الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّاني: القَرْض إن القرض في
معناه العام يشبه البيع؛ لأنه تمليك مال بمال (1) وهو أيضاً نوع من السلف
(2). قال جماعة من العلماء: القرض نفس البيع، لكن ذكر القرافي ثلاثة فروق
بين القرض والبيع، فالقرض خولفت فيه ثلاث قواعد شرعية:
1 - قاعدة الربا: إن كان القرض في الأموال الربوية وهي المكيلات والموزونات
عند الحنفية والحنابلة في الأصح، والنقدان أو الاقتيات عند المالكية
والنقدية أو الطعم عند الشافعية.
2 - وقاعدة المزابنة: وهي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه، إن كان القرض في
غير المثليات كالحيوان ونحوه.
3 - وقاعدة بيع ما ليس عند الإنسان، إن كان القرض في المثليات.
والسبب في هذه المخالفات: هو مراعاة مصالح الناس والتيسير عليهم في القيام
بصنائع المعروف، ولذا يحرم القرض إن لم يكن القصد منه عمل المعروف كتحقيق
منفعة للمقرض مثلاً (3).
_________
(1) البدائع: 7 ص 215.
(2) المغني: 4 ص 313، الموافقات للشاطبي: 4 ص 42.
(3) الفروق وتهذيبه: 4 ص 2 ومابعدها.
(5/3785)
والكلام عن القرض يظهر في بيان تعريفه
ومشروعيته وعاقده وصيغته، وحكم الخيار فيه وما يصح فيه وحكمه وحكم القرض
الذي يجر منفعة.
تعريف القرض: القرض لغة: القطع، وسمي
المال المدفوع للمقترض قرضاً، لأنه قطعة من مال المقرض، تسمية للمفعول باسم
المصدر. ويسمى أيضاً السلف.
واصطلاحاً عند الحنفية: هو ما تعطيه من مال مثلي لتتقاضاه. أو بعبارة أخرى:
هو عقد مخصوص يرد على دفع مال مثلي لآخر ليرد مثله. وعرفه بقية المذاهب
بأنه: إعطاء شخص مالاً لآخر في نظير عوض يثبت له في ذمته، مماثل للمال
المأخوذ، بقصد نفع المعطى له فقط.
والمال يشمل المثلي والحيوان والعرض التجاري (1).
مشروعيته: القرض جائز بالسنة والإجماع:
أما السنة ـ فما روى ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من
مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين، إلا كان كصدقة مرة» (2) وعن أنس قال: قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً:
الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت: يا جبريل، ما بال القرض
أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من
حاجة» (3) وعن أبي رافع حديث سيأتي في القرض الذي يجر منفعة.
_________
(1) الدر المختار: 4 ص 179، حاشية الدسوقي: 3 ص 222، الشرح الصغير: 291/ 3.
(2) رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي مرفوعاً وموقوفاً عن عبد
الله بن مسعود. وفي رواية ابن ماجه في إسناده سليمان بن بشير وهو متروك،
وعلى كل فله مؤيدات وشواهد كثيرة من القرآن والحديث (راجع الترغيب
والترهيب: 2 ص 41، نيل الأوطار: 5 ص 229).
(3) رواه ابن ماجه والبيهقي عن أنس بن مالك وقد روى الطبراني والبيهقي
قريباً من هذا اللفظ عن أبي أمامة رضي الله عنه (انظر مجمع الزوائد: 4 ص
126، الترغيب والترهيب، المرجع السابق).
(5/3786)
وأجمع المسلمون على جواز القرض (1).
وهو مندوب إليه في حق المقرض، مباح للمقترض، للأحاديث السابقة، ولما روى
أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من نفَّس عن
مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر
على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان
العبد في عون أخيه» (2)، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «لأن أقرض
دينارين ثم يردا، ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما» وعن ابن مسعود وابن
عباس رضي الله عنهما قالا: «قرض مرتين خير من صدقة مرة» (3). وقال
الحنابلة: الصدقة أفضل من القرض ولا إثم على من سئل فلم يقرض (4).
