الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثَّالث: عَقْدُ الإيجار عقد الإجارة كالبيع من العقود المسماة (1) التي عني التشريع الإسلامي ببيان أحكامها الخاصة بها بحسب ما تقتضيه طبيعة عقدها، وهي تختلف عن عقد البيع في أنها مؤقتة المدة، بينما عقد البيع لا يقبل التأقيت، وإنما هو مؤبد، لأنه يترتب عليه انتقال ملكية العين.
وعقد الإجارة من العقود المهمة في الحياة العملية، لذا فإني سأتكلم عن أهم خصائصها وأحكامها في المباحث الآتية:

المبحث الأول ـ مشروعية الإجارة وركنها ومعناها.
المبحث الثاني ـ شروط الإجارة.
المبحث الثالث ـ صفة عقد الإجارة وحكمه.
المبحث الرابع ـ نوعا الإجارة وأحكامها.
المبحث الخامس ـ ضمان العين المستأجرة وضمان الأجير وسقوط أجره بهلاك العين.
_________
(1) وهي التي سماها المشرع ونظمها مثل البيع والإجارة والشركة والكفالة والهبة فتطبق عليها القواعد العامة للعقود، والقواعد الخاصة بها، أما العقود غير المسماة وهي التي لم ينظمها المشرع مثل العقود الحديثة الظهور كعقد التوريد وعقد النزول في فندق، فهي تخضع للقواعد العامة.

(5/3800)


المبحث السادس ـ اختلاف المتعاقدين في الإجارة.
المبحث السابع ـ انتهاء عقد الإجارة.
المبحث الأول ـ مشروعية الإجارة وركنها ومعناها:
مشروعية الإجارة: اتفق الفقهاء على مشروعية عقد الإجارة ما عدا أبا بكر الأصم وإسماعيل بن عُلَية والحسن البصري والقاشاني والنهرواني وابن كيسان فإنهم لم يجيزوه؛ لأن الإجارة بيع المنفعة، والمنافع حال انعقاد العقد معدومة القبض، ثم تستوفى شيئاً فشيئاً مع الزمن، والمعدوم لا يحتمل البيع، ولا يجوز إضافة البيع إلى شيء في المستقبل. ورد عليهم ابن رشد بأن المنافع، وإن كانت معدومة في حال العقد، فهي مستوفاة في الغالب. والشرع إنما لحظ من هذه المنافع ما
يستوفي في الغالب، أو يكون استيفاؤه وعدم استيفائه على السواء (1).
واستدل الجمهور على جواز عقد الإيجار بالقرآن والسنة والإجماع:
أما القرآن: فقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] وقوله عز وجل حاكياً قول إحدى ابنتي شعيب عليه السلام: {قالت إحداهما: يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين. قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك} [القصص:26/ 28 - 27] والاستدلال بهذه الآية صحيح عند القائلين: بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ.
_________
(1) بداية المجتهد: 2 ص 218.

(5/3801)


وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (1).
فالأمر بإعطاء الأجر دليل على صحة الإيجار، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيراً فليعلمه أجره» (2).
وروى سعيد بن المسيب عن سعد رضي الله عنه قال: «كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع، فنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمرنا أن نكريها بذهب أو وَرِق» (3).
وروى ابن عباس رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره» (4).
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في زمن الصحابة على جواز الإيجار قبل
_________
(1) روي من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر ومن حديث جابر ومن حديث أنس، فحديث أبي هريرة رواه أبو يعلى في مسنده، وحديث ابن عمر أخرجه ابن ماجه في سننه، وحديث جابر رواه الطبراني في معجمه الصغير، وحديث أنس رواه أبوعبد الله الترمذي الحكيم في كتاب نوادر الأصول. قال ابن حجر: كلها ضعاف (انظر نصب الراية: 4 ص 129 ومابعدها، مجمع الزوائد: 4 ص 97، سبل السلام: 3 ص 81).
(2) رواه عبد الرزاق في مصنفه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، ورواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار، وفيه انقطاع، ووصله البيهقي من طريق أبي حنيفة. قال أبو زرعة: الصحيح موقوف أي على أبي سعيد. (انظر نصب الراية: 4 ص 131، سبل السلام: 3 ص 82، نيل الأوطار: 5 ص 292).
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص بلفظ: «أن أصحاب المزارع في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي وما سعد بالماء مما حول النبت، فجاؤوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاختصموا في بعض ذلك، فنهاهم أن يكروا بذلك، وقال: أكروا بالذهب والفضة» (انظر نيل الأوطار: 5 ص 279).
(4) رواه أحمد والبخاري ومسلم، زاد البخاري في لفظ: «ولو كان سحتاً لم يعطه» (انظر نصب الراية: 4 ص 134، نيل الأوطار: 5 ص 285، سبل السلام: 3 ص 80).

(5/3802)


وجود الأصم وابن علية وغيرهما، لحاجة الناس إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان المحسوسة، فلما جاز عقد البيع على الأعيان، وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع (1).

ركن الإجارة ومعناها: ركن الإيجار عند الحنفية: الإيجاب والقبول، وذلك بلفظ الإجارة والاستئجار والاكتراء والإكراء.
وأركانه عند الجمهور (2) أربعة: عاقدان (مؤجر ومستأجر)، وصيغة (إيجاب وقبول)، وأجرة ومنفعة.

ومعنى الإيجار لغة: بيع المنفعة. ومعناه الشرعي هو معناه اللغوي، ولذا قال الحنفية: الإيجار: عقد على المنافع بعوض (3). وكما لا يصح تعليق البيع، لا يصح تعليق الإجارة، إلا أن الإجارة يصح إضافتها إلى زمن في المستقبل عند جمهور الفقهاء، على عكس البيع كما ذكر سابقاً. ولم يجز الشافعية إضافة إجارة العين للمستقبل كالبيع. وأجازوا إضافة الإجارة في الذمة، مثل: ألزمت ذمتك حمل متاعي هذا إلى بلد كذا أول شهر كذا؛ لأن الدين يقبل التأجيل، كما لو أسلم في شيء إلى أجل معلوم. وكذلك يصح عندهم في الأصح في إجارة العين: أن
_________
(1) انظر المبسوط للسرخسي: 15 ص 74، تكملة فتح القدير: 7 ص 147، البدائع: 4 ص 173، بداية المجتهد: 2 ص 218، المهذب: 1 ص 394، المغني: 5 ص 397، مغني المحتاج: 2 ص332.
(2) القوانين الفقهية: ص 274، مغني المحتاج: 332/ 2.
(3) تكملة فتح القدير: 7 ص 145، البدائع: 4 ص 174، تبيين الحقائق: 5 ص 105، حاشية ابن عابدين: 5 ص 1. وقد آثرت لفظ الإيجار على لفظ الإجارة لأن الإجارة اسم للأجرة: وهي ما أعطيت من كراء الأجير، وهي ليست مصدراً لفعل «أجر» إذ لم تسمع مصدراً قط، ومن المعروف أن مصدر الفعل الثلاثي سماعي لا قياس فيه. وإذا استعملنا لفظ الإجارة أحياناً فهو مجاراة للاصطلاح الشائع.

(5/3803)


يؤجر المالك مدة جديدة لمستأجر عين مدة سابقة قبل انقضائها، لاتصال المدتين مع اتحاد المأجور (1). وعرف الشافعية الإيجار فقالوا: هو عقد على منفعة مقصودة معلومة مباحة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم. ومحترزات قيود التعريف هي أنه خرج بقولهم: «منفعة»: العين، فالعقد عليها بيع أو هبة، وبقولهم: «مقصودة»: المنفعة التافهة كاستئجار بياع على كلمة لا تتعب، وبقولهم: «معلومة»: المضاربة والجعالة على عمل مجهول. وأما قيد «قابلة للبذل والإباحة» فهو لإخراج منفعة البُضع، فإن العقد عليها لا يسمى إجارة، والقيد الأخير (أي بعوض) لإخراج هبة المنافع والوصية بها والشركة والإعارة (2).
وقال المالكية: الإيجار: تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض (3). وبمثل ذلك قال الحنابلة (4).
وإذا كانت الإجارة بيع المنافع فلايجوز عند أكثر الفقهاء إجارة الشجر والكرم للثمر؛ لأن الثمر عين، والإجارة بيع المنفعة لا بيع العين. ولا تجوز إجارة الشاة للبنها أو سمنها أو صوفها أو ولدها؛ لأن هذه أعيان، فلا تستحق بعقد الإجارة. ولا تجوز إجارة ماء في نهر أو بئر أو قناة أوعين؛ لأن الماء عين، ولا يجوز استئجار
_________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 338 الإجارة عند الشافعية نوعان: إجارة واردة على عين أي على منفعة مرتبطة بعين كإجارة العقار، أو إجارة دابة أو شخص معينين، ويلاحظ أن إجارة العقار لا تكون إلا من إجارة العين، لأنه لا يثبت في الذمة. وإجارة واردة على ذمة، كاستئجار دابة موصوفة لحمل مثلاً، أو كأن يلزم ذمة شخص عملاً معيناً كخياطة أو بناء أو غير ذلك (مغني المحتاج: 2 ص 333).
(2) مغني المحتاج: 2 ص 332.
(3) الشرح الكبير للدردير: 4 ص 2، الفروق للقرافي: 4 ص 4.
(4) انظر المغني لابن قدامة: 5 ص 398، غاية المنتهى: 2 ص 190، كشاف القناع: 3 ص 537.

(5/3804)


الآجام التي فيها الماء للسمك وغيره من القصب والصيد؛ لأن كل ذلك عين. وعلى هذا فلا تجوز إجارة البِرك أو البحيرات للاصطياد أي ليصاد منها السمك (1).
ولا تجوز إجارة المراعي؛ لأن الكلأ عين فلا تحتمل الإجارة.
ولا يجوز عند جمهور الفقهاء استئجار الفحل للضراب؛ لأن المقصود منه النسل، بإنزال الماء وهو عين، وقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم: «نهى عن عَسْب الفحل» (2) أي كرائه. وقد حذفت كلمة «الكراء» من باب المجاز المرسل مثل: {واسأل القرية} [يوسف:82/ 12]. ولا يجوز استئجار الدراهم والدنانير والمكيلات والموزونات؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد استهلاك أعيانها، والمعقود عليه في الإجارة هو المنفعة لا العين (3). لهذا كله فإن المقرر أن: «كل ما ينتفع به مع بقاء عينه تجوز إجارته وما لا فلا».
واستثنوا استئجار المرضع للضرورة كما يأتي. وأجاز المالكية كراء الفحل للنزو على الإناث، وأجرة الحمام جائزة عند أكثر العلماء (4).

رأي ابن القيم في إجارة الأعيان: قال ابن القيم: إن الأصل الذي سار عليه الفقهاء (وهو أن المستحق بعقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان) أصل فاسد، فهو لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، بل الذي دلت عليه الأصول أن الأعيان التي تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء أصلها حكمها حكم المنافع
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 4 ص 110 وما بعدها.
(2) رواه البخاري وأحمد والنسائي وأبو داود عن ابن عمر، وروي عن آخرين بألفاظ ستأتي الإشارة إليها (نيل الأوطار: 5 ص 146).
(3) البدائع: 4 ص 175.
(4) القوانين الفقهية: ص 273.

(5/3805)


كالثمر في الشجر، واللبن في الحيوان، والماء في البئر، ولذلك سوي بين العين والمنفعة في الوقف، فجاز وقف المنفعة كالسكنى، وجاز وقف العين كوقف الماشية للانتفاع بلبنها، وكذلك سوي بينهما في التبرعات كالعارية لمن ينتفع بالمتاع ثم يرده، والمنيحة لمن يشرب الشاة ثم يردها، والقرض لمن ينتفع بالدراهم ثم يرد بدلها، فكذلك في الإجارة تارة تكون على منفعة، وتارة تكون على عين تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء الأصل كلبن الظئر ونفع البئر، فإن هذه الأعيان لما كانت تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء الأصل كانت كالمنفعة، والجامع بينهما هو حدوث المقصود بالعقد شيئاً فشيئاً، سواء أكان الحادث عيناً أم منفعة (1).

المبحث الثاني ـ شروط الإجارة يشترط في عقد الإيجار أربعة أنواع من الشروط كما في عقد البيع: وهي شروط الانعقاد، وشروط النفاذ، وشروط الصحة، وشروط اللزوم. وأذكر هنا بعض هذه الشروط، وأحيل ما بقي منها على ما هو مقرر في عقد البيع.
شروط الانعقاد: وهي ثلاثة أنواع: بعضها يرجع للعاقد، وبعضها يرجع لنفس العقد، وبعضها يرجع لمكان العقد. وأقتصر على ذكر ما يرجع للعاقد: وهو العقل، أي أن يكون العاقد عاقلاً، فلا تنعقد الإجارة من المجنون والصبي غير المميز كما لا ينعقد البيع منهما. ولا يشترط البلوغ للانعقاد ولا للنفاذ عند الحنفية، فلو أجر الصبي المميز ماله أو نفسه: فإن كان مأذوناً في ذلك وغيره ينفذ عقده، وإن كان محجوراً عن التصرفات يقف على إجازة وليه (2).
_________
(1) انظر أعلام الموقعين: 2 ص 15.
(2) البدائع: 4 ص 176.

(5/3806)


وقال المالكية: إن التمييز شرط في الإيجار والبيع، والبلوغ شرط للنفاذ، فالصبي المميز إذا أجر نفسه أو سلعته صح عقده، وتوقف العقد على رضا وليه (1).
وقال الشافعية والحنابلة: يشترط التكليف: وهو البلوغ والعقل لانعقاد الإيجار، لأنه عقد تمليك في الحياة، فأشبه البيع (2).
شروط النفاذ: يشترط لنفاذ عقد الإجارة توافر الملك أو الولاية، فلا تنفذ إجارة الفضولي لعدم الملك أوالولاية، وإنما العقد ينعقد موقوفاً على إجازة المالك عند الحنفية والمالكية كما في عقد البيع، خلافاً للشافعية والحنابلة.
والإجازة تلحق الإجارة الموقوفة بشروط، منها قيام المعقود عليه. فإذا أجر الفضولي، وأجاز المالك العقد ينظر (3):
إن أجاز العقد قبل استيفاء المنفعة، جازت إجارته، وكانت الأجرة للمالك، لأن المعقود عليه قائم.
وإن أجاز العقد بعد استيفاء المنفعة لم تجز إجارته، وكانت الأجرة للعاقد، لأن المنافع المعقود عليها تلاشت في الماضي، فتكون عند الإجازة معدومة، فلا يبقى العقد بعدئذ، لفوات محله، فلا تصح الإجارة، كما عرفنا في عقد البيع ويصير العاقد الفضولي حينئذ غاصباً بالتسليم.
وقال الحنفية: إن الغاصب إذا آجر ما غصبه وسلم ذلك، ثم قال المالك: (أجزت ما آجرت): فإن كانت مدة الإجارة قد انقضت فللغاصب الأجر؛ لأن المعقود عليه قد انعدم، والإجازة لا تلحق المعدوم كما بينت. وإن كانت الإجازة
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 4 ص 3.
(2) مغني المحتاج: 2 ص 332، المغني: 5 ص 398.
(3) انظر البدائع: 4 ص 177.

(5/3807)


بعد مضي بعض المدة فالأجر كله للمالك عند أبي يوسف، لأنه إذا بقي بعض المدة لم يبطل العقد، فكان محلاً للإجازة، فهو قد نظر إلى المدة.
وقال محمد: أجر ما مضى للغاصب، وأجر ما بقي للمالك؛ لأن كل جزء من أجزاء المنفعة معقود عليه مستقل عن غيره، فإذا مضى بعض مدة الإجارة، كان الماضي منعدماً حين الإجارة، فلا يصح إلحاق الإجازة به لانعدامه، فهو قد نظر إلى المعقود عليه.
ويجري هذا الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيمن غصب أرضاً فأجرها للزراعة، فأجاز صاحب الأرض عقد الإجارة.
وأضاف محمد: إن أعطاها الغاصب مزارعة فهنا تفصيل: إن كان الزرع قد سنبل، ولم ييبس، فأجاز صاحب الأرض، جازت المزارعة، ولا شيء للغاصب من الزرع، لأن المزارعة بمنزلة شيء واحد، لا ينفصل بعض عملها عن بعض، فكانت إجازة العقد قبل الاستيفاء بمنزلة ابتداء العقد. وأما إذا كان الزرع قد يبس فقد انقضى عمل المزارعة، فلا تلحق الإجازة العقد، ويكون الزرع حينئذ للغاصب.

شروط صحة الإجارة: يشترط لصحة الإجارة شروط تتعلق بالعاقد والمعقود عليه والمحل المعقود عليه، والأجرة، ونفس العقد وهي:
1 - رضا المتعاقدين: يشترط توافر رضا المتعاقدين كما في البيع، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} [النساء:29/ 4] والإجارة تجارة، لوجود معنى مبادلة المال بالمال فيها (1). وهذا الشرط يتعلق بالعاقد، وما سيأتي متعلق بالمعقود عليه.
_________
(1) انظر البدائع: 4 ص 179.

