الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الخامِسُ: الشَّرِكَات ويتضمن
مبحثين ـ الأول: شركات الأموال، والثاني ـ شركة المضاربة
المبحث الأول ـ شركات الأموال:
تمهيد في تعريف الشركة ومشروعيتها:
الشركة لغة: هي الاختلاط أي خلط أحد
المالين بالآخر بحيث لا يمتازان عن بعضهما. ثم أطلقت عند الجمهور على العقد
الخاص بها، وإن لم يوجد اختلاط النصيبين؛ لأن العقد سبب الخلط (1).
واختلفت عبارات الفقهاء في تعريف الشركة اصطلاحاً، فقال المالكية: هي إذن
في التصرف لهما مع أنفسهما أي أن يأذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في أن
يتصرف في مال لهما مع إبقاء حق التصرف لكل منهما (2).
وقال الحنابلة: الشركة: هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف (3).
_________
(1) فتح القدير مع العناية: 2/ 5، تبيين الحقائق للزيلعي: 312/ 3.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 348/ 3.
(3) المغني: 1/ 5.
(5/3875)
وقال الشافعية: الشركة: ثبوت الحق في شيء
لاثنين فأكثر على جهة الشيوع (1).
وقال الحنفية: الشركة: عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح
(2). وهو أولى التعاريف لأنه يعبر عن حقيقة الشركة في أنها عقد، أما
التعاريف الأخرى فهي بالنظر إلى هدف الشركة وأثرها أو النتيجة المترتبة
عليها.
مشروعية الشركة: ثبتت مشروعية الشركة
بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فهم شركاء في الثلث} [النساء:12/ 4] وقوله
سبحانه: {وإنَّ كثيراً من الخُلَطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات، وقليل ما هم} [ص:24/ 38] والخلطاء: هم الشركاء.
وأما السنة: ففي الحديث القدسي فيما يروى عن أبي هريرة رفعه إلى النبي صلّى
الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يقول: «أنا ثالث الشريكين ما لم يخن
أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما» رواه أبو داود والحاكم وصحح
إسناده (3) والمعنى: أنا معهما بالحفظ والإعانة، أمدهما بالمعونة في
أموالهما وأنزل البركة في تجارتهما، فإذا وقعت بينهما الخيانة رفعت البركة
والإعانة عنهما.
وقد بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والناس يتعاملون بالشركة فأقرهم
عليها، كما
_________
(1) مغني المحتاج: 211/ 2، حاشية قليوبي وعميرة: 332/ 2.
(2) رد المحتار: 364/ 3.
(3) وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حبان وقد ذكره ابن حبان في
الثقات، وسكت أبو داود والمنذري عن هذا الحديث، وأخرج نحوه أبو القاسم
الأصبهاني في الترغيب والترهيب عن حكيم بن حزام (انظر جامع الأصول: 108/ 6،
نيل الأوطار: 264/ 5).
(5/3876)
ثبت في أحاديث كثيرة (1) وقال عليه الصلاة
والسلام: «يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا» (2).
والمسلمون أجمعوا على جواز الشركة في الجملة، وإنما اختلفوا في أنواع منها
(3)، ولذا سيكون الكلام عن الشركة بأنواعها.
وحكمة مشروعيتها: تمكين الناس من
التعاون في استثمار أموالهم وتنميتها وإقامة المشاريع الكبرى الصناعية
والتجارية والزراعية التي يتعذر على الواحد الاستقلال بالقيام بها.
أقسام الشركة: الشركة قسمان: شركة
أملاك، وهي الشركات الإجبارية في القوانين الوضعية، وشركة عقود، وهي
الشركات الاختيارية في القوانين.
شركة الأملاك: هي أن يتملك شخصان فأكثر
عيناً من غير عقد الشركة، وهي نوعان (4):
1 - شركة اختيار: وهي التي تنشأ بفعل
الشريكين، مثل أن يشتريا شيئاً أو يوهب لهما شيء أو يوصى لهما بشيء،
فيقبلا، فيصير المشترى والموهوب والموصى به مشتركاً بينهما شركة ملك.
2 - شركة جبر: وهي التي تثبت لشخصين
فأكثر بغير فعلهما، كأن يرث اثنان شيئاً، فيكون الموروث مشتركاً بينهما
شركة ملك.
_________
(1) انظر نصب الراية للحافظ الزيلعي: 474/ 3،جامع الأصول، المرجع السابق،
التلخيص الحبير: ص251.
(2) ذكره ابن قدامة في المغني: 1/ 5.
(3) المغني، المرجع السابق.
(4) البدائع: 56/ 6، فتح القدير: 3/ 5، رد المحتار: 364/ 3 ومابعدها، مجمع
الضمانات: ص284.
(5/3877)
وحكم هذه الشركة بنوعيها: هو أن كل واحد من
الشريكين كأنه أجنبي في نصيب صاحبه، فلا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه، إذ
لا ولاية لأحدهما في نصيب الآخر (1).
شركة العقود: هي عبارة عن العقد الواقع
بين اثنين فأكثر للاشتراك في مال وربحه (2)، وهو تعريف الحنفية السابق. وهي
أنواع خمسة عند الحنابلة: شركة العنان، وشركة المفاوضة، وشركة الأبدان،
وشركة الوجوه، والمضاربة. وقسمها الحنفية إلى ستة أنواع: وهي شركة الأموال،
وشركة الأعمال، وشركة الوجوه. وكل نوع من هذه الأنواع إما مفاوضة وإما عنان
(3). وفي الجملة فإن الشركة عند فقهاء الأمصار ومنهم المالكية والشافعية
أربعة أنواع: شركة العنان، وشركة المفاوضة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه
(4).
واتفق العلماء على أن شركة العنان جائزة صحيحة. وأما الأنواع الأخرى فقد
اختلفوا في مشروعيتها:
فالشافعية والظاهرية والإمامية يجعلون كل الشركات باطلة ما عدا شركة العنان
وشركة المضاربة.
والحنابلة أجازوا كل الشركات ما عدا شركة المفاوضة.
والمالكية أجازوا كل الشركات ما عدا شركة الوجوه، وماعدا شركة المفاوضة
بالمعنى المذكور عند الحنفية.
_________
(1) البدائع: 65/ 6، المبسوط: 151/ 11، تبيين الحقائق: 312/ 3.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة: 83/ 3. أما الاشتراك في الربح دون الاشتراك
في رأس المال فهو شركة المضاربة التي سيأتي بحثها.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي: 313/ 3.
(4) بداية المجتهد: 248/ 2، مغني المحتاج: 212/ 2.
(5/3878)
وأما الحنفية والزيدية فأجازوا كل هذه
الشركات دون استثناء إذا توافرت شروط معينة. وسأبحث شركة العقود وفقاً
لمنهج الحنفية في التقسيم، في المطالب الآتية. وأما شركة المضاربة فأخصص
مبحثاً مستقلاً لها.
خطة الموضوع:
المطلب الأول ـ كيفية انعقاد شركات العقود.
المطلب الثاني ـ شرائط شركة العقود.
المطلب الثالث ـ أحكام شركة العقود.
المطلب الرابع ـ صفة عقد الشركة ويد الشريك.
المطلب الخامس ـ مبطلات عقد الشركة.
المطلب السادس ـ الشركة الفاسدة.
المطلب الأول ـ كيفية انعقاد شركات العقود ركن شركة العقود عند الحنفية:
الإيجاب والقبول: وهو أن يقول أحد الشريكين للآخر: شاركتك في كذا وكذا،
ويقول الآخر: قبلت وهي ثلاثة أنواع: شركة أموال، وشركة وجوه، وشركة أعمال
أو صنايع (1). وسأذكر تعاريف كل نوع منها.
وأركان الشركة عند الجمهور ثلاثة: عاقدان ومعقود عليه وصيغة.
_________
(1) فتح القدير: 4/ 5 ومابعدها، البدائع: 56/ 6، رد المحتار: 368/ 3، مجمع
الضمانات: ص297.
(5/3879)
أولاً ـ تعريف شركة الأموال: وهي أن يشترك
اثنان في مال، فيقولا: اشتركنا فيه على أن نبيع ونشتري معاً، أو أطلقا (أي
لم يحددا البيع أو الشراء)، على أن ما رزق الله عز وجل من ربح فهو بيننا
على شرط كذا، أو يقول أحدهما ذلك، ويقول الآخر: قبلت. وهي إما مفاوضة أو
عنان.
1 - شركة العنان (1): وهي أن يشترك
اثنان في مال لهما على أن يتجرا فيه والربح بينهما (2)، وهي جائزة بالإجماع
كما ذكر ابن المنذر (3).
وإنما اختلف في بعض شروطها، كما اختلف في علة تسميتها، فقيل: سميت بالعنان؛
لأن الأصل في الشريكين أن يتساويا في المال والتصرف، كالفارسين إذا سوَّيا
بين فرسيهما وتساويا في السير، فإن عناني فرسيهما يكونان سواء. وشركة
العنان: اتفاق الرجلين على الاشتراك في شيء معلوم من مالهما، وانفراد كل
بباقي ماله، فهما متساويان فيما يشتركان فيه. وقال الفراء: هي مشتقة من
عَنَّ الشيء: إذا عرض، يقال: عنَّت لي حاجة: إذا عرضت، فسميت الشركة
عناناً؛ لأن كل واحد منهما عنَّ له أن يشارك صاحبه، أو أنها تقع على حسب ما
يعن لهما في كل التجارات أو في بعضها.
قال السبكي: المشهور أنها مأخوذة من
_________
(1) العنان بكسر العين وتفتح.
(2) أي والخسارة عليهما أيضاً، فالشركاء يشتركون في الربح والخسارة، ولا
يصح إعفاء أحد الشركاء من تحمل الخسارة مع مقاسمته في الربح، وهذا المبدأ
مقرر شرعاً وقانوناً.
(3) معنى شركة العنان هذا متفق عليه بين الحنفية والشافعية والزيدية
والجعفرية والظاهرية والحنابلة في أحد قولين عندهم، فلا تنشأ الشركة إلا
بالتصرف برأس المال بالشراء. وقال المالكية وفي قول راجح عند الحنابلة:
تنعقد شركة المال بمجرد انعقاد العقد بين الشركاء. هذا هو المقرر قانوناً.
(الشركات في الفقه الإسلامي للأستاذ علي الخفيف: 23 - 35، 48).
(5/3880)
عنان الدابة وهو ما تقاد به، كأن كل واحد
من الشريكين أخذ بعنان صاحبه، لا يطلقه يتصرف حيث شاء (1).
وهذا النوع من الشركات هو السائد بين الناس (2)؛ لأن شركة العنان لا يشترط
فيها المساواة لا في المال ولافي التصرف، فيجوز أن يكون مال أحد الشريكين
أكثر من الآخر، كما يجوز أن يكون أحدهما مسؤولاً عن الشركة والآخر غير
مسؤول، وهي من أجله ليس فيها كفالة، فلا يطالب أحدهما إلا بما عقده بنفسه
من التصرفات، أما تصرفات شريكه فهوغير مسؤول عنها، ويجوز مع ذلك أن يتساويا
في الربح أو يختلفا، فيوزع الربح بينهما حسب الشرط الذي اتفقا عليه، أما
الخسارة فتكون بنسبة رأس المال فحسب، عملاً بقاعدة: «الربح على ما شرطا،
والوضيعة على قدر المالين».
2 - شركة المفاوضة: المفاوضة في اللغة.
وسمي هذا النوع من الشركة مفاوضة لا عتبار المساواة في رأس المال والربح
وفي القدرة على التصرف وغيرها، قال في الهداية: لأنها شركة عامة في جميع
التجارات، يفوض كل واحد من الشريكين أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق.
وقيل: هي من التفويض؛ لأن كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه على كل حال
في غيبته وحضوره. وقال المالكية والشافعية: سميت مفاوضة من تفاوض الرجلان
في الحديث: شرعا فيه جميعاً.
_________
(1) مختصر الطحاوي: ص 107، المبسوط: 151/ 11، فتح القدير: 20/ 5، البدائع:
57/ 6، رد المحتار: 373/ 3، الشرح الكبير: 359/ 3، المغني: 13/ 5، مغني
المحتاج: 212/ 2.
(2) يختلف معنى شركة العنان بين الحنفية والمالكية، فعند الحنفية تتضمن هذه
الشركة توكيل كل شريك لصاحبه في التصرف، وذلك ما يجعل له حق الاستقلال به
إذا أراد. أما عند المالكية فلا تتضمن ذلك، ولا يملك أحد الشركاء أن يتصرف
منفرداً إلا بإذن صاحبه، وفي هذه الحالة تكون الشركة شركة أملاك عند
الحنفية وإذا كان الشريك مطلق التصرف في رأس المال مستقلاً بدون إذن صاحبه
فالشركة مفاوضة عند المالكية (راجع الشركات في الفقه الإسلامي للأستاذ علي
الخفيف).
(5/3881)
وهي في الاصطلاح: أن يتعاقد اثنان فأكثر
على أن يشتركا في عمل بشرط أن يكونا متساويين في رأس مالهما وتصرفهما
ودينهما أي (ملتهما)، ويكون كل واحد منهما كفيلاً عن الآخر فيما يجب عليه
من شراء وبيع، أي أن كل شريك ملزم بما ألزم شريكه الآخر من حقوق ما يتجران
فيه، وما يجب لكل واحد منهما يجب للآخر، أي أنهما متضامنان في الحقوق
والواجبات المتعلقة بما يتاجران فيه، ويكون كل واحد منهما فيما يجب لصاحبه
بمنزلة الوكيل له، وفيما يجب عليه بمنزلة الكفيل عنه.
فهما يتساويان في رأس المال وفي الربح، فلا يصح أن يكون أحدهما أكثر مالاً
من الآخر، كأن يملك أحدهما ألف دينار والآخر خمس مئة، ولو لم يكن المبلغ
مستعملاً في التجارة، أي أنه لا يجوز أن يبقيا شيئاً من جنس مال الشركة إلا
ويدخلانه في الشركة. ويشترط التساوي في التصرف فلا تصح بين صبي وبالغ، ولا
بين مسلم وكافر (1)، ولا يصح أن يكون تصرف أحدهما أكثر من تصرف الآخر. فإذا
تحققت المساواة الكاملة انعقدت الشركة، وكان كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه
وكفيلاً عنه يطالب بما يعقده صاحبه، ويسأل عن جميع تصرفاته. فإذا اختل شرط
من هذه الشروط، أو تملك أحد الشريكين مالاً يصلح أن يكون رأس مال لشركة
العقد، تحولت الشركة إلى شركة عنان، لعدم تحقق المساواة (2).
وعلى هذا فإن هذه الشركة تتطلب الاشتراك بين الشريكين في كل ما لهما من
الحقوق كإرث نقدي وركاز ولقطة، وما عليهما من الواجبات التي يلتزم بها كل
_________
(1) أجاز أبو يوسف هذه الشركة مع اختلاف الملة مع الكراهة (الدر المختار:
369/ 3).
(2) يلاحظ أنه لا يشارك أحد المتفاوضين صاحبه فيما يرث من ميراث عيني ولا
جائزة يمنحها الحاكم له أو هبة أو هدية إلا عند ابن أبي ليلى.
(5/3882)
واحد من دين بسبب التجارة واستقراض وضمان
غصب وقيمة متلف وأرش (1) جناية على الدابة أو الثوب مثلاً ونحوها من مغارم
الأموال (2) في قول أبي حنيفة ومحمد (3).
وبعبارة أخرى: تنعقد شركة المفاوضة على أساس الاشتراك فيما يملكه كل شريك
من مال يصح أن يكون رأس مال للشركة وهو النقود الحاضرة، مع تساوي جميع
الشركاء في الربح وفي رأس المال، وعلى أن يعمل كل شريك في مال صاحبه
مستبداً برأيه.
فإذا اختص أحد الشركاء فيها بملك مال يصلح أن يكون رأس مال لشركة العقد
كالنقود لا تكون شركة مفاوضة، وإن عقدت بلفظها، لانعدام المساواة في المال،
ولكن إذا اختص أحدهم بملك عَرْض أو دين على إنسان، أو بملك عقار لم يؤثر
المملوك في صحتها؛ لأن كل ذلك لا يصلح أن تعقد عليه الشركة، فكان كاختصاص
الشريك فيها بالزوجة (4). فإذا استحق الشريك مالاً من إرث ونحوه، تفسد
المفاوضة إذا كان المال نقوداً دراهم أو دنانير وتم قبضه فعلاً، أما إذا
قبض عروضاً أو عقاراً فلا تفسد المفاوضة.
وقد أجاز الحنفية والزيدية هذه الشركة لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا
_________
(1) الأرش: هو العوض المحدد شرعاً لما دون النفس بسبب الجناية على عضو
مثلاً.
(2) لأن الجاني يملك المجني عليه بالضمان (رد المحتار: 371/ 3).
(3) المبسوط: 153/ 11، 177، 189، فتح القدير: 5/ 5 ومابعدها، البدائع: 58/
6، تبيين الحقائق: 313/ 3، مجمع الضمانات: 294، رد المحتار: 369/ 3، 372،
مختصر الطحاوي: ص 106، بداية المجتهد: 251/ 2، الشرح الكبير: 351/ 3، مغني
المحتاج: 212/ 2، المهذب: 346/ 1، المغني: 26/ 5، الفقه على المذاهب
الأربعة: 89/ 3، الميزان: 82/ 1، المنتزع المختار: 354/ 3.
(4) حاشية الشلبي علي الزيلعي: 314/ 3، الشركات للأستاذ الخفيف: ص 58 وما
بعدها.
(5/3883)
تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة»، «فاوضوا فإنه
أعظم للبركة» (1) ولأن الناس يتعاملون بها في سائر الأعصار من غير نكير من
أحد. وأما الجهالة الحاصلة فيها وهي أنها تتضمن الوكالة بشراء مجهول الجنس،
والكفالة بمجهول، فإنها متحملة، لأنها تثبت تبعاً، والتصرف قد يصح تبعاً
ولا يصح مقصوداً، كما هو الحال في المضاربة، فإنها تتضمن الوكالة بشراء
مجهول الجنس.
وأما المالكية: فأجازوا شركة المفاوضة بغير هذا المعنى الذي ذكره الحنفية:
وهو أن تعقد الشركة على أن يكون كل شريك مطلق التصرف في رأس المال
استقلالاً، دون حاجة إلى أخذ رأي شركائه، حاضرين أم غائبين، بيعاً وشراء
وأخذاً وعطاء وكراء واستكراء، وضماناً وتوكيلاً وكفالة وقراضاً وتبرعاً
وغيرها مما تحتاج إليه التجارة من تصرف. ويلزم كل شريك بكل ما يعمله شريكه.
ولا تكون إلا فيما تم العقد عليه من أموالهم، دون ما ينفرد به كل منهم من
مال لم يدخله في الشركة.
أما إذا عقدت الشركة على ألا يستبد (ينفرد) أحد الشركاء بالتصرف في رأس
المال، وليس له إلا أن يعمل مع شركائه جميعاً، فإنها حينئذ تسمى عندهم شركة
عنان (2).
وعلى هذا فشركة المفاوضة بمفهومها عند المالكية، لا خلاف فيها عند الفقهاء.
_________
(1) قال الحافظ الزيلعي عن هذا الحديث وما قبله: غريب أي لا أصل له، ثم
حاول أن يجد أصلاً للحديث، فقال: أخرج ابن ماجه في سننه عن صهيب قال: قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل،
والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع» ثم قال الزيلعي: ويوجد في
بعض نسخ ابن ماجه (المفاوضة) بدل (المقارضة) (راجع نصب الراية: 475/ 3).
(2) الشركات في الفقه الإسلامي لأستاذنا المرحوم علي الخفيف: 34، الإفصاح:
25، القوانين الفقهية: 283، الشرح الكبير للدردير: 351/ 3، 359، الخرشي:
43/ 6.
(5/3884)
أما شركة المفاوضة بالمعنى الذي ذكره
الحنفية والزيدية، فلا يجيزها الشافعية والحنابلة وجمهور الفقهاء، لأنه عقد
لم يرد الشرع بمثله، ولأن تحقق المساواة بالمعنى المطلوب في هذه الشركة أمر
عسير، ولأن فيها غرراً كثيراً وجهالة لما فيها من الوكالة بالمجهول
والكفالة به، فلم تصح كبيع الغرر. وبيان وجه الغرر فيه: هو أنه يلزم كل
واحد منهما ما لزم الآخر، وقد يلزمه شيء لا يقدر على القيام به، ولهذا قال
الشافعي رضي الله عنه: «إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، فلا باطل أعرفه في
الدنيا» وأما الحديث السابق فهو غير معروف، ولا رواه أصحاب السنن؛ بل إنه
ليس فيه ما يدل على أنه أراد هذا العقد، فيحتمل أنه أراد المفاوضة في
الحديث، ولهذا روي فيه: «ولا تجادلوا فإن المجادلة من الشيطان» (1).
والواقع أن شركة المفاوضة بالمعنى المذكور عند الحنفية غير متيسرة الوجود،
إن لم تكن متعذرة التحقيق (2).
ثانياً ـ تعريف شركة الوجوه أو الشركة على الذمم: هي أن يشترك وجيهان عند
الناس، من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن يشتريا في ذممهما بالنسيئة (أي
بمؤجل)، ويبيعا بالنقد، بما لهما من وجاهة عند
_________
(1) المراجع السابقة. قال الحنابلة: شركة المفاوضة الصحيحة: هي تفويض كل
شريك إلى صاحبه شراءً وبيعاً في الذمة، ومضاربة وتوكيلاً، ومسافرةً بالمال،
وارتهاناً وضماناً، ما يرى من الأعمال، أويشتركان في كل ما يثبت لهما
وعليهما إن لم يدخلا كسباً نادراً أو غرامة كوجدان لقطة أو ركاز وما يحصل
من ميراث أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو أرش أو جناية وعارية ومهر (غاية
المنتهى: 182/ 2، وانظر المغني: 26/ 5). وقد تطلق شركة المفاوضة عند
الحنابلة على أن يشترك الشريكان في جميع أنواع الشركة، مثل أن يجمعا بين
شركة العنان والوجوه والأبدان. فيصح ذلك، لأن كل نوع منها يصح على انفراده،
فصح مع غيره. (انظر المغني: 25/ 5).
(2) الشركات في الفقه الإسلامي، المرجع السابق: 61.
(5/3885)
الناس، فيقولا: اشتركنا على أن نشتري
بالنسيئة ونبيع بالنقد، على أن ما رزق الله سبحانه من ربح أي (من فرق
الأثمان)، فهو بيننا على شرط كذا.
وسمي هذا النوع شركة الوجوه، لأنه لا يباع بالنسيئة إلا لوجيه من الناس
عادة. وهي معروفة بالشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال.
وهي جائزة عند الحنفية والحنابلة والزيدية، لأنها شركة عقد تتضمن توكيل كل
شريك صاحبه في البيع والشراء، وتوكيل كل واحد منهما صاحبه بالشراء على أن
يكون المشترى بينهما صحيح، فكذلك الشركة التي تتضمن ذلك. هذا بالإضافة إلى
أن الناس تعاملوا بها في سائر الأعصار من غير إنكار من أحد. والخلاصة: أن
ما اتفقا عليه يعد عملاً من الأعمال، فيجوز أن تنعقد عليه الشركة (1).
وقال المالكية والشافعية والظاهرية والإمامية والليث وأبو سليمان وأبو ثور:
إن هذه الشركة باطلة؛ لأن الشركة تتعلق بالمال أو بالعمل، وكلاهما معدومان
في هذه المسألة (2)، فلا يوجد مال مشترك بين الشركاء، مع ما فيها من الغرر
إذ إن كل شريك يعاوض صاحبه بكسب غير محدد بصناعة، أو بعمل مخصوص، فلم يكن
الربح نماء للمال، ولا مقابلاً للعمل، فلايستحق.
وبناء على الرأي الأول يصح تباين الشريكين في حصتهما في ملكية الشيء
المشترى، فيصح أن يكون لأحدهما النصف أو أكثر من النصف، لحديث الرسول عليه
السلام: «المسلمون على شروطهم». وأما الربح فيكون بينهما على قدر
_________
(1) غاية المنتهى: 180/ 2، المغني: 12/ 5، البدائع: 57/ 6، فتح القدير: 30/
5 ومابعدها، مجمع الضمانات: 303، المبسوط: 154/ 11. ويمكن اعتبار هذه
الشركة صحيحة قانوناً على أساس أن رأس مالها هو مايشترى من السلع نسيئة.
(2) بداية المجتهد: 252/ 2، الخرشي: 55/ 6، ط ثانية، مغني المحتاج: 212/ 2،
المهذب: 346/ 1، الميزان للشعراني: 83/ 1، القوانين الفقهية: 284.
(5/3886)
الحصة في الملك، ولا يجوز أن يزيد أحدهما
على ربح حصته شيئاً؛ لأن الربح في هذه الشركة يستحق بقدر ضمان ثمن السلع
المشتراة (1) بالمال والعمل، والضمان يكون بقدر الحصة في الملك، فيكون
الربح بقدر ذلك، فإن زاد الربح على مقدار الضمان، زاد بلا مقابل وهو لا
يجوز.
وأما الخسارة: فهي على قدر ضمان كل من الشركاء اتفاقاً.
ثالثاً ـ تعريف شركة الأعمال أو الأبدان: وهي أن يشترك اثنان على أن يتقبلا
في ذمتهما عملاً من الأعمال، ويكون الكسب بينهما كالخياطة والحدادة
والصباغة ونحوها، فيقولا: اشتركنا على أن نعمل فيه على ما رزق الله عز وجل
من أجرة، فهو بيننا على شرط كذا، وهي المعروفة بشركة الحمالين وسائر
المحترفة كالخياطين والنجارين والدلاّلين (السماسرة)
ليكون بينهما كسبهما متساوياً أو متفاوتاً، سواء اتحدت حرفتهما كنجار
ونجار، أو اختلفت كخياط ونجار. وتسمى شركة الصنايع وشركة التقبل وشركة
الأبدان وشركة الأعمال. وهي اليوم شائعة في ورشة الحدادة أو النجارة
ونحوهما، وتعتبر شركة التنقيب عن النفط وشركة التفريغ والشحن ونحوها من
شركات الأعمال.
وهي جائزة عند المالكية والحنفية والحنابلة والزيدية؛ لأن المقصود منها
تحصيل الربح، وهو ممكن بالتوكيل، وقد تعامل الناس بها ولأن الشركة تكون
بالمال، أو بالعمل كما في المضاربة، وهذا هنا عمل من الأعمال (2). وقال ابن
مسعود:
_________
(1) أي أن كل شريك يعد ضامناً لحصة من الثمن بقدر مايخصه من الملك.
(2) البدائع: 57/ 6، 76، فتح القدير: 28/ 5، مختصر الطحاوي: 107، المبسوط:
154/ 11 ومابعدها، مجمع الضمانات: 303، رد المحتار: 380/ 3، بداية المجتهد:
252/ 2، المغني: 3/ 5، 11، الخرشي: 38/ 6، 51 - 53، الشركات للأستاذ
الخفيف: 99، القوانين الفقهية: 284، غاية المنتهى: 180/ 2.
(5/3887)
«اشتركت أنا وعمار وسعد يوم بدر، فأصاب سعد
أسيرين. ولم أصب أنا وعمار شيئاً، فلم ينكر النبي صلّى الله عليه وسلم
علينا» (1). فهذه شركة فيما يصيبون من سلَب في الحرب.