عاقده وصيغته: ولا يصح القرض إلا من
جائز التصرف، لأنه عقد على المال، فلم يصح إلا من جائز التصرف كالبيع.
ولا ينعقد إلا بالإيجاب والقبول، لأنه تمليك آدمي، فلم يصح من غير إيجاب
وقبول كالبيع والهبة.
ويصح بلفظ القرض والسلف؛ لأن الشرع ورد بهما، ويصح بما يؤدي معناه: وهو أن
يقول: «ملكتك هذا على أن ترد علي بدله» (5).
_________
(1) المغني: 4 ص 313، مغني المحتاج: 2 ص 117.
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه مختصراً
والحاكم وقال: صحيح على شرطهما وفي لفظ «من كشف عن مسلم ... » (انظر
الترغيب والترهيب: 2 ص 44، مجمع الزوائد، 4 ص 33).
(3) المهذب: 1 ص 302، المغني: 4 ص 313.
(4) غاية المنتهى: 2 ص 83.
(5) المهذب: 1 ص 302، المغني: 4 ص 314، الدر المختار: 4 ص 179، غاية
المنتهى: 2 ص 84.
(5/3787)
هل يثبت فيه خيار أو
أجل؟ لا يثبت فيه خيار المجلس عند القائلين به وهم
الشافعية والحنابلة، ولا خيار الشرط؛ لأن المقصود من الخيار هو الفسخ، وفي
القرض يجوز لكل واحد من العاقدين أن يفسخ إذا شاء، فلا معنى للخيار (1).
ولا يجوز عند جمهور الفقهاء اشتراط الأجل في القرض، فإن أجل القرض إلى أجل
مسمى معلوم، لم يتأجل وكان حالا، لأنه في معنى بيع الدرهم بالدرهم، فلا
يجوز التأجيل منعاً من الوقوع في ربا النسيئة، وباعتبار أن القرض محض تبرع،
فيحق للمقرض المطالبة ببدله في الحال، لأنه عقد يوجب رد المثل في المثليات،
فأوجب رد بدله حالاً كالإتلاف. وهكذا كل دين حل أجله لم يصر مؤجلاً
بتأجيله. هذا بخلاف البدل في البيع وفي الإجارة، إذا أجل إلى أجل مسمى
معلوم، فإنه لا يحق له المطالبة به، قبل حلول الأجل. لكن قال الحنفية: يلزم
أجل القرض في أربع حالات:
الأولى ـ الوصية: وهي أن يوصي شخص بإقراض آخر مبلغاً من المال إلى سنة
مثلاً، فليس للورثة مطالبة المقترض قبل حلول الأجل.
الثانية ـ الجحود: وهو أن يكون القرض مجحوداً، فأجله صاحبه، فإن الأجل يكون
لازماً.
الثالثة ـ الحكم القضائي: وهو أن يحكم القاضي بلزوم القرض، عملاً بمذهب
مالك وابن أبي ليلى، فإنه يلزم أيضاً.
الرابعة ـ الحوالة: بأن أحال المدين الدائن على آخر، فأجله المقرض، أو
أحاله على مديون مؤجل دينه؛ لأن الحوالة مبرئة، أي يبرأ بها ذمة المحيل،
ويثبت بها
_________
(1) المهذب: 1 ص 303، المغني: 4 ص 315، تكملة المجموع: 165/ 13، الدر
المختار ورد المحتار: 177/ 4 - 178.
(5/3788)
للمحال أي المقرض دين على المحال عليه بحكم
الحوالة، فهو في الحقيقة تأجيل دين لا قرض.
والخلاصة: يصح تأجيل القرض عند الحنفية مع كونه غير لازم، ويلزم الأجل في
هذه الحالات.
وقال الإمام مالك: يتأجل القرض بالتأجيل، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«المسلمون عند شروطهم» (1)، ولأن المتعاقدين يملكان التصرف في هذا العقد
بالإقالة والإمضاء، فملكا الزيادة فيه (2). وهذا الرأي هو المعقول الموافق
لمقتضى الواقع.
