الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ السّادس: الهِبَة
خطة الموضوع:
بيان الهبة في المباحث الستة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الهبة ومشروعيتها.
المبحث الثاني ـ ركن الهبة.
المبحث الثالث ـ شروط الهبة.
المبحث الرابع ـ حكم الهبة.
المبحث الخامس ـ موانع الرجوع في الهبة.
المبحث السادس ـ عطية الأبناء.
المبحث الأول ـ تعريف الهبة ومشروعيتها:
الهبة تشمل الهدية والصدقة؛ لأن الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها
متقاربة، فإن قصد منها طلب التقرب إلى الله تعالى بإعطاء محتاج، فهي صدقة،
وإن حملت إلى مكان المهدى إليه، إعظاماً له وتودداً، فهي هدية، وإلا فهي
هبة. والعطية: الهبة في مرض الموت. والهبة في الاصطلاح الشرعي: عقد يفيد
(5/3980)
التمليك بلا عوض حال الحياة تطوعاً (1)،
وعرفها الحنابلة (2) بأنها: تمليك جائز التصرف مالاً معلوماً أو مجهولاً
تعذر علمه (3)، موجوداً، مقدوراً على تسليمه، غير واجب، في الحياة، بلا
عوض، بما يعد هبة عرفاً (4) من لفظ هبة وتمليك ونحوهما. والقيود احتراز عن
العارية، ونحو كلب، وحَمْل، ونفقة زوجة، ووصية، ونحو بيع. فكلمة تمليك
لإخراج العارية، والمال لإخراج ما ليس بمال كالكلاب، والمقدور على تسليمه
لإخراج الحمل، وغيرا لواجب لإخراج الديون والنفقات، وفي الحياة لإخراج
الوصية، وبلا عوض لإخراج عقود المعاوضات.
والهبة مشروعة مندوب إليها لقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً
فكلوه هنيئاً مرئياً} [النساء:4/ 4].
وقوله سبحانه: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن
السبيل ... } [البقرة:177/ 2] الآية. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «تهادوا
تحابوا» (5)، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لاتحقرن جارة أن تهدي لجارتها
ولو فرسن شاة» (6): أي
_________
(1) مغني المحتاج: 396/ 2، المغني: 591/ 5، فتح القدير: 113/ 7، حاشية ابن
عابدين: 530/ 4.
(2) غاية المنتهى: 328/ 2، كشاف القناع: 329/ 4.
(3) بأن اختلط مال اثنين على وجه لايتميز، فوهب أحدهما الآخر ماله.
(4) قوله بما يعد هبة: متعلق بتمليك، والباء للسببية.
(5) أخرجه أصحاب الكتب المشهورة عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وعبد الله
بن عمر، وعائشة، وروي مرسلاً، فحديث أبي هريرة رواه البخاري في الأدب
المفرد وأبو يعلى والنسائي والبيهقي وابن عدي، وقال ابن حجر: «إسناده حسن»
وذلك لكثرة شواهده. وإن كان في كل رواته مقال. وحديث ابن عمرو رواه الحاكم.
وحديث ابن عمر رواه ابن القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب، وحديث عائشة
رواه الطبراني في الأوسط. وأما الحديث المرسل: فرواه مالك في الموطأ عن
عطاء الخرساني (راجع نصب الراية: 120/ 4، سبل السلام: 92/ 3، نيل الأوطار:
347/ 5، التلخيص الحبير: ص259).
(6) رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة (راجع جامع الأصول: 262/ 12،
التلخيص الحبير: ص259، سبل السلام: 93/ 3).
(5/3981)
ظلفها، وهو في الأصل خف البعير، فاستعير
للشاة، وقوله أيضاً: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» (1).
والسنة: المكافأة على الهبة حينما يتيسر ذلك للموهوب له، لما أخرجه البخاري
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبل
الهدية، ويثيب عليها».
وانعقد الإجماع على استحباب الهبة بجميع أنواعها، قال الله تعالى:
{وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/ 5]. وهي للأقارب أفضل؛ لأن فيها
صلة الرحم (2)، ولقوله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}
[النساء:1/ 4] ولما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
«من أحب أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسأ له في أثره، فليصل رحمه» وبسط
الرزق: التوسعة فيه والمباركة له فيه. وينسأ له في أثره: يطيل الله عمره
ويؤخر له فيه.
واتفق الأئمة على أن الهبة تصح بالإيجاب والقبول والقبض، وأجمعوا على أن
الوفاء بالوعد في الخير مطلوب، وعلى أن تخصيص بعض الأولاد بالهبة مكروه،
وكذا تفضيل بعضهم على بعض (3).
المبحث الثاني ـ ركن الهبة:
ركن الهبة عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول قياساً؛ لأنه عقد كالبيع، وكذا
_________
(1) أخرجه أصحاب الكتب الستة عن ابن عباس ولفظه: «ليس لنا مثل السوء: الذي
يعود في هبته كالكلب يقيء، ثم يعود في قيئه» وفي رواية: «كالكلب يقيء، ثم
يعود فيه فيأكله» وفي رواية أبي داود: «العائد في هبته كالعائد في قيئه»
قال قتادة: «ولا نعلم القيء إلا حراماً» (راجع جامع الأصول: 265/ 12، نصب
الراية: 126/ 4).
(2) المبسوط: 47/ 12 ومابعدها، والمراجع السابقة قبل تخريج هذه الأحاديث.
(3) الميزان للشعراني: 99/ 2، فتح القدير، المرجع السابق.
(5/3982)
القبض ركن كما في المبسوط؛ لأنه لا بد منه
لثبوت الملك، بخلاف البيع. واستحساناً عند الكاساني وبعض الحنفية: ليس
القبول من الموهوب له ركناً، وإنما الركن فقط هو الإيجاب من الواهب؛ لأن
الهبة في اللغة عبارة عن مجرد إيجاب المالك من غير شرط القبول، وإنما
القبول لثبوت حكمها أي الأثر المترتب عليها، وهو نقل الملكية. وفائدة
الاختلاف تظهر فيمن حلف: لا يهب هذا الشيء لفلان، فوهبه منه، فلم يقبل:
يحنث استحساناً، ولا يحنث قياساً، وأكثر شراح الحنفية (1) على أن الهبة تتم
بالإيجاب وحده في حق الواهب، وبالإيجاب والقبول في حق الموهوب له؛ لأن
الهبة عقد تبرع، فيتم بالمتبرع كالإقرار والوصية، لكن لا يملكه الموهوب له
إلا بالقبول والقبض، لكن نصت المادة 837 من المجلة على أنه «تنعقد الهبة
بالإيجاب والقبول، وتتم بالقبض». وأركان الهبة عند الجمهور (2) أربعة: هي
الواهب، والموهوب له، والموهوب، والصيغة.
أما الواهب: فهو المالك إذا كان صحيحاً مالكاً أمر نفسه. فإن وهب المريض ثم
مات، كانت هبته في ثلث تركته عند الجمهور. وأما الموهوب له: فهو كل إنسان
ويجوز أن يهب الإنسان ماله كله لأجنبي اتفاقاً. وأما هبة جميع ماله لبعض
ولده دون بعض أو تفضيل بعضهم على بعض في الهبة، فمكروه عند الجمهور، وإن
وقع جاز.
وأما الموهوب: فكل مملوك.
وأما الصيغة: فكل ما يقتضي الإيجاب والقبول من قول وفعل كلفظ الهدية والهبة
والعطية والنحلة، وشبه ذلك.
_________
(1) المبسوط: 57/ 12، البدائع: 115/ 6، العناية على تكملة فتح القدير معها:
113/ 7 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 531/ 4، تكملة ابن عابدين: 329/ 2.
