المنتهى: 2 ص 80.
(2) سداً للذريعة، لأنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف.
(3) المبسوط: 12 ص 130، المنتقى على الموطأ: 4 ص 302، حاشية الدسوقي: 3 ص 215، المهذب: 1 ص 302، المغني: 4 ص 303، غاية المنتهى: 2 ص 81، مغني المحتاج: 2 ص 103.

(5/3630)


واتفقوا على أنه لو أخذ رب السلم جميع رأس المال، برضا صاحبه أو أقاله جميع السلم أو تصالحا على رأس المال، فإنه يكون إقالة صحيحة، وينفسخ السلم.
ولو أخذ رب السلم بعض رأس المال قبل حلول الأجل ليعجل باقي السلم، فإنه لا يجوز هذا الشرط، وتصح الإقالة عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن هذا الشرط يصبح في معنى المعاوضة عن الأجل فهو شرط فاسد، والإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، لأنه فسخ عندهما، فتصح ويبطل الشرط، بخلاف البيع، فإنه يتأثر بالشروط الفاسدة؛ لأن الشرط الفاسد فيه يؤدي إلى الربا، أما الإقالة فلأنها رفع البيع فلا يتصور فيها ربا.
وعند أبي يوسف: تبطل الإقالة بهذا الشرط الفاسد، ويظل السلم كله باقياً إلى أجله؛ لأن الإقالة عنده بيع جديد، والبيع يبطل بالشرط الفاسد لتمكن الربا فيه (1). وسيأتي في بحث الإقالة أدلة كل منهم على تكييف الإقالة: هل هي فسخ أو بيع؟

3 - الإبراء عن رأس المال:
لا يجوز للمسلم إليه إبراء رب السلم عن رأس المال بدون قبوله ورضاه، فإذا قبل صح الإبراء، ولكن يبطل السلم، لأنه يترتب عليه عدم قبض رأس المال، بسب الإبراء. وإذا رفض رب السلم الإبراء بقي عقد السلم صحيحاً.
أما البيع: فلو أبرأ البائع المشتري عن ثمن المبيع فيصح من غير قبول إلا أنه يرتد بالرد؛ لأن في الإبراء معنى التمليك على سبيل التبرع، وهو لا يلزم دفعاً لضرر المنة.
_________
(1) البدائع: 5 ص 307، تحفة الفقهاء: 2 ص 21، الطبعة القديمة، القوانين الفقهية: ص270.

(5/3631)


والفرق بين السلم والبيع: أن قبض الثمن ليس بشرط لصحة البيع. وقبض رأس المال في المجلس شرط لصحة عقد السلم، فلو صح الإبراء من غير قبول الطرف الآخر، لانفسخ عقد السلم من غير رضا صاحبه، وهذا لا يجوز؛ لأن أحد العاقدين لاينفرد بفسخ العقد، فلا يصح الإبراء، بخلاف الثمن: لا يترتب على الإبراء منه فسخ البيع لأن قبضه ليس بشرط.
أما لو أبرأ رب السلم عن المسلم فيه، فيجوز من غير قبول المسلم إليه، لأن قبض المسلم فيه ليس بشرط، فيصح من غير قبول؛ لأن الإبراء عن دين لا يجب قبضه شرعاً إسقاط لحق المبرئ لا غير، فيملك الإبراء.
وأما الإبراء عن المبيع فلا يصح، لأنه عين، والإبراء إسقاط، وإسقاط الأعيان لا يعقل (1).

4 - الحوالة والكفالة والرهن برأس المال وبالمسلم فيه:
تجوز الحوالة برأس مال السلم على رجل حاضر، والكفالة به، والرهن به، وكذا بالمسلم فيه أيضاً عند جمهور الحنفية لوجود ركن هذه العقود مع شرائطه.
وعند زفر: يجوز بالمسلم فيه ولا يجوز برأس المال؛ لأن عقود الكفالة والحوالة والرهن شرعت لتوثيق حق يحتمل التأخر عن المجلس، ورأس المال لا يتأخر، فلا يتحقق ما شرع له العقد، فلا يصح. ورد عليه بأن معنى التوثيق يحصل في الحقين جميعاً، فجاز العقد فيهما.
_________
(1) البدائع: 5 ص 203.

(5/3632)


توضيح ذلك أن الفقهاء وضعوا قاعدة وهي: «أن ملكية الأعيان لا تقبل الإسقاط، وإنما تقبل النقل» فلو أسقط أحد ملكيته عن شيء مملوك له لا تسقط وتبقى ملكاً له. وقد بنوا عليه عدم صحة الإبراء عن الأعيان لما في الإبراء من معنى الإسقاط مشوباً بمعنى التمليك، فلو كان لأحد عند آخر شيء مغصوب أو مودع فأبرأه عنه لا يصح الإبراء ويبقى الشيء لصاحبه (المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 123). وكذلك في البيع: تجوز الحوالة والكفالة والرهن بالثمن والمبيع إلا أن الفرق بين السلم والبيع هو في حالة افتراق العاقدين في السلم بدون قبض كما سأبيِّن.
ففي عقد السلم: يجب أن يقبض المسلم إليه رأس المال من المحال عليه، أو من الكفيل أو من رب السلم أو يهلك الرهن قبل أن يتفرق العاقدان عن المجلس، بشرط أن تكون قيمة الرهن مثل رأس المال أو أكثر؛ لأن حق المسلم إليه ينتقل حينئذ إلى قيمة الرهن، فإذا كانت هذه القيمة تساوي رأس المال أو تزيد عنه، فيحصل افتراق العاقدين بعد أن يتم قبض رأس المال؛ لأن قبض الرهن قبض استيفاء؛ لأنه قبض مضمون على المرتهن سواء تعدى أو قصر أو لم يتعد ولم يقصر، وبالهلاك تقرر الضمان عليه، فتحدث مقاصة بين المرتهن والراهن، أي بين المسلم إليه ورب السلم هنا. ويترتب عليه أنه يحدث الافتراق بينهما بعد قبض رأس المال.
فإن كانت قيمة الرهن أقل من رأس المال، تم العقد بقدر الرهن ويبطل في الباقي.
وإذا افترق رب السلم والمسلم إليه قبل القبض بطل السلم حتى ولو بقي المحال عليه والكفيل مع المسلم إليه، أما لو بقي المسلم إليه مع رب السلم، وذهب المحال عليه والكفيل فلا يبطل السلم؛ لأن العبرة لبقاء العاقدين وافتراقهما؛ لأن القبض من حقوق العقد، والعقد أساسه العاقدان.
والحكم كذلك في الرهن: إذا لم يهلك حتى تفرق المتعاقدان، يبطل السلم لعدم قبض رأس المال، وعلى المسلم إليه رد الرهن على صاحبه.
وكل ما ذكر في السلم هنا يجري في عقد الصرف.
هذا بالنسبة لرأس المال.

(5/3633)


أما بالنسبة للمسلم فيه فإن المحيل يبرأ بنفس عقد الحوالة ويكون التسليم فيه واجباً على المحال عليه إذا حل الأجل، وحينئذ يطالب رب السلم المحال عليه بالتسليم دون المحيل.
وفي الكفالة يكون رب السلم بالخيار: إن شاء طالب الأصيل، وإن شاء طالب الكفيل. وفي الرهن: لرب السلم أن يحبس المرهون حتى يأخذ المسلم فيه (1).
وكذلك لا تجوز الحوالة والكفالة والإبراء والرهن برأس المال على غير حاضر في المجلس عند غير الحنفية (2)؛ لأن قبضه حقيقة شرط أساسي لصحة السلم، إلا أن المالكية كما عرفنا أجازوا تأخير القبض مدة ثلاثة أيام. وقد غالى الشافعية فلم يجيزوا قبض رأس المال في المجلس من المحال عليه إلا أن يقبضه رب السلم نفسه، ثم يسلمه للمسلم إليه، لأن الحق بالحوالة يتحول إلى ذمة المحال عليه فهو يؤديه عن نفسه لا عن المسلم.
الخلاصة: تجوز الحوالة عند الحنفية على المسلم فيه، ولاتجوز عند الجمهور، وقصر المالكية المنع على ما إذا كان المسلم فيه طعاماً. ويجوز أخذ الرهن والكفيل بالمسلم فيه عند الجمهور لما لهما من الفائدة، ولايجوز ذلك في المعتمد عند الحنابلة لحديث أبي داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره».
_________
(1) المبسوط: 151/ 12 ومابعدها، البدائع: 203/ 5 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 195/ 3، مغني المحتاج: 103/ 2، غاية المنتهى: 80/ 2، المغني: 302/ 4.

(5/3634)


5 - قبض رأس المال مشوبا ً:
إذا قبض المسلم إليه رأس المال، فوجده مشوباً، كأن يجده زيوفاً أو نبهرجة، أو مستحقاً أو ستوقة (1) أو معيباً: فإما أن يصدقه رب السلم أو يكذبه:

الافتراض الأول ـ إن صدقه رب السلم: فله حق الرد، ثم لا يخلو إما أن يكون رأس المال عيناً وهو ما يتعين بالتعيين، أو ديناً: وهو ما لا يتعين بالتعيين.
1 - فإن كان عينا ً: فوجده المسلم إليه مستحقاً (2) أو معيباً: فإن أجاز المستحق جاز العقد، وإلا بطل، وإن رضي المسلم إليه بالعيب جاز العقد، وإلا بطل أي (السلم)، سواء أكان اكتشاف العيب قبل افتراق العاقدين أم بعده. وسبب بطلانه: أنه انتقض (3) القبض فيه بالاستحقاق أو الرد بالعيب، ولا يمكن إقامة شيء عن غير رأس المال مقامه، لأنه معين فيحصل الافتراق لا عن قبض رأس المال في المجلس، فيبطل السلم.
وأما في حال إجازة العقد فلأنه تبين أن قبضه وقع صحيحاً، فحصل الافتراق عن قبض رأس المال (4).
_________
(1) الدراهم أربعة أنواع: جياد، ونبهرجة، وزيوف، وستوقة. واختلفوا في تفسير النبهرجة فقيل: هي التي تضرب في غير دار السلطان. والزيوف: هي المغشوشة. والستوقة: نحاسمموه بالفضة. وقال عامة المشايخ: الجياد فضة خالصة تروج في التجارات، وتوضع في بيت المال. والزيوف: ما زيفه بيت المال أي رده، ولكن تأخذه التجار في التجارات، ولا بأس بالشراء بها، ولكن يبين للبائع أنها زيوف، والنبهرجة: ما يرده التجار، والستوقة: أن يكون الطاق الأعلى فضة والأسفل كذلك وبينهما نحاس، وليس لها حكم الدراهم. وهكذا: فالزيوف أجود، ثم النبهرجة، ثم الستوقة (رد المحتار: 228/ 4).
(2) استحقاق المبيع: هو أن يظهر أن المبيع مملوك كله أو بعضه لغير البائع، كما لو ظهر أن المبيع وقف ومثل ذلك استحقاق رأس المال (عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 97).
(3) أي لم يتحقق القبض المشروط في عقد السلم بسبب ظهور استحقاق رأس المال لغير رب المال.
(4) البدائع: 204/ 5.

(5/3635)


2 - وأما إذا كان رأس المال دينا ً: فقبضه المسلم إليه فوجده مشوباً، فإما أن يجده مشوباً في مجلس السلم أو بعد الافتراق:
أولاً: إن وجده مشوباً في مجلس السلم: 1 - إن وجد ذلك مستحقاً: فإن صحة القبض موقوفة على إجازة المستحق: إن أجاز جاز، وإن لم يجز بطل.
2 - وإن وجده ستوقة أو رصاصاً: فلا يجوز العقد وإن قبل به، لأنه ليس من جنس حقه، إذ هو ليس من جنس الدراهم، فيكون استبدالاً برأس المال قبل القبض كما لو استبدل ثوباً من رب السلم مكان الدراهم، وهو لا يجوز كما عرفنا. وإن لم يقبل به، ورده وقبض شيئاً آخر مكانه جاز العقد لأنه لما رده، وانتقض قبضه، جعل كأن لم يكن، وكأنه أخر القبض إلى آخر المجلس.
3 - وإذا وجده زيوفاً أو نبهرجة: فإن قبل به جاز العقد؛ لأن الزيوف من جنس حقه؛ لأنها دراهم، لكنها معيبة بالزيافة، وفوات صفة الجودة، فإن رضي بها فقد أبرأ رب السلم عن العيب ورضي بقبض حقه مع النقصان.
وإن ردها واستبدل شيئاً مكانها في مجلس العقد جاز، لأنه وجد مثل حقه في المجلس، فكان القبض متأخراً (1).

ثانياً: إن وجده مشوباً بعد الافتراق عن المجلس: 1 - إن وجده مستحقاً: فالقبض موقوف على إجازة المستحق إن أجاز جاز، وإن رد بطل السلم.
_________
(1) البدائع: 204/ 5 ومابعدها.

(5/3636)


2 - وإن وجد رأس المال ستوقة أو رصاصاً: بطل السلم؛ لأن الستوقة ليست من جنس الدراهم، لأنها لا تروج في معاملات الناس، فلم تكن من جنس حقه أصلا ووصفاً، ويحصل الافتراق عن المجلس بدون قبض رأس المال، فيبطل السلم، ولا يعود جائزاً بالقبض بعد المجلس.
3 - وإذا وجده زيوفاً أو نبهرجة: فإنها تجوز أي قبل المسلم إليه، فالسلم ماض على الصحة؛ لأن الزيوف من جنس حقه؛ لأنها دراهم، لكنها معيبة بالزيافة وفوات صفة الجودة، فإذا رضي بها، فقد رضي بقبض حقه مع النقصان.
وإن لم يتجوز به أي لم يقبلها وردها، فاتفق علماء الحنفية على أنه إن لم يستبدلها في مجلس الرد، بطل السلم بقدر ما رد.
وأما إذا استبدل مكانها جياداً في مجلس الرد: فالقياس أن يبطل السلم بقدره قل المردود أو كثر، وبه أخذ أبو حنيفة وزفر؛ لأن الزيوف من جنس حق المسلم إليه أصلاً لا وصفاً، ولهذا ثبت له حق الرد بفوات حقه في الوصف، فكان حقه في الأصل والوصف جميعاً، فإذا لم يتوافرا ولم يرض بما قبض، تبين أنه لم يقبض حقه، فيبطل السلم.
والاستحسان: ألا يبطل السلم وهو قول الصاحبين، لأن قبض الزيوف وقع صحيحاً، لأنه قبض جنس الحق، بدليل أنه لو تجوز بها جاز إلا أنه فاتته صفة الجودة بالزيافة، والمعيب لا يمنع صحة القبض، وقد أجيز استبداله في مجلس الرد، لأن للرد شبهاً بالعقد، فألحق مجلس الرد بمجلس العقد (1).
هذا إذا وجد المسلم إليه كل رأس المال زيوفاً أو نبهرجة: فإن وجد بعضه دون بعض، استحسن أبو حنيفة في حالة استبدال جياد مكانه في مجلس الرد: أنه إذا
_________
(1) البدائع: 205/ 5.

(5/3637)


كان قليلاً فرده واستبدل في المجلس، فالعقد ماض في الكل، وإن كان كثيراً بطل العقد بقدر المردود؛ لأن الزيافة في القليل مما لا يمكن التحرز عنه (1).
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في الحد الفاصل بين القليل والكثير والأصح منها: أن الثلث فصاعداً في حكم الكثير، وما دونه في حكم القليل (2).
هذا ما يتعلق بحكم رأس المال.
وأما حكم المسلم فيه فهو: إذا وجد رب السلم بالمسلم فيه عيباً، بعدما قبضه، فإن له خيار العيب إن شاء تجوز به، وإن شاء رده وأخذ المسلم فيه غير معيب؛ لأن حقه في السليم دون المعيب (3) ولكن خيار الرؤية وخيار الشرط لا يثبتان في السلم، كما سبق بيانه.

الافتراض الثاني ـ إذا كذب رب السلم المسلم إليه، وأنكر أن تكون الدراهم التي جاء بها من دراهمه التي أعطاها، وادعى المسلم إليه أنها من دراهمه، فهذا لا يخلو من ستة أوجه:
إن كان المسلم إليه أقر بالقبض قبل النزاع، فقال: قبضت الجياد أو قبضت حقي أو قبضت رأس المال أو استوفيت الدراهم، أو قبضت الدراهم، أو قال: «قبضت» ولم يقل شيئاً آخر.
1 - ففي الحالات الأربع الأولى: لا تسمع دعواه بعدئذ أنه وجده زيوفاً، ولم يكن له حق استحلاف رب السلم بالله (أنها ليست من الدراهم التي قبضها منه) لأنه بإقراره بقبض الجياد يصير متناقضاً في دعواه، والمناقضة تمنع صحة الدعوى، والحلف يكون في الدعوى الصحيحة.
_________
(1) البدائع: 206/ 5.
(2) تحفة الفقهاء: 27/ 2.
(3) المرجع السابق.

(5/3638)


2 - وأما إذا قال المسلم إليه: (قبضت الدراهم) ثم قال: (هي زيوف) فالقياس أن يكون القول قول رب السلم: (أنها ليست من دراهمه) مع يمينه على قوله، وعلى المسلم إليه البينة أنها من الدراهم التي قبضها منه؛ لأن المسلم إليه يدعي أنها مقبوضة مع العيب، ورب السلم ينكر أنها مقبوضة، أو أنها التي قبضها منه، فيعتبر قول المنكر بيمينه.
وفي الاستحسان: القول قول المسلم إليه مع يمينه، وعلى رب السلم البينة أنه أعطاه الجياد؛ لأن رب السلم بإنكاره أنها ليست من دراهمه يدعي إيفاء حقه، وهو الجياد، والمسلم إليه بدعواه أن هذه الدراهم زيوف ينكر قبض حقه، فيكون القول قوله مع يمينه أنه لم يقبض حقه وعلى المدعي البينة أنه أوفاه حقه.
وهذا هو مقتضى القياس في الحالات الأربع الأولى، إلا أنه هناك سبق منه ما يناقض دعواه: وهو الإقرار بالجياد، وههنا لم يسبق منه شيء مناقض؛ لأن ذكر قبض الدراهم يقع على الزيوف، والجياد بخلاف الحالات الأولى.
3 - وإذا قال المسلم إليه: (قبضت) لا غير، ثم قال: (وجدته زيافاً) يكون القول قوله، كما تقرر في الحالة السابقة.
إلا أن ههنا إذا قال: (وجده ستوقة أو رصاصا ً) فإنه يصدق، بخلاف ما إذا قال: (قبضت الدراهم) ثم قال: (وجدتها ستوقة أو رصاصاً) فإنه لا يقبل قوله، لأن في قوله: (قبضت) إقراراً بمطلق القبض والستوقة تقبض، فإذا قال: (ما قبضته ستوقة) لا يكون مناقضاً دعواه، وفي قوله: (قبضت الدراهم) يصير مناقضاً لقوله: (قبضت الستوقة والرصاص) لأنه خلاف جنس الدراهم (1).
_________
(1) تحفة الفقهاء: 28/ 2 وما بعدها، وقد نقلنا ذلك منها دون تعديل لإيفائه بالغرض مع بساطة العبارة.

(5/3639)


......................... 2 .............................................

..................................... عقد الاستصناع .......................................
تمهيد:
لم يكن الإسلام في ماضيه وحاضره ومستقبله قيداً ثقيلاً على الناس في ممارسة حرياتهم الاقتصادية ومعاملاتهم وعقودهم، وإنما كان دائماً متجاوباً مع مصالح الناس في تشريعه وتجويزه كل ماكان محققاً لحاجاتهم، ومصالحهم المشروعة القائمة على الحق والعدل والتعادل في الأداءات المتقابلة في المبادلات أو المعاوضات، ومظهر هذا التجاوب واضح في أصول الاستنباط ومصادر الاجتهاد، وفي التطبيق الفعلي وواقع الاجتهاد الذي يمارسه المجتهدون في نطاق مايسمى بالفقه: وهو استنباط أحكام الحوادث والقضايا العملية من الأدلة التفصيلية، كلاً على حدة.
ومن أبرز الأمثلة على هذا الاتجاه الواقعي: مشروعية بعض العقود المتكررة في الحياة العملية على سبيل الاستثناء من النصوص أو القواعد العامة، كعقد السلم أو السلف، وعقد الاستصناع، تيسيراً على الناس في تحقيق حوائجهم، وتلبية لمطالبهم المشروعة دون حرج ولا إعنات ولا إرهاق، لأن (الحاجة تنزل منزلة الضرورة) و (المشقة تجلب التيسير) والإسلام دين اليسر لا العسر.
وإذا كان الاستصناع في الماضي وليد الحاجة الخاصة والصناعة اليدوية في مجال الجلود والأحذية والنجارة والأثاث المنزلي، فإنه في عصرنا الحاضر أصبح من العقود المحققة للحاجات العامة والمصالح الكبرى، كبناء السفن في أحواض واسعة، والطائرات والآلات المختلفة في مصانع ضخمة ومعقدة ودقيقة دقة تامة بالغة الأهمية، مما أدى إلى وجود قفزة رائعة لهذا العقد بين العقود التجارية.

(5/3640)


خطة البحث يتناول البحث محاور ثلاثة وهي ما يأتي:
ـ المحور الأول:
1 - تعريف الاستصناع 2 - معناه، هل هو مواعدة أو بيع؟
3 - دليل مشروعيته
4 - الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه
5 - حكمه وصفته
ـ المحور الثاني:
1 - الاستصناع والسلم
2 - العلاقة بين العقدين ـ وجه التطابق فيما بين العقدين
3 - شروط كل من الاستصناع والسلم
ـ المحور الثالث:
1 - أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية

(5/3641)


المحور الأوّل
تعريف الاستصناع:
الاستصناع في اللغة: طلب الصنعة، والصنعة: عمل الصانع في صنعته أي حرفته، كما جاء في المصباح المنير ومختار الصحاح والقاموس المحيط.
وهو في اصطلاح الفقهاء: طلب العمل من الصانع في شيء مخصوص على وجه مخصوص (1). أو هو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة (2)، أي العقد على شراء ما سيصنعه الصانع، وتكون العين أو مادة الصنعة والعمل من الصانع، فإذا كانت العين من المستصنع لا من الصانع، فإن العقد يكون إجارة لا استصناعاً. وبعض الفقهاء يقول: إن المعقود عليه هو العمل فقط، لأن الاستصناع طلب الصنع وهو العمل.
مثاله: أن يطلب المستصنع (وهو المشتري أو المستأجر) أحد أفراد الناس من الصانع (وهو البائع أو العامل) كنجار وحداد وحذّاء ونحوهم من أصحاب الحرف أو المهن أن يصنع له شيئاً معيناً بأوصاف محددة، كأثاث منزل أو مكتبة أو كراسي أو حلي وغيرها، على ثمن معلوم، إذا جرى فيه التعامل كالقلنسوة والخف والآنية ونحوها عملاً بالعرف (3).
_________
(1) رد المحتار لابن عابدين: 221/ 4.
(2) المجلة: م 124.
(3) البدائع: 209/ 5 ومابعدها.

(5/3642)


وينعقد الاستصناع بالإيجاب والقبول من المستصنع والصانع. ويقال للمشتري: مستصنع، وللبائع: صانع، وللشيء: مصنوع، كاتفاق شخصين على صنع أحذية أو آنية أو ثياب أو أثاث منزلي ونحو ذلك (1).
وهو عقد يشبه السلم (بيع آجل بعاجل) لأنه بيع لمعدوم، وأن الشيء المصنوع ملتزم عند العقد في ذمة الصانع البائع، ولكنه يفترق عنه من حيث إنه لا يجب فيه تعجيل الثمن (رأس المال) ولا بيان مدة الصنع والتسليم، ولا كون المصنوع مما يوجد في الأسواق.
ويشبه الإجارة أيضاً، لكنه يفترق عنها من حيث إن الصانع يضع مادة الشيء المصنوع من ماله.

معنى الاستصناع: هل هو مواعدة أو بيع؟ اختلف مشايخ أو فقهاء الحنفية في تخريج الاستصناع، أهو بيع أم وعد بالبيع، أم إجارة، وإذا كان بيعاً، هل المبيع هو العين المصنوعة أو العمل الذي قام به الصانع؟.
فقال الحاكم الشهيد المروزي والصفَّار ومحمد بن سَلَمة وصاحب المنثور: الاستصناع مواعدة، وإنما ينعقد بيعاً بالتعاطي عند الفراغ من العمل، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولايجبر عليه، بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل مايؤتى به، ويرجع عنه، ولاتلزم المعاملة.
والصحيح الراجح في المذهب الحنفي: أن الاستصناع بيع للعين المصنوعة لا
_________
(1) البدائع: 2/ 5، فتح القدير: 355/ 5، الفتاوى الهندية: 504/ 4، الدر المختار ورد المحتار: 222/ 4. عقد البيع للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 122.

(5/3643)


لعمل الصانع، فهو ليس وعداً ببيع ولا إجارة على العمل، فلو أتى الصانع بمالم يصنعه هو، أو صنعه قبل العقد بحسب الأوصاف المشروطة، جاز ذلك. والدليل أن محمد بن الحسن رحمه الله ذكر في الاستصناع القياس والاستحسان، وهما لا يجريان في المواعدة، ولأنه جوزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه تعامل، ولوكان مواعدة جاز في الكل، وسماه شراء فقال: إذا رآه المستصنع فهو بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره، ولأن الصانع يملك الدراهم بقبضها، ولو كان العقد مواعدة لم يملكها. وإثبات الخيار لكل من العاقدين لا يدل على أنه غير بيع، بدليل أنه في بيع المقايضة لو لم ير كل من العاقدين عين الآخر أي مبيعه، كان لكل منهما الخيار. وثبوت خيار الرؤية للمستصنع من خصائص البيوع، فدل على أن جوازه جواز البياعات، لاجواز العدات. ويترتب على كونه بيعاً أنه يجبر الصانع على عمله، ولا يرجع الآمر المستصنع عنه، ولو كان عدة لما لزم.
وقال أبو سعيد البرادعي: المعقود عليه هو العمل أو الصنع، لأن الاستصناع: طلب الصنع، وهو العمل. والراجح في الاجتهاد الحنفي أن المعقود عليه هو العين المستصنعة دون العمل، فلو جاء الصانع بالمطلوب بما يوافق الأوصاف المشروطة ورضي به المستصنع، جاز العقد، سواء أكان من صنعة غيره أم من صنعته قبل العقد، ولو كان المبيع العمل نفسه لما صح ذلك. قال الكاساني: ولو كان شرط العمل من العقد نفسه، لما جاز؛ لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي، والصحيح القول بأن المعقود عليه هو المبيع الذي شرط فيه العمل؛ لأن الاستصناع طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل، لا يكون استصناعاً، فكان مأخذ الاسم دليلاً عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سَلَماً، وهذا العقد يسمى استصناعاً، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في

(5/3644)


الأصل. وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي به المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (1).

ـ دليل مشروعية الاستصناع:
يرى فقهاء الحنفية (2) أن مقتضى القياس أو القواعد العامة ألا يجوز الاستصناع، لأنه بيع
المعدوم كالسَّلَم، وبيع المعدوم لا يجوز، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع ماليس عند الإنسان، فلا يصح بيعاً؛ لأنه بيع معدوم، ولا يمكن جعله إجارة، لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير، وذلك لايجوز، كما لو قال رجل لآخر: احمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا، بكذا، أو اصبغ ثوبك أحمر بكذا، لا يصح. وهذا قول زفر ومالك والشافعي وأحمد، لكن يصح الاستصناع عندهم على أساس عقد السلم، ويشترط فيه ما يشترط في السلم، ومن أهم شروطه: تسليم جميع الثمن في مجلس العقد، ولا مانع عند المالكية من تأجيله إلى يوم أو يومين، وذكروا أيضاً أنه يجب تحديد أجل لتسليم الشيء المصنوع كالسلم، وإلا فسد العقد، ويشترط أيضاً عندهم ألا يعين العامل الصانع، ولا الشيء المعمول المصنوع، كما تشترط بقية شروط السلم، وبناء عليه يفسد عقد الاستصناع ويفسخ في صور ثلاث: هي ألا يحدد وقت لتسليم الشيء المصنوع، وأن يعين العامل، أو يعين المعمول؛ لأنه يصبح حينئذ معيناً، لا في الذمة، وشرط صحة السلم ومثله الاستصناع: كون المسلم فيه ديناً في الذمة (3).
_________
(1) فتح القدير مع العناية: 355/ 5، البدائع: 2/ 5، 209، الدر المختار ورد المحتار، 222/ 4 ومابعدها.
(2) المبسوط 138/ 12 ومابعدها، البدائع2/ 5، 209، فتح القدير: 255/ 5.
(3) مواهب الجليل للحطاب 539/ 4 ومابعدها، الشرح الكبير: 217/ 3، الشرح الصغير: 287/ 3 ومابعدها.

(5/3645)


ويصح عند الشافعية حينئذ، سواء حدد فيه الأجل لتسليم الشيء المصنوع أم لا، بأن كان سلماً حالاًّ، والسلم الحالّ جائز عندهم (1).
وذهب الحنفية إلى أنه يجوز الاستصناع استحساناً، لتعامل الناس وتعارفهم عليه في سائر الأعصار من غير نكير، فكان إجماعاً من غير إنكار من أحد، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلّى الله عليه وسلم، «لا تجتمع أمتي على ضلالة» (2). وقال ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن» (3).
وقد استصنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتماً، واحتجم صلّى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، مع أن مقدار عمل الحجامة وعدد مرات وضع المحاجم ومصها غير لازم عند أحد، ومثله شرب الماء من السقاء، وسمع صلّى الله عليه وسلم بوجود الحمام فأباحه بمئزر، ولم يبين له شرطاً، وتعامل الناس بدخوله من لدن الصحابة والتابعين على هذا الوجه المعمول به الآن، وهو ألا يذكر مقدار الماء المستهلك ولا مدة المكث في الحمام، والمعدوم قد يعتبر موجوداً حكماً (4).

الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه:
اشترط الحنفية لجواز الاستصناع شروطاً ثلاثة إذا فاتت أو فات واحد منها
_________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 89، العرف والعادة للأستاذ الشيخ أحمد فهمي أبي سنة: ص 131 ومابعدها.
(2) رواه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير وابن أبي خيثمة عن أبي بصرة الغفاري مرفوعاً بلفظ «سألت ربي ألا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها» ورواه ابن ماجه عن أنس مرفوعاً بلفظ «إن أمتي لاتجتمع على ضلالة» وله روايات كثيرة (مجمع الزوائد: 177/ 1، 218/ 5، المقاصد الحسنة للسخاوي: ص460).
(3) حديث موقوف على ابن مسعود، وله طرق، رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله ثقات، ورواه أيضاً أبو داود والبيهقي، ورواه كذلك ابن عباس (نصب الراية: 133/ 4، مجمع الزوائد 177/ 4، المقاصد الحسنة: ص 367).
(4) المبسوط للسرخسي: 138/ 12 ومابعدها، البدائع: 2/ 5، 209، فتح القدير: 355/ 5.

(5/3646)


فسد العقد، وكان له حكم البيع الفاسد الذي ينقل الملكية بالقبض ملكاً خبيثاً لايجيز الانتفاع به ولا الاستعمال، ويجب إزالة سبب الفساد احتراماً لنظام الشرع، وهذه الشروط هي مايلي (1):
1 - بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته: لأنه مبيع، فلابد من أن يكون معلوماً، والعلم يحصل بذلك، فإذا كان أحد هذه العناصر مجهولاً، فسد العقد؛ لأن الجهالة المفضية للمنازعة تفسد العقد، وبناء عليه، إذا استصنع شخص إناء أو سيارة، بيّن في الإناء نوع المعدن وجنسه ومقاسه وحجمه وأوصافه وعدد الآنية المطلوبةإذا كانت متعددة، فإذا أخفى ذلك كله أو شيئاً منه، فسد العقد للجهالة. وكذلك في صنع السيارة تبين جميع المواصفات المطلوبة، منعاً من الجهالة والنزاع المنتظر عند تعارض المصنوع مع ما قد يترقبه المستصنع.
2 - أن يكون المصنوع مما يجري فيه تعامل الناس كالمصوغات والأحذية والأواني وأمتعة الدواب ووسائل النقل الأخرى، فلا يجوز الاستصناع في الثياب أو في سلعة لم يجر العرف باستصناعها كالدبس (مايخرج من العنب) لعدم تعامل الناس به، ويجوز ذلك على أساس عقد السَّلَم إذا استوفى شروط السَّلَم، فإذا توافرت فيه فسد استصناعاً وصح سلماً؛ لأن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني. ويصح السلم في غير المثلي كالثياب والبسط والحصر ونحوها، ويصح في عصرنا الحاضر الاستصناع في الثياب لجريان التعامل فيه، والتعامل يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة.
3 - ألا يذكر فيه أجل محدد: فإذا ذكر المتعاقدان أجلاً معيناً لتسليم
_________
(1) المبسوط: 139/ 12، البدائع: 3/ 5، 209ومابعدها، فتح القدير: 355/ 5، الدر المختار ورد المحتار 222/ 4 ومابعدها.

(5/3647)


المصنوع، فسد العقد وانقلب سَلَماً عند أبي حنيفة، فتشترط فيه حينئذ شروط السلم، مثل قبض جميع الثمن في مجلس العقد، وأنه لا خيار لأحد العاقدين إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في العقد. ودليله أن العاقد إذا حدد أجلاً فقد أتى بمعنى السلم، والعبرة في العقود لمعانيها، لا لصور الألفاظ. ولهذا إذا حدد أجل فيما لا يجوز الاستصناع فيه، كأن يستصنع حائكاً للنسج بغزل نفسه أو خيَّاطاً للخياطة بقماش من عنده، انقلب العقد سلماً.
والمراد بالأجل: شهر فما فوقه، فإن كان أقل من شهر، كان استصناعاً إن جرى فيه تعامل، أو كان القصد من الأجل الاستعجال بلا إمهال، كأن قال: على أن تفرغ منه غداً أو بعد غد، فإن قصد من الأجل الاستمهال والتأجيل، لم يصح استصناعاً، ولا يصح سلماً إذا كان الأجل دون شهر.
والخلاصة: أن المؤجل بشهر فأكثر سلم، والمؤجل بدونه إن لم يجر فيه تعامل فهو استصناع إلا إذا ذكر الأجل للاستعجال فصحيح.
وقال الصاحبان: ليس هذا بشرط، والعقد استصناع على كل حال، حدد فيه أجل أو لم يحدد؛ لأن العادة جارية بتحديد الأجل في الاستصناع، فيكون شرطاً صحيحاً لذلك. وهذا القول هو المتفق مع ظروف الحياة العملية، وحاجات الناس، فيكون هو الأولى بالأخذ به.
نصت المادة (389) من المجلة على ما يلي: «كل شيء تعومل استصناعه، يصح فيه الاستصناع على الإطلاق، وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة، صار سَلَماً، وتعتبر فيه حينئذ شروط السَّلَم، وإذا لم يبين فيه المدة، كان من قبيل الاستصناع أيضاً». وإذا حدد ت مدة لتقديم المصنوع، فانقضت دون أن يفرغ

(5/3648)


الصانع منه ويسلّمه، فالظاهر أن يتخير المستصنع بين الانتظار والفسخ، كما هو المقرر في عقد السلم (1).
الشروط اللاحقة:
اتفق الحنفية على أن الشرط اللاحق للعقد مثل الشرط الداخل في العقد عند تكوينه في الحكم، إن كان شرطاً صحيحاً، فإن كان شرطاً فاسداً التحق بالعقد وأفسده كالشرط الداخل في العقد تماماً في رأي أبي حنيفة. وقال الصاحبان: لايلتحق الشرط الفاسد بالعقد، بل يبقى العقد صحيحاً، ويلغو الشرط، حرصاً على سلامة العقد الذي وجد.

حكم الاستصناع وصفته:
حكم الاستصناع هنا: هو الأثر المترتب عليه، وللاستصناع الأحكام التالية (2):
1 - حكم الاستصناع بمعنى الأثر النوعي أو الجوهري المترتب عليه: هو ثبوت الملك للمستصنع في العين المصنوعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في البدل المتفق عليه.
2 - صفة هذا الحكم أو صفة عقد الاستصناع: أنه عقد غير لازم قبل الصنع، وبعد الفراغ من الصنع، في حق الصانع والمستصنع معاً، فيكون لكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه قبل رؤية المستصنع الشيء المصنوع،
_________
(1) عقد البيع للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 123 ف 145.
(2) المبسوط: 139/ 12، فتح القدير: 356/ 5، البدائع: 3/ 5، 210، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 223/ 4.