ما يصح فيه القرض: اختلف العلماء فيما
يصح فيه القرض:
فقال الحنفية: يصح القرض في المثلي: (وهو ما لا تتفاوت آحاده تفاوتاً تختلف
به القيمة) كالمكيل والموزون، والمعدود المتقارب كالجوز والبيض، والورق من
مقياس واحد، والذرعي كالقماش، وجاز قرض الخبز وزناً وعدداً، على ما هو
المفتى به من رأي الإمام محمد لحاجة الناس المتعينة إليه، وهو رأي بقية
المذاهب الأخرى، ولا يجوز القرض في غير المثلي من القيميات كالحيوان والحطب
والعقار، والعددي المتفاوت، لتعذر رد المثل (3).
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجوز قرض كل مال يصح فيه السلم، أي في
كل مال قابل للثبوت في الذمة، سواء أكان مكيلاً أم موزوناً، كالذهب والفضة
_________
(1) رواه أبو داود وأحمد والترمذي والدارقطني عن عمرو بن عوف المزني عن
أبيه عن جده مرفوعاً وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة، وروي عن أنس عند
الحاكم، وعن رافع بن خديج عند الطبراني، وعن ابن عمر عند البزار، وعن عطاء
بلاغاً عند ابن أبي شيبة، وجزم به البخاري (راجع سبل السلام: 3 ص 59،
المقاصد الحسنة: ص 385).
(2) اعتمدت في هذا على المغني لابن قدامة: 4 ص 315، المهذب: 1 ص 303.
(3) الدر المختار: 4 ص 179، 195، مغني المحتاج: 119/ 2، المغني: 318/ 4 وما
بعدها.
(5/3789)
والأطعمة، أم من القيميات، كعروض التجارة
والحيوان ونحوها، كالمعدود؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو
رافع: «استسلف بَكراً» (1) (البَكْر: الثني من الإبل) وذلك ليس بمكيل ولا
موزون، ولأن ما يثبت سَلَماً يملك بالبيع ويضبط بالوصف، فجاز قرضه كالمكيل
والموزون. وأما ما لا يجوز فيه السَّلم كالجواهر ونحوها، فلا يصح قرضه في
الأصح؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وما لا ينضبط، أو يندر وجوده، يتعذر أو
يتعسر رد مثله (2). وعلى هذا يصح القرض عند جمهور الفقهاء في كل عين يصح
بيعها إلا الجواري؛ لأنه يؤدي إلى إعارة الفروج، ولا يصح قرض المنافع،
خلافاً لابن تيمية، كأن يحصد معه يوماً ليحصد الآخر معه مثله، أو يسكنه
داره ليسكنه الآخر داره بدلها. ولايصح القرض فيما لا يثبت في الذمة كالشيء
من أرض ودار وحانوت وبستان؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وهذه لا مثل لها.
والمماثلة المعتبرة في العوض عند المالكية هي المماثلة في الصفة والقدر.
وعند الشافعية والحنابلة: في الصورة. ولا يصح القرض في نادر الوجود
كالجواهر النفيسة، لعدم وجودها غالباً عند الرد.
حكم القرض: يثبت الملك في القرض
عند أبي حنيفة ومحمد بالقبض، فلو اقترض
إنسان مدّ حنطة وقبضه، فله الاحتفاظ به، ورد مثله وإن طلب المقرض رد العين،
لأنه خرج عن ملك المقرض، وثبت له في ذمة المقترض مثله لا عينه، ولو كان
قائماً.
وقال أبو يوسف: لا يملك المقترض القرض
ما دام قائماً (3).
_________
(1) سيأتي تخريجه في حديث أبي رافع في بحث (القرض بمنفعة).
(2) الشرح الكبير: 3 ص 222، القوانين الفقهية: ص 288، مغني المحتاج: 2 ص
118 ومابعدها، المهذب: 1 ص 303، المغني: 4 ص 314، غاية المنتهى: 2 ص 84 وما
بعدها.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 4 ص 181.