إلا أن المالكية يشترطون لصحة هذه الشركة اتحاد الصنعة وإن كان العمل
بمكانين، فتجوز بين محترفي صنعة واحدة، ولا تجوز بين مختلفي الصنائع إلا
إذا كان عَمَلا الشريكين متلازمين، بأن يتوقف وجود عمل أحدهما على وجود عمل
الآخر كنساج وغزال. ويشترطون أيضاً لها الاتفاق في العقد على اقتسام الربح
بقدر عمل كل من الشريكين، ولا يضر التبرع بعد ذلك، وتفسد الشركة إن شرطا
التفاوت في الربح، ويكفي فيه التقارب عرفاً بين الربح والعمل، ولا يضر
التفاوت اليسير في العمل مع كون الربح بينهما بالسوية.
ويرى الحنابلة جواز هذه الشركة حتى في المباحات كالحطب والحشيش ونحوهما،
فتجوز عندهم فيما يشترك فيه الشريكان بأبدانهما من مباح كالاحتشاش
والاصطياد والتلصص على دار الحرب، وأخذ سلَب قتلى الحرب، إلا أنهم قالوا:
لا تصح شركة الدلالين.
وقال الشافعية والإمامية وزفر من الحنفية: هي شركة باطلة؛ لأن الشركة تختص
عندهم بالأموال لا بالأعمال (2)؛ لأن العمل لا ينضبط، فكان فيه غرر
_________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي عبيدة عن عبد الله، قال ابن
تيمية في «منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار» عن هذا الحديث: «وهو حجة
في شركة الأبدان وتملك المباحات» (راجع جامع الأصول: 108/ 6، نيل الأوطار:
265/ 5).
(2) أبطل القانون المدني هذه الشركات لأنها لا تقوم على رأس مال، فلا يجوز
أن يكون رأس مال الشركة عبارة عن مجرد أعمال الشركاء، وإنما يجب أن يتضمن
جزءاً ما دياً.
(5/3888)
وعدم انضباط، إذ لا يدري أحدهما أن صاحبه
يكسب أم لا، وربما قام أحد الشريكين بالعمل كله دون أن يقوم غيره بشيء،
فيكون في ذلك غبن حين يتقاسم الشريكان ثمار العمل، ولأن كل واحد منهما
متميز عن الآخر ببدنه ومنافعه، فيختص بفوائده، كما لو اشتركا في الاحتطاب
والاصطياد وسائر المباحات، فإن ذلك لا يجوز حتى عند الحنفية؛ لأن الشركة
مقتضاها الوكالة، ولا تصح الوكالة في تملك المباح، لأنه يملك بالاستيلاء
(1).
المطلب الثاني ـ شرائط شركة العقود
اشترط علماء الحنفية شروطاً في شركات العقود، منها ما هو عام لكل أنواع
شركة العقود، ومنها ما هو خاص.
أولاً ـ الشروط العامة في شركات العقود: يشترط لصحة شركات العقود شرائط هي
(2):
1 - قابلية الوكالة: وهي أن يكون التصرف
المعقود عليه عقد الشركة قابلاً للوكالة (3)؛ لأن من حكم الشركة: ثبوت
الاشتراك في الربح المستفاد بالتجارة، ولا يصير المستفاد بالتجارة مشتركاً
بينهما، إلا أن يكون كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في بعض أموال الشركة،
وعاملاً لنفسه في البعض الآخر. وبناء عليه
_________
(1) فتح القدير: 31/ 5، مغني المحتاج: 212/ 2.
(2) راجع فتح القدير مع العناية: 5/ 5 ومابعدها، البدائع: 58/ 6 وما بعدها،
مغني المحتاج: 213/ 2، الخرشي: 39/ 6.
(3) هذا عند الحنفية احتراز عن الشركة في المباحات كالاحتشاش والاحتطاب
والاصطياد، فإن الملك في هذه الحالات يقع لمن باشر سبب الملك بخصوصه. وأجاز
الجمهور في الأظهر عند الشافعية التوكيل في تملك المباحات.
(5/3889)
تتطلب الشركة أن يأذن كل شريك لصاحبه في
التصرف بالشراء والبيع وتقبل الأعمال، والوكيل هو المتصرف بإذن غيره. وبما
أن الشركة على اختلاف أنواعها تتضمن معنى التوكيل، أي وكالة كل شريك عن
صاحبه، فيشترط في الشركة قابلية الوكالة، وأن يكون كل شريك أهلاً للوكالة
والتوكيل. ومالا يجوز التوكيل فيه عند الحنفية خلافاً للجمهور: هو
الاستيلاء على المباحات.
2 - أن يكون الربح معلوم القدر بجزء محدد:
أي بحيث تكون حصة كل شريك من الربح نسبة معلومة منه، كخمسه أو ثلثه أو عشرة
في المئة، فإن كان الربح مجهولاً تفسد الشركة؛ لأن الربح هو المعقود عليه،
وجهالة المعقود عليه تستوجب فساد العقد.
3 - أن يكون الربح جزءاً شائعاً في الجملة لا معيناً: فإن عينا ربحاً
معيناً لأحدهما كعشرة أو مئة، كانت الشركة فاسدة؛ لأن العقد يقتضي تحقق
الاشتراك في الربح، ومن الجائز ألا يتحقق الربح إلا في القدر المعين لأحد
الشريكين، فكان التعيين منافياً لمقتضى عقد الشركة.
ثانياً ـ الشروط الخاصة بعقود شركات الأموال: يشترط في شركات الأموال شروط
خاصة بها، سواء أكانت الشركة عناناً أم مفاوضة، وهي (1):
1 - أن يكون رأس مال الشركة عيناً حاضرة، إما عند العقد أو عند الشراء، وهو
رأي جمهور الفقهاء: فلا يجوز أن يكون رأس المال ديناً ولا مالاً غائباً؛
لأن المقصود من الشركة الربح، وهو يتم بواسطة التصرف، والتصرف لا يمكن في
_________
(1) البدائع: 59/ 6 وما بعدها، غاية المنتهى: 166/ 2.
(5/3890)
الدين ولا في المال الغائب، فلا يتحقق
المقصود من الشركة، ولأن المدين ربما لا يدفع الدين، وقد لا يحضر الغائب.
وعلى هذا: لو دفع إنسان لآخر ألف درهم، وقال له: أخرج مثلها، واشتر بها
وبع، فما ربحت يكون بيننا، فأخرج ألفاً واشترى بها، جاز، وإذن فالمهم هو
حضور المال عند الشراء، ولا يشترط عند العقد؛ لأن الشركة تتم بالشراء،
فيطلب الحضور عندئذ.
هل يشترط خلط المالين؟ قال الجمهور (وهم
الحنفية والمالكية والحنابلة) (1): لا
يشترط خلط المالين، لأن الشركة يتحقق معناها بالعقد لا بالمال، ومورد العقد
هو العمل، والربح نتيجته والمال تبع، فلا يشترط خلط المال كالمضاربة، ولأن
الشركة عقد على التصرف، ففيها معنى الوكالة، والوكالة جائزة في المالين قبل
خلطهما، فتجوز الشركة كذلك (2)، فإن الشركاء إذا صرحوا بأن يشتري أحدهم
بهذه الدراهم، والآخر بهذه الدنانير على أن المشترى بينهما صح.
إلا أن المالكية قالوا: إن عدم اشتراط اختلاط المالين لا يعني عزلهما من كل
الوجوه، بل لا بد من أن يكون الخلط إما حساً أو حكماً، مثل أن يكون المالان
في صندوق واحد، وأيديهما مطلقة عليهما.
_________
(1) مختصر الطحاوي: 107، فتح القدير: /24، البدائع: 60/ 6، المبسوط: 177/
11، بداية المجتهد: 250/ 2، القوانين الفقهية: 283، المغني: 16/ 5، الخرشي:
41/ 6، ط ثانية، غاية المنتهى: 162/ 2.
(2) يلاحظ أنه لا محل لاشتراط خلط الأموال في التشريع الوضعي، لأن من آثار
نشوء عقد الشركة وجود شخص اعتباري وهو الشركة، تنتقل إليه ملكية رأس المال
جميعه (الشركات في الفقه الإسلامي للأستاذ الشيخ علي الخفيف: 46).
(5/3891)
وقال زفر
والشافعية والظاهرية والزيدية والإمامية: يشترط خلط المالين بحيث لا
يتميز أحدهما عن الآخر، ولا بد من كون الخلط قبل العقد، فإن وقع بعده لم
يكف في الأصح؛ لأن الشركة تعني الاختلاط، والاختلاط لا يتحقق مع تميز
المالين، فلا يتحقق معنى الشركة، ولأن من أحكام الشركة أن الهلاك يكون من
المالين، وإذا هلك أحد المالين قبل الخلط يهلك على صاحبه وحده، وهذا ليس من
مقتضى الشركة (1).
ويترتب على هذا الخلاف: أن الشركة تصح عند الجمهور إذا كان المالان من
جنسين مختلفين كدراهم ودنانير، أو من جنس واحد لكن بصفتين مختلفتين كحنطة
جديدة وحنطة عتيقة، أو بيضاء وسوداء، أو بيضاء وحمراء، إذ لا يشترط عندهم
خلط المالين.
ولا يصح ذلك عند الشافعية وزفر، لإمكان التمييز وإن كان فيه عسر، لأنه
يشترط خلط المالين خلطاً تاماً بحيث يتعذر التمييز بين المالين، وهو لا
يتحقق في مختلفي الجنس أو الصفة.
قال ابن رشد المالكي: «والفقه أن بالاختلاط يكون عمل الشريكين أفضل وأتم؛
لأن النصح يوجد منه لشريكه كما يوجد لنفسه» (2).
2 - أن يكون رأس مال الشركة أثماناً مطلقة (3) أي نقوداً وهي الدراهم
والدنانير في الماضي، والنقود المتداولة الآن. وهذا الشرط عند جمهور
العلماء (4)
_________
(1) مغني المحتاج: 213/ 2،المهذب: 345/ 1، المنتزع المختار: 354/ 3.
(2) بداية المجتهد: 250/ 2.
(3) وهي التي لا تتعين بالتعيين.
(4) البدائع: 59/ 6، فتح القدير: 14/ 5، تبيين الحقائق: 316/ 3، مختصر
الطحاوي: 107، المبسوط: 159/ 11 ومابعدها، مغني المحتاج: 213/ 2، المغني:
13/ 5ومابعدها، المهذب: 345/ 1، رد المحتار: 372/ 3، الخرشي: 40/ 6، ط
ثانية.
(5/3892)
فلا تجوز الشركة في العروض (1) من عقار أو
منقول، لأنها ليست من ذوات الأمثال، وإنما هي من ذوات القيمة التي تختلف
باختلاف أعيانها، والشركة فيها تؤدي إلى جهالة الربح عند قسمة مال الشركة؛
لأن رأس المال يتكون من قيمة العروض لا عينها، والقيمة مجهولة؛ لأنها تعرف
بالحزر والظن، وهو يختلف باختلاف التقويم، فيصير الربح مجهولاً؛ فيؤدي إلى
المنازعة عند القسمة. ثم إن الشركة تتضمن الوكالة، والوكالة لا تصح في
العروض، فلو قال شخص لغيره: بع عرضك (أي متاعك أو دارك) على أن يكون ثمنه
بيننا، لا يجوز إذ الولاية عليه له وحده دون غيره، أما لو قال: اشتر بألف
درهم من مالك على أن ما اشتريته يكون بيننا، وأنا أشتري بألف درهم من مالي
على أن ما أشتري يكون بيننا، جاز؛ لأن الشركة تكون في النقود.
وقال الإمام مالك: لا يشترط كون رأس مال الشركة نقداً، وإنما تصح الشركة في
الدراهم والدنانير، كما تصح في العروض سواء اتفقا جنساً أو اختلفا، وتكون
الشركة في العروض مقدرة بقيمتها، ودليله أن الشركة عقدت رأس مال معلوم،
فأشبه النقود (2).
ويترتب على هذا الشرط عند الحنفية في الرواية الراجحة، وعند الحنابلة: أنه
لا تصح الشركة في التبر (أي ما لم يضرب من الذهب والفضة) والنُقرة (أي
القطعة المذابة من الذهب أو الفضة) بناء على أنه كالعروض.
أما في الرواية الأخرى عند الحنفية فتجوز الشركة فيه؛ لأنه كالأثمان
المطلقة، والمدار على تعامل الناس به، فإذا تعاملوا به فحكمه حكم النقود،
وإن لم يتعاملوا
_________
(1) قال في القاموس: العرض (أي بسكون الراء): المتاع، ويحرك أي يفتح الراء.
(2) الشرح الكبير: 349/ 3، بداية المجتهد: 249/ 2.
(5/3893)
به فحكمه حكم العروض. وأما الشافعية فقد
أجازوا الشركة فيه؛ لأنهم عدوه من المثليات (1).
وأما الفلوس (2): فلا تجوز الشركة فيها
في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة وأبي يوسف، لأنها إذا كانت كاسدة فهي
كالعروض، وإن كانت نافقة (أي رائجة) فهي ليست أثماناً مطلقة عندهما (أي لا
تلازمها صفة الثمنية) لأنها تتعين بالتعيين في الجملة، وتصير مبيعاً
باصطلاح العاقدين. وإذا لم تكن أثماناً مطلقة لاحتمالها التعيين بالجملة في
عقود المعاوضات، لم تصلح رأس مال الشركة كسائر العروض. وهذا هو رأي
الشافعية والحنابلة وابن القاسم من المالكية؛ لأنها تنفق مرة وتكسد مرة
أخرى فأشبهت العروض.
وقال محمد: يصح أن تكون الفلوس الرائجة رأس مال الشركة؛ لأنها بحسب الأصل
عنده تعتبر من الأثمان المطلقة، لأن الثمنية لازمة لها (3).
وأما الشركة في المثليات التي ليست بأثمان
مطلقة من المكيل والموزون والعددي المتقارب كالجوز والبيض: فتصح
الشركة فيها عند الشافعية والمالكية؛ لأن الشافعية جعلوا العدديات
المتقاربة من المثليات فتصح الشركة فيها على الأظهر عندهم؛ ولأن المكيل أو
الموزون إذا اختلط بجنسه ارتفع التمييز بينهما، فأشبه النقدين. وأما
المالكية فأجازوا الشركة فيها بحسب قيمتها عند الخلط، لا قيمتها عند البيع،
كما في العروض؛ لأن خلط الطعامين مثلاً يجعل من المتعذرفصلهما بخلاف
العروض، فإنه يمكن تمييز كل عرض عن غيره (4).
_________
(1) المراجع السابقة عند الحنفية.
(2) الفلوس جمع فلس وهو قطعة مضروبة من النحاس كان يتعامل بها.
(3) البدائع: 59/ 6، المغني: 15/ 5، المبسوط للسرخسي: 160/ 11، رد المحتار:
372/ 3، غاية المنتهى: 166/ 2.
(4) مغني المحتاج: 213/ 2، الشرح الكبير: 349/ 3.
(5/3894)
وقال الحنابلة: لا تجوز الشركة في ظاهر
المذهب في المكيل والموزون والعدديات المتقاربة، كما لا تجوز في سائر
العروض (1).
وقال الحنفية والشيعة الإمامية والزيدية: لا تجوز الشركة في المكيلات
والموزونات والعدديات المتقاربة قبل الخلط؛ لأنها إنما تتعين بالتعيين إذا
كانت عيناً، فكانت كالعروض، فهي ليست أثماناً مطلقة، مع العلم بأن شرط جواز
الشركة أن يكون رأس المال مما لا يتعين بالتعيين، فلو قال شخص لغيره: بع
حنطتك على أن يكون ثمنها بيننا لم يجز، وأما بعد الخلط: فإن كانت الشركة في
جنسين مختلفين كالحنطة والأرز والشعير فلا تجوز، وإن كانت من جنس واحد
فلاتصح أيضاً عند أبي يوسف، وإنما تصير شركة أملاك.
وقال أبو حنيفة ومحمد: تصح الشركة فيها بعد الخلط، فيكون مذهب الحنفية
قريباً من مذهب الشافعية.
وتظهر فائدة الخلاف عند التساوي في المالين واشتراط التفاضل في الربح، بأن
كان المكيل نصفين بين شريكين، ولكنهما شرطا أن يكون الربح أثلاثاً، فخلطاه،
واشتريا به، فعلى قول أبي يوسف: يكون الربح بينهما على قدر المالين نصفين.
وعلى قول محمد: يكون الربح بحسب ما شرطا.
وجه قول أبي يوسف: هو أنه متمشٍ مع الأصل الذي بنى عليه الحنفية عدم
جوازالشركة في المكيلات والموزونات ونحوها قبل الخلط: وهو أنها ليست
أثماناً مطلقة على كل حال، بل قد تكون تارة ثمناً، وتارة مبيعاً؛ لأنها
تتعين بالتعيين في الجملة فكانت كالفلوس، وشرط جواز الشركة ألا يكون رأس
المال مما يتعين بالتعيين.
_________
(1) المغني: 13/ 5 وما بعدها.
(5/3895)
ووجه قول محمد: هو أن معنى الوكالة التي
تتضمنها الشركة ثابت في هذه الأشياء بعد الخلط، فأشبهت الدراهم والدنانير،
بخلاف ما قبل الخلط؛ لأن الوكالة التي هي من مقتضيات الشركة لا تصح في هذه
الأشياء قبل الخلط.
والحيلة عند أبي يوسف في جواز الشركة بهذه الأشياء: أن يخلط المالان حتى
تصير شركة ملك بينهما، ثم يعقدا عليهما عقد الشركة (1).
ثالثاً ـ الشروط الخاصة بشركة المفاوضة: اشترط الحنفية شروطاً خاصة بشركة
المفاوضة وهي (2):
1 - أن يكون لكل من الشريكين أهلية الوكالة
والكفالة: بأن يكونا حرين بالغين عاقلين راشدين؛ لأن من أحكام
المفاوضة أن ما يلزم أحدهما من الحقوق والواجبات فيما يتجران فيه يلزم
الآخر، ويكون كل واحد منهما فيما وجب على صاحبه بمنزلة الكفيل عنه، كما أنه
يكون كل واحد منهما فيما وجب لصاحبه بمنزلة الوكيل.
2 - المساواة في رأس المال قدراً وقيمة ابتداء وانتهاء، في الرواية
المشهورة: فلو كان المالان متفاضلين قدراً لم تكن مفاوضة؛ لأن المفاوضة
تنبئ عن المساواة فلابد من اعتبار المساواة فيها ما أمكن. وإذا كان المالان
متفاضلين قيمة في الرواية المشهورة، كأن تفاضل النقدان في قيمة الصرف لم
تجز المفاوضة؛ لأن زيادة القيمة بمنزلة زيادة في الوزن، فلا تثبت المساواة
التي هي من مقتضى العقد.
_________
(1) انظر البدائع: 60/ 6، فتح القدير: 16/ 5، المبسوط: 161/ 11 وما بعدها.
(2) انظر البدائع: 60/ 6 وما بعدها، رد المحتار على الدر المختار: 369/ 3
وما بعدها.
(5/3896)
3 - أن يكون كل ما يصلح أن يكون رأس مال
للشركة لأحد المتفاوضين داخلاً في الشركة (1): فإن لم يكن داخلاً في الشركة
لم تكن مفاوضة؛ لأن ذلك يتنافى مع مبدأ المساواة. أما ما لا تصلح فيه
المفاوضة كالعروض والعقارات والديون والأموال الغائبة، فلا تلزم المشاركة
فيه كالتفاضل في الزوجات والأولاد.
ولا تشترط المجانسة في المال ما دامت القيمة متحدة خلافاً للزيدية. وعليه
إذا كان رأس مال أحدهما ذهباً ورأس مال الآخر فضة، وهما متساويان قيمة، صحت
المفاوضة على أشهر الروايتين. كذلك لا يشترط كما ذكر اختلاط المالين خلافاً
لزفر.
4 - المساواة في الربح في المفاوضة: فإن
شرطا التفاضل في الربح لم تكن مفاوضة لعدم المساواة.
5 - أن تكون المفاوضة في جميع التجارات المباحة:
فلا يختص أحد الشريكين بتجارة دون شريكه؛ لأن في الاختصاص إبطالاً لمعنى
المفاوضة: وهو المساواة. وعلى هذا: يفهم سبب اشتراط أبي حنيفة ومحمد أن
تكون المفاوضة بين مسلمين، فلا تصح بين مسلم وكافر؛ لأن الكافر الذمي مثلاً
يختص بتجارة لا تجوز للمسلم: وهي تجارة الخمر والخنزير.
وقال أبو يوسف: تجوز المفاوضة بين مسلم وكافر، لاستوائهما في أهلية الوكالة
والكفالة.
_________
(1) قال في كنز الدقائق والدر المختار: تبطل المفاوضة إن وهب لأحد الشريكين
أو ورث ماتصح فيه الشركة، ووصل إلى يده وهو النقدان، لفوات المساواة فيما
يصلح رأس مال، إذ المساواة في هذه الشركة شرط عند ابتدائها وفي حال
استمرارها (تبيين الحقائق: 316/ 3، الدر المختار ورد المحتار: 372/ 3).
(5/3897)
6 - أن تكون الشركة
بلفظ المفاوضة: لأن للمفاوضة شرائط لا يجمعها إلا
لفظ المفاوضة أو عبارة أخرى تقوم مقامها.
هذه هي شروط شركة المفاوضة، فإذا فقد شرط منها انقلبت الشركة عناناً؛ لأن
شركة العنان
لا تتطلب هذه الشروط (1).
فلا يشترط في شركة العنان أهلية الكفالة، فتصح ممن لا تصح منه الكفالة،
كالصبي المأذون بالتجارة، ولا المساواة في رأس المال، فتجوز مع تفاضل
الشريكين في رأس المال، وأن يكون لأحدهما مال آخر لم يدخل في عقد الشركة.
ولا يشترط أن تكون في عموم التجارات، فتجوز أن تكون عامة أو خاصة ببعض
أنواع التجارة كالحبوب والأقمشة والحديد ونحوها، كما أنها تجوز بين المسلم
والذمي؛ لأنه لا تشترط المساواة في شركة العنان.
كما لا يشترط التساوي في الربح، فيجوز تفاضلهما وتساويهما فيه.
قال أستاذ نا الشيخ علي الخفيف: والواقع أن شركة المفاوضة على ما ذهب إليه
الحنفية والزيدية لا تعد شركة واقعية، وليس لوجودها بقاء إذا ما وجدت، فإن
اشتراط تساوي أموال الشركاء في القيمة، وعدم اختصاص كل شريك بمال يصلح أن
يكون رأس مال للشركة في جميع مراحل وجودها لا يبقي عليها زمناً طويلاً. فإن
استمرار كل شريك على ما كان له من نقود عند تكوينها وعدم زيادتها بعد ذلك،
أمر يكاد أن يكون أمراً عسيراً (2).
_________
(1) البدائع: 62/ 6، رد المحتار: 373/ 3.
(2) الشركات في الفقه الإسلامي: 63.
(5/3898)
رابعاً ـ شروط شركة الأعمال: إذا كانت شركة
الأعمال مفاوضة، فيشترط فيها شرائط المفاوضة السابق ذكرها، مثل أهلية
الكفالة، والتساوي في الأجر، ومراعاة لفظ المفاوضة.
أما إذا كانت الشركة عناناً، فلا يشترط لها شيء من شروط المفاوضة وإنما
تشترط أهلية الوكالة فقط. قال أبو حنيفة: ما تجوز فيه الوكالة تجوز فيه
الشركة، ومالا تجوز فيه الوكالة لا تجوز فيه الشركة.
وإذا احتاجت الصنعة إلى استعمال آلة، فاستعملها أحد الشريكين فلا يؤثر ذلك
في ثبوت الشركة، وهذا بشرط ألا يكون من عمله إجارتها لغيره. أما إذا أجرها
فإن أجرتها تكون له خاصة، لا مشتركة، لأنها مقابل استعمال آلة مملوكة له،
فكانت مختصة به. وبناء عليه تفسد الشركة بين رجلين لأحدهما بغل وللآخر بعير
على أن يؤجرهما، كما سيذكر في بحث الشركة الفاسدة، وهذا ما ذهب إليه
الحنفية والحنابلة (1).
خامساً ـ شروط شركة الوجوه: إذا كانت شركة الوجوه مفاوضة، فيشترط أن يكون
الشريكان من أهل الكفالة، وأن يلتزم كل منهما بنصف ثمن الشيء المشترى، وأن
يكون المشترى بينهما نصفين، وأن يكون الربح بينهما نصفين، وأن يتلفظا بلفظ
المفاوضة؛ لأن هذه الشركة قائمة على المساواة التامة بين الشريكين.
وأما إذا كانت الشركة عناناً، فلا تشترط الشروط المذكورة في المفاوضة، فيصح
تفاضلهما في الشيء المشترى، ويكون التزامهما بثمن المشترى على قدر
_________
(1) البدائع: 63/ 6 ومابعدها، المغني: 6/ 5.
(5/3899)
ملكيهما، كما يكون الربح بينهما على قدر
تحملهما ثمن المشترى، فإذا شرط لأحدهما زيادة ربح على حصته يكون الشرط
باطلاً؛ لأن الربح يتقدر بقدر ضمانهما ثمن المشترى (1).
المطلب الثالث ـ أحكام شركة العقود شركة
العقود إما أن تكون صحيحة أو فاسدة.
فإن كانت فاسدة: وهي التي اختل فيها شرط من شرائط الصحة السابق ذكرها، فلا
تفيد شيئاً مما سيذكر في أحكام الشركة (2) الصحيحة.
وفي الجملة قال الحنفية والشافعية والحنابلة: إن فسدت الشركة يقتسمان الربح
على قدر رأس أموالهما، ويرجع كل شريك على الآخر بأجرة عمله في ماله؛ لأن
المسمى يسقط في العقد الفاسد (3).
وأما الشركة الصحيحة: وهي التي استوفت شروط صحتها، فيعرف حكمها بحسب كل نوع
من أنواع الشركة، كما يتبين مما يأتي.
أولاً ـ أحكام شركة العنان في الأموال: 1 - شرط
العمل: يجوز في شركة العنان أن يشترط الشريكان العمل عليهما أو على
أحدهما دون الآخر، كأن يشترط على أن يبيعا ويشتريا على أن ما رزق الله من
التجارة فهو بينهما على شرط كذا، أو أن يبيع ويشتري أحدهما دون الآخر.
_________
(1) البدائع: المرجع السابق: 65.
(2) البدائع: 77/ 6.
(3) مغني المحتاج: 215/ 2، المغني: 17/ 5، فتح القدير: 33/ 5، تبيين
الحقائق: 323/ 3، غاية المنتهى: 169/ 2 ومابعدها.
(5/3900)
2 - توزيع الربح:
وأما الربح فيكون على قدر رأس المال متساوياً أو متفاضلاً، فإن كان رأس
المال متساوياً بينهما (أي مناصفة) يكون الربح بينهما متساوياً، سواء شرط
العمل عليهما أو على أحدهما؛ لأن استحقاق الربح عند الحنفية إما بالمال أو
بالعمل أو بالتزام الضمان (1)، وقد وجد التساوي في رأس المال، فينبغي
التساوي في الربح.
ويصح أيضاً عند الحنفية ما عدا زفر أن يتفاضل الشريكان في الربح حالة
التساوي في رأس المال، بشرط أن يكون العمل عليهما أو على الذي شرط له زيادة
الربح؛ لأن الربح كما قالوا يستحق إما بالمال أو بالعمل أو بالضمان، وزيادة
الربح في هذه الحالة كانت بسبب زيادة العمل؛ لأنه قد يكون أحد الشريكين
أحذق وأهدى وأكثر عملاً وأقوى، فيستحق زيادة ربح على حساب شريكه، لحديث:
«الربح على ما شرطا، والوضعية على قدر المالين» (2).