(5/3649)


فلو باع الصانع الشيء المصنوع قبل أن يراه المستصنع، جاز؛ لأن العقد غير لازم، والمعقود عليه ليس هو عين المصنوع وإنما مثله في الذمة.
3 - إذا جاء الصانع بالشيء المصنوع إلى المستصنع سقط خياره؛ لأنه رضي بكونه للمستصنع، حيث جاء به إليه، فيكون حكم الاستصناع في حق الصانع ثبوت الملك اللازم إذا رآه المستصنع، ورضي به، ولا خيار له، وهذا في ظاهر الرواية.
وأما المستصنع فحكم العقد بالنسبة إليه إذا أتى الصانع بالمصنوع على الصفة المشروطة: هو ثبوت الملك غير لازم في حقه، فإذا رآه فله الخيار: إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، وفسخ العقد عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه اشترى شيئاً لم يره، فكان له خيار الرؤية، بخلاف الصانع فهو بائع ما لم يره، فلا خيار له.
وقال أبو يوسف: العقد لازم إذا رأى المستصنع الشيء المصنوع ولا خيار له، إذا جاء موافقاً للصفة أو الطلب والشروط، لأنه مبيع بمنزلة المسلم فيه، فليس له خيار الرؤية، لدفع الضرر عن الصانع في إفساد المواد المصنوعة التي صنعها وفقاً لطلب المستصنع، وربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة. ونوقش هذا الرأي بأن ضرر المستصنع بإبطال الخيار له أكثر من ضرر الصانع، إذ لا يتعذر على الصانع بيع المصنوع على أية حال، لأنه إذا لم يرض به المستصنع، يبيعه من غيره بمثل قيمته، وذلك ميسر عليه لكثرة ممارسته. ويجاب عنه بأن احتمال البيع الجديد مجرد أمل، ويغلب الضرر بالصانع، فيجب القول بلزوم البيع دفعاً للضرر عنه.
لذا أخذت المجلة برأي أبي يوسف، فقررت في المادة (392): أن عقد الاستصناع ينعقد لازماً، فليس لأحد الطرفين الرجوع، ولو قبل الصنع، إلا أنه إذا

(5/3650)


جاء المصنوع مغايراً للأوصاف المشروطة، يتخير المستصنع بفوات الوصف (1).
وفي تقديري أن هذا الرأي الذي أخذت به المجلة سديد جداً، منعاً من وقوع المنازعات بين المتعاقدين، ودفعاً للضرر عن الصانع، إذ إن أغراض الناس تختلف باختلاف الشيء المصنوع حجماً ونوعاً وكيفية، ولأن هذا الرأي يتفق مع مبدأ القوة الملزمة للعقود بصفة عامة في الشريعة، ويتناسب مع الظروف الحديثة التي يتفق فيها على صناعة أشياء خطيرة وغالية الثمن كالسفن والطائرات، فلا يعقل والحالة هذه أن يكون عقد الاستصناع فيها غير لازم.
4 - لا يتعلق حق المستصنع في الشيء المصنوع إلا بعرضه عليه من قِبَل الصانع، وعلى هذا فإن للصانع أن يبيع المصنوع من غير المستصنع قبل عرضه عليه، كما تقدم بيانه.
_________
(1) نص المادة المذكورة هو: «إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة، كان المستصنع مخيّراً.

(5/3651)


المحور الثّاني
الاستصناع والسّلم:
الاستصناع كما عرفناه: عقد مع ذي صنعة على عمل شيء معين وتكون مادة الصنع من الصانع، كاستصناع أحذية أو آنية بشرط وصف المصنوع في العقد بما يزيل الجهالة.
والسلم أو السلف: بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة، أي إنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المبيع (المثمن) لأجل، أوهو أن يسلم عوضاً حاضراً في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، كأن يشتري تاجر من فلاح أو مزارع عشرة أطنان حنطة من ولاية كذا أو محافظة كذا تسلّم عند الحصاد بمبلغ معين من المال يدفع كله نقداً في مجلس العقد، ويتأجل تسليم المبيع غير الموجود عند العقد إلى وقت معين في المستقبل.

العلاقة بين العقدين ـ وجه التطابق فيما بين العقدين:
يشترك الاستصناع والسلم في أن كلاً منهما بيع لشيء معدوم، أجيز للحاجة إليه، وتعامل الناس به، إلا أن الباعث على عقد السَّلَم شدة حاجة البائع إلى نقود ينفقها على نفسه وأهله أوعلى إنتاجه الزراعي، وهو لا يملك ذلك آنياً، لذا سمي (بيع المفاليس) وأما الاستصناع فهو عقد تجاري يحقق الربح للبائع الصانع، ويلبي حاجة المستصنع، فيكون الباعث الدافع عليه حاجة المستصنع.

(5/3652)


وهناك فروق بين العقدين أوجزها فيما يلي:
أولاً ـ أن المبيع في السلم دين (هو ما يثبت في الذمة) تحتمله الذمة، فهو إما مكيل أو موزون أو مذروع أو عددي متقارب كالجوز والبيض، أما المبيع في الاستصناع فهو عين (أي ما يتعين بالتعيين أو الشيء المعين المشخّص بذاته أو هي المال الحاضر) لا دين، كاستصناع أثاث (مفروشات منزلية) أو حذاء، أو إناء.
ثانياً ـ يشترط في السلم وجود أجل، فهو لا يصح عند الجمهور (غير الشافعية) إلا لأجل كشهر فما فوقه، على عكس الاستصناع في اجتهاد أبي حنيفة رحمه الله، فإن حدد فيه أجل انقلب سلماً، ولا خيار شرط في السلم، وقال الصاحبان: يصح الاستصناع لأجل أو لغير أجل، لأن عرف الناس تحديد الأجل فيه، كما تقدم. وأجاز الشافعية السلم الحال، خلافاً لغيرهم.
ثالثاً ـ عقد السلم لازم لا يجوز فسخه بإرادة أحد العاقدين، وإنما بتراضيهما واتفاقهما معاً على الفسخ، وأما الاستصناع فقد عرفنا أنه عقد غير لازم يجوز لأي طرف من العاقدين فسخه في ظاهر الرواية، ويسقط خيار الصانع إذا أحضره على الصفة المشروطة، وللمستصنع الخيار.
رابعاً ـ يشترط في عقد السلم قبض رأس مال السلم كله في مجلس العقد، ولا يشترط قبضه في الاستصناع، ويكتفي الناس عادة بدفع عربون أو جزء من الثمن كالنصف أو الثلث مثلاً، عملاً بمذهب الحنابلة، ويعد هذا الفرق من الناحية العملية أهم الفروق.

شروط كل من الاستصناع والسلم:
لابد في كل من العقدين من العلم بالثمن جنساً ونوعاً وقدراً وصفة، وإلا

(5/3653)


كان العقد فاسداً بسبب الجهالة، وينفرد السلم عند الجمهور باشتراط تعجيل رأس المال (الثمن) وقبضه فعلاً في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين أنفسهما، وأجاز الإمام مالك تأخير قبض رأس المال إلى ثلاثة أيام فأقل؛ لأن ذلك التأخير لهذه المدة القريبة في حكم المعجل، لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه. ولا يشترط في عقد الاستصناع تعجيل رأس المال أو الثمن، وإنما يدفع عادة عند التعاقد ولو في غير مجلس العقد جزء من الثمن، ويؤخر الباقي لحين تسليم الشيء المصنوع.
أما المعقود عليه (المبيع المسلم فيه في عقد السلم، والمصنوع في عقد الاستصناع) فلا بد في كلا العقدين من العلم بجنسه ونوعه وقدره وصفته؛ لأن كلاً منهما مبيع، والمبيع يشترط كونه معلوماً غير مجهول.
ولا يجوز اشتمال كلا العقدين على الربا، كأن اتحد الثمن والمبيع في الجنس كبُر ببر، أو شعير بشعير طبيعي أو مصنَّع (مجروش مثلاً) مع التفاضل في ربا الفضل، أو نسيئة مؤجلاً من غير تفاضل مع تأخير التقابض في الأموال الربوية (الأصناف الستة المعروفة في الحديث النبوي وما في معناها) (1).
ولا يثبت خيار الشرط في السلم، وإنما لا بد من أن يكون العقد باتاً لا خيار فيه، أما الاستصناع فهو عقد غير لازم يثبت الخيار فيه قبل العمل أو الصنع، وكذا عند أبي حنيفة ومحمد بعد الفراغ من الصنع، وذهب أبو يوسف إلى لزوم العقد بعد الصنع والرضا به كما تقدم.
أما خيار الرؤية وخيار العيب فيثبت كل منهما في رأس مال السلم إذا كان عيناً قيمية أو مثلية، وأما في المسلم فيه فلا يثبت خيار الرؤية فيه باتفاق الحنفية حتى
_________
(1) وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح.

(5/3654)


لا يعود ديناً كما كان، ويصح ثبوت خيار العيب في المسلم فيه؛ لأنه لا يمنع تمام القبض الذي تتم به الصفقة.
ولا بد في كلا العقدين من بيان مكان الإيفاء إذا كان للمبيع كلفة ومؤونة في رأي أبي حنيفة، ويتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء في رأي الصاحبين.
ويشترط في عقد السلم عند الحنفية كون جنس المسلم فيه (المبيع) موجوداً في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم ولايتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب، ولا يشترط ذلك في عقد الاستصناع. ولم يشترط باقي المذاهب أو الجمهور هذا الشرط في السلم، ويكفي وجود جنس المسلم فيه عند حلول أجل التسليم.
ويشترط الحنفية والشافعية والحنابلة إمكان ضبط المسلم فيه بالصفات بأن يكون من المثليات (المكيلات أو الموزونات أو الذرعيات أو العدديات المتقاربة) كالأقمشة والمعادن والرياحين اليابسة والجذوع إذا بيَّن طولاً وعرضاً وغلظاً، ولا يصح السلم فيما لا يمكن ضبطه بالوصف كالدور والعقارات والجواهر واللآلئ والجلود والخشب، لتفاوت آحادها تفاوتاً فاحشاً في المالية، أما الاستصناع فيصح في الأمرين إذا تعامل الناس به. وصحح المالكية السلم فيما ينضبط ومالا ينضبط بالوصف. وأجاز الحنفية استحساناً السلم في بعض الأشياء غير المثلية أيضاً كالثياب والبسط والحصر ونحوهما كما تقدم.
ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا اشترط فيه المشتري (رب السلم) مَلْبناً معلوماً، لأنه إذا سمي المَلْبن، صار التفاوت بين لبن ولبن يسيراً، فيكون ساقط الاعتبار، فيلحق بالعددي المتقارب.

(5/3655)


ويصح السلم فيما جرى به التعامل أو لم يجر فيه التعامل، أما الاستصناع فضابطه أنه يصح في كل ما يجري فيه التعامل فقط، ولا يجوز فيما لا تعامل لهم فيه، كما إذا أمر حائكاً أن يحوك له ثوباً بغزل نفسه، ونحو ذلك مما لم تجر عادات الناس بالتعامل فيه؛ لأن جوازه، مع أن القياس يأباه ثبت بتعامل الناس، فيختص بما لهم فيه تعامل، ويبقى الأمر فيما وراء ذلك متروكاً إلى القياس، لكن جرى التعامل في عصرنا باستصناع الثياب، فيكون جائزاً؛ لأن جريان التعامل يختلف باختلاف البلدان والأزمنة.

(5/3656)


المحور الثّالث
أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصّناعية:
لقد أدى الاستصناع في الماضي دوراً مهماً في الحياة العملية، فأفاد الصانع الذي قدَّم في صنعته خبرة معينة ومهارة فائقة، وأضفى على مادة الصنعة التي يقدمها من نفسه فنا خاصاً وإبداعاً جديداً، واستطاع بذلك إدخال تطوير وتعديل على صنعته، وأفاد المستصنع الذي استطاع من خلال الاستصناع الحصول على ما يرغب فيه وإرضاء ذوقه وتحقيق مصلحته على وفق المقاييس المناسبة له والفنون التي يتصورها ويتأمل توافرها لديه.
ثم انتشر الاستصناع انتشاراً واسعاً في العصر الحديث، فلم يعد مقصوراً على صناعة الأحذية والجلود والنجارة والمعادن والأثاث المنزلي من مفروشات وغيرها من الخزائن والمقاعد والمساند والصناديق، وإنما شمل صناعات متطورة ومهمة جداً في الحياة المعاصرة كالطائرات والسفن والسيارات والقطارات وغيرها، مما أدى إلى تنشيط الحركة الصناعية ونمو حركة المصانع والمعامل اليدوية والآلية، وقد أسهم كل ذلك بنحو واضح في رفاه الأفراد والمجتمعات وتوفير حاجات الدول ومصالحها.
ولم يقتصر الأمر على الصناعات المختلفة ما دام يمكن ضبطها بالمقاييس والمواصفات المتنوعة، وإنما يشمل أيضاً إقامة المباني وتوفير المساكن المرغوبة، وقد ساعد كل ذلك في التغلب على أزمة المساكن. ومن أبرز الأمثلة والتطبيقات لعقد

(5/3657)


الاستصناع بيع الدور والمنازل والبيوت السكنية على الخريطة ضمن أوصاف محددة، فإن بيع هذه الأشياء في الواقع القائم لا يمكن تسويغه إلا على أساس الوعد الملزم بالبيع أو على عقد الاستصناع، ويعد العقد صحيحاً إذا صدرت رخصة البناء، ووضعت الخريطة، وذكرت في شروط العقد مواصفات البناء، بحيث لا تبقى جهالة مفضية إلى النزاع والخلاف، وقد أصبح من السهل ضبط الأوصاف، ومعرفة المقادير، وبيان نوع البناء، سواء بيع البناء على الهيكل، أم مكسياً كامل الكسوة، مع الاتفاق على شروط الكسوة، وأوصافها، من النوع الجيد أو الوسط أو العادي. ويتم تسديد الثمن عادة على أقساط ذات مواعيد محددة، وتحتسب الأقساط جزءاً من الثمن، فلا زكاة فيها إلا إذا فسخ العقد. أما مدة التسليم فيكون ذكرها عادة على سبيل الاستعجال والتقريب الزمني والحث على الإنجاز في وقت معقول، لأن المتعاقدين يقدران تماماً مدى المشكلات والعوائق التي تعترض التنفيذ في وقت محدد. ويصعب تصحيح هذا العقد على أساس عقد السلم؛ لأن الثمن يشترط دفعه كله عند العقد. ثم إن الدولة تعترف عادة بأن البيع على الخريطة بيع صحيح لازم.
وأما في مجال المقاولات التي يتم فيها عادة الاتفاق على مدة التسليم والإلزام بغرامات معينة عند التأخير، فهوأي التغريم جائز أيضاً وداخل تحت مفهوم ما يسمى قانوناً بالشرط الجزائي، وقد أقره القاضي شريح، وأيده قرار هيئة كبار العلماء في السعودية سنة 1394 هـ، قال شريح: «من شرط على نفسه طائعاً غير مكره، فهو عليه» (1).
_________
(1) أعلام الموقعين 400/ 3، ط محي الدين عبد الحميد.

(5/3658)


..................... 3 ........................................

....................................... عقد الصرف ....................................
تعريف الصرف:
الصرف لغة: الزيادة، ومنه سميت العبادة النافلة صرفاً، قال صلّى الله عليه وسلم: «من انتمى إلى غير أبيه لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» (1) أي لا نفلاً ولا فرضاً.
وشرعاً: هو بيع النقد بالنقد جنساً بجنس أو بغير جنس: أي بيع الذهب بالذهب، أو الفضة
بالفضة أو الذهب بالفضة، مصوغاً أو نقداً (2).
_________
(1) وقال صاحب القاموس: الصرف في الحديث: التوبة، والعدل: الفدية. وهذا الحديث رواه الطبراني عن عمرو بن عوف، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من تولى غير مواليه فعليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، لايقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، لاقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» قال الهيثمي: وفيه كثير بن عبد الله، والجمهور على تضعيفه، وقد حسن له الترمذي حديثاً (انظر مجمع الزوائد: 285/ 6) ورواه الطبراني أيضاً عن خارجة بن عمرو الجمحي بلفظ «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة» وفيه عبد الملك بن قدامة الجمحي وثقة ابن معين، وضعفه الناس (مجمع الزوائد: 214/ 4) وراجع خطبة حجة الوداع. وقد ورد في معناه أحاديث كثيرة منها: مارواه أبو داود عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة» (راجع فيض القدير شرح الجامع الصغير: 46/ 6، مجمع الزوائد: 97/ 1) وروى البخاري في صحيحه (50/ 3) عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلم: قال: «من تولى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايقبل منه صرف ولا عدل» والعدل: الفداء.
(2) فتح القدير مع العناية: 284/ 5، 368، البدائع: 215/ 5، رد المحتار: 244/ 4. وعرفه الحنابلة والشافعية بقولهم: هو بيع النقد بالنقد من جنسه وغيره (مغني المحتاج: 25/ 3، غاية المنتهى: 59/ 2) وفرق المالكية بين الصرف والمراطلة، فقالوا: الصرف: هو بيع النقد بنقد مغاير لنوعه، وأما المراطلة: فهي بيع النقد بنقد من نوعه (حاشية الدسوقي: 2/ 3). وهو جائز؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز بيع الأموال الربوية ببعضها عند اتحاد الجنس مع المماثلة، أو عند اختلاف الجنس، ولو مع التفاضل، بأن كان يداً بيد.

(5/3659)


وشرائطه إجمالاً أربعة: التقابض قبل افتراق المتعاقدين، والتماثل، وألا يكون فيه خيار ولا تأجيل.
1 - التقابض قبل الافتراق بالأبدان بين المتعاقدين: يشترط في عقد الصرف قبض البدلين جميعاً قبل مفارقة أحد المتصارفين للآخر افتراقاً بالأبدان، منعاً من الوقوع في ربا النسيئة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، يداً بيد» (1) وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا منهما غائباً بناجز» (2) فإن افترق المتعاقدان قبل قبض العوضين أو أحدهما، فسد العقد عند الحنفية وبطل عند غيرهم لفوات شرط القبض، ولئلا يصير العقد بيعاً للكالئ بالكالئ أي الدين بالدين فيحصل الربا: وهو الفضل في أحد العوضين (3)، والتقابض شرط سواء اتحد الجنس أو اختلف.
تفسير الافتراق بالأبدان: هو أن يفترق العاقدان بأبدانهما عن مجلس العقد، فيتجه هذا في جهة، وهذا في جهة، أو يذهب أحدهما ويبقى الآخر. فإن
_________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري من حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (راجع نصب الراية: 4/ 4).
(2) لهذا اللفظ رواية عند مالك في الموطأ عن عمر رضي الله قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الورِق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز» وورد نص الحديث عند أحمد والشيخين عن أبي سعيد الخدري بلفظ «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تُشفّوا (أي لاتفضلوا) بعضها على بعض، ولاتبيعوا الوَرِق بالورِق إلا مثلاً بمثل، ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منهما غائباً بناجز» (راجع نصب الراية: 56/ 4، نيل الأوطار: 190/ 5).
(3) المراجع السابقة، فتح القدير: 5 ص 369 - 371.

(5/3660)


بقيا في مجلسهما لم يبرحا عنه، لم يحصل الافتراق وإن طال مجلسهما لانعدام التفرق بالأبدان، كذلك لا يحصل التفرق إن ناما في المجلس أو أغمي عليهما أو قاما عن المجلس فذهبا معاً في جهة واحدة وطريق واحدة ومشيا ميلاً أو أكثر ولم يفارق أحدهما صاحبه، فلا يعتبران مفترقين؛ لأن العبرة لتفرق الأبدان ولم يوجد ذلك (1).

2 - التماثل عند اتحاد الجنس: إذا بيع الجنس بالجنس كفضة بفضة، أو ذهب بذهب، فلا يجوز إلا مثلاً بمثل وزناً، وإن اختلفا في الجودة والصياغة بأن يكون أحدهما أجود من الآخر أو أحسن صياغة (2) لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل» أي يباع الذهب بالذهب مثلاً بمثل في القدر، لا في الصفة، للقاعدة الشرعية: «جيدها ورديئها سواء» (3).
3 - أن يكون العقد باتاً أو ألا يكون فيه خيار شرط: لا يجوز في عقد الصرف اشتراط الخيار لكل من المتعاقدين أو لأحدهما؛ لأن القبض في هذا العقد شرط. وخيار الشرط يمنع ثبوت الملك أو تمامه على الخلاف الذي ذكر في مبحثه، والخيار يخل بالقبض المشروط: وهو القبض الذي يحصل به التعيين، فلو شرط هذا الخيار فسد العقد. ولو أسقط صاحب الخيار خياره في المجلس، ثم افترق المتعاقدان عن تقابض، ينقلب العقد إلى الجواز، خلافاً لزفر، فإذا بقي حتى افترقا تقرر الفساد.
_________
(1) البدائع: 215/ 5.
(2) المراجع السابقة، فتح القدير: ص 369، البدائع: ص 216، رد المحتار: ص 245.
(3) قال الزيلعي عن هذا الحديث: غريب ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» (راجع نصب الراية: 36/ 4).

(5/3661)


هذا بخلاف خيار الرؤية والعيب، فإن كلاً منهما لا يمنع ثبوت الملك في المبيع، فلا يمنع تمام القبض، فلو افترق العاقدان، وفي الصرف خيار عيب أو رؤية جاز، إلا أنه لا يتصور في بيع النقد وسائر الديون خيار رؤية؛ لأن العقد ينعقد على مثلها، لاعينها (1).

4 - التنجيز في العقد أو ألا يكون فيه أجل: يشترط أن يكون عقد الصرف خالياً عن الأجل لكل من المتعاقدين أو لأحدهما، وإلا فسد الصرف؛ لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق، كما عرفنا، والأجل يؤخر القبض، فيفسد العقد، فإن أبطل صاحب الأجل أجله قبل الافتراق، ونفذ ما عليه، ثم افترقا عن تقابض، ينقلب العقد جائزاً خلافاً لزفر (2).
ويلاحظ أن الشرطين الأخيرين متفرعان عن شرط القبض الواجب في بدلي الصرف بناء على ما يشترط في مبادلة الأموال الربوية. ولم يجز المالكية وغيرهم الوكالة في قبض بدل الصرف ولا الإحالة على المشهور لأجل التأخير، إذا كان قبض الوكيل أو المحال في غيبة الموكل والمحيل على الراجح (3). والدليل على اشتراط عدم التأجيل: أحاديث الربا المتقدمة التي توجب التقابض يداً بيد في بدلي الأموال الربوية. وحديث أبي المنهال عند الشيخين: «ما كان يداً بيد فلابأس به، وما كان نسيئه فهو ربا».

ما يترتب على اشتراط قبض البدلين في مجلس عقد الصرف قبل الافتراق:
إذا كان لا بد من قبض عوضي الصرف قبل افتراق العاقدين عن المجلس،
_________
(1) مختصر الطحاوي: ص 75، فتح القدير: 367/ 5، البدائع: 219/ 5، الدر المختار: 246/ 4.
(2) المراجع السابقة.
(3) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 49/ 3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 250.

(5/3662)


فإنه يترتب عليه عدم جواز الإبراء أو الهبة أو الاستبدال أو المقاصة بثمن الصرف على التفصيل الآتي (1):

1 - الإبراء أو الهبة: إذا تصارف اثنان ديناراً بدينار، وسلم أحدهما الدينار لمستحقه، ثم أبرأ صاحبه عن ديناره أو وهبه له أو تصدق عليه به:
فإن قبل المبرأ أو الموهوب له ما أبرئ منه أو وهب له، سقط التزامه بالدين، وبطل الصرف؛ لأن الإبراء عن الدين يترتب عليه عدم تحقق القبض، وبما أن القبض في عقد الصرف لازم شرعاً، ولم يحصل هنا بسبب الإبراء، فإنه يؤدي إلى بطلان العقد لعدم حصوله.
وإن لم يقبل المبرأ البراءة، لم يصح الإبراء ويبقى عقد الصرف على حاله؛ لأن قبض البدل مستحق، والإبراء عن الدين إسقاطه، وإذا سقط الدين لا يتصور قبضه، وبما أن الإبراء يؤدي إلى هذه النتيجة، فهو في معنى فسخ العقد، والفسخ لا يصح إلا بتراضي العاقدين، فلا يثبت بإرادة منفردة من أحد العاقدين بعد انعقاد العقد صحيحاً، وإذا لم يصح الإبراء بقي عقد الصرف على حاله، فيتم بتقابض البدلين في المجلس قبل الافتراق.
ولو امتنع المبرئ أو الواهب أو المتصدق أن يأخذ ما أبرأ أو وهب أو تصدق به، فإنه يجبر على القبض، لأنه بامتناعه عن القبض يفسد العقد أو يفسخ، وأحد المتعاقدين لا ينفرد بالفسخ أو إفساد عقد الغير.

2 - الاستبدال ببدل الصرف: لو استبدل أحد المتصارفين شيئاً ببدل
_________
(1) راجع البدائع: 218/ 5.

(5/3663)


الصرف، كأن أعطى عن الدينار شيئاً بخلاف جنسه، أو باع أو وهب ما استحقه من بدل الصرف قبل قبضه، فلا يجوز، ويبقى الصرف على حاله؛ لأن قبض بدل الصرف شرط شرعي لبقاء العقد صحيحاً، وبما أن بدل الشيء غير الشيء، فإنه يترتب على الاستبدال تفويت القبض حقيقة أي عدم تحقق القبض المطلوب شرعاً.
وإذا لم يصح الاستبدال بقي عقد الصرف على حاله، فإن كان قد تم قبض أحد البدلين فيجب قبض البدل الآخر بعينه. وإن أدى أحد العاقدين الآخر أجود من حقه، أو أردأ منه لكن من جنس حقه ورضي به المدفوع له، فإنه يجوز، ولا يعتبر الأداء استبدالاً؛ لأن المقبوض من جنس حقه أصلاً، إلا أنه أنقص منه في الوصف، والجيد والرديء في الأموال الربوية سواء، وبما أن المدفوع له رضي به أسقط حقه في الجيد، فكان ذلك استيفاء لا استبدالاً.
وعلى هذا إن أخذ صاحب الحق عن الدينار الذي يحق له ديناراً أردأ منه، أو زائفاً، ونحوها من كل مقبوض يتفق في الأصل مع الشيء الواجب في المعاوضات بين الناس، فإنه يصح. ويبطل تبايع النقد من مشتر إلى آخر أو بالهاتف قبل القبض.

3 - الحوالة ببدل الصرف والكفالة والرهن به: يجوز لأحد المتصارفين أن يحيل صاحبه على رجل آخر لقبض حقه بشرط أن يكون المحال عليه حاضراً في مجلس العقد، وكذلك يجوز له أن يقدم رهناً لصاحبه ببدل الصرف، ويصح له أيضاً تقديم كفيل عنه يكفله بوفاء الحق. ولكن يشترط في هذه الحالات أن يتم فعلاً استيفاء الحق في مجلس عقد الصرف إما بالتسليم الفعلي في الحوالة والكفالة، أو

(5/3664)


من طريق تحمل تبعة هلاك المرهون إذا هلك في يد المرتهن. وهذا متفق عليه فقهاً (1).
وهذا المعنى هو ما قرره فقهاء الحنفية فإنهم قالوا: إن قبض صاحب الحق حقه من المحال عليه، أو من الكفيل، أو هلك الرهن في يد المرتهن في مجلس عقد الصرف، يكن الصرف صحيحاً على حاله. وإن افترق المتصارفان قبل تمام القبض أو لم يهلك الرهن بطل الصرف. والعبرة في بقاء مجلس العقد لبقاء نفس العاقدين فيه وافتراقهما عنه، ولا عبرة ببقاء المحال عليه أو الكفيل مع صاحب الحق ما لم يقبض حقه قبل مفارقة صاحبه المجلس؛ لأن قبض الحق من حقوق العقد، فيتعلق بنفس العاقدين، فيعتبر مجلسهما إذن.
ولو وكل كل واحد من العاقدين رجلاً أن ينقد عنه، يعتبر مجلس الموكلين بقاءً وافتراقاً لا مجلس الوكيل؛ لأن القبض من حقوق العقد فيتعلق بالعاقدين كما تبين.
وهذه الأحكام المقررة هنا هي نفسها التي ذكرت في الحوالة برأس مال السلم على رجل حاضر في المجلس، والكفالة به، والرهن به، وبالمسلم فيه أيضاً، وذلك أثناء بيان الفروق بين عقدي السلم والبيع.

4 - المقاصة في ثمن الصرف ورأس مال السلم:
المقاصة لغة: هي المساواة والمماثلة، ومنه القصاص وهو معاقبة الجاني بمثل جنايته. وعند الفقهاء هي بمعناها اللغوي مع قيود معينة، وقد عرفها بعض المالكية بقوله: هي إسقاط مالك من دين على غريمك في نظير ماله عليك. وعرفها ابن
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 250.

(5/3665)


جزي بقوله: هي اقتطاع دين من دين (1)، وهي نوعان: مقاصة جبرية، ومقاصة اختيارية أو اتفاقية.
مثال المقاصة الجبرية التي تقع بنفسها: أن يكون لمدين عند دائنه مثل ما له عليه من الدين جنساً وصفة وحلولاً، فتقع المقاصة بينهما ويتساقط الدينان إن كانا متساويين في المقدار، أو يسقط من الدينين مقدار متماثل إن تفاوتا في القدر، فيسقط من الأكثر بقدر الأقل وبقيت الزيادة.
وللمقاصة الجبرية شروط أربعة هي:
1 - تلاقي الحقين، أي أن يكون الشخص دائناً بالنسبة لآخر ومديناً له.
2 - تماثل الدينين، أي اتحادهما جنساً ونوعاً وصفة في الحلول والتأجيل والجودة والرداءة ونحوها.
3 - انتفاء الضرر، أي ألا يترتب على وقوعها ضرر لأحد كالمدين أو المرتهن الذي تعلق حقه بالعين، أو باقي الغرماء.
4 - ألا يترتب عليها محظور شرعي كالافتراق قبل قبض رأس مال السلم، والتصرف في المسلم فيه قبل قبضه، وعدم التقابض في الصرف وفي الربويات التي يجب أن تكون يداً بيد ..
وقد قال جمهور الفقهاء بوقوع المقاصة الجبرية بنفسها إذا توافرت شروطها، ولم يقرها فقهاء المالكية.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 292.

(5/3666)


ومثال المقاصة الاتفاقية وهي التي تتم بتراضي صاحبي الحق: أن يكون لواحد دين وللآخر عين، فيتفق الطرفان على عدم مطالبة أحدهما غيره بحقه. والمالكية يقولون بالمقاصة الاتفاقية إذا اختلف الجنس أو اختلفت الأوصاف ما لم يترتب على ذلك محظور ديني. ومن المعلوم أن أئمة المذاهب الأربعة يعتبرون النقدين (الذهب والفضة وما يماثلهما من الدنانير والدراهم) جنسين مختلفين، فتجوز المقاصة الاتفاقية بينهما عند المالكية لأنهم يقولون بالمقاصة عند اختلاف الجنس (1). وأما وحدات النقد المتعامل بها في عصرنا الحاضر سواء أكانت أوراقاً أم مسكوكة من الذهب أم الفضة الخالصين أم المخلوطين أم المسكوكة من غيرهما كالنحاس وهي المسماة فلوساً، فإنها تعد جنساً واحداً في باب المقاصة، عملاً بالعرف وبرأي ابن أبي ليلى وهو اختيار بعض مشايخ الحنفية (2).
وبعد هذه المقدمة نبحث حكم المقاصة في عقدي الصرف والسلم.
أما في عقد الصرف: فلو تصارف اثنان بأن باع أحدهما للآخر ديناراً بعشرة دراهم، وسلمه الدينار، ولم يقبض العشرة الدراهم، وكان لمشتري الدينار على
_________
(1) انظر بحث المقاصة في الفقه الإسلامي للأستاذ محمد سلام مدكور: ص 4، 13، 23، 51، 55، 77، 85، 97 وما بعدها، القوانين الفقهية، المكان السابق، غاية المنتهى للشيخ مرعي الحنبلي: 82/ 2.
(2) ذكر ابن عابدين طائفة من مسائل المقاصة الاتفاقية فقال: لو كان للوديع على صاحب الوديعة دين من جنسها لم تصر قصاصاً به إلا إذا اتفقا عليه، وكانت الوديعة في يده، والمغصوب كالوديعة. وكذلك لا تقع المقاصة ما لم يتقاصا لو كان الدينان من جنسين مختلفين أو متفاوتين في الوصف أو مؤجلين أو أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً .. وإذا اختلف الجنس وتقاصا كما لو كان له عليه مئة درهم وللمديون مئة دينارعليه، فإذا تقاصا تصير الدراهم قصاصاً بمئة من قيمة الدنانير، ويبقى لصاحب الدنانير على صاحب الدراهم ما بقي منها. ودين النفقة للزوجة لا يقع قصاصاً بدين للزوج عليها إلا بالتراضي بخلاف سائر الديون، لأن دين النفقة أدنى (رد المحتار: 250/ 4).

(5/3667)


بائعه عشرة دراهم، فأراد المقاصة، فهل تقع؟ هنا ثلاث حالات (1):
إحداها: أن يثبت الدين بسبب قبل حدوث عقد الصرف: كأن كانت هذه الدراهم العشرة واجبة ديناً على البائع قبل إجراء عقد الصرف بسبب من الأسباب التي تعتبر مصادر للالتزام كالقرض أو الغصب، أو الشراء، أي ثمناً لمبيع. فإذا أراد المتصارفان إجراء المقاصة بأن يجعل مقابل الدينار وهو العشرة الدراهم قصاصاً بالدين الثابت في ذمة البائع المتصارف، جاز الفعل استحساناً إن تراضيا على المقاصة أي لا بد من المقاصة الاتفاقية. وأما قياساً فلا يجوز وهو قول زفر. فإن لم يتفقا على إجراء المقاصة بأن أباها أحدهما، لم تقع المقاصة باتفاق الحنفية.
أما وجه القياس: فهو أن المطلوب في عقد الصرف قبض بدل الصرف بعينه، وبالمقاصة يحصل استبدال ببدل الصرف؛ لأن الذي وجب على المتصارف بالصرف غير الذي كان عليه، وبالتقاص يأخذ المتصارف ما في ذمته بدل ما وجب عليه من ثمن الدينار، وهو لا يجوز، كما لا يجوز أن يأخذ ببدل الصرف عوضاً آخر كما عرفنا سابقاً، وكما لا يجوز الإبراء عن بدل الصرف.
وأما وجه الاستحسان: فهو أن المتصارفين لما تقاصا فقد تضمنت المقاصة انفساخ عقد الصرف الأول، وانعقاد صرف آخر غير الأول، وثمنه هو العشرة الدراهم التي هي دين سابق، إذ لولا ذلك التقدير لكانت المقاصة استبدالاً ببدل الصرف، فصار هذا كما لو تبايع اثنان بألف، ثم جددا العقد بألف وخمس مئة، فإن البيع الأول ينفسخ ضرورة ثبوت العقد الثاني اقتضاء أو ضمناً.
_________
(1) راجع تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 140/ 4، البدائع: 206/ 5، 218، الدر المختار ورد المحتار: 250/ 4، تحفة الفقهاء: 37/ 3، فتح القدير والعناية بهامشه: 379/ 5 ومابعدها، المبسوط: 19/ 14.

(5/3668)


الحالة الثانية: أن يثبت الدين بقبض مضمون بعد وجود عقد الصرف: كأن يستقرض بائع الدينار عشرة دراهم من المشتري ويتسلمها بالفعل، أو يغصب منه عشرة دراهم، ففي هذه الحالة تقع المقاصة بثمن الصرف جبراً على المتصارفين، وإن لم يتقاصا، أي لا يحتاجان إلى التراضي؛ لأنه وجد القبض من المتصارف فعلاً.
الحالة الثالثة: أن يثبت الدين بعقد متأخر عن عقد الصرف: كأن يشتري مشتري الدينار من بائع الدينار ثوباً بعشرة دراهم مثلاً، ففي هذه الحالة إن لم يتقاصا لا تقع المقاصة باتفاق الروايات. وإن اتفقا على مقاصة العشرة بالعشرة في مجلس العقد فهناك روايتان: في رواية اختارها السرخسي: لا يجوز لأن النبي صلّى الله عليه وسلم جوز المقاصة في حديث ابن عمر (1) في دين سابق لا لاحق.
وفي رواية أخرى وهي الصحيحة (2): تقع المقاصة لما ذكر في وجه الاستحسان: وهو أن العاقدين لما قصدا إيقاع المقاصة، تضمن ذلك انفساخ العقد الأول، أي إقالته، وإنشاء عقد جديد مضاف إلى دين قائم وقت تحويل العقد، فلما أبطلا عقد الصرف، صار كأنهما عقدا عقداً جديداً، فتصح المقاصة به؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين في العقود والفسوخ ديناً كانت أو عيناً.
والخلاصة: إن الحالتين الأولى والثالثة تقع المقاصة فيهما اختيارية، وأما الحالة الثانية فتقع المقاصة فيها جبرية.
_________
(1) نص الحديث رواه أحمد وأصحاب السنن عن ابن عمر قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع الدراهم وآخذ الدنانير، فقال: لابأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء» وفي لفظ «أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق، وأبيع الورق وآخذ مكانها الدنانير» (نيل الأوطار: 156/ 5).
(2) انظر الهداية والعناية بهامش فتح القدير: 381/ 5.

(5/3669)


وأما المقاصة برأس مال السلم بدين آخر على المسلم إليه: كأن وجب على المسلم إليه لرب السلم دين مثل رأس مال السلم، فهل تقع المقاصة بين رأس المال هذا وبين ذلك الدين؟ هنا ثلاث حالات أيضاً:
1ً - أن يجب الدين بعقد متقدم على السلم: بأن كان رب السلم قد باع إلى المسلم إليه (1) ثوباً بعشرة دراهم مثلاً، ولم يقبضها، ثم عقدا عقد سلم بينهما، كأن أسلم رب السلم إلى المسلم إليه عشرة دراهم في مد حنطة، فإن تراضيا على المقاصة بالدينين (الدين السابق وهو ثمن المبيع، والدين اللاحق وهو رأس مال السلم) صحت المقاصة استحساناً، وإن أبى أحدهما لم تقع المقاصة. والقياس يقضي بعدم وقوع المقاصة وهو قول زفر.
وجه القياس: أن قبض رأس مال السلم شرط شرعي لصحة السلم كما هو معروف، ولكن بالمقاصة لم يحصل القبض فعلاً، فيبطل السلم إذا افترق العاقدان بدون تحقيق شرط القبض.
ووجه الاستحسان: أن القبض وإن كان مطلوباً في عقد السلم، إلا أنه إذا تمت المقاصة تبين أن عقد السلم لا يتطلب تحقيق قبض رأس المال فعلاً، وإنما يكفي أن يتم القبض بطريق المقاصة، كما لو اتفق البائع والمشتري على الزيادة في الثمن والمثمن، فإن ذلك يلتحق بأصل العقد، ويقع البيع فعلاً على الزيادة.
2ً - أن يجب الدين بقبض مضمون متأخر عن عقد السلم كالغصب والقرض، فإنه تقع المقاصة جبراً عن رب السلم والمسلم إليه، كما في الصرف؛ لأن قبض الغصب والقرض قبض حقيقة، فيجعل نائباً عن قبض رأس مال السلم إذا تساوى الدينان.
_________
(1) أطلق على العاقدين وصف (رب السلم والمسلم إليه) باعتبار ماسيكون.