(5/3790)
وقال المالكية:
إن القرض وغيره من المعروف كالهبة والصدقة والعارية، يثبت الملك فيه
بالعقد، وإن لم يقبض المال. ويجوز للمقترض أن يرد مثل الذي اقترضه، وأن يرد
عينه، سواء أكان مثلياً أم غير مثلي، وهذا ما لم يتغير بزيادة أو نقص، فإن
تغير وجب رد المثل (1).
وقال الشافعية في الأصح والحنابلة: يثبت
الملك في القرض بالقبض، ويرد المقترض عند الشافعية المثل في المثلي، لأنه
أقرب إلى حقه، ويرد في القيمي المثل صورة، لأنه صلّى الله عليه وسلم اقترض
بَكراً ورد رَباعياً، وقال: «إن خياركم أحسنكم قضاء» (2).
ويجب عند الحنابلة رد المثل في المكيل والموزون، كما هو اتفاق الفقهاء. وفي
غير المكيل والموزون وجهان: أحدهما ـ يجب رد قيمته يوم القرض. والثاني ـ
يجب رد مثله بصفاته تقريباً (3).
مكان الوفاء: اتفق علماء المذاهب
الأربعة على أن وفاء القرض يكون في البلد الذي تم فيه الإقراض، ويصح إيفاؤه
في أي مكان آخر إذا لم يحتج نقله إلى حمل ومؤنة أو وجد خوف طريق، فإن احتاج
إلى ذلك لم يلزم المقرض بتسلمه (4).
خلاصة شروط القرض:
يشترط لصحة القرض أربعة شروط:
_________
(1) الدردير وحاشية الدسوقي عليه: 3 ص 226، الشرح الصغير: 295/ 3، ط دار
المعارف.
(2) سيأتي تخريجه في بحث القرض الذي جر منفعة في حديث أبي رافع.
(3) مغني المحتاج: 2 ص 119 ومابعدها، المهذب: 1 ص 303، المغني: 4 ص 314.
(4) الدر المختار: 180/ 4، الشرح الصغير: 296/ 3، مغني المحتاج: 119/ 2،
المغني: 325/ 4.
(5/3791)
1ً - أن يتم القرض
بالصيغة وهي الإيجاب والقبول أو ما يحل محلهما عند الجمهور من المعاطاة،
ولا تكفي المعاطاة عند الشافعية كغيره من العقود.
2ً - أهلية التعاقد: بأن
يكون العاقد مقرضاً أو مقترضاً بالغاً عاقلاً راشداً مختاراً أهلاً للتبرع؛
لأن القرض عقد تبرع، فلا يصح من الصبي والمجنون والسفيه المحجور عليه،
والمكره، ولا من الولي لغير ضرورة أو حاجة، لأن هؤلاء ليسوا من أهل التبرع.
3ً - أن يكون مال القرض
مثلياً عند الحنفية، ويصح عند الجمهور أي مال قابل للثبوت في الذمة من
النقود والحبوب والقيميات من حيوانات وعقارات وغيرها.
4ً - أن يكون مال القرض
معلوم القدر كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً ليتمكن من رده، وأن يكون
جنساً لم يختلط بغيره كقمح مخلوط بشعير، لأنه يتعذر رد بدله.
الشروط الصحيحة والشروط المفسدة:
يصح اشتراط أي شرط يؤدي لتوثيق الحق أو تأكيده، كاشتراط الرهن بمال القرض
أو الكفيل أو الإشهاد على العقد أو كتابة الدين أو الإقرار به عند القاضي.
ولا يصح عند الجمهور اشتراط الأجل في القرض ويصح عند المالكية كما تقدم.
ولا يصح الشرط الذي لا يلائم العقد كاشتراط رد زيادة في البدل أو رد صحيح
بدل معيب أو شرط بيع داره مثلاً.
والشرط المفسد: اشتراط زيادة في بدل القرض أو تقديم هدية للمقرض.