(5/3808)


2 - أن يكون المعقود عليه وهو المنفعة معلوما ً علماً يمنع من المنازعة، فإن كان مجهولاً جهالة مفضية إلى المنازعة لا يصح العقد؛ لأن هذه الجهالة تمنع من التسليم والتسلم، فلا يحصل المقصود من العقد.
والعلم بالمعقود عليه: يكون ب بيان محل المنفعة وبيان المدة وبيان العمل في استئجار الصناع والعمال.
أما بيان محل المنفعة: فيحصل بمعرفة العين المستأجرة بعينها، فلو قال إنسان لآخر: آجرتك إحدى هاتين الدارين، أو أحد هذين المركبين أو أحد هذين الصانعين، لم يصح العقد لجهالة المعقود عليه جهالة فاحشة. ولو استأجر إنسان من آخر نهراً يابساً أو موضعاً من الأرض معلوماً ليسوق منه الماء إلى أرض له، فيسقيها، لم يجز في المشهور عند الحنفية، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن مقدار ما يسيل من الماء في النهر مختلف قلة وكثرة، والكثير منه مضر بالنهر، والمضر منه مستثنى ضمناً، وغير المضر غير منضبط، فصار محل المعقود عليه مجهولاً.
وروي عن محمد أنه يجوز؛ لأن المانع من جواز العقد جهالة البقعة وقد زالت الجهالة بالتعيين (1).
وأما بيان المدة: فهو مطلوب في إجارة الدور والمنازل والبيوت والحوانيت وفي استئجار الظئر (المرضع)؛ لأن المعقود عليه لا يصير معلوم القدر بدونه، فترك بيانه يفضي إلى المنازعة.
_________
(1) البدائع، المصدر السابق: 4 ص 180، المبسوط: 16 ص 43، الفروق: 4 ص 4، تكملة فتح القدير: 7 ص 148.

(5/3809)


وتصح الإجارة على أي مدة طالت أو قصرت وهو قول أكثر العلماء ومنهم الشافعية على الصحيح (1)، فإنهم قالوا: يصح عقد الإجارة مدة تبقى فيها العين غالباً بحسب رأي أهل الخبرة، ولا يقدر للإجارة أقصى مدة، إذ لا دليل من الشرع على ذلك (2).
ولا يشترط عند الحنفية تعيين ابتداء مدة الإجارة، فإذا كان العقد مطلقاً عن تعيين ابتداء المدة، تعين الزمن الذي يعقب العقد، وهو الشهر الذي يأتي بعد العقد.
وقال الشافعية: يشترط تعيين مدة الابتداء التي تلي العقد نصاً؛ لأن عدم التعيين يؤدي إلى جهالة الوقت الموجبة لجهالة المعقود عليه (3).
وإن وقعت الإجارة شهراً أو شهوراً أو سنين معلومة في أول الشهر يعتبر الشهر بالأهلة، وإن وقعت في بعض الشهر يعتبر الشهر بالأيام ثلاثين يوماً لتعذر اعتبار الأهلة، فتعتبر الأيام. وكذلك الأمر في الشهور والسنين، فإذا كان العقد في أول الشهر فشهور السنة كلها بالأهلة، لأنها هي الأصل، وإن كان في أثناء الشهر فالكل بالأيام عند أبي حنيفة، وفي رواية عن أبي يوسف.
وهناك رواية أخرى عن أبي حنيفة وهو رأي محمد ومذهب الشافعية: إذا
_________
(1) يقول الحنفية: تصح الإجارة على أي مدة معلومة سواء أكانت طويلة أم قصيرة، لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوماً، إلا في الأوقاف، فلا تجوز الإجارة الطويلة فيها على ما هو مختار، كيلا يدعي المستأجر ملكها: (وهي ما زاد على ثلاث سنين في الضياع أي العقارات، وعلى سنة في غيرها) ومثل ذلك إجارة أرض اليتيم (راجع اللباب شرح الكتاب: 2 ص 88، تكملة فتح القدير: 7 ص 150).
(2) مغني المحتاج: 2 ص 349، المهذب: 1 ص 396، المغني: 5 ص 401، غاية المنتهى: 2 ص201.
(3) المهذب، المصدر السابق.

(5/3810)


استأجر داراً لمدة سنة في بعض الشهر، فإنه يسكن بقية هذا الشهر بالأيام، ويكمل ما بقي من الشهر الأول من الشهر الأخير، والباقي من السنة وهو أحد عشر شهراً بالأهلة؛ لأن الأيام يصار إليها ضرورة، والضرورة قائمة في الشهر الأول فقط من السنة. ووجه الرواية الأولى أنه متى تم الشهر الأول بالأيام ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة، وهكذا إلى آخر السنة (1).

الإجارة مشاهرة: تشدد الشافعية في شرط معرفة المدة، فقالوا في الصحيح عندهم: إن آجر شخص داره كل شهر بدينار مثلاً، أو كل يوم أو كل جمعة أو كل سنة بكذا، فالإجارة باطلة؛ لأن كل شهر يحتاج إلى عقد جديد لإفراده بأجرة معينة، ولم يوجد عقد، وذلك يقتضي البطلان، هذا بالإضافة إلى جهالة مدة الإجارة، فصار كما لو قال: آجرتك مدة أو شهراً (2).
وقال جمهور الفقهاء: تصح الإجارة في الشهر الأول وتلزم، وأما ما عدها من الشهور فلا يلزم إلا بالدخول فيه أو التلبس فيه؛ لأن شروعه مع ما تقدم في العقد من الاتفاق على تقدير أجره والرضا ببذله جرى مجرى ابتداء العقد عليه، وصار كبيع المعاطاة إذا جرى من المساومة ما دل على التراضي بها (3).

وأما بيان العمل في استئجار الصناع والعمال فهو أمر مطلوب منعاً من الجهالة؛ لأن جهالة العمل في الاستئجار على الأعمال جهالة مفضية إلى المنازعة، فيفسد العقد، فلو استأجر عاملاً، ولم يسم له العمل من الخياطة والرعي وعزق الأرض ونحوه لم يجز العقد.
_________
(1) تكملة فتح القدير: 7 ص 178، البدائع: 4 ص 181، المبسوط: 15 ص 132، تبيين الحقائق: 5 ص 123: المهذب: 1 ص 396، رد المحتار على الدر المختار: 5 ص 35.
(2) المهذب: 1 ص 396، مغني المحتاج: 2 ص 340، الميزان للشعراني: 2 ص 95.
(3) البدائع: 4 ص 182، تبيين الحقائق: 5 ص 122، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 44، المغني: 5 ص 409، القوانين الفقهية: ص 275 ومابعدها.

(5/3811)


وإذا كان الأجير مشتركاً فلابد من بيان المعمول فيه إما بالإشارة والتعيين، أو ببيان الجنس والنوع والقدر والصفة، فلو استأجر شخص حفاراً لحفر بئر فلا بد من بيان مكان الحفر وعمق البئر ونوعها وعرضها؛ لأن عمل الحفر يختلف باختلاف هذه الأوضاع (1).

تعيين المدة والعمل: إذا كان لا بد من تعيين المدة في إجارة المنافع كإجارة المنازل ونحوها، وتعيين نوع العمل في الإجارة على الأعمال كالخياطة ونحوها، فهل يجوز الجمع بين اشتراط المدة والعمل معاً؟
قال الحنفية: لا يشترط في إجارة المنافع تعيين العمل، فلو استأجر رجل داراً أو حانوتاً، ولم يسم ما يعمل فيه، جازت الإجارة، وله أن يسكن فيه بنفسه مع غيره، وله أن يسكن فيه غيره بالإجارة والإعارة، وله أن يضع فيه متاعاً وغيره، غير أنه لا يستعمل البناء بما يضره ويوهنه ولا يجعل فيه حداداً ولا قصاراً ولا طحاناً؛ لأن العقد المطلق عن الشرط مقيد بالعرف المألوف.
وأما في الإجارة على الأعمال، فيشترط بيان المدة في استئجار الراعي المشترك لأن قدر المعقود عليه لا يصير معلوماً بدونه. وأما في استئجار القصار المشترك والخياط المشترك، فلا يشترط بيان المدة؛ لأن المعقود عليه يصير معلوماً بدونه. وأما الأجير الخاص، فلا يشترط في العقد معه بيان جنس المعمول فيه ونوعه وقدره وصفته، وإنما يشترط بيان المدة فقط. وكذلك يشترط بيان المدة في استئجار الظئر.
واختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في اجتماع المدة مع العمل (2)، فقال
_________
(1) البدائع: 4 ص 184، المبسوط: 16 ص 47.
(2) راجع البدائع: 4 ص 184 ومابعدها.

(5/3812)


أبو حنيفة: متى تعينت المدة لم يجز تقدير العمل. وقال الصاحبان: يجوز التقدير بهما معاً. وعلى هذا: إذا قال رجل لآخر: استأجرتك لتخيط هذا الثوب اليوم، أو لتقصر هذا الثوب اليوم، أو لتخبز قفيز دقيق اليوم، فالإجارة فاسدة عند أبي حنيفة. وجائزة عند الصاحبين.
وإذا استأجر شخص دابة إلى بلد أياماً معينة، فالإجارة فاسدة عند الإمام. وعند صاحبيه جائزة.
وجه قول الصاحبين: أن المعقود عليه هو العمل لأنه هو المقصود، والعمل معلوم، والقصد من ذكر المدة هو التعجيل، فلم تكن المدة معقوداً عليها، فلا يمنع ذكرها جواز العقد. وإذا وقعت الإجارة على العمل: فإن فرغ الأجير منه قبل تمام المدة فله كمال الأجر، وإن لم يفرغ منه في اليوم، فعليه أن يعمله في الغد.
ووجه قول أبي حنيفة: أن المعقود عليه مجهول، لأن العاقد ذكر أمرين: هما العمل والمدة، وكل واحد منهما يجوز أن يكون معقوداً عليه، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد. هذا مع العلم بأنه لا يمكن الجمع بين العمل والمدة في كون كل واحد منهما معقوداً عليه؛ لأن حكمهما مختلف؛ إذ أن العقد على المدة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل؛ لأن الأجير يصبح أجيراً خاصاً؛ والعقد على العمل يقتضي وجوب الأجر بالعمل؛ لأن الأجير يصبح أجيراً مشتركاً، فكان المعقود عليه أحدهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فكان المعقود عليه مجهولاً.
وقال الحنابلة: إذا عقدت الإجارة على عمل كبناء حائط، وخياطة قميص، وحمل إلى موضع معين، فإذا كان المأجور مما له عمل ينضبط كالحيوان، جاز تقدير إجارته بمدة وعمل؛ لأن المأجور له عمل تتقدر منافعه به. وإن لم يكن المأجور له عملاً كالدار والأرض، لم تجز إجارته إلا على مدة، ومتى تقدرت المدة، لم يجز

(5/3813)


تقدير العمل، لأن الجمع بينهما يزيد الإيجار غرراً، لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة، فإن استعمل المأجور في بقية المدة، فقد زاد على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في بعض المدة. وقد لا يفرغ الأجير من العمل في المدة، فإن أتمه بعدها عمل في غير المدة، وإن لم يعمله، لم يأت بما وقع عليه العقد، وهذا غرر أمكن التحرز عنه (1).
وقال المالكية والشافعية في الأصح: لا يجوز في إجارة الأعمال كخياطة الثوب ونحوها الجمع بين الزمان والعمل، فلا يصح أن يعين زمان الخياطة بأن يقول الشخص للخياط: اليوم أو بعد أسبوع مثلاً، فتفسد الإجارة؛ لأنه يوجب الغرر بتوقع تعذر العمل في ذلك اليوم أو الأسبوع، فقد يتقدم العمل أو يتأخر، كما لو أسلم رجل في قفيز حنطة بشرط كون وزنه كذا، لا يصح العقد لاحتمال أن يزيد الوزن أو ينقص. وعلى هذا فالمصلحة ونفي الغرر عن العقد يوجبان بقاء العقد مطلقاً دون تحديد مدة معينة (2).

3 - أن يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء حقيقة وشرعا ً: فلا تجوز إجارة متعذر التسليم حقيقة كإجارة البعير الشارد والأخرس للكلام، أو شرعاً كإجارة الحائض لكنس المسجد، والطبيب لقلع سن صحيحة، والساحر على تعليم السحر، وهذا باتفاق الفقهاء. ولا تجوز إجارة المشاع من غير الشريك عند أبي حنيفة وزفر والحنابلة، كأن يؤجر نصيباً من داره، أو نصيبه من دار مشتركة من غير الشريك، سواء أكان النصيب معلوماً كالربع ونحوه، أم مجهولاً؛ لأن منفعة المشاع غير مقدورة الاستيفاء؛ لأن استيفاءها بتسليم المشاع، والمشاع غير مقدور
_________
(1) المغني: 5 ص 402، غاية المنتهى: 2 ص 302.
(2) الفروق للقرافي: 4 ص 12، القوانين الفقهية: ص 275، مغني المحتاج: 3 ص340.

(5/3814)


التسليم بنفسه؛ لأنه سهم شائع ضمن كل، وإنما يتصور تسليمه مع غيره وهو غير معقود عليه، فلا يتصور تسليمه شرعاً. وأما الإجارة من الشريك فهي جائزة على الرواية المشهورة عن أبي حنيفة؛ لأن المعقود عليه مقدور الاستيفاء بدون المهايأة، إذ منفعة كل الدار تحدث مثلاً على ملك المستأجر لكن بسببين مختلفين: بعضها بسبب الملك، وبعضها بسبب الإجارة. وأما الشيوع الطارئ فلا يؤثر على الإجارة في الروية المشهورة عن أبي حنيفة أيضاً؛ لأن المانع من جواز العقد وهو الشيوع كان بسبب عدم القدرة على التسليم، والقدرة على التسليم ليست بشرط لبقاء العقد ودوامه، إذ ليس كل ما يشترط في إنشاء العقد عند ابتدائه يشترط لبقاء العقد (1).
وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء: تجوز إجارة المشاع مطلقاً من الشريك وغيره؛ لأن للمشاع منفعة، والتسليم ممكن بالتخلية أو بالتهايؤ، كما يجوز ذلك في البيع، والإجارة أحد نوعي البيع (2).
ويترتب على اشتراط القدرة على الاستيفاء عند الحنفية مسائل:
أـ لو استأجر إنسان طريقاً في دار غيره ليمر فيها وقتاً معلوماً لم يجز عند أبي حنيفة، ويجوز في قول الصاحبين؛ لأن إجارة المشاع فاسدة عند الإمام، وجائزة عند الصاحبين.
ب ـ لو استأجر شخص أرضاً فيها رطبة (3) (فصفصة) لمدة سنة مثلاً فلا تجوز الإجارة، وإنما تقع فاسدة، لأنه لا يمكن تسليم الأرض إلا بإحداث ضرر، وهو قلع الرطبة، والإنسان لا يجبر على إلحاق الضرر بنفسه، فلم تكن المنفعة مقدورة
_________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية: 7 ص 180، البدائع: 4 ص 187، تبيين الحقائق: 5 ص 125، رد المحتار على الدر المختار: 5 ص 32، غاية المنتهى: 2 ص 197، الشرح الكبير: 4 ص 19.
(2) بداية المجتهد: 2 ص 225، الميزان: 2 ص 96، المهذب: 1 ص 395.
(3) الرطبة ـ بفتح الراء: الفصة، فإذا يبست فهي قت (الجت).

(5/3815)


الاستيفاء شرعاً، فلم تجز. فإن قلع صاحب الأرض الرطبة، وسلم الأرض بيضاء، جاز العقد، لأن المانع قد زال، مثل أن يشتري إنسان جذعاً في سقف إذا نزعه البائع وسلمه إلى المشتري جاز العقد، ويجبر المشتري على القبول في الحالتين.
جـ ـ لو استأجر شخص رجلاً للقيام بالبيع والشراء، فلا تجوز الإجارة؛ لأن البيع والشراء لا يتم بشخص واحد، بل بعاقدين هما البائع والمشتري، وذلك غير مقدور للشخص، فتفسد الإجارة على هذه المهمة، إذ أن الأجير لا يقدر على إيفاء المنفعة بنفسه، والمستأجر لا يقدر بالتالي على الاستيفاء، فصار العقد، كما لو استأجر رجلاً ليحمل خشبة بنفسه، وهو لا يقدر على حملها بنفسه.
فإن عين المستأجر للقيام بمهمة البيع والشراء مدة، كأن استأجره شهراً ليبيع له ويشتري، جاز العقد؛ لأن الإجارة وقعت على منفعة المدة، وهي معلومة.
د ـ لا يصح استئجار الفحل للإنزاء، واستئجار الكلب المعلم، والبازي المعلم للاصطياد؛ لأن المنفعة غير مقدورة الاستيفاء في حق المستأجر إذ لا يمكن إجبار الفحل على الضراب والإنزال، ولا إجبار الكلب والبازي على الصيد.
هذا رأي جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة (1)؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل أي أجرة ضرابه (2). وأجاز الإمام مالك العقد إذا كانت الإجارة على مدة معلومة تشبيهاً للمذكور بسائر المنافع (3).
_________
(1) تكملة فتح القدير: 7 ص 179، البدائع: 4 ص 189، رد المحتار على الدر المختار: 5 ص 38، المغني: 5 ص 500، المهذب: 1 ص 394، مغني المحتاج: 2 ص 335، غاية المنتهى: 2 ص 197.
(2) أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد عن ابن عمر، وروي أيضاً عن عدة من الصحابة مثل أنس وابن عباس وعلي وأبي هريرة. وفي بعض ألفاظه: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ثمن عسب الفحل» (انظر نصب الراية: 4 ص 135، نيل الأوطار: 5 ص 146).
(3) بداية المجتهد: 2 ص 322، القوانين الفقهية: ص 275.