وإن شرط العمل على أقلهما ربحاً، فلا تجوز الشركة؛ لأنه شرط لأحد الشريكين
زيادة ربح بغير عمل ولا ضمان، والربح لا يستحق إلا بمال أو عمل أو ضمان.
وكذلك لا تصح الشركة إذا شرط جميع الربح لأحد الشريكين، ويلاحظ أنه ليس
المراد بالعمل وجوده، وإنما يكفي شرط العمل (3).
_________
(1) أما استحقاقه بالمال فلأنه يعد نماء للمال. وأما استحقاقه بالعمل في
المال فلأنه شبيه بالأجرة، لأنه جزاء العمل وناتج عنه. وأما استحقاق الربح
بالضمان فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «الخراج بالضمان» أي مستحق بسببه،
فإذا صار المال مضموناً على الشريك بسبب من الأسباب التي توجب ضمانه، وأصبح
غير أمين فيه، فإن جميع الربح يكون له لضمانه إياه، لأنه خراج المال. ويعرف
استحقاق الشريك من الربح بهذه الأسباب بالشرط.
(2) أي الخسارة في الشركة على كل واحد منهما بقدر ماله. قال الحافظ الزيلعي
عن هذا الحديث: غريب جداً (أي لا أصل له) ويوجد في بعض كتب الأصحاب من قول
علي (راجع نصب الراية: 475/ 3).
(3) فتح القدير: 21/ 5، البدائع: 62/ 6 ومابعدها، تبيين الحقائق: 318/ 3.
(5/3901)
ورأي الحنابلة والزيدية كالحنفية: يجوز أن
يتفاضل الشريكان في الربح (1). وأم االخسارة
فهي على قدر رأس المال باتفاق المذاهب.
وقال المالكية والشافعية والظاهرية والإمامية وزفر من الحنفية: يشترط لصحة
شركة العنان أن يكون الربح والخسران على قدر المالين، أي نسبتهما؛ لأن
الربح نماء مالهما والخسران نقصان ما لهما، فكانا على قدر المالين، أي أن
الربح يشبه الخسران، فكما أنه لو اشترط أحد الشريكين أن يتحمل فقط جزءاً من
الخسران لم يجز، كذلك إذا اشترط جزءاً من الربح زائداً عن رأس ماله لا
يجوز، فكان الربح والخسران تابعين للمال. ويترتب عليه أنه لو شرط الشريكان
التفاضل في الربح والخسران مع تساوي المالين، أو التساوي في الربح أو
الخسران مع تفاضل المالين لم يصح العقد؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الشركة، فلم
يصح، كما لو شرط أن يكون الربح لأحدهما (2).
3 - هلاك مال الشركة: قال الحنفية
والشافعية: إذا هلك مال الشركة أو أحد المالين قبل الشراء وقبل الخلط، بطلت
الشركة؛ لأن المعقود عليه في عقد الشركة هو المال، وقد تعينت الشركة فيه،
وإذا هلك المعقود عليه يبطل العقد، كما في البيع. هذا إذا هلك المالان.
وأما بطلان العقد حال هلاك أحد المالين، فلأن الشريك الذي لم يهلك ماله، ما
رضي بشركة صاحبه في ماله إلا ليشركه في ماله، فإذا فات المقصود لم يكون
راضياً بشركته، فيبطل العقد لعدم فائدته، وأي مال هلك يهلك من مال صاحبه.
وهذا بخلاف ما بعد الخلط حيث يهلك على الشركة.
_________
(1) المغني: 27/ 5، المنتزع المختار: 359/ 3، غاية المنتهى: 165/ 2.
(2) القوانين الفقهية: ص 284، بداية المجتهد: 250/ 2، مغني المحتاج: 216/
2. المهذب: 346/ 1.
(5/3902)
وإن اشترى أحد الشريكين بماله، وهلك مال
الآخر بعد الشراء، فيكون ما اشتراه بينهما؛ لأنه اشتراه حالة قيام الشركة،
فيصبح مملوكاً للشريكين، فهلاك المال بعدئذ لا يغير حكم المالك، وإذا وقع
المشترى على الشركة يرجع الشريك على شريكه بحصته من الثمن، لأنه اشترى نصفه
بوكالته، ونقد الثمن من مال نفسه (1).
وقال المالكية والحنابلة: تنشأ الشركة بمجرد العقد ويصير به رأس المال
مشتركاً بين الشركاء. فإذا هلك أحد المالين قبل الخلط أو قبل التصرف يهلك
على حساب الشركاء (2).
4 - التصرف بمال الشركة: لكل واحد من
شريكي العنان أن يبيع مال الشركة؛ لأنهما بعقد الشركة أذن كل واحد لصاحبه
ببيع مال الشركة، ولأن الشركة تتضمن الوكالة، فيصير كل واحد من الشريكين
وكيلاً عن صاحبه بالبيع.
ولكل شريك أن يبيع مال الشركة بالنقد والنسيئة (أي بالدفع حالاً أو مؤجلاً)
لأنه وجد الإذن بالبيع مطلقاً بمقتضى الشركة، ولأن الشركة تنعقد على عادة
التجار، ومن عادتهم البيع نقداً ونسيئة.
ولا يجوز البيع نسيئة عند الشافعية. وعند الحنابلة فيه روايتان، أرجحهما
أنه يجوز البيع نسيئة (3).
وللشريك أن يبيع بقليل الثمن وكثيره إلا بما لا يتغابن الناس في مثله؛ لأن
المقصود من العقد وهو الاسترباح لا يحصل به، فكان مستثنى من العقد دلالة.
_________
(1) فتح القدير: 23/ 5، المبسوط: 167/ 11.
(2) غاية المنتهى: 166/ 2.
(3) غاية المنتهى: 167/ 2، مغني المحتاج: 214/ 2.
(5/3903)
وللشريك أيضاً أن يشتري بالنقد وبالنسيئة
إذا كان في يده نقود (دراهم أو دنانير) أو مكيل أو موزون، فاشترى بالدراهم
والدنانير شيئاً نسيئة، أو اشترى بالمكيل أو الموزون شيئاً نسيئة؛ لأن
الشريك وكيل بالشراء، والوكيل بالشراء يملك الشراء بالنسىئة، ولأنه يمكنه
حينئذ وفاء الثمن مما تحت يده من هذا المال في الحال.
فإن لم يكن في يده دراهم ولا دنانير، وصار رأس مال الشركة كله أعياناً
وأمتعة، فاشترى بدراهم أو بدنانير شيئاً نسيئة، فيكون المشترى له خاصة دون
شريكه؛ لأنه لو صح في حق شريكه صار مستديناً على مال الشركة، والشريك
لايملك الاستدانة على مال الشركة من غير أن يؤذن له بها، كالشريك المضارب؛
لأنه يصير رأس مال الشركة أكثر مما رضي الشريك بالمشاركة فيه، فلا يجوز من
غير رضاه (1).
وأذكر هنا أهم أنواع التصرفات:
آـ إبضاع مال الشركة وإيداعه: للشريك أن
يبضع (2) مال الشركة؛ لأن الشركة تنعقد على عادة التجار، والإبضاع من
عاداتهم، ولأن له أن يستأجر على العمل في البضاعة بأجر، فيكون الإبضاع
أولى، إذ أن من يملك الأعلى يملك الأدنى، وللشريك أيضاً أن يودع مال
الشركة؛ لأن الإيداع من عادة التجار، ومن ضرورات التجارة أيضاً.
_________
(1) البدائع: 68/ 6، رد المحتار: 377/ 3.
(2) أي أن يدفع مالاً من الشركة لمن يشتري به بضاعة من بلد كذا بدون جُعْل
(الشرح الكبير للدردير: 352/ 2، 521، غاية المنتهى: 166/ 2) قال ابن عابدين
في رد المحتار: 377/ 3: في القاموس: الباضع: الشريك اهـ. والمراد هنا دفع
المال لآخر ليعمل فيه على أن يكون الربح لرب المال ولا شيء للعامل. وعرف
الشافعية الإبضاع بتعريف أوضح مما سبق: وهو بعث المال مع من يتجر فيه
متبرعاً. والبضاعة: المال المبعوث (راجع مغني المحتاج: 312/ 2). انظر أحكام
المباضعة في مجمع الضمانات: ص 313.
(5/3904)
وخالف الشافعية في ذلك، وللحنابلة في جواز
الإبضاع روايتان.
ب ـ المضاربة بمال الشركة: وللشريك أن
يدفع المال إلى شخص للمضاربة فيه، وهو ظاهر الرواية عند الحنفية والأصح؛
لأن الشريك يملك أن يستأجر أجيراً يعمل في مال الشركة، فلأن يملك الدفع
مضاربة أولى؛ لأن الأجير يستحق الأجر، سواء حصل في الشركة ربح أم لم يحصل،
والمضارب لا يستحق شيئاً بعمله إلا إذا كان في المضاربة ربح، فلما ملك
الاستئجار فلأن يملك الدفع مضاربة أولى.
جـ ـ التوكيل بالبيع وبالشراء: وللشريك
أن يوكل بالبيع؛ لأن التوكيل دون المضاربة، كما له أن يوكل بالشراء؛ لأن
التوكيل بالبيع والشراء من أعمال التجارات، إذ التاجر لا يمكنه مباشرة جميع
التصرفات بنفسه، فيحتاج إلى التوكيل، فكان التوكيل من ضرورات التجارة.
د ـ الرهن والارتهان: وله بإذن شريكه أن
يرهن متاعاً من الشركة بدين وجب بعقد مارسه وهو الشراء، وأن يرتهن بما
باعه؛ لأن الرهن إيفاء الدين، والارتهان استيفاؤه، وأنه يملك الإيفاء
والاستيفاء (1).
هـ ـ الحوالة بثمن البضاعة: وله أن يقبل
الحوالة بالثمن وأن يحيل؛ لأن الحوالة من أعمال التجارة؛ لأن التاجر يحتاج
إليها لاختلاف الناس في الغنى والإعسار، فكانت الحوالة وسيلة إلى
الاستيفاء، فكانت في معنى الرهن في التوثق للاستيفاء.
وـ الالتزام بحقوق العقد: كل ما يتعلق
بحقوق العقد من القبض وتسليم
_________
(1) فتح القدير: 26/ 5، رد المحتار على الدر المختار: 378/ 3.
(5/3905)
المبيع والخصومة (1) يلتزم بها الشريك الذي
مارس العقد دون شريكه، فلو باع أحدهما شيئاً لم يكن للآخر أن يقبض شيئاً من
الثمن، وكذلك كل دين لزم إنساناً بعقد مارسه أحدهما ليس للآخر قبضه،
وللمدين أن يمتنع عن دفعه إليه؛ لأن القبض من حقوق العقد، وهي متعلقة
بالعاقد، وليس لأحد الشريكين أن يخاصم في أمر صدر من شريكه كبيع أو إدانة؛
لأن الخصومة من حقوق العقد، وحقوق العقد تتعلق بالعاقد. ولو اشترى أحدهما
شيئاً لا يطالب الآخر بالثمن، وليس للشريك قبض المبيع لما ذكر.
ز ـ السفر بمال الشركة: أما السفر بمال
الشركة فيجوز عند أبي حنيفة ومحمد في أصح الروايات والمالكية والحنابلة؛
لأن الإذن بالتصرف يثبت بمقتضى الشركة، والشركة صدرت مطلقة عن المكان،
والمطلق يجري على إطلاقه إلا لدليل. وعند أبي يوسف والشافعي: لا يجوز له
السفر إلا بإذن شريكه، لأن السفر له خطر، فلا يجوز في ملك الغير إلا بإذنه.
ح ـ التبرع بمال الشركة أو الإقراض: ليس
لأحد الشريكين أن يهب شيئاً من مال الشركة؛ لأن الهبة تبرع، وهو لا يملك
التبرع على شريكه، كما ليس له أن يقرض شيئاً من مال الشركة؛ لأن القرض لا
عوض له في الحال، فهو بمثابة التبرع، وهو لا يملك التبرع على شريكه (2).
وخلاصة كلام الشافعية: أن الشريك يتصرف بلا ضرر كالوكيل، فلا يبيع
_________
(1) أي كل ما يتعلق بالدعوى التي تثار لدى القضاء بسبب منازعة تنشأ من
العقد.
(2) انظر هذه الأحكام التي ذكرت في المبسوط: 174/ 11 ومابعدها، تبيين
الحقائق: 320/ 3، فتح القدير: 25/ 5 وما بعدها، البدائع: 68/ 6 - 72، مجمع
الضمانات: ص298 ومابعدها، رد المحتار: 377/ 3 ومابعدها، انظر أيضاً الشرح
الكبير عند المالكية:352/ 2، الخرشي: 43/ 6، بداية المجتهد: 253/ 2، وعند
الحنابلة: غاية المنتهى: 167/ 2، وعند الشافعية: مغني المحتاج: 214/ 2.
(5/3906)
نسيئة بسبب الغرر، ولا بغير نقد البلد، ولا
بغبن فاحش ولا يسافر بالمال ولا ببعضه بغير إذن؛ لأن الشركة في الحقيقة
توكيل وتوكل.
ثانياً ـ أحكام شركة المفاوضة في الأموال: إن كل ما ذكرمن الأحكام مما يجوز
لأحد شريكي العنان أن يفعله، يجوز لأحد شريكي المفاوضة أن يفعله، وإذا فعله
فهو جائز على شريكه؛ لأن المفاوضة أخص من العنان، وكذلك كل ما كان شرطاً
لصحة العنان فهو شرط لصحة المفاوضة، وكل ما فسدت به شركة العنان تفسد به
شركة المفاوضة؛ لأن المفاوضة عنان وزيادة.
أما الأحكام الخاصة بشركةالمفاوضة فهي ما يأتي (1):
1 - الإقرار بالدين:
يختص شريك المفاوضة بأنه يجوز إقراره بالدين على نفسه وعلى شريكه ويطالب
المقر له أيهما شاء؛ لأن كل واحد منهما كفيل عن الآخر فيلزم المقر بإقراره
ويلزم شريكه بكفالته. وكذلك يختص بجواز الرهن والارتهان على شريكه بدون إذن
شريكه، خلافاً لما هو مقرر في شركة العنان.
2 - الالتزام بديون التجارة وما في معناها:
ويختص أيضاً بأن كل ما وجب على كل واحد منهما من دين التجارة أو ما في معنى
التجارة يجب على الآخر تحقيقاً للمساواة بينهما، وذلك كالالتزمات الثابتة
بسبب عقود التجارة كثمن المبيع في البيع الصحيح، وقيمته في البيع الفاسد،
_________
(1) المبسوط: 203/ 11 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 107، البدائع: 72/ 6
ومابعدها، فتح القدير: 9/ 5 ومابعدها، 26، رد المحتار: 369/ 3، 378، مجمع
الضمانات: ص 297.
(5/3907)
وأجرة الشيء المأجور، أو ما في معنى
التجارة كضمان الشيء المغصوب، وضمان الودائع والعواري (1) بسبب مخالفة طلب
المودع في كيفية الحفظ، وضمان الاستهلاكات والإجارات والرهن والارتهان.
والسبب في التزام كل شريك بدين التجارة: هو أنه دين بسبب الشركة؛ لأن من
مقتضيات عقد الشركة وجود البيع أو التجارة، وكل شريك منها كفيل عن صاحبه
فيما يلزمه بسبب الشركة. وأما ضمان الغصب فلأنه في معنى ضمان التجارة، لأن
تقرر الضمان فيه يفيد تملك الشيء المضمون، فكان في معنى ضمان البيع. وأما
المخالفة في الودائع والعواري والإجارات ونحوها فضمانها في معنى ضمان
الغصب، لأنه من باب التعدي على مال الغير بغير إذن مالكه.
3 - الالتزام بالكفالة المالية:
ويلتزم كل شريك بما يقوم به أحدهما من كفالة مالية عن شخص أجنبي عند أبي
حنيفة؛ لأن الكفالة وإن كانت تبرعاً في مبدأ الأمر، فهي في النتيجة معاوضة
لوجود معنى التمليك والتملك بين الكفيل والمكفول عنه، فيرجع الكفيل عن
المكفول عنه بما كفل إذا كانت الكفالة بطلب منه.
وقال الصاحبان: الكفالة لا تلزم الشريك، لأنه تبرع بدليل أنها لا تصح من
الصبي، وتعتبر من ثلث التركة فقط إذا صدرت من الكفيل في حالة مرضه.
4 - المطالبة بحقوق عقد البيع والشراء:
ويطالب كل شريك بكل ما يتعلق بحقوق عقد البيع والشراء، فلو اشترى أحد
الشريكين شيئاً يطالب الآخر بالثمن، كما يطالب المشتري نفسه، وله أن
_________
(1) جمع عارية.
(5/3908)
يقبض المبيع كما للمشتري نفسه، وله أن يرد
المبيع على البائع إذا وجد فيه عيباً، وله حق المطالبة بالثمن عند استحقاق
المبيع لغير البائع، وله إقامة البينة عند حصول منازعة على شيء، كما له أن
يحلف الطرف المتنازع معه في حالة إنكاره العيب على عدم علمه به.
5 - ضمان الجناية على الإنسان والمهر ونحوه
والنفقة ونفقات المنزل:
أما أرش (1) الجنايات على الآدمي، والمهر، والنفقة، وبدل الخلع والصلح عن
دم العمد، فلا يؤاخذ بها الشريك؛ لأن هذه الديون بدل عما لا يصح الاشتراك
فيه، فلا يلزم إلا المباشر لسببها؛ لأن كل واحد لم يلتزم عن صاحبه بالعقد
إلا بديون التجارة، وهذه الأشياء ليست متعلقة بالتجارة ولا بما في معنى
التجارة، لعدم وجود معنى معاوضة المال بالمال.
وكذلك كل ما يشتريه أحد الشريكين من طعام لأهله أو كسوة أو ما لا بد منه،
ويشمل شراء بيت للسكنى، واستئجار للسكنى أو للركوب لحاجته كالحج وغيره، فهو
كله جائز، وهو له خاصة استحساناً للضرورة؛ لأن ذلك مما لا بد منه، فكان
مستثنى من المفاوضة، لأن المعلوم بدلالة الحال كالمشروط بالمقال. لكن
للبائع أن يطالب بثمن المشتريات أي شريك شاء، وإن وقع المشترى للذي اشتراه
خاصة، لأن هذا ما يجوز فيه الاشتراك، وكل واحد من الشريكين كفيل عن الآخر
ببدل ما يجوز فيه الاشتراك، إلا أنهم قالوا: إن الشريك يرجع على شريكه بما
أدى بقدر حصته؛ لأنه قضى ديناً عليه من مال مشترك بينهما لا على وجه التبرع
بإذنه دلالة.
ومقتضى القياس أن يكون ما اشتراه أحد الشريكين من الطعام والكسوة
_________
(1) أي دية الجراحات، وقد سبق شرح ذلك.
(5/3909)
والإدام لأهله مشتركاً بينهما؛ لأن هذه من
عقود التجارة، فكانت من جنس ما يتناوله عقد الشركة.
ثالثاً ـ أحكام شركة الوجوه: الشريكان في شركة الوجوه مفاوضة أوعناناً فيما
يجب لهما وما يجب عليهما وما يجوز فيه فعل أحدهما على شريكه ومالا يجوز:
هما بمنزلة شريكي العنان والمفاوضة في الأموال. فإذا أطلقا الشركة بينهما
كانت شركة عنان؛ لأن الشركة المطلقة تقتضي العنان.
وإذا اشتركا بوجوههما شركة مفاوضة فيجوز؛ لأنهما ضما إلى الوكالة المطلقة
الكفالة، وهو جائز، إلا أنه لا بد من التساوي فيما يتبايعانه؛ لأن المفاوضة
تمنع من التفاضل (1).
ويلاحظ أن الحنابلة وإن أجازوا شركة الوجوه إلا أنهم قصروها على ما إذا
كانت الشركة شركة عنان، أما إذا كانت الشركة شركة مفاوضة فلا تجوز عندهم
مطلقاً، لأنها عقد لم يرد الشرع بمثله، لما فيه من الغرر، فلم يصح كبيع
الغرر. ووجه الغرر كما تقدم: أنه يلزم كل واحد ما لزم الآخر، وقد يلزمه شيء
لا يقدر على القيام به.
رابعاً ـ أحكام شركة الأعمال: أـ إذا كانت شركة
الأعمال مفاوضة: بأن ذكر لفظ المفاوضة أو ما هو في معنى المفاوضة،
فيلزم كل شريك بما لزم صاحبه بسبب هذه الشركة، ويطالب به،
_________
(1) راجع البدائع: 77/ 6، رد المحتار: 382/ 3، مجمع الضمانات: ص 303.
(5/3910)
ويجوز إقرار أحد الشريكين بالدين كثمن
صابون أو أشنان أو أجر أجير أو حانوت على نفسه، وعلى شريكه، وللمقر له أن
يطالب بالدين أي شريك شاء؛ لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه، فيلزم المقر
بمقتضى
إقراره، والشريك بسبب كفالته (1).
ومثال شركة المفاوضة في الأعمال: أن يشترك صانعان مثلاً في أن يتقبل كل
منهما الأعمال، وأن يضمنا جميعاً العمل على التساوي، وأن يتساويا في الربح
والخسارة (أي الوضيعة)، وأن يكون كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه فيما لزمه
بسبب هذه الشركة.
ب- وإذا كانت شركة الأعمال عنانا ً: فما
يتقبله كل شريك من العمل يلزمه ويلزم شريكه (2)، وهي تشبه شركة المفاوضة
بالنسبة لضمان العمل استحساناً، فلصاحب العمل أن يطالب بالعمل أيهما شاء
لوجوبه على كل واحد منهما، كما أنه لكل شريك أن يطالب صاحب العمل بكل
الأجرة لأنه قد لزمه كل العمل، فكان له المطالبة بكل الأجرة، ويبرأ صاحب
العمل بالدفع إلى أي شريك شاء.
وأما القياس: فلا يحق لصاحب العمل أن يطالب بالعمل أي شريك شاء، كما أنه
ليس للشريك الذي لم يتقبل العمل أن يطالب صاحب العمل بالأجرة، ووجه القياس
ظاهر: وهو أن هذه الشركة هي شركة عنان، لا شركة مفاوضة، وحكم شركة العنان:
أن ما يلزم كل شريك بعقده لا يطالب به الآخر.
ووجه الاستحسان: أن هذه الشركة تقتضي وجوب العمل على كل واحد
_________
(1) البدائع: 77/ 6، تبيين الحقائق: 321/ 3، مجمع الضمانات: ص 302 وما
بعدها.
(2) أي أنه يلزمه العمل معه فيه.
(5/3911)
من الشريكين، وإذا كانت كذلك كانت مقتضية
وجوب ضمان العمل (1)، فكانت في معنى المفاوضة بالنسبة لوجوب الضمان عن
الشريك الآخر، ولكنها ليست مفاوضة حقيقية، بدليل أن غير هذين الشيئين (وهما
مطالبة كل واحد منهما بالعمل واقتضاء البدل) تطبق عليه أحكام شركة العنان.
فإذا أقر أحد الشريكين بدين كثمن صابون أو أشنان صار مستهلكاً، وأقر بأجر
أجير أو حانوت بعد مضي مدة الإجارة، فلا يصدق إقراره على صاحبه إلا بإقراره
بنفسه أو بالبينة؛ لأن نفاذ الإقرار على الآخر من مقتضيات المفاوضة ولم
ينصا عليها. أما إذا كان المشتري لم يستهلك أو المدة لم تمض، فإنه يلزمهما
الدين بإقرار أحدهما، مما يدل على أنه ليس لهذه الشركة حكم المفاوضة من
جميع الأوجه، وإنما من ناحية حق وجوب العمل فقط، فيكون كل شريك كفيلاً عن
الآخر فيما تقبله من عمل. وهذا مذهب الحنابلة أيضاً (2).
وأما الزيدية فإن هذه الشركة تتضمن عندهم التوكيل لا الكفالة على أصح
القولين عندهم.
جـ ـ اقتسام الربح في هذه الشركة: أما
اقتسام الربح في هذه الشركة فيكون بحسب الضمان لا بالعمل حقيقة، فإذا عمل
أحد الشريكين دون الآخر بأن مرض أو سافر فالأجر بينهما بحسب ما شرطا؛ لأن
الأجر في هذه الشركة إنما يستحق بضمان العمل لا بالعمل فعلاً؛ لأن العمل قد
يكون من نفس الشريك، وقد يكون من غيره كالخياط إذا استعان برجل على
الخياطة، فإنه يستحق الأجر، وإن لم يعمل لوجود ضمان العمل منه، ويكفي
اشتراط العمل عليهما.
_________
(1) أي ضمان ما يقبله صاحبه إن ادعى تلفه أي يشترك معه في ضمانه.
(2) المغني: 5/ 5.
(5/3912)
ويجوز في هذه الشركة شرط التفاضل في الكسب
إذا شرط التفاضل في ضمان العمل، بأن شرط لأحدهما ثلثي الكسب وهو الأجر،
وللآخر الثلث، وشرطا العمل عليهما أيضاً، سواء عمل الذي شرط له الزيادة في
الكسب أم لم يعمل؛ لأن استحقاق الأجرة في هذه الشركة بالضمان لا بالعمل.
وإذا كان استحقاق أصل الأجر بأصل ضمان العمل لا بالعمل في الواقع، كان
استحقاق زيادة الأجر بزيادة الضمان لا بزيادة العمل، فلو كان عمل الذي شرط
له الأجر القليل أكثر جاز؛ لأن الربح بقدر ضمان العمل لا بحقيقة العمل.
د ـ اقتسام الخسارة في هذه الشركة: وأما
الوضيعة (1)، فهي أيضاً على قدر الضمان، حتى إنه لو شرط الشريكان أن ما
يتقبلانه من أعمال: ثلثاه على أحدهما، وثلثه على الآخر، والخسارة بينهما
نصفان، كان هذا الشرط العائد للخسارة باطلاً، والشركة جائزة على ما شرطا
على كل واحد منهما من ضمان العمل؛ لأن الربح إذا انقسم على قدر الضمان،
كانت الوضيعة على قدر الضمان أيضاً.
ولو جنت يد أحدهما فالضمان عليهما جميعاً؛ لأن ضمان الجناية مبني على ضمان
العمل، وهذا قد ضمناه جميعاً (2).
_________
(1) الوضيعة: أي الخسران، سواء أكانت لتلف أو نقصان ثمن أو غيره.
(2) راجع البدائع: 76/ 6 ومابعدها، المبسوط: 107/ 11 ومابعدها، فتح القدير:
29/ 5 ومابعدها، رد المحتار: 381/ 3.
(5/3913)
المطلب الرابع ـ صفة
عقد الشركة ويد الشريك:
أولاً ـ حكم لزوم الشركة: يرى جمهور الفقهاء أن عقد الشركة عقد جائز غير
لازم (1)، فيجوز لكل شريك أن يفسخ العقد، إلا أن من شروط جواز الفسخ: أن
يكون بعلم الشريك الآخر؛ لأن الفسخ من غير علم الشريك إضرار به، ولهذا لم
يصح عزل الوكيل من غير علمه، وبما أن الشركة تتضمن الوكالة وعلم الوكيل
بالعزل شرط جواز العزل، فيشترط العلم في الوكالة التي تضمنتها الشركة.