(5/3792)
ويكون الشرط لا غياً غير مفسد إذا لم يكن
فيه مصلحة لأحد كرد معيب بدل صحيح ورديء بدل جيد أو اشتراط أن يقرضه غيره.
ما يجب رده على المقترض:
يجب على المقترض أن يرد مثل المال الذي اقترضه إن كان المال مثلياً
بالاتفاق، ويرد مثله صورة عند غير الحنفية إذا كان محل القرض مالاً قيمياً،
كرد شاة تشبه الشاة التي اقترضها في أوصافها.
ووقت رد بدل القرض عند غير المالكية في أي وقت شاء المقرض بعد قبض المستقرض
مال القرض؛ لأنه عقد لا يثبت فيه الأجل. وذهب المالكية إلى أن وقت رد بدل
القرض عند حلول أجل وفاء القرض؛ لأن القرض يتأجل عندهم بالتأجيل، كما تقدم
بيانه.
القرض الذي جرّ منفعة: قال الحنفية في الراجح عندهم: كل قرض جر نفعاً حرام
إذا كان مشروطاً، فإن لم يكن النفع مشروطاً أو متعارفاً عليه في القرض، فلا
بأس به، وعلى هذا، لايجوز للمرتهن الدائن الانتفاع بالرهن إذا كان مشروطاً
أو متعارفاً، وإن لم يكن كذلك فيجوز مع الكراهة التحريمية إلا أن يأذن
الراهن فيحل، كما جاء في معتبرات كتب الحنفية، وقال بعضهم: لا يحل وإن أذن
الراهن بالانتفاع. وهذا هو المتفق مع الروح العامة في الشريعة في تحريم
الربا.
وكذلك حكم الهدية للمقرض: إن كانت بشرط
كره أي تحريماً، وإلا فلا (1).
وقال المالكية: يفسد القرض الذي جر نفعاً؛ لأنه ربا، ويحرم الانتفاع بشيء
_________
(1) رد المحتار: 4 ص 182، مجمع الضمانات: ص 109، مذكرات في الرهن للدراسات
العليا لأستاذنا الشيخ علي الخفيف: ص 96.
(5/3793)
من أموال المقترض كركوب دابته، والأكل في
بيته لأجل الدين، لا للإكرام ونحوه، كما تحرم هدية المقترض لرب المال، إن
قصد المهدي بهديته تأخير الدين ونحوه. ولم تكن هناك عادة سابقة قبل القرض
بإهداء الدائن بالمثل صفة وقدراً، أو حدث موجب جديد كصهارة، أو جوار، وكان
الإهداء لذلك لا للدين. والحرمة تتعلق بكل من الأخذ والدفع، وعندئذ يجب
عليه ردها إن كانت باقية، فإن تلفت وجب عليه رد المثل في المثلي، والقيمة
في القيمي، هذا في حال بقاء علاقة الدين، أما عند وفاء الدين: فإن قضى
المدين أكثر من الدين، فإن كان الدين بسبب بيع، جاز مطلقاً، سواء أكان
المؤدى أفضل صفة أم مقداراً، في الأجل أم قبله أم بعده. وإن كان وفاء الدين
بسبب سلف (أي قرض): فإن كانت الزيادة بشرط أو وعد أو عادة منعت مطلقاً، وإن
كانت بغير شرط ولا وعد ولا عادة، جازت اتفاقاً عند المالكية في الأفضل صفة؛
لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استسلف بَكْراً، وقضى جملاً بَكْراً
خِياراً، كما سيأتي، واختلف في الأفضل مقداراً، ففي المدونة لمالك لا يجوز
إلا في اليسير جداً، وأجازه ابن حبيب مطلقاً (1).
وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز قرض جرّ منفعة، مثل أن يقرضه ألفاً على
أن يبيعه داره، أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه؛ لأن النبي صلّى
الله عليه وسلم «نهى عن سلف وبيع» (2). والسلف: هو القرض في لغة الحجاز.
وروي عن أبي بن كعب
_________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 3 ص 224 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص
288 ومابعدها.