(5/3816)


4 - أن تكون المنفعة المعقود عليها مباحة شرعا ً: كاستئجار كتاب للنظر والقراءة فيه والنقل منه، واستئجار دار للسكنى فيها، وشبكة للصيد ونحوها.
يتفرع على هذا الشرط أنه باتفاق الفقهاء (1): لا يجوز الاستئجار على المعاصي كاستئجار الإنسان للعب واللهو المحرم وتعليم السحر والشعر المحرم وانتساخ كتب البدع المحرمة، وكاستئجار المغنية والنائحة للغناء والنوح، لأنه استئجار على معصية، والمعصية لا تستحق بالعقد. أما الاستئجار لكتابة الغناء والنوح فهو جائز عند الحنفية فقط؛ لأن الممنوع عنه نفس الغناء والنوح، لا كتابتهما. فالقاعدة الفقهية إذن: أن «الاستئجار على المعصية لا يجوز» (2).
وكذلك لا يجوز استئجار رجل لقتل رجل أو سجنه أوضربه ظلماً أو لأي مظلمة أخرى، لأنه استئجار لفعل معصية، فلا يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء شرعاً. فإن كان الفعل بحق كأن استأجر رجل غيره لقطع عضو فيجوز؛ لأنه مقدور الاستيفاء؛ لأن محله معلوم. أما الاستئجار على القصاص فلا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن القتل بضرب العنق قد يصيب العنق فيكون مشروعاً، وقد يصيب غير العنق فيكون محظوراً؛ لأنه مُثْلة بالإنسان. ويجوز العقد عند محمد؛ لأن القصاص هو حز الرقبة، والرقبة معلومة، فكان المعقود عليه مقدور الاستيفاء (3).
وكذلك لا يجوز لذمي استئجار دار من مسلم في بلد إسلامية ليتخذها
_________
(1) تكملة فتح القدير: 7 ص 180، البدائع: 4 ص 189، تبيين الحقائق للزيلعي: 5 ص 125، الشرح الكبير: 4 ص 21، بداية المجتهد: 2 ص 218، المهذب: 1 ص 394، المغني: 5 ص 502، القوانين الفقهية: ص 275، غاية المنتهى: 2 ص 196، الفروق للقرافي: 4 ص 4.
(2) الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 76.
(3) البدائع: 4 ص 189.

(5/3817)


مصلى للناس أو لبيع الخمر أو للقمار؛ لأنه استئجار على المعصية، وهذا رأي جمهور العلماء. وكان أبو حنيفة يجيز الاستئجار للمصلى في سواد العراق؛ لأن أكثر أهل السواد في زمانه كانوا أهل ذمة من المجوس، فكان لا يؤدي ذلك إلى الإهانة والاستخفاف بالمسلمين (1).

5 - ألا يكون العمل المستأجر له فرضاً ولا واجباً على الأجير قبل الإجارة: ويترتب عليه أنه لا تصح الإجارة إذا كانت واردة على القيام بفرض أو واجب على الأجير قبل العقد؛ لأن من أتى بعمل يستحق عليه لا يستحق الأجرة على فعله، كمن قضى ديناً عليه، فلا تصح الإجارة إذن على القرب والطاعات كالصلاة والصوم والحج والإمامة والأذان وتعليم القرآن؛ لأنه في الفرائض استئجار على عمل مفروض، ولأن الاستئجار على الأذان والإقامة والإمامة وتعليم القرآن والعلم سبب لتنفير الناس عن الصلاة بالجماعة، وعن تعليم القرآن والعلم (2) وقد روي أن عثمان بن أبي العاص قال: «إن آخر ما عهد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» قال الترمذي: حديث حسن (3)، وهذا محل اتفاق بين الحنفية والحنابلة. ومن قواعد الحنفية في هذا «لا يستحق الأجر من استؤجر على الطاعة» «الاستئجار لما هو مستحق عليه لا يجوز» فمن استأجر امرأته شهراً لخدمة البيت لا تجوز هذه الإجارة لأنها مستحقة عليها.
_________
(1) البدائع: 4 ص 176، المبسوط: 16 ص 38، المغني: 5 ص 503.
(2) البدائع: 4 ص 191، المغني: 5 ص 506 ومابعدها، المبسوط: 16 ص 37، تبيين الحقائق: 5 ص 124، رد المحتار على الدر المختار: 5 ص 38، غاية المنتهى: 2 ص 205، 217، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 75، 284، الإفصاح لابن هبيرة: ص 226.
(3) أخرجه أصحاب السنن الأربع بطرق مختلفة، هذا اللفظ للترمذي وابن ماجه (راجع نصب الراية: 4ص 139).

(5/3818)


ثم أفتى المتأخرون من العلماء بجواز أخد المعلم أجرة المثل في زمانه على تعليم القرآن.
وقال الإمامان مالك والشافعي (1): تجوز الإجارة على تعليم القرآن لأنه استئجار لعمل معلوم ببدل معلوم، ولأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «زوج رجلاً بما معه من القرآن» (2) فجاز جعل القرآن عوضاً، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» (3) وهو حديث صحيح. وثبت أن أبا سعيد الخدري رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على جُعْل، فبرئ، وأخذ أصحابه الجعل، فأتوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبروه وسألوه فقال: «لعمري من أكْل برقيةِ باطلٍ (أي كلام باطل) فقد أكلتَ برقيةِ حقٍ، كلوا واضربوا لي معكم بسهم» (4).
قال صاحب الكنز الحنفي: والفتوى اليوم على جواز الاستئجار لتعليم القرآن، وهو مذهب المتأخرة من مشايخ بلخ (5).
وأجاز المالكية أخذ الأجرة على الأذان مع الإمامة والقيام بالمسجد لا على الصلاة بانفرادها قياساً على الأفعال غير الواجبة، كما أجازوا هم والشافعية
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 4 ص 16، بداية المجتهد: 1 ص 221، مغني المحتاج: 2 ص 344، المهذب: 1 ص 398، الميزان: 2 ص 95، القوانين الفقهية: ص 275.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد ولفظه «قد زوجتكها بما معك من القرآن» (انظر نيل الأوطار: 6 ص 170).
(3) أخرجه البخاري في كتاب الطب عن ابن عباس وروي في معناه أحاديث كثيرة (انظر نصب الراية: 4 ص 139، مجمع الزوائد: 4 ص 94، سبل السلام: 3 ص 81).
(4) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا النسائي عن أبي سعيد الخدري، ورويت واقعة أيضاً عن خارجة بن السلط عن عمه، كما رويت أخرى عن جابر (انظر نصب الراية: 4 ص 138، نيل الأوطار: 5 ص 289، 291، مجمع الزوائد: 4 ص 96).
(5) تبيين الحقائق: 5 ص 124.

(5/3819)


الإجارة على الحج لإقرار الرسول عليه السلام حج صحابي عن غيره، أما الإمامة في الفروض فلا يجوز فيها الإجارة عند الشافعية، ولا يجوز ذلك بانفرادها عن الأذان في المشهور عند المالكية (1).
ويجوز بالاتفاق الاستئجار على تعليم اللغة والأدب والحساب والخط والفقه والحديث ونحوها وبناء المساجد والقناطر والرباطات؛ لأنها ليست بفرض ولابواجب. وقد تقع قربة تارة، وتارة غير قربة.
ولا يجوز عند الحنفية الاستئجار على غسل الميت؛ لأنه واجب، ويجوز على حفر القبور، وعلى حمل الجنائز. وأجاز الشافعية الإجارة لتجهيز ميت ودفنه. والتجهيز يشمل الغسل والتكفين؛ لأن ذلك من فروض الكفايات، ولا يضر طروء تعين الواجب كالمضطر، فإنه يتعين إطعامه مع تغريمه البدل.
ولا يجوز استئجار الرجل الزوجة على رضاع ولده منها؛ لأنه استئجار على خدمة الولد، وإنما اللبن يدخل فيه تبعاً، فكان الاستئجار على أمر واجب عليها فيما بينها وبين الله تعالى (2).

6 - ألا ينتفع الأجير بعمله: فإن كان ينتفع به لم يجز (3)، فلا تصح الإجارة
_________
(1) انظر سبل السلام: 2 ص 181، 184، مغني المحتاج: 2 ص 344، الفروق للقرافي: 3 ص 2، أصول الفقه الإسلامي للمؤلف: 60/ 1 ومابعدها، 139، ط دار الفكر بدمشق.
(2) البدائع: 4 ص 192.
(3) قال الشافعية: الإجارة لقراءة القرآن على القبر مدة معلومة، أو قدراً معلوماً، جائزة، للانتفاع بنزول الرحمة حيث يقرأ القرآن، ويكون الميت كالحي الحاضر، سواء أعقب القرآن الدعاء، أم جعل أجر قراءته له، أم لا، فتعود منفعة القرآن إلى الميت في ذلك، ولأن الدعاء يلحقه، وهو بعدها أقرب إلى الإجابة وأكثر بركة. فقول الشافعي رضي الله عنه: إن القراءة لا تحصل له محمول على غير ذلك (مغني المحتاج: 341/ 2).

(5/3820)


على الطاعات؛ لأن القائم بها عامل لنفسه، كما لا يصح استئجار رجل ليطحن لآخر قفيزاً من حنطة بجزء من دقيقها، أو ليعصر له قفيزاً من سمسم بجزء معلوم من دهنه، لأن الأجير ينتفع بعمله من الطحن والعصر، فيكون عاملاً لنفسه، وقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن قفيز الطحان (1): وهو أن يعطي الرجل أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها.
وهذا هو رأي الشافعية أيضاً (2) عملاً بالنهي في هذا الحديث، ولأن فيه نقضاً لشرط من شرائط الإجارة وهو القدرة على تسليم الأجر وقت التعاقد. والقاعدة المقررة عند الحنفية في هذا الشأن هي: «تعيين الأجر مما يعمل فيه الأجير مفسد للعقد».
وقال الحنابلة والمالكية: يجوز ذلك إذا كان الكيل معلوماً، والحديث لم تثبت صحته عندهم (3).
ومنه: ما يتعامل به الزراع في الريف من إعطاء بعض القمح لدارسه أو حامله فقد أجازه الحنابلة.

7 - أن تكون المنفعة مقصودة يعتاد استيفاؤها بعقد الإجارة، ويجري بها
_________
(1) رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن عسب الفحل (أي كرائه) وعن قفيز الطحان» وفسر قوم قفيز الطحان بطحن الطعام بجزء منه مطحوناً لما فيه من استحقاق طحن قدر الأجرة، لكل واحد منهما على الآخر، وذلك متناقض (راجع نيل الأوطار: 5 ص 292، التلخيص الحبير: ص 255).
(2) البدائع، المصدر السابق، مغني المحتاج: 2ص335، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 78.
(3) المغني: 5 ص 449، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 6، القوانين الفقهية: ص 274 ومابعدها.

(5/3821)


التعامل بين الناس، فلا يجوز استئجار الأشجار لتجفيف الثياب (1) عليها والاستظلال بها؛ لأن هذه منفعة غير مقصودة من الشجر (2).

وأما شرط المحل المعقود عليه: فهو أن يكون مقبوضاً إذا كان منقولاً، وإن لم يكن مقبوضاً فلا تصح إجارته لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض (3)، والإجارة نوع من البيع فيشملها النهي (4).
فإن كان الشيء المأجور عقاراً فهو على الاختلاف الذي ذكر في مبحث البيع الفاسد.

وأما شروط الأجرة فهي اثنان (5):
أولاً ـ أن تكون الأجرة مالاً متقوماً معلوماً: وهذا باتفاق العلماء.
_________
(1) ذكر القرافي المالكي في الفروق (3/ 4 - 4) ثمانية شروط في المنفعة التي تجوز عليها الإجارة وهي:
الأول ـ الإباحة: احترازاً من الغناء وآلات الطرب ونحوها.
الثاني ـ قبول المنفعة للمعاوضة، احترازاً من النكاح.
الثالث ـ كون المنفعة متقومة، احترازاً من التافه الحقير الذي لا يقابل بعوض. واختلف في استئجار الأشجار لتجفيف الثياب، فمنعه ابن القاسم.
الرابع ـ تكون مملوكة، احترازاً من الأوقاف الموقوفة للسكنى كبيوت المدارس.
الخامس ـ ألا يتضمن استيفاء عين، احترازاً من إجارة الأشجار لثمارها أو الغنمة لنتاجها، واستثني من ذلك إجارة المرضع للبنها للضرورة في الحضانة.
السادس ـ أن يقدر على تسليمها، احترازاً من استئجار الأخرس.
السابع ـ أن تحصل للمستأجر احترازاً من الاستئجار على العبادات كالصوم ونحوه.
الثامن ـ كونها معلومة احترازاً عن المجهولات من المنافع كمن استأجر آلة لايدري ما يعمل بها.
(2) البدائع، المصدر السابق.
(3) في هذا أحاديث، منها ما رواه أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تستوفيه» (انظر نيل الأوطار: 5 ص 157 وقد سبق ذكر بعض رواياته) ومنها ما أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه عن ابن عباس بلفظ: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه» (انظر جامع الأصول: 1 ص 383 وما بعدها).
(4) البدائع: 4 ص 193.
(5) البدائع، المصدر السابق: 193 - 194.

(5/3822)


ومحترزات هذا الشرط معروفة كما مر في عقد البيع. والأصل في اشتراط العلم بالأجرة قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيراً فليعلمه أجره» والعلم بالأجرة لا يصح إلا بالإشارة والتعيين، أو بالبيان (1).
ولا بد من معرفة مكان إيفاء الأجرة فيما يحتاج لحمل ومؤنة عند أبي حنيفة. وأما عند الصاحبين: فلا يشترط ذلك، ويتعين مكان العقد للإيفاء (2).
ومما يتفرع على شرط العلم بالأجرة: أنه لو استأجر إنسان شخصاً بأجر معلوم وبطعامه، أو استأجر دابة بأجر معلوم وبعلفها، لم تجز الإجارة؛ لأن الطعام أو العلف يصير أجرة، وهو قدر مجهول، فكانت الأجرة مجهولة.

وأجاز المالكية (3) استئجار الأجير للخدمة، والدابة بالطعام، والخادم بالكسوة ونحوها عملاً بالمتعارف بين الناس، وكذا استئجار الظئر بطعام أو غيره.
استئجار الظئر: ولو استأجر شخص ظئراً (مرضعاً) بطعامها وكسوتها لاتجوز الإجارة بمقتضى الأخذ بالقياس: وهو قول الصاحبين والشافعية، لجهالة الأجرة وهي الطعام والكسوة، إلا أن أبا حنيفة استحسن الجواز بالنص: وهو قوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} [البقرة:233/ 2] نفى الله سبحانه الجناح في الاسترضاع مطلقاً. وجهالة الأجرة في تلك الحالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن العادة جرت بالمسامحة مع الأظآر والتوسعة عليهن شفقة على الأولاد، فأشبهت حالة جهالة القفيز من الصبرة (4).
_________
(1) تكملة فتح القدير: 7 ص 148، 187، البدائع: 4 ص 193، المغني: 5 ص 404.
(2) المبسوط: 15 ص 113.
(3) القوانين الفقهية: ص 274، الشرح الصغير: 31/ 4.
(4) تكملة فتح القدير: 7 ص 185، البدائع: 4 ص 193 ومابعدها، المبسوط: 15 ص 119، تبيين الحقائق: 5 ص 127.

(5/3823)


وقال المالكية والحنابلة أيضاً بهذا الرأي (1).