(2) القوانين الفقهية: ص 366، الدسوقي: 97/ 4 ومابعدها.
(5/3983)
والإيجاب: إما صريح، مثل: أن يقول الواهب:
وهبت هذا الشيء لك، أو ما يجري مجرى الصريح كقوله، ملكته منك، أو جعلته لك
أو هو لك، أو أعطيته، أو نحلته، أو أهديته إليك، أو أطعمتك هذا الطعام، أو
حملتك على هذه الدابة، ونوى به الهبة؛ لأن تمليك العين للحال أو جعلها له
من غير عوض هو معنى الهبة، ولأن بقية الألفاظ تفيد التمليك في الحال في عرف
الناس أو في استعمالهم.
هذا في الإيجاب المطلق، أما إذا كان مقروناً بقرينة فهي لا تخلو إما أن
تكون القرينة وقتاً، أو شرطاً، أو منفعة (1).
مثال الإيجاب المقترن بقرينة الوقت (العمرى): أن يقول: (أعمرتك هذه الدار،
أو جعلت هذه الدار لك عمري (2)، أو عمرك، أو حياتك أو حياتي، فإذا مت أنا
فهي رد على ورثتي) فهذا كله هبة، وهي للمعمر له في حياته، ولورثته بعد
وفاته، لصحة التمليك، والتوقيت باطل، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أمسكوا
عليكم أموالكم، لا تعمروها، فإن من أعمر شيئاً، فإنه لمن أعمره» (3) أي
المعمر له أوالموهوب له؛ ولأن الهبة لا تبطل بالشرط الفاسد بخلاف عقود
المعاوضات المالية، ومنها البيع فإنها أي المعاوضات تفسد بالشرط الفاسد
للنهي عن بيع وشرط.
_________
(1) راجع التفصيل في البدائع: 116/ 6 ومابعدها.
(2) العمرى: مايجعل للإنسان طول عمره، وإذا مات ترد عليه، بأن يقول الرجل:
أعمرتك داري هذه أو عمري، أو مدة حياتك أو ماحييت. فالعمرى
نوع من الهبة، مأخوذة من العمر، كذا كانوا يفعلونه في الجاهلية، فأبطل
الشرع ذلك.
(3) أخرجه البخاري ومسلم والموطأ وأحمد وأصحاب السنن الأربعة بألفاظ مختلفة
عن جابر بن عبد الله، منها: ما اتفق عليه الشيخان بلفظ: «العمرى لمن وهبت
له» ومنها: مارواه مسلم وأحمد بلفظ: «أمسكوا عليكم أموالكم ولاتفسدوها،
فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبه».
(راجع جامع الأصول: 112/ 9، نيل الأوطار: 13/ 6، سبل السلام: 93/ 3).
(5/3984)
ومثال الإيجاب المقترن بشرط (الرقبى): أن
يقول: (هذه الدار لك رقبى (1) أو حبيسة) فهي عارية في يده، ويأخذها منه متى
شاء عند أبي حنيفة ومحمد، واستدلا بما روي عن الرسول صلّى الله عليه وسلم
أنه أجاز العمرى وأبطل الرقبى (2)، ولأن
قوله ذلك تعليق للتمليك بأمر على خطر الوجود وخطر العدم، والتمليكات لا
تحتمل التعليق بالخطر الاحتمالي المتردد بين الوجود وعدم الوجود فلم تصح
هبة، وصحت عارية؛ لأنه دفع الدار إليه، وأطلق له الانتفاع به، وهذا معنى
العارية.
وقال أبو يوسف والشافعية والحنابلة (3): إذا قبضها فهي هبة، وقوله: (رقبى،
وحبيسة) باطل: ودليلهم ما روي عن الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه أجاز
العمرى والرقبى (4)،ولأن قوله: (داري لك) تمليك العين، لا تمليك المنفعة،
وقياساً على قوله: (هي عمرى).
أما المالكية (5) فقد أجازوا العمرى وأبطلوا الرقبى كالحنفية، وعرفوا
العمرى
_________
(1) الرقبى: أن يقول: «إن مت أنا قبلك فهو لك، وإن مت أنت قبلي فهو لي»
سميت بذلك، لأن كلاً منهما يترقب، وينتظر موت الآخر قبل موته.
(2) قال الزيلعي عن هذا الحديث: غريب (راجع نصب الراية: 128/ 4).
(3) المغني: /5 624، تحفة الطلاب: ص 172.
(4) هذا الحديث ثابت في رواية عن جابر في الحديث السابق الذي خرجناه بلفظ:
«العمرى جائزة لأهلها». رواه الترمذي وابن ماجه. ويؤيد ذلك أحاديث منها:
ماروي عن ابن عمر مرفوعاً عند النسائي وابن ماجه: «لا عمرى ولا رقبى، فمن
أعمر شيئاً، أو أرقبه، فهو له حياته ومماته» ومنها: ما أخرجه أبو داود
والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه عن زيد بن ثابت
بلفظ: «من أعمر شيئاً فهو لمعمره حياته ومماته، ولا ترقبوا، فمن أرقب شيئاً
فهو سبيله» ومنها: ماروى النسائي عن ابن عباس، وماروى الترمذي عن سمرة بن
جندب، وغير ذلك (راجع جامع الأصول: 111/ 9 - 115، نصب الراية: 128/ 4، نيل
الأوطار: 12/ 6 ومابعدها، سبل السلام: 91/ 3، التلخيص الحبير: ص 260).
(5) الشرح الكبير مع الدسوقي: 97/ 4 ومابعدها.
(5/3985)
بأنها تمليك منفعة عقار أو غيره لشخص بغير
عوض مدة حياته. فإذا مات المعمر له رجع الشيء المعمر لمن أعمره له، إن كان
حياً، ولورثته إن كان ميتاً.
وأما الرقبى: فهي اتفاق اثنين على أن من مات منهما قبل الآخر يكون ماله
للآخر الحي.
والخلاصة: أجاز أكثر العلماء العمرى والرقبى، على أنهما نوعان من الهبة
يفتقران إلى الإيجاب والقبول والقبض ونحوه. ومنع الحنفية والمالكية الرقبى
وأجازوا العمرى.
ومثال الإيجاب المقترن بالمنفعة (المنحة): أن يقول: (هذه الدار لك سكنى)،
أو (هذه الشاة، أو هذه الأرض لك منحة) فهي عارية باتفاق الحنفية (1)؛ لأنه
لما ذكر (السكنى) دل على أنه أراد تمليك المنافع، ولأن
المنحة عبارة عن بذل المنافع، فإذا أضاف
ذلك إلى عين ينتفع بها مع بقائها، عمل بحقيقته.
أما إذا أضاف إلى شيء لا ينتفع به إلا باستهلاكه، كما إذا منحه طعاماً، أو
لبناً، فإنه يكون هبة؛ لأنه لا منفعة له مع قيام عينه.
وبناء على هذه التفرقة قالوا: إن عارية الأعيان تمليك المنافع، وعارية
المكيل والموزون ومنها الدراهم والدنانير قرض، ويكون تمليك العين (2)،
فالعارية: هي عارية استعمال. والقرض: هو عارية استهلاك.
وكذا لو قال: (هذه الدار لك سكنى عمرى، أو عمرى سكنى) فهي عارية، لأنه لما
ذكر السكنى دل على أنه أراد تمليك المنافع، ولأن قوله: (سكنى) موضوع
_________
(1) هذا في استعمال الماضين، وفي عصرنا يراد بالمنحة الهبة تماماً.
(2) البدائع: 215/ 6.
(5/3986)
للمنفعة لا تستعمل إلا لها. وكلمة (عمرى)
صفة أو نعت وهي قيد في الموصوف قبلها، فدل على أنها عارية.