وكون الشركة عقداً غير لازم عند المالكية هو كما ذكر ابن رشد في بداية
المجتهد وفي المقدمات. لكن جاء في مختصر خليل وشراحه أن المذهب المشهور
لزومها بالعقد، حصل خلط بين أموال الشركاء أم لا. وقال ابن عبد السلام:
المذهب لزومها بالعقد، ولا يتوقف ذلك على الشروع فيها بالتصرف. وهذا رأي
سحنون من فقهاء المالكية، ورجح بعضهم أنها تلزم بالشروع بالتصرف أو العمل،
وهو رأي ابن القاسم وابن الحاجب. والخلاصة: إن الشركة في المذهب المعتمد
لدى المالكية عقد لازم، وهو الذي استظهره الحطاب إذا كانت شركة أموال. أما
شركة الأعمال فلا تلزم بالعقد بل بالعمل.
ثانياً ـ يد الشريك يد أمانة: اتفق الفقهاء على أن يد الشريك في المال يد
أمانة كالوديعة، لأنه قبض المال
_________
(1) البدائع: 77/ 6، المهذب: 348/ 1، مغني المحتاج: 215/ 2،المغني: 21/ 5،
بداية المجتهد: 253/ 2، الدردير: 349/ 3،الحطاب: 122/ 5، الخرشي: 39/ 6،
الشركات في الفقه للأستاذ الخفيف: ص 49 ومابعدها.
(5/3914)
بإذن صاحبه، لا لأجل أن يدفع ثمنه كما في
المقبوض على سوم الشراء، فإنه مقبوض لأجل أن يدفع الثمن، ولا لأجل التوثق
به كما في الرهن، فإنه مقبوض لأجل التوثق بدينه، وبناء عليه فإنه إذا هلك
المال في يد الشريك من غير تفريط لم يضمن؛ لأنه نائب عن شريكه في الحفظ
والتصرف، فكان الهالك في يده كالهالك في يد شريكه. ويقبل قوله بيمينه في
مقدار الربح والخسران وضياع بعض المال أو كله، ولو من غير تجارة. ويضمن
بالتعدي أو التقصير، كما في سائر الأمانات (1).
المطلب الخامس ـ مبطلات عقد الشركة:
هناك مبطلات تعم كل الشركات، ومبطلات تخص بعضها دون بعض.
فأما المبطلات التي تعم الشركات كلها
فهي (2):
1 - فسخ الشركة من أحد الشريكين، لأنها
عقد جائز غير لازم عند الجمهور، كما عرفنا، فكان محتملاً للفسخ. ولا تنفسخ
عند المالكية إلا باتفاق الطرفين على الفسخ؛ لأنها عقد لازم عندهم. قال
الحنابلة: من قال من الشركاء: عزلت شريكي، ولو لم ينض (3) المال انعزل،
ويتصرف المعزول في قدر نصيبه. ولو قال: فسخت الشركة: انعزلا، فلا يتصرف كل
شريك إلا في قدر نصيبه.
_________
(1) المبسوط: 157/ 11، تبيين الحقائق: 320/ 3، فتح القدير: 27/ 5، رد
المحتار لابن عابدين: 379/ 3، المهذب: 347/ 1، المغني: 18/ 5، بداية
المجتهد: 253/ 2.
(2) البدائع: 78/ 6، تبيين الحقائق: 323/ 3، فتح القدير: 34/ 5، مختصر
الطحاوي: ص 108، المبسوط: 212/ 11، رد المحتار: 384/ 3، المهذب: 348/ 1،
المغني: 21/ 5، مغني المحتاج: 215/ 2.
(3) النض: أن تتحول أموال الشركة نقوداً بعد أن كانت أمتعة. وأهل الحجاز
يسمون الدراهم والدنانير: النض والناضََّّ.
(5/3915)
2 - موت أحد
الشريكين: إذا مات أحد الشريكين انفسخت الشركة
لبطلان الملك، وزوال أهلية التصرف بالموت، سواء علم الشريك الآخر بالموت أو
لم يعلم؛ لأن كل شريك وكيل عن صاحبه، وموت الموكل يكون عزلاً للوكيل علم به
أو لم يعلم؛ لأن الموت عزل حكمي.
3 - ارتداد أحد الشريكين ولحوقه بدار الحرب،
لأن ذلك بمنزلة الموت.
4 - جنون الشريك جنوناً مطبقاً؛ لأن بالجنون يخرج الوكيل عن الوكالة، وقد
عرفنا أن الشركة تتضمن الوكالة. والإغماء مثل الجنون، ويقدر إطباق الجنون
بشهر أو بنصف حول على الخلاف عند الحنفية.
وأما المبطلات التي تخص بعض الشركات دون بعض
فهي (1):
1 - هلاك مال الشركة كله أو مال أحد الشريكين
قبل القيام بشراء شيء في شركة الأموال، سواء أكان المالان من جنسين أم من
جنس واحد قبل خلط المالين. والسبب فيه هو أن المعقود عليه في عقد الشركة هو
المال، والمال في الشركة يتعين بالتعيين (2)، وبهلاك المعقود عليه يبطل
العقد كما في عقد البيع. هذا إذا هلك مال الشركة.
_________
(1) المراجع السابقة، فتح القدير: 22/ 4، المبسوط: 164/ 11، 178، مختصر
الطحاوي: ص 107، تبيين الحقائق: 319/ 3، رد المحتار: 375/ 3.
(2) نص الحنفية على أن النقود بالقبض تتعين بالتعيين في الشركات والوكالات
والأمانات والهبات والوصايا والغصوب، ولا تتعين في المعاوضات ولا في
المضاربة. والفرق بين الشركة والمضاربة أن تعيين رأس المال يجب أن يكون
لأنه محل العقد، غير أنه في المضاربة أمكن أن يجعل تعيينه بالقبض لاشتراطه
لتمام المضاربة إذ لا بد فيها من تسليم رأس المال إلى المضارب، فكان هلاكه
قبل القبض لا يعد هلاكاً لمحل العقد لعدم تعينه، فلا تبطل المضاربة بهلاكه
في هذه الحال بخلاف هلاكه بعد قبضه، فتبطل حينئذ المضاربة لزوال محل العقد.
أما في الشركة فلا يجب فيها قبض، وعليه لا سبيل إلى تعيين محل العقد فيها
إلا بالعقد، فكانت النقود بذلك متعينة بناء على العقد عليها، فيعد هلاكها
قبل القبض في يد الشريك الآخر وبعده سواء في أنه مبطل للعقد فيها (الشركات
في الفقه الإسلامي: ص113).
(5/3916)
أما إذا هلك أحد مالي الشريكين فتبطل
الشركة أيضاً؛ لأن الشريك لم يرض بشركة صاحبه إلا ليشركه في ماله، فإذا هلك
ماله لم يكن راضياً بشركته عند عقد الشركة، فيبطل العقد لعدم فائدته. ويهلك
المال حينئذ على ذمة صاحبه، لأنه إذا كان المال في يده، فالأمر ظاهر، وإذا
كان في يد صاحبه فإنه أمانة في يده كما عرفنا.
فإن حصل الهلاك لمال شريك بعد خلطه بمال الشريك الآخر، فإنه يهلك على
الشركة؛ لأنه لا يتميز عن غيره، فيجعل الهلاك من المالين. وكذلك إن اشترى
أحد الشريكين بماله، وهلك مال الآخر بعد الشراء قبل أن يشتري به شيئاً، فإن
المشترى يكون بين الشريكين بحسب ما شرطا؛ لأن تملك الشيء المشترى حيث حدث
أي (بالشراء) حدث مشتركاً بينهما لقيام الشركة وقت الشراء، فلا يتغير حكم
الشركة بهلاك مال الآخر بعدئذ.
ثم الشركة الواقعة في هذا الشيء المشترى بعد هلاك مال الآخر شركة عقد عند
الإمام محمد خلافاً للحسن بن زياد، فإنها شركة ملك عنده، فلا ينعقد بيع
أحدهما إلافي نصيبه؛ لأن شركة العقد بطلت بهلاك المال كما لو هلك قبل
الشراء بمال الآخر، ولم يبق إلا حكم الشراء وهو الملك، فكانت شركتهما في
المتاع شركة ملك.
وعلى قول محمد وهو الراجح: يجوز لأي منهما بيع كل المتاع، وينفذ بيعه، لأن
الشركة قد تمت في المشترى، فلا تنتقض بهلاك المال بعد تمامها، كما لو كان
الهلاك بعد الشراء بالمالين جميعاً.
وإذا وقع الشيء المشترى على الشركة فيرجع المشتري على صاحبه بحصته من
الثمن؛ لأنه اشترى نصفه له بوكالته، ونقد الثمن من ماله نفسه، فيرجع عليه
بحسابه.
(5/3917)
وإن هلك مال أحد الشريكين ثم اشترى الآخر
بماله الذي في يده ينظر: إن صرحا بالوكالة في عقد الشركة بأن نصا في العقد
على أن (ما اشتراه كل منهما بماله هذا يكون مشتركاً بيننا) فالمشترى بينهما
على ما شرطا؛ لأن الشركة إن بطلت فالوكالة المصرح بها قائمة، فتكون شركة
ملك.
وإن لم يصرحا بالوكالة في العقد وذكرا مجرد الشركة، كان المشترى للذي
اشتراه خاصة؛ لأن الشركة لما بطلت بطل ما في ضمنها من الوكالة (1).
2 - عدم تحقق المساواة بين رأسي المال في شركة
المفاوضة بعد وجودها في ابتداء العقد؛ لأن وجود المساواة بين
المالين في ابتداء العقد شرط في انعقاد هذا العقد على الصحة، فيكون بقاء
تلك المساواة شرطاً لبقاء هذه الشركة منعقدة؛ لأنها شركة مفاوضة، سواء في
ابتداء العقد أم في أثناء بقائه.
ويترتب على هذا إذا انعقدت شركة المفاوضة، وكان رأس المال متساوياً بين
الشريكين، ثم ورث أحدهما مالاً تصح فيه الشركة من الدراهم والدنانير، وصار
المبلغ في يده، فتبطل المفاوضة لبطلان المساواة التي هي معنى العقد.
وكذا لو ازداد أحد المالين على الآخر قبل الشراء، بأن كان أحدهما دراهم،
والآخر دنانير، فزادت قيمة أحدهما قبل الشراء، بطلت المفاوضة.
المطلب السادس ـ الشركة الفاسدة عند الحنفية:
عرفنا حكم الشركة الفاسدة، وأذكر هنا أنواع الشركة الفاسدة عند الحنفية
وهي:
_________
(1) راجع فتح القدير: 23/ 5 ومابعدها، رد المحتار: 376/ 3.
(5/3918)
أولاً ـ الاشتراك في أعمال جميع المباحات
التي تملك بالأخذ، مثل الاصطياد والاحتطاب والاحتشاش، والاستقاء، واجتناء
الثمر، وحفر الأرض لاستخراج المعادن.
فإن اشترك اثنان في تلك الأعمال على أن ما أصابا من المباح فهو بينهما،
فالشركة فاسدة عند الحنفية، ولكل واحد منهما ما أخذه؛ لأن الشركة تتضمن
معنى الوكالة، والتوكيل في أخذ المال المباح باطل؛ لأن أمر الموكل بأخذه
غير صحيح، لعدم ملكه وولايته، والوكيل يملك أخذ المباح بدون توكيل، فلا
يصلح الوكيل نائباً عن الموكل في المباح؛ لأن التوكيل إثبات ولاية لم تكن
ثابتة للوكيل، وهذا غير متحقق ههنا، فإذا لم تثبت الوكالة لم تثبت الشركة.
وإذا كانت الشركة في المباحات فاسدة، فيثبت الملك لكل واحد منهما بالأخذ،
وإحراز المباح، ثم ينظر:
آـ إن أخذاه جميعاً معاً، فهو بينهما نصفان، لاستوائهما في سبب الاستحقاق،
فيستويان في الاستحقاق.
ب ـ وإن أخذ كل واحد منهما شيئاً من المذكور على الانفراد، كان المأخوذ
ملكاً له؛ لأن سبب ثبوت الملك في المباحات هو الأخذ والاستيلاء، وكل واحد
منهما انفرد بالأخذ والاستيلاء فينفرد بالملك.
جـ ـ وإن أخذ كل واحد منهما شيئاً على الانفراد، ثم خلطاه، وباعاه: فإن كان
مما يكال أو يوزن يقسم الثمن بينهما على قدر الكيل والوزن الذي لكل واحد
منهما. وإن كان مما لا يكال ولا يوزن، قسم الثمن بينهما بالقيمة، فيأخذ كل
واحد منهما بقيمة الذي له؛ لأن المكيل والموزون من الأشياء المتماثلة،
فتمكن قسمة الثمن بينهما على قدر الكيل والوزن، أما غير المكيل والموزون من
الأشياء المتفاوتة، فلا تمكن قسمة الثمن بينهما بحسب العين، فيقسم بحسب
القيمة.
(5/3919)
وإن لم يعلم الكيل والوزن والقيمة، يصدق كل
واحد منهما فيما يدعيه إلى النصف من المأخوذ، مع اليمين على دعوى صاحبه.
فإن ادعى أكثر من النصف لا يقبل قوله إلا ببينة.
د ـ وإن عمل أحدهما وأعانه الآخر في عمله، بأن قلعه أحدهما وجمعه الآخر، أو
قلعه وجمعه أحدهما وحمله الآخر، فكله للعامل وللمعين أجر المثل بالغاً ما
بلغ عند محمد؛ لأن المسمى مجهول، إذ لم يدر أي نوع من الحطب يصيبان، وأي
قدر منه يجمعان، ولا يدريان أيضاً هل يصيبان شيئاً أو لا، والرضا بالمجهول
لغو، فسقط اعتبار رضاه بالنصف للجهالة، وصار مستوفياً منافعه بعقد فاسد،
فله أجر مثله بالغاً ما بلغ.
وقال أبو يوسف: له أجر مثله على ألا يجاوز به نصف المسمى أو قيمته أي (نصف
الشيء الذي أعانه فيه أو قيمته)؛ لأنه رضي بنصف مجموع ما سيأخذانه. وقاس
حكمه على سائر الإجارات الفاسدة؛ لأنه لا يزاد على المسمى هناك، كذا الأمر
هنا، والجامع بينهما: أنه رضي بأن لا يكون له زيادة على المسمى، فلا يستحق
الزيادة، وصار حكمه كمن قال لرجل: (بع هذا الثوب على أن لك نصف ثمنه فباعه)
كان له أجر المثل لا يجاوز به نصف الثمن (1).
ويرى الجمهور في الأظهر عند الشافعية صحة الشركة في الاحتطاب والاحتشاش
والاصطياد والاستقاء وما يؤخذ من الجبال والمعادن وشبهه من المباحات، لجواز
التوكيل بها، فيحصل الملك للموكل إذا قصده الوكيل به؛ لأن
_________
(1) تبيين الحقائق: 323/ 3، فتح القدير: 31/ 5 ومابعدها، البدائع: 63/ 6
ومابعدها، المبسوط: 216/ 11 ومابعدها، رد المحتار: 382/ 3.
(5/3920)
تملك المباحات أحد أسباب الملك، فأشبه
الشراء، كما يقول الشافعية (1).
ثانياً ـ من أنواع الشركات الفاسدة أن يكون لأحد الشريكين بغل وللآخر حمار
مثلاً، فيشترك اثنان على أن يؤجر الدابتين، فما رزق الله من شيء يكون
بينهما، فأجراهما جميعاً بأجر معلوم وحمل معلوم، فهذه الشركة فاسدة؛ لأن
الشركة متضمنة معنى الوكالة، والوكالة على هذا الوجه لا تصح؛ لأن كل واحد
منهما في المعنى موكل لصاحبه بأن يؤجر دابته ليكون نصف الأجر له، وهذا
التوكيل باطل، كما إذا قال الرجل: (آجر بعيرك على أن أجره بيننا) فإن
التوكيل فاسد، فكذا الشركة؛ لأن الوكالة والشركة يشتركان في معنى واحد: وهو
أن التوكيل إنما يكون فيما لا يملك الوكيل مباشرته قبل التوكيل، وللمالك أن
يبيع دابته ويؤجرها قبل التوكيل. فإذا لم يؤجرا دابتيهما، ولكنهما تقبلا
حمولة معلومة ببدل معلوم، فحملا الحمولة عليهما، فالأجر على حسب الشرط؛ لأن
الشركة حينئذ صحيحة، إذ أن الحمل صار مضموناً عليها بالعقد بمنزلة أي عمل
يتقبلانه.
غير أنه إذا فسدت الشركة فالإجارة صحيحة، لوقوعها على منافع معلومة ببدل
معلوم، فيقسمان ما أخذا من الأجر على قدر مثل أجر البغل وأجر الحمار (2).
وهناك مثال آخر: وهو أن يكون لاثنين سيارتان، فلا يصح لصاحبي هاتين
السيارتين الاشتراك من أجل قسمة الربح الناتج من الحمولة من طريق إجارة
السيارتين للناس؛ لأن كل واحد يختص بثمرة ما يملكه.
_________
(1) الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة: ص 205، مغني المحتاج: 216/ 2،
221، روضة الطالبين: 291/ 4، المغني: 81/ 5، كشاف القناع: 452/ 3.
(2) انظر تحفة الفقهاء، الطبعة الأولى: 19/ 3 ومابعدها، المبسوط: 170/ 11،
218 ومابعدها، رد المحتار: 383/ 3 - 385.
(5/3921)
ولم يجز الشافعية (1) أيضاً هذه الشركة؛
لأنها تقوم على منافع أشياء متميزة، وعلى كل شريك لصاحبه أجرة مثل ماله.
ثالثاً ـ من أنواع الشركة الفاسدة أن يدفع شخص إلى رجل دابة ليؤجرها على أن
الأجر بينهما، فتكون الشركة فاسدة، والأجر كله أي (الربح) لصاحب الدابة؛
لأن المدفوع إليه هو وكيله في إجارتها، وإجارة الوكيل كإجارة الموكل. ومثله
إيجار السفينة أو الدار.
وسبب الفساد: هو أن العقد ورد على ملك الغير بإذنه، وإذا فسد العقد وجب
للذي أجرها أي (العامل) أجر المثل؛ لأنه ابتغى عن منافع الدابة عوضاً، ولم
ينل العوض لفساد العقد، فكان له أجر مثله.
رابعاً ـ من أنواع الشركة الفاسدة أيضاً أن يشتري رجل شيئاً، فيقول له آخر:
«أشركني فيه» فهذا بمنزلة البيع والشراء بمثل ما اشترى في النصف، فإن تم
ذلك قبل أن يقبض المشتري الأول المبيع لم يجز الإشراك، لأن الإشراك
والتولية كما عرفنا في عقود البيع لا يجوزان قبل القبض، ويكون العقد
فاسداً؛ لأنه بيع لمبيع منقول قبل القبض، وهو لا يجوز كما عرفنا سابقاً.
وإن كان ذلك بعد القبض جاز، ويُلْزِم ُالمشتري الشريك نصف الثمن، فإن كان
الشريك لا يعلم بمقدار الثمن فهو بالخيار إذا علم: إن شاء أخذ حصته من
المبيع وإن شاء ترك.
ولو اشترى رجلان فرساً فأشركا فيها رجلاً بعد القبض فمقتضى القياس: أن يكون
للشريك النصف؛ لأن كل واحد منهما لو أشركه في نصيبه على الانفراد استحق
نصفه، فكذا إذا أشركاه جميعاً معاً.
_________
(1) مغني المحتاج: 216/ 2.
(5/3922)
ومقتضى الاستحسان: أن يكون للشريك الثلث؛
لأن الشركة تقتضي المساواة، فإذا قالا للرجل: (أشركناك في الفر س) فكأنهما
قالا: (شاركناك).
فإن أشركه أحدهما في نصيبه ونصيب صاحبه، فأجاز شريكه قوله كان للشريك
الجديد النصف، وللأولين النصف، لأنه لما أجاز شريكه في نصيبه صار نصف نصيبه
له، وقد أشركه في نصيب نفسه هذا، فيكون مجموع ما استحقه الشريك الجديد هو
النصف، وبقي لكل واحد منهما الربع.
وكل شركة فاسدة يقسم الربح فيها على قدر رأس المال، ويبطل شرط التفاضل (1)
كما عرفنا في حكم الشركة.
المبحث الثاني ـ شركة المضاربة:
المضاربة أو القراض أو المعاملة من أنواع الشركات. وهي في لغة أهل العراق
تسمى مضاربة وفي لغة أهل الحجاز تسمى قراضاً، وهو مشتق من القرض وهو القطع؛
لأن المالك يقطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها ويعطيه قطعة من الربح، أو
مشتق من المقارضة: وهي المساواة لتساويهما في استحقاق الربح، أو لأن المال
من المالك والعمل من العامل، وهي لهذا تشبه الإجارة؛ لأن العامل فيها يستحق
حصته من الربح جزاء عمله في المال.
وأهل العراق يسمون القراض مضاربة؛ لأن كلاً من العاقدين يضرب بسهم في
الربح، ولأن العامل يحتاج إلى السفر، والسفر يسمى ضرباً في الأرض (2).
_________
(1) فتح القدير: 33/ 5، رد المحتار: 383/ 3.
(2) مغني المحتاج: 309/ 2، تكملة فتح القدير: 57/ 7 ومابعدها، المبسوط: 18/
22، تبيين الحقائق للزيلعي: 52/ 5، رد المحتار على الدر المختار: 504/ 4،
مجمع الضمانات: ص303.
(5/3923)
والكلام عن هذا العقد في المطالب الخمسة
الآتية:
المطلب الأول ـ تعريف المضاربة
ومشروعيتها وركنها وصفة عقدها.
المطلب الثاني ـ شرائط المضاربة.
المطلب الثالث ـ أحكام المضاربة.
المطلب الرابع ـ حكم اختلاف رب المال والعامل المضارب.
المطلب الخامس ـ مبطلات المضاربة.
المطلب الأول ـ تعريف المضاربة ومشروعيتها وركنها ونوعاها وصفة عقدها:
تعريف المضاربة: المضاربة: هي أن يدفع
المالك إلى العامل مالاً ليتجر فيه، ويكون الربح مشتركاً بينهما بحسب ما
شرطا (1). وأما الخسارة فهي على رب المال وحده، ولا يتحمل العامل المضارب
من الخسران شيئاً وإنما هو يخسر عمله وجهده. وعرفها صاحب الكنز بقوله: هي
شركة بمال من جانب، وعمل من جانب.
ومحترزات التعريف الأول: هي أنه بكلمة (يدفع): تبين أن المضاربة لاتصح على
منفعة كسكنى الدار، وأنها لا تصح على دين، سواء أكان على العامل أم على
غيره. وبكلمة (الربح مشتركاً) تبين أن الوكيل ليس مضارباً. والسبب في
اشتراك العاقدين في الربح: هو أن رب المال يستحق الربح بسبب ماله؛ لأنه
نماء ماله، والمضارب يستحقه باعتبار عمله الذي هو سبب وجود الربح.
_________
(1) المراجع السابقة.
(5/3924)
وعليه إذا شرط جميع الربح لرب المال كان
العقد مباضعة، ولو شرط جميعه للمضارب كان قرضاً.
مشروعية المضاربة: اتفق أئمة المذاهب
على جواز المضاربة بأدلة من القرآن والسنة والإجماع والقياس، إلا أنها
مستثناة من الغرر والإجارة المجهولة.
أما القرآن: فقوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}
[المزمل:20/ 73] والمضارب: يضرب في الأرض يبتغي من فضل الله عز وجل، وقوله
سبحانه: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}
[الجمعة:10/ 62]. فهذه الآيات بعمومها تتناول إطلاق العمل في المال
بالمضاربة.
وأما السنة: فما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كان سيدنا العباس
بن عبد المطلب إذا دفع المال مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحراً،
ولا ينزل به وادياً، ولايشتري به دابة ذات كبد رطبة، فإن فعل ذلك ضمن، فبلغ
شرطه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأجازه» (1)، وروى ابن ماجه عن صهيب
رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ثلاث فيهن البركة: البيع
إلى أجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع» (2).
وأما الإجماع: فما روي عن جماعة من الصحابة أنهم دفعوا مال اليتيم مضاربة
(3) ولم ينكر عليهم أحد، فكان إجماعاً، وروي أن عبد الله وعبيد الله ابني
_________
(1) رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس. قال الهيثمي: وفيه أبو الجارود
الأعمى وهو متروك كذاب (راجع مجمع الزوائد: 161/ 4).
(2) إسناده ضعيف (راجع سبل السلام: 76/ 3) والحق ما قال ابن حزم في مراتب
الإجماع: «كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب أو السنة حاشا القراض، فما
وجدنا له أصلاً فيهما البتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد، والذي نقطع به أنه كان
في عصره صلّى الله عليه وسلم، فعلم به وأقره، ولولا ذلك لما جاز» (انظر
التلخيص الحبير: ص 255).
(3) انظر نصب الراية: 113/ 4.
(5/3925)
عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرجا في جيش
العراق، فلما قفلا مرا على عامل لعمر: وهو أبو موسى الأشعري، فرحب بهما
وسهل، وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ههنا مال
من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكما، فتبتاعان به
متاعاً من متاع العراق، ثم تبيعانه في المدينة، وتوفران رأس المال إلى أمير
المؤمنين، ويكون لكما ربحه.
فقالا: وددنا، ففعل، فكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا
وربحا، فقال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما؟ فقال: لا. فقال عمر: ابنا
أمير المؤمنين فأسلفكما!! فأدّيا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما
عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين، لو هلك المال ضمناه. فقال: أدياه، فسكت
عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين، لو
جعلته قراضاً (أي لو عملت بحكم المضاربة: وهو أن يجعل لهما النصف، ولبيت
المال النصف) فرضي عمر، وأخذ رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد
الله نصف ربح المال (1).وأثبت ابن تيمية مشروعية المضاربة بالإجماع القائم
على النص، فإن المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش، فإن
الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول
الله صلّى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة، كما سافر بمال
خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان
وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان أصحابه
يسافرون بمال غيره مضاربة، ولم ينه عن ذلك، والسنة: قوله وفعله وإقراره،
فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة (2).
_________
(1) أخرجه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه، وعن مالك رواه الشافعي
في مسنده، ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في «المعرفة» وأخرجه الدارقطني في
سننه عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده (راجع تنوير الحوالك شرح
موطأ مالك: 173/ 2، نصب الراية: 113/ 4، التلخيص الحبير: ص 254).
(2) فتاوى ابن تيمية: 195/ 19 ومابعدها.
(5/3926)
وأما القياس: فالمضاربة قيست على المساقاة
لحاجة الناس إليها، لأن الناس بين غني وفقير، والإنسان قد يكون له مال،
لكنه لا يهتدي إلى أوجه التصرف والتجارة به، وهناك من لا مال له، لكنه مهتد
في التصرفات، فكان في تشريع هذا العقد تحقيق للحاجتين، والله تعالى ما شرع
العقود إلا لمصالح العباد ودفع حوائجهم (1).
وحكمة مشروعية المضاربة: تمكين الناس من تنمية الأموال وتحقيق التعاون
بينهم، وضم الخبرات والمهارات إلى رؤوس الأموال لتحقيق أطيب الثمرات.
ركن المضاربة وألفاظها ونوعاها: ركن عقد
المضاربة عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول، بألفاظ تدل عليهما.
فألفاظ الإيجاب: هي لفظ المضاربة والمقارضة والمعاملة، وما يؤدي معاني هذه
الألفاظ بأن يقول رب المال: (خذ هذا المال مضاربة على أن ما رزق الله عز
وجل من ربح فهو بيننا على كذا من نصف أو ربع أو ثلث أو غير ذلك من الأجزاء
المعلومة).