(5/3670)


3ً - أن يجب الدين بعقد متأخر عن السلم، كأن يحدث شراء شيء من المسلم إليه لرب السلم، فلا تصح المقاصة وإن اتفقا عليها إلا في رواية شاذة عن أبي يوسف؛ لأن المقاصة تتطلب وجود دينين، ولم يكن عند انعقاد السلم إلا دين واحد، فتبين أن عقد السلم يتطلب قبضاً في الحقيقة، وما يتم بالمقاصة ليس كذلك.
هذا هو المذكور في البدائع (1)، فإن صاحبها الكاساني سوى بين رأس مال السلم وبدل الصرف في المقاصة.
لكن المعول عليه ما في كتاب الجامع الصغير للإمام محمد وغيره من كتب الحنفية (2)، فإنهم فرقوا بين بدل الصرف ورأس مال السلم، فلم يجيزوا المقاصة برأس مال السلم مع دين آخر مطلقاً، سواء وجب الدين بعقد متقدم أو متأخر عن عقد السلم؛ لأن المسلم فيه دين في ذمة المسلم إليه، فلو صحت المقاصة بين رأس مال السلم، ودين على المسلم إليه بحيث يصبح هذا الدين ر أس مال السلم، وقع العاقدان في محظور شرعي وهو مبادلة الدين بالدين، أو الافتراق عن دين بدين لأن رأس المال لا يتعين بالمقاصة.
وهذا بخلاف المقاصة ببدل الصرف مع دين متقدم أو متأخر عنه ثابت بعقد بيع مثلاً؛ لأن المبيع الذي يقابل الدين (أي الثمن) مثلاً هو عين لا دين أي غير مشترط قبضه في مجلس العقد، فتؤدي المقاصة ببدل الصرف مع مقابل هذا المبيع إلى مبادلة عين بدين أو الافتراق عن عين بدين، وهو جائز كما هو معلوم شرعاً،
_________
(1) البدائع: 206/ 5 وما بعدها.
(2) الجامع الصغير: ص 92، تبيين الحقائق: 140/ 4، المبسوط: 20/ 14، بحث المقاصة للأستاذ محمد سلام مدكور: ص 107 وما بعدها.

(5/3671)


بخلاف ما تؤدي إليه المقاصة برأس مال السلم من مبادلة دين بدين وهو ممنوع شرعاً.

الصرف والتحويل القائم على القرض:
هناك حاجة ملحة لتحويل النقود من بلد إلى آخر بعد إجراء عقد صرف بين شخص وصرَّاف، كالحوالات التي يجريها العاملون في الخليج إلى حساباتهم الجارية في مصرف (بنك) في بلدانهم، أو إلى ذويهم أو أقاربهم. وكالحوالات التي يقوم بها أولياء الطلاب إلى أولادهم في البلدان الأجنبية، ونحو ذلك مما تجريه البنوك أو الصيارفة من الحوالات الداخلية والخارجية. والحوالات الخارجية يتم فيها عادة مبادلة نقد بنقد آخر يتم قبضه في البلد التي يحول إلىها المبلغ.

ف هل هذا عمل مشروع أو لا؟
يلاحظ أن بيع النقود الورقية يأخذ حكم النقدين ـ الذهب والفضة، كما قررت المجامع الفقهية المعاصرة وهيئات كبار العلماء، طبقاً لأحكام الشريعة. ويحرم تحويل عملة إلى عملة أخرى بالمؤجل دون تقابض في مجلس العقد، سواء أكانت هناك زيادة أم لا، لأن ذلك ربا نسيئة، فلا يحل بيع النقود مع التأجيل، بسعر مماثل أو بسعر أكثر.
وبناء على هذا يجب أن يتم عقد الصرف منجزاً مع البنك أو الصراف دون تأجيل الدفع، وهذا يحدث فعلاً؛ لأن الصراف مستعد لتسليم العوض في مجلس العقد، ولكن لا يتم القبض الفعلي لعوض أو بدل الصرف، ويقوم مقامه قبض حكمي، لا ينقصه سوى القبض الصوري والإعادة فوراً، ثم يعقبه إبرام عقد آخر منفصل وهو تحويل المبلغ إلى بلد آخر، ويكون ذلك على أساس عقد القرض،

(5/3672)


ويجوز عند الإمام مالك خلافاً لجمهور الفقهاء ـ كما سيأتي في بحث القرض ــ اشتراط الأجل في القرض، أي تعيين مدة سداد بدل القرض.
وقد بينت في الحالة الثانية من حالات المقاصة في عقد الصرف: أنه يجوز أن يستقرض بائع الدينار عشرة دراهم من المشتري ويتسلمها بالفعل، فتقع المقاصة بثمن الصرف جبراً على المتصارفين، وإن لم يتراضيا على المقاصة؛ لأنه وجد القبض من المتصارف فعلاً.
ويتم التعبير عن هذا القرض بتسليم المقرض وَصْلاً (وثيقة) يثبت حقه في بدل القرض، ويكون المقترض وهو الصراف أو البنك ضامناً لبدل القرض، ولكنه يأخذ أجراً أو عمولة على تسليم المبلغ في بلد آخر مقابل مصاريف الشيك أوأجرة البريد أو البرقية أو التلكس فقط، لتكليف وكيل الصراف بالوفاء أو السداد.
وهذان العقدان: الصرف والتحويل القائم على القرض هما الطريقان لتصحيح هذا التعامل، فيما يبدو لي، والله أعلم.

وأما الحوالة البريدية في داخل الدولة بدون صرافة فجائزة بلا خلاف:
أـ فإن سُلّم المبلغ للموظف أمانة جاز بلا كراهة، ولا يضمنه إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، لكن إذا خلطت المبالغ والحوالات ببعضها وهو مايتم بالفعل كانت مضمونة على المؤسسة.
ب ـ وإن أعطي المبلغ قرضاً دون شرط دفعه إلى فلان، ثم طلب من الموظف ذلك بعد القرض؛ جاز.
جـ ـ وإن أعطي المبلغ قرضاَ بشرط دفعه إلى فلان في بلد كذا، فإن لم يقصد المقرض ضمان المقترض خطر الطريق، جازت الحوالة بالاتفاق، وإن قصد بذلك

(5/3673)


ضمان خطر الطريق لم يصح العقد عند الجمهور كالسفتجة كما بينت في بحث القرض، وجازت المعاملة عند الحنابلة.

وفاء القرض بنقد آخر: صرح الحنابلة (1) بأنه يصح تعويض أحد النقدين عن الآخر بسعر يومه، قال في المنتهى: ويصح اقتضاء نقد من آخر، إن أحضر أحدُهما، أو كان أمانة والآخر مستقراً في الذمة، بسعر يومه، ومنع منه ابن عباس وغيره. قال في شرح المنتهى: ولنا حديث ابن عمر قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال: لابأس أن تأخذ بسعر يومها مالم تفرّقا، وبينكما شيء» وفي لفظ: «أبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الورِق ـ أي الفضة ـ وأبيع بالورِق، وآخذ مكانها الدنانير» (2).
وقال أيضاً: ومن عليه دينار، فقضاه دراهم متفرقة، كلَّ نَقْدةٍ بحسابها منه، صح وإلا فلا.
_________
(1) المعتمد في فقه الإمام أحمد، ط دار الخير بدمشق 431/ 1.
(2) حديث ضعيف أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم.

(5/3674)


بيع الجِزاف يحدث التعامل بهذا النوع من البيوع كثيراً في الحياة العملية اليومية، لذا فإني سأذكر معناه ودليل مشروعيته، وحكم أهم حالاته كبيع صبرة الطعام ونحوه، وبيع النقود والحلي والمحلى جزافاً، وشروطه.
معنى الجزاف: الجزاف ـ مثلث الجيم والكسر أفصح وأشهر من غيره، فارسي معرب، وهو بيع الشيء بلا كيل ولا وزن ولا عدد، وإنما بالحزر والتخمين بعد المشاهدة أو الرؤية له. والجزف في الأصل: الأخذ بكثرة، مأخوذ من قولهم: جزف له في الكيل: إذا أكثر، ومرجعه إلى المساهلة. وعرف الشوكاني هذا البيع بقوله: هو ما لم يعلم قدره على التفصيل (1).
دليل مشروعيته: ورد في السنة النبوية ما يدل على مشروعية بيع المجازفة، منها حديثان:
1ً - عن جابر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة (2) من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر» رواه مسلم والنسائي (3). في هذا الحديث دلالة
_________
(1) نيل الأوطار: 160/ 5.
(2) الصبرة ـ بضم الصاد: ما جمع من الطعام بلا كيل ووزن. وقوله «لا يعلم كيلها» صفة كاشفة للصبرة لأنه لا يقال لها صبرة إلا إذا كانت مجهولة الكيل.
(3) نيل الأوطار: 196/ 5.

(5/3675)


على أنه يجوز بيع التمر مجازفة إذا كان الثمن جنساً آخر غير التمر، فإن كان الثمن تمراً حرم البيع؛ لاشتماله على ربا الفضل؛ لأن بيع الشيء بجنسه وأحدهما مجهول المقدار حرام، ولا شك أن الجهل بأحد العوضين أو بكليهما مظنة للزيادة والنقصان، وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه، ومن المعلوم أن التمر من الأصناف الربوية.
2ً - عن ابن عمر قال: «كانوا يتبايعون الطعام جزافاً بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه» رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه (1). هذا الحديث يدل على إقرار النبي صلّى الله عليه وسلم فعل الصحابة بالبيع جزافاً، إلا أنه نهاهم عن بيع اشتروه قبل قبضه واستيفائه.

حكم بيع الجزاف عند الفقهاء:
يتبين حكم الجزاف من الحالتين الآتيتين: بيع الصبرة، وبيع النقود والحلي والمحلى.

بيع الصبرة من الطعام ونحوه: اتفق أئمة المذاهب الأربعة على جواز بيع الصبرة جزافاً، مع اختلافهم في تفصيلات سأذكرها، والصبرة: هي الطعام المجموع. سميت بذلك لإفراغ بعضها على بعض. قال ابن قدامة الحنبلي: يجوز بيع الصبرة جزافاً لا نعلم فيه خلافاً إذا جهل البائع والمشتري قدرها (2). ومستنده واضح وهو ما ثبت في السنة النبوية مما أشرت إليه في مشروعية هذا البيع.
أما تفصيلات المذاهب فهي ما يأتي:
_________
(1) المرجع السابق: 158/ 5.
(2) المغني: 123/ 4.

(5/3676)


أولاً ـ مذهب الحنفية: قال فقهاء الحنفية (1): إذا باع رجل غيره قفيزاً (2) من صبرة طعام معينة بدراهم، أو باع هذا العدل من الثياب بكذا ولا يعرف عددها، أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعلم عدد القفزان، جاز البيع؛ لأن الجهالة فيه يسيرة لا تفضي إلى المنازعة، إلا أن أبا حنيفة قال: من باع صبرة طعام (وهي الحنطة ودقيقها خالصة في العرف الماضي) (3) كل قفيز بدرهم مثلاً، وهو البيع بسعر الوحدة جاز البيع في قفيز واحد فقط، وتوقف البيع في الباقي إلى أن تزول الجهالة في مجلس العقد بأحد أمرين: إما بتسمية جملة القفزان، أو بكيلها في المجلس، إذ أن ساعات المجلس بمنزلة ساعة واحدة. فإن علم مقدار الصبرة بعد انتهاء المجلس، تقرر فساد البيع، فلا ينقلب صحيحاً بعدئذ.
ومثل الطعام جميع الحبوب كالشعير والذرة ونحوهما.
ودليله: أن الثمن والمبيع في هذه الحالة مجهولان، والجهالة تفسد العقد، وبما أنه لا جهالة في القفيز الواحد، فيلزم العقد فيه للتيقن به، وإذا زالت الجهالة في كل المبيع بتعيين عدد القفزان أو بالكيل في مجلس العقد، ثبت الخيار للمشتري، لتفرق الصفقة عليه دون البائع؛ لأن تجزئة المعقود عليه كان بسبب منه، لعدم تحديده سابقاً مقدار الأقفزة، فكان راضياً بالبيع على النحو الذي تم.
_________
(1) راجع البدائع 158/ 5، فتح القدير: 88/ 5 وما بعدها، الدر المختار: 29/ 4، تبيين الحقائق للزيلعي: 5/ 4، اللباب شرح الكتاب للميداني: 7/ 2، تحفة الفقهاء: 63/ 2 الطبعة الأولى، مختصر الطحاوي: ص 79.
(2) القفيز: مكيال وهو ثمانية مكاكيك، والجمع أقفزة وقفزان، والمكوك: مكيال هو صاع ونصف أو هو ثلاث كيلجات، والكيلجة: منا وسبعة أثمان منا، والمنا: الذي يكال به السمن وغيره، وقيل: الذي يوزن به: رطلان، والتثنية منوان. والجمع أمناء، مثل سبب وأسباب (راجع المصباح المنير) وقال النووي في المجموع (313/ 9): القفيز مكيال معروف يسع اثني عشر صاعا. وأما الكرّ فهو ستون قفيزاً.
(3) راجع فتح القدير: 85/ 5.

(5/3677)


وثبوت الخيار للمشتري في هذه الحالة يشبه حالة ما لو اشترى رجل شيئاً لم يره ثم رآه، فتزول الجهالة بالرؤية.
وقال الصاحبان: يصح البيع في كل الصبرة؛ لأن المبيع معلوم بالإشارة إليه في الجملة، ومن المقرر أنه لا يشترط لصحة البيع معرفة مقدار المشار إليه. وأما جهالة الثمن فإنها لا تضر إذ أن العلم به ممكن بالعدّ، بأن تكال الصبرة في مجلس العقد.
وقول الصاحبين هو المفتى به تيسيراً على الناس، وهو الذي رجحه صاحب الهداية لتأخيره دليلهما عن دليل أبي حنيفة كما هي عادته، وبه قال أئمة المذاهب الآخرين، ولكن صاحب فتح القدير رجح قول الإمام ودليله.
هذا حكم بيع صبرة الطعام أي وما يشبه ذلك من المثليات، أما القيميات (1) كالحيوان والثوب فحكمها ما يأتي:
من باع قطيع عنم كل شاة بدرهم مثلاً، فالبيع فاسد في الجميع عند أبي حنيفة، حتى وإن علم عددها في مجلس العقد على الأصح، للجهالة وقت العقد. ولا يصح حينئذ بيع الشاة الواحدة بما سمي من ثمن لكل واحدة من القطيع؛ لأن بيع شاة من قطيع لا يصح للتفاوت بين أفراد الشياه، بخلاف بيع قفيز من صبرة، فإنه يصح بيع قفيز واحد عنده، كما تقدم،، لعدم التفاوت بين أجزاء الطعام، ومثله كل مكيل من الحبوب، فلا تفضي الجهالة في المثليات إلى المنازعة، ولكنها تؤدي إليها في القيميات التي لا تتماثل آحادها.
_________
(1) المثليات: هي المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة وبعض أنواع الذرعيات، والقيميات: هي التي تتفاوت أفرادها بحيث يكون لكل فرد منها اعتبار خاص وقيمة معينة كالحيوانات والأراضي والدور والأشجار والطنافس والثياب ونحوها من العدديات المتفاوتة كالبطيخ وأنواع الفاكهة.

(5/3678)


وكذلك من باع ثوباً يضره التبعيض مذارعة، كل ذراع بدرهم، ولم يسم جملة الذرعان، وكذلك كل معدود متفاوت كإبل وعبيد ونحوهما: لا يصح البيع في الجميع عند أبي حنيفة، لوجود الجهالة.
وقال الصاحبان: يجوز البيع في كل ما ذكر؛ لأن الجهالة يمكن إزالتها ورفعها في النهاية بعد تعداد المبيع (1).
والخلاصة: أن أبا حنيفة أجاز بيع الصبرة المجهولة في كيل واحد في المثليات، ولم يجزه في القيميات. وخالفه الصاحبان في كل ما ذكر، فأجازا البيع في الكل مثلياً كان المبيع أو قيمياً؛ لأن الجهالة المانعة من صحة العقد عند انعقاده تزول في النهاية.

البيع بإناء أو بوزن مجهول القدر: أجاز الحنفية حالة من المجازفة لها صورة الكيل والوزن دون حقيقته على أن يكون البيع غير لازم للمشتري وله خيار كشف الحال: وهي بيع شيء بإناء بعينه لا يعرف مقداره بشرط أن يكون مما لا يحتمل الزيادة والنقصان كأن يكون من خشب أو حديد، أما إذا كان يحتمل وينكبس بالكبس كالزنبيل والقفة فلا يجوز إلا في قِرب الماء استحساناً للتعامل فيه، فيصح عند أبي يوسف بيع ملء قربة بعينها بحسب عرف البلدان. كما أنهم أجازوا بيع شيء بوزن حجر بعينه لا يعرف مقداره بشرط ألا يتفتت الحجر، وأما إذا باعه بوزن شيء يخف إذا جف كالخيار والبطيخ، فلا يجوز البيع حينئذ (2).
_________
(1) المراجع السابقة: فتح القدير: ص 90، الزيلعي: ص 6، اللباب: ص 7 وما بعدها.
(2) المراجع السابقة: فتح القدير: ص 86، الزيلعي: ص 5، اللباب: ص 7، رد المحتار والدر المختار: 29/ 4.

(5/3679)


حالة النقص والزيادة في الصبرة التي حدد مقدارها:
من اشترى صبرة طعام على أنها مئة قفيز بمئة درهم مثلاً، فوجدها المشتري أقل مما حدد له، كان المشتري بالخيار: إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن لأنه يمكن قسمة الثمن على أجزاء المبيع المثلي. وإن شاء فسخ البيع لتفرق الصفقة الواحدة عليه قبل تمام العقد فلم يتم رضاه بالموجود. وسبب تفرق الصفقة عليه: هو أن العقد ورد على جملة معلومة، فإذا نقصت يلزم تفرق الصفقة لا محالة.
ومثله في الحكم: كل مكيل أو موزون ليس في تبعيضه ضرر.
وإن وجد المشتري أن الصبرة أكثر من القدر المتفق عليه، فالزيادة للبائع؛ لأن البيع وقع على مقدار معين، فما زاد عليه، لم يدخل في العقد، فيكون للبائع.
ومن اشترى ثوباً على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم مثلاً، أو أرضاً على أنها مئة ذراع بمئة درهم مثلاً ولم يسم لكل ذراع ثمناً (1) ثم وجده أقل مما حدد له: فللمشتري الخيار: إن شاء أخذ المبيع بكل الثمن المحدد، وإن شاء ترك البيع، لتفرق الصفقة عليه. والفرق بين صورة الطعام، وصورة الثوب والأرض: هو أن القدر في الطعام جزء أساسي من المبيع وليس بوصف، فإن كل جزء من مقدار الطعام يقابله جزء من الثمن. أما الذرع في الثوب والأرض فإنه وصف لأنه عبارة عن الطول، والوصف غير المقصود بالتناول لا يقابله شيء من الثمن، إلا أن المشتري يخير لفوات وصف مرغوب فيه مشروط في العقد.
فإن وجد المشتري زيادة في أذرع الثوب أو الأرض، فالزائد له، ولا خيار للبائع؛ لأن الذرع وصف غير مقصود في هذه الحالة في الثوب أو الأرض كما
_________
(1) أي أن غرض المشتري موجه أصالة إلى الشيء المبيع جملة دون أن يكون له هدف أصلي في الطول أو في العرض مثلاً، فيكون كل الثمن مقابلاً بالعين كلها.

(5/3680)


أبنت، لأنه تابع محض، والتوابع لا يقابلها شيء من الثمن، فكان ذلك بمنزلة ما إذا باع رجل غيره شيئاً معيباً فإذا هو سليم.
هذا .. حيث لم يكن الذرع مقصوداً، فإن كان مقصوداً بأن قال: (بعتك الأرض [المذكورة] على أنها مئة ذراع بمئة درهم مثلاً، كل ذراع بدرهم) فوجدها ناقصة، فالمشتري بالخيار: إن شاء أخذها بحصتها من الثمن، لأن الوصف وإن كان تابعاً، لكنه صار أصلاً بانفراده بذكر الثمن، وإن شاء تركها لتفرق الصفقة.
فإن وجدها زائدة، فالمشتري بالخيار: إن شاء أخذ الجميع كل ذراع بدرهم، وإن شاء فسخ البيع لدفع ضرر التزام أخذ الزائد (1).

ثانياً ـ مذهب المالكية: يجوز عند الإمام مالك أن تباع الصبرة المجهولة على الكيل أي كل كيل منها بكذا، فما بلغته الصبرة من الأكيال بعد الكيل تحسب قيمته الإجمالية بحسب قيمة كل كيلة منها. ولا مانع في هذا البيع عند المالكية من أن يكون المبيع مثلياً أو قيمياً أو عددياً، فهو يجوز في الطعام والثياب والعبيد والحيوان (2) بخلاف ما سبق ذكره عن أبي حنيفة، فإنه لا يجيزه في القيميات.
وسيأتي مزيد بيان لذاك عند المالكية في شروط بيع الجزاف.

ثالثاً ـ مذهب الشافعية: قال الشافعية: يصح بيع صاع من صبرة (3) تعلم صيعانها للمتعاقدين كعشرة مثلاً لعدم الغرر، كما أنه يصح البيع في الأصح إن جهلت صيعانها للمتعاقدين أو لأحدهما، لتساوي أجزائها، وتغتفر جهالة المبيع
_________
(1) المراجع السابقة: الفتح: ص 92، الزيلعي: ص 6، اللباب: ص 8.
(2) بداية المجتهد: 158/ 2، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 18/ 3 - 20.
(3) وفسروا الصبرة بالكومة من الطعام وهو تفسير واضح.

(5/3681)


هنا، فإنه ينزل على صاع مبهم. ولا يصح بيع ذراع من مجهول الذرعان من أرض أو ثوب لتفاوت الأجزاء كبيع شاة من هذه الشياه.
ويصح أيضاً بيع الصبرة المجهولة الصيعان بأن يقول: كل صاع بدرهم أو أن يقول: بعتك هذه الصبرة، وإن لم يعرف قفزانها، أو يقول: بعتك هذه الدار أو هذا الثوب وإن لم يعرف ذرعانها؛ لأن المبيع مشاهد، فيزول غرر الجهالة بالمشاهدة ولايضر الجهل بجملة الثمن، لأنه معلوم بالتفصيل، والغرر مرتفع به، كما إذا باع بثمن معين جزافاً. ومثل الصبرة ما لو قال: بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب كل ذراع بدرهم، أو هذه الأغنام أو العبيد كل واحد بدرهم. ومن قال لغيره: (بعتك هذه الصبرة) جاز البيع، وإن لم يعرف قفزانها. وإن قال: (بعتك هذه الدار أو هذه الأرض أو هذا الثوب) جاز البيع، وإن لم يعرف ذرعانها؛ لأن غرر الجهالة ينتفي عنها بالمشاهدة. قال الشافعي: وأكره بيع الصبرة جزافاً لأنه يجهل قدرها على الحقية.
ولو باع الصبرة أو الأرض أو الثوب بمئة درهم كل صاع أو ذراع بدرهم، صح البيع إن خرجت مئة لتوافق الجملة والتفصيل، وإن لم تخرج مئة بأن خرجت أقل أو أكثر، فلا يصح البيع على الصحيح لتعذر الجمع بين جملة الثمن وتفصيله.
ويصح كون الصبرة ثمناً، فلو قال: بعتك بهذه الصبرة وهي مجهولة القدر، صح البيع اعتماداً على المشاهدة مع الكراهة، لأنه قد يوقع في الندم (1).
والخلاصة: إن الشافعية كالمالكية يجيزون بيع الصبرة في المثليات والقيميات، ويخالفون الحنفية في حالة تحديد قدر الصبرة إجمالاً، فيبطلون البيع
_________
(1) راجع مغني المحتاج: 16/ 2 ومابعدها، المهذب: 264/ 1 ومابعدها، المجموع: 340/ 9 ومابعدها.

(5/3682)


إن لم يتطابق جملة المبيع مع تفصيله بأن نقص أو زاد، أما الحنفية فإنهم يرون البيع صحيحاً ولكن يعطى المشتري الخيار كما أوضحت.
وفي الجملة: يكره بيع الصبرة جزافاً في أصح القولين عند الشافعي، وبه قطع النووي وآخرون لما فيه من الغرر (1).

رابعاً ـ مذهب الحنابلة: أجاز الحنابلة بيع الصبرة جزافاً مع جهل البائع والمشتري بقدرها، سواء أكان المبيع طعاماً أم ثياباً أم حيواناً. ويصح عندهم بيع الصبرة أو الثوب أو القطيع كل قفيز أو ذراع أو شاة بدرهم؛ لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين: وهو أن تكال الصبرة ويقسط الثمن على قدر القفزان ونحوها، فيعلم مبلغه.
ويصح بيع ما بوعاء مع وعائه أو دونه، أو كل رطل بكذا على أن يسقط منه وزن الوعاء (2).
نخلص مما ذكرفي بيع الصبرة جزافاً أن الفقهاء صححوا العقد فيما إذا قال البائع: (بعتك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم) وإن لم يعلما مقدارها حال العقد. ومثل الصبرة كل مكيل أو موزون أو معدود مثلياً أو قيمياً. وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: يصح البيع في قفيز واحد فقط، ويبطل فيما سواه؛ لأن جملة الثمن مجهولة، فلم يصح كبيع الشيء برقمه. ولا يصح عنده بيع الجزاف في القيميات.

بيع النقود والحلي والمحلى جزافا ً:
يصح بيع الجزاف إذا كان البدلان من جنسين مختلفين، فإن اتحد جنس
_________
(1) المجموع: 343/ 9.
(2) انظر المغني: 123/ 4 ومابعدها، غاية المنتهى: 12/ 2، 15.

(5/3683)


البدلين لم يجز البيع جزافاً لاشتمال العقد على الربا؛ لأن عدم التقدير بالكيل أو بالوزن مظنة للزيادة والنقصان، وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه، وذلك بكيل المكيل ووزن الموزون في كلا البدلين.
وهذا يعني أن البيع مجازفة مقيد بغير الأموال الربوية إذا بيعت بجنسها، فأما الأموال الربوية إذا
بيعت بجنسها فلا يجوز مجازفة لاحتمال الربا وهو مانع من صحة العقد كحقيقة الربا (1).ومن هنا قال الحنفية: الأصل العام في بيع النقود ونحوها جزافاً:

أن ما يجوز البيع فيه متفاضلاً، يجوز فيه البيع مجازفة، وما لا يجوز فيه البيع متفاضلاً، لا يجوز فيه البيع مجازفة (2). ويظهر أن هذا الأصل متفق عليه بين المذاهب الأربعة بحسب ما يجوز فيه التفاضل وما لايجوز، على وفق ما هو مقرر من علة معينة للربا في كل مذهب، فلا يجوز مثلاً عند الشافعية بيع الطعام بجنسه أو النقد بجنسه جزافاً تخميناً وإن خرجا سواء؛ للنهي عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر (3).
وعلى هذا:
1ً - إذا بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة مجازفة: لا يجوز البيع، لعدم جواز التفاضل بين هذين المعدنين باعتبارهما من الأموال الربوية، فلا تجوز المجازفة، لاحتمال وجود زيادة في أحد العوضين لا يقابلها مثلها في العوض الآخر، وذلك سواء جهل المتعاقدان أو أحدهما وزن كل عوض منهما، أو عرفا وزن أحدهما دون الآخر.
_________
(1) فتح القدير: 86/ 5.
(2) تحفة الفقهاء: 39/ 3.
(3) راجع مغني المحتاج: 25/ 2، المغني: 15/ 4، القوانين الفقهية: ص 246، 257.

(5/3684)


فإن وزن العوضان في مجلس العقد، فكانا متساويين في الوزن، جاز البيع استحساناً؛ لأن لمجلس العقد حكم حالة انعقاد العقد، فكان العلم بالتساوي بين البدلين حينئذ كالعلم به عند العقد. أما إذا تفرق العاقدان عن المجلس قبل الوزن، ثم حصل الوزن، فكان العوضان متساويين وزناً، فالبيع فاسد. وقال زفر: البيع صحيح في الحالين إذا كانت هناك مساواة في الوزن؛ لأن المانع من صحة العقد هو احتمال وجود الزيادة، وقد تبين أنه لا زيادة.
2ً - إذا بيع الشيء بغير جنسه كبيع ذهب بفضة مجازفة: صح البيع؛ لأنه جاز التفاضل فيهما، ولكن يجب التقابض في العوضين في مجلس العقد كما يجب حالة اتحاد الجنس.
ويتفرع عن هذه القاعدة في حالتي بيع الشيء بجنسه أو بغير جنسه ما يأتي:
ـ إذا تمت القسمة بين الشريكين فيما يجري فيه الربا: لا تجوز مجازفة في الجنس الواحد، وتجوز في مختلفي الجنس؛ لأن القسمة في معنى البيع أو المبادلة؛ لأن ما يأخذه كل شريك يأخذه عوضاً عما يبقى من حقه في نصيب صاحبه، فكان ذلك مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه.
ـ لو بيع سيف بسيف، أو إناء نحاس بإناء آخر من جنسه مجازفة؛ صح البيع إذا كان ذلك مما يباع عدداً؛ لأن العدّ في العدديات ليس من أوصاف علة الربا (التي هي الكيل أو الوزن) فجاز فيهما التفاضل ولا يتحقق الربا عندئذ.
وإن كان ذلك مما يباع وزناً: فلا يجوز، لأنه بيع مال ربوي بجنسه مجازفة (1).
_________
(1) البدائع: 185/ 5.

(5/3685)


ـ إذا بيعت الفضة مغشوشة بمعدن آخر، أو بيع الذهب مغشوشاً، فالعبرة للغالب في الشرع، فغالب الفضة فضة، وغالب الذهب ذهب. فإن بيعت فضة مغشوشة يغلب فيها الفضة، فحكمها حكم الفضة الخالصة: لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا سواء بسواء، يداً بيد، أي يصح بيع المغشوشة بما يساويها وزناً من الفضة الخالصة؛ لأن كلاً منهما لا يخلوان عن قليل غش، إذ هما لا يطبعان عادة بدونه، وقد يكون الغش فيهما طبيعياً فيعسر التمييز بين المخلوط والطبيعي، فيلحق القليل من الغش بالرداءة، والجيد والرديء سواء في مبادلة الأموال الربوية، فيعتبر الغش فيهما كأن لم يكن.
فإن كان الغش هو الغالب: فحكمها حكم النحاس الخالص، فلا يباع المغشوش بالنحاس إلا مثلاً بمثل، يداً بيد.
وإن استوت الفضة والغش، أو الذهب والغش: فحكمه حكم ما غلب فيه الفضة أوالذهب في التبايع والاستقراض، فلا يجوز البيع بها ولا إقراضها إلا بالوزن، ولا يجوز بيعها مجازفة وعدداً.
وأما في الصرف فالحكم فيه كغالب الغش أي كحكم فضة غلب عليها الغش، فإن بيعت بفضة خالصة يجزأ المبيع في اعتبارنا وتقديرنا: إن كانت الفضة الخالصة أكثر وزناً من الفضة المغشوشة، جاز البيع، حتى يكون قدر الفضة في كلا العوضين مقابلاً بمثله، وأما الزائد عن ذلك القدر في الفضة الخالصة فهي مقابل الغش كما لو كانت الفضة الخالصة ثمناً لمبيع مشتمل على فضة وقطعة نحاس مثلاً. وإن كانت الفضة الخالصة أقل من الفضة الموجودة في المغشوش أو مثلها، أو جهل الأمر: فلا يجوز البيع لما فيه من الربا في أحد العوضين (1).
_________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 140/ 4 ومابعدها.

(5/3686)


ـ إذا بيع سيف محلىً أي مفضض أو مذهب، والثمن ذهب أو
فضة (1): فإن تماثل جنس الحلية والثمن، وكان مقدار الثمن أكثر من الحلية، جاز البيع، وتكون الحلية مبيعة بمثل وزنها، والزائد من الثمن في مقابل الجفن والحمائل (2) التي تتبع السيف عادة في البيع؛ لأن الأصل المقرر عند الحنفية في تقسيم الثمن على المبيع: أنه إذا كان المبيع أشياء بعضها من جنس الثمن، وبعضها ليس من جنسه، صرف الثمن إلى جنسه بمثل وزنه على وجه يصحح فيه العقد ما أمكن؛ لأن أمور المسلمين محمولة على الصحة والسداد ما أمكن. وتصحيح العقد هنا يتم بصرف بعض الثمن إلى جنسه بمثل وزنه، والبعض الآخر يصرف إلى الجنس الآخر في اعتبارنا وتقديرنا.
فإن كان الثمن مثل الحلية أو أقل، فلا يجوز البيع، لاشتماله على ربا الفضل، إذ أن الجفن والحمائل تصبح مبيعة بدون عوض عنها وهذا هو معنى الربا.
وإن جهل مقدار الثمن أو اختلف التجار في تقديره: فإن تبين أن الثمن أكثر من الحلية، والحلية أقل وزناً من الثمن في مجلس العقد، يكون البيع جائزاً عند الحنفية. وإن علم ذلك بعد الافتراق عن المجلس: لا يجوز البيع عند جمهور الحنفية. وقال زفر: ينقلب العقد صحيحاً كما في بيع الجزاف، كما مر سابقاً.
وعلى هذا فإن القاعدة: «متى بيع نقد مع غيره كمفضض ومزركش (3) بنقد
_________
(1) انظر البدائع: 217/ 5 ومابعدها، تحفة الفقهاء: 41/ 3 ومابعدها، الدر المختار: 247/ 4 ومابعدها.
(2) الجفن ـ بفتح الجيم: غمد السيف. والحمائل بفتح الحاء جمع حمالة بكسر الحاء أو محمل بوزن مرجل: وهي علاقة السيف.
(3) المفضض: ما رصع بفضة أو ألبس فضة، والمزركش هو المطرز بخيوط فضية أو ذهبية.

(5/3687)


من جنسه، شرط زيادة الثمن ليكون قدر الحلية من الثمن ثمناً لها والزائد ثمناً للسيف، إذ لو لم تتحقق الزيادة بطل البيع، فلو كان الثمن مثل الحلية أو أقل أو جهل بطل البيع، ولو كان الثمن بغير جنس الحلية، شرط التقابض فقط وجاز التفاضل» كما سيأتي (1).
ومن المعلوم أن صحة البيع فيما إذا كان الثمن أكثر من الحلية تتطلب قبض مايقابل الحلية من الثمن في مجلس العقد، فإن تفرق العاقدان قبل أن يتقابضا، أو يقبض أحدهما حقه دون الآخر، فإنه ينظر:
أـ إن كانت الحلية مما لا يمكن تخليصها عن السيف إلا بإلحاق ضرر به: فسد البيع كله.
ب ـ وإن كانت تتخلص بغير ضرر: جاز البيع في السيف، وفسد في الحلية؛ لأن العقد بقدر الحلية يكون صرفاً، وبالنسبة للسيف يكون بيعاً مطلقاً، والتقابض شرط لصحة الصرف فقط.
فإذا كانت الحلية تتخلص من غير ضرر، فكأنها والسيف شيئان منفصلان، فيجوز العقد في أحدهما دون الآخر.
وإن كانت الحلية لا تتخلص إلا بضرر: فسد العقد كله، أما بالنسبة للحلية فلعدم التقابض، وأما بالنسبة للسيف، فلأنه بيع شيء لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحق البائع، ومثل هذا البيع فاسد كبيع جذع في سقف، فلو فصلت الحلية عن السيف، وسلم إلى المشتري انقلب العقد صحيحاً.
ـ يترتب على الشرطين السابق ذكرهما في عقد الصرف (وهما خلو العقد عن
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 48/ 4.

(5/3688)


خيار الشرط، وعن تأجيل قبض أحد العوضين) أنه لو بيع السيف المحلى بجنس الحلية، أو بخلاف جنسها من الذهب أو الفضة، وكان الثمن أكثر وزناً من الحلية، واشترط أحد العاقدين خيار شرط، أو شرط المشتري تأجيل الثمن في صلب العقد، ثم تفرق المتعاقدان دون أن يتم قبض أحد العوضين: كان العقد فاسداً على التفصيل الآتي (1):
أـ إن كانت الحلية مما لا تتميز عن السيف إلا بضرر: فسد البيع في الحلية بسبب الخيار أو الأجل، وفسد في السيف، لأنه لا يجوز إفراده بالعقد، لما فيه من إلحاق الضرر بالبائع، بتسليمه منفصلاً عن الحلية.
فإن افترق المتعاقدان بعد التقابض، بأن أبطلا الخيار أو أسقطا الأجل، انقلب العقد جائزاً خلافاً لزفر.
ب ـ وإن كانت الحلية تتميز عن السيف من غير ضرر: فسد العقد عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد، والفساد في نفس المعقود عليه، وفي مثل هذا يشيع الفساد في كل المبيع.
وقال محمد: يجوز البيع في السيف، ويبطل في الحلية؛ لأن الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد، وللفاسد تأثيره، فيصح العقد في الجزء الصحيح، ويفسد في الفاسد.
جـ ـ إذا اشترى رجل من صائغ سواراً من فضة بدراهم فضية، وتماثلا في الوزن، وتقابضا وافترقا، أو تصارف رجلان ذهباً بذهب، أو فضة بفضة مثلاً بمثل، وتم التقابض بينهما، وافترقا، ثم زاد أحدهما صاحبه شيئاً وقبل الآخر: فسد البيع عند أبي حنيفة.
_________
(1) راجع البدائع: 217/ 5 وما بعدها.