وكذا إذا قال: (هبة سكنى، أو سكنى هبة) فهي عارية، لأنه لما ذكر (سكنى) بعد
ذكر (الهبة) كان تفسيراً للهبة، لأن الهبة تحتمل هبة العين، وهبة المنافع،
فإذا قال: (سكنى) فقد عيَّن هبة
المنافع (1)؛ لأن هذه الكلمة نعت أو صفة لما تقدمها، والصفة قيد في
الموصوف.
وإن قال: (هذه الدار لك عمرى تسكنها، أو صدقة تسكنها) فهي هبة وصدقة، لأن
في هذا المثال لم يفسر الهبة عن طريق النعت، وإنما وهب الدار منه، ثم أشار
عليه فيما يعمل بملكه، والمشورة في ملك الغير باطلة، فيكون شرطاً فاسداً،
والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة (2)، فتعلقت الهبة بالعين. وأما قوله
(تسكنها) فهو بمنزلة قوله (لتسكنها) كما إذا قال: (وهبتها لك لتؤجرها).
ولو قال: هي لك هبة تسكنها» كانت هبة أيضاً، كما في المثال السابق (3).
المبحث الثالث ـ شروط الهبة:
هناك شروط في الواهب، وشروط في الموهوب. وقد ذكر الحنابلة (4) أحد عشر
شرطاً في الهبة وهي: كونها من جائز التصرف، مختار جادّ، بمال يصح
_________
(1) المرجع السابق: 118/ 5، فتح القدير: 120/ 7.
(2) هذا بخلاف البيع فإنه يفسد بالشرط الفاسد، للنهي الوارد فيه، ولا نهي
في الهبة، وإنما على العكس ورد فيها مايدل على عدم فسادها بالشرط الفاسد،
لأنه عليه السلام أجاز العمرى، وأبطل شرط المعمر (انظر البدائع: 117/ 6،
حاشية ابن عابدين: 532/ 4).
(3) البدائع: 118/ 6.
(4) غاية المنتهى: 334/ 2، كشاف القناع: 329/ 4، ط مكة.
(5/3987)
بيعه، بلا عوض، لمن يصح تملكه، مع قبوله،
أو وليه قبل تشاغل بقاطع، مع تنجيز، وعدم توقيت. وجائز التصرف: هو الحر
المكلف الرشيد.
وكون الموهوب مالاً لإخراج الاختصاصات.
أما شروط الصيغة: فهي عند الشافعية اتصال القبول بالإيجاب من غير فاصل
معتبر شرعاً، وعدم تقييدها بشرط؛ لأن الهبة تمليك، والتمليكات لا تحتمل
التعليق بماله خطر الوجود والعدم، وعدم تقييدها بوقت كشهر أو سنة لأن الهبة
تفيد التمليك المطلق الدائم كالبيع.
شروط الواهب:
يشترط أن يكون الواهب له أهلية التبرع بالعقل والبلوغ مع الرشد، وهذا شرط
انعقاد؛ لأن الهبة تبرع، فلا تجوز هبة الصبي والمجنون؛ لأنهما لا يملكان
التبرع، لكونه ضرراً محضاً، وكذا الأب لا يملك هبة مال الصغير من غير شرط
العوض بلا خلاف؛ لأن ولايته قاصرة على وجوه النفع، والهبة تبرع فيه ضرر محض
فلا تجوز منه.
فإن شرط الأب العوض لم يجز أيضاً عند أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهبة بشرط
العوض تبرع ابتداء أي قبل القبض، ثم تصير بيعاً انتهاء، أي بعد القبض،
والأب لا يملك التبرع، وقال محمد: تجوز الهبة من الأب بشرط العوض؛ لأن ذلك
في معنى البيع، والعبرة باتفاق المعنى (1).
شروط الموهوب:
يشترط في الموهوب شروط:
_________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(5/3988)
1 - أن يكون موجوداً وقت الهبة: فلا تنعقد
هبة ما ليس بموجود وقت العقد (1) مثل أن يهب ما يثمر نخله في هذا العام، أو
ما تلد أغنامه هذه السنة؛ لأنه تمليك لمعدوم، فيكون العقد باطلاً (2).
ومثل: أن يهب ما في بطن هذه الشاة، وسلطه على القبض عند الولادة، فلا ينعقد
لاحتمال الوجود والعدم؛ لأن انتفاخ البطن قد يكون للحمل أو لداء في البطن.
وكذلك لو وهب دقيقاً في حنطة أو دهناً في سمسم أو زبداً في لبن، أو زيتاً
في زيتون: لا يجوز، وإن سلطه على قبضه عند حدوثه؛ لأنه معدوم للحال،
والمعدوم ليس بمحل للملك، فوقع العقد باطلاً، فلا ينعقد إلا بالتجديد.
أما هبة اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم، والزرع والنخيل في الأرض،
والتمر في النخيل: فهي كهبة المشاع الآتية تقع فاسدة، فلو فصل ذلك وسلم إلى
الموهوب له، جاز؛ لأن الموهوب موجود مملوك للحال، إلا أنه لم ينفذ لمانع،
وهو كونه مشغولاً بغيره، فإذا فصل فقد زال المانع، فتجوز الهبة وتصير صحيحة
(3).
ووافق الشافعية والحنابلة مذهب الحنفية في هذا الشرط، فقالوا: كل ما صح
_________
(1) المبسوط: 71/ 12، تكملة فتح القدير: 124/ 7، البدائع: 119/ 6، حاشية
ابن عابدين: 534/ 4، الكتاب مع اللباب: 172/ 2، تكملة ابن عابدين: 329/ 2.
(2) قال المالكية: لا تأثير للغرر على صحة الهبة، فتجوز هبة المجهول
والمعدوم المتوقع الوجود، كالعبد الآبق، والبعير الشارد والمجهول، والثمرة
قبل بدو الصلاح، وفي الجملة: كل مالا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر
(بداية المجتهد: 324/ 2، القوانين الفقهية: ص 367).
(3) البدائع: 119/ 6، والمراجع السابقة في بدء الكلام عن هذا الشرط. ويلاحظ
أن هبة اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم حكمها باطل في تحفة الفقهاء
والبدائع، والأصح أن الهبة فاسدة كما في الدر المختار ورد المحتار.
(5/3989)
بيعه صحت هبته. وقال المالكية: تجوز هبة ما
لا يصح بيعه كالعبد الآبق والبعير الشارد والمجهول والثمرة قبل بدو صلاحها
والمغصوب.
2 - أن يكون مالاً متقوماً: فلا تنعقد هبة ما ليس بمال أصلاً كالحر والميتة
والدم وصيد الحرم والإحرام وغير ذلك، ولا تجوز هبة ما ليس بمتقوم كالخمر
(1).
3 - أن يكون مملوكاً في نفسه: فلا تنعقد هبة المباحات، وهذه الشروط السابقة
كلها شروط انعقاد.
4 - أن يكون مملوكاً للواهب: فلا تنفذ هبة مال الغير بغير إذنه، لاستحالة
تمليك ما ليس بمملوك (2)، وهذا شرط نفاذ عند الحنفية. وبناء على الشرط
الأخير يجوز عند الحنفية هبة المملوك، سواء أكان عيناً أم ديناً، فتجوز هبة
الدين لمن عليه الدين؛ لأن ما في الذمة مقدور التسليم والقبض؛ لأن قبض
العين قائم مقام قبض عين ما في الذمة. كما تجوز هبة الدين لغير من عليه
الدين إن أذن له صراحة بالقبض، وقبضه استحساناً، كما سيتضح في شرط الإذن
بالقبض.