كون الأجرة جزءاً من المعقود عليه: قال الجمهور: تفسد الإجارة ولو استأجر السلاّخ بالجلد، والطحان بالنخالة أو بصاع من الدقيق؛ لأنه لا يعلم هل يخرج الجلد سليماً أو لا، وهل هو ثخين أو رقيق، وما مقدار الطحين، فقد تكون الحبوب مسوسة، فلا تصح الإجارة لجهالة العوض (2)، ولأنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن عَسْب الفحل وعن قفيز الطحان (3)، وأجازه المالكية (4) لأنه استأجره على جزء من الطعام معلوم، وأجرة الطحان ذلك الجزء وهو معلوم أيضاً، وأجابوا عن الحديث بأن مقدار القفيز مجهول. ووافق الهادوية والإمام يحيى من الزيدية والمزني والحنابلة على هذا الرأي إذا كانت الأجرة بقدر من الدقيق معلوم. والمشهور لدى المالكية: أن الإجارة فاسدة في حالة استئجار السلاّخ بالجلد؛ لأنه لا يستحق جلد الشاة إلا بعد السلخ، ولا يدري هل يخرج سليماً أو مقطعاً؟ وهي فاسدة أيضاً باستئجار الطحان بنُخالة، لجهالة قدرها، فلو استأجره بقدر معلوم جاز، كما لو استأجر شخصاً بجلد مسلوخ معلوم على أن يسلخ له شاة.
مقابل الخلو: إن ما يؤخذ اليوم مما يسمى (بالفروغ أو خلو الرجل أو اليد) لا مانع منه شرعاً في تقديري، فللمالك المؤجر أن يأخذ من المستأجر مقداراً مقطوعاً من المال مقابل الخلو أو الفروغ. ويعد المأخوذ جزءاً معجلاً من الأجرة المشروطة في العقد. وأما ما يدفع في المستقبل شهرياً أو سنوياً فهو بالإضافة إلى ما تم تعجيله يعد جزءاً آخر مكملاً من الأجرة مؤجل الوفاء.
_________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 4 ص 13، الفروق للقرافي: 4 ص 4، مغني المحتاج: 2 ص 335، غاية المنتهى: 2 ص 192، المغني لابن قدامة: 5 ص 450، 453.
(2) المغني: 405/ 5.
(3) رواه الدارقطني والبيهقي عن أبي سعيد لكن في إسناده منكر الحديث (نيل الأوطار: 292/ 5).
(4) بداية المجتهد: 222/ 2 ومابعدها، الشرح الصغير: 18/ 4 ومابعدها.

(5/3824)


وأما ما يأخذه المستأجر من الفروغ مقابل تنازله عن اختصاصه بمنفعة العقار المأجور لشخص آخر يحل محله فهو جائز أيضاً إذا كانت مدة الإجارة باقية، وإلا كان غصباً حراماً، فقد صرح الشافعية أثناء كلامهم عن صيغة عقد البيع بما يقارب هذا المعنى فقالوا: «لا يبعد اشتراط الصيغة في نقل اليد في الاختصاص ـ أي عند التنازل عن حيازة النجاسات لتسميد الأرض ـ كأن يقول: رفعت يدي عن هذا الاختصاص، ولا يبعد جواز أخذ العوض عن نقل اليد، كما في النزول عن الوظائف» (1) إلا أن ذلك كله مقيد شرعاً ضمن مدة الإيجار المتفق عليها. وتنازل المستأجر لغيره بعوض بعد انتهاء المدة مرهون برضا المالك. وبالرغم من أن أصل المذهب الحنفي لا يجيز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة، وكذا لا يجيز بيع الحق، فإن كثيراً من الحنفية أفتى بجواز النزول عن الوظائف بمال كالإمامة والخطابة والأذان ونحوها، وتستند هذه الفتوى إلى الضرورة وتعارف الناس وبالقياس على ترك المرأة قَسْمها لصاحبتها؛ لأن كلاً منهما مجرد إسقاط للحق، وقياساً على أنه يجوز لمتولي النظر على الأوقاف عزل نفسه عند القاضي، ومن العزل: الفراغ لغيره عن وظيفة النظر أو غيره، وقد جرى العرف بالفراغ بعوض (2).
هذا وقد وجدت رسالة للمتأخرين من علماء المالكية بعنوان (جملة تقارير وفتاوى في الخلوات والإنزالات (3) عند التونسيين) لمفتي المالكية إبراهيم الرياحي
_________
(1) حاشية البجيرمي على شرح الخطيب «الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع»: 3 ص 3، مطبعة البابي الحلبي.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 4 ص 15.
(3) الخلو والإنزال والجلسة بمعنى واحد: وهو المنفعة التي يملكها دافع الدراهم لمالك الأصل مع بقاء ملكه للرقبة. فإن كانت الرقبة التي هي الأصل أرضاً عبر عن تلك المنفعة بالإنزال في اصطلاح بعض الناس. وإن كانت في حوانيت أو دور عبر عنها بالخلو في غير اصطلاح أهل فاس، وفي اصطلاحهم يعبر عنها في الحوانيت بالجلسة.

(5/3825)


بتونس (المتوفى سنة 1266 هـ) والشيخ محمد بيرم الرابع التونسي، والشيخ الشاذلي بن صالح باس مفتي المالكية بتونس، والشيخ محمد السنوسي قاضي تونس يقررون فيها جواز المعاوضة عن الخلوات عملاً بالعرف والعادة، ولأن المستأجر يملك المنفعة، فله أن يتنازل عنها بعوض كالإجارة وبغير عوض كالإعارة (1)، فقد نقل البناني عن البرزلي في النزول عن الوظيفة ما يقتضي جوازه، ونقل فتوى الفاسيين بجواز بيع الخلو. وقال الشيخ محمد بيرم: وماأشبه الخلو بالمغارسة، غير أن الخلو لا تحصل به ملكية الرقبة لتعلقه بالمنفعة.

قرار مجمع الفقه الإسلامي في جدة رقم (6) لعام 1408 هـ الموافق 1988م: يحسن إيراد ما تضمنه هذا القرار الذي كنت فيه رئيس لجنة صياغته:
أولاً ـ إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغاً مقطوعاً زائداً عن الأجرة الدورية (وهو ما يسمى في بعض البلاد خلواً) فلا مانع شرعاً من دفع هذا المبلغ المقطوع، على أن يعد جزءاً من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة.
ثانياً ـ إذا تم الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغاً مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً؛ لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك.
أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمناً عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو؛ لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر.
_________
(1) راجع الفروق للقرافي: 187/ 1.

(5/3826)


ثالثاً ـ إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد، لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية.
على أنه في الإجارات الطويلة المدة خلافاً لنص عقد الإجارة طبقاً لما تسوغه بعض القوانين، لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك.
أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة، فلا يحل بدل الخلو، لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين.

ثانياً ـ ألا تكون الأجرة منفعة هي من جنس المعقود عليه: كإجارة السكنى بالسكنى والخدمة بالخدمة، والركوب بالركوب، والزراعة بالزراعة. وهذا الشرط متفرع عند الحنفية عن الربا، فإنهم يعتبرون اتحاد الجنس وحده صالحاً لتحريم العقد في ربا النسيئة، كما عرفنا في بحث الربا. وتطبيق المبدأ في الإجارة: هو أن انعقاد هذا العقد عندهم ينعقد شيئاً فشيئاً على حسب حدوث المنفعة، فتكون المنفعة وقت العقد معدومة، فيتأخر قبض أحد العاقدين، فيتحقق ربا النَّساء (1). وقدعرفنا أن الجنس بانفراده لا يحرم العقد بسبب الربا عند الشافعية، فيجوز هذا العقد عندهم، ولايشترط هذا الشرط.
وأما الشرط العائد لركن العقد:
فهو أن يخلو العقد من شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه: فلو أجر المالك
_________
(1) انظر البدائع: 4 ص 194.

(5/3827)


داره على أن يسكنها هو شهراً، ثم يسلمها إلى المستأجر، أو أجر أرضاً على أن يزرعها، ثم يسلمها إلى المستأجر، أو أجر دابة على أن يركبها شهراً ونحوه، فالإجارة فاسدة؛ لأن هذا الشرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه؛ إذ أن فيه منفعة زائدة لأحد المتعاقدين مشروطة في العقد، لا يقابلها عوض، فتكون ربا، أو فيها شبهة الربا، وهو مفسد للعقد (1) وأجاز الحنابلة والمالكية هذه الإجارة.

شروط لزوم الإجارة:
يشترط لبقاء عقد الإجارة لازماً شرطان:

أولهما ـ سلامة العين المؤجرة من حدوث عيب يخل بالانتفاع بها:
ويترتب عليه أنه لو حدث عيب يخل بالانتفاع (2)، فيكون المستأجر بالخيار بين الإبقاء على الإجارة ودفع كامل الأجرة وبين فسخها، كما إذا حدث بالدابة المؤجرة مرض أو عرج أو انهدم بعض بناء الدار (3)؛ لأن المعقود عليه وهو المنافع يحدث شيئاً فشيئاً، فإذا حدث العيب بالشيء المستأجر كان هذا عيباً قبل القبض، فيوجب الخيار كما في عقد البيع (4).
فإذا انهدمت الدار كلها أو انقطع الماء عن الرحى (الطاحون) أو انقطع الشِّرْب عن الأرض انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه قد هلك، والهلاك موجب لفسخ
_________
(1) البدائع: 4 ص 194 ومابعدها.
(2) العيب الذي يخل بالانتفاع: هو الذي يفوت كلياً على المستأجر المنفعة المقصودة من المأجور كانهدام الدار، أو يخل بها على وجه صحيح كهبوط سطح الدار (انظر المادة 514 مجلة).
(3) هذا ما يراه بعض الحنفية ومشى عليه صاحب الدر المختار، لكن قال ابن الشحنة: ظاهر الرواية أنه لا يسقط من الأجر شيء بانهدام بيت أو حائط من دار.
(4) البدائع، المصدر السابق: ص 195، تكملة فتح القدير: 7 ص 220، تبيين الحقائق: 5 ص 143.

(5/3828)


العقد؛ إلا أن الأصح عند الحنفية هو أن العقد لا ينفسخ ولكن يثبت حق الفسخ، لأن المعقود عليه قد فات على وجه يتصور عوده، فصار كمن اشترى شيئاً فهرب قبل القبض، ويمكنه الانتفاع في المأجور في الجملة بأن يضرب فيه خيمة.
وإن زال العيب قبل أن يفسخ المستأجرعقد الإجارة بأن صح المريض، وزال العرج عن الدابة وبنى المؤجر ماسقط من الدار، بطل خيار المستأجر بالفسخ؛ لأن الموجب للخيار قد زال، والعقد قائم، فيزول الخيار.
وحق الفسخ يثبت للمستأجر إذا كان العيب مما يضر بالانتفاع؛ لأن النقصان حينئذ يرجع للمعقود عليه. فإن كان العيب مما لا يضر بانتفاع المستأجر كسقوط حائط من الدار لا ينتفع فيه في سكناها، فلا يثبت حق الفسخ.
والمستأجر يمارس الفسخ إذا كان المؤجر حاضراً أثناء الفسخ، فإن كان غائباً فحدث بالشيء المستأجر ما يوجب الفسخ، فليس للمستأجر الفسخ؛ لأن فسخ العقد لا يجوز إلا بحضور العاقدين أو من يقوم مقامهما.
أما في حالة سقوط الدار أو انهدامها فللمستأجر أن يخرج منها، سواء أكان المؤجر حاضراً أم غائباً، وهذا دليل الانفساخ.
ويثبت أيضاً للمستأجر حق الفسخ بحدوث تفرق الصفقة في المنافع بعد حصولها مجتمعة؛ لأن الصفقة تفرقت في المعقود عليه وهو المنافع، وتفرق الصفقة يوجب الخيار. مثاله أن يستأجر شخص دارين صفقة واحدة، فتسقط إحداهما، أو يطرأ ما نع يمنع المستأجر من إحداهما، أو أن يستأجر شخص داراً واحدة ثم يمتنع المؤجر عن تسليم بيت منها، فيحق للمستأجرفسخ العقد لتجزئة الصفقة عليه (1).
_________
(1) البدائع: 4 ص 196 ومابعدها.

(5/3829)


ثانيهما ـ عدم حدوث عذر يجيز فسخ الإجارة: كما إذا حدث عذر بأحد العاقدين أو بالشيء المأجور فيحق للمتعاقد فسخ العقد. وسأبين فيما يلي الأعذار التي تفسخ الإجارة بها.
أعذار فسخ الإجارة:
تفسخ الإجارة بالأعذار عند الحنفية؛ لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر؛ لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد. والعذر: هو ما يكون عارضاً يتضرر به العاقد مع بقاء العقد، ولا يندفع بدون الفسخ. قال ابن عابدين: كل عذر لا يمكن معه استيفاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه في نفسه أو ماله يثبت له حق الفسخ (1).
وقال جمهور العلماء: الإجارة عقد لازم كالبيع، فلا تفسخ كسائر العقود اللازمة من أي عاقد بلا موجب كوجود عيب أو ذهاب محل استيفاء المنفعة. وعبارة الشافعية هي: لا تنفسخ الإجارة بعذر كتعذر وقود (بفتح الواو) حمام على مستأجر، وسفر عرض لمستأجر دار مثلاً، ومرض مستأجر دابة لسفر عليها، إذ لا خلل في المعقود عليه، والاستنابة من كل منهما ممكنة، وإنما تنفسخ الإجارة فقط عند فوات المعقود عليه وهو المنفعة كانهدام الدار وموت الدابة والأجير المعينين.
والفسخ بالنسبة للمستقبل لا في الزمن الماضي، أو عند وجود عيب في الشيء المؤجر مثل جموح الدابة أو نفورها، أو كونها عضوضاً، أو تعثر الظهر في المشي، أو العرج أو ضعف البصر أو الجذام أو البرص (2).
_________
(1) رد المحتار: 5 ص 55.
(2) مغني المحتاج: 2 ص 355 ومابعدها، المهذب: 1 ص 405، بداية المجتهد: 2 ص 227، المغني: 5 ص 418، غاية المنتهى: 2 ص 209.

(5/3830)


والخلاصة: تنفسخ الإجارة بالاتفاق باستيفاء المنفعة المعقود عليها، وبالفسخ في حالتين هما: هلاك العين المؤجرة في إجارة العين، وعدم تسليم العين المؤجرة في المدة، واختلفوا في فسخ الإجارة بالأعذار، فتنفسخ عند الحنفية بالعذر ولا تنفسخ به عند الجمهور. واختلفوا في فسخ الإجارة بموت أحد العاقدين، فتفسخ به عند الحنفية خلافاً للجمهور. ولا تنفسخ الإجارة بخروج العين المؤجرة من ملك المؤجر بالاتفاق، كإجارة دار ثم هبتها أو بيعها لغيره.

وقد قسم الحنفية الأعذار الموجبة للفسخ إلى ثلاثة أنواع (1):
1 - عذر من جانب المستأجر: مثل إفلاس المستأجر، أوانتقاله من الحرفة إلى الزراعة أو من الزراعة إلى التجارة، أو من حرفة إلى أخرى؛ لأن المفلس أو المنتقل من عمل لا ينتفع به إلا بضرر، لا يجبر على البقاء في الحرفة الأولى مثلاً. ومثله السفر أي انتقال المستأجر عن البلد؛ لأن في إبقاء العقد مع السفر ضرراً به.
ويترتب عليه أنه إذا لم يحصل النفع للمستأجر إلابضرر يلحقه في ملكه أو بدنه فله فسخ الإجارة، كما إذا استأجر شخص رجلاً لتنظيف ثياب وكيها، أو خياطتها، أو داراً له، أو ليقطع شجراً أو ليزرع أرضاً، أو ليحدث في ملكه شيئاً من بناء أو حفر أو ليحتجم أو يفتصد أو يقلع ضرساً له، ونحوه، ثم بدا له ألا يفعل، فله أن يفسخ الإجارة، ولا يجبر على شيء مما ذكر؛ لأنه تبين له ألا مصلحة له في العمل، فبقي الفعل ضرراً في نفسه.

2 - عذر من جانب المؤجر: مثل لحوق دين فادح به لا يجد طريقاً لقضائه
_________
(1) انظر البدائع: 4 ص 197 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 4 ص 198 ومابعدها، 458، 459، 463، تكملة فتح القدير: 7 ص 222 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 130، المبسوط: 16 ص 2 ومابعدها، تبيين الحقائق: 5 ص 145 ومابعدها، رد المحتار: 5 ص 54 ومابعدها.