(5/3689)


وقال أبو يوسف: الحط والزيادة باطلان لاغيان، والعقد الأول صحيح.
وقال محمد: الحط جائز بمنزلة الهبة المستقبلة، والزيادة باطلة.
ومنشأ هذا الخلاف هو اختلافهم في تأثير الشرط الفاسد على العقد إذا تأخر ذكره عن العقد (1):
فعند أبي حنيفة: يلتحق هذا الشرط بالعقد ويفسد العقد، فإذا وجدت الزيادة أو الحط بعد انعقاد العقد، التحقا بأصل العقد، فكأن العقد وجد منذ إنشائه على هذا النحو مشتملاً على الزيادة في أحد العوضين، فيفسد العقد بسبب التفاضل في مال ربوي؛ لأن العوضين من جنس واحد، فيتحقق الربا.
وإنما شرط القبول في الحط عند أبي حنيفة، لأنه يترتب عليه فسخ العقد، ولا يحق لأحد المتعاقدين إجراء الفسخ إلا برضا الآخر.
وعند أبي يوسف ومحمد: إن الشرط الفاسد لا يلتحق بالعقد إلا أن أبا يوسف التزم هذا الأصل، فأسقط اعتبار الزيادة والحط جميعاً فبقي البيع الأول صحيحاً.
وأما محمد فإنه فرق بين الزيادة والحط، فقال: الزيادة باطلة والحط جائز؛ لأن الزيادة لو صحت لالتحقت بأصل العقد، فأفسدته، فبطلت الزيادة.
وأما الحط: فلا يشترط لصحته أن يلتحق بالعقد بدليل أن البائع لو حط جميع الثمن صح، ولا يلتحق بأصل العقد، إذ لو التحق لكان البيع واقعاً بلا ثمن، فيجعل حطاً للحال بمنزلة هبة مستأنفة أو مبتدأة بقطع النظر عن البيع الأول.
_________
(1) راجع البدائع: 216/ 5، الدر المختار: 246/ 4.

(5/3690)


هذا إذا اتحد جنس البدلين.
فإن اختلف جنسهما بأن بيع سوار فضة وزنه مقدار وزن عشرة دراهم بدينار ذهبي، أو تصارف اثنان ديناراً بعشرة دراهم فضية، ثم زاد أحدهما صاحبه درهماً وقبل الآخر، أو حط عنه درهماً من الدينار، صح الحط والزيادة باتفاق الحنفية، ويلتحقان بأصل العقد؛ لأن المانع من تصحيح العقد هو وجود الربا، واختلاف الجنس في العوضين يمنع تحقق الربا، إذ أن مبادلة الأموال الربوية يجوز فيها التفاضل حال اختلاف الجنس، ويمتنع حال اتحاد الجنس.
إلا أنه يشترط في الزيادة قبضها في مجلس الزيادة، فلو افترق العاقدان قبل القبض، بطل البيع بقدر الزيادة، لأنها لما التحقت بأصل العقد، صار كأن العقد ورد على الزيادة والأصل جميعاًً، فصارت جزءاً من ثمن الصرف.
وأما الحط فلا يشترط قبضه في المجلس، لأنه وإن التحق بأصل العقد فأدى إلى حدوث التفاضل في العوضين، فلا يؤثر على العقد؛ لأن التفاضل في الأموال الربوية جائز عند اختلاف الجنس كما بينت.
لكن يجب على العاقد رد ما حط لغيره؛ لأن الحط لما التحق بأصل العقد تبين أن العقد لم يقع على قدر المحطوط من ابتداء العقد، فيجب رده.

شروط بيع الجزاف:
اشترط فقهاء المالكية لصحة بيع الجزاف شروطاً سبعة (1)، سأذكرها بإيجاز مع الإشارة إلى ما قد يوجد من شروط في كتب فقهاء المذاهب الأخرى وهي:
_________
(1) راجع الشرح الكبير للدردير: 3 ص 20 وما بعدها، بداية المجتهد: 2 ص 157، مواهب الجليل 285/ 4، الشرح الصغير: 35/ 3 - 40، الغرر وأثره في العقود للزميل الدكتور الصدِّيق محمد الضرير: ص 234 وما بعدها.

(5/3691)


1 - أن يكون المبيع مرئياً بالبصر حال العقد أو قبله، واستمر العاقدان على معرفة المبيع حين التعاقد، فلا يصح بيع غير المرئي جزافاً ولا البيع من الأعمى جزافاً. وتكفي رؤية بعض المبيع المتصل به كمغيب الأصل، وتكفي في الصبرة رؤية ما ظهر منها. ولا تشترط الرؤية إذا ترتب عليها فساد البيع كأواني الخل المختومة التي يفسدها الفتح، ولكن لا بد من بيان صفة ما فيها من الخل.
وهذا الشرط متفق عليه أيضاً بين الحنفية والشافعية والحنابلة (1)، قال الزيلعي: شرط جواز الجزاف: أن يكون مميزاً مشاراً إليه. وعبارة الشافعية والحنابلة: تكفي المشاهدة في الصبرة ونحوها؛ لأن غرر الجهالة ينتفي عنها بها.
2 - أن يجهل كل من البائع والمشتري قدر المبيع كيلاً أو وزناً أو عدداً، فإن علم قدره أحد العاقدين بإعلام صاحبه بعد انعقاد العقد، كان الآخر بالخيار، وإن استوى الاثنان في العلم بمقداره حين التعاقد فسد العقد، لتعاقدهما على الغرر، وتركهما الكيل أو الوزن، فيرد المبيع إن كان قائماً، وإلا لزم المشتري دفع القيمة (2). ووجود هذا الخيار دليل على أن هذا الشرط شرط لزوم وليس شرط صحة.
وقد أشار ابن جزي إلى مخالفة الحنفية والشافعية في هذا الشرط، لكن صرح الشافعية بالموافقة عليه (3)، ونص الإمام أحمد على أن البائع إذا عرف مقدار شيء لم يبعه صبرة، فإن خالف ذلك وباع مع علمه بمقدار المبيع، فالبيع صحيح لازم لكنه مكروه كراهة تنزيه (4).
_________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 4 ص 5، المهذب: 1 ص 265، المغني: 4 ص 123.
(2) انظر القوانين الفقهية لابن جزي: ص 246.
(3) المجموع للنووي: 9 ص 343.
(4) المغني: 4 ص 125 وما بعدها.

(5/3692)


3 - أن يكون البيع في كل ما كان المقصود منه الكثرة لا الآحاد: فيصح الجزاف في المكيلات والموزونات كالحبوب والحديد، والممسوحات أو المذروعات كالأرضين والثياب، ولا يجوز الجزاف في المعدودات إلا إذا كان في عدّه مشقة؛ لأن العد متيسر لغالب الناس، وهذا هو المراد بالمذكور في الشرط: وهو ألا يكون القصد منه آحاد أو أفراد أعيانه. فإن كان في عده مشقة جاز بيعه جزافاً، وإن كان القصد موجهاً إلى كل فرد من أفراده على حدة لم يجز بيعه جزافاً.
وعلى هذا يجوز بيع المعدود جزافاً إذا قل ثمن أفراده كالبيض والتفاح والرمان والبطيخ المتماثل في الحجم نسبياً بأن كان كله كبيراً أو كله صغيراً، لا ماكان بعضه صغيراً وبعضه كبيراً. ولا يجوز بيع المعدود جزافاً إن قصد كل فرد من أفراده بثمن معين كالعبيد والثياب والدواب، وحينئذ لا بد من عده، فإن لم تقصد أفراد هذه الأشياء جاز بيعها جزافاً.
ولا يجوز فيما له خطر وهو بيع الدراهم والدنانير والجواهر جزافاً، ويجوز بيع التبر والفضة غير المسكوكين جزافاً.
والخلاصة: متى عدَّ المعدود بلا مشقة لم يجز جزافاً سواء قصدت أفراده أم لا، قل ثمنها أم لا، ومتى عدَّ بمشقة فإن لم تقصد أفراده جاز بيعه جزافاً قل ثمنها أم لا، وإذا قصدت جاز جزافاً إن قل ثمنها ومنع إن لم يقل (1).
وأما الحنفية فقد عرفنا الخلاف المذهبي عندهم، فالإمام أبو حنيفة يحصر جواز بيع الجزاف في المكيل والموزون (أي المثليات) في الكيل الواحد منها، والصاحبان يجيزان بيع المجازفة في المكيلات والموزونات والذرعيات كالثياب
_________
(1) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 3 ص 21.

(5/3693)


والأراضي والمعدودات المتقاربة كالجوز والبيض، والعدديات المتفاوتة كالحيوانات، والفتوى على رأيهما للتيسير على الناس كما أوضحت (1).
وفي الجملة: يجيز الشافعية والحنابلة أيضاً بيع المكيلات والموزونات والمذروعات والمعدودات جزافاً (2).
4 - أن يحزر المبيع بالفعل من أهل الحزر: فلا يصح بيع الجزاف فيما يعسر حزره كعصافير حية ونحوها مما يتداخل مع بعضه كحمام في برج وصغار دجاج في مدجنة كبرى، إلا إذا أمكن معرفتها بالحزر قبل الشراء في وقت هدوها أو نومها، فيجوز عندئذ شراؤها جزافاً.
وكون العاقدين من أهل الحزر بأنفسهما أو بوكيلهما يتحقق بالممارسة والخبرة والاعتياد.
ووافق الشافعية على هذا الشرط، فقرروا أنه لا بد من معرفة مقدار الصبرة أو التمكن من تخمينه، فأجازوا في الأصح بيع النحل في الكندوج (3) إذا رئي في دخوله وخروجه، ولم يعرف أنه خرج جميعه (4).
5 - أن يكون المبيع كثيراً كثرة غير هائلة: فإن كان كثيراً جداً يمنع بيعه جزافاً، سواء أكان مكيلاً أم موزوناً أم معدوداً لتعذر حزره وتخمينه. وإن لم يكثر جداً يجوز بيعه جزافاً مكيلاً كان أو موزوناً أو معدوداً لإمكان حزره. وأما ما قل جداً فيمنع بيعه جزافاً إن كان معدوداً لأنه لا مشقة في علمه بالعدد، ويجوز إن كان
_________
(1) راجع فتح القدير: 5 ص 88 - 90، اللباب شرح الكتاب: 2 ص 7 ومابعدها.
(2) انظر مغني المحتاج: 2 ص 16 - 17، المغني: 4 ص 124.
(3) الكندوج ـ بضم الكاف وسكون النون: وهو الخلية، عجمي معرب، ويقال لها الكوارة أيضاً.
(4) المجموع: 9 ص 345، 353، المهذب: 1 ص 265.

(5/3694)


مكيلاً أو موزوناً وجهل العاقدان قدر كيله أو وزنه، ولو كان لا مشقة في كيله أو وزنه.
6 - أن تكون الأرض التي عليها المبيع مستوية علماً أو ظناً: فإن لم تكن مستوية فسد العقد بسبب الغرر الكثير أو الجهالة، أما إن ظن المتعاقدن أنها مستوية ثم تبين في الواقع أن فيها علواً فيمنح المشتري الخيار، وإن كان فيها انخفاض فالخيار للبائع.
واتفق الشافعية مع المالكية على هذا الشرط، فقرروا في الأصح عندهم أن البيع فاسد إذا كانت الصبرة على موضع من الأرض فيه ارتفاع وانخفاض، أو كان المبيع سمناً ونحوه في ظرف مختلف الأجزاء رقة وغلظاً (1).
واشترط الحنابلة أيضاً هذا الشرط، فقرروا كالمالكية أن المشتري بالخيار إذا بان أن الصبرة على ربوة مثلاً، وكذلك البائع بالخيار إذا بان أن تحت الصبرة حفرة لم يكن يعلم بها (2).
ويظهر لنا أن الحنفية يطالبون أيضاً بتحقق هذا الشرط بدليل أنهم شرطوا في بيع شيء بإناء بعينه لا يعرف مقداره ألا يكون الإناء محتملاً للزيادة والنقصان كأن يكون من خشب أو حديد، أما إذا كان يحتمل أو ينكبس بالكبس كالزنبيل والجوالق والقفة فلا يجوز كما ذكر (3).
7 - ألا يشتمل العقد الواحد على جزاف من الحب ومكيل منه، من غير جنسه أو من جنسه، ولا على جزاف من الحب مع مكيل من الأرض، ولا على
_________
(1) المجموع: 9 ص 315، 345، 350، المهذب: المكان السابق.
(2) المغني: 4 ص 124 ومابعدها.
(3) تبيين الحقائق: 4 ص 5، فتح القدير: 5 ص 86.

(5/3695)


جزاف من الأرض مع الأرض المكيلة؛ فلا يصح بيع هذه الصبرة من القمح مع عشرة أمداد من قمح آخر أو شعير، ولا يجوز بيع هذه الصبرة مع عشرة أذرع من الأرض، ولا يجوز بيع هذه الأرض جزافاً مع مئة متر من أرض أخرى، وسبب منع هذه الصور الثلاث: هو تأثر الشيء المعلوم بجهالة المجهول.
أما إذا اجتمع في صفقة واحدة شيئان، كل منهما يباع بحسب الأصل الذ ي يباع به، فيجوز، كشراء صبرة حب معلومة القدر، مع أرض مجهولة القدر؛ بألف دينار، لموافقة كل منهما للأصل الذي يباع به، أي لا يمنع اجتماع جزاف أصله أن يباع جزافاً كالأرض، مع ما أصله أن يباع كيلاً، كالحب المكيل، لمجيء كل منهما على أصله (1).
_________
(1) راجع الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 ص 23.

(5/3696)


........................ 5 .........................................

........................................... الربا .........................................
خطة الموضوع:
الكلام مقصور على الربا الذي هو أحد أنواع البيوع المنهي عنها قطعاً على ما يأتي:

المطلب الأول ـ تعريف الربا وأدلة تحريمه.
المطلب الثاني ـ أنواع الربا.
المطلب الثالث ـ مذاهب الفقهاء في علة الربا.
المطلب الرابع ـ أثر الاختلاف في علة الربا.
المطلب الأول ـ تعريف الربا وأدلة تحريمه:
الربا في اللغة: الزيادة، قال الله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج:5/ 22] أي زادت ونمت، وقال سبحانه: {أن تكون أمة هي أربى من أمة} [النحل:16/ 92] أي أكثر عدداً، يقال: (أربى فلان على فلان) أي زاد عليه (1).
_________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 21، نهاية المحتاج: 3 ص 39.

(5/3697)


وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة، وهذا تعريف الحنابلة. وعرفه في الكنز عند الحنفية بأنه: فضل مال بلا عوض في معاوضة مال بمال. ويقصد به فضل مال ولو حكماً، فيشمل التعريف حينئذ ربا النسيئة والبيوع الفاسدة، باعتبار أن الأجل في أحد العوضين فضل حكمي بلا عوض مادي محسوس، والأجل يبذل بسببه عادة عوض زائد (1).
والربا محرم بالقرآن والسنة والإجماع.
أما القرآن: فقوله تعالى: {وأحلّ الله البيع وحرم الربا} (2) [البقرة:275/ 2]، {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة:275/ 2]. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون} [البقرة:278/ 2 - 279].
وكان تحريم الربا سنة ثمان أوتسع من الهجرة.
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات ـ وذكر منها أكل الربا» (3)
_________
(1) رد المحتار: 4 ص 184.
(2) رد الله تعالى بهذا على العرب في الجاهلية الذين كانوا يقولون: إنما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه ربا أي أن الزيادة عند حلول أجل الدين آخراً كمثل أصل الثمن في أول العقد، فبين الله الفرق بين النوعين بأن الزيادة في أحدهما لتأخير الدين وفي الآخر لأجل البيع، وأيضاً فإن البيع بدل البدل لأن الثمن فيه بدل المثمن، والربا زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل، أو زيادة في الجنس، (راجع تفسير القرطبي ومجمع البيان للطبرسي).
(3) أخرجه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قلنا، وما هنّ يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (راجع الإلمام بأحاديث الأحكام لابن دقيق العيد: ص 518).

(5/3698)


وروى ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه» (1) وروى الحاكم عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» (2) وستأتي أحاديث أخرى في بحث علة الربا.
وأجمعت الأمة على أن الربا محرّم، قال الماوردي: «حتى قيل: إنه لم يحلَّ في شريعة قط»، لقوله تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} [النساء:161/ 4] يعني في الكتب السابقة (3).
والربا المحرم في الإسلام نوعان: أولهما: ربا النسيئة الذي لم تكن العرب في الجاهلية تعرف سواه، وهو المأخوذ لأجل تأخير قضاء دين مستحق إلى أجل جديد، سواء أكان الدين ثمن مبيع أم قرضاً.
وثانيهما: ربا البيوع في أصناف ستة هي الذهب والفضة والحنطة والشعير والملح والتمر وهو المعروف بربا الفضل. وقد حرم سداً للذرائع، أي منعاً من التوصل به إلى ربا النسيئة، بأن يبيع شخص ذهباً مثلاً إلى أجل ثم يؤدي فضة بقدر زائد مشتمل على الربا.
_________
(1) رواه أبو داود وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلم «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده» ورواه مسلم عن جابر قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وكاتبه وشاهده، وقال: هم سواء» وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة، وروى الترمذي وابن ماجه عن أنس قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الخمر عشرة .. الحديث» (راجع مجمع الزوائد: 4 ص 118، سبل السلام: 3 ص 36، نيل الأوطار: 5 ص 154).
(2) رواه ابن ماجه مختصراً والحاكم بتمامه وصححه. وفي معناه أحاديث كثيرة في بعضها: «الربا سبعون باباً» وفي بعضها: «الربا اثنان وسبعون باباً» (راجع مجمع الزوائد: 4 ص 117، سبل السلام: 3 ص 37).
(3) مغني المحتاج: 2 ص 21، المهذب: 1 ص 270، المغني: 4 ص 1، المبسوط: 12 ص 109، فتح القدير: 5 ص 274، حاشية قليوبي وعميرة: 2 ص 166.

(5/3699)


والنوع الأول هو المحرم بنص القرآن وهو ربا الجاهلية، وأما الثاني فقد ثبت تحريمه في السنة بالقياس عليه لاشتماله على زيادة بغير عوض، وأضافت السنة تحريم نوع ثالث وهو بيع النَّساء إذا اختلفت الأصناف، فاعتبرته ربا؛ لأن النَّساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة. ويساويه في المعنى القرض الذي يجر نفعاً؛ لأنه مبادلة الشيء نفسه (1).

وحكم عقد الربا سواء ربا الفضل وربا النسيئة: حرام باطل عند الجمهور، فلا يترتب عليه أي أثر، فاسد عند الحنفية.
المطلب الثاني ـ أنواع الربا:
ربا البيع عند جمهور الفقهاء نوعان: ربا الفضل وربا النسيئة (2). وقد عرف فقهاء الحنفية ربا الفضل (3) الذي هو بيع: بأنه زيادة عين مال في عقد بيع على المعيار الشرعي (وهو الكيل أو الوزن) (4) عند اتحاد الجنس. ولم نقل: (شرطت في عقد بيع) كما ذكر الكاساني؛ لأن ترك ذلك أولى فإن الربا يتحقق بالزيادة المشروطة وغير المشروطة في البيع أو في القرض، والقصد من قوله (عين مال) هو
_________
(1) راجع الموافقات للشاطبي: 4 ص 40 ط مصطفى محمد.
(2) البدائع: 5 ص 183، بداية المجتهد: 2 ص 129، حاشية الدسوقي: 3 ص 47، المغني:4 ص 1، أعلام الموقعين: 2 ص 135.
(3) سماه ابن القيم الربا الخفي الذي كان تحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرِّماء» أي الربا.
(4) المعيار الشرعي أي بحسب العادة في بيع الأشياء عند أبي يوسف: وهو الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن أي أن الربا محصور في دائرة المكيلات والموزونات، والمقصود بقوله «زيادة عين مال» الزيادة المادية الملموسة في أحد العوضين عن الآخر بغض النظر عن الزيادة في القيمة، فإذا حصلت زيادة عينية في مال وجد الربا، وإن كان المالان مختلفين أو متساويين في القيمة الشرائية.

(5/3700)


أنه ينظر في تحقيق الفضل أو الزيادة إلى المقدار والكمية لا إلى القيمة، واحترز بقيد (المعيار الشرعي) عن المذروع والمعدود، فإنه لا يتحقق فيهما ربا. كما لا ربا في الأموال القيمية مثل أنواع الحيوان والبسط والطنافس والأثاث والأراضي والشجر والدور، فلا تحرم فيها الزيادة، فيجوز فيها أخذ كثير مقابل قليل من جنسه؛ لأن القيميات ليست من المقدرات أي مما لا تخضع في مبادلتها لمقدار كيلي أو وزني موحد. وإنما يختص الربا في كل مكيل أو موزون، فلو باع خمسة أذرع من قماش معين بستة أذرع منه، أو بيضة ببيضتين أو شاة بشاتين، جاز بشرط التقابض في المجلس، فإذا كان أحدهما نسيئة لم يجز البيع؛ لأن وجود الجنس فقط كاف لتحريم ربا النَّساء، أي تأجيل أحد البدلين.
ويمكن تعريف ربا الفضل بعبارة أخرى: هو بيع ربوي بمثله مع زيادة في أحد المثلين.
والخلاصة: أن تبادل الأموال الربوية يجب فيه التساوي في الكميات المبادلة في الجنس الواحد. والتساوي عند أبي يوسف يعتبر شرعاً بالمقياس العرفي في كل صنف على حدة، فما كان وزنياً عرفاً كالزيت والسمن يجب تساوي الكميتين فيه بالوزن، وما كان كيلياً عرفاً يجب التساوي فيه بالكيل.
وتحريم الربا في النقدين (الذهب والفضة أو ما يحلّ محلهما من النقود الورقية الرائجة) لا فرق فيه بين المسكوك المصنوع أو التبر غير المصنوع. لذا قال الفقهاء عن الدراهم: تبرها وعينها سواء. إلا أن ابن القيم أجاز بيع المصوغات الذهبية والفضية المباحة الاستعمال كالخاتم والحلية للنِّساء بأكثر من وزنها ذهباً أو فضة، رعاية للصنعة ولحاجة الناس إلى ذلك (1).
_________
(1) أعلام الموقعين: 2 ص 140.

(5/3701)


وأما ربا النسيئة (1) الذي هو بيع، فقد عرفه الحنفية بأنه: فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدين في المكيلين أو الموزونين عند اختلاف الجنس (2)، أو في غير المكيلين أو الموزونين عند اتحاد الجنس (3)، أي أن يباع الجنس الواحد ببعضه، أو بجنس آخر مع زيادة في الكيل أو الوزن في نظير تأخير القبض، كبيع صاع من الحنطة بصاع ونصف يدفع له بعد شهرين، وكبيع صاع من القمح بصاعين من الشعير يدفعان له بعد ثلاثة أشهر، أو بدون زيادة كبيع رطل من التمر ناجز تسليمه برطل آخر من التمر مؤجل التسليم، وهذه أمثلة المكيل أو الموزون عند اختلاف الجنس أو اتحاده. وأما مثال غير المكيل أو الموزون عند اتحاد الجنس فهو بيع تفاحة بتفاحتين أو سفرجلة بسفرجلتين لشهر مثلاً (4). ففي كل هذه الأمثلة يوجد ربا النسيئة لاشتماله على زيادة في أحد العوضين بدون مقابل، وأما سبب التحريم عند التساوي قدراً فهو بسبب الزيادة في القيمة، إذ لا يقبل أحد العاقدين عادة
_________
(1) سماه ابن القيم الربا الجلي: وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فيقول الدائن للمدين عند حلول الأجل: أتقضي أم تربي؟ وهذا هو الربح المركب.
(2) أي وكذا عند اتحاد الجنس من باب أولى.
(3) البدائع: 5 ص 183، رد المحتار: 4 ص 184 ومابعدها.
(4) إن الزيادة المادية التي سيحصل عليها البائع بعد مدة كانت في مقابل تسليم المشتري في الحال مداً من الحنطة. وهذا هو المقصود بفضل الحلول على الأجل أي أن المال المدفوع في الوقت الحاضر أكثر أهمية من المدفوع في المستقبل، وأما المقصود بفضل العين على الدين فهو أن الشيء المعين بذاته يكون أكثر أهمية من الشيء المعين بنوعه إذ قد يختلف هذا عن الوصف، وقد لا يقوم البائع بتسليم ما يجب عليه، كما في شراء كمية محددة المقدار غير معينة الذات من القمح أو السكر أو نحوهما في مقابل مقدار معين من الشعير مثلاً، فالمبيع في هذه الحالة يكون من قبيل الدين لا العين، والثمن هوالعين. وبه يتبين أن المساواة بين البدلين في العينية مطلوبة احترازاً عن شبهة الفضل الذي هو ربا، لأن العين خير من الدين، وإن كان حالاً، ولهذا لم يجز أداء زكاة العين من الدين، واشتراط التعيين مأخوذ من نص الحديث «يداً بيد» لأن اليد آلة التعيين، كالإحضار والإشارة، كما أن شرط المماثلة مأخوذ من قوله «مثلاً بمثل» فأصبح التعيين في البدلين الربويين أمراً مطلوباً، لتحقيق المساواة بينهما، كما أن تعيين أحد البدلين شرط لجواز كل بيع، احترازاً عن الدين بالدين الذي هو نسيئة بنسيئة، وهو ربا.

(5/3702)


تأجيل تسليم أحد العوضين إلا عند وجود الزيادة به في القيمة (1). والمعجل عادة أكثر من المؤجل، كما أن العين أفضل من الدين، إذ قد لا يقوم المدين بالتسليم، وقد يكون مخالفاً للمتفق عليه.
وذهب ابن عباس وأسامة بن زيد بن أرقم والزبير وابن جبير وغيرهم إلى أن الربا المحرم فقط: هو ربا النسيئة لقوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الشيخان من حديث أسامة: «لا ربا إلا في النسيئة» وهؤلاء يرد عليهم بالأحاديث التي ثبت بها تحريم ربا الفضل، لذا نقل جابر بن زيد أن ابن عباس رجع عن قوله، ثم جاء إجماع التابعين على تحريم الربا بنوعيه، فرفع الخلاف. وأما تأويل الحديث السابق فهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن مبادلة الحنطة بالشعير والذهب بالفضة إلى أجل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «لا ربا إلا في النسيئة» فهذا بناء على ما تقدم من السؤال، فكأن الراوي سمع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يسمع ما تقدم من السؤال أو لم يشتغل بنقله (2) أو أن القصد من قوله «لا ربا» الربا الأكمل الأعظم
خطورة، الأكثر وقوعاً، الأشد عقوبة، كما تقول العرب: «لا عالم في البلد إلا فلان» مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل علماً، لا نفي أصل العلم.

وربا البيع عند الشافعية ثلاثة أنواع:
1 - ربا الفضل: وهو البيع مع زيادة أحد العوضين عن الآخر أي أن الزيادة مجردة عن التأخير. وهو لا يكون إلا في بدلين متحدي الجنس مثل كيلة قمح بكيلة ونصف مثلاً من القمح، وغرام ذهب بغرام ونصف، وهذا باتفاق العلماء، بدليل
_________
(1) الموافقات للشاطبي: 4 ص 42.
(2) راجع المبسوط للسرخسي: 12 ص 112، تكملة المجموع للسبكي: 10 ص 48.

(5/3703)


حديث أبي سعيد الخدري عند الشيخين: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولاتُشِفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفُّوا بعضها على بعض». والورق: الفضة، ولا تشفوا: لا تفضلوا.

2 - وربا اليد: وهو البيع مع تأخير قبض العوضين أو قبض أحدهما من غير ذكر أجل، أي أن يتم بيع مختلفي الجنس كالقمح بالشعير من غير تقابض في مجلس العقد. وهذا النوع داخل في تعريف ربا النسيئة عند الحنفية في قولهم: «فضل العين على الدين» وهو مفرع على شرط التقابض في المالين الربويين، ففيه يحدث التأخير في قبض البدلين أو أحدهما عن مجلس العقد بالفعل لا بالشرط. ودليله حديث عمر عند البخاري ومسلم: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء» أي خذ وأعط.
3 - وربا النسيئة: وهو البيع لأجل أي البيع نسيئة إلى أجل ثم الزيادة عند حلول الأجل، وعدم قضاء الثمن في مقابلة الأجل، أي أن الزيادة في أحد البدلين من غير عوض في مقابلة تأخير الدفع، سواء من جنس واحد أم جنسين مختلفين، وسواء أكانا متساويين أم متفاضلين، ودليل تحريمه حديث عبادة عند مسلم: «فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» أي مقابضة، وحديث أبي سعيد الخدري عند الشيخين: «ولا تبيعوا منها غائباً بناجز» أي مؤجلاً بحاضر، ورواية مسلم: «مثلاً بمثل يداً بيد».
وكل من ربا اليد وربا النسيئة لا يكون عند الشافعية إلا في بدلين مختلفي الجنس. والفرق بينهما أن ربا اليد في حالة تأخير القبض. وربا النسيئة في حالة تأخير الاستحقاق بذكر الأجل في العقد ولو قصيراً، يعني أن الشافعية قصروا ربا النسيئة على حالة البيع الذي يصاحبه أجل. وأما ربا اليد فهو في حالة البيع الحال

(5/3704)


المنجز مع تأخير القبض. وزاد المتولي من الشافعية: ربا القرض
المشروط فيه جر نفع، قال الزركشي: ويمكن رده لربا الفضل (1).
والخلاصة: أن ربا النسيئة هو تأخير الدين في مقابل الزيادة على مقداره الأصلي (وهذا هو ربا الجاهلية)، أو تأخير قبض أحد البدلين في بيع المال الربوي بجنسه. وأما ربا الفضل: فهو زيادة أحد البدلين على الآخر في مبادلة المال الربوي بجنسه مناجزة (2). فإن قال تاجر عن سلعة: ثمنها حالاً خمس ليرات مثلاً، ومؤجلاً إلى شهر (كذا) بستة، فهذا البيع المؤجل جائز، إذ ليس فيه شيء من الربا، لاختلاف الجنس في البدلين، وبعض العلماء من الزيدية يحرمه لوجود الربا فيه.

ذرائع الربا وشبهاته: قال ابن كثير: وإنما حرمت المخابرة: وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة: وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة: وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه .. إلخ (3).
المطلب الثالث ـ مذاهب الفقهاء في علة الربا:
اتفق الفقهاء على تحريم ربا الفضل في سبعة أصناف منصوص عليها:
_________
(1) نهاية المحتاج:39/ 3، مغني المحتاج: 21/ 2، حاشية قليوبي وعميرة: 167/ 2، حاشية الشرقاوي: 30/ 2 وما بعدها.
(2) أصول البيوع الممنوعة: ص 95.
(3) راجع تفسير ابن كثير: 327/ 1.

(5/3705)


الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والزبيب، والملح. فيحرم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، واختلفوا فيما عداها:
طائفة: قصرت التحريم عليها، وهم الظاهرية.
وطائفة: حرمته في كل مكيل أو موزون بجنسه، وهذا مذهب أحمد في ظاهر مذهبه، وأبي حنيفة.
وطائفة: خصته بالنقدين أو بالطعام وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً، وهو قول الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد. والطعام عندهم: كل ما يؤخذ اقتياتاً أو تفكهاً أو تداوياً.
وطائفة: خصته بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزوناً، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن أحمد وقول للشافعي.
وطائفة: خصته بالقوت، وما يصلحه: وهو قول مالك، واعتبره ابن القيم أرجح الأقوال (1).
وأبين أهم هذه الآراء:

1 - مذهب الحنفية: قال الحنفية: علة ربا الفضل أو الضابط الذي تعرف به الأموال الربوية: هي الكيل أو الوزن مع اتحاد الجنس، فعند اجتماعهما: يحرم الفضل والنَّساء (2) أي أن العلة في الأشياء الأربعة المنصوص عليها (البر والشعير والتمر والملح): هي الكيل مع الجنس. وفي الذهب والفضة: العلة هي الوزن مع
_________
(1) أعلام الموقعين: 136/ 2.
(2) البدائع: 183/ 5، فتح القدير: 274/ 5، مختصر الطحاوي: ص 75، المبسوط: 110/ 12،الدر المختار: 186/ 4.

(5/3706)


الجنس، فلا تتحقق علة ربا الفضل إلا باجتماع الوصفين معاً: وهما القدر والجنس أي القدر المعهود في الشرع بكيل أو وزن (1) مع الجنس، أي أن الربا يكون في الأموال التي يجمعها جنس وقدر واحد، كبيع الذهب بالذهب إذا زاد أحد البدلين على الآخر، فإن الزيادة تكون حينئذ ربا؛ لأن كلاً من البدلين موزون، وهو المراد بالقدر. وعلى هذا فإن الأموال المثلية (المكيلات والموزونات) هي التي يجري فيها الربا. وأما الأموال القيمية كالحيوان والدور وأنواع الطنافس والجواهر والآلئ، فلا يجري فيها الربا، فيجوز مبادلة الكثير بالقليل كغنمة بغنمتين؛ لأن القيميات ليست من المقدرات، أي التي تجمع بين أفرادها وحدة مقياس ومقدار.
والأصل في هذا حديث صحيح رواه أبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب (2) مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والحنطة بالحنطة مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا».
وعلى هذا فإن ربا الفضل يختص بالمقدرات المثلية من مكيل أو موزون فقط، لا مذروع أو معدود، فليس فيه ربا. وأما الأموال القيمية كأفراد الحيوان والطنافس
_________
(1) والمعتبر في الموزون والمكيل: ما كان عليه عرف المسلمين في صدر الإسلام لما روى أبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة» (راجع جامع الأصول: 371/ 1، التلخيص الحبير: ص 183)، ويرى أبو يوسف أن المقياس المعتبر في الأصناف الربوية هو المقياس العرفي الحاضر وأنه يتبدل بتبدل العرف في كل زمان ومكان (المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 514).
(2) أي بيع الذهب بالذهب.

(5/3707)


والأراضي والدور والأشجار، فلا يجري فيها ربا الفضل، لأنها ليست من المقدَّرات (أي التي تجمع بين أفرادها وحدة مقياس ومقدار معين)، فيجوز إعطاء الكثير منها في مقابل القليل من جنسه كبيع غنمة
بغنمتين؛ لأن ربا الفضل زيادة أحد المتجانسين على الآخر في المقدار والكمية، والقيميات ليست من المقدرات (1).

وحكمة التحريم: هي دفع الغبن عن الناس، وعدم الإضرار بهم، مما قد يظن بأن في أحد الجنسين معنى زائداً عن الآخر. والأصل في تحريمه هو من باب سد الذر ائع، لأنهم إذا باعوا درهماً بدرهمين، ولا يفعل هذا عند اتحاد الجنس إلا للتفاوت الذي بين النوعين: إما في الجودة، وإما في نوع السكة، وإما في الثقل والخفة وغيرها، تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر: وهو عين ربا النسيئة، أما تحريم ربا الفضل عند اختلاف الجنسين كبيع القمح بالشعير أحدهما معجل والآخر مؤجل، فهو أيضاً من قبيل سد الذرائع، كيلا يتخذ جواز التفاضل عند اختلاف الجنسين ذريعة ووسيلة إلى ربا النسيئة، فيستقرض الشخص ذهباً مثلاً إلى أجل، ثم يوفي فضة أكثر منه بقدر الربا المراد. وبذلك وضع الشرع الحكيم مقياساً مبسطاً في يد أكثر الناس لتقويم الأصناف المختلفة، دون حاجة إلى البحث عن الفروق النوعية في الصنف الواحد.
وقد لا يكون سبب التحريم هو سد الذرائع، كما في أخذ كثير رديء في قليل جيد، فزيادة الرديء تقابل بجودة الجيد، لكنه مع ذلك حرام؛ لأن هناك غرراً كبيراً لا يعلم معه أيهما غبن (2).
_________
(1) المدخل إلى نظرية الالتزام للأستاذ الزرقاء: ص 139، الدر المختار: 185/ 4.
(2) الموافقات للشاطبي وتعليقاته: 42/ 4، القياس لابن القيم: ص 114، أعلام الموقعين، المرجع السابق، الفقه على المذاهب الأربعة: 247/ 2 وما بعدها، المدخل الفقهي، المرجع السابق. وربا الفضل قليل الوقوع في المعاملة، مثاله: أن يشتري رجل مداً من القمح بمدين من القمح مقايضة: بأن تسلّم كل من البائع والمشتري ماله.

(5/3708)


ولا يقتصر الربا على ما فيه استغلال، فقد يكون ربا الجاهلية من أجل الاستثمار، ويرد المقترض للمقرض رأس المال والفوائد الربوية المتفق عليها، وقد سوى الرسول صلّى الله عليه وسلم في تحريم الربا بين المحتاج والمستغل حيث قال: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» ولعن الرسول صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله على السواء (1).