5 - أن يكون محرزاً أي مفرزاً: فلا تصح عند الحنفية هبة المشاع إذا كان
يحتمل القسمة كالدار والبيت الكبير، وتكون الهبة فاسدة، فإن قسم المشاع
وسلم، جازت الهبة، وهذا شرط صحة للهبة.
وتجوز الهبة إذا كان مشاعاً لا يحتمل القسمة، كالسيارة والحمام، والبيت
الصغير والجوهر. وجواز الهبة للضرورة، لأنه قد يحتاج إلى هبة بعض ذلك،
ويكتفى بصورة التخلية مقام القبض (3). ودليلهم على الحالة الأولى: أن القبض
_________
(1) البدائع: المكان السابق.
(2) البدائع: المرجع والمكان السابق.
(3) المبسوط: 64/ 12، 74، البدائع، المرجع السابق. تكملة فتح القدير: 121/
7 ومابعدها، 128، حاشية ابن عابدين: 534/ 4.
(5/3990)
في الهبة شرط كالرهن، كما سأبين، والشيوع
يمنع من القبض؛ لأن التصرف في النصف الشائع وحده، لا يتصور، فإن سكنى نصف
الدار شائعاً محال، ولا يتمكن من التصرف فيه إلا بالتصرف في الكل، والعقد
لم يتناول كل الدار، فعدم قسمة الموهوب يمنع صحة القبض وتمامه (1).
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن هبة
المشاع جائزة، كالبيع، فإن القبض في هبة المشاع يصح كالقبض في
المبيع المشاع. وصفة قبضه: أن يسلم الواهب جميع الشيء إلى الموهوب له،
فيستوفي منه حقه، ويكون نصيب شريكه في يده كالوديعة (2)، والدليل على ذلك
من السنة أن وفد هوازن لما جاؤوا يطلبون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أن يرد عليهم ما غنمه منهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما كان لي
ولبني عبد المطلب فهو لكم» (3) وهذا هبة المشاع: وهي هبة الشخص ما له من
حصة غير معينة في شيء. أو هبة ما يملكه من شيء لاثنين أو أكثر.
وهذا الخلاف يجري في التصدق بالمشاع على الغني؛ لأن الصدقة عليه هبة. وأما
الصدقة بعشرة على مسكينين مثلاً فتجوز؛ لأن الصدقة تقع من المتصدق لله
تعالى، لا للفقير، فلا يتحقق الشيوع. ويترتب على قاعدة الحنفية: وهو أنه
لاتجوز الهبة في المشاع الذي يحتمل القسمة ما يلي (4):
_________
(1) الضابط فيما يقبل القسمة ومالا يقبلها: أن كل شيء يضره التبعيض فيوجب
نقصاناً في ماليته: يكون مما لايحتمل القسمة. ومالا يوجب ذلك فهو يحتملها
(انظر العناية مع تكملة فتح القدير: 121/ 7، حاشية ابن عابدين: 533/ 4).
(2) القوانين الفقهية: ص 367، ط النهضة بفاس، بداية المجتهد: 323/ 2، حاشية
الدسوقي: 97/ 4، المهذب: 446/ 1، المغني: 596/ 5.
(3) انظر قصة وفد هوازن في نيل الأوطار: 3/ 8. ويؤيده حديث أبي قتادة عند
الشيخين في قصته المعروفة، وهي اصطياده حماراً وحشياً، ثم هبته أصحابه
حصصاً شائعة منه، وأقرهم الرسول صلّى الله عليه وسلم على فعلهم.
(4) البدائع: 121/ 7، 122.
(5/3991)
الهبة لاثنين:
لو وهب إنسان داراً من رجلين أو مداً من حنطة أو ألف درهم أو نحو ذلك مما
يقسم، فإنه لا يصح عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: يصح، ويجري الخلاف فيما
لو وهب رجل داراً لرجلين وقال: (وهبت لكما هذه الدار: لهذا نصفها، ولهذا
نصفها).
ومنشأ الخلاف في ذلك: أن أبا حنيفة يعتبر الشيوع عند القبض ما نعاً من صحة
الهبة. وأما الصاحبان: فيعتبران الشيوع عند العقد والقبض معاً هو المانع من
صحة الهبة. وبناء عليه: يجوز هبة الاثنين من الواحد بالاتفاق، لعدم وجود
الشيوع عند القبض في رأي أبي حنيفة، ولانعدام الشيوع في الحالتين معاً في
رأي الصاحبين؛ لأن الشيوع وجد عند العقد، ولم يوجد عند القبض.
ولا تجوز هبة الواحد من الاثنين عند أبي حنيفة، لوجود الشيوع عندا لقبض،
ويجوز ذلك عند الصاحبين؛ لأنه لم يوجد الشيوع عند العقد والقبض جميعاً.
ولا تجوز الهبة بالاتفاق إذا قال في هبة الدار: (وهبت لك نصفها، ولهذا
نصفها) لأن الشيوع دخل على العقد نفسه، فمنع الجواز، بخلاف المثال السابق:
(وهبت لكما هذه الدار: لهذا نصفها ولهذا نصفها) فعند أبي حنيفة: لا يجوز؛
لأن هذا تمليك مضاف إلى الشائع. وعند الصاحبين: يجوز، لأن قوله: (لهذا
نصفها، ولهذا نصفها) لا يمكن جعله تفسيراً لنفس العقد؛ لأن العقد وقع على
تمليك الدار جملة منهما، وإنما هو تفسير للحكم الثابت بالعقد أي أثر العقد،
فلا يوجب ذلك إشاعة في العقد نفسه.
ولو قال: (وهبت لكما هذه الدار: لهذا ثلثها، ولهذا ثلثاها) لم يجز عند أبي
يوسف وأبي حنيفة، وجاز عند محمد. أما أبو حنيفة فكما قال في المثال
(5/3992)
السابق. وأما محمد فقال كما في المثال
السابق أيضاً: إن العقد متى جاز لاثنين يستوي فيه حالة التساوي والتفاضل في
الأنصباء كما في البيع. وأما أبو يوسف فقد خالف قاعدته حالة التفاضل في
الأنصباء؛ لأن مطلق العقد لا يحتمل التفاضل، فكان تفضيل أحد النصيبين في
معنى إفراد العقد لكل منهما، فكان ذلك هبة المشاع، فيتعذر جعل قوله: (لهذا
ثلثها ولهذا ثلثاها) مفسراً للحكم الثابت بالعقد، بخلاف حالة التساوي.
والخلاصة: إن الشيوع حالة القبض يمنع صحة الهبة، أما حالة العقد فلا يمنع
صحتها، وكذا الشيوع الطارئ لا يفسد الهبة، وهو كأن يرجع الواهب في نصف
الموهوب شائعاً.
6 - أن يكون الموهوب متميزاً عن غيره، ليس متصلاً به، ولا مشغولاً بغير
الموهوب: لأن معنى القبض، وهو التمكن من التصرف في المقبوض لا يتحقق مع شغل
الموهوب بغيره (1) وهذا شرط صحة للهبة.
وبناء عليه لو وهب شخص أرضاً فيها زرع للواهب دون الزرع، أو زرعاً دون
الأرض، أو نخلاً فيها ثمرة للواهب معلقة بها دون الثمرة، أو ثمرة النخل دون
النخل: لا يجوز، وإن قبض الموهوب، وتكون الهبة فاسدة، فلو جز الثمر، وحصد
الزرع، ثم سلمه فارغاً، جاز؛ لأن المانع من نفاذ حكم العقد وهو ثبوت الملك،
قد زال.