(2) سبق تخريج هذا الحديث، وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عبد
الله بن عمرو بن العاص بلفظ «لا يحل سلف ولا بيع» وله رواية أخرى عند
الطبراني في معجمه عن حكيم بن حزام قال: «نهاني رسول الله صلّى الله عليه
وسلم عن أربع خصال في البيع: عن سلف وبيع، وشرطين في بيع، وبيع ما ليس
عندك، وربح ما لم يضمن» (راجع نصب الراية: 4 ص 19، مجمع الزوائد: 4 ص 85).
(5/3794)
وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم
«نهوا عن قرض جرّ منفعة» (1) ولأن القرض عقد إرفاق (أي منفعة) وقربة، فإذا
شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه، فيكون القرض صحيحاً والشرط باطلاً، سواء
أكانت المنفعة نقداً أم عيناً كثيرة أم قليلة.
فإن أقرض شخص غيره مطلقاً من غير شرط، فقضاه خيراً منه في الصفة، أو زاده
في القدر، أو باع منه داره، جاز. ولا يكره للمقرض أخذه، لما روى أبو رافع
رضي الله عنه قال: «استسلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من رجل بَكْراً
(2)، فجاءته إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكراً، فقلت: لم أجد في
الإبل إلا جملاً خِياراً رَباعياً (3)، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم:
أعطه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء» (4). وروى جابر بن عبد الله رضي الله
عنه، قال: «كان لي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حق، فقضاني وزادني»
(5) وأما النهي عن قرض جر نفعاً، فهو ليس بحديث، كما أثبت الحافظ
_________
(1) هكذا ذكر ابن قدامة في المغني: 4 ص 319. ورواه البيهقي في السنن الكبرى
كذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفاً عليهم.
وقد رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: «أن
النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة» وفي رواية «كل قرض جر
منفعة فهو ربا» وإسناده ساقط، لأن في إسناده سوار بن مصعب الهمذاني المؤذن
الأعمى وهو متروك. ورواه البيهقي في المعرفةبلفظ: «كل قرض جر نفعاً فهو وجه
من وجوه الربا» قال عمرو بن بدر في المغني: لم يصح فيه شيء (راجع التلخيص
الحبير: ص 245، نيل الأوطار: 5 ص 232، سبل السلام: 3 ص 53) وعلى كل فمعناه
صحيح تؤيده قواعد الشريعة.
(2) البكر: هو الثني من الإبل، والأنثى بكرة، وقال أبو عبيد: البكر من
الإبل بمنزلة الفتى من الناس.
(3) الخيار: أي المختار، والرباعي: هو الذي ألقى رباعيته: وهي السن التي
بين الثنية والناب: وهو الذي استكمل ست سنين ودخل في السابعة.
(4) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة (راجع التلخيص الحبير: ص 245،
الموطأ: 2 ص 168، نيل الأوطار: 5 ص 230).
(5) رواه البخاري ومسلم وأحمد (راجع نيل الأوطار: 5 ص 231).
(5/3795)
الزيلعي في نصب الراية، وكما ذكر في
الحاشية السابقة، ويمكن فهمه على أنه في القرض الذي شرط فيه النفع أو جرى
عليه العرف، كما قرر الكرخي وغيره.
والإقراض ممن تعود رد الزيادة، فيه وجهان: أوجههما عند الشافعية الكراهية.
وعند الحنابلة: روايتان أصحهما الجواز بدون كراهة (1).
والخلاصة أن القرض جائز بشرطين (2):
1 - ألا يجر نفعا ً، فإن كانت المنفعة
للدافع، منع اتفاقاً للنهي عنه، وخروجه عن باب المعروف، وإن كانت للقابض
جاز، وإن كانت بينهما لم يجز لغير ضرورة. واختلف في الضرورة وهي حالة
السفاتج الآتية، فيجوز السلف في حال عموم الخوف على المال في الطرق، كأن
يسلفه لشخص يعلم أنه يَسْلم معه، كما يجوز إن قام دليل على نفع المقترض فقط
كمجاعة، أو كان بيع الحب المسوس الآن أحظ للمقترض لغلائه ورخص الجديد في
إبّانه.