قدر ربا الفضل: القدر الذي يتحقق فيه الربا من الطعام: هو ما كان نصف صاع (2) فأكثر، لأنه لا تقدير في الشرع بما دون ذلك (3). فإذا كان أقل من نصف صاع، فإنه يصح فيه الزيادة، فيجوز أن يشتري حفنة من القمح بحفنتين (4) يداً بيد، أو تفاحة بتفاحتين مع التقابض، وهكذا إلى أن يبلغ نصف صاع، لعدم وجود المعيار المبيِّن للمساواة، فلم يتحقق الفضل أي الزيادة.
وأما القدر الذي يتحقق فيه الربا من الموزون: فهو ما دون الحبة (5) من الذهب والفضة.
ولكن يشترط في صحة البيع في مثل ذلك تعيين البدلين، فلو كان غير معينين أو أحدهما لم يجز اتفاقاً (6).
_________
(1) حكم ودائع البنوك للدكتور علي السالوس: ص 64.
(2) نصف الصاع حوالي 1350 غم أي كيلو وأوقيتان إلا ربعا، أو سبع أواق إلا ربعاً، أو 540 درهماً.
(3) فتح القدير: 278/ 5، الدر المختار: 188/ 4.
(4) الحفنة: ملء الكفين.
(5) المراد منها حبة شعير معتدل قطع من طرفيها ما دق وطال، مع العلم بأن الدرهم يساوي خمسين حبة وخمسي حبة (50 و 2/ 5) أي (975،2 غم).
(6) الدر المختار: 189/ 4، 191.

(5/3709)


نوع العلة: وهكذا كل ما تحققت فيه هذه العلة (القدر المتفق مع الجنس المتحد) فإنه يشتمل على الربا، سواء أكان مطعوماً أم غير مطعوم، فيقاس على القمح والشعير المذكورين في حديث ربا الفضل: كل ما يباع بالكيل كالذرة والأرز والسِّمسِم والحِلْبة والجص، إذا كان يباع بالكيل. ويقاس على الذهب والفضة: كل ما يباع بالوزن كالرصاص والنحاس والحديد.
وأما الذي لا يباع بالكيل ولا بالوزن كالمعدود والمذروع: فإنه لا يشتمل على ربا الفضل، فيصح بيع البيضة بالبيضتين، والذراع من قماش بذراعين من قماش من جنسه، بشرط القبض.

مقياس الأموال الربوية: يلاحظ أن ما نص الشارع على كونه كيلياً كبُر وشعير وتمر وملح، أو وزنياً كذهب وفضة، فإنه يظل كذلك لا يتغير أبداً، وإن ترك الناس التعامل فيه كما كان في الماضي. وهذا رأي جمهور الحنفية، والشافعية والحنابلة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة» (1)، فلا يصح بيع الحنطة بالحنطة بوزن متساو، ولا بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة بكيل متساو؛ لأن النص أقوى من العرف، والأقوى لا يترك بالأدنى. وقد أشرت إلى أن أبا يوسف ذهب إلى أن المقياس المعتبر في الأموال الربوية في المنصوص عليه وغيره هو المقياس العرفي وأنه يتبدل بتبدل العرف، ورأيه أقوى حجة؛ لأن النص الذي ورد بلزوم التساوي في الربويات كيلاً أو وزناً، مراعى فيه المقياس المتعارف في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإثبات العلة في المقيس على النص مما يدرك هنا بالعرف، ويؤيده أن المالكية قالوا: إذا اختلفت
_________
(1) رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمر، وأخرجه أيضاً البزار، وصححه ابن حبان والدارقطني (نيل الأوطار: 198/ 5).

(5/3710)


عوائد الناس في الكيل أو الوزن اعتبرت عادة البلد الذي تم فيه التعاقد.
وأما ما لم ينص عليه الشارع فهو محمول على عادات الناس وأعرافهم في التعامل في الأسواق (1).

جيد المال ورديئه:
يلاحظ أيضاً أن جيد مال الربا ورديئه سواء، فلا يجوز بيع الجيد بالرديء مما فيه الربا إلا مثلاً بمثل؛ لأن الجودة ساقطة في الأموال الربوية، للقاعدة الشرعية: «جيدها ورديئها سواء» (2). ولحديث أبي سعيد الخدري عند الشيخين المتقدم: «ولاتُشفّوا بعضها على بعض» أي لاتزيدوا. والحكمة من ذلك هي ألا يؤدي مبادلة الجيد بالرديء إلى نقض ما شرعه الشارع من منع التفاضل؛ لأن الناس عادة لا يبادلون شيئاً آخر، إذا كانا متساويين من كل الوجوه، وإنما يبادلون الجنس بجنسه لما بينهما من التفاوت، فلو أجيز لهم مبادلة شيء بآخر من جنسه لما فيه من صفة هي أجود، لم يحرم عليهم ربا الفضل، وكان تحريم مبادلة الجيد بالرديء دفعاً لشبهة الربا، وسداً للذرائع (3). وبناء عليه حرم المالكية بيع المراطلة: وهي بيع النقد بصنفه وزناً، وكان هناك اختلاف بين الذهبين في الجودة والرداءة.
ولا عبرة بالصنعة في النقدين: الذهب والفضة، فيجب التماثل في الوزن في التبادل بين البدلين، دون زيادة، فلو باع شخص غيره ذهباً مصوغاً حلياً بسبيكة،
_________
(1) فتح القدير: 282/ 5، الدر المختار: 189/ 4، الفروق للقرافي: 264/ 3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 254، مغني المحتاج: 24/ 2، المغني: 17/ 4، الأم: 70/ 3.
(2) ذكرها الحنفية حديثاً، وهو غريب كما قال الزيلعي، ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث ابن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة في مبادلة التمر الجنيب (الطيب) بتمر رديء من خيبر، وقوله عليه السلام: «لا تفعل ولكن بع هذا، واشتر بثمنه من هذا» (نصب الراية: 36/ 4 - 37).
(3) أعلام الموقعين: 143/ 2، مصادر الحق للسنهوري: 206/ 3.

(5/3711)


وجب التماثل في الوزن، ويحرم وجود الزيادة في أحد العوضين، لحديث الخدري عند الشيخين: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل .. ولا تبيعوا الورِق بالورِق إلا مثلاً بمثل» والذهب والفضة يشمل المسكوك وغير المسكوك.

علة ربا النسيئة:
إن علة ربا النسيئة وهو ربا الجاهلية: هي أحد وصفي علة ربا الفضل: إما الكيل أو الوزن المتفق، أو الجنس المتحد (1)، ومثاله: أن يشتري إنسان صاعاً من القمح في زمن الشتاء بصاع ونصف يدفعهما في زمن الصيف، فإن (نصف الصاع) الذي زاد في الثمن، لم يقابله شيء من المبيع، وإنما هو في مقابل الأجل فقط، ولذا سمي ربا النسيئة أي التأخير في أحد البدلين، فالزيادة في أحد العوضين في مقابلة (تأخير الدفع) سواء اتحد المقدار أو اختلف. وقد كان أهل الجاهلية إذا داين الرجل منهم أخاه، ثم حل أجل الدين، قال له: (إما أن تقضي أو تُربي)، فإما قضاه، وإما أجله وزاده شيئاً على رأس ماله، وفي هذا إرهاق للمدين، وإضرار به؛ لأن الدين قد يستغرق ماله.
وعلى هذا: إذا وجد القدر المتفق وحده كالحنطة بالشعير، أو الجنس المتحد وحده كتفاحة بتفاحتين، أو شعير بشعير، حرم النَّساء (2)، ولو كان البدلان
_________
(1) البدائع: 183/ 5، فتح القدير: 279/ 5، مختصر الطحاوي: ص 75. والمقصود بالقدر المتفق: أن يكون البدلان من فئة واحدة: إما فئة المكيلات أو فئة الموزونات. وأما الجنس المتحد فمعناه أن يكون جنس البدلين من جنس الآخر كحنطة مقابل حنطة أو ذهب مقابل ذهب مثلاً.
(2) الحكمة في أنه يجوز بيع مد حنطة بمدي شعير حالاً ولا يجوز نسيئه: هو أن البيع في الحالة الأولى لم يكن القصد منه: هو الاستغلال، وإنما تأمين الحاجة، وفي إلزامهم المساواة بالبيع إضرار بالناس، وأما في الحالة الثانية فالبيع أقرب إلى القرض، فهو مظنة لاستغلال الحاجة عند المحتاج، وتكون الزيادة مقابل الأجل، فيحرم النساء سداً لذريعة «إما أن تقضي وإما أن تربي». أما إذا بيعت الحنطة مثلاً بالدراهم نَساء فذلك جائز لحاجة الناس إليه.

(5/3712)


متساويين، حتى لو باع ملحاً بملح مثله إلى أجل، لم يجز، لوجود اتحاد الجنس. وهكذا فإن حرمة ربا الفضل تتحقق بوصفين، وحرمة النَّساء بأحد الوصفين.
وبما أن اتحاد الجنس كاف وحده لتحريم النسيئة، فلا يعتبر القدر هنا (وهو نصف صاع فأكثر) فلا يجوز بيع حفنة قمح بحفنتين إلى أجل، ولا تفاحة بتفاحتين، ولا بِطِّيخة ببطيختين إلى أجل ونحوها، لاتحاد الجنس، بخلاف ربا الفضل كما تقدم.
فإذا انتفى الجنس كحفنة بر بحفنتي شعير، يحل في الأرجح البيع مطلقاً: حالاً ونسيئة، لعدم وجود علة كل منهما. وذكر عن الإمام محمد أنه حرم ذلك كله، وقال: كل شيء حرم في الكثير فالقليل منه حرام.

حكمة التحريم:
إن حكمة تحريم ربا النسيئة إجمالاً: هي ما فيه من إرهاق المضطرين، والقضاء على عوامل الرفق والرحمة بالإنسان، ونزع فضيلة التعاون والتناصر في هذه الحياة، واستغلال القوي لحاجة الضعيف، وإلحاق الضرر العظيم بالناس، فإذا صارت النقود محلاً للتعامل بزيادة ربوية، كالسلع العادية حالاً أو نسيئة، اختل معيار تقويم الأموال الذي ينبغي أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولاينخفض. وإذا جاز ربا النسيئة في المطعومات ببيع بعضها ببعض لأجل، اندفع الناس إلى هذا البيع، طمعاً في الربح، فيصبح وجود الطعام حالاً عزيز المنال، فيقع الضرر في أقوات العالم (1):
_________
(1) القياس لابن القيم: ص 114، الفقه على المذاهب الأربعة: 246/ 2، أعلام الموقعين: 137/ 2 وما بعدها، الدر المختار: 189/ 4، فتح القدير: 278/ 5، 286.

(5/3713)


ربا المصارف: إن من ربا النسيئة كما سأوضح في آخر الموضوع: ما هو معروف اليوم في المصارف أو البنوك من إعطاء مال أو قرض مال لأجل بفائدة سنوية أو شهرية كسبعة في المئة أو خمسة أو اثنين ونصف، فهو أكل لأموال الناس بالباطل. وإن مضار الربا متحققة فيه، فحرمته كحرمة الربا، وإثمه كإثمه (1)، أي إنه ربا نسيئة، بدليل قوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} [البقرة:279/ 2]. وقد أصبح الربا في عرف الناس اليوم، لا يطلق إلا على ربح المال عند تأخيره، وهو ربا النسيئة الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه. وأما ربا الفضل فهو نادر الحصول، وبه يظهر المقصود من الحديث السابق: «إنما الربا في النسيئة» وهو التنبيه على خطره وكثرة وقوعه، كما تقدم سابقاً.
ومن المعلوم أنه يمنع البنك من التجارة والاستثمار، ومهمته الأساسية الاقتراض من المودعين والإقراض لآخرين مقترضين، ويدفع للمودعين فائدة الودائع، ويأخذ من المقترضين فائدة الإقراض، والفرق بين الفائدتين هو المصدر الأساسي لإيرادات البنك. فتكون مهمة البنوك هي الاتجار في الديون. والوظيفة الثانية للبنوك هي (خلق الديون أو الائتمان) أي إقراض ما لم تقترضه فعلاً من أحد أو تحوزه، أو إقراض مالا تملكه (2).

الجنس المتحد والمختلف: يحرم كما أبنت بيع الجنس بجنسه متفاضلين، ويجوز التفاضل بين مختلفي الجنس عند الحنفية، إلا في لحم الطير، فيجوز بيع لحم الجنس الواحد منه، كالسُّماني والعصافير متفاضلاً، لأنه ليس مالاً ربوياً، إذ لا يباع وزناً ولا كيلاً، لكن يستثنى لحم الدجاج والإوز، لأنه يوزن عادة، فيحرم بيعه متفاضلاً.
_________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 247/ 2، أصول البيوع الممنوعة للأستاذ عبد السميع: 118.
(2) حكم ودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي للدكتور علي السالوس: ص40.

(5/3714)


والضابط لاختلاف الجنس عند الحنفية: هو بحسب اختلاف الأصل كخل التمر مع خل العنب، ولحم البقر مع لحم الضأن، أو باختلاف المقصود كشعر المعز وصوف الغنم، فإنه يختلف القصد من استعمال كل منهما في الصناعات، أو بتبدل الصفة كالخبز مع الحنطة، فإن الخبز صار عددياً أو موزوناً، والحنطة مكيلة. وعلى هذا فتعتبر لحوم الإبل والبقر والغنم وألبانها أجناساً مختلفة، فيجوز التفاضل فيما بينها، والحنطة والشعير والذرة ونحوها أجناس مختلفة، والخبز مع الدقيق أو الحنطة جنسان، والشحم مع اللحم جنسان، والزيت مع الزيتون، والزيت المطبوخ بغير المطبوخ، جنسان لاختلاف المقصود والغرض منهما، وهكذا بحسب الضابط المذكور (1).

أدلة الحنفية: استدل الحنفية على أن علة الربا هي الكيل أو الوزن: بأن التساوي أو المماثلة في العوضين شرط في صحة البيع، وحرمة الربا لوجود فضل مال خال عن العوض، وهذا يوجد في غير المنصوص عليه في الحديث السابق، مثل الجص والحديد ونحوهما. والتساوي أو المماثلة بين الشيئين يكون باعتبار الصورة والمعنى. والقدر المتفق (وهو الكيل أو الوزن) يحقق المماثلة صورة، والجنس يحقق المماثلة معنى؛ لأن المجانسة في الأموال عبارة عن تقارب المالية، فالقفيز يماثل القفيز (2)، والدينار يماثل الدينار، فيكون القفيز الزائد فضل مال خال عن العوض يمكن التحرز عنه في عقد المعاوضة، فكان ربا، وهذا المعنى لا يخص المطعومات والأثمان، بل يوجد في كل مكيل يباع بجنسه، وموزون يبادل بمثله (3).
وبعبارة أخرى: إن المراد من الحنطة مثلاً في الحديث السابق هو أنها مال
_________
(1) فتح القدير: 297/ 5 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 193/ 4 وما بعدها.
(2) القفيز: مكيال، وهو ثمانية مكاكيك والمكوك: صاع ونصف.
(3) المبسوط: 116/ 12، البدائع: 184/ 5، فتح القدير: 277/ 5.

(5/3715)


متقوم، لأن البيع لا يصح إلا على مال متقوم؛ ولا يعلم ماليتها، إلا بالكيل، فصارت صفة الكيل ثابتة بمقتضى النص، فكأنه عليه السلام قال: الذهب الموزون بالذهب، والحنطة المكيلة بالحنطة. وإذا كان المطلوب للتخلص من الربا هو المماثلة بين العوضين، فإن المماثلة في الكيل أو الوزن هي طريق الخلاص من الحرام، والحفنة والتفاحة لاتقبل المماثلة، فلم تكن من أموال الربا (1) أي ربا الفضل، لا ربا النسيئة فإنها من أموال الربا فيها.
ويلاحظ أن الحنطة كلها على اختلاف أنواعها وأوصافها وبلدانها جنس واحد، ومثلها الشعير، ودقيقهما، وكذلك التمر، والملح، والعنب، والزبيب، والذهب، والفضة، فلا يجوز بيع كل مكيل أو موزون من ذلك بجنسه متفاضلاً في الكيل أو الوزن، وإن تساويا في النوع والصفة (2).

2 - مذهب المالكية:
قال المالكية في ظاهر المذهب: علة تحريم الزيادة في الذهب والفضة هي النقدية (أي الثمنية)، أما في الطعام: فإن العلة عندهم تختلف بين ربا النسيئة وربا الفضل.
العلة في تحريم ربا النسيئة: هي مجرد المطعومية على غير وجه التداوي، سواء وجد الاقتيات والادخار، أو وجد الاقتيات فقط، أو لم يوجد واحد منهما، مثل أنواع الخضر من قثاء وبطيخ وليمون وخس وجزر، وقلقاس، وأنواع الفاكهة الرطبة كالتفاح والموز.
_________
(1) مصادر الحق للسنهوري: 180/ 3.
(2) البدائع: 187/ 5، المبسوط: 122/ 12.

(5/3716)


وأما العلة في تحريم ربا الفضل فهي أمران: الاقتيات والادخار، أي أن يكون الطعام مقتاتاً، والمعنى أن الإنسان يقتات به غالباً بحيث تقوم عليه بنيته، بمعنى أنه لو اقتصر عليه يعيش بدون شيء آخر، دون أن تفسد البنية كالحبوب كلها والتمر والزبيب واللحوم والألبان وما يصنع منها. وفي معنى الاقتيات: إصلاح القوت كملح ونحوه من التوابل والخل والبصل والثوم والزيت.
ومعنى كونه صالحاً للادخار: أنه لا يفسد بتأخيره مدة من الزمن، لا حد لها في ظاهر المذهب، وإنما بحسب الأمد المبتغى منه عادة في كل شيء بحسبه، فالمرجع فيه إلى العرف دون تحديد بمدة ستة أشهر أو سنة، كما رأى بعضهم.
ودليلهم على أن هذه هي علة تحريم الربا: هو أنه لما كان حكم التحريم معقول المعنى في الربا وهو ألا يغبن بعض الناس بعضاً، وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش: وهي الأقوات: كالحنطة والشعير والأرز والذرة والكِرسَنَّة والتمر والزبيب، والبيض، والزيت، والبقول السبعة: وهي (العدس، واللوبيا، والحِمّص، والتُرْمس، والفول، والجُلْبان، والبسلة) (1).

وأما اتفاق الجنس واختلافه فيلاحظ أن الإمام مالك يعتبر القمح والشعير والسُلْت (وهو نوع من الشعير ليس له قشر) صنفاً واحداً، وأن الذرة والدُّخن والأرز صنف واحد، وأن القَطَاني أو البقول كالفول والعدس والحمص وشبه ذلك كلها صنف واحد، وعلى هذا لا يجوز التفاضل بين القمح والشعير، ويجوز بين القمح والذرة. وأما اللحوم عند مالك فهي ثلاثة أصناف: فلحم ذوات الأربع صنف، ولحم الطيور صنف، ولحم الحيتان صنف (2).
_________
(1) المنتقى على الموطأ: 158/ 4، بداية المجتهد: 131/ 2، حاشية الدسوقي: 47/ 3، الحطاب: 346/ 4، الفقه على المذاهب الأربعة: 251/ 2.
(2) القوانين الفقهية: ص 253.

(5/3717)


3 - مذهب الشافعية:
قال الشافعية: العلة في الذهب والفضة: هي النقدية أو الثمنية، أي كونهما أثماناً للأشياء، سواء أكانا مضروبين، أم غير مضروبين (مسكوكين)، ولا أثر لقيمة الصنعة في الذهب والفضة، فلو اشترى رجل بدنانير ذهباً مصوغاً قيمته أضعاف الدنانير، اعتبرت المماثلة في الكمية، ولا نظر إلى القيمة. والمقصود بعلة الربا في الذهب والفضة على المعتمد هو جنسية الأثمان غالباً، وهي منتفية عن الفلوس (وهي القروش وغيرها المصنوعة من معادن غير الذهب والفضة كالنيكل والبرونز والنحاس) وغيرها من سائر عروض التجارة، لا أنها قيم الأشياء؛ لأن الأواني والتبر والحلي يجري فيها الربا وليس مما يقوم بها، واحترز بغالباً: عن الفلوس إذا راجت فإنه لا ربا فيها. ولا أثر لقيمة الصنعة في ذلك. حتى لو اشترى بدنانير ذهباً مصوغاً، قيمته أضعاف الدنانير، اعتبرت المماثلة، ولا نظر إلى القيمة.
وبما أن الفلوس ومنها النقود الورقية الحالية أصبحت هي أثمان الأشياء غالباً، فإني أرى جريان الربا فيها، وهو الموافق لمذهب الحنفية.
وأما العلة في الأصناف الأربعة الباقية، فهي الطعمية ـ بضم الطاء، أي كونها مطعومة. والمطعوم يشمل أموراً ثلاثة:
أحدها: ما قصد للطعم والقوت كالبُّر والشعير، فإن المقصود منهما التقوت أي الأكل غالباً، ويلحق بهما ما في معناهما كالفول والأَرُزّ والذرة والحمص والترمس ونحوها من الحبوب التي تجب فيها الزكاة.
ثانيها: أن يقصد به التفكه، وقد نص الحديث على التمر، فيلحق به ما في معناه، كالزبيب والتين.

(5/3718)


ثالثها: أن يقصد به إصلاح الطعام والبدن: أي للتداوي. وقد نص الحديث على الملح، فيلحق به ما في معناه من الأدوية القديمة كالسنامكي والسقمونيا والزنجبيل، ونحوها من العقاقير المتجانسة كالحبة اليابسة.
وعلى هذا فلا فرق بين ما يصلح الغذاء أو يصلح البدن، فإن الأغذية لحفظ الصحة، والأدوية لرد الصحة. وبه يكون المطعوم: كل ما قصد للطُعم (أي الأكل غالباً) اقتياتاً أو تفكهاً أو تداوياً. وتكون علة الربا عند الشافعية هي: الطعم أو النقدية؛ أما ما ليس بطعم كالجبس أو الحديد والأقمشة وغيرها من كل ما يباع كيلاً أو وزناً، فإنه يصح بيعه بجنسه متفاضلاً، كعروض التجارة، لأنها أي المذكورة كلها ليست أثماناً. وما كان في الغالب قوتاً لغير الآدميين، لا يحرم الربا فيه.
ودليلهم: أن الحكم إذا علق باسم مشتق دلّ على أن المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم، مثل قوله سبحانه: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5] ففهم أن السرقة هي علة قطع اليد، وإذا كان هذا هو المقرر، فقد جاء من حديث معمر بن عبد الله أنه قال: كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الطعام بالطعام مثلاً بمثل» (1) فتبين أن الطُّعم هو علة الحكم، لأن الطعام مشتق من الطعم، فهو يعم المطعومات، وهذا وصف مناسب، لأنه ينبئ عن زيادة الخطر (أي الأهمية) في الأشياء الأربعة التي نص عليها الحديث؛ لأن حياة النفوس بالطعام. وكذلك الثمنية معنى مناسب، لأنه ينبئ عن زيادة خطر، وهو شدة الحاجة إلى النقدين (الذهب والفضة) أو ما يقوم مقامهما من النقود الورقية، بحسب التخريج والتصحيح الذي رأيته، خلافاً للمعتمد في المذهب الشافعي في العرف الماضي.
_________
(1) رواه مسلم وأحمد عن معمر بن عبد الله (راجع نصب الراية: 37/ 4، التلخيص الحبير: ص 235، نيل الأوطار: 193/ 5).

(5/3719)


أما القدر الذي قال به الحنفية، فلا ينبئ عن زيادة خطر في الأشياء.
وعلى هذا: إذا بيع الطعام بالطعام أو النقد بالنقد، حالة اتحاد الجنس كحنطة بحنطة، وفضة بفضة، مضروبين كانا أو غير مضروبين كالحلي والتبر، اشترط في صحة البيع ثلاثة أمور: الحلول (بأن لا يذكر في العقد أجل مطلقاً) والمماثلة يقيناً بحسب المعيار الشرعي (وهو الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، بحسب عادة أهل الحجاز في عهد الرسول عليه السلام، وفي غير ذلك تعتبر عادة بلد البيع حالة البيع) والتقابض (أي القبض الحقيقي للعوضين مطلقا ً) قبل التفرق من المجلس. واشتراط التقابض زيادة عما اشترطه الحنفية من المساواة في العينية أي تعيين كل من البدلين، سواء في حالة اتفاق الجنس أو اختلاف الجنس، لقوله عليه الصلاة والسلام: «يداً بيد» في كل من الحالتين.
فإذا اختلف الجنس كحنطة وشعير جاز التفاضل، ويشترط الحلول والتقابض قبل التفرق. قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد؛ فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» أي مقابضة، ويؤخذ من ذلك اشتراط الحلول. فإذا بيع الطعام بغيره كنقد أو ثوب، أو غير الطعام بغير الطعام وليسا نقدين، كحيوان بحيوان، لم يشترط شيء من الشروط الثلاثة السابقة، أي فلا ربا فيه. والسبب في أنه لا ربا في الحيوان مطلقاً: هو أنه لا يعد للأكل على هيئته، وقد اشترى ابن عمر رضي الله عنهما بعيراً ببعيرين بأمره صلّى الله عليه وسلم (1).
_________
(1) مغني المحتاج: 22/ 2 - 25، حاشية قليوبي وعميرة: 167/ 2 ومابعدها، حاشية الشرقاوي: 23/ 2 ومابعدها. المهذب: 272/ 1.

(5/3720)


اتحاد الجنس واختلافه: كل شيئين متفقين في الاسم الخاص من أصل الخلقة كتمر وتين من نوعين (أي كل أنواع التمور جنس واحد، وكل أنواع التين جنس واحد، وكل أنواع الزبيب جنس واحد)، أو متحدين في أصلهما كدقيق من حنطتين: هما جنس واحد عند الشافعية، وكل شيئين مختلفين في الاسم من أصل الخلقة كالحنطة والشعير والتمر والزبيب، أو متخذين من أصلين كأدقة الأصول المختلفة الجنس وخلولها وأدهانها واللحوم والألبان، هما جنسان مختلفان.
وعلى هذا فدقيق البر ودقيق الشعير والذهب والفضة بأنواع كل منها، والتمر والزبيب بأنواع كل منهما، وخل التمر وخل العنب، ولحم البقر ولحم الضأن، ودهن الجوز ودهن اللوز، ولبن البقر ولبن الضأن، والإنسي من البقر والوحشي، هما جنسان مختلفان يجوز بيعهما مع التفاضل، وبيوض الطيور أجناس، والكبد والطحال والقلب والكرش والرئة والمخ: أجناس، وإن كانت من حيوان واحد لاختلاف أسمائها وصفاتها، وشحم الظهر والبطن واللسان والرأس والأكارع: أجناس، والبطيخ الأصفر والأخضر والخيار والقثاء: أجناس، وأما الطيور: فالعصافير على اختلاف أنواعها جنس، والبطوط جنس، وأنواع الحمام جنس واحد على الأصح (1). والرطب واليابس من أصل واحد كالعنب والزبيب، والرطب والتمر جنس واحد، وما تفرع عن أصل مع أصله كالحنطة ودقيقها والمجروش منها كالبرغل جنس واحد. ولحوم الحيوانات أجناس مختلفة، فالضأن والمعز جنس واحد، والبقر والجاموس جنس واحد، والألبان أجناس مختلفة، كاللحوم.
_________
(1) مغني المحتاج: 23/ 2 ومابعدها، المهذب: 272/ 1.

(5/3721)


4 - مذهب الحنابلة:
في هذا المذهب ثلاث روايات بالنسبة لعلة الربا: أشهرها مثل مذهب الحنفية: وهي أن الكيل أو الوزن مع اتحاد الجنس هو علة الربا، فيجري الربا في كل مكيل أو موزون بجنسه، مطعوماً كان أو غير مطعوم، كالحبوب والأشنان والنُّورة والقطن والكتان والصوف والحناء والعصفر والحديد والنحاس ونحوها، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن، لما روى ابن عمرقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار، بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرِّماء» (والرماء: هو الربا) فقام إليه رجل فقال: «يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس إذا كان يداً بيد» (1) وروى أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما وزن مثلاً بمثل، إذا كان نوعاً واحداً، وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان، فلا بأس به» (2).
إلا أن الحنابلة خلافاً للحنفية قالوا: يحرم ربا الفضل في كل مكيل أو موزون بجنسه، ولو كان قليلاً كتمرة بتمرة، وما دون الأرزة من نقد (ذهب أو فضة)، لا في ماء، ولا فيما لا يوزن عرفاً: لصناعته من غير ذهب أو فضة، كمعمول من نحاس أو حديد أو قطن ونحوه.
والرواية الثانية: كمذهب الشافعية.
والرواية الثالثة: العلة فيما عدا الذهب والفضة: كونه مطعوماً إذا كان مكيلاً أو موزوناً، فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالتفاح والرمان والخوخ
_________
(1) رواه أحمد والطبراني في الكبير بنحوه، قال الهيثمي: وفيه أبو جناب وهو ثقة ولكنه مدلس (راجع جامع الأصول: 469/ 1، مجمع الزوائد: 113/ 4، نصب الراية: 56/ 4).
(2) رواه الدارقطني عن الحسن عن عبادة وأنس بن مالك (راجع نيل الأوطار: 193/ 5).

(5/3722)


والبطيخ والكمثرى والسفرجل والإجاص والخيار والجوز والبيض، ولا فيما ليس بمطعوم كالزعفران والأُشنان والحديد والرصاص ونحوه. وهذا قول سعيد بن المسيب كما تقدم (1). ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب» (2).

اتحاد الجنس واختلافه: مذهب الحنابلة في هذا الموضوع مثل مذهب الشافعية فإنهم قالوا (3): كل نوعين اجتمعا في اسم خاص، فهما جنس واحد كأنواع التمر، وكل شيئين اتفقا بالجنس ثبت فيهما حكم الشرع بتحريم التفاضل، وإن اختلفت الأنواع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التمر بالتمر مثلاً بمثل» فاعتبر المساواة في جنس التمر، ثم قال: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم» وفي لفظ «فإذا اختلف الجنسان .. » وفي لفظ «إلا ما اختلفت ألوانه».
فإذا كان المشتركان في الاسم الخاص من أصلين مختلفين، فهما جنسان، أي أن كل شيئين أصلهما واحد، فهما جنس واحد، وإن اختلفت مقاصدهما خلافاً للحنفية. وعلى هذا فالتمور كلها جنس واحد؛ لأن الاسم الخاص يجمعها، ودهن الورد والبنفسج والزنبق ودهن الياسمين المأخوذ من أصل واحد وهو الزيت أو الشيرج: جنس واحد (4)، والأدقة والأخباز والخلول والأدهان واللحم واللبن
_________
(1) المغني: 3/ 4 - 5، أعلام الموقعين: 136/ 2 ومابعدها، غاية المنتهى: 54/ 2.
(2) رواه الدارقطني في سننه عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ربا إلا في ذهب أو فضة، أو ما يكال، أو يوزن، أو يؤكل، أو يشرب» وهو حديث مرسل. ورواه البيهقي موقوفاً على ابن المسيب (انظر نصب الراية: 36/ 4).
(3) راجع المغني: 20/ 4، غاية المنتهى: 55/ 2.
(4) وعند الحنفية: دهن البنفسج ودهن الورد، وإن كان أصلهما واحداً لكن المقصود منهما مختلف، فهما جنسان، فيجوز بيع أحدهما بالآخر مع التفاضل بينهما، كالزيت مع الزيتون، والشيرج مع السمسم، والزيت المطبوخ بغير المطبوخ، يجوز التفاضل بينهما وزناً لاختلاف أجناسها، فلو اتحد الجنس لم يجز متفاضلاً (الدر المختار: 194/ 4).

(5/3723)


والجبن والسَمْن وعصير الأشياء المختلفة، كلها أجناس مختلفة باختلاف أصولها. ودقيق الحنطة ودقيق الشعير جنسان، وكذا أنواع الزيوت من الزيتون والقطن، والأدهان من السمك والشَّيْرج والبزر ونحوها: أجناس مختلفة.

5 - مذهب الظاهرية:
قال الظاهرية وأبو بكر بن الطيب: الربا غير معلل، وهو مخصص بالمنصوص عليه فقط (1)، وذلك لأنهم ينكرون القياس، وقد بين الشارع أن الربا يجري في الأصناف الستة، فيبقى ما عداها على الأصل وهو الإباحة.

والخلاصة: أن العلة في تحريم التفاضل في الطعام عند الحنفية والحنبلية الكيل والوزن، وعند مالك الاقتيات والادخار، وعند الشافعي: الطعمية.
وأما جواز الزيادة في غير النقدين والمطعومات عند المالكية والشافعية أو غير المكيل والموزون عند الحنفية والحنابلة فلأَنها لا تمس حياة الناس الضرورية، سواء في أقواتهم أم في نشاطهم الاقتصادي، إذ أن الطمع في الربح لا يؤدي إلى إلحاق الضرر الكبير بهم.

ترجيح:
قال ابن رشد المالكي: ولكن إذا تؤمل من طريق المعنى ظهر ـ والله أعلم ـ أن علة الحنفية أولى العلل وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا: إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات، جعل الدينار
_________
(1) راجع المحلى لابن حزم: 468/ 8.

(5/3724)


والدرهم لتقويمها (أعني تقديرها) ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات (أعني غير الموزونة والمكيلة كالثياب): العدل فيها إنما هو في وجود النسبة أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه كنسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه، فإذن اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجب في المعاملة العدلة، والعدل في المكيلات والموزونات إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن (1). إلا أن هذا الرأي وسع كثيراً من نطاق دائرة الربا باجتهاد لا يؤيده العقل والنقل.
ورجح ابن القيم مذهب الإمام مالك في أن علة الربا هي القوت والادخار فيما يتعلق بغير النقدين. وأما النقدان فالعلة فيهما الثمنية كما قال الشافعية، إذ لو كان النحاس والحديد رِبَويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقداً، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النَّساء أي التأخير.
وأيضاً فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة، بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، حتى لا تفسد معاملات الناس، ويقع الاختلاف، ويشتد الضرر، فلا تكون الدراهم والدنانير مجالاً صالحاً للتجارة (2).
ورجح الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري مذهب الشافعي في علة الربا، لأنه نظر إلى اعتبار اجتماعي اقتصادي، فنفذ بذلك إلى لب الموضوع ووقف عند المعنى البارز الذي ينبغي الوقوف عنده. أما اعتبار الحنفية فهو اعتبار منطقي أقرب إلى الشكل منه إلى الجوهر (3).
_________
(1) بداية المجتهد: 131/ 2.
(2) أعلام الموقعين: 137/ 2.
(3) مصادر الحق: 184/ 3.

(5/3725)


أصول الربا: قال ابن رشد: أصول الربا خمسة: أنظرني أزدك، والتفاضل، والنَّسَاء، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه، وبما أنه عرفنا هذه الأصول ما عدا قاعدتين فقد وجدت ضرورة لشرحهما.
قاعدة (أنظرني أزدك): حرام باتفاق العلماء: وهي: أن يكون للرجل دين عند آخر، فيؤخره به على أن يزيده في قدر الدين، وذلك كان ربا الجاهلية، سواء أكان الدين طعاماً أم نقداً، وسواء أكان من سلف أم بيع أم غيرهما. ووسيلة ذلك أن يبيع الدائن للمدين سلعة بثمن مؤجل إلى وقت معين يشتمل الثمن على زيادة عن الثمن النقدي.
قاعدة (ضع وتعجل): إن أخذ مال من المقترض مقابل تعجيل بقية القرض بالنص على ذلك في عقد القرض حرام أيضاً عند أئمة المذاهب الأربعة؛ لأن نقص ما في الذمة لتعجيل الدفع شبيه بالزيادة؛ لأن المعطي جعل للزمان مقداراً من الثمن بدلاً منه.
ومعنى القاعدة: أن يكون لشخص على آخر دين لم يحل، فيعجله قبل حلوله على أن ينقص منه. ومثل ذلك أن يعجل بعضه ويؤخر بعضه إلى أجل آخر، وأن يأخذ قبل الأجل بعضه نقداً وبعضه عرضاً (1). ويجوز ذلك كله بعد الأجل باتفاق، ويجوز أن يعطيه في دينه المؤجل عرضاً قبل الأجل وإن كانت قيمته أقل من دينه (2).
_________
(1) النقد: الذهب والفضةأو ما يحل محلهما من الأوراق النقدية، والعرض ما سوى ذلك من السلع والأمتعة.
(2) القوانين الفقهية: ص 252، 289، بداية المجتهد: 127/ 2، 142، أعلام الموقعين: 135/ 2، الربا والمعاملات في الإسلام للشيخ رشيد رضا: ص 70.

(5/3726)


شروط مبادلة الأموال الربوية مع بعضها أو مع غيرها:
إذا حدث تبادل الأموال الربوية ببعضها، فقد يحرم التبادل وقد يحل. فيحل التبادل عند اتحاد الجنس كذهب بذهب وفضة بفضة وحنطة بحنطة وذرة بذرة إذا توافرت شروط ثلاثة:

1 - التماثل في البدلين كيلاً في المكيلات، ووزناً في الموزونات، وعدداً في المعددوات، فمن باع مد حنطة بمد حنطة، ورطل تفاح برطل تفاح، وخمس جوزات بخمس، جاز البيع. والمعتبر في التماثل: التساوي بأداة البيع: الكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات. ووقت التماثل فيما يمر بدور الرطوبة والجفاف: هو وقت الجفاف، فلا يباع الرطب بالرطب ولا الرطب بالتمر، ويراعى زمن الجفاف.
2 - الحلول: بألا يؤجل تسليم أحد البدلين عن مجلس العقد، أي لا يذكر الأجل في العقد.
3 - التقابض: بأن يتم قبض كلا البدلين في مجلس العقد قبل تفرق العاقدين بأبدانهما.
واشتراط هذه الشروط من الأحاديث السابقة: «مثلاً بمثل» فيه شرط التماثل، و «يداً بيد» «هاء بهاء» يدلان على اشتراط الحلول والتقابض.
ويحرم التبادل إذا لم يتوافر أحد هذه الشروط.
ويحل التبادل عند اختلاف الجنس واتحاد العلة كذهب بفضة وحنطة بشعير بشرطين:

(5/3727)


1 - الحلول: بأن يكون العقد حالاً لا تأجيل فيه.
2 - التقابض: بأن يتم ذلك في مجلس العقد.
ولا يشترط التماثل، للحديث المتقدم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد». ويحرم التبادل إذا اختل أحد الشرطين السابقين.