وكذا لو وهب داراً فيها متاع للواهب، أو ظرفاً فيه متاع للواهب دون المتاع،
أو وهب دابة عليها حمل للواهب دون الحمل، وقبض الموهوب، فإنه لاتجوز
_________
(1) المبسوط: 73/ 12، تكملة فتح القدير: 7ص/124، 127، البدائع: 6ص/125،
حاشية ابن عابدين: 4 ص/533ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 336.
(5/3993)
الهبة، ولا يزول الملك عن الواهب إلى
الموهوب له؛ لأن الموهوب مشغول بغيره، فيكون بمنزلة هبة المشاع، وتكون
الهبة حينئذ فاسدة، فلو ميز الموهوب عن غيره، وسلمه وحده، جازت الهبة.
والخلاصة: إن هبة المشغول لا تصح بخلاف الشاغل، وهبة المتصل بغير الهبة
اتصال خلْقة مع إمكان الفصل لا تجوز (1).
مسألة استثناء ما في البطن:
يتفرع على هذا الشرط السابق، بمقتضى القياس: أنه لو وهب دابة واستثنى ما في
بطنها، لا يجوز، لأنه هبة ما هو مشغول بغيره.
وأما استحساناً فقالوا: تجوز الهبة في الأم والحِمْل جميعاً، ويبطل
الاستثناء. والعقود في هذه المسألة في الجملة ثلاثة أنواع (2).
1 - قسم يفسد فيه العقد أي لا يجوز فيه أصل التصرف: وهو البيع والإجارة
والرهن (3)، فإذا عقد على الأم، دون الحَمْل، بأحد هذه العقود، فسد العقد،
وبطل الاستثناء؛ لأن الحمل تبع للأم، فاستثناؤه إخراج لبعض ما اقتضاه
_________
(1) الفرائد البهية في القواعد الفقهية: ص 204.
(2) المبسوط: 12 ص/72، جـ 13 ص/19، تكملة فتح القدير: 7 ص/139 ومابعدها،
البدائع: 6 ص/125، ورد المحتار: 4 ص/113، مجمع الضمانات: ص 337، الفرائد
البهية في القواعد الفقهية: 206.
(3) اعتبار الرهن كالبيع في أنه يبطل بالشرط الفاسد هو بحسب ما جاء في
البدائع، لكن الأصح ما جاء في الزيادات: وهو أن الرهن كالهبة، لا يبطل
بالشرط الفاسد، وإنما يصح الرهن، ويبطل الشرط، لأنه عقد تبرع، لاعقد
معاوضة.
(5/3994)
العقد، لأن العقد ثبت في الأم وولدها، ففسد
العقد، والقاعدة المقررة: أن الشرط الفاسد في المعاوضات المالية يفسد العقد
(1).
2 - وقسم يصح فيه العقد ويبطل الشرط أو الاستثناء: وهو النكاح والخلع،
والصلح عن دم العمد، والهبة؛ لأن موجب العقد أن يثبت الحكم في الكل، وقد
استثني بعض الموجَب؛ فيكون شرطاً فاسداً، والقاعدة المقررة: أن الشرط
الفاسد لايبطل عقود التبرعات والتوثيقات والزواج، بل العقد صحيح، والشرط
لغو باطل، فالهبة إذن لا تبطل بالشروط الفاسدة.
والأصل في ذلك بالنسبة للهبة أنه صلّى الله عليه وسلم أجاز العمرى وأبطل
شرط المعمر (2)، وهي بخلاف البيع، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع
وشرط (3).
3 - وقسم يجوز فيه العقد والاستثناء جميعاً: وهو الوصية، كما إذا أوصى بفرس
إلا حَملْها، صحت الوصية في الفرس، وبقي الحَمْل لورثة الموصي؛ لأن الحمل
أصل على حدة بالنسبة للوصية، حتى إنه يجوز إفراده بالوصية، فيجوز استثناؤه
إذن؛ لأن عقد الوصية والإيصاء، كل منهما بطبيعته لا يكون إلا مضافاً لزمن
مستقبل، ولا يثبت الملك في الموصى به إلا بعد وفاة الموصي.
7 - الشرط السابع وهو قبض الموهوب: وهو
أهم الشروط، وهو شرط لزوم وتمام الهبة، لا شرط صحة وركن عند بعض الحنفية
وابن عقيل من الحنابلة
_________
(1) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 423.
(2) المرجع السابق. وهذا بمقتضى حديث جابر السابق تخريجه، ففي بعض رواياته
عند أبي داود والنسائي والترمذي وصححه، قال: «أيما رجل أعمر رجلاً عمرى له
ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك، ما بقي منكم أحد، فإنها لمن أعطيها،
وإنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» وروى
النسائي بمعناه عن عبد الله بن الزبير.
(3) رواه الطبراني في معجمه الوسط عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي
صلّى الله عليه وسلم أنه «نهى عن بيع وشرط، البيع باطل، والشرط باطل» (راجع
نصب الراية: 4 ص/17).
(5/3995)
كما سبق بيانه، وقد أخر إلى هنا، لكثرة ما
يتبعه من أمور. فالقبض في الهبة: أن يكون الموهوب مقبوضاً، فلا يثبت الملك
للموهوب له قبل القبض بل لا تتحقق الهبة إلا بالقبض، فبالقبض توجد الهبة،
والقبض مولد لآثار الهبة عند الحنفية. وأتكلم هنا في بيان أصل القبض أنه
شرط أم لا عند الفقهاء.
ما نوع شرط القبض؟ اختلف الفقهاء، فقال
الحنفية والشافعية (1): القبض شرط للزوم الهبة، حتى إنه لا يثبت الملك
للموهوب له قبل القبض، بدليل ما روت عائشة رضي الله عنها أن أباها نحلها
جداد عشرين وَسقاً (2) من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: يابنية: إن أحب
الناس عندي بعدي لأنت، وإن أعز الناس علي فقراً بعدي لأنت، وإني كنت نحلتك
جداد عشرين وسقاً من مالي، ولو كنت جددتيه وأحرزتيه لكان لك، وإنما هو
اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله، قالت:
هذان أخواي، فمن أختاي، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة،
فإني أظنها جارية (3).
فهذا نص في اشتراط القبض للزوم الهبة، وإن الهبة تملك بالقبض لقوله: «لو
كنت جددتيه وأحرزتيه لكان لك»، وقال عمر رضي الله عنه: ما بال رجال
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 533/ 4، 341/ 5، مغني المحتاج: 400/ 2.
(2) الجد: صرام النخل أي أعطاها ما لا يجد عشرين وسقا، أي يحصل من ثمرته
ذلك، والوسق: ستون صاعاً أو حمل بعير، حوالى (130 كغ).
(3) تتمة الأثر: «فولدت جارية، أخواها عبد الرحمن ومحمد. وبنت خارجة: هي
حبيبة بنت خارجة بن زيد، زوجة أبي بكر، كانت ذلك الوقت حاملاً، فولدت أم
كلثوم» رواه عن عائشة مالك في الموطأ، ورواه عنه محمد بن الحسن وعبد الرزاق
والبيهقي (راجع جامع الأصول: 12 ص/269، تنوير الحوالك شرح الموطأ: 223/ 2،
نصب الراية: 122/ 4، التلخيص الحبير: ص260، نيل الأوطار: 5 ص/349).
(5/3996)
يَنْحَلون أبناءهم نُحلاً، ثم يمسكونها فإن
مات ابن أحدهم، قال: «مالي بيدي، لم أعطه أحداً، وإن مات هو قال: هو لابني،
قد كنت أعطيته إياه، فمن نحل نحلة فلم يَحُزْها الذي نحلها ـ وأبقاها ـ حتى
تكون إن مات لورثته، فهي باطلة» (1).