2 - ألا ينضم إلى السلف عقد آخر كالبيع
وغيره، لما أخرجه الخمسة عن عبد الله بن عمرو: «لا يحل سلف وبيع».
وأما هدية المديان: فلا يجوز للدائن عند
المالكية قبولها؛ لأنه يؤول إلى زيادة على التأخير، وأجازها الجمهور، إن لم
تكن مشروطة، كما تجوز إن كان بين المقرض والمقترض من الصلات ما يعلم أن
الهدية له لا للدين.
ويلاحظ أن إيداع المال في صندوق التوفير،
وشهادات الاستثمار يطبق عليه
_________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 119 ومابعدها، المهذب: 1 ص 304، المغني: 4 ص 321 وما
بعدها، غاية المنتهى: 2 ص 85 ومابعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 288، الشرح الصغير: 295/ 3.
(5/3796)
حكم القرض أو السندات الحكومية أو ما يسمى
بسندات الخزينة، وتدفع الدولة فوائد ربوية على أرصدة صندوق التوفير، وتتملك
الأرصدة، وتتصرف فيها، وتستفيد منها في عمليات الإقراض الربوي. فلا تحل
الفائدة التي يدفعها الصندوق لواضعي أموالهم فيها، إذ ليست العلاقة مجرد
وديعة كما زعم بعض المفتين، إذ لو كان هذا المال وديعة محضة، لما جاز شرعاً
للقائمين على هذا الصندوق أن يستغلوه ويستثمروه في الأعمال، إذ الذي يملكه
الوديع من الوديعة حفظها فقط، لا التصرف فيها، لكن المودع إذا أذن بالتصرف
في الوديعة كانت قرضاً، لأن العبرة للمعاني والبنك يملك المال المودع لديه،
ويتعهد برد المثل، وكذلك الربح المقطوع المحدد بفائدة سنوية معينة في
شهادات الاستثمار ليس مشروعاً؛ إذ لا يجوز ذلك في الشركات وبخاصة شركة
المضاربة، وطريق الجواز: أن يكون الربح غير محدد المقدار وأن يتفق على
المساهمة في الخسارة الحادثة لو وقعت الخسارة أثناء الاستثمار في مشروع
معين.
وكذلك الحساب الجاري يعتبر عقد قرض بين
المودع والبنك، وبالرغم من أن البنك لا يدفع فائدة على هذا القرض، فهو
يستخدم أرصدة الحسابات الجارية في الإقراض بالربا وغير ذلك من الأعمال
المحرمة. وإذا اضطر المسلم لفتح الحساب الجاري لتغطية استيراد بضاعة من
دولة أجنبية مثلاً، جاز له ذلك؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة
تقدر بقدرها.
السُفْتَجة (1): هي معاملة مالية يقرض فيها إنسان قرضاً لآخر في بلد ليوفيه
المقترض أو نائبه أو مدينه إلى المقرض نفسه أو نائبه أو دائنه في بلد آخر
معين.
_________
(1) بفتح السين والتاء أو بضمها، أو ضم السين وفتح التاء، وهذا الأخير هو
الأشهر وهي كلمة فارسية معربة وهي رقعة يكتبها المقرض إلى من يقبض عنه عوض
القرض في المكان الذي اشترطه. وهذه الرقعة كورقة (الشيك) الآن، وتعتبر
نوعاً من (الكمبيالة) المعروفة في الوقت الحاضر.
(5/3797)
وحكمها عند الحنفية: الكراهة التحريمية إذا
كانت المنفعة المقصودة منها (أي الوفاء في بلد آخر لتفادي خطر الطريق)
مشروطة في صلب العقد، أو بمقتضى العرف. قال المرغيناني: ويكره السفاتج وهي
قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق، وهذا نوع نفع استفيد به، وقد نهى
رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قرض جر نفعاً (1).
وقال الشافعية بمنع السفتجة؛ لأنها من قبيل القرض الذي يجر منفعة للمقرض
بربحه فيها خطر الطريق (2).