(5/3831)


إلا ببيع الشيء المأجور وأدائه من ثمنه، هذا إذا ثبت الدين قبل الإجارة بالبينة أو بالإقرار، أو ثبت عقد الإجارة بالبينة، وكذا بالإقرار عند أبي حنيفة؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يقر بالدين على نفسه كاذباً. وأما عند الصاحبين: فلا يقبل ثبوت الدين بالإقرار بعد الإجارة، لأنه متهم في هذا الإقرار.
ومثل أن يشتري المؤجر شيئاً ثم يؤجره، ثم يطلع على عيب به، فله أن يفسخ الإجارة ويرده بالعيب.
ولا يعد السفر أو النقلة عن البلد عذراً للمؤجر يبيح له فسخ الإجارة على عقار؛ لأن استيفاء منفعة العقار في غيبته لا ضرر عليه فيه.
وأما مرض الحمال والجمال بحيث يضره الحمل فيعد عذراً في رأي أبي يوسف؛ لأن غير الحمال أو الجمال لا يقوم مقامهما على الدابة أو الإبل إلا بضرر، والضرر لا يستحق بالعقد.
وأما محمد: فقد ذكر في كتاب «الأصل» أن مرض الجمال لا يعتبر عذراً؛ لأن خروج الجمال بنفسه مع الإبل غير مستحق بالعقد، فإن له أن يبعث غيره معها.

3 - عذر في العين المؤجرة أو الشيء المأجور: مثال الأول: أن يستأجر رجل حماماً في قرية ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية فلا يجب عليه الأجر للمؤجر.
ومثلوا للثاني بعتق العبد المأجور كأن يؤجر رجل عبده سنة، فلما مضت ستة أشهر، أعتقه، فيكون العبد بالخيار بين الإبقاء على الإجارة وبين فسخها.
وقال الشافعية: الأصح أنه لا تنفسخ الإجارة؛ لأن العتق انصب على

(5/3832)


الرقبة، وأما المنافع فلم تكن للسيد وقت العتق، فكان العتق واقعاً على الرقبة مسلوبة المنفعة، والأصح أنه لاخيار للعبد في فسخ الإجارة بعد العتق؛ لأن سيده تصرف في خالص ملكه، فلا ينقض، والأظهر أنه لا يرجع على سيده بأجرة ما بعد العتق (1) ومثال آخر للثاني: استئجار عامل موظف لعمل، ثم منعه من العمل قانوناً.

خلاصة شروط الإجارة عند الشافعية: يشترط في أركان الإجارة الأربعة: وهي العاقدان والصيغة والمنفعة والأجرة ما يأتي من الشروط (2):
1ً - أهلية التعاقد في العاقدين: يشترط في العاقدين وهما المؤجر والمستأجر أن يكون كل منهما بالغاً عاقلاً غير محجور عليه، فلا تصح إجارة الصبي والمجنون والمحجور عليه، إذ لا ولاية لكل منهم على نفسه ولا على ماله.
2ً - الصيغة: بأن تتم الإجارة بالإيجاب والقبول، أو بما يقوم مقامهما وهو التعاطي إن جرى العرف بذلك. قال في التوشيح: ولا أدري هل يختار النووي صحة المعاطاة فيها، كما اختاره في البيع أو لا، والأظهر: لا، فإنه لا عرف فيها، بخلاف البيع.
ويشترط في الصيغة توافق القبول مع الإيجاب، وألا يطول الفصل بينهما بسكوت أو كلام أجنبي عن العقد، وعدم تعليقها بشرط، مثل إن جاء فلان فقد آجرتك الدار بكذا.

3ً - المنفعة: يشترط أن تكون متقومة أي ذات قيمة شرعاً أو عرفاً، فلا يصح
_________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 359.
(2) مغني المحتاج: 332/ 2 - 344.

(5/3833)


استئجار آلات الملاهي، ولا استئجار كلب لصيد أو حراسة في الأصح، ولا استئجار رجل ليقول كلمة لا تتعب، وإن روجت السلعة، ولا استئجار دراهم ودنانير للتزيين بها.
ويشترط فيها أن يكون في مقدور المؤجر تسليمها، فلا تصح إجارة المغصوب لغير من في يده، ولا إجارة أرض للزراعة ليس فيها ماء دائم ولا يكفيها المطر المعتاد، ولا استئجار المرأة الحائض أو النفساء لخدمة المسجد.
وأن تحصل المنفعة للمستأجر لا للمؤجر، فلا تصح الإجارة على القُرَب التي تحتاج إلى نية ولا تدخلها النيابة كالصلاة والصوم؛ لأن منفعتها وهي الثواب تعود على المؤجر لا المستأجر.
وألا يكون في المنفعة استيفاء عين قصداً، فلا تصح إجارة البستان لأخذ ثمرته، ولا الشاة لأخذ صوفها أو لبنها.
وأن تكون المنفعة معلومة عيناً وقدراً وصفة ببيان محل المنفعة وعينها وصفتها، وتقديرها بالزمن كإجارة الدور للسكنى مدة سنة، أو بالعمل كالاستئجار لخياطة ثوب، وطلاء جدار وطبخ طعام، أو بأحد الأمرين: الزمن أو العمل كاستئجار رجل لخياطة، واستئجار سيارة للركوب، يصح التقدير بالزمن كيوم أو شهر، وبالعمل كالإيصال إلى مكان معين، كالمزرعة الفلانية أو دمشق أو مكة. ولا يصح تقدير المنفعة بالزمن والعمل معاً كاستئجار شخص لخياطة ثوب في يوم، لأن العمل قد لا يستغرق الوقت المعين، وقد يزيد عنه، فيكون في ذلك غرر، فيمنع صحة العقد، بسبب الغرر لاحتمال تقدم العمل أو تأخره.

4ً - الأجرة: يشترط فيها ما يشترط في الثمن في عقد البيع، بأن تكون طاهرة، فلا تصح الإجارة إذا كانت كلباً أو خنزيراً أو جلد ميتة، أو خمراً؛ لأنها نجسة العين.

(5/3834)


وأن تكون منتفعاً بها، فلا يصح كون الأجرة لا ينتفع بها، إما لخستها كالحشرات، وإما لإيذائها كالحيوانات المفترسة، وإما لحرمة استعمالها شرعاً كآلات اللهو والأصنام والتماثيل.
وأن تكون مقدوراً على تسليمها، فلا يصح كون الأجرة طيراً في الهواء، ولا سمكاً في الماء، ولا شيئاً مغصوباً إلا للغاصب أو القادر على انتزاعها منه.
وأن تكون معلومة للعاقدين: فلاتصح إجارة سيارة بوقودها، ولا دابة بعلفها، لجهالة الأجرة، ولا تصح إجارة العامل على حصاد الزرع بجزء من المحصول، ولا يصح إعطاء جباة الأموال للجمعيات والمساجد ونحوها جزءاً مما يجبونه من الأموال، ولا إعطاء سماسرة الدور جزءاً من قيمة ما يبيعونه كاثنين في المئة، لجهالة الأجرة، كما أن ما يأخذه هؤلاء الجباة بحجة كونهم من العاملين على الصدقات يعد كسباً خبيثاً غير مشروع؛ لأن المتبرع إنما يتصدق للفقراء والمساكين أوللمساجد ونحوها، لا إلى جيوب هؤلاء العاملين، فإذا أخذوا غير تكاليف السفر وحدها عدّ ذلك ظلماً وزوراً.

المبحث الثالث ـ صفة الإجارة وحكمها
صفة الإجارة: الإجارة عند الحنفية عقد لازم، إلا أنه يجوز فسخه بعذر كما عرفنا، لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] والفسخ بحسب الأصل ليس من الإيفاء بالعقد (1).
وقال جمهور العلماء: الإجارة عقد لازم لا ينفسخ إلا بما تنفسخ به العقود اللازمة من وجود العيب بها أو ذهاب محل استيفاء المنفعة، لقوله تعالى: {أوفوا
_________
(1) البدائع: 4 ص 201، المبسوط: 16 ص 2.

(5/3835)


بالعقود} [المائدة:1/ 5] ولأن
الإجارة عقد على منافع، فأشبه النكاح، ولأنه عقد على معاوضة، فلم ينفسخ كالبيع (1).
ويترتب على هذا الخلاف أن الحنفية يقولون: تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين: المستأجر أو المؤجر، لأنه لو بقي العقد تصير المنفعة التي ملكها المستأجر بالعقد أو الأجرة التي ملكها المؤجر مستحقة لغير العاقد بالعقد وهو لا يجوز؛ لأن الانتقال من المورث إلى الوارث لا يتصور في المنفعة أو الأجرة المملوكة، إذ عقد الإجارة ينعقد ساعة فساعة على المنافع. فلو قلنا بالانتقال كان قولاً بانتقال ما لم يملك المورث إلى الوارث؛ لأن ملكية العين انتقلت إلى الورثة، والمنافع تحدث على ملك الوارث، فلا يستحقها المستأجر، لأنه لم يعقد العقد مع الوارث (2). وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين؛ لأن الإيجار عقد لازم، وعقد معاوضة، فلا ينفسخ بموت العاقد كالبيع (3).
الخيارات في عقد الإجارة: يثبت خيار العيب في العين المؤجرة في إجارة العين، كانقطاع ماء بئر الأرض الزراعية، وتعطل عجلات السيارة، ولا يثبت خيار العيب في إجارة الذمة، وعلى المؤجر إذا تعيبت العين المؤجرة إحضار بدلها. ولا يثبت خيار المجلس ولا خيار الشرط في عقد الإجارة؛ لأن الإجارة من عقود الغرر، والخيار أيضاً غرر، فلا يضم غرر إلى غرر.
_________
(1) بداية المجتهد: 2 ص 227، مغني المحتاج: 2 ص 355، المغني لابن قدامة: 5 ص 409، 411، غاية المنتهى: 2 ص 209.
(2) تكملة فتح القدير وشرح العناية وحاشية سعدي جلبي: 7 ص 220، البدائع: 4 ص 222، تبيين الحقائق: 5 ص 144، مختصر الطحاوي: ص 128، رد المحتار: 5 ص 57.
(3) بداية المجتهد: 2ص 328، مغني المحتاج: 2 ص 356، المغني: 5 ص 428.

(5/3836)


حكم الإجارة:
حكم الإجارة الصحيحة: هو ثبوت الملك في المنفعة للمستأجر، وثبوت الملك في الأجرة المسماة للمؤجر، لأنها عقد معاوضة إذ هي بيع المنفعة (1).
وحكم الإجارة الفاسدة أنه إذا استوفى المستأجر المنفعة يجب أجر المثل، بحيث لا يجاوز به الأجر المسمى، أي أن الواجب عند الحنفية هو الأقل من أجر المثل ومن المسمى إذا كان فساد الإجارة بسبب شرط فاسد، لا باعتبار جهالة المسمى، ولا باعتبار عدم التسمية، فإنه في هاتين الحالتين يجب الأجر بالغاً ما بلغ (2).
وقال زفر ومالك والشافعي: يجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل بالغاً ما بلغ، كما في البيع، فإن البيع إذا فسد وجبت القيمة بالغة ما بلغت (3).
وسأتكلم عن كيفية ثبوت حكم الإجارة الصحيحة في المطلب التالي عند الكلام على نوعي الإجارة.

المبحث الرابع ـ نوعا الإجارة وأحكامها:
الإجارة نوعان: إجارة على المنافع، أي أن المعقود عليه هو المنفعة، وإجارة على الأعمال، أي أن المعقود عليه هو العمل.
_________
(1) البدائع: 4 ص 201.
(2) البدائع: 4 ص 195، تكملة فتح القدير مع العناية: 7 ص 174 وما بعدها، تبيين الحقائق: 5 ص 121، رد المحتار: 5 ص 31، درر الحكام: 2 ص 231. وسبب التفرقة بين البيع والإجارة في حالة الشرط الفاسد الممنوع: هو أن المبيع ذو قيمة في ذاته، فتجب قيمته حال فساد العقد أما المنافع فهي غير متقومة في ذاتها عند الحنفية، وإنما تصبح متقومة في ذاتها بالعقد فتجب القيمة في الإجارة الفاسدة بشرط عدم مجاوزة المتفق عليه بين العاقدين (البدائع: 4 ص 218).
(3) تكملة فتح القدير، المصدر السابق، مغني المحتاج: 2 ص 358.

(5/3837)


أحكام إجارة المنافع:
إجارة المنافع كإجارة الدور والمنازل والحوانيت والضياع، والدواب للركوب والحمل، والثياب والحلي للبس، والأواني والظروف للاستعمال.
ويجوز العقد على المنافع المباحة، أما المنافع المحرمة كما عرفنا فلا تجوز الإجارة عليها، لأنها محرمة، فلا يجوز أخذ العوض عليها كالميتة والدم، وذلك باتفاق العلماء.

وكيفية ثبوت حكم عقد الإجارة على المنافع عند الحنفية والمالكية: هو أنه يثبت شيئاً فشيئاً على حسب حدوث ووجود محل العقد وهو المنفعة؛ لأنها تحدث أو تستوفى شيئاً فشيئاً (1).
وقال الشافعية والحنابلة: يثبت حكم الإجارة في الحال، وتجعل مدة الإجارة موجودة تقديراً كأنها أعيان قائمة (2).
ويترتب على هذا الخلاف:
1 - أن الأجرة تثبت الملكية فيها بمجرد العقد إذا أطلق عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الإجارة عقد معاوضة، والمعاوضة إذا كانت مطلقة عن الشرط تقتضي الملك في العوضين عقب العقد، كما يملك البائع الثمن بالبيع.
وعند الحنفية والمالكية: لا تملك الأجرة بنفس العقد، وإنما تلزم جزءاً فجزءاً
_________
(1) البدائع: 4 ص 201، بداية المجتهد: 2 ص 226، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 4 ص 4، القوانين الفقهية: ص 275.
(2) المغني لابن قدامة: 5 ص 406، مغني المحتاج: 2 ص 334، المهذب: 1 ص 399، الميزان للشعراني: 2 ص 94، غاية المنتهى: 2 ص 116.

(5/3838)


بحسب ما يقبض من المنافع، فلا يستحق المؤجر المطالبة بها إلا تدريجياً يوماً فيوماً؛ لأن المعاوضة المطلقة عن الشرط إذا لم يثبت الملك فيها في أحد العوضين لا يثبت في العوض الآخر؛ لأن المساواة في العقود مطلوبة بين المتعاقدين.

متى تجب الأجرة وتملك عند الحنفية والمالكية؟ تجب الأجرة وتملك بأحد أمور ثلاثة:
أحدها: بأن يشترط تعجيلها في نفس العقد.
ثانيها: بتعجيلها من غير شرط؛ لأن تأخير التزام المستأجر بالأجرة ثبت حقاً له، فيملك إبطاله بالتعجيل، كما لو كان عليه دين مؤجل فعجله.
ثالثها: باستيفاء المعقود عليه وهو المنافع شيئاً فشيئاً، أو بالتمكين من الاستيفاء بتسليم العين المؤجرة إلى المستأجر، وتسليم المفتاح أيضاً؛ لأن المستأجر يملك حينئذ المعوض، فيملك المؤجر العوض في مقابلته تحقيقاً للمعاوضة المطلقة وتسوية بين العاقدين في حكم العقد.
وإذا تم الاتفاق بين العاقدين على أن الأجرة لا تجب إلا بعد انقضاء مدة الإجارة فهو جائز، إذ أنه يكون تأجيلاً للأجرة بمنزلة تأجيل الثمن.
وأما إذا لم يشترط في العقد شيء فلأبي حنيفة قولان: متقدم ومتأخر، فأما قوله المتقدم أولاً وهو قول زفر: فهو أن الأجرة لا تجب إلا في آخر مدة الإجارة؛ لأن منافع المدة أو المسافة من حيث إنها معقود عليها شيء واحد، فما لو يستوفها كلها لا يجب شيء من بدلها. وأما قول أبي حنيفة المتأخر وهو المشهور الذي استقر عليه، وقول الصاحبين: فهو أن الأجرة تجب حالاً فحالاً، كلما مضى يوم يسلم المستأجر أجرته؛ لأن الأجرة تملك على حسب ملك المنافع، وملك المنافع يحدث

(5/3839)


شيئاً فشيئاً على ممر الزمان، فتملك الأجرة شيئاً فشيئاً بحسب ما يقابلها (1).
وبما أن هذه القاعدة توجب تسليم الأجرة ساعة فساعة، وهو أمر متعذر، فتقدر الأجرة باليوم أو بالمرحلة استحساناً.
وأما بالنسبة لتأجيل الأجرة وتعجيلها عند الشافعية والحنابلة: فقد قرروا أنه إذا كانت الإجارة إجارة ذمة فيشترط فيها تسليم الأجرة في مجلس العقد؛ لأنها بمثابة رأس المال في عقد السلم كأن يقول المستأجر: أسلمت إليك عشر ليرات في جمل صفته كذا يحمل لي متاعي إلى جهة كذا، أو يقول: استأجرت منك بكذا .. إلخ، لأن تأخير الأجرة حينئذ من باب بيع الدين بالدين.
وإن كانت الإجارة إجارة عين: فإن كانت الأجرة فيها معينة مثل: استأجرتك لتخدمني سنة بهذا الجمل، فإنه لا يصح تأجيلها، وإن كانت الأجرة في الذمة كأن يقول: بجمل صفته كذا، فيجوز تأجيلها وتعجيلها وفي حالة الإطلاق يجب تعجيلها، كما في عقد البيع يصح بثمن حالّ أو مؤجل (2).