وكذا إذا قال: مقارضة أو معاملة، أو قال (خذ هذا المال واعمل به على أن
مارزق الله من شيء فهو بيننا على كذا) ولم يزد على هذا فهو جائز، لأنه أتى
بلفظ يؤدي معنى هذا العقد، والعبرة في العقود لمعانيها، لا لصور الألفاظ.
وألفاظ القبول: هي أن يقول العامل المضارب: أخذت، أو رضيت أو قبلت، ونحوها.
وإذا توافر الإيجاب والقبول انعقد العقد (2).
_________
(1) البدائع: 79/ 6، تكملة فتح القدير: 58/ 7، المبسوط: 18/ 22، المهذب:
384/ 1، مغني المحتاج: 309/ 2.
(2) البدائع: 79/ 6 ومابعدها.
(5/3927)
وأركان المضاربة عند الجمهور ثلاثة: عاقدان
(مالك وعامل) ومعقود عليه (رأس المال، والعمل والربح)، وصيغة (إيجاب وقبول)
وعدها الشافعية خمسة: مال وعمل وربح (1) وصيغة وعاقدان.
نوعاها: المضاربة نوعان: مطلقة ومقيدة
(2):
ف المطلقة: هي أن يدفع شخص المال إلى
آخر بدون قيد، ويقول: «دفعت هذا المال إلىك مضاربة على أن الربح بيننا كذا
مناصفة أو أثلاثاً، ونحو ذلك» أو هي أن يدفع المال مضاربة من غير تعيين
العمل والمكان والزمان وصفة العمل ومن يعامله.
والمقيدة: هي أن يعين شيئاً من ذلك أو
أن يدفع إلى آخر ألف دينار مثلاً مضاربة على أن يعمل بها في بلدة معينة، أو
في بضاعة معينة، أو في وقت معين، أو لا يبيع ولا يشتري إلا من شخص معين.
وهذان النوعان الأخيران (حالة التأقيت وتخصيص
شخص) جائزان عند أبي حنيفة وأحمد، وغير جائزين عند مالك والشافعي.
وكذلك يجوز إضافتها إلى المستقبل عند
الأولين ولا يجوز عند الآخرين كأن يقول رب المال: ضارب بهذا المال ابتداء
من الشهر الآتي. وأما تعليق المضاربة على شرط
كما إذا قال صاحب المال: إذا جاءك فلان بالدين الذي لي في ذمته (ومقداره
ألف دينار) وسلمك إياه فضارب به، فقد أجازه الحنابلة والزيدية ولم يجزه
الحنفية والمالكية والشافعية؛ لأن المضاربة تفيد تمليك جزء من الربح،
والتمليك لا يقبل التعليق (3).
_________
(1) البدائع: 87/ 6.
(2) مغني المحتاج: 310/ 2، البدائع: 87/ 6 - 98.
(3) الميزان للشعراني: 92/ 2، المغني: 62/ 5 - 63. المنتزع المختار
للزيدية: 320/ 3، المهذب: 386/ 1، الشرح الكبير للدردير: 521/ 3، غاية
المنتهى: 173/ 2، كشاف القناع: 497/ 3.
(5/3928)
ويشترط في المضاربة عند الشافعية والمالكية
أن تكون مطلقة، فلا تصح مقيدة بنوع معين من التجارة، ولا بشخص معين، ولا
ببلد معين. ولا يشترط تعيين مدة فيها، فإن عينت مدة لا يتمكن فيها العامل
من المتاجرة، فسدت الشركة، وإن عينت مدة يتمكن فيها من التجارة، ثم منع
العامل من الشراء، ولم يمنع من البيع، صح ذلك لتمكنه من الربح بالبيع.
صفة عقد المضاربة:
اتفق العلماء على أن عقد المضاربة قبل شروع العامل في العمل غير لازم، وأنه
لكل من المتعاقدين فسخه. واختلفوا فيما إذا شرع العامل في المضاربة، فقال
الإمام مالك: هو عقد لازم بالشروع، وهوعقد يورث، فإن المضارب إذا كان له
بنون أمناء كانوا في المضاربة أو القراض مثل أبيهم، وإن لم يكونوا أمناء
كان لهم أن يأتوا بأمين. وإن شرع العامل لا يفسخ العقد حتى ينض المال أي
يتحول نقوداً لا عروضاً.
وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: العقد غير لازم، ولكل من العاقدين الفسخ
إذا شاء، وليس هو عقداً يورث.
ومرجع الخلاف بين الفريقين: أن الإمام مالك جعل العقد لازماً بعد الشروع في
العمل لما يترتب على الفسخ من ضرر، فكان من العقود الموروثة. وأما الفريق
الثاني فقد شبهوا الشروع في العمل بما قبل الشروع في العمل؛ لأن المضاربة
تصرف في مال الغير بإذنه، فيملك كل واحد من العاقدين فسخ العقد، كما في
الوديعة والوكالة (1).
_________
(1) انظر بداية المجتهد: 237/ 2، الخرشي: 223/ 6، ط ثانية: البدائع: 109/
6، المهذب: 388/ 1، مغني المحتاج: 319/ 2، المغني: 58/ 5.
(5/3929)
ولكن الحنفية ومن وافقهم اشترطوا لصحة
الفسخ وانتهاء المضاربة علم المتعاقد الآخر بالفسخ، كما في سائر أنواع
الشركات، وأن يكون عند الحنفية رأس المال ناضاً أي نقوداً (1) وقت الفسخ،
فإن كان من العروض من عقار أو منقول، لم يصح الفسخ عندهم.
وقال الشافعية والحنابلة: إذا انفسخت المضاربة ورأس المال عروض، فاتفق
المتعاقدان على بيعه أو قسمته جاز؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما. وإن طلب
العامل البيع، وأبى رب المال، أجبر رب المال على البيع؛ لأن حق العامل في
الربح، وهو لا يحصل إلا بالبيع (2).
تعدد المضارب: قال المالكية (3): إذا
تعدد عامل القراض، فإن الربح يوزع عليهم على قدر العمل كشركاء الأبدان، أي
فيأخذ كل منهما من الربح بقدر عمله، فلا يجوز أن يتساويا في العمل، ويختلفا
في الربح، أو بالعكس، بل الربح على قدر العمل على المشهور.
حكم الشركات القانونية الحديثة: إن
شركات الأشخاص التجارية في القانون الوضعي وهي شركة التضامن وشركة التوصية
البسيطة وشركة المحاصة تعتبر جميعها في الجملة من قبيل شركة المضاربة في
الفقه الإسلامي مع اختلاف بعض الأحكام بين القانون والشريعة حسبما تقتضيه
مصلحة الناس وطبيعة التطور. ففي شركة التضامن حيث يكون المال من جميع
الشركاء، والعمل من بعضهم، يكون العامل مضارباً في مال غيره. وفي شركة
التوصية البسيطة حيث
_________
(1) نضَّ المال: أي صار مثل حاله وقت العقد عليه دنانير أو دراهم.
(2) المراجع السابقة.
(3) الخرشي: 217/ 6.
(5/3930)
تتكون الشركة من شركاء متضامنين مسؤولين عن
التزامات الشركة، وشركاء موصين تنحصر مسؤولية كل واحد فيما يقدمه من حصة في
المال، تكون الشركة مضاربة في مال الموصين. وفي شركة المحاصة إذا سلمت
الحصص لأحد الشركاء لاستثمارها، يكون هذا الشريك وكيلاً عنهم في استثمار
هذا المال، وعمله في مال غيره يكون قراضاً (مضاربة).
وكذلك شركات الأموال أو شركات المساهمة حيث يكون العمل في مالها عادة لغير
أرباب الأموال فيها، تعد من قبيل القراض في هذه الحال. وكذلك الشركات ذات
المسؤولية المحدودة التي لا يزيد عدد الشركاء فيها على خمسين شريكاً، يكون
عمل المدير فيها قراضاً، كما يرى أستاذنا الشيخ علي الخفيف (1). والأدق أن
يعتبر عمله من باب التوظف، فهو يعمل بأجر بحكم التوظف لا بحكم المشاركة.
ولا مانع شرعاً في شركة المساهمة وشركة التضامن من اعتبار مدير الشركة
أجيراً موظفاً على العمل، ولا مانع من وجود صفتي الشركة والإجارة في شيء
واحد؛ لأن المنع من وجود عقدين أو شرطين في عقد يزول إذا زالت علته أو
حكمته وهو عدم إثارة النزاع والخلاف، وعدم التنازع جرى عليه العرف والعادة،
فلم يعد شرطاً مفسداً. وسأوضح ذلك قريباً.
المطلب الثاني ـ شرائط المضاربة:
يشترط لصحة المضاربة شروط في العاقدين
وفي رأس المال وفي الربح:
أما ما يشترط في العاقدين وهما رب المال والمضارب: فهو أهلية التوكيل
والوكالة؛ لأن المضارب يتصرف بأمر رب المال، وهذا معنى التوكيل، ولا يشترط
_________
(1) راجع الشركات في الفقه الإسلامي لأستاذنا الشيخ علي الخفيف: ص 92 - 97.
(5/3931)
كونهما مسلمين، فتصح المضاربة بين المسلم
والذمي والمستأمن في دار الإسلام، والمذهب عند المالكية الكراهة بين مسلم
وذمي إذا لم يعمل بمحرم كالربا.
وأما شروط رأس المال فهي:
أولاً ـ أن يكون رأس المال من النقود الرائجة أي الدراهم والدنانير ونحوها،
كما هو الشرط في شركة العنان. فلا تجوز المضاربة بالعروض من عقار أو منقول
عند جمهور العلماء، ولو كان المنقول مثلياً عند الحنفية والحنابلة، وأجازها
ابن أبي ليلى والأوزاعي، وتنعقد حينئذ على قيمها عند انعقاد المضاربة. وحجة
الجمهور أن رأس المال إذا كان عروضاً كان غرراً؛ لأن المضاربة تؤدي حينئذ
إلى جهالة الربح وقت القسمة، إذ أن قيمة العروض تعرف بالحزر والظن، وتختلف
باختلاف المقومين، والجهالة تفضي إلى المنازعة، والمنازعة تفضي إلى الفساد
(1)، وللعامل حينئذ أجر مثله في ذمة رب المال.
وكون القراض لا يجوز بالعروض عند المالكية مع جواز ذلك في شركة العنان،
فلأن القراض رخصة يقتصر على ما ورد فيها.
أما إذا كان رأس المال ما به تباع العروض، بأن دفع إنسان لآخر عروضاً،
وقال: بعها واعمل بثمنها مضاربة، فباعها بنقود، وتصرف فيها، جاز العقد عند
أبي حنيفة ومالك وأحمد، لأنه لم يضف المضاربة إلى العروض، وإنما أضافها إلى
الثمن، والثمن تصح به المضاربة.
_________
(1) المبسوط: 33/ 22، تبيين الحقائق: 53/ 5، البدائع: 82/ 6، بداية
المجتهد: 234/ 2، المهذب: 385/ 1، مغني المحتاج: 310/ 2، تكملة فتح القدير:
58/ 7، الخرشي: 3/ 6 - 2 - 209، ط ثانية، الدردير: 518/ 3 ومابعدها،
القوانين الفقهية: ص 282.
(5/3932)
ولم يجز العقد عند الشافعي، لأنه قارضه على
ماتباع به السلعة، وذلك مجهول، فكأنه قارضه على رأس مال مجهول.
وكما أنه لا تصح المضاربة على العروض لا تصح أيضاً على تبر الذهب والفضة
والنقرة (القطعة الخالصة من الذهب والفضة)، ولا على الفلوس عند أبي حنيفة
وأبي يوسف ومالك، لأنها لا تعتبر أثماناً مطلقة، وعند محمد: تجوز، لأنها
أثمان للأشياء عنده، كما عرفنا في بحث شركات الأموال.
والخلاصة: أن كل ما يصلح رأس مال في الشركة، ويصح به عقد الشركة، تصح به
المضاربة، وإلا فلا.
ثانياً ـ أن يكون رأس المال معلوم المقدار: فإن كان مجهولاً لا تصح
المضاربة؛ لأن جهالة رأس المال تؤدي إلى جهالة الربح، وكون الربح معلوماً
شرط لصحة المضاربة.
ثالثاً ـ أن يكون رأس المال عيناً (1) حاضرة لا ديناً: فلا تصح المضاربة
على دين ولا على مال غائب. وعليه لا يجوز أن يقال لمن عليه دين: ضارب
بالدين الذي عليك. وهذا الشرط والذي قبله باتفاق العلماء. والمضاربة بالدين
فاسدة؛ لأن المال الذي في يد من عليه دين له، وإنما يصير لدائنه (أوغريمه)
بقبضه، ولم يوجد القبض ههنا (2).
_________
(1) أي معيناً.
(2) راجع البدائع: 83/ 6، فتح القدير: 59/ 7، رد المحتار على الدر المختار:
506/ 4، بداية المجتهد: 335/ 2، مغني المحتاج: 310/ 2، المغني: 67/ 5، كشاف
القناع: 263/ 2، القوانين الفقهية، المكان السابق، الخرشي: 202/ 6، 204، ط
ثانية.
(5/3933)
والشرط أن يكون المال حاضراً عند التصرف،
فلا يشترط الحضور في مجلس العقد، فلو وفي الدين، وسلم إلى المضارب أو أحضر
المال الغائب، فسلم إليه، صحت المضاربة.
وبناء عليه: إذا كان لرب المال دين على رجل، فقال له: «اعمل بديني الذي في
ذمتك مضاربة بالنصف» فقال أبو حنيفة: إذا اشترى المدين بذلك وباع، فجميع ما
اشترى وباع يملكه هو، وله ربحه وعليه وضيعته (خسارته) والدين يظل قائماً في
ذمته بحاله، وهذا مبني على الأصل المقرر عنده فيمن وكل رجلاً ليشتري له
بالدين الذي في ذمته: وهو أنه لا يجوز.
وهذا متفق مع مذهب المالكية والشافعية والحنابلة أيضاً، فلا تصح عندهم
المضاربة بما في ذمة المضارب من دين لآخر، وإنما لا بد من تسليمه إلى
الدائن، ثم يسلمه الدائن مرة أخرى للمضارب.
وقال الصاحبان: إن جميع ما اشترى وباع لرب المال، له ربحه وعليه خسارته.
وهذا مبني على الأصل المقرر عندهما في الوكالة السابقة: وهو أن هذا التوكيل
جائز، ويبرأ المدين من الدين، ولكن المضاربة فاسدة؛ لأن الشراء وقع للموكل،
فتصير المضاربة بعدئذ مضاربة بالعروض، كأنه وكله بشراء العروض، ثم دفعه
إليه مضاربة، والمضاربة بالعروض لا تصح.
قبض الدين: أما إذا قال إنسان لرجل:
(اقبض ما لي على فلان من الدين واعمل به مضاربة) جاز باتفاق العلماء؛ لأن
المضاربة هنا أضيفت إلى المقبوض الذي هو أمانة في يده، فكان رأس المال
عيناً لا ديناً، أي أن المضارب يكون وكيلاً في قبضه مؤتمناً عليه؛ لأنه
قبضه بإذن مالكه من غيره، فجاز أن يجعله مضاربة، كما لو قال: اقبض المال من
غلامي وضارب به.
(5/3934)
الوديعة: وكذلك تجوز المضاربة عند الحنفية
والشافعية والحنابلة إذا كان في يد شخص وديعة، فقال له
المودع: ضارب بها؛ لأن الوديعة ملك رب
المال، فجاز أن يضاربه عليها، كما لو كانت حاضرة، فقال: (قارضتك على هذا
الألف) وأشار إليه في زاوية البيت.
والفرق بين هذه الحالة والدين: أن عين المال في حالة الدين لا يصير ملكاً
للدائن إلا بقبضه.
وقال المالكية: المرهون أو الوديعة لا يجوز أن يكون أحدهما رأس مال القراض؛
لأنه شبيه بالدين.
المغصوب: والمضاربة تجوز أيضاً فيما إذا
كان المال مغصوباً، فضارب به الغاصب؛ لأنه مال لرب المال يباح له بيعه من
غاصبه ومن يقدر على أخذه منه، فأشبه الوديعة (1).
رابعاً ـ أن يكون رأس المال مسلَّماً إلى العامل: ليتمكن من العمل فيه،
ولأن رأس المال أمانة في يده، فلا يصح إلا بالتسليم وهو التخلية كالوديعة،
ولا تصح المضاربة مع بقاء يد رب المال على المال، لعدم تحقق التسليم مع
بقاء يده. ويترتب عليه أنه لو شرط بقاء يد المالك على المال فسدت المضاربة،
إذ لا بد من استقلال العامل بالتصرف والعمل بمقتضى طبيعة التجارة وظروفها
التي يتعذر فيها الاشتراك في العمل الذي يحتاج إنجازه لسرعة واهتبال الفرصة
المواتية. فإن استعان العامل بصاحب المال في العمل، دون اشتراط، جاز ذلك،
لأن الاستعانة به لا تخرج المال من العامل.
وهذا الشرط محل اتفاق بين الجمهور (أبي حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي
_________
(1) انظر البدائع: 83/ 6، المغني: 68/ 5 ومابعدها، المهذب: 385/ 1، مغني
المحتاج: 310/ 2.
(5/3935)
والأوزاعي وأبي ثور وابن المنذر). وأما
الحنابلة فقد أجازوا اشتراط بقاء يد المالك على المال.
وأجاز المالكية للعامل أن يشترط عمل رب المال مجاناً أن يعمل معه في مال
القراض، أو يشترط تقديم دابة رب المال حيث كان المال كثيراً. كما أجازوا
أيضاً لمريد القراض أن يدفع مالين متعاقبين، أي واحداً بعد واحد لعامل
واحد، إذا شرطا خلط المالين عند دفع الثاني؛ لأنه يرجع حينئذ إلى أجر واحد
معلوم.
وفي هذا الشرط تختلف المضاربة عن شركات الأموال، فإنها تصح مع بقاء يد رب
المال على ماله. والفرق هو أن المضاربة انعقدت على رأس مال من أحد
الجانبين، وعلى العمل من الجانب الآخر، ولا يتحقق العمل إلا بعد خروج المال
من يد صاحبه ليتمكن من التصرف فيه. أما الشركة فإنها انعقدت على العمل من
الجانبين، فإذا شرط زوال يد رب المال عن العمل، فيكون هذا الشرط مناقضاً
لمقتضى العقد، كما لو شرط في المضاربة عمل رب المال، فإن المضاربة تفسد،
سواء عمل رب المال مع المضارب، أم لم يعمل؛ لأن شرط عمله معه معناه اشتراط
بقاء يده على المال، وهذا شرط فاسد، لأنه يمنع المضارب من التمكن من
التصرف، فلا يتحقق المقصود من العقد (1).
وهذا الشرط مطلوب، سواء أكان المالك عاقداً أم غير عاقد، فلا بد من زوال يد
رب المال عن ماله لتصح المضاربة.
ويترتب عليه أن الأب أوا لوصي إذا ضارب في مال الصغير، وشرط عمل
_________
(1) يلاحظ أن الخلاف في هذا الشرط إذا كان عمل رب المال مشترطاً في العقد.
أما إذا عمل متبرعاً من غير شرط، كأن استعان به المضارب فلا يؤثر ذلك في
صحة المضاربة اتفاقاً (الشركات للأستاذ الخفيف: ص 70).
(5/3936)
الصغير، لم تصح
المضاربة؛ لأن يد الصغير ثابتة له، وبقاء يده يمنع التسليم إلى المضارب
(1). وكذلك أحد شريكي المفاوضة أو العنان إذا دفع مالاً مضاربة وشرط عمل
شريكه مع المضارب، فالمضاربة فاسدة لقيام الملك لشريكه، وإن لم يكن عاقداً،
فيمنع تحقق التسليم (2).
ويترتب على هذا الشرط أن المضارب لو دفع إلى رب المال مضاربة بالثلث
فالمضاربة الثانية فاسدة، والمضاربة الأولى على حالها جائزة.
وأما شروط الربح فهي ما يأتي:
أولاً ـ أن يكون الربح معلوم القدر: لأن المعقود عليه أو المقصود من العقد
هو الربح، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد (3). وإذا دفع شخص لآخر ألف
درهم على أن يشتركا في الربح، ولم يبين مقدار الربح، جاز العقد، ويكون
الربح بينهما نصفين؛ لأن الشركة تقتضي المساواة كما في قوله تعالى: {فَهُمْ
شُرَكاء ُفي الثلث} [النساء:12/ 4].
حالة فساد المضاربة وحالة فساد الشرط فقط عند
الحنفية:
إن كان هناك شرط يؤدي إلى جهالة الربح فسدت المضاربة، لاختلال المقصود من
العقد: وهو الربح.
_________
(1) أما إذا اشترط على المضارب أن يعمل معه نفس الأب أو الوصي فذلك جائز
اتفاقاً (المرجع السابق).
(2) انظر المبسوط: 83/ 22 ومابعدها، تبيين الحقائق: 56/ 5، البدائع: 84/ 6
ومابعدها، تكملة فتح القدير: 63/ 7، الدر المختار: 506/ 4، مغني المحتاج:
310/ 2، كشاف القناع: 262/ 2، الشرح الكبير للدردير: 520/ 3 ومابعدها،
نهاية المحتاج: 163/ 4، الخرشي: 210/ 6، 212 ط ثانية.
(3) المبسوط: 27/ 22، البدائع: 85/ 6، تبيين الحقائق: 55/ 5 ومابعدها، الدر
المختار: 505/ 4، بداية المجتهد: 234/ 2، مغني المحتاج: 313/ 2، المهذب:
385/ 1، المغني: 30/ 5، نهاية المحتاج: 162/ 4،الخرشي: 209/ 6، ط ثانية.
(5/3937)
وإن كان الشرط لا يؤدي إلى جهالة الربح
يبطل الشرط ويصح القعد. مثل أن يشترط المالك أن تكون الخسارة على المضارب
أو عليهما، فالشرط يبطل، ويبقى العقد صحيحاً، والخسارة تكون على المالك في
مال المضاربة. والسبب في أن شرط الخسارة عليهما شرط فاسد: هو أن الخسارة
تعتبر جزءاً هالكاً من المال، فلا يكون إلا على رب المال، لا أنه يؤدي إلى
جهالة الربح، فيؤثر في العقد فيجعله فاسداً.
ومثله أيضاً: أن يدفع شخص لآخر ألف دينار مضاربة على أن الربح بينهما
نصفان، وعلى أن يدفع إليه رب المال أرضه ليزرعها سنة أو داراً ليسكنها سنة
فالشرط باطل، والمضاربة جائزة، لأنه ـ أي رب المال ـ ألحق بها شرطاً فاسداً
لا يقتضيه العقد. أما لو كان المضارب هو المشروط عليه بأن شُرط عليه أن
يدفع أرضه ليزرعها رب المال سنة أو يدفع داره إلى رب المال ليسكنها سنة،
فإن المضاربة تفسد، لأنه جعل نصف الربح عوضاً عن عمله وعن أجرة الدار أو
الأرض، فصارت حصة العمل مجهولة بالعقد، فلم يصح العقد (1).
وخلاصة ضابط الفساد عند الحنفية باقتران شرط في المضاربة: هو أنه إذا كان
الشرط مؤدياً إلى عدم توافر شرط من شروط صحة المضاربة، فإنه يفسدها، كجهالة
الربح أو عدم كمال تسليم المال إلى المضارب. أما إذا كان الشرط لا يمس شروط
صحة المضاربة، فإن اشتراط شرط فاسد في المضاربة، لا يفسدها، وإنما يفسد
الشرط ويلغو، وتصح المضاربة، كاشتراط الوضيعة (الخسارة) على المضارب، يبطل
الشرط، وتصح المضاربة.
ولو جعل الربح كله لرب المال وقبل المضارب أن يعمل فيه بالمجان لم يكن
العقد مضاربة، ولكن صار إبضاعاً أو مباضعة، والعامل فيه مستبضعاً.
_________
(1) البدائع: 86/ 6، تكملة فتح القدير: 62/ 7.
(5/3938)
ولو شرط في المضاربة كون جميع الربح
للمضارب، فالعقد قرض عند الحنفية والحنابلة، وهو مضاربة فاسدة عند
الشافعية، وحينئذ يكون للعامل أجرة مثل عمله؛ لأن مقتضى المضاربة الاشتراك
في الربح، فإذا شرط استئثار العامل بالربح، كان الشرط فاسداً.
ويجوز عند الحنفية أن يشترط لأحد العاقدين دراهم معدودة معلومة إن زاد
الربح على مقدار كذا من الدراهم، فذلك شرط صحيح لا يؤثر في صحة المضاربة؛
لأنه لا يؤدي إلى جهالة الربح (1).
وقال المالكية: يجوز أن يشترط العامل الربح كله له (2)، وعبارتهم: يجوز
اشتراط الربح كله في القراض لرب المال أو للعامل أو لغيرهما؛ لأنه من باب
التبرع، وإطلاق القراض عليه حينئذ مجاز، وليس هو بقراض حقيقة، أي أن العامل
يضمن المال إذا أخذه على أن الربح كله له، لأنه حينئذ يشبه السلف.
ووجه قول الحنفية والحنابلة: أنه إذا لم يمكن تصحيح العقد مضاربة يجعل
قرضاً؛ لأنه أتى بمعنى القرض، والعبرة في العقود لمعانيها (3). ويترتب على
هذا أنه إذا شرط جميع الربح لرب المال فهو مباضعة عندهم، لوجود معنى
الإبضاع (4) كما تقدم.
ثانياً ـ أن يكون الربح جزءاً مشاعاً: أي نسبة عشرية أو سهماً من الربح،
كأن يتفقا على ثلث أو ربع أو نصف، وهذا مستثنى من حكم الإجارة المجهولة؛
_________
(1) الشركات للأستاذ الخفيف: ص 71.
(2) بداية المجتهد: 335/ 2، الخرشي: 203/ 6، 209، ط ثانية، بولاق.
(3) البدائع: المصدر السابق، مغني المحتاج: 312/ 2، المهذب: 385/ 1،
المغني:30/ 5.
(4) الإبضاع هنا: أي التوكيل بلا جعل أو أجر. وبعبارة أخرى: هو استعمال شخص
في المال بغير عوض (البدائع: 87/ 6).
(5/3939)
لأن جواز عقد المضاربة كان للرفق بالناس،
فإذا عين المتعاقدان مقداراً مقطوعاً محدداً، بأن شرطا مثلاً أن يكون
لأحدهما مئة دينار أو أقل أو أكثر، والباقي للآخر، فلا يصح هذا الشرط،
والمضاربة فاسدة؛ لأن المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح، وهذا الشرط يمنع
الاشتراك في الربح، لاحتمال ألا يربح المضارب إلا هذا القدر المذكور، فيكون
الربح لأحدهما دون الآخر، فلا تتحقق الشركة، وبالتالي لا يكون التصرف
مضاربة.
ولا تجوز المضاربة إذا جعل للعامل جزء من ربح غير المال المتجر فيه، وصرح
المالكية أنه يجوز أن يتراضى العاقدان بعد العمل على جزء قليل أو كثير.
وكذلك تفسد المضاربة إذا شرط زيادة ربح كعشرة مثلاً لأحد الشريكين، لاحتمال
ألا يربح العامل إلا هذا القدر، فلا تتحقق الشركة في الربح. وحينئذ يلزم
للعامل أجر المثل كما في سائر أنواع المضاربة الفاسدة (1).
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا
شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة.