وإذا اختلفت العلة بأن كان أحد البدلين من الأثمان أو النقود: الذهب والفضة أو النقود الورقية، والآخر من المطعومات كالتمر والزبيب، جاز التبادل وحل التعاقد، كبيع مد حنطة بعشر غرامات من الذهب، أو بدينار سواء حصل التقابض أو لم يحصل، اشترط الأجل أو لم يشترط، لما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاء بتمر جنيب (1)، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تفعل، بع الجَمْع (2) بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً».
وأما إذا بودلت الأموال الربوية بغيرها، كبيع معادن بذهب، وطعام بثياب، ومواد الاستهلاكية من سكّر وزيت وسمن وأرز بنقود ورقية، كالشراء من البقاليات لأجل، فيجوز البيع مطلقاً، ولا يشترط التماثل ولا التقابض ولا الحلول؛ لأن العقد غير ربوي؛ لأن أحد العوضين مال غير ربوي، أو لأن نوع العلة مختلف، فالمواد الاستهلاكية من فئة المطعومات، والنقود الورقية من فئة الأثمان.
_________
(1) الجنيب: التمر الجيد.
(2) الجمع: التمر الرديء.

(5/3728)


أما بيوع الرطب بالتمر والحب الجديد بالقديم، فهو ممنوع شرعاً، لعدم تحقق المماثلة بين البدلين، وهما من الأموال الربوية. وبيع الرطب على رؤوس الشجر بما يساويه خرصاً من التمر المقطوف، أو بيع العنب بالزبيب، يسمى بيع المزابنة.
وبيع الحب في سنبله بما يساويه خرصاً (أي تقديراً وتخميناً لكيله أو وزنه) يسمى بيع المحاقلة.
وقد رخص الشرع ببيع العرايا كما تقدم: وهو أن يبيع الرطب على النخل بخرصه تمراً، أو العنب بخرصه زبيباً فيما دون خمسة أوسق (653 كغ). أخرج البخاري ومسلم عن سهل بن أبي حَثْمة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخّص في العَرِيّة أن تباع بخرصها، يأكلها أهلها رُطَباً» أي يأكلها الذين اشتروها، وهو رأي جمهور الفقهاء غير الحنفية، كما تقدم.

المطلب الرابع ـ ما يترتب على الاختلاف في علة الربا يترتب على الاختلاف في علة الربا بين الحنفية والشافعية أمور كثيرة، منها مايتعلق بربا الفضل، ومنها ما يتعلق بربا النسيئة.
أما ما يتعلق بربا الفضل، فيظهر أثر الخلاف فيما يأتي:
1 - في بيع مطعوم بجنسه غير مقدر: أي (غيرمكيل ولا موزون) كبيع حفنة حنطة بحفنتين منها، أو بطيخة ببطيختين، أو تفاحة بتفاحتين، أو بيضة ببيضتين، وجوزة بجوزتين أو أكثر ونحو ذلك، يجوز هذا عند الحنفية لعدم العلة: وهي القَدْر، إذ لا تقدير في الشرع بأقل من نصف صاع بالنسبة للمكيلات، وأما في الموزون: وهو الذهب والفضة، فلا تقدير بما دون الحبة، إذ لا قيمة له (1).
_________
(1) المبسوط: 114/ 12، فتح القدير: 278/ 5 ومابعدها، البدائع: 185/ 5، رد المحتار: 188/ 4.

(5/3729)


ولا يجوز ذلك عند الشافعية لوجود علة الربا عندهم وهي الطُّعم؛ لأن الأصل عندهم هو تحريم بيع المطعومين ببعضهما، أخذاً من حديث: «الطعام بالطعام مثلاً بمثل» والمساواة بين المطعومين في البيع مُخَلِّص من الحرمة، فما لم تثبت المساواة كانت الحرمة ثابتة، لأنها هي الأصل، فلا يجوز بيع الحفنة بالحفنتين ونحوهما.
والتعليل بالقدر عند الحنفية يقتضي تخصيص نص الحديث السابق: «البر بالبر مثلاً بمثل .. » (1) فيجوز عندهم بيع الحفنة بالحفنتين ونحوهما.

2 - في بيع مقدَّر بمقدَّر غير مطعوم: أي بيع مكيل بجنسه غير مطعوم، أو موزون بجنسه غير مطعوم ولانقد، كبيع قفيز جص بقفيزي جص، أو رطل حديد برطلين منه ونحوهما.
فلا يجوز ذلك عند الحنفية لوجود علة الربا، وهي الكيل مع الجنس في بيع الجص، أو الوزن مع الجنس في بيع الحديد (2).
ويجوز ذلك عند الشافعية لعدم وجود علة الربا، وهي الطُّعم أو الثمنية. واتفق الحنفية مع الشافعية على أنه لو باع قفيز (3) أرز بقفيزي أرز لا يجوز، لوجود الكيل مع الجنس عند الحنفية، ولوجود الطعم مع الجنس عند الشافعية.
واتفقوا أيضاً على أنه إذا باع رطل زعفران (4) برطلين منه، أو رطل سكر
_________
(1) فتح القدير: 276/ 5.
(2) المبسوط: 114/ 12، البدائع: 185/ 5، فتح القدير: 279/ 5، الدر المختار: 188/ 4.
(3) القفيز مكيال يبلغ حوالي 817،27 كغ، والجريب: مكيال قدره أربعة أقفزة. والقفيز في المساحة من الأرض عشر الجريب، والجريب عشرة آلاف ذراع.
(4) الزعفران غير العصفر. فالأول من نبات أصفر الزهر له أصل كالبصل. والثاني من نبات معروف له زهر برتقالي في وعاء له شوك ناعم.

(5/3730)


برطلين من السكر: لا يجوز لوجود الوزن والجنس عند الحنفية، ولوجود الطعم والجنس عند الشافعية.

واختلف الفقهاء فيما يتعلق ب شرط الجنس في بعض النواحي المتعلقة بتحققه، منها ما يأتي:
1 - بيع الدقيق بمثله أو بالحب:
قال الحنفية: لا يصح بيع الدقيق المأخوذ من جنس بجنسه، فلا يصح بيع الدقيق المأخوذ من القمح بالقمح، وكذا المأخوذ من الذرة بالذرة وهكذا، سواء أكانا متساويين أم لا؛ لأن التساوي في مثل ذلك غير محقق.
أما بيع الدقيق المأخوذ من جنس بغير جنسه، فإنه يصح كالدقيق المأخوذ من القمح إذا بيع بالشعير، فإنه يصح، لاختلاف الجنس متى كان يداً بيد.
وأما بيع الدقيق بالدقيق المتحد الجنس، فإنه يجوز بشرط التساوي في الكيل والنعومة والخشونة.
ويجوز بيع الخبز بالحنطة أو بالدقيق وبالعكس متساوياً ومتفاضلاً؛ لأن الخبز صار بالصنعة جنساً مختلفاً مع الحنطة، حتى خرج من أن يكون مكيلاً، والحنطة والدقيق مكيلان، فلم يجمع بين الخبز والحنطة أو الدقيق القدر ولا الجنس، فجاز بيع أحدهما بالآخر نسيئة، ولا يشترط فيه التقابض، وإنما يشترط التعيين (1).
وقال المالكية: لا يصح بيع الحب والدقيق، أحدهما بالآخر، إلا مثلاً بمثل بدون زيادة، فلو باع قمحاً بدقيق مأخوذ منه، فإنه يصح إذا كانا متساويين بالوزن.
_________
(1) البدائع: 189/ 5، فتح القدير: 288/ 5 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 194/ 4 ومابعدها، الفقه على المذاهب: 254/ 2.

(5/3731)


فإذا اختلف الجنس، كأن باع دقيقاً من الذرة بحب من القمح، فإنه يصح بيعه متفاضلاً بشرط التقابض في المجلس.
وكذلك يصح بيع الخبز بالحنطة؛ لأن صنعة الخبز جعلته جنساً منفرداً.
وأما بيع الدقيق بمثله فلا يصح مطلقاً (1).
وقال الشافعية: لا يصح بيع دقيق بجنسه، فلا يصح بيع دقيق الحنطة بدقيق الحنطة مثلاً، لانتفاء المماثلة اليقينية بينهما، بسبب النعومة الطارئة عليه، إذ قد يكون أحد البدلين أنعم من الآخر، فلا ينكبس في الكيل.
وكذلك لا يصح بيع دقيق الحنطة بحب الحنطة، كما لا يصح بيع الخبز بهما، ويصح بيع الخبز ببعضه، والدقيق ببعضه، إذا اختلف الجنسان، كأن يكون خبز قمح بخبز شعير أو دقيق قمح بدقيق ذرة، لاختلاف الجنس (2).
وقال الحنابلة: لا يصح بيع الدقيق بالحب المأخوذ منه مطلقاً، لأنه يشترط التساوي في بيع الجنس الواحد ببعضه، ولا يصح بيع الخبز بالحب المأخوذ منه، كما لا يصح بيعه بدقيقه.
وأما بيع الدقيق بمثله من نفس الجنس، فإنه يجوز كيلاً كما يقول الحنفية، بشرط التساوي في النعومة (3).
والخلاصة: أن في بيع الدقيق بمثله رأيين:
رأي يجيز ذلك: وهم الحنفية والحنابلة.
_________
(1) بداية المجتهد: 136/ 2، حاشية الدسوقي: 53/ 3، الفقه على المذاهب: 253/ 2.
(2) المهذب: 271/ 1، مغني المحتاج: 23/ 2، الفقه على المذاهب: 255/ 2.
(3) المغني: 24/ 4، الفقه على المذاهب: 255/ 2.

(5/3732)


ورأي لا يجيز ذلك: وهم المالكيةوالشافعية.

2 - بيع الحيوان بلحم:
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجوز بيع حيوان يؤكل بلحم من جنسه، لأنه بيع ما هو موزون بما ليس بموزون، وهو جائز كيفما كان بشرط التعيين (1)، لأن الحيوان ليس بمال ربوي.
وقال الأئمة الثلاثة غير الحنفية: لايجوز بيع حيوان يؤكل بلحم من جنسه، فلا يجوز بيع شاة مذبوحة بشاة حية يقصد منها الأكل (2) لما روى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم (3) وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى أن يباع حي بميت (4)؛ ولأن اللحم نوع فيه الربا، بيع بأصله الذي فيه منه، فلم يجز كبيع السِّمسِم بالشَّيْرَج، للجهل بالمماثلة فيما تطلب فيه المماثلة، والجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة (5).
أما بيع الحيوان بالحيوان فيجوز، متفاضلاً ومن جنس واحد أو من جنسين، كبيع شاة بشاتين، وبيع شاة ببعير؛ لأن الحيوان ليس بمال ربوي، لأنه غير مطعوم
_________
(1) فتح القدير: 290/ 5، الدر المختار: 192/ 4، البدائع: 189/ 5.
(2) بداية المجتهد: 136/ 2، حاشية الدسوقي: 54/ 3، 272/ 1، مغني المحتاج: 29/ 2، المغني: 32/ 4، أعلام الموقعين: 145/ 2.
(3) رواه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب مرسلاً، وله شواهد عن ابن عمر عند البزار، وعن الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة وله لفظ آخر: «نهى عن بيع الحي بالميت» قال في نيل الأوطار: 203/ 5: «ولا يخفى أن الحديث ينتهض للاحتجاج بمجموع طرقه» (راجع جامع الأصول: 413/ 1، نصب الراية: 39/ 4).
(4) رواه البيهقي عن رجل من أهل المدينة، قال البيهقي: وهذا مرسل يؤكد مرسل ابن المسيب أي الحديث السابق (راجع نصب الراية: 39/ 4).
(5) تخريج الفروع على الأصول: ص 71.

(5/3733)


على حاله وهيئته، وليس من جنس الأثمان. وأما بيع اللحوم ببعضها فيجوز إن كانت من جنس واحد، بشرط التماثل والحلول والتقابض؛ لأنها من الأموال الربوية فإن اختلف الجنس كلحم ضأن بلحم بقر، فيجوز التفاضل، بشرط الحلول والتقابض.

وأما مايترتب على الاختلاف في ربا النسيئة بين الشافعية والحنفية، فيظهر فيما يأتي:
أولاً ـ بعض الخلافات التي ترجع إلى أصل الخلاف في علة الربا التي هي عند الحنفية: الكيل أو الوزن، وعند الشافعية: الطعم.
إذا باع شخص قفيز حنطة بقفيز شعير نسيئة مؤجلة، أو ديناً موصوفاً في الذمة غير مؤجل (1): لا يجوز بالاتفاق، لوجود علة ربا النسيئة: وهي أحد وصفي علة ربا الفضل وهو هنا الكيل عند الحنفية، والطعم عند الشافعية.
وتظهر ثمرة الخلاف في حالتين:

1 - في بيع غير المطعوم: إذا بيع قفيز جص بقفيز نورة (2) مؤجلاً عن طريق السَّلَم، أوغير مؤجل عن طريق البيع ديناً في الذمة: لا يجوز عند الحنفية لوجود الكيل، وعند الشافعية: يجوز لعدم الطعم.
ولو أسلم رطل حديد برطلي حديد: لا يجوز عند الحنفية لوجود الوزن المتفق لكونهما موزونين، وعند الشافعية يجوز لعدم الطعم أو الثمنية.
_________
(1) أي أن الثمن شيء غير معين، فيحصل الربا، لأن العين خير من الدين، لأن الدين قد يختلف عن الوصف وقد لا يقوم الملتزم بشيء بتسليم ما يجب عليه.
(2) النورة: حجر الكلس، ثم غلب على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره، ويستعمل لإزالة الشعر.

(5/3734)


ولو باع رطل سكر برطل زعفران ديناً في الذمة: لا يجوز بالاتفاق لوجود أحد وصفي علة ربا الفضل، وهو هنا الوزن المتفق عند الحنفية، ولوجود الطعم عند الشافعية.
أما لو أسلم الدراهم أو الدنانير في زعفران، أو في قطن أو حديد: فإنه يجوز بالاتفاق لانعدام علة الربا: وهي القدر المتفق أو الجنس المتحد. أما المجانسة فغير متحققة كما هو واضح، وأما القدر المتفق فغير متحقق أيضاً؛ لأن وزن الثمن يخالف وزن المثمن، فإن الدراهم توزن بالمثقال، والقطن والحديد والزعفران يوزن بالقبان، فلم يتحقق القدر، فلم توجد العلة، فلا يتحقق الربا.
ولو أسلم نُقرة (1) فضة في نقرة ذهب، أو تبر ذهب في نقرة فضة، أو المصوغ من أحدهما في ذهب أو فضة: لا يجوز بالاتفاق لوجود الوزن المتفق عند الحنفية، فإنهما يوزنان بالمثاقيل (2)، ولوجود الثمنية عند الشافعية، لأنها أصل الأثمان.

2 - في بيع المطعوم بالمطعوم من قدر مختلف:
لو أسلم الحنطة في الزيت: جاز عند الحنفية؛ لأن أحدهما مكيل والآخر موزون، فكانا مختلفين قدراً. وعند الشافعية: لا يجوز لوجود الطعم (3).

ثانياً ـ بعض الخلافات ترجع إلى الخلاف في الجنس وحده: هل هو علة أو لا؟: سبقت الإشارة إلى أن الجنس وحده يصلح علة لربا النسيئة عند الحنفية؛ لأن
_________
(1) النقرة: هي القطعة المذابة من الفضة أو الذهب.
(2) المثقال: درهم وثلاثة أسباع الدرهم وهو (24) قيراطاً، ويساوي (80،4 غم).
(3) انظر البدائع: 186/ 5 وما بعدها.

(5/3735)


علة الربا هي الكيل أو الوزن مع اتحاد الجنس، وكل علة ذات وصفين مؤثرين لا تتم العلة إلا بهما، فيكون لكل منهما شبهة العلية، وشبهة العلية تثبت بها شبهة الحكم، أي أن الجنس ركن في العلة، لا مجرد شرط.
وعند الإمام الشافعي: الجنس بانفراده لا يصلح علة لتحريم ربا النسيئة؛ لأن الجنس محل التحريم أو هو شرط فقط في علة الربا، والحكم قد يدور مع الشرط كالرجم مع الإحصان، والسبب فيه: أن العلة هي اسم لوصف مناسب للحكم، فيعلل الحكم بعلة تناسب المقصود منه، وهي الطعم لبقاء الإنسان به، والثمنية لبقاء الأموال التي هي مناط مصالح الناس بها، ولا أثر للجنسية، فجعل شرطاً (1).
ويترتب على ذلك ما يأتي:
لا يجوز إسلاف الجوز في الجوز، والبيض في البيض، والتفاح في التفاح، والحفنة في الحفنة بالاتفاق لوجود الجنس عند الحنفية، ولوجود الطُّعم عند الشافعي.
ولا يجوز إسلاف الثوب الهَرَوي مثلاً في الثوب الهروي عند الحنفية لوجود الجنس. وعند الشافعي: يجوز؛ لأن الجنس عنده لا يكفي وحده لتحريم الربا.
ويجوز أن يسلم ثوباً هروياً في ثوب مَرْوي بالاتفاق، لعدم وجود الجنس عند الحنفية، ولعدم وجود الطعم أو الثمنية عند الشافعية.
ولو أسلم الفلوس في الفلوس لا يجوز عند الحنفية لوجود الجنس. وعند الشافعية: لا يجوز أيضاً لوجود الثمنية.
_________
(1) فتح القدير: 276/ 5، 280، المبسوط: 122/ 12 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص75، المهذب: 271/ 1 ومابعدها.

(5/3736)


والسبب في أن الجنس وحده يحرم الربا عند الحنفية، كما في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة أي إلى أجل: هو أن عقد البيع يقتضي المساواة في البدلين، ولا مساواة بين المدفوع حالاً، والمدفوع نسيئة؛ لأن العين خير من الدين، والمعجل أكثر قيمة من المؤجل، وهذا المعنى كما هو موجود في المطعومات والأثمان أي (النقود) موجود في غيرهما. يؤكده قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ربا
إلا في النسيئة» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الربا في النسيئة» (1) والنص مطلق لم يفرق بين المطعوم والأثمان وغيرهما، فيجب القول بتحقيق الربا فيها على الإطلاق (2) لتحقق علة الربا عندهم: وهي اتفاق الجنس.
وقال مالك: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة أي إلى أجل فيما تشابهت منافعه كشاة حلوبة بشاة حلوبة إلى أجل. ويجوز فيما اختلفت منافعه، كبيع البعير النجيب ببعيرين للحمولة (3)، وعمدته في حالة المنع سد الذريعة إلى الربا.
أما الشافعية فقالوا: كل ما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب لا يحرم فيه التفرق قبل التقابض، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمرني أن آخذ على قلاص (4)
_________
(1) رواه البخاري ومسلم والنسائي، فهو حديث صحيح، وله ألفاظ منها «الربا في النسيئة» وفي رواية «إنما الربا في النسيئة» وفي رواية «لا ربا فيما كان يداً بيد» قال البيهقي: يحتمل أن الراوي اختصره، فيكون النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن الربا في صنفين مختلفين: ذهب بفضة، أو تمر بحنطة، فقال «إنما الربا في النسيئة» فأداه الراوي دون ذكر سؤال السائل (راجع جامع الأصول:469/ 1،نصب الراية: 37/ 4).
(2) البدائع: 187/ 5.
(3) راجع كتاب «الربا والمعاملات في الإسلام» للسيد رشيد رضا: ص 97، 99، ومقدمته: ص 5 للأستاذ بهجت البيطار، وراجع نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف لمعرفة الفرق بين الضرورة والحاجة.
(4) شرح السير الكبير: 223/ 3، 188/ 4، المبسوط: 95/ 10.

(5/3737)


الصدقة، فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» (1).وعن علي كرم الله وجهه أنه باع جملاً إلى أجل بعشرين بعيراً (2). وباع ابن عمر رضي الله عنهما بعيراً بأربعة أبعرة (3) ونحو ذلك كثير (4).
وأصح الروايات الأربع عن الإمام أحمد (5) مثل الشافعية أي جواز بيع الحيوان بجنسه أو بغيره متساوياً ومتفاضلاً، واتفق الأئمة على بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً إذا كان يداً بيد، أي كان البيع حالاً، غير مؤجل.
وبعد: فإن ربا النسيئة الجاهلي محرم لذاته منعاً من إلحاق غبن كبير بأحد الطرفين، نتيجة للتقلبات المفاجئة في أسعار السلع بسبب أو آخر، وللقضاء على استغلال عجز المدين عن وفاء الدين. وربا الفضل محرم سداً للذريعة أي منعاً من التوصل به إلى ربا النسيئة، وما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة كالميتة والدم ولحم الخنزير، وما حرم سداً للذريعة أبيح للحاجة إليه وللمصلحة الراجحة على المفسدة (6)، والمسلم وحده يمكن أن يقدر الضرورة أو الحاجة المحدقة به.
_________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني بمعناه والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وضعفه بعضهم بمحمد بن إسحاق إلا أن الحافظ ابن حجر قوّى إسناده، ورواه البيهقي في سننه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (راجع نصب الراية: 47/ 4، نيل الأوطار: 304/ 5، جامع الأصول: 473/ 1).
(2) رواه الإمام مالك في الموطأ (راجع تنوير الحوالك شرح موطأ مالك: 148/ 2، جامع الأصول: 474/ 1).
(3) أخرجه الموطأ والبخاري عن عبد الله بن عمر (المرجعان السابقان).
(4) المهذب: 271/ 1.
(5) المغني: 11/ 4 ومابعدها.
(6) راجع كتاب «الربا والمعاملات في الإسلام» للسيد رشيد رضا: ص97، 99، ومقدمته: ص5 للأستاذ بهجت البيطار، وراجع نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف لمعرفة الفرق بين الضرورة والحاجة.

(5/3738)


ويمكن القول بأن تحريم ربا الفضل ليس لكونه مجرد وسيلة إلى ربا النسيئة، وإنما هو ربا حقيقي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لبلال: «عين الربا» حينما باع صاعين من تمر رديء بصاع من تمر جيد هو التمر البرني؛ ولأنه يعتمد تارة على استغلال جهل الناس بأصناف الأنواع، وتارة يعتمد على استغلال حاجتهم إلى نوع معين.

ربا القرض: الربا يجري في البيع كما تقدم في بحث الربا ـ ربا الفضل وربا النسيئة. ويجري أيضاً في القرض: بأن يقرض شخص آخر مبلغاً من المال على أن يرد له زيادة معينة أو يجري التعارف بالزيادة، أو يشترط عليه دفع فائدة شهرية أو سنوية على مبلغ القرض، كما يحدث الآن في التعامل مع البنوك الربوية ومع بعض التجار الذين يقومون بتشغيل بعض أموال الناس. وهذا كله حرام لقوله تعالى: {وأحل الله البيع، وحرم الربا} [البقرة:2/ 275] وقوله سبحانه: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون} [البقرة:2/ 279] أي لا تَظْلمون بأخذ زيادة على رأس المال، ولا تُظْلَمون بنقص شيء من رأس المال، بل لكم ما دفعتم من غير زيادة ولا نقصان. وقد جعل الله «أكل الربا» من السبع الموبقات (المهلكات) في حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم.
ويحرم الربا في أي مكان من العالم، في دار الإسلام ودار الحرب على السواء؛ لأن حرمة الربا عامة مطلقة، لا تخصيص فيها ولا تقييد.
ولكن نقل عن أبي حنيفة ومحمد: أنه يجوز أخذ مال الحربي بأي طريق لا خيانة فيه ولا غدر، ولو بالعقود الفاسدة كالربا؛ لأن ماله مباح مهدر كنفسه، أي غير معصوم، بل هو مباح في نفسه، وقد بذله الحربي في عقود الربا باختياره ورضاه، فزال المنع لزوال موجبه (1).
_________
(1) شرح السير الكبير 223/ 3، 188/ 4، المبسوط: 95/ 10.

(5/3739)


وقد انزلق بعض المسلمين فأودعوا أموالهم في ديار غير المسلمين واستباحوا أخذ الفوائد عنها، عملاً بهذا الرأي فيما زعموا، وهو فهم خطأ، وعمل باطل غير مشروع، وحرام؛ لأن الربا الذي قصد في هذا الرأي هو ربا العقود لا ربا البنوك والفوائد، ولأن المال في أصله مال الحربي، أما الأموال المودعة فهي أموال المسلمين، يتقوى بها غير المسلمين في تشغيل المصانع والمعامل، ولأن القول مخصوص بمال الحربي، والحربي: هو الذي بيننا وبين بلاده عداوة وحرب فعلية أو حكمية، ولا ينطبق هذا على غير اليهود وأمثالهم من غاصبي الأراضي الإسلامية، لوجود معاهدات سلمية بيننا وبين مختلف الدول المنضمة لميثاق الأمم المتحدة.
وإيداع المسلمين أموالهم في بلاد غير المسلمين غير جائز شرعاً؛ لأنهم يتقوون بتلك الأموال علينا، ويعطوننا جزءاً من الفوائد، بل إن أكثر تلك الأموال أصبحت مجمدة لا يفرج عنها ولا ترد لأصحابها الأصليين، مما يؤكد تحريم التعامل مع المصارف الأجنبية إلا لضرورة قصوى أو لأجل الاستيراد والتصدير.
وعلى هذا تكون فوائد هذه الأموال حراماً لا يجوز لأصحابها تملكها وضمها لأموالهم، لكن لا يصح إبقاؤها لهم حتى لا يتقووا بها علينا، ونعين الظالم على ظلمه، وإنما يجب أخذها وصرفها في المصالح العامة في البلاد الإسلامية كتعبيد الطرق وبناء المشافي والمدارس وغير ذلك من المرافق العامة، كما أفتى بذلك لجنة الفتوى بالأزهر في أواخر الستينات.

(5/3740)


................ فوائد المصارف (البنوك) ..............................
.................................... حرام حرام حرام ...................................
تشهد الساحة الإعلامية المعاصرة هجمة جريئة في الصحف والمجلات وفتاوى شاذة مستعجلة بأقلام كتاب ينتمون للعمل الإسلامي، ويحاولون التجديد والاجتهاد في مجال الربا (أو الفائدة) ويقولون بإباحة فوائد المصارف؛ لأن المصارف (أو البنوك) أصبحت في وقتنا الحاضر ضرورة اقتصادية، وتقوم بتشغيل أموال المودعين في مشاريع متنوعة صناعية وزراعية وتجارية وغيرها بطريق غير مباشر عن طريق إقراضها لأصحاب هذه المشاريع، وأخذ فوائد منهم، وإعطاء بعضها للمودعين، فالبنوك بمثابة وسيط بين الطرفين.
ومن هذه الهجمة: ما كتبه السيد فهمي هويدي في مجلة العربي العدد 341 أبريل نيسان 1987 م شعبان 1407 هـ ناقلاً عن عالم محاولة بالقول في إباحة فوائد الإيداع في البنوك، وعدم الاعتماد على مبدأ «كل قرض جر نفعاً فهو ربا» لعدم ثبوت كونه حديثاً، وبالتالي عدم جواز الاستدلال به. ومنها فتوى هذا العالم وهو الدكتور عبد المنعم النمر بإباحة فوائد المصارف في جريدة الأهرام يوم الخميس 27 من شوال 1409 هـ الموافق 1989/ 6/1م، ومنها فتوى مفتي مصر الدكتور محمد سيد طنطاوي بإباحة شهادات الاستثمار بتاريخ 1410/ 5/7هـ = 1989/ 12/7م، والطامة الكبرى بيان مفتي مصر المذكور قبل ربيع سنة 1410هـ وقبل نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 الذي أحل فيه الفوائد الربوية لشهادات الاستثمار والبنوك المتخصصة، وأعقبه عام 1991 بأن فوائد المصارف حلال في جميع أنحاء الأرض.

(5/3741)


وأبين هنا مراحل التدرج التشريعي في تحريم الربا في القرآن الكريم، وأذكر الأحاديث النبوية الثابتة ثبوتاً لا شك فيه والمبينة لمدلول الربا، كما أذكر ما عليه قوانين الدول العربية في قضية الربا، ثم أناقش الشبهات التي يثيرها القائلون بإباحة فوائد المصارف الحديثة (1).

التدرج في التشريع: هذا من خصائص وأسس بيان الأحكام الشرعية، فلم تحرم الخمر مثلاً دفعة واحدة كما هو معروف، وإنما مر التحريم بمراحل أربع آخرها آيتا المائدة (90 - 91): {إنما الخمر والميسر ... } [المائدة:90/ 5] وعقوبة الزنا مرت بمرحلتين: الأولى ـ الحبس للنساء والإيذاء للرجال في آيتي النساء (15، 16) والثانية ـ حد الجلد في سورة النور (2) {الزانية والزاني ... } [النور:2/ 24] وكذلك تحريم الربا مر بمراحل أربع:
أولها ـ تقبيح فعل اليهود الذين يأكلون الربا والتشنيع عليهم في قوله تعالى: {سَّماعون للكذب، أكَّالون للسُّحت ... } [المائدة:42/ 5] وقوله سبحانه: {فبظلمٍ من الذين هادُوا حرمنا عليهم طيبات أحلَّت لهم، وبصدِّهم عن سبيل الله كثيراً. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً} [النساء:159/ 4 - 160].
ثانيها ـ التفرقة بين الربا والزكاة في قوله تعالى: {وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس، فلا يربو عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله، فأولئك هم المضعفون} [الروم:39/ 30].
_________
(1) علماً بأن مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1406 هـ ومجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1385 هـ الموافق 1965 م انتهت إلى أن فوائد المصارف من الربا الحرام (انظر كتابي الدكتور محمد علي السالوس في الرد على إباحة فتاوى المبيحين).

(5/3742)


ثالثهما - التنديد بفعل العرب المشركين في الجاهلية ونهي المؤمنين عن محاكاة فعلهم بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} [آل عمران:130/ 3] والنهي ليس مقصوراً على حالة المضاعفة، وإنما هذا قيد لبيان الواقع، وتقبيح الوضع القائم الشائع بين العرب حينما يقرض أحدهم لآخر قرضاً لمدة، ثم يحل أجل القرض ويعجز المدين المقترض عن وفاء دينه، فيقول له المقرض الدائن: (إما أن تقضي أو تربي) فيزيد له في الأجل مقابل الزيادة في الربا، وهذا عين عمل المصارف الحالية تكون الفائدة 7% أو 9% مثلاً، فيعجز المدين عن سداد الدين، فتضاعف عليه الفائدة في العام الثاني والثالث وهكذا حتى تكاد الفائدة في النهاية تعادل أصل رأس المال وهذه هي الفائدة المركبة، والتي لا يتنبه لها القائلون بفوائد البنوك المقللون لمقدارها والمبيحون لها، بل إن هذه الفوائد أسوأ من ربا الجاهلية.
رابعها ـ تحريم الربا تحريماً قطعياً ووصف المرابين بالتعرض لحرب الله ورسوله، في قوله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطانُ من المسّ، ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، وأحلَّ الله ُ البيعَ، وحرَّم الرِّبا، فمن جاءه موعظة من ربه، فانتهى فله ما سلف، وأمرُه إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يمحق الله ُ الربا ويُرْبي الصدقات، والله ُ لا يحبُّ كلَّ كفَّارٍ أثيم} [البقرة:275/ 2 - 276] ثم قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذرُوا ما بقي من الربا، إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله، وإن تبتم، فلكم رؤوس أموالكم، لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمُون} [البقرة:278/ 2 - 279].
ثم جاءت الأحاديث الكثيرة، كالحديث المتفق عليه عن أبي هريرة الذي جاء فيه أن أكل الربا من السبع الموبقات الكبائر، وحديث أسامة بن زيد عند مسلم

(5/3743)


وغيره «إنما الربا في النسيئة» أو «لا ربا إلا في النسيئة» وحديث ابن مسعود وجابر عند أبي داود وغيره: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه» وحديث ربا البيوع بتحريم الربا في الأصناف الستة ـ أي وأمثالها ـ عند مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثْلاً بمِثْل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» قال الجصاص في كتابه (أحكام القرآن: 467/ 1): «هو عندنا في حيز التواتر، لكثرة رواته، واتفاق الفقهاء على استعماله» وحديث ابن مسعود عند الحاكم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ... ».
وأجمعت الأمة على أن الربا محرم، قال الماوردي: «حتى قيل: إنه لم يحل في شريعة قط» لقوله تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} [النساء:161/ 4] يعني في الكتب السابقة.

الربا الحرام: والربا المحرم في الإسلام نوعان:
أولهما ـ ربا النسيئة الذي لم تكن العرب في الجاهلية تعرف سواه، وهو المأخوذ لأجل تأخير قضاء دين مستحق إلى أجل جديد، سواء أكان الدين ثمن مبيع أم قرضاً.
وثانيهما ـ ربا البيوع في أصناف ستة، ذكرها حديث عبادة المتقدم، وهو المعروف بربا الفضل، وقد حرم سداً للذرائع، أي منعاً من التوصل به إلى ربا النسيئة أو ربا القرض، بأن يبيع شخص ذهباً مثلاً إلى أجل، ثم يؤدي فضة بقدر زائد، مشتمل على الربا. وهذا هو ربا النَّساء في البيوع، فهو كل تأخير أو تأجيل في أحد البدلين في أصناف معينة يحصرها الطُّعم لدى الشافعية أو القوت والادخار في المطعومات لدى المالكية، أو الثمنية في النقدين في مذهبي المالكية والشافعية، أو الكيل والوزن في مذهبي الحنفية والحنابلة. فربا النسيئة زيادة مع زمن، وربا النَّساء زمن بلا زيادة، وربا

(5/3744)


الفضل زيادة بلا زمن. ولا ربا ببيع كمية حنطة بكمية شعير مثلاً مع التفاوت في المقدار كيلاً أو وزناً، بشرط التقابض في مجلس العقد، كما لا ربا ببيع مطعومات أو مواد استهلاكية يتأجل دفع ثمنها إلى شهر مثلاً بالنقود الورقية الحالية لاختلاف الفئة بين مطعوم ونقد. ولكن يوجد الربا بتبادل كيلو حنطة يدفع الآن بكيلو حنطة يدفع بعد شهر مثلاً، لاتحاد الجنس، وكذلك يوجد الربا عند شراء الحلي من الصواغ بنقود ورقية إذا تأجل دفع الثمن كله أو بعضه لأجل في المستقبل.
ليست كل زيادة من الربا، وإنما الزيادة في أموال مخصوصة، والزيادة المشروطة في القرض أو جرى عليها العرف حرام، أما التبرع برد الزيادة عند وفاء القرض دون شرط ولا عرف متعارف عليه، فليس حراماً، فلا يصح القول بأن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان يربي حينما قال: «خيركم أحسنكم قضاء».
ربا المصارف:

وربا المصارف أو فوائد البنوك: من ربا النسيئة، سواء أكانت الفائدة بسيطة أم مركبة، لأن عمل البنوك الأصلي الإقراض والاقتراض، فتدفع للمقرض فائدة 4% أو 5% وتأخذ فائدة من المقترض 9% أو 12%، ولا يصح القول بأن البنك مجرد وسيط بين المودع والمقترض، يأخذ عمولة مقابل وساطته، لأن البنك ممنوع من القيام بنشاط استثماري، ولا يتقاسم المودع مع البنك الربح والخسارة، ولا يتقاسم البنك مع المقترض في مشروعه الأرباح والخسائر، والنسبة مع الطرفين محددة مشروطة سلفاً سواء بالنسبة للمودع أو المقترض، وإن مضار الربا في فوائد البنوك متحققة تماماً، وهي حرام حرام حرام كالربا وإثمها كإثمه، لقوله تعالى: {وإن تُبْتُم فلكم رؤوسُ أموالِكم} [البقرة:279/ 2] وقد أصبح الربا في عرف الناس اليوم لا يطلق إلا على ربح المال عند تأخيره، وهو مشابه لربا الجاهلية المضاعف مع مرور الزمن.