وهذا هو قول عثمان وعلي أيضاً (2)، وفي الجملة فإن الخلفاء الراشدين وغيرهم
اتفقوا على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة محوزة (3).
وقال الحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: القبض شرط لصحة الهبة في المكيل
أو الموزون، لإجماع الصحابة على ذلك، ويظهر أن المراد بكون القبض شرط صحة
أنه شرط لزوم، بدليل قول ابن قدامة: إن المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة
والهبة إلا بالقبض، وهو قول أكثر الفقهاء.
أما غير المكيل أو الموزون فتلزم الهبة فيه بمجرد العقد، ويثبت الملك في
الموهوب قبل قبضه، لما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما قالا: الهبة
جائزة إذا كانت معلومة، قبضت أو لم تقبض (4).
_________
(1) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، الموضع السابق. والنحلة: العطية من غير
عوض، أو الهبة.
(2) والصدقة على الفقير كالهبة، بجامع التبرع، فلا تصح إلا بالقبض لأنها
تبرع كالهبة، لاتجوز في مشاع يحتمل القسمة لأنها كالهبة، لكن إذا تصدق على
فقيرين بشيء يحتمل القسمة، جاز، لأن المقصود في الصدقة هو الله تعالى، وهو
واحد، والفقير نائب عنه في القبض. ولا يصح الرجوع في الصدقة، ولو على غني
استحساناً بعد القبض لأن المقصود هو الثواب وقد حصل.
(3) هذا أثر عن الصحابة، ورد الزيلعي على من قال: إنه حديث بقوله: غريب،
ورواه عبد الرزاق من قول النخعي قال: «لا تجوز الهبة حتى تقبض، والصدقة
تجوز قبل أن تقبض» (راجع نصب الراية: 4 ص/121، وراجع المبسوط: 12 ص 57،
تكملة فتح القدير: 7ص 113 ومابعدها، البدائع: 6 ص 123، المهذب: 1 ص 447،
مغني المحتاج: 2 ص/400).
(4) المغني: 5 ص 591 ومابعدها.
(5/3997)
وقال المالكية: لايشترط القبض لصحة الهبة،
ولا للزوم الهبة، وإنما هو شرط لتمامها، أي لكمال فائدتها، بمعنى أن
الموهوب يملك بمجرد العقد أي القول، على المشهور عندهم. والقبض أو الحيازة
لتتم الهبة، ويجبر الواهب على تمكين الموهوب له من الموهوب. ودليلهم تشبيه
الهبة بالبيع وغيره من سائر التمليكات، ولقول الأصحاب: الهبة جائزة إذا
كانت معلومة، قبضت أو لم تقبض (1).
والخلاصة: أن غير المالكية يرون أن الموهوب يملك بالقبض لا بالعقد (2)،
وعند المالكية: يملك بالعقد.
8 - يشترط لصحة القبض عند جمهور العلماء: أن
يكون بإذن الواهب: فلو قبض بلا إذن لم يملكه، ودخل في ضمانه؛ لأن
التسليم غير مستحق على الواهب، فلا يصح التسليم إلا بإذنه، ولأن الإذن
بالقبض شرط لصحة القبض في البيع، ففي الهبة من باب أولى؛ لأن القبض فيها
شرط لصحتها، بعكس البيع (3) إلا أن الحنفية قالوا: القياس أن لا يجوز قبض
الهبة إلا بإذن الواهب، سواء تم القبض في مجلس العقد أم بعد الافتراق.
والاستحسان أن الموهوب له إذا قبض الموهوب في مجلس العقد بغير أمر الواهب،
جاز. وإن قبض بعد الافتراق عن المجلس لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في
القبض.
_________
(1) بداية المجتهد: 2 ص/324، حاشية الدسوقي: 4 ص/101.
(2) لما روى الحاكم في صحيحه أنه صلّى الله عليه وسلم «أهدى إلى النجاشي
ثلاثين أوقية مسكاً، ثم قال لأم سلمة: إني لأرى النجاشي قد مات، ولا أرى
الهدية التي قد أهديت له، إلا تستردّ، فإذا ردت إلي، فهي لك، فكان كذلك»
ولأن الهبة عقد إرفاق وتبرع كالقرض، فلا يملك إلا بالقبض.
(3) البدائع: 6 ص 123، الهداية وتكملة فتح القدير: 115/ 7 ومابعدها، مغني
المحتاج: 2ص/400، المغني: 5 ص/592.
(5/3998)
وجه القياس: أن القبض تصرف في ملك الواهب
لأن ملكه قبل القبض باق، فلا يصح بدون إذنه.
ووجه الاستحسان: أن القبض في الهبة بمنزل القبول؛ لأنه يتوقف عليه ثبوت
الملك، والمقصود من الهبة إثبات الملك، فيكون الإيجاب من الواهب تسليطاً
للموهوب له على القبض، فكان إذناً دلالة. وإنما قيد ذلك بالمجلس لأنه ثبت
التسليط فيه، إلحاقاً له بالقبول، والقبول يتقيد بالمجلس، فكذلك ما يلحق
به.
وقال المالكية: يصح القبض ولو بلا إذن من الواهب، ويجبر الواهب على تمكين
الموهوب من القبض حيث طلبه؛ لأن الهبة تملك بالقول أي بالإيجاب، على
المشهور عندهم (1).
ويترتب على مذهب الحنفية: أنه لو وهب إنسان ثوباً، أو عيناً من الأعيان،
مفرزاً، مقسوماً، ولم يأذن له في قبضه، فقبضه الموهوب له فإن كان بحضرة
الواهب: يجوز استحساناً، والقياس أن لا يجوز قبضه بعد الافتراق من المجلس،
وهو قول زفر؛ لأن القبض عنده ركن بمنزلة القبول في حق إثبات الحكم، فلا
يجوز القبض بعد الافتراق عن المجلس، كما لا يجوز القبول بعد الافتراق.
ووجه الاستحسان: أن الإذن بالقبض وجد من طريق الدلالة؛ لأن الإيجاب فيه
دلالة الإذن بالقبض.
وأما في هبة الدين لغير من عليه الدين، فلا بد من الإذن صراحة بالقبض، ولا
يكفي الإذن دلالة. وجه الفرق بين هبة العين وهبة الدين: هو أن الإيجاب في
هبة العين يدل على الإذن بالقبض دلالة؛ لأن قصده تمليك ما هو ملكه للموهوب
_________
(1) حاشية الدسوقي: 4 ص 101.
(5/3999)
له، أما في هبة الدين: فالإيجاب لايعطي تلك
الدلالة؛ لأن الدلالة متوقفة على قصد التملك، وتمليك الدين من غير من عليه
الدين لايتحقق إلا بالتصريح بالإذن بالقبض؛ لأنه بالتصريح يقوم قبضه مقام
قبض الواهب، فيصير المقبوض ملكاً له أولاً، ثم يصير الموهوب له قابضاً
لنفسه من الواهب. وبناء على هذا التقدير: يصير الواهب واهباً ملك نفسه،
والموهوب له قابضاً ملك الواهب.
وتجويز هبة الدين لغير من عليه الدين ثابت استحساناً، وصورتها: أن يهب رجل
لرجل ديناراً له على رجل، ويأمر بقبضه ويقبضه فعلاً، فيجوز استحساناً؛ لأنه
أنابه في القبض مناب نفسه، فيجعل قبض الموهوب له كقبض الواهب. وأما قياساً
فلا يجوز، وهو قول زفر؛ لأن الدين ليس بمال عند الحنفية، حتى إن حلف لا مال
له، وله دين على إنسان: لا يحنث في يمينه. والهبة عقد
مشروع لتمليك المال، فإذا أضيف إلى ما ليس بمال لا يصلح (1).