وبناء عليه: لا تصح المضاربة بربح محدد كالفائدة التي تقدمها المصارف على
الودائع؛ لأن المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح بدون تحديد نسبة مقطوعة
كسبعة في المئة مثلاً. ولا تصح المضاربة على أن يأخذ العامل راتباً شهرياً
معيناً، ونسبة من الأرباح عند تصفية الشركة أو الجرد السنوي وغيره.
_________
(1) انظر المبسوط: 27/ 22، تبيين الحقائق: 54/ 5، البدائع: 85/ 6 ومابعدها،
تكملة فتح القدير: 60/ 7، مجمع الضمانات: ص 303، الشرح الكبير للدردير:
517/ 3، مغني المحتاج: 313/ 2، بداية المجتهد: 234/ 2، المغني: 34/ 5،
نهاية المحتاج: 165/ 4.
(5/3940)
المطلب الثالث ـ
أحكام المضاربة:
المضاربة إما صحيحة أو فاسدة، ولكل واحد منهما أحكام، وسأبدأ في أحكام
المضاربة الفاسدة التي اختل فيها شرط من شروط صحتها، لأن الكلام فيها يسير.
حكم المضاربة الفاسدة: إذا كانت
المضاربة فاسدة كأن يقول شخص لآخر: صد بشبكتي والصيد بيننا، فليس للمضارب
عند الحنفية والشافعية والحنابلة (1) أن يعمل شيئاً مما تقتضيه المضاربة
الصحيحة، ولا يثبت بها شيء من أحكام المضاربة الصحيحة التي سنعرفها، ولا
يستحق النفقة ولا الربح المسمى، وإنما له أجر مثل عمله، سواء أكان في
المضاربة ربح أم لم يكن؛ لأن المضاربة الفاسدة في معنى الإجارة الفاسدة،
والأجير لا يستحق النفقة ولا المسمى في الإجارة الفاسدة، وإنما يستحق أجر
المثل. وعلى هذا إذا لم يربح المضارب، فله أجر مثل عمله؛ لأن رب المال
استعمله مدة في عمله، فكان عليه أجر العمل، وينفذ تصرف العامل، والربح
للمالك.
وأما الربح الحاصل حينئذ أو الصيد في مثالنا، فيكون كله لرب المال؛ لأن
الربح نماء ملكه، ولم يستحق المضارب منه شيئاً نظراً لفساد العقد. وكذلك
الخسران يكون على رب المال.
والقول قول المضارب مع يمينه إذا فسد العقد، وذلك في دعوى الهلاك والضياع،
والمال في يده أمانة، كما في المضاربة الصحيحة.
_________
(1) البدائع: 108/ 6، مغني المحتاج: 315/ 2، تكملة فتح القدير: 58/ 7،
مختصر الطحاوي: ص124، المبسوط: 22/ 22، مجمع الضمانات: ص 311، غاية
المنتهى: 179/ 2، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص
165.
(5/3941)
ومذهب الشافعية والحنابلة في المضاربة
الفاسدة كالحنفية إلا أنهم قالوا:
إذا تصرف المضارب نفذ تصرفه، لأنه أذن له فيه، فإذا بطل العقد بقي الإذن،
فملك به التصرف كما في الوكالة الفاسدة، وهذا بخلاف البيع، فإنه لو فسد
لاينفذ تصرف المشتري، مع أن البائع قد أذن له في التصرف، والفرق هو أن
المشتري إنما يتصرف بالملك لا بالإذن، ولا ملك في البيع الفاسد.
والربح جميعه في هذين المذهبين حين الفساد لرب المال؛ لأنه نماء ملكه،
وعليه الخسران أيضاً. ويكون للمضارب أجرة مثل عمله، وإن لم يكن ربح، لأنه
عمل طامعاً في المسمى، فإذا لم يحصل له المسمى وجب رد عمله إليه، وهو
متعذر، فتجب قيمته وهي أجرة مثله، كما لو تبايعا بيعاً فاسداً وتقابضا وتلف
أحد العوضين في يد القابض له، وجب رد قيمته (1).
وقال المالكية: يرد العامل في جميع أحكام المضاربة الفاسدة إلى قراض مثله
في الربح والخسارة وغيرها في أحوال معدودة، وله أجر مثل عمله في غيرها من
الحالات. وعليه إذا حدث ربح في الحالات الأولى، فيثبت حق المضارب في الربح
نفسه، لا في ذمة رب المال، حتى إذا هلك المال لم يكن للمضارب شيء، وإذا لم
يكن ربح فلا شيء له (2).
والفرق بين قراض المثل وأجرة المثل: أن الأجرة في أجرة المثل تتعلق بذمة رب
المال، سواء كان في المال ربح أو لم يكن، وقراض المثل: هو على سنة القراض،
إن كان فيه ربح كان للعامل منه، وإلا فلا شيء له (3).
_________
(1) مغني المحتاج: 315/ 2، المهذب: 388/ 1، المغني: 65/ 5 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 519/ 3 ومابعدها، بداية المجتهد: 240/ 2،
القوانين الفقهية: ص 282، الخرشي: 205/ 6 - 208، ط ثانية ببولاق 1317 هـ.
(3) بداية المجتهد: 241/ 2، المقدمات الممهدات: 14/ 3.
(5/3942)
وأهم حالات رد
المضاربة الفاسدة إلى قراض المثل: حالة القراض بالعروض، وحالة جهالة
الربح وليس هناك عادة يحتكم إليها، وحالة توقيت القراض كسنة مثل: اعمل به
سنة، أو إضافة القراض للمستقبل مثل: إذا جاء الوقت الفلاني فاعمل به، وحالة
الاشتراط على العامل ضمان رأس المال إن تلف بلا تفريط، أو قال له: اشتر
بدين مؤجل فاشترى نقداً، فالربح له والخسارة عليه؛ لأن الثمن صار قرضاً في
ذمته، أو شرط عليه ما يقل وجوده، بأن يوجد تارة ويعدم أخرى، أو اختلف
العاقدان بعد العمل في جزء الربح، وادعى كل من رب المال والعامل مالاً يشبه
أن يكون له، كأن يقول العامل: الثلثين، ورب المال: الثلث.
وأهم حالات وجوب أجرة المثل في الذمة
(أي ذمة رب المال) سواء حصل ربح أم لا في المضاربة الفاسدة ما يأتي:
ـ وقوع القراض بدين لرب المال على العامل قبل قبضه منه، أو بوديعة له عند
العامل قبل قبضها منه.
ـ واشتراط يد رب المال مع العامل في البيع والشراء والأخذ والعطاء. أو
اشتراط مشاورته عند البيع والشراء بحيث لا يعمل عملاً فيه إلا بإذنه. أو
اشترط المالك أميناً على العامل يراقبه. أو اشترط على العامل أن يخيط ثياب
التجارة، أو يخرز الجلود المشتراة لها. أو اشترط عليه أن يشارك غيره في مال
القراض، أو يخلط المال بماله أو بمال القراض عنده، أو أن يبضع بمال القراض
(أي يرسله أو بعضه مع غيره ليشتري به ما يتجر العامل به مجاناً) ففي كل هذه
الحالات يجب للعامل أجرة مثله.
وأما أحكام المضاربة الصحيحة: فكثيرة،
منها ما يرجع إلى حال يد
(5/3943)
المضارب، وبعضها يرجع إلى عمل المضارب،
وبعضها يرجع إلى ما يستحقه المضارب بالعمل، ومايستحقه رب المال بالمال.
1 ً - أما حال يد المضارب: فقد اتفق
أئمة المذاهب (1) على أن العامل المضارب أمين فيما في يده من رأس المال
بمنزلة الوديعة، لأنه قبضه بإذن مالكه، لا على وجه البدل (أي المبادلة)
كالمقبوض على سوم الشراء، ولا على وجه الوثيقة كالرهن.
وإذا اشترى المضارب شيئاً صار بمنزلة الوكيل بالشراء والبيع، لأنه تصرف في
مال الغير بإذنه وهو معنى الوكيل، فتطبق عليه أحكام الوكالة المعروفة
بالنسبة للشراء: وهو أن يكون الشيء بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس في مثله
كالوكيل بالشراء. وأما بالنسبة للبيع فيعتبر كالوكيل بالبيع المطلق، كما
سنعرف.
فإذا ربح المضارب صار شريكاً فيه بقدر حصته من الربح؛ لأنه ملك جزءاً من
المال بعمله، والباقي لرب المال، لأنه نماء ماله، فهو له.
وإذا فسدت المضاربة بسبب من الأسباب صارت إجارة، والمضارب بمنزلة الأجير
لرب المال، ويستحق حينئذ أجر المثل.
وإذا خالف المضارب شرط رب المال، كأن فعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً
منع من شرائه، صار بمنزلة الغاصب، ويصير المال مضموناً عليه؛ لأنه تعدى في
ملك غيره.
_________
(1) مختصر الطحاوي: ص 124، تكملة فتح القدير والعناية: 58/ 7، البدائع: 87/
6، المبسوط: 19/ 22، مجمع الضمانات: ص 303 ومابعدها، الشرح الكبير: 536/ 3،
بداية المجتهد: 234/ 2، الخرشي: 213/ 6، 223، مغني المحتاج: 322/ 2،
المهذب: 388/ 1، المغني: 69/ 5، تبيين الحقائق: 53/ 5، القوانين الفقهية: ص
283، غاية المنتهى: 171/ 2، 178.
(5/3944)
وإذا تلف المال في يده من غير تفريط لم
يضمن؛ لأنه نائب عن رب المال في التصرف، فلم يضمن من غير تفريط، كالوديع.
وإذا ظهرت خسارة كانت على رب المال وحده، واحتسب أولاً من الربح إن كان في
المال ربح.
وإن شرط على العامل ضمان رأس المال إن تلف، بطل الشرط والعقد صحيح عند
الحنفية والحنابلة. وبناء عليه: يكون تشغيل المال على حساب الربح مع ضمان
رأس المال صحيحاً والشرط باطل.
وقال المالكية والشافعية: تفسد المضارب حينئذ، لأنه شرط فيه زيادة غرر
يتنافى مع طبيعة العقد (1). لكن قال ابن قدامة في المغني 144/ 5 في
المضاربة: «وإن قال: خذ هذا المال فاتجر به، وربحه كله لك، كان قرضاً لا
قراضاً. وقال الدردير: يجوز أن يضمن العامل مال القراض ـ أي المضاربة ـ
لربه لو تلف أو ضاع بلا تفريط في اشتراط الربح له، أي للعامل، بأن قال ربه
(صاحب المال): اعمل فيه والربح لك؛ لأنه حينئذ صار قرضاً، وانتقل من
الأمانة إلى الذمة (2).
2 ً - وأما تصرفات المضارب: فيختلف
حكمها بحسب ما إذا كانت المضاربة مطلقة
أو مقيدة.
والمطلقة كما عرفنا: أن يدفع المالك المال مضاربة من غير تعيين العمل
والمكان والزمان وصفة العمل ومن يعامله. والمقيدة: أن يعين المالك شيئاً من
ذلك.
فإذا كانت المضاربة مطلقة: فللمضارب أن يتصرف في مال المضاربة ما بدا
_________
(1) تحفة الفقهاء: 25/ 3، المغني: 25/ 5، بداية المجتهد: 236/ 2.
(2) أقرب المسالك مع بلغة السالك: 249/ 2.
(5/3945)
له من أنواع التجارات، في سائر الأمكنة، مع
سائر الناس، لإطلاق العقد، فله أن يشتري به ويبيع؛ لأن المقصود من
المضاربة: هو تحصيل الربح، والربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع، إلا أنه في
الشراء مقيد بالمعروف، وهو أن يكون بمثل قيمة المشترى، أو بأقل منه مما
يتغابن الناس في مثله؛ لأنه وكيل، وشراء الوكيل يقع على ما هو متعارف.
وأما بيعه فهو على الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه في التوكيل بمطلق البيع.
فعند أبي حنيفة رضي الله عنه: يملك البيع نقداً ونسيئة وبغبن فاحش.
وعند الصاحبين: لا يملك البيع بالنسيئة، ولا بما لا يتغابن الناس في مثله،
وإنما يتقيد بالمتعارف وهذا هو الرأي الأرجح. وهو ما ذهب إليه الشافعية
والمالكية والحنابلة، إلا أن الحنابلة أجازوا للمضارب أن يبيع نقداً ونسيئة
كما يقول أبو حنيفة.
وللمضارب أن يدفع المال بضاعة (1)؛ لأن الإبضاع من عادة التجار، ولأن
المقصود من هذا العقد هو الربح، والإبضاع طريق إليه، ولأنه يملك الاستئجار
فالإبضاع أولى؛ لأن الاستئجار استعمال شخص في المال بعوض، والإبضاع
استعماله فيه بغير عوض، فكان أولى.
ولا يجوز عند المالكية الإبضاع إلا بإذن رب المال، وإلا ضمن (2).
وللمضارب عند الحنفية أن يودع، لأن الإيداع من عادة التجار ومن
_________
(1) الإبضاع من مال الشركة: بأن يعطي إنساناً مالاً منه ليشتري له بضاعة من
بلد كذا، من دون عوض.
(2) الشرح الكبير: 521/ 3.
(5/3946)
ضرورات التجارة. وليس للمضارب عند المالكية
أن يأتمن على المال أحداً ولا أن يودعه، فإن خالف فهو ضامن.
وله أن يستأجر أجيراً ليعمل في المال؛ لأن الاستئجار من عادة التجار
وضرورات التجارة. كما له أن يستأجر البيوت ليجعل المال فيها؛ لأنه لا يقدر
على حفظ المال إلا به. وله أيضاً أن يستأجر السفن والدواب للعمل؛ لأن الحمل
من مكان إلى مكان طريق لتحصيل الربح، ولا يمكنه النقل بنفسه.
وله أن يوكل بالشراء والبيع؛ لأن التوكيل من عادة التجار، ولأنه طريق
الوصول إلى الربح. وله أن يرهن بدين عليه في المضاربة من مال المضاربة، وأن
يرتهن بدين له منها على رجل؛ لأن الرهن بالدين والارتهان من باب إيفاء
الدين واستيفائه، وهو يملكها. ولكن ليس له أن يرهن بعد نهي رب المال عن
العمل ولا بعد موته؛ لأن المضاربة تبطل بالنهي والموت.
وللمضارب أن يسافر بالمال في الرواية المشهورة عند الحنفية، وكذلك عند
المالكية وفي وجه عند الحنابلة (1)؛ لأن المقصود من المضاربة استنماء
المال، ولأن العقد مطلق، كما أن اسم المضاربة دليل على جواز السفر؛ لأن
المضاربة مشتقة من الضرب في الأرض وهو السير (2). وقال الشافعي وفي وجه آخر
عند الحنابلة: لا يسافر به إلا بإذن رب المال.
_________
(1) قال القاضي أبو يعلى: قياس المذهب جوازه (أي سفر المضارب بالمال إذا لم
يكن مخوفاً) بناء على السفر في الوديعة).
(2) راجع هذه الأحكام في البدائع: 87/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 63/
7، 79، مختصر الطحاوي: ص 125، المبسوط: 38/ 22 ومابعدها، 68، تبيين
الحقائق: 57/ 5، 68، مجمع الضمانات: ص 305 ومابعدها، الدر المختار بهامش رد
المحتار: 506/ 4، الشرح الكبير للدردير: 524/ 3، 528، مغني المحتاج: 315/
2، 317، كشاف القناع: 263/ 2، المغني: 35/ 5 - 38، الخرشي: 211/ 6، ط
ثانية.
(5/3947)
ما لا يجوز للمضارب
فعله: ليس للمضارب في المضاربة المطلقة أن يفعل بعض
الأفعال إلا بالنص عليها صراحة (1)، فليس له أن يستدين على مال المضاربة
إلا بإذن صريح، ولو استدان لم يجز على رب المال، ويكون ديناً على المضارب
في ماله؛ لأن الاستدانة إثبات زيادة في رأس المال من غير رضا رب المال، بل
فيه إثبات زيادة ضمان على رب المال من غير رضاه؛ لأن ثمن المشترى مضمون على
رب المال، فلو جوزنا الاستدانة على المضاربة لألزمناه زيادة ضمان لم يرض
به، وهذا لا يجوز.
وإذا كانت الاستدانة لا تجوز، فلا يجوز الإقراض من رأس المال من باب أولى.
وعدم جواز الاستدانة إلا بإذن صاحب المال هو مذهب الحنابلة والشافعية
أيضاً.
وقال المالكية: لا يجوز للمضارب أن يشتري سلعاً بالدين وإن أذن له رب المال
بالشراء، فإن فعل ضمن ما اشتراه، وكان الربح له وحده، ولا شيء منه لرب
المال؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ربح ما لم يضمن، فكيف يأخذ رب
المال ربح ما يضمنه العامل في ذمته؟!
ولا يجوز للمضارب أيضاً أن يشتري سلعاً للقراض بأكثر من مال المضاربة نقداً
أو إلى أجل، للنهي عن ربح ما لم يضمن، وذلك لأن العامل يضمن ما زاد في
ذمته.
فإن فعل كان ما يشتريه شركة بينه وبين رب المال بنسبة ما زاد على مال
_________
(1) البدائع: 90/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 80/ 7، المبسوط: 178/ 22،
تبيين الحقائق: 69/ 5، الدر المختار: 507/ 4.
(5/3948)
القراض. وهذا إذا لم يرض رب المال، فإذا
رضي بالتصرف، كان ذلك من جملة القراض. ولا يجوز للمضارب أن يهب شيئاً
كثيراً من مال القراض بغير ثواب (1).
وليس للمضارب أخذ المال على سبيل القرض ليسلمه إلى مدين في بلد آخر يريده
المقرض؛ لأنه يكون محتملاً تبعة مخاطر الطريق، ولأن دافع المال (وهو
المقرض) استفاد من هذه العملية، وقد ثبت النهي عن قرض جر نفعاً. وهذه هي
المسألة المعروفة في الفقه بمسألة السفاتج (2).
وكذلك ليس للمضارب أن يدفع المال إلى غيره مضاربة، أو أن يشارك به، أو أن
يخلطه بمال نفسه أو بمال غيره، إلا إذا قال له رب المال: اعمل برأيك، أو
أذن له بالتصرف. أما المضاربة فلا تجوز لأنها مثل المضاربة الأولى، والشيء
لا يستتبع مثله، فلا يستفاد بمطلق عقد المضاربة مثله، كما لا يملك الوكيل
التوكيل بمطلق العقد. وأما الشركة فهي أولى ألا يملكها بمطلق العقد؛ لأنه
أعم من المضاربة، والشيء لا يستتبع مثله فما فوقه أولى. وأما الخلط فلأنه
يوجب في مال رب المال حقاً لغيره، فلا يجوز إلا بإذنه (3).
ما يجب على العامل المضارب: يجب على العامل القيام بأعمال المضاربة بحسب
المعتاد من أمثاله، وبحسب عادة التجار فيما يتعاملون به، فإذا استأجر
_________
(1) كشاف القناع: 256/ 4، مغني المحتاج: 216/ 2، الدردير: 528/ 3، بداية
المجتهد: 239/ 2، القوانين الفقهية: ص 283، الخرشي: 211/ 6، 216، 226، ط
ثانية.
(2) السفاتج: جمع سفتجة بضم السين وفتح التاء، فارسي معرب: وهي سلف الخائف
من غرر الطريق يعطى بموضع ويؤخذ حيث يكون متاع الآخر، فينتفع الدافع
والقابض في ذلك (راجع القوانين الفقهية لابن جزي: ص 251، غاية المنتهى:
167/ 2).
(3) البدائع: 95/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 64/ 7، تبيين الحقائق: 58/
5، الدر المختار بهامش رد المحتار: 507/ 4.
(5/3949)
على عمل يلزمه القيام به، وجبت الأجرة عليه
في ماله خاصة لا في مال القراض. وله أن يستأجر على عمل من مال المضاربة إذا
كان من الأعمال التي لا يلزمه القيام بها بحسب العرف التجاري.
المضارب يضارب:
أولاً ـ مذهب الحنفية: لا يجوز للمضارب أن يضارب بالمال مع شخص آخر، إلا
إذا فوضه رب المال، فإذا دفع المضارب المال إلى غيره مضاربة ولم يأذن له رب
المال، فإن المال لا يكون عند أبي حنيفة مضموناً على المضارب الأول بمجرد
الدفع إلى الثاني، ولا بتصرف المضارب الثاني فيه حتى يربح. فإذا ربح ضمن
المضارب الأول لرب المال، أما قبل الربح فلا يضمن. فلو هلك المال في يد
الثاني قبل أن يربح، هلك هلاك الأمانات.
وجه الحالة الأولى (أي قبل العمل): أن مجرد الدفع من المضارب إيداع منه،
وهو يملك إيداع مال المضاربة، فلا يضمن بالدفع.
ووجه الحالة الثانية (أي بعد العمل): أن الدفع من المضارب الأول إلى
المضارب الثاني يعتبر إبضاعاً، وهو يملك الإبضاع.
فإذا ربح الثاني فقد أثبت للأول شركة في المال، فيضمن الأول لرب المال كما
لو خلط المال بغيره.
هذا إذا كانت المضاربة صحيحة. فإن كانت فاسدة فلا يضمن المضارب الأول بعد
الربح؛ لأن المضارب الثاني أجير في المال حينئذ، وله أجر مثله، فلم تثبت
الشركة الموجبة للضمان.
وقال زفر: يضمن المضارب الأول بمجرد الدفع، عمل الثاني أو لم يعمل؛
(5/3950)
لأن المضارب يملك الدفع على وجه الإيداع،
وهذا الدفع على وجه المضاربة، فإذا دفع صار بالدفع مخالفاً، فصار ضامناً
كالوديع إذا أودع الوديعة عند غيره.
وقال الصاحبان وهو ظاهر الرواية: إذا عمل المضارب الثاني ضمن الأول المال،
ربح أو لم يربح؛ لأن المضارب الثاني لما عمل فقد تصرف الأول في المال بغير
إذن المالك، فيتعين به الضمان سواء ربح أم لم يربح (1). وحينئذ إذا عمل
المضارب الثاني يخير رب المال: إن شاء ضمن المضارب الأول رأس ماله، وإن شاء
ضمن الثاني.
فالراجح عند الحنفية: أن المضارب الأول لا يضمن في المضاربة الصحيحة بمجرد
دفع المال إلى المضارب الثاني، وإنما يضمن إذا عمل الثاني، ربح المال أو لم
يربح.
وأما الربح الناتج من المضاربة فيوزع حسب الشرط، فيعطى لرب المال ربحه على
حسب شرطه في عقد المضاربة الأولى؛ وما يبقى من الربح بعدئذ يكون بين
المضارب الأول والثاني على حسب شرطيهما في عقد المضاربة الثاني.
هذا ما ذهب إليه الحنفية والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (2).
وقال ابن قدامة: ليس هذا موافقاً لأصول المذهب، ولا لنص أحمد، فإن أحمد
قال: لا يطيب الربح للمضارب (3).
ثانياً ـ مذاهب غير الحنفية: قال المالكية: يضمن العامل إذا قارض في مال
_________
(1) البدائع: 96/ 6، تكملة فتح القدير: 70/ 7 ومابعدها، المبسوط: 98/ 22،
تبيين الحقائق: 63/ 5، الدر المختار: 509/ 4.
(2) المراجع السابقة، الشركات للأستاذ الخفيف: ص 81، المغني: 44/ 5.
(3) المغني، المكان السابق.
(5/3951)
القراض بغير إذن رب المال، أي دفعه لعامل
غيره يعمل فيه، لتعديه، والربح حينئذ للعامل الثاني ولرب المال، ولا ربح
للعامل الأول؛ لأن ربح القراض جُعْل لايستحق إلا بتمام العمل، والعامل
الأول لم يعمل، فلا ربح له، ويغرم العامل الأول للثاني ماشرطه له من زيادة
في الربح المستحق له من رب المال.
وقال الشافعية في الأصح، لا يجوز للعامل أن يقارض آخر ليشاركه في العمل
والربح، ولو كان ذلك بإذن رب المال.
وحينئذ يظل القراض مع العامل الأول صحيحاً، ويستحق العامل الثاني من الأول
أجر المثل إذا عمل (1)؛ لأن القراض على خلاف القياس، وموضوعه أن يكون أحد
العاقدين مالكاً لا عمل له، والآخر عاملاً ولو متعدداً، فلا يعدل عما ذكر
إلى أن يعقده عاملان مع نفسيهما، فيصير القراض بين عاملين فلا يصح.
والخلاصة: أن المذاهب الأربعة متفقة على أن الضمان بمضاربة العامل غيره
يستقر على الأول.
وأما خلاصة أحكام تصرفات المضارب في المضاربة
المطلقة عند الحنفية فهي ثلاثة أنواع:
1 - نوع يملكه المضارب عرفا ً: وهو جميع
ما تتناوله أعمال التجارة عادة، كالبيع والشراء، والتوكيل فيهما، وإن لم
يؤذن له بذلك صراحة، ويكون شراؤه على المعروف، فلا يتجاوز ما يتغابن فيه
الناس عادة، لأنه وكيل، وشراء الوكيل يقع بحسب المعتاد، أما البيع ففيه
خلاف بين الحنفية، والراجح أنه يتقيد أيضاً بالمعتاد.
_________
(1) مغني المحتاج: 314/ 2، المغني: 43/ 5، القوانين الفقهية: ص 283،
الخرشي: 214/ 6.
(5/3952)
2 - ونوع لا يملكه
إلا إذا فوض إليه العمل في المضاربة برأيه، فقال
له: اعمل فيها برأيك، أو كما ترى: وهو ما يحتمل أن يلحق بأعمال التجارة،
كإعطاء المال مضاربة لشخص آخر يضارب فيه، أو جعله رأس مال لشركة عنان، فإذا
فوض له ذلك صح.
3 - ونوع لا يملكه المضارب إلا بالنص عليه
صراحة، كالتبرعات، من هبة أو محاباة بالبيع والشراء، والإقراض،
والشراء لأجل عند الشافعية والمالكية والحنابلة، والشراء بأكثر من رأس
المال والربح عند أكثر الفقهاء.
وأما المضاربة المقيدة: فحكمها حكم
المضاربة المطلقة في جميع الأحكام التي ذكرت، وإنما تفارقها في قدر القيد
الذي قيدت به، فإن خصص رب المال تصرف المضارب في بلد بعينه، أو في سلعة
بعينها لم يجز له أن يتجاوزها، لأنه توكيل، وفي التخصيص بما ذكر فائدة،
فيتخصص به.
أـ تعيين المكان: وعلى هذا إذا كان
القيد متعلقاً بالمكان، كأن دفع رجل إلى رجل مالاً مضاربة على أن يعمل به
في بلدة معينة كدمشق مثلاً، فليس له أن يعمل في غير دمشق؛ لأن قوله «على
أن» من ألفاظ الشرط، وهو شرط مفيد؛ لأن الأماكن تختلف بالرخص والغلاء، وفي
السفر خطر.
وكذا لا يعطيها بضاعة (1) لمن يخرج بها من دمشق، لأنه إذا لم يملك الإخراج
بنفسه فلأن لا يملك الإذن به أولى.
فإن أخرجها من دمشق: فإن اشترى بها وباع ضمن؛ لأنه تصرف لا على الوجه
المأذون فيه فصار مخالفاً فيضمن، وكان ما اشتراه لنفسه له ربحه وعليه
_________
(1) أي أن يدفعها إلى شخص ليتجر في المال تبرعاً أي (بغير عوض).
(5/3953)
خسارته، لكن لا يطيب له الربح عند أبي
حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: يطيب.