(5/3745)


فربا النسيئة الواقع في عقدي الصرف والقرض هو الواقع الآن، كشراء نقد، (دولارات) بنقد (دراهم) دون تقابض، واقتراض أو استلاف دنانير على أن يرد زيادة عليها بنسبة معينة 5% مثلاً، أو مبلغاً مقطوعاً كمئة دينار أو ألف. وأما ربا الفضل فهو نادر الحصول، لكنه حرام سداً للذرائع إلى ربا النسيئة.
ويكون تحريم ربا المصارف بنص القرآن والسنة وإجماع الصحابة، أما القول بأن «كل قرض جر نفعاً» ليس حديثاً فهو صحيح، ولكن ذلك ثبت عن جماعة من الصحابة أنهم نهوا عن قرض جر نفعاً، ونهيهم مستمد من السنة النبوية وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن سلف وبيع» والسلف هو القرض في لغة الحجاز، مثل أن يقرض شخص غيره ألف درهم على أن يبيعه داره أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر، والزيادة حرام كما تقدم إذا كانت مشروطة أو متعارفاً عليها في القرض، فإن لم تكن مشروطة ولا متعارفاً عليها فلا بأس بها، ويمكن فهم قاعدة «كل قرض جر نفعاً فهو ربا» على أنه في القرض الذي شرط فيه النفع أو جرى عليه العرف، كما قرر الكرخي وغيره.
وكذلك إيداع المال في المصارف والتعاقد على أن تدفع منها ضرائب الدولة أو تؤخذ الفوائد وتدفع للفقراء حرام أيضاً، لأن الله طيِّب لا يقبل إلا طيباً، جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يكتسب عبد مالاً من حرام، فينفق منه، فيبارك فيه، ولا يتصدق به، فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» ولكن لو كان المال مودعاً في بنوك دولة أجنبية، وسجلت له نظامياً فوائد، فلا مانع كما جاء في فتوى لجنة الإفتاء بالأزهر في الستينات ونشرتها مجلة الوعي الإسلامي من أخذ هذا المال وصرفه في مصالح عامة في ديار المسلمين كتعبيد الطرق وبناء المدارس والمشافي

(5/3746)


ولا تترك للأجانب يتقوون بها علينا، أوتبنى بها الكنائس، وهذا من قبيل (اختيار أهون الشرين) و (الأخذ بأخف الضررين).

الفوائد في قوانين الدول العربية:
تتفاوت عبارات القوانين في البلاد العربية بالنص على تحريم الفوائد أو إباحتها من الناحية النظرية الظاهرية فقط، ولكن لا تخلو دولة عربية مع الأسف الشديد من إقرار النظام المصرفي والتعامل بالفائدة. فهناك اتجاه يجيز الفائدة مطلقاً كمجلة الالتزامات والعقود التونسية وقانون الموجبات والعقود اللبناني، ففيهما النص على سريان الفائدة من تاريخ الإعذار، وليس للفائدة حد أقصى، وهكذا فعلت تركيا حيث أطلقت حديثاً على لسان رئيس الوزراء الحالي حرية أسعار الفائدة، واتجاه ثان يجيزها بقيود كالقانونين المدني المصري والسوري حيث جاء فيهما: لا يجوز أن تتجاوز الفائدة رأس المال ولا أن تتجاوز الحد الأقصى ولا تسري إلا اعتباراً من المطالبة القضائية، وقد نص القانون المصري (م 226) ومثله العراقي (م 171) على الفائدة 4% في المسائل المدنية و 5% في المسائل التجارية كالقانون المغربي (م 870) الذي نص على أن اشتراط الفائدة بين المسلمين باطل ومبطل للعقد الذي يتضمنه، والقانون المدني الجزائري لعام 1975 (م 455، 456) الذي نص على أن القرض بين الأفراد يكون دائماً بدون أجر، ويقع باطلاً كل نص يخالف ذلك، ولكنه أجاز التعامل بالفائدة للمؤسسات المالية (البنوك) في حال إيداع أموال لديها، وكذلك القانون الليبي رقم 74 لعام 1972 (م 1 الذي أباح الفائدة بين الأشخاص الاعتباريين (كالدولة) ومصارفها، وحرمها على الأشخاص الطبيعيين الأفراد العاديين. وهذه تفرقة ليست في شرع الله ولا دينه، فلا فرق في التحريم بين الفرد المسلم والدولة، والخطاب الشرعي للجميع، وإلا

(5/3747)


جاز للدولة باعتبارها شخصاً معنوياً كل ما حرمه الإسلام من الظلم والغبن والقتل بغير حق وأكل الأموال بالباطل، وقد قال أبو يوسف رحمه الله للخليفة هارون الرشيد في كتاب الخراج «لايجوز لولي الأمر أن يأخذ شيئاً من يد أحد إلا بحق ثابت معروف».
ومن هذا الاتجاه القانون الأردني (بموجب نظام المرابحة العثماني 1304 هـ مارس 1903م) حيث نص على حد أقصى للفائدة 9% ونص القانون المدني الأردني (م 640) على بطلان شرط المنفعة في القرض وصحة العقد. وكذلك المعمول به في دولة الإمارات، الذي سوِّى فيه بين المعاملات المدنية والتجارية في قانون الاجراءات المدنية لإمارة أبو ظبي، وقضت المحكمة الاتحادية العليا في تفسيرها رقم 14 لسنة 1979 بدستورية نص المادتين 61، 62 من هذا القانون، إلا أنه لا يجوز أن يزيد سعر الفائدة التي تحددها المحكمة عن السعر الذي اتفق عليه الأطراف أو تعاملوا به في أي مرحلة قبل رفع الدعوى، ونص القانون الإماراتي (م714) على بطلان شرط المنفعة الزائدة في القرض وصحةالتعاقد. لكن نص قانون العقوبات لدولة الإمارات في المادة (409) على أنه «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبالغرامة التي لا تقل عن ألفي درهم كل شخص طبيعي تعامل مع شخص طبيعي آخر بربا النسيئة في أي نوع من أنواع المعاملات المدنية والتجارية، ويدخل في ذلك كل شرط ينطوي على فائدة ربوية صريحة أو مستترة» وهذا يعني بالمفهوم المخالف إعفاء الأشخاص الاعتبارية (البنوك) من العقوبة.
أما القانونان المدنيان في كل من السودان (م1/ 279، 281) والكويت (م1/ 547) فقد نص كلاهما على منع الربا أو الفائدة ظاهراً. «يكون الإقراض بغير فائدة، ويقع باطلاً كل شرط يقضي بغير ذلك» لكن نص القانون التجاري في الكويت (م 102) على أن «للدائن الحق في اقتضاء فائدة في القرض التجاري» وكان العمل على هذا أيضاً في السودان، والسعودية وغيرهما.

(5/3748)


شبهات القائلين بإباحة فوائد البنوك:
1 - يزعم المبيحون للفوائد المصرفية (البنكية) أنها ليست أضعافاً مضاعفة، وإنما هي نسبة قليلة 4% أو 7% أو 9%، فلم يشملها النص المحرم للربا: «وحرَّم الربا» وليست مما عهدته العرب. والرد على ذلك أن الربا في الآية ليس هو ربا العهد المذكور في سورة آل عمران فحسب، وهو ربا الجاهلية المضاعف، بل كل ما ذكر في القرآن والسنة الثابتة المفصلة لأنواع الربا وهي ربا الفضل وربا النسيئة الشامل لربا البيوع وربا القروض، وليس مجرد الربا المضاعف، وإنما كل زيادة قليلة أو كثيرة، لقوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} [البقرة:279/ 2] وأكد الله تعالى هذا مباشرة بقوله: {لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمُون} [البقرة:279/ 2] كما أن اللام في قوله تعالى: {وحرم الربا} [البقرة:275/ 2] للجنس، أي حرم جنس الربا، ثم أبانت السنة النبوية في الأحاديث الصحيحة المراد من هذا الجنس، أي الزيادة في أموال مخصوصة، وعقود معينة هي البيع والقرض والصرف، لكن الفقهاء اختلفوا في علة الربا بين موسع ومضيق ومتوسط، والفريق الأول هم الحنفية والحنابلة الذين جعلوا العلة هي الكيل والوزن، فشمل الربا كل ما يباع كيلاً كالقمح والشعير، وكل ما يباع وزناً كالقطن والحديد، والذهب والفضة.
والفريق الثاني هم المالكية الذين حصروا علة ربا المطعومات في القوت والادخار أي كل مقتات غالباً قابل للادخار مدة سنة مثلاً، أي لا يفسد بتأخيره مدة من الزمن لا حد لها في ظاهر المذهب، وإنما بحسب الأمد المبتغى منه عادة في كل شيء بحسبه، فالمرجع فيه إلى العرف، والفريق الثالث وهم الشافعية الذين جعلوا العلة هي الطُّعْم وهو يشمل كل مايتناول الإنسان اقتياتاً أوتفكهاً أو تداوياً، واتفق الفريقان الثاني والثالث على أن العلة في النقدين وما يحل محلهما من النقود الورقية هي النقدية أو الثمنية، أي كونهما ثمناً للأشياء.

(5/3749)


ليست العلة في الربا هي الاستغلال والظلم وإنما هذه حكمة لا يربط الحكم الشرعي بها، ولا يصح القياس عليها لعدم انضباطها واختلافها من شخص لآخر، حتى يقال بأنه إذا لم يتوافر الاستغلال والظلم، كالقروض الإنتاجية لإصلاح أرض أو إقامة مصنع أو تشييد بناء أو غير ذلك من مختلف مجالات الإنماء، كانت الفائدة أي الربا جائزة. ثم إن ربا المصارف كما تقدم يصبح بنظام الفائدة المركبة من ربا الأضعاف المضاعفة، وليس صحيحاً ما ينقل عن ابن عباس أنه كان يحرم فقط ربا الجاهلية، ولا يحرم ربا الفضل وربا النسيئة حسبما زعم السنهوري.

2 - يزعم المبيحون أيضاً بأن لفظ «الربا» في الشريعة مجمل، عرف العرب بعضه ولم يعرفوا البعض الآخر، ويؤيدون رأيهم بقول عمر رضي الله عنه: «أن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا الريبة». وهذا خطأ لأن الشريعة تتمثل بالقرآن والسنة الصحيحة، والقرآن حرم جنس الربا، بدليل آخر قول عمر: «فدعوا الربا والريبة» وجاءت السنة الثابتة بمجموع الأحاديث الصحيحة مبينة المراد من قوله تعالى: {وحرَّم الربا} [البقرة:275/ 2] واعتبر النبي صلّى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر المتأخر حدوثه (وهو سنة سبع بعد الحديبية) مبادلة الصاع الجيد من التمر بالصاعين من الرديء «عين الربا» مما يدل على وجود هذه المعاملة بين العرب، وأنها بيع في ظنهم، فكان إرشاد النبي صلّى الله عليه وسلم دالاً على أن ذلك العقد ربا حرام وليس بيعاً حلالاً، كما أن لفظ الربا الوارد في القرآن شامل لهذا النوع من المعاملة. وعلى هذا فلا يصح القول بحصر الربا بربا الجاهلية (الأضعاف المضاعفة)، وبأن غيره من أنواع الربا مشكوك في حرمته، وإن اعتبرناه حراماً فهو أقل حرمة من ربا الجاهلية، كما يقول السيد رشيد رضا.
3 - يزعم بعض المعاصرين كالدكتور معروف الدواليبي أن الربا المحرم هو ربا القروض الاستهلاكية أي التي يقترضها ذوو الحاجة الملحة ويؤدونها أضعافاً

(5/3750)


مضاعفة، أما القروض الإنتاجية التي يقترضها الموسرون للتشغيل في مشروعات إنتاجية صناعية أو تجارية أو زراعية تدر عليهم ربحاً وفيراً، فليست الفائدة المؤداة ربا محرماً لعدم توافر معنى استغلال حاجة المحتاج. ويلاحظ أن أول من أعلن هذا في أسبوع الفقه الإسلامي عن الربا سنة 1951 م في باريس قد تأثر بالنظريات الرأسمالية وبالفكر اليهودي. وقد رددت على هذا بأن الحكم الشرعي يرتبط بالعلة المنضبطة لا بالحكمة المضطربة المختلفة من شخص لآخر، وربط الربا بالاستغلال والظلم بيان للحكمة التشريعية لا لعلة الحكم. ثم إن الشريعة بنصوصها القاطعة حرمت كما تقدم جنس الربا، ولم تفرق بين قرض استهلاكي وقرض إنتاجي، كما أن الإسلام حرم كل أنواع الربا مبتدئاً بالموسرين كالعباس.

4 - يزعم هؤلاء المبيحون بأن الفائدة في القروض الإنتاجية تقتضيها مصلحة متحققة فتجوز ولو عارضتها مفسدة، والقاعدة المنقولة في مقال العربي السابق عن عالم أن المفسدة إذا عارضتها مصلحة راجحة قدمت المصلحة، وتتمثل المصلحة هنا في توظيف الأموال لمضاعفة الدخل القومي، وفتح مجالات العمل أمام العمال، وإفادة كل من المقرض والمقترض. أما المفسدة فهي الربا فقط. وهذا خطأ بيِّن لأن القاعدة الشرعية الصحيحة أن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وأن المصلحة يعمل بها إذا لم تعارض النص الشرعي، ومجال العمل بالمصلحة عند فقدان الدليل من نص أو إجماع أو قياس، وأن مفاسد القروض الإنتاجية أكثر وأخطر من المصالح الوهمية المشار إليها، لأن المنتج يضيف مقدار الفائدة على تكاليف الإنتاج التي يتحملها المستهلك في نهاية الأمر، ولأن ارتفاع سعر السلع فيه مضرة بمجموع الناس، ولأن الفائدة الربوية تسخر العمل لخدمة رأس المال دائماً، ولأن إقراض الموسرين يحصر الثروة في أيديهم، ويؤدي إلى التضخم النقدي والتفاوت الصارخ بين الأغنياء والفقراء.

(5/3751)


5 - يزعم المبيحون بأن المصارف (البنوك) في العصر الحديث ضرورة اقتصادية لا يستغنى عنها، وهذا أيضاً تمويه وخداع، فإن النظام الاشتراكي لا يقر نظام الفوائد المصرفية، كما أن نجاح المصارف الإسلامية التي زادت عن خمسين مؤسسة في عصرنا، في غضون ثلاث عشرة سنة فقط برهان واضح على إمكان قيام نظام اقتصادي خال من الفوائد البنكية أو المصارف الربوية. ولايصح القول أيضاً بأن فوائد المصارف مما تعارف عليها الناس، والعرف مصدر تشريعي؛ لأن هذا عرف فاسد مصادم للنصوص الشرعية.
6 - إن تسويغ (تبرير) الربا بالتضخم النقدي أي بجعل الفائدة تعويضاً عن القيمة المفقودة من النقد غير صحيح، لأن الفائدة في الحقيقة هي سعر استعمال النقدية مع مرور الزمن، وليست تعويضاً عن فقد قيمة النقد، كما أن الربا من مسببات التضخم فعلاً، وليس نتيجة له، كما يقرر الاقتصاديون.
7 - إن من مظاهر انحطاط الفكر ودواهي العلم أن يقال: (إن الأوراق النقدية لا توزن، فلا تعتبر من الربويات، بل تأخذ حكم العروض التجارية)، أو يقال: إن الأوراق النقدية كالفلوس لايجري فيها الربا. وهذا جهل واضح بحقيقة النقود، فإنها ثمن اصطلاحي للأشياء، سواء أكانت معادن أم أي شيء آخر، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين» (نيل الأوطار: 303/ 5) والفلوس ليست لها قوة النقود ولا بديلاً عن النقود، وإنما هي كالسلع التجارية، فلا تقوَّم بها السلع والأعيان وإنما تقوَّم بالذهب والفضة، وكان سلخ وجود صفة الربا فيها لتفاهتها، كتفاهة بيع الحفنة بالحفنتين، والتفاحة بالتفاحتين، وإنما سمح بتداولها في الماضي لتسهيل شراء ما رخص ثمنه من الحاجيات.
8 - أن الفائدة البنكية المعطاة لصاحب المال، المحددة بمقدار معين حرام،

(5/3752)


لأنها قدر مقطوع لا زيادة فيها ولا نقص ولا تتأثر بحقيقة الأرباح، ولا تساهم في تحمل شيء من الخسارة إذا قيل: إنها عائد استثمار رأس المال المودع في المشروعات الاستثمارية من صناعة وتجارة وزراعة وغيرها.
وعلى هذا فلا يصح القول خلافاً لما جاء في مقال مجلة «العربي» السابق وغيره من الفتاوى الضالة بإباحة أرباح صناديق التوفير التي تعتمدها بعض الحكومات لتشجيع الناس على الادخار، ولا القول بإباحة أرباح شهادات الاستثمار المصرفية حيث يودع بعض الناس أموالهم، ويحصلون على شهادات أو صكوك بقيمتها، تحقق أرباحاً أو جوائز بعد فترة زمنية معينة؛ لأن هذه الصناديق والشهادات ما هي إلا قرض جر نفعاً، وليست عارية؛ لأنه يجب رد العين المعارة بذاتها، ولأن عارية النقود قرض، ولا وديعة، لأن الودائع لا يجوز للوديع تشغيلها، فإن استعملها ضمنها، وليست هي أيضاً من قبيل شركات المضاربة بتقديم رأس المال من جانب والعمل من جانب آخر؛ لأن المصارف تحدد نسبة معينة من الربح بمقدار نسبة رأس المال، لا بحسب نسبة الربح الفعلي، مما يجعل المعاملة ربا نسيئة، والمضارب في شركة المضاربة شريك لرب المال، والشريك لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتقصير في العمل، مع أن رأس المال مضمون من قبل المصرف كالمقترض تماماً، فإنه ضامن بالشرط والتعهد والاتفاق لا تبرعاً لما يقترضه من مال. ثم إنه لا بد من الاشتراك في الربح دون تحديد نسبة مقطوعة، وتكون الخسارة على رب المال في المضاربة، ولا خسارة على أصحاب هذه الأموال، وقد يقرض المصرف بعض الأموال المودعة لديه، وليس هذا جائزاً في المضاربة. ولا يجوز تخصيص حظ معين، لأنه قد أجمع الفقهاء في الشركات وعقود استثمار الأراضي (المساقاة، والمزارعة، والمغارسة) على عدم جواز تخصيص مقدار مقطوع من الربح أو الغلة والناتج لوجود الغرر، أي احتمال وجود ربح أو عدم وجوده،

(5/3753)


واحتمال تفاوت نسبة الربح، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج نهى عن كراء الأرض بما على السواقي وأمر بكرائها بذهب أو ورق (فضة) معين. ولا عبرة لما يقال بأن المشروع رابح دائماً، وأن الخسارة نادرة فتكون غرراً يسيراً لا يبطل العقد فإن الكلام في مقدار
الغرر، ومقدار الغرر فاحش، وليس الكلام في ندرة وقوعه أو عدم وقوعه، لأن الخسارة للمصرف إذا حدثت تكون فاحشة وليست يسيرة.
والكلام عن الغرر يقتضينا الإشارة إلى أن مقال العربي السابق الذي ينقل عن عالم جواز التأمين على الحياة خطأ أيضاً، لأنه بالرغم مما يقال عن أن نسبة الاحتمال أو الغرر في شركات التأمين تخضع لحسابات دقيقة، وهي يسيرة مسموح بها، فهو كلام مناقض للواقع، لأن مقدار الغرر فاحش، واحتمال حدوث الحادث أو عدم حدوثه بيد الله تعالى: {وما تدري نفس ماذا تَكْسِبُ غداً، وما تدري نفس، بأي أرض تموت، إن الله َ عليمٌ خبيرٌ} [لقمان:34/ 31].

والخلاصة:
إن فوائد المصارف حرام شرعاً بنص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والأمة، والقول بإباحتها مصادم بداهة للأدلة الشرعية كلها النصية (القرآن والسنة) والاجتهادية (كالإجماع والقياس) ولا عبرة بقول من غير فقه وورع، أو جهل بحقيقة أعمال المصارف.
هذا مع العلم بتناقض فتاوى مفتي مصرالدكتور سيد طنطاوي حيث صدرت له فتاوى سابقة تصرح بتحريم فوائد البنوك وشهادات الاستثمار (1).
_________
(1) انظر كتاب الدكتور محمد علي السالوسي «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» وكتابه أيضاً «حكم ودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي» جزاه الله خيراً حيث دافع بورع وحق عن حياض شرع الله القائم على تحريم الفوائد وكل ربح ثابت.

(5/3754)


أحكام التعامل مع المصارف الإسلامية
المصرف الإسلامي: هو مؤسسة مالية تقوم بتجميع الأموال واستثمارها وتنميتها لصالح المشتركين، وإعادة بناء المجتمع المسلم، وتحقيق التعاون الإسلامي، على وفق الأصول الشرعية.
وأهم تلك الأصول: اجتناب المعاملات الربوية والعقود المحظورة شرعاً، وتوزيع جميع الأرباح بحسب الاتفاق دون استغلال حاجة المضطر أو المحتاج، ومساعدة أهل الحاجة عن طريق القرض الحسن، والدعوة إلى الإسلام اقتصادياً واجتماعياً.

مميزات المصارف الإسلامية:
تمتاز المصارف الإسلامية عن المصارف التجارية الربوية القائمة على أساس الفائدة المصرفية إيداعاً وإقراضاً، بميزات واضحة، مستمدة من الشريعة الإسلامية وفقهها الخصب غير الملتزم بمذهب معين، بحيث يمكن أن تحقق هذه التجربة نجاحاً ملحوظاً بارزاً، تستطيع به الصمود أمام المصارف الأخرى، ومنافستها، وإقناع المسلم بأنها قادرة على تلبية حاجاته، وتحقيق مطالبه في ظل أحكام القرآن، والحد من غطرسة النظام الرأسمالي القائم أساساً على الاستغلال والطبقية والفائدة الربوية.
وأهم هذه الميزات التي يبين منها أوجه الفرق بين المصارف الإسلامية والمصارف التجارية هي ما يأتي:

1 - ارتباطه بالعقيدة الإسلامية: المسلم في كل تصرفاته ملتزم بأصول الحلال والحرام في شريعته، فهو يقْدم على الحلال الواضح المعالم الذي يطمئن إليه

(5/3755)


قلبه، ويجتنب الحرام الذي يمنعه دينه ويحظره عليه شرعه، فلا يجرؤ على مخالفة حكم من أحكام قرآنه وسنة نبيه، وقد نص القرآن الكريم على تحريم الربا تحريماً قطعياً أبدياً، سواء أكان ربا نسيئة ومنها ربا المصارف، أم ربا فضل، وسواء أكان الربا في البيع أم في القرض، وسواء أكان القرض استهلاكياً أم إنتاجياً.
وذلك في قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/ 2] أي حرم جنس الربا بمختلف أنواعه، وأنذر تعالى بمحق فوائد الربا فقال: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة:276/ 2] وأوجب تعالى ترك كل آثار الربا وتصفيته ولو كانت الفائدة قليلة مثل 1% بقوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة:278/ 2] وأعلن الحق تبارك وتعالى الحرب والعداوة على أكلة الربا، فقال: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تَظْلمون ولا تُظلمون} [البقرة:279/ 2] وهذا أشد عقاب في الإسلام، وأدل على أن الربا أشد الأحكام حرمة وأفظعها وأشنعها جرماً عند الله تعالى، لاستحقاقه عداوة الله والرسول.
وينبني على قاعدة الحلال والحرام هذه أنه لا يجوز للمصرف الإسلامي إنتاج أوتمويل أو استيراد أو تصنيع السلع المحرمة شرعاً كالخمر، أو التعامل بالربا، أو الاحتكار، أو التغرير أو الغش في التعامل. أما المصارف الربوية فتعتمد على الفائدة أخذاً وعطاء، وعلى دعم الاحتكارات.
ويتعين على المصرف الإسلامي توجيه الموارد واستثمارها في مجال السلع والخدمات المشروعة دون إسراف.
ويراعي المصرف في مشروعاته حاجات المسلمين ومصلحة الأمة.

(5/3756)


2 - الأخذ بمبدأ الرحمة والتسامح واليسر: إن مبدأ الإخاء الإسلامي يوجب على عاملي المصرف الإسلامي الأخذ بيد المسلم لإنقاذه من عسر أوضيق طارئ أو أزمة ألمت به، فلا إرهاق ولا إعنات في المطالبة، ويعتمد في معاملته النصح والإرشاد، والأمانة والصدق، والإخلاص والتسامح، ويتعامل بالقرض الحسن، ويمهل المدين الغريم عند العسر، أخذاً بنظرية الميسرة المقررة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى مَيْسَرة، وأن تصدَّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:280/ 2].
أما المصارف التجارية غير الإسلامية فنظرتها مادية محضة، لا تعنى بالأخلاق، ولا ترعى ظروف المقترض، وإنما يهمها مصلحتها وتحقيق أرباحها، بغض النظر عن أوضاع العميل مع المصرف، فإذا لم يقم بتسديد ما عليه من فوائد متراكمة تبادر إلى الحجز على ممتلكاته التي قدمها رهناً بالقرض.

3 - النزعة الاجتماعية الإنسانية: إن هدف المصارف الربوية هو الربح، وتحقيق أكبر ربح ممكن، بينما هدف المصارف الإسلامية هو التعاون، ودرء الضرر، ودفع الحاجة، من طريق القروض الحسنة التي لا تأخذ فائدة عليها، وصرف الزكاة إلى الأسر الفقيرة، وطلبة العلم، وبناء المساجد، ودعم الجمعيات الخيرية التي تعنى برعاية الفقراء طعاماً وغذاء وكساء ومأوىً وعلاجاً، وبتحفيظ القرآن، وإعداد الجيل على منهج التربية الإسلامية في سيرتها السلفية الأولى، مع الأخذ بما تقتضيه المعاصرة والحداثة والتطور النافع المفيد.
وتعنى المصارف الإسلامية بربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية في أُطر متوازنة وتنسيق متكامل صحيح، فيسير العمل من أجل توفير الرخاء الاقتصادي، مع التهذيب الاجتماعي القائم على الالتزام بآداب الإسلام وقِيَمه

(5/3757)


وأخلاقه الاجتماعية في كل مناحي الحياة ومسيرة المعاملات، فلا غش ولا خداع، ولا تغرير ولا تدليس، ولا مقامرة ولا غبن في المعاملات، منعاً لأكل أموال الناس بالباطل، وحفاظاً على شيوع روح الود والحب والطمأنينة، ومنع المنازعات بين الناس، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقرار في الحياة والأوطان الإسلامية، وتقوية وازع الدين، وخشية الله تعالى ورقابته في السر والعلن، حتى يكون المواطن عضواً أميناً صالحاً منتجاً، يعمل بوحي من دينه وضميره الذي لا رقيب عليه إلا الله تعالى، ويتقن أعماله ويضاعف جهوده في الإنتاج، والتصنيع، وتحسين الثمار والزروع وغير ذلك من الأنظمة الاقتصادية وتقوية التجارة القائمة على الثقة، وإفادة الأمة الإسلامية.

4 - المساواة بين طرفي التعامل، والوضوح في العمل، والثقة في الاستثمار: لا تعرف المصارف الربوية هذه المبادئ، وإنما المهم تشغيل الأموال بمعرفة إدارة المصرف، وإعادة الإقراض إلى غير المودعين بسعر فائدة أعلى من سعر فائدة الودائع. بينما المصارف الإسلامية لا غموض فيها، وكل أعمالها واضحة، ويهمها توفير ثقة المتعاملين مع إدارة المصرف، ولا تعتمد على الإقراض بالفائدة، وتلتزم بعقد المشاركة (شركة العنان في الفقه الإسلامي) مع العميل أو صاحب رأس المال، فيساهم الشريك والمصرف في رأس المال والإدارة، ويقسم الربح بنسبة يتفقان عليها بالتراضي مقدماً. أما الخسارة فتكون بنسبة رأس المال، إلا إذا كانت الخسارة بسبب التعدي أو التقصير.
وفي مجال تشغيل الأموال أو استثمارها يعتمد المصرف على نوع آخر من الشركات هو شركات القراض أو المضاربة التي يقدِّم فيها المصرف كل التمويل، بينما يقوم الشريك المضارب بالإدارة والعمل، وفقاً لشروط محددة يعينها المصرف حسبما يعرف في الفقه الإسلامي بالمضاربة المقيدة. ويحدد نصيب المضارب في

(5/3758)


الربح بالتراضي بين الجانبين مقدماً، أما الخسارة فيتحملها المصرف وحده، ويفقد الشريك المضارب مجهوده الذي بذله في إدارة المشروع، ما لم تكن الخسائر بسبب التعدي أو التقصير.
أما في نطاق الاستيراد كشراء السيارات والسلع التجارية سواء من داخل البلاد أو خارجها، فيلجأ المصرف الإسلامي إلى نوع من البيوع يسمى بيع المرابحة: وهو البيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح، وهو من بيوع الأمانة، فإن ظهرت خيانة كان للمشتري الخيار بنقض الصفقة. ويستطيع المصرف أن يأخذ ربحاً معقولاً على شراء السلعة، سواء أكان البيع حالا (نقدياً) أم مقسطاً أم مؤجلاً لأجل معين، ويجوز في رأي جمهور الفقهاء أن يكون سعر التقسيط أو المؤجل أعلى من السعر الحالّ أو النقدي، بشرط تحديد السعر تحديداً نهائياً عند الاتفاق على البيع.
ويمكن للمصرف بناء بيت أو منزل في أرض بمبلغ معين يراعى فيه التكاليف زائداً الربح، يدفع عند التسليم، أو على أقساط يتفق عليها، ولا مانع من اختلاف الثمن باختلاف الأجل.
أما التحاويل والحوالات التي هي وسائل تؤدي إلى سداد مبالغ نقدية في داخل البلد أو خارجه، فيجوز شرعاً وكما هو معمول به في المصارف التجارية أن تكون بأجر أو بغير أجر.
وأما خطابات الضمان (وهي التعهدات الكتابية التي يتعهد بمقتضاها المصرف بكفالة أحد عملائه في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث، بمناسبة التزام ملقى على عاتق العميل المكفول) فهي كفالة جائزة شرعاً. أما أخذ المصرف الأجرة على هذه الكفالة فيجوز إذا كان خطاب الضمان بغطاء كامل أو جزئي (أي بتعهد بالدفع

(5/3759)


الكلي أو الجزئي ويرصد مقابلها ما يوازيها)؛ لأن العقد هنا عقد كفالة ووكالة معاً: كفالة بالنسبة لعلاقة المصرف مع الطرف الثالث ووكالة بالنسبة لعلاقة المصرف مع العميل.
ولا يجوز للمصرف أخذ الأجرة إذا كان خطاب الضمان بغير غطاء (أي لا يرصد مقابله شيء) لأن العقد هنا عقد كفالة، ولايجوز أخذ الأجر على الكفالة؛ لأنها من عقود التبرعات، وأخذ الأجر على ذات الضمان غير جائز عند جمهور الفقهاء، خلافاً لما عليه المصارف التجارية من أخذ عوائد على خطابات الضمان التي تصدرها. وهذا الحكم الشرعي هو ما أخذ به المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية، وهيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني. وأجازت هذه الهيئة أخذ أجر حالة الكفالة المجردة شريطة أن يكون محسوباً نظير ما يقوم به البنك من خدمة فعلية يتكبدها في سبيل إصدار خطاب الضمان، من غير أن يمتد ذلك إلى الضمان نفسه.

5 - مناط الربح تشغيل رأس المال والعمل:
الاسترباح في المصارف الإسلامية يعتمد على تشغيل رأس المال والعمل من جانب المصرف أو وكلائه، فلا يحقق إيداع المال نظير فائدة ثابتة، وإنما صاحب رأس المال شريك بناء على شركة العنان أو شركة المضاربة، ويجوز اجتماع شركة المضاربة مع شركة أخرى كشركة العنان، كما يجوز تعدد أرباب المال وتعدد المضارب، فللمضارب الواحد أو جماعة المضاربين الاشتراك مع آخرين في شركة عنان. والمضاربة مبنية على الأمانة، فلا يجوز أن يضمن المضارب المال، وإلا فسخ العقد.
ويطبق المصرف مبدأ المضاربة المطلقة فيما يتعلق بالودائع الاستثمارية، والمضاربة المقيدة فيما يتعلق بعمليات الاستثمار.

(5/3760)


أما المستفيد من المصارف فيقترض منها بالقرض الحسن الذي لا فائدة فيه، ومصدر أموال القروض من بعض مؤسسي المصرف؛ لأن الفقهاء اتفقوا على أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا، أي اشترط فيه النفع وهو الربا أو الفائدة أو المنفعة كالسكنى في بيت الغريم المدين. ولا يجوزفي أي تعامل للمصرف أن ينص على دفع فائدة منه أو إليه، وليس له أخذ فائدة مقابل دفع مبلغ مؤجل حالاً؛ لأن ذلك ربا حرام داخل في قاعدة «ضع وتعجل».
وبناء عليه لا يصح للمصرف في تعامله مع المصارف الأجنبية أن ينص على أخذ فائدة أو دفع فائدة، كأن يشترط المصرف الإسلامي على المصرف الأجنبي أن يقرضه عندما ينكشف حسابه نظير فائدة، والحل هو الاتفاق على إيداع المصرف الإسلامي مبالغ في المصرف الأجنبي لحسابه من غير فائدة، وإذا احتاج المصرف الإسلامي تغطية عجزه، لا يدفع فائدة للمصرف الأجنبي إذا صار دائناً له، وقد قبلت المصارف الربوية هذا التعامل.
ويلاحظ أن المصارف التجارية لا تتعامل مع عملائها أو مع المصارف الأخرى إلا بفائدة ربوية في حالتي الأخذ والعطاء. ونظام الفوائد سلباً وإيجاباً يؤدي إلى تضخم التكاليف: وارتفاع الأسعار؛ لأن كل فائدة تضم في النهاية على سعر السلعة، ويدفعها المستهلك مع ثمن البضاعة.
وهناك عبء إضافي ثقيل على المقترض من المصارف الربوية وهو مضاعفة الفائدة أو ما يسمى بالفائدة المركبة مع مرور الزمن ومضي السنوات، وإذا عجز عن تسديد هذه الفوائد وهو الغالب، فإن أرضه أو بستانه أو منزله الذي قدمه رهناً سيباع بالمزاد العلني، ويأخذ المصرف من الثمن كامل حقه غير منقوص.

(5/3761)


ًً 6 - سعة رقعة التعامل مع العملاء:
ليس كل أحد يستطيع التعامل مع المصارف التجارية الربوية، وإنما الأمر مقصور غالباً على الأغنياء، فتعطى القروض لكبار العملاء والذين يستطيعون تقديم ضمانات عقارية أو عينية كالبضائع والمعدات والآلات.
أما المصارف الإسلامية فتتعامل مع جميع الناس، حتى أبسط الحرفيين وصغار الكسبة وصغار التجار، وحديثي التخرج من الجامعات، فتمول المشروعات الصغيرة، وتساعد في توفير المسكن والمأوى للشاب الذي يريد الزواج والاستقرار في حياته العائلية.

7 - العدالة في تقدير العمولة:
تتقاضى المصارف التجارية عمولة على جميع أوجه نشاط التعامل معها، أما المصارف الإسلامية فتتقاضى عمولة مطابقة تماماً للجهد المبذول أو السعي في تحقيق مصلحة العميل، فيأخذ المصرف النفقات الفعلية التي أنفقها على قرض معين بذاته، كما يأخذ مصاريف القرض الحسن مرة واحدة في بداية القرض، ومبلغاً موحداً على القرض غير مرتبط بقيمته. وبعض هذه المصارف مثل «بنك دبي الإسلامي» لا يأخذ أية مصاريف على القرض الحسن وإنما يأخذ فقط مبلغ القرض دون أي مصاريف أو زيادة.

هل التعامل مع المصارف الإسلامية حلال أو حرام؟
يتبين مما تقدم أن المصرف الإسلامي يلتزم جانب الحلال في أعماله ومعاملاته كلها، ويجتنب الحرام فيما يقوم به من مشاركة واستثمار وتنمية الأموال المدفوعة

(5/3762)


إليه، ويساهم في سد حاجة المحتاج عن طريق القروض الحسنة غير المقترنة بشرط دفع فائدة ربوية أو تحقيق منفعة على حساب المقترض، فليطمئن المسلم على سلامة تعامله مع المصارف الإسلامية شرعاً أخذاً وعطاء، إنتاجاً واستثماراً، على أساس المشاركة المنتهية بالتمليك أو المساهمة.
إذ من المعلوم شرعاً أن العقد الجائز يصح للإنسان المسلم إبرامه، والأصل في المعاملات والعقود: الإباحة، وأما التعامل أو العقد المحظور شرعاً كالعقد الفاسد أو الباطل، مثل البيع المشتمل على الربا فيحرم الاقتراب منه، ويلزم اجتنابه، حتى ولو كان عقداً صحيحاً في الظاهر لكنه يستهدف غاية محظورة أو ممنوعة شرعاً؛ إذ من المبادئ الشرعية أو الأصولية: مبدأ سد الذرائع إلى الحرام، فكل ما أدى إلى الحرام أو كان وسيلة إليه، فهو حرام محظور شرعاً.
والإسلام يجيز كل ما يحقق حاجات الناس، ولا يحجر على أحد الربح المعقول شرعاً وهو ما كان دون الخمس أوالثلث، وربما اشتبه على بعض الناس الوقوع في معنى الحرام أو الربا في بعض المعاملات، وهذا صحيح، ولكن الإسلام يمنع التصريح بالربا أو اشتراط الفائدة، ولكنه لا يمنع التوصل إلى المقصود بأسلوب شرعي، فمثلاً البيع بالتقسيط أو بثمن مؤجل أكثر من السعر الحال أو النقدي، قد يقال: إنه حرام لما فيه من زيادة في السعر على الثمن الحالّ، ولكن فقهاء الإسلام أجازوه رعاية للحاجة، ولأنه لا يقصد به الاستغلال والتضييق على المضطر أو المحتاج، وإنما على العكس فيه رعاية لحاجة المشتري الذي لا يملك الثمن الكلي للسلعة، وهو بحاجة إليها.
والعمولة على الخدمات المصرفية قد يتوهم أنها فائدة أو ربا حرام، مع أنها

(5/3763)


أجر على عمل ما لم ينص صراحة على الفائدة، ومعظم الخدمات المصرفية التي يقوم بها المصرف للعملاء جائزة على أساس الإجارة والوكالة بأجر، والإجارة نوعان: إجارة منافع الأعيان، وإجارة الأشخاص، فإيجار الخزائن الحديدية أو المخازن تتضمن منافع الأعيان، وقيام موظفي المصرف بالعناية بهذه الأماكن يتضمن إجارة الأشخاص. وما عدا إيجار الخزائن الحديدية والاعتمادات المستندية من الخدمات المصرفية مثل كتابة الوثائق وتدوين الحسابات وفتحها وتشغيل الأموال ورصد الأرباح جائز أيضاً لا شبهة فيه.