2 - ويترتب أيضاً على الخلاف السابق في كيفية وجوب الأجرة أنه يجب على المؤجر عند الحنفية والمالكية تسليم العين المستأجرة عقب العقد لتملك المستأجر منفعة العين المستأجرة، وليس له أن يحبسها عن المستأجر لاستيفاء الأجرة؛ لأن الأجرة لا تجب بمجرد العقد عندهم، فلا يستحق المطالبة بها إلا يوماً فيوماً؛ لأن المعقود عليه وهو المنافع لم يستوفها المستأجر، فكانت معدومة، فلا يجب عليه الأجر، وذلك بعكس البيع، فإن الثمن واجب الدفع عقيب العقد.
_________
(1) راجع البدائع: 4 ص 201 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 7 ص 152 وما بعدها، المبسوط: 15ص 108، تبيين الحقائق للزيلعي: 5 ص 109، القوانين الفقهية: ص 275، بداية المجتهد: 226/ 2.
(2) مغني المحتاج: 2 ص 334، المهذب: 1 ص 399، المغني: 5 ص 408.

(5/3840)


3 - ويترتب على الخلاف أيضاً أن الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل تجوز عند الحنفية والمالكية والحنابلة:
كأن يقول شخص لآخر: أجرتك هذه الدار رأس شهركذا، أو أجرتك هذه الدار سنة أولها غرة شهر رمضان، وكان العقد في رجب مثلاً؛ لأن عقد الإيجار ينعقد شيئاً فشيئاً على حسب حدوث المعقود عليه شيئاً فشيئاً، فكان العقد مضافاً إلى حين وجود المنفعة من طريق الدلالة الضمنية، وقد أجيزت الإضافة في الإجارة دون البيع
للضرورة (1). وترتب على مذهب الحنفية أن المؤجر لو باع الدار المؤجرة لا يصح في حق المستأجر، وإن لم يجئ الوقت الذي أضيف إليه عقد الإجارة.
واستدل الحنابلة على صحة هذا الحكم عندهم: بأن هذه المدة في المستقبل يجوز العقد عليها مع غيرها، فجاز العقد عليها مفردة، واشتراط القدرة على التسليم إنما يكون عند وجوب التسليم كالمسلم فيه.
وقال الشافعية: لا تصح إجارة عين لمنفعة مستقبلة كإجارة الدار السنة المستقبلة أو سنة أولها من الغد، ما لم تكن المدة متصلة بالعقد؛ لأن الإجارة بيع المنفعة، وطريق جوازها عندهم: أن تجعل منافع المدة موجودة تقديراً عقيب العقد، إذ لا بد من أن يكون محل حكم العقد موجوداً فجعلت المنافع كأنها أعيان قائمة بنفسها، وإضافة العقد إلى عين ستوجد لا تصح، كما في بيع الأعيان.
أما إجارة الذمة: فيصح تأجيل المنفعة فيها إلى أجل معلوم في المستقبل مثل: ألزمت ذمتك الحمل إلى مكة أول شهر كذا (2).
_________
(1) البدائع: 4 ص 203، تبيين الحقائق: 5 ص 148، حاشية ابن عابدين: 5 ص 4، بداية المجتهد: 2 ص 224، المغني: 5 ص 400، القوانين الفقهية: ص 276.
(2) مغني المحتاج: 2 ص 338، المهذب: 1 ص 396.

(5/3841)


وهناك أحكام أخرى لإجارة المنافع أبينها فيما يأتي:

كيفية الانتفاع بالعين المؤجرة: إذا استأجر شخص داراً أو حانوتاً ونحوهما من المنازل فله الانتفاع بها كيف شاء من السكنى بنفسه أو إسكان غيره بالإجارة أم بالإعارة، وله أن يضع فيه متاعه وغيره، غير أنه لا يسكن فيه حداداً ولا قصاراً ولا طحاناً ولا ما يضر البناء ويوهنه من آلات المعامل الحديثة. والدليل عليه أن الإجارة للانتفاع، والدور ونحوها معدة للانتفاع بها بالسكنى، والناس في العادة لا يتفاوتون في السكنى، فكانت أوجه الانتفاع معلومة من غير تسمية أو تعيين. وإنما لم يصح إسكان الحداد ونحوه؛ لأن مطلق العقد ينصرف إلى المتعارف بين الناس، وذوو الحرف يؤثِّرون على البناء بآلاتهم، مما قد يؤدي إلى إتلاف العين المؤجرة، والإجارة بيع المنفعة لا بيع العين.
وبما أن المستأجر ملك المنفعة فله أن ينتفع بها بنفسه أو بغيره بواسطة الإجارة أو الإعارة.

وأما في إجارة الأرض: فلا بد فيها من بيان ما تستأجر له من الزراعة والغرس والبناء وغيرها وإلا كانت الإجارة فاسدة، وكذلك إذا كانت الإجارة للزراعة فلا بد من بيان ما يزرع فيها، أو يجعل له أن يزرع فيها ما شاء، وإلا فسدت الإجارة؛ لأن منافع الأرض تختلف باختلاف البناء والزراعة والمزروعات، والزروع مختلفة التأثير في الأرض.
وفي إجارة الدواب: لا بد من بيان أحد الشيئين: المدة أو المكان فإن لم يبين أحدهما فسدت الإجارة، وكذلك لا بد من بيان ما تستأجر له الدابة من الحمل أو الركوب، لأنهما منفعتان مختلفتان. ولا بد أيضاً من بيان ما يحمل عليها ومن يركبها؛ لأن الحمل يتفاوت بتفاوت المحمول، والناس يتفاوتون في الركوب،

(5/3842)


فترك البيان يفضي إلى المنازعة وتكون الإجارة فاسدة، وحينئذ إذا استوفى المستأجر المنفعة بعقد فاسد، فيجب عليه أجر المثل بمقتضى القياس؛ لأنه استوفى المنفعة بحكم عقد فاسد، كما عرفنا في بيان حكم الإجارة، إلا أنه بمقتضى الاستحسان يجب الأجر المسمى؛ لأن المفسد وهو الجهالة التي تفضي إلى المنازعة قد زال، وبانعدام العلة المفسدة ينعدم الفساد (1).
إصلاح العين المستأجرة: قد تحتاج الدار المؤجر ة مثلاً في مدة الإيجار إلى بعض الإصلاحات كتطيين الجدران، وانسداد مجاري المياه، وتعطل الأدوات الصحية، فمن الملتزم بالإصلاح والترميم؟
قرر الحنفية أن المؤجر صاحب الدار هو الملزم وحده دون المستأجر بتطيين الجدران وإصلاح ميازيب الدار وما ينهدم ويسقط من بنائها، حتى تكون صالحة للانتفاع؛ لأن الدار ملك للمؤجر، وإصلاح الملك يكون على المالك، لكن لا يجبر على الإصلاح؛ لأن المالك لا يجبر على إصلاح ملكه، وإنما يثبت للمستأجر الخيار في فسخ الإجارة؛ لأن هذا الخلل يعتبر عيباً في المعقود عليه.
وكذلك على المؤجر إصلاح دلو الماء والبئر والبالوعة والمخرج، وإن امتلأ بفعل المستأجر، لكن لا يجبر عليه لما عرفنا.
وأما المستأجر: فيلزم برفع التراب الذي يحدث من كنسه إذا انقضت مدة الإجارة؛ لأن التراب حدث بفعله، فصار كتراب وضعه في الدار.
والقياس يقضي بأن المستأجر هو المطالب بنقل ما يمتلئ به المخرج والبالوعة، لأن الملء حدث بفعله، فيلزمه نقله كالكناسة والرماد، إلا أن الحنفية استحسنوا
_________
(1) راجع لكل ما ذكر تكملة فتح القدير: 7ص166 ومابعدها، البدائع: 4ص183، 207، تبيين الحقائق للزيلعي: 5 ص113 ومابعدها، رد المحتار على الدر المختار: 5 ص19، 55.

(5/3843)


وجعلوا نقله على صاحب الدار أخذاً بمقتضى العرف والعادة، إذ العادة بين الناس أن ما كان مغيباً في الأرض فنقله على صاحب الدار.
فإن أصلح المستأجر شيئاً مما ذكر متبرعاً به، ولا يحتسب له؛ لأنه أصلح ملك غيره بغير طلب منه ولا ولاية عليه، فإن فعل ذلك بطلب من المؤجر أو نائبه احتسب له (1).

التزامات المستأجر بعد انتهاء الإجارة:
إذا انتهت مدة الإيجار فعلى المستأجر بعض الالتزامات، وأهمها ما يأتي (2):
أولاً - يلتزم المستأجر بتسليم مفتاح الدار والحانوت إلى المؤجر بعد انتهاء المدة.
ثانياً ـ إذا استأجر شخص دابة من موضع معين في البلد ليركبها، أو يحمل عليها شيئاً إلى مكان معلوم غادياً ورائحاً، فإن على المستأجر أن يأتي بها إلى الموضع الذي قبضها منه؛ لا لأن الزاد واجب عليه بل لأجل المسافة التي تناولها العقد؛ لأن عقد الإجارة لا ينتهي إلا برد الدابة إلى موضعها، فإن ذهب بالدابة إلى منزله، فأمسكها حتى عطبت، ضمن قيمتها، لأنه تعدى في أخذها إلى غير موضع العقد.
فإن قال المستأجر: (أركبها من هذا الموضع إلى موضع كذا وأرجع إلى منزلي) فليس على المستأجر ردها إلى منزل المؤجر؛ لأنه لما عاد إلى منزله، فقد انقضت مدة الإجارة، فبقيت الدابة أمانة في يده، فلا يلزم بردها كالوديعة.
_________
(1) البدائع: 4 ص 208 ومابعدها.
(2) انظر البدائع: 4 ص 209.

(5/3844)


أما إذا استأجر الدابة ليركبها في حوائجه في بلد ما وقتاً معلوماً، فمضى الوقت، فليس على المستأجر تسليمها إلى صاحبها: بأن يذهب بها إلى منزله، وإنما على المؤجر أن يتسلمها من منزل المستأجر؛ لأن المنفعة التي حصل عليها المستأجر كانت مقابلة بعوض وهو الأجر المستحق للمؤجر فلم يكن على المستأجر الرد، فبقيت في يده أمانة كالوديعة، حتى إنه لو أمسكها أياماً فهلكت في يده، لم يضمن شيئاً. وهذا بخلاف المستعير والغاصب، فإنهما ملزمان برد الشيء على صاحبه؛ لأن المستعير ينتفع بالعارية بدون مقابل، والغاصب لا حق له في المغصوب.

أحكام الإجارة على الأعمال:
الإجارة على الأعمال: هي التي تعقد على عمل معلوم كبناء وخياطة قميص وحمل إلى موضع معين وصباغة ثوب وإصلاح حذاء ونحوه.

والأجير نوعان: أجير خاص وأجير مشترك.
ف الأجير الخاص أو أجير الوَحَد: هو الذي يعمل لشخص واحد مدة معلومة. وحكمه: أنه لا يجوز له العمل لغير مستأجره.
والأجير المشترك: هو الذي يعمل لعامة الناس كالصباغ والحداد والكواء ونحوهم. وحكمه: أنه يجوز له العمل لكافة الناس، وليس لمن استأجره أن يمنعه عن العمل لغيره (1).
ويلاحظ أن الظئر التي تستأجر للإرضاع هي بمنزلة الأجير الخاص، لا يجوز
_________
(1) البدائع: 4 ص 174، تكملة فتح القدير: 7 ص 200، تبيين الحقائق: 5 ص 133 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 336.

(5/3845)


لها أن ترضع صبياً آخر، فإن أرضعته مع الصبي الأول فقد أساءت وأثمت إن كانت أضرت بالصبي، ولها أجر على إرضاع الصبيين استحساناً؛ لأن المعقود عليه مطلق الإرضاع، وقد وجد. والقياس ألا يكون لها الأجر؛ لأن العقد وقع على عملها، فلا تستحق الأجر بعمل غيرها.
وعلى الظئر القيام بالرضاع، وبأمر الصبي مما يحتاج إليه من غسله وغسل ثيابه وطبخ طعامه، وعلى الأب نفقات الطعام، وما يحتاج إليه الصبي من الريحان والدهن ونحوهما. وأما ما ذكر في كتاب الأصل من أن على الظئر ما يعالج به الصبي من الريحان والدهن، فهو محمول على عادة أهل تلك البلاد في الماضي (1).

نوعا الإجارة عند الشافعية: الإجارة نوعان عند الشافعية: إجارة عين وإجارة ذمة.
أما إجارة العين: فهي الواردة على منفعة متعلقة بعين معينة، كهذه الدار، وهذه السيارة. ويشترط فيها ثلاثة شروط: أن تكون الأجرة معينة أو معلومة فلا تصح إجارة إحدى هاتين الدارين، وأن تكون العين المؤجرة مشاهدة من العاقدين، فلا تصح إجارة دار أو سيارة لم يرها العاقدان إلا إذا شاهداها قبل العقد بمدة لا تتغير فيها غالباً، وأن لا تضاف الإجارة للمستقبل، كإجارة داره الشهر المقبل أو العام القادم.
وأما إجارة الذمة: فهي الواردة على منفعة متعلقة بذمة المؤجر، كاستئجار دابة أو سيارة ذات أوصاف معينة لإيصاله إلى مكان معين، أو مدة معينة، أو القيام بعمل معين كبناء أو خياطة ونحو ذلك. ويشترط فيها شرطان:
_________
(1) البدائع: 4 ص 209، تبيين الحقائق: 5 ص 129.

(5/3846)


أن تكون الأجرة حالّة أي نقداً في مجلس العقد؛ لأن هذه الإجارة سَلَم في المنافع، فيشترط تسليم رأس مال السلم.
وأن تعين العين المستأجرة جنساً ونوعاً وصفة، كسيارة أو باخرة كبيرة أو صغيرة، حديثة أو قديمة.

المبحث الخامس ـ ضمان العين المستأجرة وضمان الأجير وسقوط أجره بهلاك العين:
الكلام هنا عن ضمان الأجير العين التي استؤجر عليها، وعن ضمان العين التي يستأجرها أحد الناس للانتفاع بها.
ضمان العين المستأجرة: تعتبر يد المستأجر على العين المستأجرة في إجارة المنافع يد أمانة، فلا يضمن ما يتلف بيده إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، ويتقيد في الانتفاع بمقتضى العقد وما شُرط فيه وما جرى به العرف.

ضمان الأجير: عرفنا أن الأجير نوعان: خاص وعام، ف الأجير الخاص (وهو الذي يستحق الأجر بتسليم نفسه في المدة، وإن لم يعمل) كالخادم في المنزل والأجير في المحل، اتفق أئمة المذاهب وهم (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) على أنه لا يكون ضامناً العين التي تسلم إليه للعمل فيها؛ لأن يده يد أمانة كالوكيل والمضارب، كما إذا استأجر إنسان خياطاً أو حداداً مدة يوم أو شهر ليعمل له وحده، فلا يضمن العين التي تهلك في يده، ما لم يحصل منه تعدٍ أو تقصير في حفظه، سواء تلف الشيء في يده أو أثناء عمله.
وأما الأجير المشترك وهو الذي يعمل لعامة الناس أو هو الذي يستحق الأجرة بالعمل لا بتسليم النفس كالصانع والصباغ والقصار ونحوهم فقد اختلفوا

(5/3847)


فيه: فقال أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد والحنابلة في الصحيح من مذهبهم، والشافعي في الصحيح من قوليه إلا أنه لم يكن يفتي به لفساد الناس: إن يده يد أمانة كالأجير الخاص، فلا يضمن ما تلف عنده إلا بالتعدي أو التقصير؛ لأن الأصل ألا يجب الضمان إلا بالاعتداء لقوله تعالى: {فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة:193/ 2] ولم يوجد التعدي من هذا الأجير، لأنه مأذون في القبض، والهلاك ليس هو سبباً فيه (1).
وقال الصاحبان وأحمد في رواية أخرى: يد الأجير المشترك يد ضمان، فهو ضامن لما يهلك في يده، ولو بغير تعد أو تقصير منه، إلا إذا حصل الهلاك بحريق غالب عام، أو غرق غالب ونحوهما، واستدلوا بفعل عمر وعليّ الآتي بيانه (2).
قال البغدادي عن بعض كتب الحنفية: وبقول الصاحبين يفتى اليوم لتغير أحوال الناس، وبه يحصل صيانة أموالهم (3).
وقال المالكية: يضمن الأجير المشترك الذي يؤثره الأعيان بصنع، ما تلف بيده ولو بغير تعد أو تقصير إذا كان الشيء مما يغاب عليه (أي يمكن إخفاؤه) فالقصار ضامن لما يتخرق بيده، والطباخ ضامن لما أفسد من طبيخه، والخباز ضامن
_________
(1) مختصر الطحاوي: ص129، الفتاوى الهندية: 4ص486، تبيين الحقائق: 5 ص 110، 134، البدائع: 4 ص 211، تكملة فتح القير: 7 ص 207، المبسوط للسرخسي: 15ص103، مجمع الضمانات: ص 27، الشرح الكبير: 4ص28، بداية المجتهد: 2ص230، مغني المحتاج: 2ص351، المهذب: 1ص408، المغني: 5ص479 ومابعدها 487، القوانين الفقهية: ص276، 336، رسائل ابن عابدين: 2ص178.
(2) البدائع: 4 ص 210، تكملة فتح القدير: 7 ص 201، مختصر الطحاوي: والمبسوط: المرجعان السابقان، مغني المحتاج: 2 ص 351، المهذب، المرجع السابق، المغني: 5 ص 487، القوانين الفقهية: المكان السابق، غاية المنتهى: 2 ص 213 وما بعدها.
(3) مجمع الضمانات: ص 27.