وإن لم يشتر بمال المضاربة شيئاً حتى رده إلى البلدة المعينة المذكورة برئ
من الضمان، ورجع المال مضاربة على حاله، كالوديع إذا خالف أمر المودع ثم
عدل عن المخالفة (1).
ولو دفع المال إلى رجل ليعمل في سوق دمشق العام، فعمل في دمشق نفسها في غير
سوقها، فهو جائز على أساس المضاربة استحساناً عند الحنفية. والقياس ألا
يجوز. وجه القياس: أنه شرط عليه العمل في مكان معين، فلا يجوز في غيره، كما
لو شرط العمل في بلد معين.
ووجه الاستحسان: أن التقييد بسوق دمشق غير مفيد غالباً؛ لأن البلد الواحد
بمنزلة بقعة واحدة، فلا فائدة في هذا الشرط، فيلغو، ومن المقرر أن الشرط
معتبر إذا كان مفيداً.
ولو قال له: (لا تعمل به إلا في سوق دمشق) فعمل في غير السوق، فباع واشترى،
فهو ضامن؛ لأن قوله السابق حجر له، فلا يجوز تصرفه بعد الحجر. وفي المثال
الأول لم يحجر عليه، وإنما شرط عليه أن يكون عمله في السوق، والشرط غير
مفيد، فيلغو.
وكذلك إذا قال له: (خذ هذا المال تعمل به في دمشق أو فاعمل به في دمشق) لم
يجز له العمل في غيرها؛ لأن (في) كلمة ظرف، فتصبح دمشق ظرفاً للتصرف الذي
أذن له فيه، فلو جاز في غير دمشق لم تكن دمشق ظرفاً لتصرفه.
_________
(1) المبسوط: 42/ 22، 46، تبيين الحقائق: 59/ 5، البدائع: 98/ 6، تكملة فتح
القدير: 64/ 7 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 125.
(5/3954)
وأما قوله (فاعمل به .. ) فالفاء للوصل
والتعقيب، والمتصل المتعقب للمبهم تفسير له.
وكذا قوله: (خذه بالنصف بدمشق) لأن الباء تفيد الإلصاق، فتقتضي التصاق
الصفة بالموصوف: يعني أنه يجب عليه العمل بالمال ملصقاً بدمشق، وهو أن يكون
العمل فيها.
أما لو قال: (خذ هذا المال واعمل به بدمشق) فله أن يعمل به فيها وفي غيرها،
لأن الواو للعطف، وهو مما يجوز الابتداء به، فيجعل مشورة، كأنه قال: (إن
فعلت كذا كان أنفع).
ب ـ تعيين الشخص: ولو قال: (على أن
تشتري من فلان وتبيع منه) صح التقييد عند الحنفية والحنابلة لأنه مفيد
لزيادة الثقة به في المعاملة. وخالف في هذا المالكية والشافعية كما عرفنا؛
لأن هذا التقييد يمنع مقصود المضاربة وهو التقلب في الأسواق وطلب الربح.
جـ ـ توقيت المضاربة: ولو وقَّت
المضاربة بوقت معين، على أنه إذا مضى بطل العقد، صح العقد عند الحنفية
والحنابلة؛ لأنه توكيل، فيتأقت بما وقته، والتوقيت مفيد، وأنه تقييد
بالزمان، فصار كالتقييد بالنوع والمكان (1).
ولم يصح العقد عند الشافعية والمالكية كما عرفنا لإخلال التأقيت بمقصود
القراض، إذ قد لا يربح في المدة، وقد يكون الربح والحظ في إبقاء المتاع
وبيعه بعد المدة المعينة (2).
_________
(1) البدائع: 99/ 6، تكملة فتح القدير والعناية: 65/ 7.
(2) مغني المحتاج: 312/ 2، المغني: 63/ 5، الشرح الكبير للدردير: 521/ 3.
(5/3955)
والضابط في
تقييد المضاربة عند الحنفية: هو أن المضاربة تقبل التقييد المفيد
ولو بعد العقد ما لم يصر المال عرضاً؛ لأنه إذا صار المال من العروض
التجارية، لا يملك رب المال عزل المضارب، فلا يملك تخصيصه. أما التقييد
بغير المفيد فلا يعتبر أصلاً كنهيه عن بيع المال حالاً (1).
ويرى الشافعية والمالكية: أن وظيفة المضارب هو التجارة في المال للاسترباح
والتنمية، وهو بالبيع والشراء مما جرت العادة بأن يتولاه التجار. وعليه فكل
شرط يحول دون عمله المعتاد المتعارف مفسد للقراض عندهم (2).
التقيد الطارئ على المضاربة المطلقة:
قال الحنفية: إذا كانت المضاربة مطلقة فخصصها رب المال بعد العقد:
فإن كان رأس المال بحاله نقداً أو اشترى به المضارب متاعاً ثم باعه وقبض
ثمنه من النقود: فإن تخصيصه جائز، كما لو خصص المضاربة في الابتداء؛ لأن رب
المال يملك التخصيص إذا كان فيه فائدة.
أما إذا كان مال المضاربة عروضاً فلا يصح تقييد رب المال للمضارب أو نهيه
عن أمر حتى يصير رأس المال نقداً، مثل أن يقول له: (لا تبع بالنسيئة) لأن
المضاربة تمت بالشراء.
3ً
- وأما حقوق المضارب: التي يستحقها
بعمله في مال المضاربة فهي شيئان: النفقة، والربح المسمى في العقد.
أولاً ـ أما النفقة من مال المضاربة: فاختلف الفقهاء في وجوبها للمضارب
_________
(1) الدر المختار: 508/ 4.
(2) المراجع السابقة، الشركات في الفقه الإسلامي للأستاذ علي الخفيف: ص 74.
(5/3956)
على أقوال ثلاثة، فقال الإمام الشافعي في
الأظهر من قوليه: لا نفقة للمضارب على نفسه من مال المضاربة لا حضراً ولا
سفراً إلا أن يأذن له رب المال؛ لأن للمضارب نصيباً من الربح، فلا يستحق
شيئاً آخر، ويكون المأخوذ زيادة منفعة في المضاربة، ولأن النفقة قد تكون
قدر الربح، فيؤدي أخذه إلى انفراده به، وقد تكون أكثر فيؤدي إلى أن يأخذ
جزءاً من رأس المال، وهذا ينافي مقتضى العقد، فلو شرطت النفقة للمضارب في
العقد فسد (1).
وقال قوم منهم إبراهيم النخعي والحسن البصري: له نفقته حضراً وسفراً (2).
وقال جمهور الفقهاء منهم أبو حنيفة ومالك والزيدية: للمضارب النفقة في
السفر لا في الحضر من مال المضاربة من الربح إن وجد وإلا فمن رأس المال بما
يحتاج إليه من طعام وكسوة (3)، إلا أن الإمام مالك قال: إذا كان المال يحمل
ذلك. ولا نفقة له من مال المضاربة في حال الإقامة، وإنما في مال نفسه، إلا
إذا كانت المضاربة تشغله عن الوجوه التي يقتات منها، فله حينئذ الإنفاق من
مال المضاربة.
وأما الحنابلة فأجازوا اشتراط المضارب نفقة نفسه في الحضر أو في السفر (4)،
أي أنهم في هذا كالشافعية لا يوجبون النفقة للمضارب في السفر أو الحضر إلا
بالشرط.
_________
(1) المهذب: 387/ 1، مغني المحتاج: 317/ 2.
(2) بداية المجتهد: 238/ 2.
(3) البداية، المرجع السابق، البدائع: 105/ 6، تكملة فتح القدير: 81/ 7،
المبسوط: 63/ 22، مختصر الطحاوي: ص 125، الدردير: 530/ 3، المنتزع المختار:
333/ 5، القوانين الفقهية: ص 283، الخرشي: 217/ 6 ومابعدها، ط ثانية.
(4) المغني: 64/ 5، كشاف القناع: 265/ 2.
(5/3957)
ودليل هؤلاء المجيزين: هو أنه لو لم تجعل
نفقة المضارب من مال المضاربة لامتنع الناس من قبول المضاربات مع مساس
الحاجة إليها. والسبب في استحقاق المضارب النفقة في السفردون الحضر: هو أنه
حبس نفسه عن الكسب وسافر لأجل المضاربة، فأشبه حبس الزوجة التي تستحق
النفقة بالاحتباس بخلاف الحضر، فلو أنفق المضارب في السفر من ماله الخاص
تضرر بذلك.
والنفقة الواجبة للمضارب في مال المضاربة، كما ذكر الحنفية: هي ما تصرف إلى
الحاجة الراتبة وهي الطعام والكسوة والإدام والشراب، وأجر الأجير وأجرة
الحمام، ودهن السراج والحطب، وفراش ينام عليه وعلف دابته التي يركبها في
سفره ويتصرف عليها في حوائجه، وغسل ثيابه ونحوه مما لا بد في السفر منه
عادة. أما ثمن الدواء ففي مال المضارب خاصة في ظاهر الرواية؛ لأن الحاجة
إلى النفقة معلومة الوقوع، وإلى الدواء بعارض المرض، ولهذا كانت نفقة
المرأة على الزوج، ودواؤها في مالها كما يذكر متقدمو الحنفية، وهذا محل
نظر.
وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن الدواء يدخل في نفقة المضارب؛ لأنه لإصلاح
بدنه، ولا يتمكن من التجارة إلا به، فصار كالنفقة (1).
وأما قدر النفقة: فهو أن يكون بالمعروف
عند التجار من غير إسراف، فإن جاوز المعروف ضمن الفضل؛ لأن الإذن ثابت
بالعادة، فيعتبر القدر المعتاد.
ولو سافر فلم يتفق له شراء متاع من حيث قصد، وعاد بالمال، فنفقته ما دام
مسافراً في مال المضاربة؛ لأن عمل التجار على هذا، وهو أن الشراء قد يحصل
في وقت دون وقت، ومكان دون مكان.
_________
(1) البدائع: 106/ 6، تكملة فتح القدير: 81/ 7، تبيين الحقائق: 70/ 5، الدر
المختار: 512/ 4، مجمع الضمانات: ص 308.
(5/3958)
ويكون للمضارب النفقة، سواء سافر بمال
المضاربة وحده، أو بماله ومال المضاربة، أو بمال المضاربة لواحد أو لاثنين،
إلا إذا سافر بماله ومال المضاربة أو بمالين لرجلين، كانت النفقة من
المالين بالحصص؛ لأن السفر لأجل المالين، فتكون النفقة فيهما (1).
وأما ما تحتسب النفقة منه: فالنفقة
تحتسب من الربح إن حدث ربح، فإن لم يحدث فهي من رأس المال؛ لأن النفقة جزء
هالك من المال، والأصل أن الهلاك ينصرف إلى الربح.
ولو أقام المضارب في بلد من البلدان للبيع والشراء، ونوى الإقامة خمسة عشر
يوماً، فنفقته من مال المضاربة، ما لم يتخذ من البلد داراً للتوطن. وقال
المالكية: ما لم يتزوج.
وإذا رجع المضارب إلى بلده: فما فضل عنده من الكسوة والنفقة رده إلى مال
المضاربة؛ لأن الإذن له بالنفقة كان لأجل السفر، فإذا انقطع السفر لم يبق
الإذن، فيجب رد ما بقي إلى مال المضاربة.
وإذا أنفق المضارب من ماله على نفسه فيما يحق له أن ينفقه من مال المضاربة،
فما أنفقه فهو دين في مال المضاربة، كالوصي إذا أنفق على الصغير من مال
نفسه؛ لأن تدبير أمره مفوض إليه (2).
ثانياً ـ وأما الحق الثاني للمضارب فهو الربح المسمى: يستحق المضارب بعمله
في المضاربة الصحيحة الربح المسمى إن كان في المضاربة ربح، فإن لم يكن ربح
فلا شيء للمضارب، لأنه عامل لنفسه فلا يستحق الأجر.
_________
(1) البدائع: المصدر السابق.
(2) البدائع، المصدر السابق: ص 107.
(5/3959)
وإنما يظهر الربح بالقسمة، وشرط جواز
القسمة قبض رأس المال، فلا تصح قسمة الربح قبل أخذ رأس المال من يد
المضارب.
فلو دفع رجل إلى آخر ألف دينار مضاربة بالنصف، فربح ألفاً فاقتسما الربح،
ورأس المال في يد المضارب لم يقبضه رب المال، فهلك (1) في يد المضارب بعد
قسمة الربح، فلا تصح هذه القسمة، ويكون ما قبض رب المال محسوباً عليه من
رأس ماله، وما قبضه المضارب دين عليه يرده إلى رب المال حتى يستوفي رأس
ماله، فإن فضل ربح فهو بينهما.
والدليل على أن رب المال يأخذ رأس ماله قبل قسمة الربح: هو ما روي عن
الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل المؤمن مثل التاجر لا يسلم له
ربحه حتى يسلم له رأس ماله، كذلك المؤمن لا تسلم له نوافله حتى تسلم له
عزائمه» (2) فدل الحديث على أن قسمة الربح قبل قبض رأس المال لا تصح؛ لأن
الربح زيادة، والزيادة على الشيء لا تكون إلا بعد سلامة الأصل.
وإذا اختلف المضارب مع رب المال في رد المال، فقال المضارب: قد كنت دفعت
إليك رأس مالك قبل قسمة الربح، وقال رب المال: لم أقبض رأس المال قبل
القسمة، فالقول عند الحنفية والحنابلة قول رب المال، ويرد المضارب ما قبضه
لنفسه لإتمام رأس المال. فإن بقي شيء بعدئذ مما قبضه المضارب كان بينهما
نصفين. وإنما كان الحكم هو قبول قول رب المال؛ لأن المضارب في هذه الحالة
مدعٍ، ورب المال منكر، والمضارب وإن كان أميناً لكن القول قول الأمين في
إسقاط الضمان عن نفسه، لا في التسليم إلى غيره (3).
_________
(1) أي رأس المال.
(2) ذكره الكاساني في البدائع: 107/ 6، ولم أجده في كتب الحديث المشهورة.
(3) البدائع: 107/ 6 ومابعدها، المبسوط: 20/ 22، 105، تبيين الحقائق: 68/
5، رد المحتار: 511/ 4.
(5/3960)
ويتفق الحنفية مع المالكية والشافعية في
الأظهر عندهم، في أنه لا يملك العامل حصة من الربح الحاصل بعمله إلا بقسمة
المال لا بظهور الربح.
وقال الحنابلة والزيدية: إن العامل يملك حصته من الربح بظهوره ولو لم يقسم
المال. واتفق الفقهاء على أنه يجب على العامل أن يسلم لرب المال أولاً رأس
ماله، فلا يستحق شيئاً من الربح حتى يسلم رأس المال إلى ربه. وما زاد عنه
فهو ربحه، ويكون بين العامل ورب المال بحسب الشرط (1).
4ً
- وأما حق رب المال: فهو أن يأخذ حصته
من الربح المسمى إذا كان في المال ربح، وإن لم يكن فلا شيء له على المضارب
(2).
ولا ربح للعامل في المال حتى يَنِضّ إلى رب المال رأس ماله، أي يتحول
نقوداً ويسلم إليه نقداً (3) قال ابن رشد: أجمع علماء الأمصار على أنه لا
يجوز للعامل أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بحضرة رب المال، وأن حضور رب المال
شرط في قسمة المال، وأخذ العامل حصته، وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه بحضور
بيّنة ولا غيرها. ويغرم رب المال جميع ما تتعرض له تجارة القراض من خسارة
أو تلف سماوي مما ليس فيه تعدٍ ولا تقصير من المضارب (4).
نقص رأس المال: إذا نقص رأس المال بعد التصرف أو العمل بسبب رخص الأسعار أو
عيب حدث في الشيء المشترى أو بسبب آفة سماوية كحريق أو غريق أو غصب أو
سرقة، يحسب من الربح ويجبر به؛ لأن العامل أمين لا يسأل عن النقص أو التلف
إلا بتعد أو تقصير منه.
المطلب الرابع ـ حكم اختلاف رب المال والعامل
المضارب:
قد يختلف رب المال والمضارب في أمور تتعلق بتنفيذ مقتضى المضاربة
_________
(1) مغني المحتاج: 318/ 2، المغني: 51/ 5، غاية المنتهى: 175/ 3.
(2) البدائع، المرجع المذكور: ص 108.
(3) المقدمات الممهدات: 8/ 3.
(4) بداية المجتهد: 238/ 2.
(5/3961)
كالاختلاف في عموم التصرفات أو خصوصها، وفي
تلف المال، وفي رد المال، وفي قدر الربح المشروط، وفي قدر رأس المال.
أ - فإن اختلفا في عموم التصرفات أو خصوصها،
فيقبل قول من يدعي العموم، كأن ادعى أحدهما المضاربة في عموم التجارات أو
في عموم الأمكنة أو مع عموم الأشخاص الذين يضارب معهم، وادعى الآخر نوعاً
دون نوع، ومكاناً دون مكان، وشخصاً دون شخص، فيقبل قول مدعي العموم؛ لأنه
يتفق مع مقصود عقد المضاربة، إذ المقصود من العقد هو الربح، وهذا المقصود
يتحقق بنحو أوفر في التعميم.
وكذلك يقبل قول من يدعي الإطلاق إذا اختلفا في الإطلاق والتقييد كأن قال رب
المال: أذنت لك أن تتجر في الحنطة دون ما سواها، وقال المضارب: ما سميت لي
تجارة بعينها، فيقبل قول المضارب مع يمينه؛ لأن الإطلاق أقرب إلى تحقيق
المقصود من العقد.
أما لو اختلف المتعاقدان في النوع المخصص للمضاربة فيه، فقال رب المال:
دفعت المال إليك مضاربة في القماش، وقال المضارب: في الحبوب، فالقول قول رب
المال؛ لأنه لا يمكن الترجيح هنا بالمقصود من العقد؛ لأن المضاربة تصلح في
النوعين فيرجح أحدهما بالإذن الصادر من رب المال (1).
ب ـ وإن اختلف رب المال والمضارب في تلف المال،
فادعاه المضارب وأنكره رب المال، أو اختلفا في الخيانة أو (التعدي) فادعاها
رب المال وأنكر المضارب، فالقول قول المضارب باتفاق العلماء؛ لأن المضارب ـ
كما عرفنا ـ أمين، والأصل عدم الخيانة، فكان القول قوله كالوديع.
جـ ـ وإن اختلف العاقدان في رد المال،
فادعاه العامل وأنكره رب المال، فالقول عند الحنفية والحنابلة قول رب
المال، كما تقدم، ولأن المضارب قبض المال لنفع نفسه، فلم يقبل قوله بالنسبة
للرد كالمستعير.
_________
(1) البدائع: 109/ 6، تكملة فتح القدير: 87/ 7، المبسوط: 42/ 22، تبيين
الحقائق: 75/ 5.
(5/3962)
وعند المالكية والشافعية في الأصح: القول
هو قول المضارب، لأنه مأمون كالوديع (1).
د ـ وإن اختلفا في قدر رأس المال يقبل
قول المضارب باتفاق الفقهاء (2) كأن قال رب المال: دفعت إليك ألفين، وقال
المضارب: دفعت إلي ألفاً، فيقبل قول المضارب؛ لأن المتعاقدين اختلفا في
مقدار المقبوض، فكان القول قول القابض بدليل أنه لو أنكر القبض أصلاً،
وقال: لم أقبض منك شيئاً كان القول قوله، فكذا لو أنكر البعض دون البعض.
ولو اختلف المتعاقدان في قدر رأس المال وفي مقدار الربح أيضاً، كأن قال رب
المال: رأس المال ألفان، والمشروط ثلث الربح. وقال المضارب: رأس المال ألف،
والمشروط نصف الربح، فقال الحنفية والحنابلة: القول قول المضارب أيضاً في
قدر رأس المال، وقول رب المال في مقدار الربح. ويرى الشافعية أن المصدق
بيمينه في الحالتين هو العامل؛ لأن الأصل عدم دفع زيادة على رأس المال،
والأصل عدم الربح.
هـ ـ وإذا اختلف رب المال مع المضارب في مقدار
الربح المشروط في العقد: فقال الحنفية والحنابلة في أرجح الروايتين
عن أحمد: القول قول رب المال، مثل أن يقول المضارب: شرطت لي نصف الربح،
فيقول رب المال: بل ثلثه، فيقبل قول رب المال؛ لأن صاحب المال ينكر الزيادة
على النصف والقول قول المنكر (3)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
«ولكن اليمين على المدعى عليه» (4).
_________
(1) البدائع: 108/ 6، المغني: 70/ 5، مغني المحتاج: 322/ 2، المهذب: 389/
1، الشرح الكبير: 536/ 3، غاية المنتهى: 178/ 2.
(2) تبيين الحقائق: 74/ 5، البدائع: 109/ 6، تكملة فتح القدير: 86/ 7،
المبسوط: 27/ 22، بداية المجتهد: 241/ 2، مغني المحتاج: 321/ 2، المهذب:
389/ 1، المغني: 69/ 5، غاية المنتهى: 178/ 2.
(3) المبسوط: 89/ 22، البدائع: 109/ 6، المغني: 70/ 5، غاية المنتهى: 178/
2.
(4) أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس، ولفظه عند البيهقي في سننه: «لو يعطى
الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي،
واليمين على من أنكر» (انظر نصب الراية: 96/ 4) وهناك حديث أخرجه الترمذي
والدارقطني في سننيهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله
عليه وسلم قال في خطبته: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه»
(راجع نصب الراية: 390/ 4).
(5/3963)
وقال المالكية: القول قول المضارب بيمينه
في قدر جزء الربح؛ لأنه أمين، وذلك بشرطين: أولهما ـ أن يأتي بما يشبه
أحوال الناس في المضاربة. وثانيهما ـ أن يكون المال ما زال موجوداً في يد
المضارب حساً أو معنى، ككونه وديعة عند شخص أجنبي (1).
وقال الشافعية: إذا اختلفا في القدر المشروط للعامل من الربح، كأن قال:
شرطت النصف، فقال المالك: بل الثلث، تحالفا، كاختلاف المتبايعين في قدر
الثمن، فلا ينفسخ العقد بالتحالف، بل يفسخانه أو يفسخه أحدهما أو الحاكم.
ويكون للعامل حينئذ أجرة المثل لعمله، بالغة ما بلغت، لتعذر رجوع عمله
إليه، فوجب له قيمته وهو الأجرة (2). فإن اختلفا في الربح، فقال العامل: لم
أربح شيئاً أو لم أربح إلا كذا، صُدِّق العامل بيمينه؛ لأن الأصل عدم
الربح.
وـ وإن اختلف المتعاقدان في صفة رأس المال،
فقال رب المال: دفعت إليك مضاربة أو وديعة أو بضاعة لتشتري به وتبيع (3)،
وقال العامل: بل أقرضتني المال، والربح لي، فالقول عند الحنفية والحنابلة
والشافعية قول رب المال؛ لأن الشيء المدفوع ملكه، فالقول في صفة خروجه عن
يده، ولأن المضارب يدعي على رب المال التمليك، وهو منكر، وذلك كالخلاف في
نوع رأس المال. وقال المالكية: القول للعامل بيمينه كالاختلاف في جزء
الربح، لرجحان جانب العامل بالعمل، ولأنه أمين (4).
_________
(1) الشرح الكبير: 537/ 3، بداية المجتهد: 241/ 2.
(2) مغني المحتاج: 322/ 2، المهذب: 389/ 1.
(3) أي أن الربح جميعه لرب المال، لأن العامل لم يطلب لعمله بدلاً، وعمله
لا يتقوم إلا بالتسمية، فكان وكيلاً متبرعاً، وهذا هو معنى البضاعة.
(4) تبيين الحقائق: 75/ 5، تكملة فتح القدير: 86/ 7، البدائع: 110/ 6،
المبسوط: 91/ 22، المغني: 71/ 5، الشرح الصغير: 707/ 3.
(5/3964)
ولو قال رب المال: أقرضتك، وقال المضارب:
دفعت إلي مضاربة، فالقول قول المضارب عند جمهور العلماء؛ لأنهما اتفقا على
أن الأخذ كان بإذن رب المال، ورب المال يدعي على المضارب الضمان، وهو ينكر،
فكان القول قوله. وقال المالكية: القول لرب المال بيمين؛ لرجحان جانبه بأن
الأصل في وضع اليد على مال الغير هو الضمان، كما هو مقتضى دعوى رب المال
(1).
المطلب الخامس ـ مبطلات المضاربة:
تبطل المضاربة في الحالات التالية (2):
1 - الفسخ والنهي عن التصرف أو العزل:
تبطل المضاربة بالفسخ، وبالنهي عن التصرف أو العزل إذا وجد شرط الفسخ
والنهي: وهو علم صاحبه بالفسخ والنهي، وأن يكون رأس المال ناضاً أي نقداً
وقت الفسخ والنهي، حتى يتبين ما إذا كان هناك ربح مشترك بين المضارب ورب
المال، فإن كان متاعاً لم يصح العزل. ويترتب عليه أنه إذا لم يعلم المضارب
بالفسخ أو بالنهي وتصرف، جاز تصرفه، وإذا علم بالعزل وكان المال أمتعة
(عروضاً) فله أن يبيعها لينض رأس المال ويظهر الربح، ولا يملك رب المال
عندئذ نهيه عن البيع لما فيه من إبطال حقه. وهذا متفق عليه بين فقهاء
المذاهب الأربعة. إلا أن المالكية قالوا: يصبح العقد بالشروع في العمل
لازماً للطرفين، فلا يفسخ إلا باتفاقهما. وغير المالكية يعتبرون العقد غير
لازم قبل الشروع وبعده، كما تقدم.
2 - موت أحد العاقدين: إذا مات رب المال
أو المضارب بطلت المضاربة عند الجمهور؛ لأن المضاربة تشتمل على الوكالة،
والوكالة تبطل بموت الموكل
_________
(1) المراجع السابقة، الشرح الكبير: 536/ 3، مغني المحتاج: 321/ 2، الشرح
الصغير: 708/ 3.
(2) البدائع: 6 ص 112 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 74/ 7 ومابعدها، تبيين
الحقائق للزيلعي: 5 ص 66 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 308، رد المحتار على
الدر المختار: 4 ص 510، وانظر مغني المحتاج: 2 ص 319 ومابعدها، المهذب: 1 ص
388، المغني: 5ص58، كشاف القناع: 2 ص 269، الشرح الكبير للدردير: 3 ص 535.
(5/3965)
أو الوكيل. ويتم بطلان المضاربة سواء علم
المضارب بموت رب المال أو لم يعلم؛ لأن الموت عزل حكمي، فلا يقف على العلم،
كما في الوكالة.
وقال المالكية: لا تنفسخ المضاربة بموت أحد العاقدين، ولورثة العامل القيام
بالمضاربة إن كانوا أمناء، أو يأتوا بأمين (1).
3 - جنون أحد العاقدين: تبطل المضاربة
بجنون أحد المتعاقدين إذا كان عند غير الشافعية مطبقاً؛ لأن الجنون يبطل
الأهلية، وكل ما تبطل به الوكالة تبطل به المضاربة، مثل الإغماء والحجر على
رب المال نفسه. أما الحجر على المضارب للسفه فإنه لا ينعزل عند الحنفية؛
لأنه يصبح كالصبي المميز، والمميز عندهم أهل لأن يوكل عن غيره، فكذلك
السفيه.
4 - ارتداد رب المال عن الإسلام: إذا
ارتد رب المال عن الإسلام، ومات أو قتل على الردة، أو لحق بدار الحرب وقضى
القاضي بلحاقه، بطلت المضاربة من يوم الردة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن
اللحوق بدار الحرب بمنزلة الموت، وهو يزيل أهلية رب المال بدليل أن المرتد
يقسم ماله بين ورثته.