ويشترط أيضاً عند الحنفية والشافعية شرطان آخران لصحة القبض وهما أهلية
القبض: بالعقل عند الحنفية، وبالعقل والبلوغ عند الشافعية، فلا يصح عندهم
قبض الصبي والمجنون؛ لأن القبض من باب الولاية، ولا ولاية لغير البالغ
العاقل على نفسه وماله. والشرط الثاني ـ ألا يكون الموهوب مشغولاً بغيره
مما ليسبموهوب؛ لأن معنى القبض: التمكن من التصرف في المقبوض، وهو لا يتحقق
مع شغل الشيء بغيره. وأضاف الحنفية شرطاً ثالثاً، كماتقدم: وهو أن يكون
الموهوب مفرزاً عن غيره حتى يتمكن الموهوب له من قبضه، فلا يصح عندهم هبة
المشاع كما تقدم.
_________
(1) المبسوط للسرخسي: 70/ 12، البدائع: 119/ 5، 124، حاشية ابن عابدين:
544/ 4.
(5/4000)
نوعا القبض:
قبض الهبة عند الحنفية نوعان: قبض بطريق الأصالة، وقبض بطريق النيابة (1).
أما القبض بطريق الأصالة: فهو أن يقبض
بنفسه لنفسه، وشرط جوازه العقل فقط، فلا يجوز قبض الصبي غير المميز
والمجنون. وأما البلوغ: فليس بشرط لصحة القبض استحساناً، فيجوز قبض الصبي
العاقل (أي المميز) ما وهب له.
والقياس وهو رأي غير الحنفية: أن يكون البلوغ شرطاً؛ لأن القبض من باب
الولاية، ولا ولاية للصبي على نفسه، فلا يجوز قبضه في الهبة، كما لا يجوز
في البيع.
ووجه الاستحسان: أن قبض الهبة من التصرفات النافعة نفعاً محضاً، فيملكه
الصبي العاقل.
وأما القبض بطريق النيابة، فالنيابة في
القبض نوعان:
نوع يرجع إلى القابض، ونوع يرجع إلى القبض نفسه.
أما الأول ـ فهو القبض للصبي، وشرط جوازه وجود ولاية أو عيلة أي كون الصبي
في حِجْر وعيال شخص أي في رعايته وتربيته عند عدم الولي.
فلو وهب أجنبي للصغير شيئاً، فيقبض عنه وليه على هذا الترتيب عند الحنفية:
الأب، ثم وصيه، ثم الجد، ثم وصيه، ومن غاب من هؤلاء غيبة منقطعة
_________
(1) انظر التفصيل في البدائع: 126/ 5 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 125/ 7
ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 535/ 4، الكتاب مع الباب: 173/ 2.
(5/4001)
تنتقل الولاية إلى الأبعد، كما في ولاية
النكاح؛ لأن التأخير إلى قدوم الغائب يؤدي إلى تفويت المنفعة على الصغير،
فتنتقل الولاية إلى ما يتلوه.
وبناء على ذلك لو وهب أحد هؤلاء الأولياء للصغير شيئاً، والمال في أيديهم
صحت الهبة، ويصيرون قابضين للصغير، وكذلك إذا باع الأب ماله من ابنه
الصغير، ثم هلك المبيع عقب البيع، كان الهلاك على الصغير؛ لأنه صار قابضاً
بقبض الأب.
ولو قبض الصغير العاقل ما وهب له أحد أوليائه المذكورين، جاز قبضه
استحساناً، والقياس: أن لا يجوز، كما تبين في القبض بطريق الأصالة.
ولا يجوز قبض غير هؤلاء الأولياء الأربعة المذكورين مع وجود واحد منهم،
أجنبياً كان أو ذا رحم محرم منه، كالأخ والعم والأم؛ لأنه ليس لهم ولاية
التصرف في مال الصبي.
فإن لم يكن أحد من هؤلاء الأولياء الأربعة، جاز قبض من كان الصبي في حجره
وعياله استحساناً، والقياس: أن لا يجوز لعدم الولاية، وإنما جاز ذلك
استحساناً؛ لأن من هو في عياله، له عليه نوع ولاية، إذ أنه يؤدبه، ويعمل له
ما فيه المنفعة، وللصبي في قبض الهبة منفعة محضة، فكيون ذلك من باب الحفظ.
وأما النوع الثاني من النيابة: وهو الذي يرجع إلى القبض نفسه فهو أن القبض
الموجود بسبب من الأسباب ينوب عن قبض الهبة، سواء أكان مثل قبض الهبة أم
أقوى منه، وبيانه:
أـ إذا كان الموهوب في يد الموهوب له وديعة أو عارية، فوهب منه، جازت
الهبة، ولا يحتاج إلى تجديد القبض بعد العقد استحساناً، والقياس: أن لا
يصير
(5/4002)
قابضاً ما لم يجدد القبض، وهو أن يخلي بين
الموهوب له وبين الموهوب بعد العقد؛ لأن يد الوديع هي يد صورية، وهي في
الحقيقة والمعنى يد المودع، فكان المال في يده فيحتاج إلى تجديد القبض.
ووجه الاستحسان: أن قبض الهبة وقبض الوديعة أو العارية متماثلان في القوة؛
لأن كل واحد منهما قبض أمانة غير مضمون، إذ الهبة عقد تبرع، وكذا الوديعة
والعارية، فتماثل القبضان، فيقوم أحدهما مقام الآخر.
ب ـ وإذا كان الموهوب في يد الموهوب له مضموناً بنفسه، كالمغصوب والمقبوض
على سوم الشراء (1)، والمقبوض ببيع فاسد، فوهب منه: تصح الهبة، ويبرأ عن
الضمان؛ لأن قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة، فينوب عنه، لوجود المستحق
بالعقد وهو القبض، وزيادة ضمان.
ج ـ وإذا كان الموهوب في يد الموهوب له مضموناً بغيره، كالمرهون المضمون
بالدين، والمبيع المضمون بالثمن، فوهبه مالكه لصاحب اليد: فإنه لا يصير
قابضاً بذلك عند الكرخي ما لم يجدد القبض؛ لأن قبض الرهن أو البيع، وإن كان
قبض ضمان، لكنه ضمان لا تصح البراءة منه، فلا يحتمل الإبراء بالهبة، ليصير
قبض أمانة، وبالتالي يتماثل القبضان، وحينئذ على سوم الشراء؛ لأن ذلك
الضمان مما تصح البراءة عنه، فيبرأ عنه بالهبة؛ ويبقى قبضاً بغير ضمان،
فتماثل القبضان فيتناوبان.
_________
(1) وهو أن يقبض الإنسان شيئاً لينظره أو ليشتريه، فإن بين البائع للمقبوض
ثمناً، كان المقبوض مضموناً على القابض، بخلاف المقبوض على سوم النظر، فإنه
أمانة. وعلى هذا فالمقبوض على سوم الشراء مضمون بالقيمة عند بيان الثمن، لا
المقبوض على سوم النظر، فهو ليس بمضمون مطلقاً (راجع مجمع الضمانات
للبغدادي: ص 213، 217، الدر المختار ورد المحتار: 52/ 4 ومابعدها، حاشية
الشرقاوي على التحفة: 150/ 2، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 96).
(5/4003)
وفي الجامع الصغير والبدائع، وهو الأرجح:
يصير الموهوب له في المضمون بغيره قابضاً؛ لأن قبض الضمان أقوى من قبض
الأمانة، والأقوى ينوب عن الأدنى.
المبحث الرابع ـ حكم الهبة:
أصل حكم الهبة: هو ثبوت الملك للموهوب
له في الموهوب من غير عوض.