(5/3848)


لما أفسد من خبزه، والحمال يضمن ما يسقط من حمله عن رأسه، أو تلف أثناء عثرته، والجمال يضمن ما تلف بقيادته وسوقه وانقطاع حبله الذي يشد به بعيره، والملاح يضمن ما تلف من يده أو مما يعالج به السفينة (1). ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (2) وماروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يضمِّن الصباغ والصواغ ويقول: «لا يصلح الناس إلا هذا» وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضمِّن الأجير المشترك احتياطاً لأموال الناس (3)، ولأن الأجير المشترك قبض العين لمنفعته من غير استحقاق، فيضمن كالمستعير (4).
وكذلك عند الإمام مالك يضمن الأجير الطعام الذي يحمله إذا كانت تتوق النفس إلى تناوله سداً للذرائع.

ما يغيِّر الشيء من صفة الأمانة إلى صفة الضمان: إذا كان الشيء المأجور،
_________
(1) وفصل ابن جزي المالكي فقال: يضمن الصناع ما غابوا عليه أي أخفوه، سواء عمل بأجرة أو بغير أجرة، ولا يضمنون ما لم يغيبوا عليه، وهذا هو المعتمد لدى المالكية (الشرح الصغير: 47/ 4).
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الحاكم عن سمرة بن جندب، ورواه أيضاً الطبراني والحاكم وابن أبي شيبة (انظر جامع الأصول: 9 ص 110، نصب الراية: 4 ص 167، التلخيص الحبير: ص 253، المقاصد الحسنة: ص 290، نيل الأوطار: 5 ص 298، سبل السلام: 3 ص 67).
(3) حديث عمر أخرجه عبد الرزاق بسند منقطع عنه أن عمر ضمن الصناع. وأما حديث علي فرواه البيهقي من طريق الشافعي عن علي بسند ضعيف، قال الشافعي: هذا لا يثبت أهل الحديث مثله، ولفظه: أن علياً ضمن الغسال والصباغ، قال الشافعي: «لا يصلح الناس إلا ذلك» وروي عن عثمان من وجه أضعف من هذا، وروى البيهقي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان يضمن الصباغ والصائغ، وقال: «لا يصلح الناس إلا ذاك» (انظر التلخيص الحبير: ص 256، سنن البيهقي: 122/ 6، كنز العمال: 191/ 2 وما بعدها).
(4) بداية المجتهد: 2 ص 229، 230، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي: 4 ص 27 ومابعدها، المغني: 5 ص 479 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 336، الفروق للقرافي: 2 ص 207، 4 ص 11، 27.

(5/3849)


كثوب الصباغة والخياطة والمتاع المحمول في السفينة أو على الدابة، يعتبر أمانة في يد الأجير، فذلك بحسب الأصل العام عند أبي حنيفة ومن وافقه، وبناء عليه، قد تتغير صفة الأمانة إلى الضمان في الأحوال الآتية (1):

أولاً ـ ترك الحفظ: أي أن الأجير يهمل في حفظ المتاع، فيلتزم بضمانه؛ لأن الأجير لما قبض المأجور فقد التزم حفظه، وترك الحفظ موجب للضمان، كالوديع إذا ترك حفظ الوديعة حتى ضاعت.
ثانياً ـ الإتلاف والإفساد: إذا تعدى الأجير بأن تعمد الإتلاف أو بالغ في دق الثوب مثلاً، ضمن سواء أكان الأجير مشتركاً أم خاصاً.
وإن لم يكن الأجير متعدياً في الإفساد بأن أفسد الثوب خطأ بعمله من غير قصده: فإن كان الأجير خاصاً لم يضمن اتفاقاً، وإن كان مشتركاً كالقصار إذا دق الثوب فتخرق، أو ألقاه في المواد الكيماوية فاحترق، أو كالملاح إذا غرقت السفينة من عمله، أو الحمال إذا سقط على الأرض وفسد الحمل، أو الراعي المشترك إذا ساق الدواب، فضرب بعضها بعضاً في حال سوقه حتى هلك بعضها، ففي كل هذه الحالات يكون الهالك مضموناً عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن العمل المأذون فيه هو العمل المصلح لا المفسد؛ لأن العاقل لا يرضى بإفساد ماله ولا يلتزم الأجرة بمقابلة الفاسد، فيتقيد الأمر بما يصلح دلالة.
وقال الشافعية وزفر: لا يضمن الأجير في تلك الحالات ما لم يحصل منه تعدٍ أو تقصير في عمله؛ لأن عمله مأذون فيه في الجملة، وإذا لم يكن مأذوناً فيه
_________
(1) راجع البدائع: 4 ص 211، تكملة فتح القدير: 7 ص 201 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 130، تبيين الحقائق: 5 ص 135، رد المحتار: 5 ص 46، المبسوط: 15 ص 104، 161، ج 16 ص 9 ومابعدها، جامع الفصولين: 2 ص 172 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 28 ومابعدها.

(5/3850)


فلا يمكنه التحرز عن هذا الفساد؛ لأنه ليس في وسعه القيام بأصل مهمته إلا بحرج، والحرج منفي (1).

تلميذ الأجير المشترك: إذا تلف الشيء المأجور في الحالات السابقة بيد تلميذ (صانع) الأجير، فلا ضمان عليه، وإنما الضمان على معلمه، لأنه هو المسؤول أصالة، فكأنه فعل بنفسه.
وإذا وطئ التلميذ ثوباً في مهنة القصارة «أي المصبغة في عرفنا» فخرقه، يضمن لأن وطء الثوب غير مأذون فيه.
ولو وقع من يد التلميذ سراج فأحرق ثوباً من القصارة، فالضمان على المعلم، لا على التلميذ؛ لأن الذهاب والمجيء بالسراج عمل مأذون فيه فيكون المعلم هو المسؤول، كأنه فعل الفعل بنفسه.
وكذلك لو وقعت مدقة القصار من يد التلميذ على ثوب فخرقته، فالضمان على المعلم، لأن هذا من عمل القصار فيضاف الفعل إليه.
فإن كان الثوب الذي وقعت المدقة عليه وديعة فخرقته، فالضمان على الغلام، لأن المعلم يسأل عن عمل التلميذ فيما يملك تسليطه عليه واستعماله فيه، وهو مايتعلق بشؤون الصنعة فقط (2).

البزاغ والفصاد والختان (3): يلاحظ أن حكم هؤلاء بخلاف حكم الحالات
_________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 351، المبسوط، البدائع، تكملة فتح القدير: المراجع السابقة، مجمع الضمانات: ص 41 - 49.
(2) مجمع الضمانات للبغدادي: ص 43 - 45.
(3) البزاغ: هو البيطار، يقال: بزغ الحاجم: شق وشرط، وبزغ دمه: أساله. والفصاد: الذي يشق العرق ويسحب الدم، يقال: فصد المريض: شق عرقه، وافتصد العرق: شقه، والختان: هو الذي يختن الأولاد أي (المطهر).

(5/3851)


السابقة، فإذا كانوا يقومون بعمله، ثم سرى أثر العمل إلى تلف النفس والموت فلا ضمان عليه، لأنه ليس في وسعهم الاحتراز من ذلك (1).

ثالثاً ـ مخالفة المستأجر شرط المؤجر نصاً أو دلالة: المخالفة سبب لوجوب الضمان. وللمخالفة صور وهي إما في الجنس أو في القدر أو في الصفة، أو في المكان أو في الزمان، وتحصل المخالفة إما في استئجار الدواب وإما في استئجار الصناع.
أما استئجار الدواب: فإما أن يكون ضرر الدابة من جهة الخفة والثقل أو بسبب اختلاف الجنس (2).

آـ فإن كان ضرر الدابة من حيث قدر الخفة والثقل: فإن كان الشيء المحمول مثل المتفق عليه من المؤجر أو أخف فلا شيء على المستأجر بهلاك الدابة، لأن التعيين بشيء محمول لا فائدة فيه، وليس هناك مخالفة في المعنى في تحميل مثل الشيء أو دونه.
وإن كان الشيء المحمول أثقل من المتفق عليه: فإن كان بخلاف جنسه، بأن حمّل مكان الشعير الحنطة، فعطبت الدابة، فهوضامن قيمتها، ولا أجر عليه، لأنها هلكت بفعل غير مسموح به من المؤجر؛ لأن الأجر مع الضمان لا يجتمعان؛ إذ وجوب الضمان لصيرورته غاصباً، ولا أجرة على الغاصب (3).
وإن كان الشيء المحمول الذي هو أثقل: من جنس المتفق عليه بأن حمل أحد
_________
(1) تكملة فتح القدير: 7ص206، المبسوط: 15ص104، تبيين الحقائق: 5ص137، رد المحتار: 5ص47، مجمع الضمانات: ص47.
(2) انظر البدائع: 4ص213 ومابعدها، المبسوط: 15ص170 ومابعدها، تبيين الحقائق: 5ص118 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 7ص170 ومابعدها، ورد المحتار: 5ص25 ومابعدها.
(3) المبسوط: 15 ص 147.

(5/3852)


عشر رطلاً مثلاً مكان عشرة أرطال، فإذا سلمت الدابة، فعليه ما سمي من الأجرة، ولا ضمان عليه. وإن عطبت ضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمة الدابة وعليه الأجر الذي سمي؛ لأن الدابة ماتت بفعل مأذون فيه وغير مأذون فيه، فيقسم التلف على قدر ذلك أي أحد عشر جزءاً، ويضمن بقدر الزيادة.

ب ـ وإن كان ضرر الدابة لا من حيث الخفة والثقل، وإنما بسبب اختلاف الجنس: كأن يستأجر إنسان دابة ليحمل عليها قنطاراً من قطن فحمل عليها قنطاراً من حديد أو أقل، فتلفت الدابة، فيضمن قيمتها لأن ثقل القطن ينبسط على ظهر الدابة، وأما ثقل الحديد فيجتمع في موضع واحد، فيكون أنكى لظهر الدابة وأعقر لها، فلم يكن مأذوناً فيه فصار غاصباً، فيضمن، ولا أجرة لما عرفنا قريباً.
ويترتب عليه أنه لو استأجر إنسان دابة ليركبها بنفسه، فأركبها غيره ممن هو مثله في الثقل أو أخف منه ضمن قيمتها بالتلف؛ لأن المخالفة ههنا، لا من جهة الخفة والثقل، بل من حيث الحذق والعلم، فالناس يختلفون فيه اختلافاً واضحاً.
ولو استأجر دابة ليركبها بنفسه فأركب معه غيره فعطبت فهو ضامن لنصف قيمتها إذا كانت الدابة مما يمكن أن يركبها اثنان؛ لأن التلف حصل بركوبهما المشتمل على مأذون فيه وغير مأذون فيه، فإن كانت الدابة لا تطيق أن يركبها اثنان، فيضمن جميع قيمتها، لأنه أتلفها بإركاب غيره.
وإذا استأجر دابة بإكاف (أي برذعة) فنزعه منها، وأسرجها، فلا ضمان عليه، لأن ضرر السرج أقل من ضرر الإكاف، لأنه يأخذ من ظهر الدابة أقل مما يأخذ الإكاف.
وإن استأجر حماراً بسرج فأسرجه سرجاً آخر: فإن كان مثل السرج الأصلي الأول لا يضمن، إذ لا تفاوت بين السرجين في الضرر، وإن أسرجه بسرج الفرس يضمن؛ لأن ضرره أكثر بسبب كبره، فكان إتلافاً للدابة.

(5/3853)


ولو استأجر حماراً بسرج، فنزع منه السرج وأوكفه فعطب، ففي كتاب الأصل لمحمد: يضمن قدر ما زاد الإكاف على السرج. وفي كتاب الجامع الصغير ذكر محمد اختلافاً بين أئمة الحنفية فيه، ففي قول أبي حنيفة: يضمن كل القيمة؛ لأن الإكاف لا يخالف السرج في الثقل، وإنما يخالفه من وجه آخر: وهو أنه يأخذ من ظهر الدابة أكثر مما يأخذ السرج، والمخالفة إذا لم تكن بسبب الثقل توجب الضمان لجميع الشيء التالف.
وفي قول الصاحبين: يضمن بمقدار الزيادة؛ لأن الإكاف والسرج كل واحد منهما يركب به عادة، وإنما يختلفان بالثقل والخفة؛ لأن الإكاف أثقل، فيضمن بقدر الثقل.
ولو استأجر حماراً عرياناً فأسرجه، ثم ركب فعطب، كان ضامناً؛ لأن السرج أثقل على الدابة، وقيل: هذا إذا استأجره ليركبه في داخل مصر، وهو ممن يركب في المصر عادة بغير سرج، أما إذا استأجره ليركبه خارج المصر، أو هو من ذوي الهيئات لا يضمن؛ لأن الحمار لا يركب من بلد إلى بلد بغير سرج ولا إكاف، وذو الهيئة لا يركب عادة بغير سرج، فكان الإسراج مأذوناً فيه دلالة، فلا يضمن.

ج ـ وإن كانت المخالفة في المكان: كأن يستأجر دابة للركوب أو للحمل إلى مكان معلوم، فجاوز المكان، فيضمن كل القيمة (1).
د ـ وأما المخالفة في الزمان: كأن يستأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها مدة معلومة، فانتفع بها زيادة على المدة، فعطبت في يده، فيضمن القيمة أيضاً، لأنه صار غاصباً بالانتفاع بها فيما وراء المدة المحدودة.
_________
(1) مختصر الطحاوي: ص 128.

(5/3854)


وأما استئجار الصناع: كالحائك والخائط والصباغ ونحوهم (1):
ففي حالة المخالفة في الجنس كأن يسلّم إنسان ثوباً إلى صباغ ليصبغه لوناً معيناً فصبغه لوناً آخر: يكون صاحب الثوب بالخيار: إن شاء ضمن الصباغ قيمة الثوب، وإن شاء أخذ الثوب وأعطى الصباغ ما زاد الصبغ فيه. ومثله أن يسلم شخص خياطاً قماشاً ليخيطه قميصاً، فخاطه معطفاً مثلاً، فيكون صاحب القماش بالخيار بين أن يضمن الخياط قيمة القماش، أو أن يأخذ المخيط ويعطي أجر المثل.

هـ ـ وأما المخالفة في الصفة: كأن يسلم صباغاً ليصبغه بصبغ معين، فصبغه بصبغ آخر من جنس اللون المتفق عليه، فيكون صاحب الثوب أيضاً مخيراً بين تضمين قيمة الثوب أو أخذه وإعطاء أجر المثل.
وكذلك الخلاف في القدر مثل أن يسلم شخص غزلاً إلى حائك ينسجه بغلظ معين: ثخين أو رفيع، فخالف بالزيادة أو بالنقصان، يكون صاحب الثوب حال الزيادة مخيراً بين تضمين مثل الغزل، أو أن يأخذ الغزل ويعطي الأجر المسمى. وفي حال النقصان يوجد روايتان: رواية في كتاب الأصل: مفادها أن لصاحب الثوب أن يأخذه، ويعطي الحائك من الأجر بحسابه. ورواية أخرى: مفادها أن على صاحب الثوب أجر المثل. وأدلة كل ما سبق ذكره يمكن ملاحظتها، ويرجع إلى «البدائع» وغيرها من الكتب عند العجز عن إدراك المقصود.

سقوط أجر الأجير بهلاك العين في إجارة الأعمال:
عرفنا فيما سبق رأي الجمهور في صفة يد الأجير المشترك وهي أنها يد أمانة، فلا يضمن هلاك العين إلا بالتعدي أو بالتقصير.
_________
(1) انظر البدائع: 4 ص 216 وما بعدها، المبسوط: 15 ص 106، تكملة فتح القدير: 7 ص 170، مجمع الضمانات: ص 45 ومابعدها.