وإذا ارتد المضارب فالمضاربة على حالها لتوافر أهليته، حتى إنه لو اشترى
وباع وربح، ثم قتل على ردته أو مات أو لحق بدار الحرب فإن جميع ما فعل مما
ذكر جائز، والربح بينهما على ما شرطا؛ لأن عبار ة المرتد صحيحة لتوافر
التمييز والآدمية دون خلل فيهما.
ويلاحظ أنه إذا صار رأس المال متاعاً، فبيع المضارب فيه وشراؤه جائز حتى
ينض رأس المال (أي يتحول إلى النقدية)، وحينئذ لا ينعزل المضارب بالعزل
والنهي ولا بموت رب المال ولا بردته أيضاً (2).
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 283.
(2) المبسوط: 19 ص 104، 22 ص 86، تكملة فتح القدير: 7 ص 76، البدائع،
المرجع السابق.
(5/3966)
5 - هلاك مال
المضاربة في يد المضارب: إذا هلك رأس المال في يد
المضارب قبل أن يشتري به شيئاً بطلت المضاربة؛ لأن المال تعين لعقد
المضاربة بالقبض، فيبطل العقد بهلاكه كالوديعة.
وكذا تبطل المضاربة باستهلاك المضارب مال المضاربة أو إنفاقه أو دفعه إلى
غيره، فاستهلكه، حتى إن المضارب لا يملك أن يشتري به شيئاً للمضاربة. فإن
أخذ المضارب مثل المال من الذي استهلكه، كان له أن يشتري به على المضاربة.
هذه هي الحالات التي تبطل بها المضاربة كما ذكر الحنفية. وإذا انفسخت
المضاربة ومال المضاربة ديون على الناس، وامتنع المضارب عن تقاضي الديون
وقبضها: فإن كان المضارب قد ربح، أجبره الحاكم على اقتضاء الديون، لأنه
بمنزلة الأجير، والربح كالأجر له، والأجير مجبور على العمل فيما التزم. وإن
لم يكن هناك ربح لم يلزمه اقتضاء الدين، لأنه يعتبر وكيلاً، والوكيل متبرع،
والمتبرع لا يجبر على إيفاء ما تبرع به، غير أنه يؤمر المضارب أو الوكيل أن
يحيل رب المال على الذي عليه الدين، حتى يمكنه قبضه؛ لأن حقوق العقد ترجع
إلى العاقد، فلا تثبت ولاية القبض لرب المال إلا بالحوالة من العاقد،
فيلزمه أن يحيله حتى لا يضيع حقه.
وما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال؛ لأن الربح تابع
للمال، ورأس المال أصل له، ولا يعتبر التبع قبل حصول الأصل، فيكون صرف
الهلاك إلى التابع أولى. فإذا زاد الهلاك على الربح فلا ضمان على المضارب؛
لأنه أمين.
(5/3967)
........... الشركات بين القديم والحديث
...........................
................................... في الفقه الإسلامي
................................. الإسلام دين الحياة كما هو معروف، فما
من كسب مشروع حلال إلا أقرته الشريعة، وما من كسب مشبوه يوقع في النزاع
والجدال، ويحطم علاقات الود والتعاون بين الناس إلا حظرته الشريعة، وأوصدت
الباب أمامه، فالشريعة مع الناس يسراً وسماحة إذا تحققت مصالحهم دون تصادم
بينهم، وهي لا تقرهم إذا هم أوقعوا أنفسهم في متاهات الجهالة والمنازعات
والظلم والاستغلال، وعليه نظمت الشركات في الإسلام على أساس التراضي
المشترك، والعدل، ومراعاة المصالح، والأعراف الصحيحة المشروعة، وأن الأصل
في العقود هو الإباحة والحل، وما أجمل قول الفقهاء في هذا الصدد: «الشركة
تنعقد على عادة التجار».
ومن أهم موارد الكسب المشروع ثلاثة هي:
التجارة والصناعة والزراعة، وقد يقوم الفرد عند استطاعته بها، والغالب أنه
يحتاج إلى التعاون مع غيره، لعدم توافر القدرات والإمكانات المالية أو
البشرية لديه، سواء بالنسبة للخبرة الفنية، أو الجهد، أو من أجل التخفيف من
احتمالات المخاطر التي قد تصادف المرء في خضم الحياة الرهيب. ومن هنا شرعت
الشركة في الشرائع السماوية؛ لأن التعاون بين الناس أمر ضروري، وقد قص
القرآن الكريم علينا على لسان داود عليه السلام نبأ الشركاء، فقال تعالى:
{وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، إلا
(5/3968)
الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم}
[ص:24/ 38] (1)، وأشرك الله بعض الورثة في بعض الأنصبة فقال عن الإخوة لأم:
{فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} [النساء:12/ 4].
وأكدت السنة النبوية مبدأ مشروعية الشركة،
ففي الحديث القدسي: «إن الله عز وجل يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن
أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما» والمعنى: أنا معهما بالحفظ
والإعانة، أمدهما بالمعونة في أموالهما، وأنزل البركة في تجارتهما، فإذا
وقعت بينهما الخيانة رفعت البركة والإعانة عنهما. وقد أقر النبي صلّى الله
عليه وسلم تعاون الناس بالشركة، كما في أحاديث كثيرة، وقال: «يد الله على
الشريكين ما لم يتخاونا» وصح أن السائب بن أبي السائب قال للنبي صلّى الله
عليه وسلم بعد بعثته: «كنت شريكي في الجاهلية، فكنت خير شريك لا تداريني
ولا تماريني» [أي لاتمانعني ولاتحاورني] رواه أبو داود. ولفظ ابن ماجه:
«كنت شريكي ونعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري» وجاء السائب يوم الفتح،
فقال له النبي عليه السلام: «مرحباً بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري».
والشركة كما أبان الحنفية هي: عبارة عن
عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح.
وتعددت أنواع الشركات قديماً وحديثاً، إما على أساس الاشتراك في الأموال،
أو في الأعمال والتصرفات، أو في الضمان (الالتزام).
فشركة الأموال تعتمد على عنصر الاشتراك في رأس المال. وشركة الأعمال تعتمد
على الحرفة والصنعة وضمان العمل، وشركة الوجوه ترتكز على عنصر ثقة الناس
بالشريكين، من غير أن يكون لهما رأس مال.
_________
(1) الخلطاء هنا أي الشركاء.
(5/3969)
وأجاز فقهاء
الحنفية والزيدية كل أنواع الشركات: الإجبارية وهي شركات الأملاك،
والاختيارية وهي شركات العقود. ومن أهم أنواع الشركات في الماضي والحاضر:
شركة المضاربة وهي التي يكون المال فيها من جانب، والعمل من جانب آخر،
أجازها الشرع لحاجة الناس إليها، إذ قد يوجد ذو المال الذي لا يتمكن من
التصرف فيه، ويوجد من يحسن التصرف ولا مال له، ويوزع الربح بينهما بحسب
الاتفاق، ويتحمل صاحب رأس المال الخسارة وحده، ويكفي العامل ضياع جهده
وعمله.
وتعارف الناس في عصرنا أنواعاً جديدة من الشركات، نظم القانون المدني بعضها
كشركة التضامن والتوصية البسيطة والمساهمة وغيرها، وأغفل تنظيم بعضها الآخر
كشركة المحاصة والشركة على البهائم، وشركات السيارات إما مع إجارة أو بدون
إجارة، ولا بد لنا من بيان حكم هذه الشركات في الشريعة، لكثرة سؤال الناس
عنها، وتعارفهم ألواناً من الشركات قد تكون معقدة وغير جائزة.
واكتفى القانون المدني الأردني المستمد
من الشريعة ببيان أحكام بعض أنواع الشركات بنحو خاص وهي شركة الأعمال،
وشركة الوجوه، وشركة المضاربة في المواد 611 - 635 بعد بيان الأحكام العامة
للشركات بوجه عام في المواد 582 - 610، وقد استقى هذا القانون شركتي
الأعمال والوجوه من المذهبين الحنفي والحنبلي، وأحكام شركة المضاربة من
المذهب الحنفي.
والقانون المدني الوضعي في سورية ومصر
قسم الشركات إلى قسمين: شركات أشخاص
وشركات أموال.
أما شركات الأشخاص: فهي التي يبرز
فيهاالعنصر الشخصي، فتقوم على شخصية الشركاء والثقة المتبادلة بينهم، بصرف
النظر عن المال الذي يقدمه كل
(5/3970)
شريك. وهي تشمل شركة التضامن، وشركة
التوصية البسيطة، وشركة المحاصة.
وأما شركات الأموال: فهي التي تعتمد عند
تكوينها على عنصر المال، بقطع النظر عن شخصية الشريك، وهي تشمل شركة
المساهمة، وشركة التوصية بالأسهم، والشركة ذات المسؤولية المحدودة.
فما حكم كل نوع من هذه الأنواع في الشريعة
الإسلامية؟
1 - شركة التضامن: وهي الشركة التي
يعقدها اثنان أو أكثر بقصد الاتجار في جميع أنواع التجارات أو في بعضها،
ويكون الشركاء فيها مسؤولين بالتضامن عن جميع التزامات الشركة، ليس في حدود
رأس المال فقط، بل قد يتعدى ذلك إلى الأموال الخاصة لكل شريك.
ويلاحظ أن لعنصر الضمان (أو الكفالة أو الالتزام) في هذه الشركة شبهاً فيما
تتميز به شركة المفاوضة التي لم يجزها غير الحنفية والزيدية، وهي التي
تتطلب الاشتراك في عموم التجارات، بشرط التساوي بين الشركاء في رأس المال
والتصرف والدين أي الملة، ويكون كل شريك كفيلاً عن الآخر فيما يلتزم به من
التزامات تتعلق بالشركة. وبما أن تحقيق المساواة بين الشركاء أمر عسير،
لاحتمال حدوث زيادة في أموال كل من الشركاء، فتصبح هذه الشركة نادرة
الوجود، أو قصيرة الأجل وعديمة الاستمرار، مما يجعلها سريعة التحول
والانقلاب إلى شركة عنان.
وشركة العنان لا تتطلب المساواة في المال ولا في التصرف ولا في الملة، وهي
أن يشترك اثنان في مال لهما على أن يتجرا فيه، والربح بينهما. فيجوز أن
يكون مال أحدهما أكثر من الآخر، كما يجوز أن يكون أحدهما مسؤولاً عن
الشركة،
(5/3971)
والآخر غير مسؤول، فليس فيها كفالة، فلا
يطالب أحدهما إلا بما عقده بنفسه من التصرفات، أما تصرفات شريكه فهو غير
مسؤول عنها. ويقسم الربح بينها بحسب شرطهما الذي اتفقا عليه عند جمهور
الفقهاء (خلافاً للشافعي فإن الربح عنده على قدر المال)، فيجوز أن يزيد ربح
أحدهما عن الآخر بسبب خبرته في التجارة، مع التساوي في رؤوس الأموال أو
التفاوت فيها، وتكون الوضيعة أو الخسارة على قدر رأس المال باتفاق المذاهب
عملاً بالحديث: «الربح على ما شرطا، والوضيعة على قدر المالين»، ولا مانع
في تقديري خلافاً لرأي الكمال بن الهمام الحنفي من اشتراط الكفالة في شركة
العنان، فيصبح كل شريك كفيلاً عن صاحبه وضامناً له؛ لأن الكفالة عقد تبرع،
وقد شرطها الشريكان، وهي جائزة في غير الشركة، وإذا جازت الكفالة بين شخصين
لا علاقة مالية بينهما، فلأن تجوز بين شخصين ارتبطا بعقد الشركة أولى.
ويؤكد ذلك أن الأصل في العقود هو التراضي، والشركة عقد يقوم على التراضي،
فيلزم الوفاء بكل شرط لا يصادم النصوص الشرعية.
2 - شركة التوصية البسيطة: هي الشركة
التي تعقد بين شركاء بعضهم متضامنون، وبعضهم موصون، فالمتضامنون هم الذين
لهم أموال ويقومون بأعمال إدارة الشركة، وهم مسؤولون عن الإدارة، متحملون
لالتزاماتها، متضامنون في هذه المسؤولية وفي إيفاء ديون الشركة. والموصون:
يقدمون المال، ولا يسألون عن إدارتها، ولا يتحملون التزاماتها.
وهذه الشركة جائزة أيضاً، لأن فقهاءنا أجازوا في شركة العنان أن يشترط
العمل لأحد الشريكين، ويسأل عنه دون غيره، ويجوز بناء على ذلك أن تشترط
زيادة الربح للعامل، أو يقدر له مرتب خاص، ويكون أجيراً. ولا فرق بين أن
(5/3972)
يكون المسؤول عن إدارة الشركة شريكاً
واحداً أو أكثر، وغير المسؤول واحداً أو أكثر، فاشتراط الكفالة والمسؤولية
بين الفريق الأول دون الثاني جائز، كما تبين في شركة التضامن.
كما أنه يمكن جعل هذه الشركة نوعاً من أنواع شركة المضاربة، الشريك
المتضامن هو المضارب، المتصرف في الشركة، المسؤول عن الحقوق المتعلقة بها
أمام الغير. والشريك الموصي هو رب المال في شركة المضاربة، وهو غير مسؤول
عن إدارة الشركة، ولا يضمن لأصحاب الحقوق المتعاملين حقوقهم، ولا يتحمل من
الالتزامات إلا خسارة رأس مال في حالة الخسارة، ولا يسأل العامل المضارب عن
الخسارة فيما يسمح له من التصرفات، ويكون المضارب حر التصرف بحسب عادة
التجار، وتوزع الأرباح على حسب الاتفاق بين المتشاركين في شركة المضاربة.
والخلاصة: إن هذه الشركة تعتبر شركة مضاربة مع بعض الفروق الطفيفة بينهما
في الأحكام الفقهية. ويلاحظ أن انتشار شركات المساهمة حدَّ كثيراً من
انتشار شركات التوصية؛ لأن شركات المساهمة تمارس عادة نشاطاً واسعاً في
الاستثمارات، وكثيراً ما يكون التوفيق حليفها لما يتوفر لها من رؤوس أموال
كبيرة. ومزية شركة التوصية تتحقق في شركة المساهمة، وهذه المزية هي أن
المساهم لا يكتسب صفة التاجر، ولا يسأل إلا في حدود قيمة الأسهم التي اكتتب
فيها.
3 - شركة المحاصة: هي عقد كباقي العقود،
بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي، بتقديم حصة
من مال، أو من عمل، لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو من خسارة،
إلا أنها تمتاز بخفائها عن الجمهور، فليس لها رأس مال شركة، ولا عنوان
شركة، فهي غير معروفة من الناس، وليس لها وجود ظاهر، وليس لها شخصية معنوية
مستقلة كباقي
(5/3973)
الشركات. فهي شركة وقتية كالتي تنشأ في
مزاد مثلاً أو في صفقة تنتهي بانتهائها، وتصفى الأرباح عقب الفراغ منها.
فالذي يبرز منها شريك واحد يتعامل في الظاهر باسمه، وتبقى الشركة مستترة،
ليس لها شخصية اعتبارية.
وهذه الشركة إجمالاً جائزة شرعاً؛ لأنها نوع من أنواع شركة العنان، ليست
فيها مساواة، ولا تضامن، ولا تكافل، وهي معقودة على نوع خاص من أنواع
التجارات، والربح يوزع فيها بحسب الاتفاق، والخسارة تكون بحسب رؤوس الأموال
التي استعملت فيها.
وبصفة دقيقة تعد شركة المحاصة شركة عنان إذا كانت حصص الشركاء شائعة
الملكية بين الشركاء. وتعد شركة عنان ومضاربة إذا احتفظ كل شريك بملكية
حصته، لكنه سلمها لواحد لاستثمارها مع بقية الحصص لمصلحة الكل، على أن
يقتسموا الربح أو الخسارة فيما بينهما بحسب الاتفاق أو الحصص. فالمال
المقدم من أصحابه إلى أحدهم يعد مضاربة، ويكون الشريك المتصرف مضارباً،
لكنه لما كان متقدماً بجزء من رأس المال فهو شريك عنان أيضاً، كما أنه إذا
تصرف معه بعض الشركاء في إدارة الشركة، كانت الشركة شركة عنان بينهم. وأما
الذين لم يساهموا في الإدارة فهم شركاء مضاربون. ومن المعلوم أن شركة
المفاوضة: هي اشتراك أنواع من شركة العنان والوجوه والأبدان؛ لأن ما صح
بانفراده؛ صح مع غيره. فيجوز بناء عليه تعدد أنواع الشركات في شركة واحدة.
4 - شركة المساهمة: هي أهم أنواع شركات
الأموال، وهي التي يقسم فيها رأس المال إلى أجزاء صغيرة متساوية، يطلق على
كل منها سهم غير قابل للتجزئة، ويكون قابلاً للتداول. وتتحدد مسؤولية
المساهم بقدر القيمة الاسمية لأسهمه. ويعتبر مدير الشركة وعمالها أجراء عند
المساهمين، لهم مرتبات خاصة، سواء
(5/3974)
أكانوا مساهمين أم غير مساهمين. وليس لمدير
الشركة أن يستدين عليها بأكثر من رأس مالها، فإن فعل ضمن هو، ولا ضمان على
المساهمين إلا في حدود أسهمهم. وتوزع الأرباح بنسبة الأسهم أي بنسبة رؤوس
الأموال. وتسمى شركة مغْفَلة لإغفال الاعتبار الشخصي فيها، وإنما الاعتبار
الأول في تكوينها هو للمال، وليس لشخصية الشركاء، بل لا يعرف الشركاء بعضهم
بعضاً، ولا يعرفون شيئاً عن إدارة الشركة إلا ما يعرضه مجلس إدارتها على
الجمعية العمومية عند اجتماعها كل سنة. ورأى المشرع الوضعي قصر نشاطات
الشركات المساهمة على المشروعات الكبيرة نسبياً التي تحتاج إلى رؤوس أموال
ضخمة لا تتوافر عادة لدى الأشخاص، كصناعة الغزل والنسيج، والمنسوجات
القطنية وغيرها، والحديد والصلب، والخزف ونحو ذلك.
وهذه الشركة جائزة شرعاً؛ لأنها شركة عنان، لقيامها على أساس التراضي، وكون
مجلس الإدارة متصرفاً في أمور الشركة بالوكالة عن الشركاء المساهمين، ولا
مانع من تعدد الشركاء، واقتصار مسؤولية الشريك على أسهمه المالية مشابه
لمسؤولية رب المال في شركة المضاربة. ودوام الشركة أو استمرارها سائغ بسبب
اتفاق الشركاء عليه، والمسلمون على شروطهم فيما هو حلال. وإصدار الأسهم أمر
جائز شرعاً. أما إصدار السندات أي القروض بفائدة فلا يحل شرعاً.
5 - شركة التوصية بالأسهم: هي التي تضم
نوعين من الشركاء: متضامنين ومساهمين، والمساهمون كالشركاء الموصين في شركة
التوصية البسيطة، لا يسأل الواحد منهم إلا في حدود الحصة التي يقدمها، إلا
أن المساهمين عددهم أكثر بحيث يسمح بقيام جمعية عمومية منهم، ويختلف
المساهم عن الموصي في أن الأول يملك أسهماً قابلة للتداول، على عكس الثاني.
ولا اعتبار لأشخاص الشركاء، وإنما الاعتبار لأموالهم في هذه الشركة.
(5/3975)
وهي شركة جائزة شرعاً؛ لأنها نوع من شركات
العنان التي يشترط فيها التضامن بين بعض الشركاء، وتلك كفالة جائزة. وحرية
الشريك المتضامن بالتصرف مستمدة من إذن الشركاء الآخرين. وعمل المتضامنين
في أموال المساهمين خاضع لأحكام شركة المضاربة، ولا مانع من كون بعض
الشركاء مساهمين كما بان في شركة المساهمة؛ لأن تقديم الحصة بالأسهم جائز
شرعاً، خصوصاً إذا انحصر عدد المساهمين، وعرف بعضهم بعضاً.
6 - الشركة ذات المسؤولية المحدودة: هي
شركة تجارية كباقي شركات الأموال، لا اعتبار فيها لشخصية الشركاء، واشترط
القانون فيها ألا يزيد عدد الشركاء عن خمسين شريكاً، لا يكون كل منهم
مسؤولاً إلا بقدر حصته. فهي تجمع بين خصائص شركات الأموال وشركات الأشخاص.
ففيها من شركات الأموال أن مسؤولية الشريك محدودة بمقدار حصته، وأن حصته
تنتقل إلى ورثته، وإدارتها كما في شركات المساهمة، يجوز أن يعين لها مدير
من المساهمين أو من غيرهم بمرتب محدد، ويكون أجيراً، أو يديرها أحد الشركاء
نظير جزء من الأرباح. وفيها من شركات الأشخاص أن الشريك يكون صاحب حصة في
الشركة وليس مساهماً، ولا تكون حصص الشركاء قابلة للتداول كالأسهم
التجارية. وأهم ما يميزها أنها تتم بالاشتراك الشخصي لا بالاكتتاب العام.
وكل ذلك جائز شرعاً، وتعتبر هذه الشركة من شركات العنان، وقد يكون فيها بعض
خصائص المضاربة كما في تحديد مسؤولية الشريك بمقدارحصته، كما أن رب المال
في المضاربة لا يسأل إلا في حدود رأسماله.
والخلاصة: إن هذه الشركات التي أقرها القانون المدني ليست غريبة عن قواعد
الفقه الإسلامي، وإنما هي منسجمة مع أنظمة الشركات التي عرفها
(5/3976)
فقهاؤنا، ولكنها متطورة بحسب حاجة العصر
وعرفه، فشركات الأشخاص تعتبر جميعها من قبيل شركة المضاربة في الفقه
الإسلامي مع اختلاف في بعض الأحكام بين الشريعة والقانون حسبما تقتضيه
مصلحة الناس وطبيعة التطور. وشركات الأموال تعتبر في الغالب من قبيل شركات
العنان، مع بعض أوصاف شركة المفاوضة في حال التضامن، وأوصاف شركة المضاربة
في حال تحديد مسؤولية الشريك بمقدار حصته فقط. والإدارة توكيل في القيام
بالأعمال، إذا كان المدير شريكاً مساهماً، والوكالة تصح بأجر أو بغير أجر
أو أن المدير أجير بعقد الاستئجار أو التوظف إذا كان غير مساهم، فهو يعمل
بأجر بحكم التوظف، لا بحكم المشاركة.
شركات السيارات: كثيراً ماتنعقد الشركة
في ملكية سيارة شاحنة أو صغيرة سياحية أو لنقل الركاب، ويكون بعض الشركاء
ملاَّكاً لحصص معينة، وواحد منهم سائق للسيارة وشريك يملك بعض الأسهم معاً،
ويتقاضى السائق عادة أجراً أو راتباً شهرياً معيناً، وقد يوافق مالك
السيارة على أن يتنازل عن ربعها مثلاً للسائق على أن تسدد قيمة الربع من
الأرباح في المستقبل. وهذا كله جائز لتعارف الناس؛ لأن الشركة تنعقد على
حسب العادة، وهي مبنية على التوسع والمسامحة، وتنعقد أيضاً على الضمان أو
على ذمم الشركاء أو على عملهم، والشركة تنبني على الوكالة أو على الوكالة
والكفالة. ويأخذ السائق حصته من الأرباح، كما يتقاضى الأجر المتفق عليه،
ولا مانع من أن يكون الأجر مقطوعاً محدداً أو مسمى، أو جزءاً نسبياً من
الربح. وقد بينت في بحث شركة المساهمة وشركة التضامن أنه لا مانع شرعاً من
اعتبار مدير الشركة أجيراً موظفاً على العمل. ولا مانع من وجود صفتي الشركة
والإجارة، في شيء واحد، في رأي المالكية والشافعية قياساً على المزارعة
والمساقاة، ولأن المنع من وجود عقدين في عقد أو شرطين في عقد يزول إذا زالت
علته أو حكمته وهو عدم إثارة النزاع والجدال، وعدم المنازعات جرى عليه
العرف والعادة، فلم يعد الشرط مفسداً، وللناس فيها حاجة.
(5/3977)
شركة البهائم:
تقوم شركات متعددة في وقتنا الحاضر بين الناس لرعي الماشية أو لتربية
الأبقار والأغنام، فيقدم المال من شريك، والعمل من الشريك الآخر، وقد يشترك
الشريكان في دفع ثمن البهائم، ثم ينفرد أحدهما في العمل إما بالرعي أو
بتقديم الطعام والشراب، والحراسة والتنظيف. وذلك كله جائز شرعاً بشرط
انتفاء الجهالة الفاحشة المفضية الى النزاع والخصام، ولا تضر الجهالة
اليسيرة التي لا تفضي الى التنازع، ويتسامح الناس فيها عادة. وبناء على هذا
المبدأ يعرف حكم الصور الآتية:
1 - إذا اشترى شخص بعض البهائم، ودفع ثمنها كله من ماله، وتعهد شخص آخر
بتربيتها وشراء الطعام لها، فهذه الشركة لا تصح؛ لأن ما يشتريه العامل من
الطعام مجهول جهالةفاحشة تؤدي إلى المنازعة فيفسد أو يبطل العقد.
2 - إذا كان ثمن العلف يستوفى مما تنتجه البهائم من ألبان، ويوزع باقي ريع
اللبن على الشريكين، فلا تصح الشركة، إذ قد يكفي اللبن للطعام وقد لا يكفي.
فإذا تكفل صاحب رأس المال بما قد تحتاجه من طعام، صح العقد.
3 - إذا اقتصر عمل العامل على التربية والرعاية والإطعام. وتكفل أو تعهد رب
المال بأثمان النفقات والطعام، صحت الشركة، وتكون شركة مضاربة. ولايقال: إن
تناول الحيوان طعامه باختياره أمر طبيعي، لا أثر له في نمو وزيادة الحيوان،
كما تصور الحنفية؛ لأن عمل العامل ضروري من تقديم الطعام بنسب معينة وفي
وجبات مخصصة، والقيام بالخدمة والإشراف والتنظيف والرعاية، وفي ذلك أثر
ملحوظ في تسمين الحيوانات وزيادة سعرها وتحسين نتاجها.
4 - إذا اشترك اثنان في دفع ثمن الحيوان ونفقة الطعام والشراب، وتبرع
(5/3978)
أحدهما بالخدمة، صحت الشركة؛ لأنها اقتصرت
على المشاركة في رأس المال، دون العمل.
5 - الصورة الغالبة الآن: هي الاشتراك في أثمان الماشية، وأخذ الراعي أو
العامل ألبان الماشية وأسمانها نظير القيام بما يلزمها من خدمة وعناية
ورعاية، وأما النتاج من أولاد وأصواف فيقسم بين الشريكين مناصفة. هذه
الشركة جائزة شرعاً كما قررت لجنة الفتوى بالأزهر عام 1948م، لتعامل الناس
بها وتعارفهم عليها، وحاجتهم إليها، ولم يوجد نص يحظرها من كتاب أو سنة أو
إجماع، ولا يترتب عليها حدوث منازعات وعداوات، فتجوز تيسيراً على الناس،
وأما الجهالة فهي يسيرة لا تفضي إلى المنازعة.
والخلاصة: إن دين الله يسرلا عسر، والأعراف الصحيحة التي لا تصادم الشريعة
معتبرة، والاجتهاد في ذلك متعين، والتجديد والتطور أمران ضروريان.
(5/3979)
|