وكذلك قال المالكية، فهي عندهم ممنوعة لأنها قرض جر نفعاً إلا في حالة
الضرورة حفظاً لماله (3).
والراجح عند الحنابلة هو جواز تلك المعاملة إن كانت بلا مقابل، واختار ابن
تيمية وابن القيم وابن قدامة القول بالجواز مطلقاً؛ لأن المنفعة لا تخص
المقرض بل ينتفعان بها جميعاً (4).
أنواع شهادات الاستثمار:
صدرت أنواع ثلاثة من شهادات الاستثمار فئة أ، ب، ج:
أما المجموعة أو الفئة (أ): فتشمل
الشهادات ذات القيمة المتزايدة، حيث يبقى القرض عشر سنوات لدى المؤسسة، ثم
يسترد صاحبه القرض مع الزيادة المحددة المعلن عنها، وهي ربا عشر سنوات
كاملة.
وأما المجموعة أو الفئة (ب): فتشمل
الشهادات ذات العائد الجاري، حيث يمكن سحب الأرباح كل فترة زمنية كسنة أو
نصف سنة، أي رأس المال، وهو أن القرض يبقى كما هو، وتؤخذ الزيادة المحددة
مع مرور الزمن.
_________
(1) الهداية مع فتح القدير: 452/ 5.
(2) المهذب: 304/ 1.
(3) الخرشي علي خليل: 141/ 4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 250، 288،
الشرح الكبير للدردير: 225/ 3.
(4) مطالب أولي النهى: 246/ 3، المغني: 321/ 4، أعلام الموقعين: 391/ 1، ط
التجارية.
(5/3798)
وكلا هذين النوعين يعد قرضاً، وتكون
الزيادة المحددة من ربا الديون، وكلاهما من القروض الإنتاجية الربوية، فهما
حرام مثل ودائع البنوك التي هي قرض، سواء قصد بها مجرد الإيداع كالحساب
الجاري، أم الاستثمار مع الإيداع وهي الودائع ذات الفائدة.
وأما المجموعة أو الفئة (ج): فلا تعطي
ربحاً محدداً كل سنة، ولكنها خصصت مبلغاً من أرباحها تمنحه للمتعاملين معها
بالقرعة. وقد انزلق بعض العلماء فأفتى بجوازها بناء على أن المال كله من
جانب رب المال، والربح كله للعامل في مقام تبرع صاحب المال له به كله، وهذا
جائز على المشهور من مذهب مالك. وجاء في التقنين المالكي ص 300 ما يفيد
إباحة فوائد صندوق التوفير اعتماداً على وجهين:
أحدهما ـ أن هذه معاملة لم تكن موجودة في عصر نزول التشريع الإسلامي، فتكون
من قبيل المسكوت عنه، فتكون مباحة شرعاً؛ لأنها معاملة نافعة لكل من العامل
ورب المال، ولا ضرر فيها لواحد منهما. ولأن الكثير الغالب هو حصول العامل
على نصيب وافر من الربح، والحكم الشرعي يبنى على الكثير الغالب، لا على
القليل النادر وهو احتمال الخسارة.
والثاني ـ أن هذه المعاملة من قبيل القراض، وهو جائز بالإجماع، لأنها نوع
من أنواعه، ويتغاضى عن اشتراط كون الربح جزءاً شائعاً لا قدراً معيناً؛ لأن
القراض العادي يقع بين أفراد الناس، وهذه المعاملة مع مؤسسة للدولة!!
والحق أن هذه المجموعة الثالثة حرام أيضاً لاعتمادها على الميسر أو القمار،
من طريق تقسيم مجموع الربا إلى مبالغ مختلفة، لتشمل عدداً أقل من مجموع عدد
المقرضين، موزعة باسم الجوائز عن طريق القرعة، وفي هذا أيضاً غبن واضح؛ لأن
صاحب قرض ضئيل قد يأخذ آلاف الدنانير أو الليرات، وصاحب الآلاف قد لايأخذ
شيئاً.
(5/3799)
|