(5/3855)


وأما غير الجمهور وهم المالكية والصاحبان من الحنفية، فيرون أن يد الأجير المشترك هي يد ضمان، فيضمن الشيء التالف، ولو بغير تعد أو تقصير (1).
أما ضمان العين المستأجرة، فلا خلاف بين العلماء أن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، فلا يضمنها إن تلفت أو تعيبت بغير تفريط منه لأنه قبض العين لاستيفاء منفعة يستحقها منها، فكانت أمانة (2).

وبناء على الخلاف في صفة يد الأجير: هل تسقط الأجرة بهلاك العين في عقد إجارة الأعمال؟ قال الشافعية: إذا عمل الأجير في ملك المستأجر أو بحضرته وجبت له الأجرة، لأنه تحت يده، فكلما عمل شيئاً صار مسلّماً له. وإن كان العمل في يد الأجير لم يستحق الأجرة بهلاك الشيء في يده، لأنه لم يسلّم العمل (3).
وقال الحنابلة بنحو مذهب الشافعية: وهو أن الأجير لا أجر له فيما عمل في يده، لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر، فلم يستحق عوضه (4).
وقال الحنفية بنحوه أيضاً، ولكن يحتاج مذهبهم إلى شيء من التفصيل، فقالوا: إن العين التي يعمل فيها الأجير إما أن تكون في يد الأجير أو في المستأجر (5).
_________
(1) انظر الميزان للشعراني: 2 ص 95، المغني لابن قدامة: 5 ص 487.
(2) انظر المغني: 5 ص 488، البدائع: 4 ص 210، جامع الفصولين: 2 ص 163، القوانين الفقهية: ص 278، المهذب: 1 ص 408.
(3) المهذب: 1 ص 409.
(4) المغني: 5 ص 487.
(5) انظر البدائع: 4 ص 204 ومابعدها، تبيين الحقائق: 5 ص 109 ومابعدها، حاشية ابن عابدين والدر المختار: 5 ص 12.

(5/3856)


ف إن كانت العين في يد الأجير ففيه حالتان:
1 - إن كان لعمل الأجير أثر ظاهر في العين كالخياطة والصباغة والقصارة فيجب الأجر بتسليم الأثر المطلوب، فإن هلك الشيء قبل التسليم في يد الأجير سقط الأجر؛ لأن الأثر المعقود عليه وهو صيرورة القماش مثلاً مخيطاً لم يسلم، والبدل يقابل ذلك الأثر، فكان كالمبيع.
2 - وإن لم يكن لعمل الأجير أثر ظاهر في العين كالحمال والملاح فيجب الأجر بمجرد انتهاء العمل، وإن لم يسلم العين لصاحبها؛ لأن البدل يقابل نفس العمل، فإذا انتهت مدة الإجارة، فقد فرغ من العمل، وصار مسلِّماً للعين التي هي ملك صاحبها، فلا يسقط الأجر بالهلاك بعدئذ.

حبس العين لاستيفاء الأجرة: وبناء على اختلاف الحكم في الحالتين السابقتين قال الحنفية: إن كان للعمل أثر في العين المملوكة لصاحبها يجعل للأجير حق حبس العين، حتى يستوفي الأجر؛ لأن البدل مستحق بمقابلة الأثر المطلوب. وما لا أثر له لا يثبت فيه حق الحبس، إذ العمل المقعود عليه ليس في العين.
ولهذا قال الحنفية: إن الحمال إذا حبس المتاع الذي هو في يده ليستوفي الأجر فهلك يضمن؛ لأن العين أمانة في يده، فإذا حبس صار غاصباً، فيضمن.

وأما إذا كانت العين المعمول فيها في يد المستأجر: بأن يعمل الأجيرفي ملك المستأجر أو فيما في يده من فناء ملكه ونحوه، فيستحق الأجير أجرته بعد الفراغ من العمل إذا أكمله، وإن لم يكمله وعمل بعض العمل، فيستحق من الأجر بقدر ما أنجزه من العمل، ويصير المعمول مسلماً إلى صاحبه، ويملك المطالبة بقدره من المدة. فلو استأجر شخص رجلاً ليبني له بناء في داره أو فيما في يده كأن

(5/3857)


يستأجره لبناء حجرة في داره أو لبناء سقيفة أو إيوان أو لحفر بئر أو قناة أو نهر في ملكه أو فيما في يده، فعمل بعضه، فله أن يطالب بقدر العمل من الأجرة.
ولكن يجبر على إتمام العمل حتى إنه لو انهدم البناء أو انهارت البئر أو سقط الإيوان، فإن كان بعد الفراغ من العمل لم يسقط شيء من الأجرة، وإن كان قبل الفراغ من العمل يجب بقدر حصة العمل.
هذا بخلاف ما إذا كان العمل في غير ملك المستأجر أو في يده، فإن الأجرة حينئذ يتوقف وجوبها على تمام العمل، فما لم يسلم الأجير العمل لا يصير المستأجر قابضاً للمعقود عليه، ويسقط الأجر إذا فسد المعقود عليه أو هلك قبل التسليم.
وبناء عليه: إذا استأجر شخص إنساناً ليضرب له لبناً في ملكه أو فيما في يده فلا يستحق اللبّان الأجرة، ولا يصير المستأجر قابضاً حتى يجف اللبن وينصبه في قول أبي حنيفة؛ لأن ذلك من تمام هذا العمل. وفي قول الصاحبين: لا يستحق الأجرة حتى يشرجه (1)؛ لأن تمام العمل به، ويترتب على هذا الخلاف أنه لو تلف اللبن قبل نصبه في قول أبي حنيفة، وقبل التشريج في قول الصاحبين، فلا أجر له لأنه تلف قبل تمام العمل (2).
أما إذا كان ضرب اللبن في غير ملك المستأجر أو في غير يده، فلا يستحق الأجير الأجرة إلا بالتسليم إلى صاحب اللبن، والتسليم: هو أن يخلي الأجير بين اللبن وبين المستأجر، بعد نصبه عند أبي حنيفة، وبعد تشريجه عند الصاحبين؛ لأن اللبن لم يكن في يد المستأجر، حتى يصير العمل مسلماً إليه، فلا بد من التخلية بعد الفراغ من العمل.
_________
(1) شرَّج اللبن: نضد بعضه إلى بعض.
(2) المبسوط: 16 ص 58، تبيين الحقائق: 5 ص 110.

(5/3858)


ومثله إذا استأجر إنسان خياطاً ليخيط له في منزله قميصاً: فإن خاط بعضه لم يكن له أجر؛ لأن هذا العمل لا ينتفع ببعضه، فإذا فرغ منه، ثم تلف، فله الأجر، ولا ضمان عليه في قول أبي حنيفة؛ لأنه صار مسلماً للعمل لحصوله في ملك صاحبه. وفي قول الصاحبين: تكون العين مضمونة، فلا يبرأ عن ضمانها إلا بتسليمها إلى مالكها، فإن هلك الثوب فإن شاء ضمنه قيمته صحيحاً ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته مخيطاً وله الأجر.

المبحث السادس ـ اختلاف المتعاقدين في الإجارة إذا اختلف المتعاقدان في عقد الإجارة في مقدار البدل أو المبدل، وكانت الإجارة صحيحة فإما أن يحصل الاختلاف قبل استيفاء المنافع أو بعد استيفائها (1).
فإن اختلفا قبل استيفاء المنافع تحالفا أي حلَّف كل منهما الآخر، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادّا» (2).
وبما أن الإجارة نوع من البيع فيتناولها الحديث، وإذا تحالفا تفسخ الإجارة، وإذا نكل أحدهما عن اليمين لزمه ما ادعى به صاحبه.
_________
(1) راجع البدائع: 218/ 4 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 218/ 7، المبسوط: 10/ 16، رد المحتار على الدر المختار: 51/ 5.
(2) أخرجه أصحاب السنن الأربعة والشافعي من طرق بألفاظ منها «إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة، فالقول مايقول صاحب السلعة أو يترادان» وزاد ابن ماجه: «والمبيع قائم بعينه» وكذلك أحمد في رواية: «والسلعة كما هي» وقد صححه الحاكم وابن السكن (انظر نصب الراية: 5/ 4 ومابعدها، نيل الأوطار: 223/ 5) قال الشوكاني: والظاهر عدم الفرق بين بقاء المبيع وتلفه لعدم انتهاض الرواية المصرح فيها باشتراط بقاء المبيع للاحتجاج، والتراد مع التلف ممكن بأن يرجع كل واحد منهما بمثل المثلي وقيمة القيمي.

(5/3859)


وإن أقام كل منهما بينة على مدعاه: فإن كان الاختلاف في البدل فبينة المؤجر أولى؛ لأنها تثبت زيادة الأجرة، وإن كان الاختلاف في المبدل فبينة المستأجر أولى؛ لأنها تثبت زيادة المنفعة.
وإن كان اختلاف العاقدين بعد استيفاء المستأجر بعض المنفعة بأن سكن الدار المستأجرة بعض المدة، أو ركب الدابة المستأجرة بعض المسافة فالقول قول المستأجر فيما مضى مع يمينه، ويتحالفان وتفسخ الإجارة فيما بقي؛ لأن العقد على المنافع ساعة فساعة على حسب حدوثها شيئاً فشيئاً، فكان كل جزء من أجزاء المنفعة مقعوداً عليه عقداً مبتدءاً، فيجعل ما بقي من المدة والمسافة منفرداً بالعقد، فيتحالفان فيه.
وإن كان اختلافهما بعد انتهاء مدة الإجارة أو بعد بلوغ المسافة التي تم العقد عليها لا يتحالفان، والقول قول المستأجر في مقدار البدل مع يمينه، ولا يمين على المؤجر؛ لأن التحالف يؤدي إلى فسخ الإجارة، والمنافع غير الموجودة لا تحتمل فسخ العقد، فلا يثبت التحالف.
وإن اختلف الخياط وصاحب الثوب، فقال صاحب الثوب: أمرتك أن تعمله قَبَاء (1) وقال الخياط: أمرتني أن أعمله قميصاً، أو قال صاحب الثوب للصباغ: أمرتك أن تصبغه بلون أحمر، فصبغته بلون أصفر، وقال الصباغ: لا، بل أمرتني بلون أصفر، فالقول قول صاحب الثوب مع يمينه. وهذا هو القول الأظهر في مذهب الشافعية (2)؛ لأن أصل الإذن صادر من المالك، فلو أنكر الإذن مطلقاً كان القول قوله، فكذا إذا أنكر صفة الإذن.
_________
(1) ثوب يلبس فوق الثياب.
(2) مغني المحتاج: 354/ 2.

(5/3860)


وإذا حلف المالك في هذه الحالة يكون الخياط ضامناً، أي أن المالك بالخيار: إن شاء ضمن الخياط، وإن شاء أخذ الثوب وأعطى الخياط أجر المثل، والخيار ثابت أيضاً للصباغ.
وإذا اختلف مالك الثوب مع الصانع في وجود الأجرة، فقال صاحب الثوب: عملته لي بغير أجر، وقال الصانع: بأجر، فالقول قول صاحب الثوب عند أبي حنيفة؛ لأنه ينكر تقوم عمله؛ لأن تقومه بالعقد، وينكر الضمان، والصانع يدعيه، والقول قول المنكر.
وقال أبو يوسف: إن تكررت تلك المعاملة بينهما بأجر، فللصانع الأجر وإلا فلا؛ لأن ما سبق بينهما يعين جهة الطلب بأجر، جرياً على المعتاد بينهما.
وقال محمد: إن كان الصانع معروفاً بهذه الصنعة بالأجر، فالقول قوله؛ لأنه لما فتح الحانوت لأجل أخذ الأجور جرى فعله مجرى التنصيص على الأجر، أخذاً بظاهر الأمور، قال المرغيناني في الهداية ما معناه: والقياس ما قاله أبو حنيفة، لأن المالك منكر.
والجواب عن استحسان الصاحبين: أن ظاهر الحال يتمسك به لدفع الحق لا للاستحقاق، والمطلوب هنا إثبات الاستحقاق (1)، وهو لا يكفي في إثباته مجرد التمسك بظاهر الحال أو القرينة، بل لا بد من حجة أقوى كالبينة والإقرار.
وقال الشافعية: إذا كان الاختلاف بين المؤجر والمستأجر في دعوى التلف أو التعيب، فالقول قول المستأجر، لأنه أمين، فيصدق بيمينه. وإن كان الاختلاف في دعوى الرد، بأن ادعى المستأجر أنه رد العين المستأجرة إلى المؤجر، وأنكر المؤجر ذلك، فالقول قول المؤجر بيمينه؛ لأن الأصل عدم الرد، والقول قول المنكر بيمينه.
_________
(1) الهداية: 201/ 3.

(5/3861)


المبحث السابع ـ انتهاء عقد الإجارة 1 - تنتهي الإجارة عند الحنفية كما عرفنا في مبحث صفة الإجارة بموت أحد المتعاقدين؛ لأن الإرث يجري في الموجود المملوك، وبما أن المنافع في الإجارة تحدث شيئاً فشيئاً، فتكون عند موت المورث معدومة، فلا تكون مملوكة له، وما لم يملكه يستحيل توريثه فيحتاج عقد الإجارة للتجديد مع الوارث، حتى يكون العقد قائماً مع المالك. ولو مات الوكيل بالعقد لا تبطل الإجارة؛ لأن العقد لم يقع له، وإنما هو عاقد، ولو ماتت الظئر أو الصبي انتقضت الإجارة لأن كل واحد منهما معقود له.
وقال الجمهور: لا ينفسخ عقد الإيجار بموت أحد المتعاقدين؛ لأنه عقد لازم كالبيع، أي أن المستأجر ملك المنافع بالعقد دفعة واحدة ملكاً لازماً فيورث عنه، ولكن تنفسخ الإجارة بموت الظئر أو الصبي لفوات المنفعة بهلاك محلها وهو الظئر، ولتعذر استيفاء المعقود عليه؛ لأنه لا يمكن إقامة غير هذا الصبي مقامه (1).

2 - تنتهي الإجارة أيضاً بالإقالة؛ لأن الإجارة معاوضة مال بمال، فكانت محتملة للإقالة كالبيع.
3 - الإجارة تنقضي بهلاك العين المؤجرة المعينة كالدارأو الدابة المعينة وهلاك المؤجر عليه كالثوب المؤجر للخياطة أو للقصارة لوقوع اليأس عن استيفاء المعقود عليه بعد هلاكه، فلم يكن في بقاء العقد فائدة. فإن كانت الإجارة على دواب بغير أعيانها للحمل أو الركوب، فتسلم المستأجر الدواب، فهلكت لاتبطل الإجارة، وعلى المؤجر أن يأتي بغيرها لتحمل المتاع وليس له أن يفسخ العقد؛ لأن الإجارة
_________
(1) بداية المجتهد: 227/ 2، الشرح الكبير للدردير: 30/ 4، المهذب: 406/ 1، المغني: 456/ 5، القوانين الفقهية: ص 278.

(5/3862)


وقعت على منافع في الذمة، ولم يعجز المؤجر عن وفاء ما التزمه بالعقد، وهو حمل المتاع إلى موضع كذا، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة (1).
وقال الزيلعي أخذاً برأي الإمام محمد بن الحسن: والأصح أن الإجارة لا تنفسخ في هذ هـ الحالة؛ لأن المنافع قد فاتت على وجه يتصور عودها، وساحة الدار بعد انهدام البناء يتأتى فيها السكنى بنصب فسطاط (خيمة) ونحوها. ويظهر أن هذا الرأي عند الحنفية هو الأصح، أي أن الإجارة لا تنفسخ بالقوة القاهرة، كانهدام الدار كلها، بدليل ما قاله صاحب الدر المختار وأيده ابن عابدين: لو خربت الدار، سقط كل الأجر، ولا تنفسخ به ما لم يفسخها المستأجر، هو الأصح. وأضاف ابن عابدين: وبانهدام الدار كلها للمستأجر الفسخ بغيبة المؤجر، ولا تنفسخ ما لم يفسخ هو الصحيح، لصلاحيتها لنصب الفسطاط.

4 - تنتهي الإجارة بانقضاء المدة إلا لعذر؛ لأن الثابت إلى غاية ينتهي عند وجود الغاية، فتنفسخ الإجارة بانتهاء المدة إلا إذا كان هناك عذر بأن انقضت المدة، وفي الأرض زرع لم يستحصد، فإنه يترك إلى أن يستحصد بأجر المثل (2). وانتهاء الإيجار بانقضاء المدة في الجملة محل اتفاق بين الفقهاء.
_________
(1) البدائع: 196/ 4، 223، تبيين الحقائق: 144/ 5، تكملة فتح القدير: 220/ 7، الدر المختار ورد المحتار:30/ 5، 53، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 84، بداية المجتهد: 228/ 2، الشرح الكبير: 29/ 4، القوانين الفقهية: ص277، مغني المحتاج: 357/ 2، المهذب: 405/ 1، المغني: 415/ 5، 421، 434، غاية المنتهى: 210/ 2.
(2) البدائع، المرجع السابق، غاية المنتهى: 218/ 2.

(5/3863)