(5/3764)


....................... 6 ..........................................

...................................... بيوع الأمانة ......................................
المرابحة والتولية والوضيعة ذكرت سابقاً أن البيع ينقسم من ناحية البدل إلى خمسة أقسام:
1 - بيع المساومة: هو البيع بأي ثمن كان من غير نظر إلى الثمن الأول الذي اشتري به الشيء، وهو البيع المعتاد.
2 - بيع المرابحة: هو البيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح. وصورة المرابحة كما ذكر المالكية: هي أن يعرِّف صاحب السلعة المشتري بكم اشتراها، ويأخذ منه ربحاً إما على الجملة مثل أن يقول: اشتريتها بعشرة وتربحني ديناراً أو دينارين، وإما على التفصيل وهو أن يقول: تربحني درهماً لكل دينار، أو نحوه (1)، أي إما بمقدار مقطوع محدد، وإما بنسبة عشرية. وتعريفها عند الحنفية: نقل ما ملكه بالعقد الأول وبالثمن الأول مع زيادة ربح. وعند الشافعية والحنابلة: هي البيع بمثل رأس المال أو بما قام على البائع وربح درهم لكل عشرة ونحو ذلك، بشرط علم العاقدين برأس المال (2).
_________
(1) راجع القوانين الفقهية لابن جزي: ص 263.
(2) مغني المحتاج: 77/ 2، المهذب: 382/ 1، ط ثالثة، المغني: 199/ 4، ط الرياض.

(5/3765)


3 - بيع التولية: هو البيع بمثل الثمن الأول أي برأس المال من غير زيادة ربح، فكأن البائع جعل المشتري يتولى مكانه على المبيع.
4 - بيع الإشراك: هو كبيع التولية، إلا أنه بيع بعض المبيع ببعض الثمن.
5 - بيع الوضيعة: هو بيع بمثل الثمن الأول، مع نقصان شيء معلوم منه (1).

بيع المرابحة:
بيع المرابحة عقد جائز شرعاً رخص في جوازه جماهير العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، إلا أنه في رأي المالكية خلاف الأولى أو الأحب. وأدلة الجواز ما يلي:
1ً - الآيات القرآنية الدالة بعمومها على مشروعية البيع، مثل قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/ 2] وقوله سبحانه: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] والمرابحة بيع بالتراضي بين العاقدين.
2ً - صح أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة، ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «ولّني أحدهما، فقال: هو لك بغير شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: أما بغير ثمن فلا» (2).
3ً - روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأساً بده يازده، وده دوا زده، أي كل عشرة ربحها درهم، وكل عشرة ربحها درهمان.
_________
(1) انظر درر الحكام: 180/ 2.
(2) ذكره البخاري عن عائشة، وكذا الإمام أحمد في مسنده وابن سعد في الطبقات، وابن إسحاق في السيرة. وقوله: «ولني أحدهما» معناه الأخذ على سبيل التولية بمثل الثمن.

(5/3766)


4ً - توافرت في هذا العقد شرائط الجواز الشرعية، والحاجة ماسّة إلى هذا النوع من التصرف، يستفيد منه الخبير بالحوائج والأشياء، بالبيع مع الربح، وغير الخبير الذي لا يحسن التجارة.
والمرابحة: بيع بثمن معلوم، فجاز البيع به، كما لو قال: بعتك بمئة وعشرة، وكذا الربح معلوم، فأشبه ما لو قال: وربح عشرة دراهم.
وتفصيل الكلام عن المرابحة في المطالب الآتية:

المطلب الأول ـ شرائط المرابحة.
المطلب الثاني ـ رأس المال وما يلحق به وما لا يلحق.
المطلب الثالث ـ ما يجب بيانه في المرابحة.
المطلب الرابع ـ حكم الخيانة إذا ظهرت.
ويلاحظ أن الكلام في هذه المطالب يتناول حكم غير المرابحة: وهي التولية، والإشراك، والوضيعة.

المطلب الأول ـ شرائط المرابحة يشترط في المرابحة شروط هي ما يأتي (1):

1 - العلم بالثمن الأول: يشترط أن يكون الثمن الأول معلوماً للمشتري الثاني، لأن العلم بالثمن شرط في صحة البيوع. وهذا الشرط يشمل جميع أخوات المرابحة من التولية والإشراك والوضيعة؛ لأنها تعتمد كلها على أساس
_________
(1) البدائع: 5 ص 220 - 222.

(5/3767)


الثمن الأول أي رأس المال، فإذا لم يعلم الثمن الأول فالبيع فاسد إلى أن يعلم في المجلس، فلو لم يعلم حتى افترق العاقدان عن المجلس، بطل العقد لتقرر الفساد.

2 - العلم بالربح: ينبغي أن يكون الربح معلوماً، لأنه بعض الثمن، والعلم بالثمن شرط في صحة البيوع.
3 - أن يكون رأس المال من المثليات: كالمكيلات، والموزونات والعدديات المتقاربة، وهذا شرط في المرابحة والتولية، سواء تم البيع مع البائع الأول، أو مع غيره، وسواء أكان الربح من جنس الثمن الأول، أم لم يكن بعد أن يكون شيئاً مقدراً معلوماً، كدرهم ونحوه. فإن كان مما لا مثل له كالعروض (1) لا يجوز بيعه مرابحة ولا تولية ممن ليس العرض في ملكه؛ لأن المرابحة والتولية بيع بمثل الثمن الأول، مع زيادة ربح عليه في المرابحة.
وعلى هذا إذا كان الثمن الأول غير مثلي كأن يكون من الأعداد المتفاوتة كالدور والثياب والرمان، والبطيخ، ونحوها، فإما أن يبيعه ممن في يده وملكه أو من غيره:
فإن باعه ممن ليس في ملكه ويده، لم يجز، لأنه لا يمكن بيعه مرابحة بالعرض عينه؛ إذ أنه ليس في يده ولا ملكه، ولا بيعه منه بقيمته؛ لأن قيمته مجهولة تعرف بالحزر والظن، وفيه يختلف أهل التقويم.
وإن باعه مرابحة ممن كان العرض في يده وملكه فينظر:
آـ إن جعل الربح شيئاً متميزاً عن رأس المال، معلوماً، كالدراهم، وثوب
_________
(1) العروض جمع عرض والعرض: بسكون الراء، المتاع، وكل شيء سوى الدراهم والدنانير. وعرض الدنيا بفتحتين: ماكان من مال قلَّ أو كثر.

(5/3768)


معين مثلاً، جاز؛ لأن الثمن الأول معلوم، والربح معلوم، مثل أن يقول: (أبيعك مرابحة بالثوب الذي في يدك وبربح عشرة دراهم).
ب ـ وإن جعل الربح جزءاً من رأس المال، كأن يقول: كل عشرة ربحها واحد أي أن الربح بالعُشْر وهو المعروف قديماً بربح (ده يازده) لم يجز، لأنه جعل الربح جزءاً من العَرض، والعَرض ليس متماثل الأجزاء، وإنما يعرف بالتقويم، والقيمة مجهولة، لأن معرفتها بالحزر والظن (1).
وأما بيعه وضيعة ممن العرض في يده وملكه، فالحكم فيه على عكس المرابحة: وهو أنه إن جعل الوضيعة شيئاً متميزاً عن رأس المال معلوماً كالدراهم ونحوه: لا يجوز، لأنه يحتاج إلى حط ذلك القدر عن رأس المال، وهو مجهول.
وإن جعل الوضيعة من جنس رأس المال، بأن باعه بوضع العُشْر، أي أن كل عشرة ينقص منها واحد، جاز البيع بعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من رأس المال، لأن الجزء الموضوع جزء شائع من رأس مال معلوم (2).

4 - ألا يترتب على المرابحة في أموال الربا وجود الربا بالنسبة للثمن الأول، كأن يشتري المكيل أو الموزون بجنسه مثلاً بمثل، فلا يجوز له أن يبيعه مرابحة؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول وزيادة، والزيادة في أموال الربا تكون رباً، لا ربحاً. وكذلك لا يجوز بيعه مواضعة، ولكن يجوز بيعه تولية أو إشراكاً، إذ أنهما بمثل الثمن في كل المبيع أو بعضه، فلا يتحقق الربا.
_________
(1) فتح القدير: 5 ص 254، المبسوط: 13 ص 91.
(2) البدائع: 5 ص 221

(5/3769)


فإن اختلف الجنس فلا بأس بالمرابحة، كأن يشتري ديناراً بعشرة دراهم، فباعه بربح درهم أو ثوب بعينه، جاز (1).

5 ً - أن يكون العقد الأول صحيحاً: فإن كان فاسداً لم يجز بيع المرابحة؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح، والبيع الفاسد يثبت الملك فيه بقيمة المبيع أو بمثله، لا بالثمن، لفساد التسمية.
المطلب الثاني ـ رأس المال وما يلحق به وما لا يلحق
رأس المال: هو ما لزم المشتري الأول بالعقد، أي ما ملك المبيع به ووجب بالعقد، لا ما نقده بعد العقد بدلاً عن المسمى في العقد؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول. والثمن الأول: هو ما وجب بالبيع، فأما ما نقده بعد البيع، فذلك وجب بعقد آخر: وهو الاستبدال، فيكون الواجب على المشتري الثاني هو المتفق عليه بالعقد، لا المدفوع بعدئذ بموجب اتفاق آخر.

ومثل ذلك ـ التولية:
وبيان هذا: إذا اشترى إنسان ثوباً بعشرة دراهم ونقد مكانها ديناراً أو ثوباً، فيكون رأس المال: هو العشرة لا الدينار أو الثوب؛ لأن العشرة هي التي وجبت بالعقد، وإنما الدينار أو الثوب بدل الثمن الواجب.
وكذلك من اشترى ثوباً بعشرة دراهم جياد، ثم إنه دفع إلى البائع عشرة دراهم زيوف أو بعضها جياد وبعضها زيوف، فقبلها البائع، ثم أراد أن يبيعه مرابحة، فيجب على المشتري الثاني أن يدفع الثمن من الجياد؛ لأن المضمون بالعقد الأول هو الجياد، لكن جعل الزيوف بدلاً عن الثمن الأول بعقد آخر.
_________
(1) المبسوط: 13 ص 82، 89.

(5/3770)


ولو اشترى ثوباً بعشرة هي خلاف نقد البلد، ثم باعه مرابحة، فإن ذكر الربح مطلقاً (أي بدون تحديد صفة معينة) بأن قال: (أبيعك بالثمن الأول، وربح درهم) كان على المشتري الثاني عشرة مثل التي وجبت بالعقد الأول وهي عشرة ليست من نقد البلد، وأما الربح فيكون من نقد البلد؛ لأنه أطلق الربح، فينصرف المطلق إلى المتعارف، وهو نقد البلد.
وإن نسب الربح إلى رأس المال، فقال: (أبيعك بربح العشرة أو بربح العُشْر ـ ده يازده) فالربح والعشرة من جنس الثمن الأول لأنه جعل الربح جزءاً من العشرة، فكان من جنسها ضرورة (1).

وأما ما يلحق برأس المال: فهو كل نفقة أنفقت على السلعة وأوجبت زيادة في المعقود عليه سواء في العين أو في القيمة، وكان ذلك معتاداً إلحاقه برأس المال عند التجار، مثل أجرة القصار (2) والصباغ، والغسال، والخياط، والسمسار، وسائق الغنم، وعلف الدواب اعتباراً للعرف، والعرف حجة لما ورد من الأثر: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن».
ويباع ذلك مرابحة وتولية، إلا أن البائع لا يقول عند البيع: اشتريته بكذا، ولكن يقول: (قام علي بكذا، فأبيعك مع ربح كذا) حتى لا يكون كاذباً في كلامه.

وأما ما لا يلحق برأس المال: فهو أجرة الراعي والطبيب والحجام، والختان، والبيطار وأجرة تعليم القرآن، والأدب والشعر والحرف بالنسبة للرقيق في الماضي. ويباع مرابحة وتولية بالثمن الأول الواجب بالعقد الأول لا غير؛ لأن التجار لم
_________
(1) البدائع: 5 ص 222.
(2) هو محور الثياب ومبيضها بواسطة آلة، فإن لم يستعمل آلة فهو الصباغ.

(5/3771)


يتعارفوا إلحاق هذه المؤن برأس المال، وقد ورد: «ما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح» (1).

المطلب الثالث ـ ما يجب بيانه في المرابحة وما لا يجب إن بيع المرابحة والتولية بيع أمانة؛ لأن المشتري ائتمن البائع في إخباره عن الثمن الأول من غير بينة، ولا استحلاف، فيجب صيانتهما عن الخيانة، وعن سبب الخيانة والتهمة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال:27/ 8].
وقال صلّى الله عليه وسلم: «ليس منا من غشنا» (2).
وبناء على هذا: إذا حدث بالسلعة عيب في يد البائع أوفي يد المشتري فأراد أن يبيعها للمشتري مرابحة ينظر:
إن حدث العيب بآفة سماوية: له أن يبيعها مرابحة بجميع الثمن من غير بيان العيب عند جمهور الحنفية؛ لأن الجزء المتعيب لا يقابله شيء من الثمن، فكأنه دفع الثمن مقابل المبيع على حالته التي آل إليها، فكان بيان العيب والسكوت عنه على حد سواء (3).
وقال زفر وجمهور العلماء: لا يبيع الشيء المعيب مرابحة حتى يبين العيب الحادث منعاً من شبهة الخيانة؛ لأن غرض الناس يختلف بذلك العيب، ولأن العيب الحادث ينقص به المبيع (4).
_________
(1) فتح القدير: 5 ص 255، البدائع: 5 ص 223، الدر المختار: 4 ص 161.
(2) سبق تخريج هذا الحديث وله ألفاظ منها هذا: ومنها: «من غشنا فليس منا» ومنها: «ليس منا من غش» (راجع مجمع الزوائد: 4 ص 78).
(3) البدائع: 5 ص 223.
(4) الشرح الكبير للدردير: 3 ص 164، المهذب: 1 ص 289، مغني المحتاج: 2 ص 79، المغني: 4 ص 182.

(5/3772)


وإن حدث العيب بفعل المشتري الأول أوبفعل أجنبي، لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين العيب بالاتفاق.
ولو حدث في المبيع زيادة كالولد، والثمرة، والصوف، واللبن: لم يبعه مرابحة حتى يبين؛ لأن
الزيادة المتولدة مبيعة عند الحنفية، ولا يحط ذلك من الثمن، وإنما يخبر عادة بالثمن من غير زيادة (1).
ولو استغل الأرض جاز أن يبيعها من غير بيان؛ لأن الزيادة التي ليست بمتولدة من المبيع لا تكون مبيعة بالاتفاق.
ولو اشترى شيئاً نسيئة كثوب بعشرة دراهم: لم يبعه مرابحة حتى يبين ذلك، لأن الأجل سبب في زيادة الثمن عادة، فإن ثمن المبيع يختلف بين النسيئة والنقد.
ولو اشترى من إنسان شيئاً بدين له عليه: فله أن يبيعه مرابحة من غير بيان، لأنه اشترى بمثمن في ذمته، لأن الدين لا يتعين ثمناً.
وإن أخذ شيئاً صلحاً من دين له على إنسان: فليس له أن يبيعه مرابحة على ذلك الدين؛ لأن مبنى الصلح على الحط والتساهل، فلا بد من البيان ليعلم المشتري أنه سامح أم لا، فيحترز عن التهمة ... بخلاف الشراء في الحالة الأولى؛ لأن مبنى الشراء على المماكسة (2)، فلا حاجة إلى البيان.
ولو اشترى ثوباً بعشرة دراهم ثم رقمه (3) بأكثر من الثمن إذا كانت قيمته أكثر من عشرة، ثم باعه مرابحة على الرقم من غير بيان جاز، ولا يكون خيانة، لأنه صادق حيث ذكر الرقم، ولكن لا يقول: اشتريته بكذا، لأنه يكون كاذباً فيه. هذا
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) ماكسه مماكسة: استحطه الثمن واستنقصه إياه.
(3) سبق تفسير الرقم في البيوع الفاسدة.

(5/3773)


إذا علم المشتري بأن الثمن والرقم متغايران، فإن علم أنهما سواء، فيكون خيانة يوجب له الخيار.
وكذلك لو ملك مالاً بالميراث أو الهبة، فقومه رجل عدل، ثم باعه مرابحة على قيمته: فيجوز، لأنه صادق في مقالته (1).

المطلب الرابع ـ حكم الخيانة إذا ظهرت إذا ظهرت الخيانة في المرابحة بإقرار البائع في عقد المرابحة أو ببرهان عليها أو بنكوله عن اليمين: فإما أن تظهر في صفة الثمن أو في قدره.
ف إن ظهرت في صفة الثمن: بأن اشترى شيئاً نسيئة، ثم باعه مرابحة على الثمن الأول، ولم يبين أنه اشتراه نسيئة، أو أنه باعه تولية، ولم يبين أنه اشتراه نسيئة، ثم علم المشتري: فله الخيار باتفاق علماء الحنفية إن شاء أخذ المبيع، وإن شاء رده؛ لأن المرابحة عقد مبني على الأمانة، إذ أن المشتري اعتمد على أمانة البائع في الإخبار عن الثمن الأول، فكانت صيانة البيع الثاني عن الخيانة مشروطة دلالة، فإذا لم يتحقق الشرط ثبت الخيار، كما في حاله عدم تحقق سلامة المبيع عن العيب.
وكذا إذا لم يخبر أن الشيء المبيع كان بدل صلح، فللمشتري الثاني الخيار.

وإن ظهرت الخيانة في قدر الثمن في المرابحة والتولية بأن قال:
اشتريت بعشرة، وبعتك بربح كذا، أو اشتريت بعشرة ووليتك بما توليتُ، ثم تبين أنه كان اشتراه بتسعة، فاختلف فقهاء الحنفية:
_________
(1) البدائع: 224/ 5.

(5/3774)


فقال أبو حنيفة رضي الله عنه، وقوله هو الأرجح عند الحنفية: المشتري بالخيار في المرابحة: إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك. وأما في التولية: فلا خيار له لكن يحط قدر الخيانة، ويلزم العقد بالثمن الباقي. ووجه الفرق بين المرابحة والتولية: هو أن الخيانة في المرابحة لا تخرج العقد عن طبيعته: وهو كونه مرابحة؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول، وزيادة ربح. وهذا المعنى متوفر بعد ظهور الخيانة، فيصبح بعض الثمن رأس مال، وبعضه ربحاً مما يوجب خللاً في الرضا، فيثبت الخيار، كما في الخيانة في صفة الثمن.
وأما التولية فالخيانة فيها تخرج عن كونه تولية؛ لأن التولية بيع بالثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان. فإذا ظهر النقصان في الثمن الأول، وأثبتنا الخيار للمشتري، فإنا نخرج العقد عن كونه تولية ونجعله مرابحة، وهذا إنشاء عقد جديد لم يتراضيا عليه وهو لا يجوز فحططنا قدر الخيانة، وألزمنا العقد بالثمن الباقي.
وعليه: لو هلك المبيع في يد المشتري الثاني، أو استهلكه قبل رده، أو حدث به ما يمنع من الرد كعيب مثلاً، لزمه بجميع الثمن المسمى وسقط خياره.
وقال أبو يوسف: لا خيار للمشتري، ولكن يحط قدر الخيانة في المرابحة والتولية. وقدر الخيانة في المثال المذكور: هو درهم في التولية ودرهم في المرابحة وحصة من الربح: وهو جزء من عشرة أجزاء من درهم؛ لأن الثمن الأول أصل في بيع المرابحة والتولية؛ فإذا ظهرت الخيانة تبين أن تسمية قدر الخيانة لم تصح، فتلغو التسمية في قدر الخيانة، ويبقى العقد لازماً بالثمن الباقي.
وقال محمد: للمشتري الخيار في المرابحة والتولية: إن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن، وإن شاء رده على البائع، ودليله: أن المشتري لم يرض بلزوم العقد إلا

(5/3775)


بالقدر المسمى من الثمن، فلا يلزم بدونه، ويثبت له الخيار، لوجود الخيانة، كما يثبت الخيار بعد تحقق سلامة المبيع عن العيب (1).
ويلاحظ أن المفتى به عند الحنفية رفقاً بالناس: هوأنه يجوز رد المبيع أو الثمن على صاحبه بالغبن الفاحش إذا كان هناك تغرير من أحد العاقدين للآخر أو من شخص آخر أجنبي عنهما كالدلال ونحوه.
والمراد بالغبن الفاحش: هومالا يدخل تحت تقويم المقومين كزيادة ثلاثة بالعشرة مثلاً، وأما ما دونها فهو غبن يسير لا رد فيه، كما أنه لا رد إذا لم يوجد التغرير (2).

الإشراك: والإشراك حكمه حكم التولية فيما ذكر، ولكنه تولية بعض المبيع ببعض الثمن. وتفصيل الكلام في القدر الذي تثبت فيه الشركة يعرف في المطولات (3).
المواضعة: والمواضعة كما عرفنا: هي بيع بمثل الثمن الأول مع نقصان معلوم منه، وتطبق عليها شروط المرابحة وأحكامها (4).
بيع المرابحة للآمر بالشراء: تسير المصارف الإسلامية المعاصرة على معاملة معينة أطلق عليها (بيع المرابحة للآمر بالشراء) باعتبارها بديلاً شرعياً عما تقوم به البنوك الربوية. وصورتها أن يتقدم شخص إلى المصرف راغباً مثلاً بشراء سيارة ذات مواصفات معينة أو شراء أجهزة مخبر أو أجهزة طبية أو آلات معمل معين،
_________
(1) المبسوط: 86/ 13، البدائع: 225/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 256/ 5، الدر المختار: 163/ 4.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 166/ 4 ومابعدها.
(3) البدائع: 226/ 5.
(4) المصدر السابق: ص 228.

(5/3776)


فيشتري المصرف تلك الأشياء، ثم يبيعها لراغبها بثمن معين مؤجل لأجل محدد، يكون أكثر من الثمن النقدي.
وتكون العملية مركبة من وعدين: وعد بالشراء من العميل الذي يطلق عليه: الآمر بالشراء، ووعد من المصرف بالبيع بطريق المرابحة، أي بزيادة ربح معين المقدار أو النسبة على الثمن الأول (1).
وهذه العملية جائزة بدليل ما قال الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم: «وإذا أرى الرجل الرجل السلعة، فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً، وإن شاء تركه» (2). فأصل العملية جائز كما صرح الشافعي بشرط تسلم المصرف الشيء المشترى، أما الإلزام بالوعد فيمكن تقليد مذهب آخر فيه وهو المذهب المالكي إن ترتب على الوعد الدخول في التزام مالي معين، وهو رأي ابن شبرمة الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، يكون وعداً ملزماً قضاء وديانة. ولا يعد هذا ممنوعاً، وليس من التلفيق المحظور؛ لأن المسألتين قضيتان منفصلتان، ولا مانع من تقليد كل إمام في مسألة تختلف عن مسألة أخرى يؤخذ فيها بقول إمام آخر.
وأجاز المالكية أيضاً هذا النوع من التعامل، جاء في كتبهم: «من البيع المكروه: أن يقول: أعندك كذا وكذا تبيعه مني بدين؟ فيقول: لا، فيقول: ابتع ذلك، وأنا أبتاعه منك بدين، وأربحك فيه، فيشتري ذلك، ثم يبيعه منه على ما تواعدا عليه» (3).
_________
(1) بيع المرابحة للآمر بالشراء للدكتور يوسف القرضاوي: ص 36.
(2) الأم: 33/ 3، ط بولاق سنة 1321هـ، مصورة في الدار المصرية للتأليف والترجمة.
(3) مواهب الجليل للحطاب: 404/ 4، ط دار الفكر في بيروت، البيان والتحصيل لابن رشد: 86/ 7 - 89.

(5/3777)


وأقر العملية مؤتمران للمصارف الإسلامية، جاء في مؤتمر المصرف الإسلامي الأول في دبي سنة 1399هـ ـ 1979م: إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقاً لأحكام المذهب المالكي. وهو ملزم للطرفين ديانة طبقاً لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء، إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه.
وجاء في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني في الكويت سنة 1403هـ ـ 1983: يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء، بعد تملك السلعة المشتراة، وحيازتها، ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق، هو أمر جائز شرعاً، مادامت تقع على المصرف الإسلامي مسؤولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي، وجميع الضمانات كالتأمين. ومنع البيع قبل القبض هو رأي الجمهور، وأجاز المالكية بيع غير الطعام قبل قبضه.
وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزماً للآمر أو المصرف أو كليهما، فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل، وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً.
وليس هذا التعامل من البيعتين في بيعة المنهي عنه؛ لأن النهي كما ذكر الشافعي وارد على حالة كون القبول لإحدى البيعتين مبهماً أو معلقاً أو مجهولاً، فإن عيّن المشتري إحدى البيعتين جاز، أو أن النهي وارد على حالة اشتراط بيعة أخرى، كأن يقول: بعتك منزلي على أن تبيعني فرسك.

(5/3778)


...................... 7 ...........................................

........................................ الإقالة ..........................................
إذا كان البيع صحيحاً، لازماً: خالياً من الخيار، واتفق المتعاقدان على رفعه وإنهائه، فيتم فسخه عن طريق الإقالة. والإقالة وإن كانت متفرعة عن البيع لأنها أكثر ما تقع فيه، إلا أنها تجري في جميع العقود اللازمة ما عدا الزواج فهي بتعبير أعم: عقد يرفع به عقد سابق (1).

والكلام هنا عن مشروعية الإقالة وتعريفها وركنها ثم عن ماهيتها وحكمها، ثم عن شروط صحتها.
مشروعية الإقالة وتعريفها وركنها: الإقالة مندوبة لقوله عليه الصلاة والسلام عن أبي هريرة: «من أقال نادماً بيعته، أقال الله عثرته يوم القيامة» رواه البيهقي. وفي رواية أبي داود: «من أقال مسلماً، أقال الله عثرته» (2).
والإقالة لغة: الرفع. وشرعاً: رفع العقد ولو في بعض المبيع. مثل أن يبيع إنسان مئة رطل من الحنطة بخمسين ليرة سورية، ويسلمها إلى المشتري، ثم يفترق المتعاقدان، ثم يقول البائع للمشتري: ادفع إلي الثمن أوالحنطة التي دفعتها إليك، فدفعها أو بعضها، فيكون ذلك فسخاً في المردود إلى البائع.
_________
(1) راجع المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 290.
(2) ورواه هكذا ابن ماجه وزاد (يوم القيامة) ورواه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (انظر نصب الراية: 30/ 4، جامع الأصول: 371/ 1، سبل السلام: 33/ 3).

(5/3779)


وركنها: الإيجاب من أحد العاقدين والقبول من الآخر.
وأما صيغة العقد فلا خلاف في أنه ينعقد بلفظ يعبر بهما عن الماضي بأن يقول أحد العاقدين: أقلت، ويقول الآخر: قبلت أو رضيت ونحوهما.
فإن كان أحد اللفظين يعبر به عن الماضي، والآخر عن المستقبل، كأن يقول أحد العاقدين: أقلني، فيقول الآخر: أقلتك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ينعقد كما هو المقرر في عقد النكاح إذ أنه في العادة ليس في الإقالة مساومة بخلاف البيع، فيحمل اللفظ على الإيجاب.
وقال محمد: لا تنعقد الإقالة إلا بلفظين يعبر بهما عن الماضي، كما في البيع؛ لأن ركن الإقالة وهو الإيجاب والقبول، كركن البيع، والبيع لا ينعقد إلا بلفظين يعبر بهما عن الماضي.
ولا يتعين لفظ الإقالة وإنما تصح أيضاً بألفاظ أخرى مثل: فاسختك، وتركت البيع، وتاركتك، ورفعت. وكذا تصح بالتعاطي، ولو من أحد الجانبين، كما في المبيع، كأن يقطع البائع القماش قميصاً بمجرد قول المشتري: (أقلتك) (1).

ماهية الإقالة وحكمها: اختلف الفقهاء في ماهية الإقالة، فقال المالكية والظاهرية: إنها بيع ثان؛ لأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة التي خرج عليه منه، فهي تتم إذن بتراضي العاقدين، يجوز فيها ما يجوز في البيوع ويحرم فيها مايحرم في البيوع (2).
_________
(1) البدائع: 5 ص 306، فتح القدير: 5 ص 246 ومابعدها، الدر المختار: 4 ص 151، درر الحكام لمنلا خسرو: 2 ص 178.
(2) الشرح الكبير: 155/ 3، القوانين الفقهية: ص 272، المحلى: 9 ص 7.

(5/3780)


وقال الشافعية والحنابلة: إنها فسخ؛ لأن الإقالة هي الرفع والإزالة ولأن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، فكان فسخاً، كالرد بالعيب (1).
وأما الحنفية فاختلفوا فيما بينهم، فقال أبو حنيفة رحمه الله، وقوله هو الصحيح عند الحنفية:
الإقالة فسخ في حق العاقدين بيع جديد في حق ثالث غيرهما، سواء قبل القبض أو بعده، إلا إذا لم يمكن جعلها فسخاً فتبطل، كأن تلد البهيمة المبيعة بعد القبض لتعذر الفسخ بالزيادة المنفصلة. ودليله على أن الإقالة فسخ: هو أنها رفع لغة وشرعاً، ورفع الشي فسخه، وأما إنها بيع فلأن كل واحد من المتعاقدين يأخذ رأس ماله ببدل، وهذا معنى البيع. إلا أنه لا يمكن إظهار معنى البيع في حق العاقدين للتنافي (2)، فأظهرناه في حق ثالث غيرهما. وعلى هذا، فمن اشترى داراً، ولها شفيع فلم يطلب الشفعة بعد علمه بالبيع، ثم أقال العاقدان البيع، فيثبت للشفيع حق طلب الشفعة ثانياً؛ لأن الإقالة عقد جديد في حقه وهو المراد بالشخص الثالث هنا.
وقال أبو يوسف: الإقالة بيع جديد في حق العاقدين وغيرهما، إلا أن يتعذر جعلها بيعاً، فتجعل فسخاً، كأن تقع الإقالة قبل القبض في مبيع منقول؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، بخلاف العقار فإنه يجوز بيعه قبل القبض عنده وعند أبي حنيفة، فإقالته بيع. ودليله أن معنى البيع هو مبادلة المال بالمال، وهو أخذ بدل
_________
(1) المغني: 4 ص 121 ومابعدها، غاية المنتهى: 2 ص 52، مغني المحتاج: 2 ص 96، قال النووي في المجموع (9 ص 156): إذا انعقد البيع لم يتطرق إليه الفسخ إلا بأحد سبعة أسباب: وهي خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الخلف بأن كان شرطه كاتباً فخرج غير كاتب، والإقالة والتحالف، وتلف المبيع.
(2) أي لاختلاف البيع والإقالة في الاسم، لأن البيع إثبات، والرفع نفي، وبينهما تناف.

(5/3781)


وإعطاء بدل، وقد وجد، فكانت الإقالة بيعاً لوجود معنى البيع فيها، والعبرة للمعنى لا للصورة.
وقال محمد: الإقالة فسخ إلا إذا تعذر جعلها فسخاً، فتجعل بيعاً للضرورة، كما ذكر أثناء بيان قول أبي حنيفة. ودليله أن الأصل في الإقالة الفسخ، لأنها عبارة عن رفع الشيء لغة وشرعاً.
وقال زفر والشافعية والأكثرون من الحنابلة: إنها
فسخ في حق الناس كافة (1).
وتظهر ثمرة الاختلاف بين الحنفية فيما إذا تقايل العاقدان البيع بأكثر من الثمن الأول أو بأقل أو بجنس آخر، أو أجّلا الثمن في الإقالة:
فعلى قول أبي حنيفة: تصح الإقالة بالثمن الأول ويبطل ما شرطه المتعاقدان من الزيادة أو النقص أو الأجل، أو الجنس الآخر، سواء أكانت الإقالة قبل القبض أم بعده؛ لأنها فسخ في حق العاقدين، والفسخ رفع العقد، والعقد وقع بالثمن الأول، فيكون فسخه بالثمن الأول، ويبطل الشرط الفاسد، فإذا تقايل العاقدان على أكثر من الثمن الأول أو أقل على جنس آخر، يلزم الثمن الأول لا غير.
والحكم هكذا على قول زفر؛ لأن الإقالة عنده فسخ محض في حق الناس كافة. وعلى قول الشافعية والحنابلة: تبطل الإقالة في هذه الحالات بسبب الشرط الفاسد كما في البيع. وعلى هذا فلا يجوز في الإقالة الزيادة ولا النقصان عند الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لأن الإقالة فسخ على أي حال، وعلى هذا إذا تمت
_________
(1) البدائع: 5 ص 306، فتح القدير: 5 ص 247، الدر المختار ورد المحتار: 4 ص 154، القواعد لابن رجب: ص379، المراجع السابقة، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 68، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152، المغني: 121/ 4 ومابعدها.

(5/3782)


الإقالة، وزاد المبيع زيادة منفصلة متولدة من الأصل، كولادة شاة، امتنعت الإقالة. وقال مالك: الإقالة بيع جديد، فيجوز فيها الزيادة أو النقصان. كما إذا باع شيئاً بمئة دينار، ثم ندم البائع، فطلب من المشتري رد المبيع على أن يدفع إليه عشرة دنانير مثلاً؛ لأن الإقالة حينئذ بيع مستأنف، وعمل الناس في أيامنا على هذا الرأي، فلايرضى البائع بنقض البيع إلا إذا تنازل المشتري عن شيء من حقه. ولا يجوز عند مالك أن يشتري شيئاً بمئة دينار مثلاً إلى أجل، ثم ندم المشتري، فسأل البائع الإقالة على أن يعطيه عشرة دنانير نقداً أو إلى أجل؛ لأن ذلك ذريعة إلى بيع وسلف، كأن المشتري باع الشيء بتسعين، وأسلف البائع عشرة (1). وأما إن كان البيع الأول نقداً فلا خلاف في جواز ذلك.
وعلى قول أبي يوسف: تصح الإقالة بما ذكرا من الثمن، وشرطا من الزيادة والنقصان والأجل، لأنها بيع جديد.
وعلى قول محمد: إذا كانت الإقالة بغير الثمن الأول، أو بأكثر منه فهي بيع إذ لا يمكن جعلها فسخاً؛ لأن شأن الفسخ أن يكون بالثمن الأول، وإن كانت بمثل الثمن الأول أو أقل فهي فسخ بالثمن، ويبطل شرط النقصان، وكذلك إن أجل يبطل الأجل (2).

شروط الإقالة: يشترط لصحة الإقالة شروط:
أولاً ـ رضا المتقايلين: سبب هذا الشرط على رأي أبي يوسف ظاهر؛ لأن الإقالة بيع عنده، والرضا شرط من شروط صحة البيوع. وأما على رأي جمهور الحنفية، فلأن الإقالة فسخ العقد، والعقد وقع بتراضي العاقدين، فكذا فسخه. وهذا شرط متفق عليه.
_________
(1) بداية المجتهد: 140/ 2.
(2) البدائع: 5 ص 307، فتح القدير: 5 ص 249، الدر المختار: 4 ص 155.

(5/3783)


ثانياً ـ تقابض بدلي الصرف في مجلس إقالة عقد الصرف: وهذا واضح على أصل أبي يوسف. وأما على أصل أبي حنيفة فلأن قبض البدلين إنما وجب حقاً لله تعالى، والإقالة وإن كانت فسخاً في حق العاقدين فهي بيع جديد في حق ثالث، وحق الشرع هنا بمثابة ثالث، فتكون الإقالة بيعاً في حقه. وهذا شرط متفق عليه.
ثالثاً ـ أن يكون محل العقد محتملاً للفسخ عند أبي حنيفة وزفر؛ لأن الإقالة فسخ للعقد عندهما، فإن لم يكن محتملاً للفسخ بأن ازداد زيادة تمنع الفسخ لاتصح الإقالة.
وعند الصاحبين: لا يشترط هذا الشرط؛ لأن الإقالة على أصل أبي يوسف بيع، والزيادة تحتمل البيع، فيظل محل العقد محتملاً للإقالة.
وأما على أصل محمد: فإن الإقالة وإن كانت فسخاً، لكن عند الإمكان ولا إمكان هنا لأنه إذا حصلت زيادة في المبيع يتعذر الفسخ.

رابعاً ـ قيام المبيع وقت الإقالة؛ لأن الإقالة رفع العقد، والمبيع محله، فإن كان هالكاً كله وقت الإقالة لم تصح، وإن هلك بعضه لم تصح الإقالة بقدره.
وأما قيام الثمن وقت الإقالة فليس بشرط.
وجه الفرق أن رفع البيع يستدعي قيام البيع، فإن رفع المعدوم محال وقيام البيع بالمبيع لا بالثمن؛ لأن الأصل هو المبيع، ولهذا شرط وجوده عند البيع، بخلاف الثمن. فإذا هلك المبيع لم يبق محل حكم المبيع، فلا تتصور الإقالة التي هي رفع حكم البيع في الحقيقة، وإذا هلك الثمن فمحل حكم البيع قائم، فتصح الإقالة (1).
ويترتب على الإقالة انحلال العقد وزوال آثاره أو ارتفاع حكمه.
_________
(1) البدائع: 5 ص 308 ومابعدها، فتح القدير: 5 ص 250 ومابعدها، الدر المختار: 4 ص 157.

(5/3784)