صفة حكم الهبة: قال الحنفية: حكم الهبة
ثبوت الملك للموهوب له غير لازم، فيصح الرجوع والفسخ، لقوله عليه السلام:
«الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها» (1) أي يعوض، فإنه عليه السلام جعل
الواهب أحق بهبته ما لم يصل إليه العوض، وهذا نص في المراد، فيصح الرجوع ما
لم يحصل تعويض، وإن تم القبض، وهناك موانع أخرى من الرجوع ستذكر. ولكن يكره
الرجوع؛ لأنه من باب الدناءة، وللموهوب له أن يمتنع عن الرد. ولا يصح
الرجوع إلا بتراض أو بقضاء القاضي؛ لأن الرجوع فسخ بعد تمام العقد، فصار
كالفسخ بسبب العيب بعد القبض (2)، فالرجوع في الهبة بالتراضي يعد من
الإقالة.
وقال المالكية: يثبت الملك في الهبة بمجرد العقد ويصبح لازماً بالقبض، فلا
_________
(1) روي من حديث أبي هريرة وابن عباس وابن عمر. فحديث أبي هريرة أخرجه ابن
ماجه والدارقطني، وفيه ضعيف. وحديث ابن عباس له طريقان: أحدهما عند
الطبراني في معجمه، والثاني عند الدارقطني في سننه، وحديث ابن عمر رواه
الحاكم وصححه، كما صححه ابن حزم، وعن الحاكم رواه البيهقي وقال: والصحيح من
هذه الرواية عن عمر من قوله (راجع نصب الراية: 125/ 4، التلخيص الحبير: ص
260 ومابعدها، سبل السلام: 93/ 3).
(2) البدائع: 127/ 6، تكملة فتح القدير: 129/ 7، مجمع الضمانات: ص 338.
(5/4004)
يحل الرجوع بعدئذ، أما قبل القبض أو بعده
فيصح للواهب الأب فقط أن يرجع فيما وهبه لابنه، ما لم يترتب عليه حق الغير
كأن يتزوج مثلاً، أو يستحدث ديناً. والرجوع في الهبة يعرف عندهم بالاعتصار
في الهبة (1).
والاعتصار أو الرجوع في الهبة جائز عند المالكية فيما يهبه الوالد لولده
صغيراً أو كبيراً بشروط خمسة: وهي ألا يتزوج الولد بعد الهبة، ولا يحدث
ديناً لأجل، وألا يتغير الموهوب عن حاله، وألا يحدث الموهوب له في الموهوب
حدثاً، وألا يمرض الواهب أو الموهوب له. فإن وقع شيء من ذلك يمتنع الرجوع،
هذا في هبة التردد والمحبة. أما الهبة لوجه الله تعالى وهي التي تسمى صدقة
فلا رجوع فيهاأصلاً ولا اعتصار، ولا ينبغي للواهب أن يرتجعها بشراء ولا
غيره، وإن كانت شجراً فلا يأكل من ثمرها، وإن كانت دابة فلا يركبها إلا أن
ترجع إليه بالميراث، وأما هبة الثواب على أن يكافئه الموهوب له فهي جائزة
عند المالكية، والموهوب له مخير بين قبولها أو ردها، فإن قبلها فيجب أن
يكافئه بقيمة الموهوب، ولا يلزمه الزيادة عليها، ولا يلزم الواهب قبول ما
دونه.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يحل للواهب أن يرجع في هبته، إلا الوالد فيما
أعطى ولده، لقوله عليه الصلاة والسلام: «العائد في هبته كالعائد في قيئه»،
«ليس لنا مثل السوء: العائد في هبته، كالكلب يعود في قيئه» (2) وقال صلّى
الله عليه وسلم: «ليس
_________
(1) حاشية الدسوقي: 110/ 4، بداية المجتهد: 324/ 2، 327، المنتقى على
الموطأ: 113/ 6، 116، القوانين الفقهية: ص 367، ط فاس.
(2) تقديم تخريجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والرواية الأولى عند
النسائي والثانية عند أبي داود (راجع سبل السلام: 90/ 3).
(5/4005)
لأحد أن يعطي عطية، فيرجع فيها إلا الوالد،
فيما يعطي ولده» (1)، وكالوالد: سائر الأصول عند الشافعية (2).
والخلاصة: إن حكم الهبة غير لازم عند الحنفية، ولازم عند الجمهور إلا هبة
الوالد لولده، فيصح له الرجوع قبل القبض عند المالكية، وبعد القبض أيضاً
عند الشافعية والحنابلة. ويثبت ذلك الحق عند الشافعية في هبة الأصل (الوالد
والجد) للفرع مطلقاً.
المبحث الخامس ـ موانع الرجوع في الهبة عند
الحنفية:
نظم بعضهم هذه الموانع وهي سبعة، فقال:
ومانع من الرجوع في الهبة يا صاحبي حروف (دمع خزقة)
الدال رمز للزيادة المتصلة في نفس العين، والميم للموت، والعين للعوض،
والخاء لخروج الموهوب عن ملك الموهوب له، والزاي للزوجية، والقاف للقرابة،
والهاء للهلاك.
وتفصيل ذلك يعرف مما يأتي:
_________
(1) أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر وابن عباس عن النبي صلّى الله
عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة ثم يرجع فيها، إلا
الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يرجع في عطيته أو هبته كالكلب يأكل فإذا
شبع قاء، ثم عاد فيه» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان والحاكم
عن ابن عباس وصححاه، ورواه أحمد والطبراني والدارقطني وعبد الرزاق عن طاوس
عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلاً، وله طريق آخر عند النسائي وابن ماجه
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: «لا يرجع في هبته إلا الوالد من
ولده» (راجع جامع الأصول: 266/ 12، نصب الراية: 124/ 4، سبل السلام: 90/ 3،
التلخيص الحبير: ص 260).
(2) مغني المحتاج: 401/ 2، المهذب: 1ص 447، المغني: 621/ 5.
(5/4006)
أولاً ـ العوض المالي: إذا عوض الموهوب له
الواهب من هبته عوضاً، وقبضه الواهب، امتنع على الواهب الرجوع في هبته،
لقوله عليه الصلاة والسلام: «الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها» أي يعوض
وذلك هو هبة الثواب أي العوض، ولأن التعويض دليل على أن مقصود الواهب هو
الوصول إلى العوض، فإذا عوض امتنع الرجوع، لكن يشترط في المعوض أن يقول
شيئاً من الألفاظ يؤذن بالعوض، أما إذا سكت ولم يقل شيئاً، جاز الرجوع فيما
أعطى.
والعوض نوعان: عوض مشروط في العقد، وعوض متأخر عن العقد (1).
أـ العوض المشروط في العقد (أو الهبة بشرط
العوض أو هبة الثواب):
إذا قال الواهب: «وهبت لك هذا القلم على أن تعوضني هذا الثوب» فقد اتفق
الأئمة الأربعة على صحة هذا الشرط، والعقد الذي اشتمل عليه، واختلفوا في
تكييف العقد المذكور.
فقال الحنفية ما عدا زفر: يعتبر هذا العقد هبة ابتداء، بيعاً انتهاءً،
فتطبق عليه أحكام الهبة قبل القبض، فلا تجوز هبة المشاع ويشترط القبض،
ويجوز الرجوع في السلعتين، ما لم يتقابضا. وأما بعد التقابض فيعد العقد
بمنزلة البيع، بحيث يرد البدلان بالعيب وعدم الرؤية، ويرجع في الاستحقاق،
وتجب الشفعة في العقار.
وقال زفر: هو عقد بيع ابتداءً وانتهاءً، وتثبت فيه أحكام البيع، فلا يفسد
بالشيوع، ويفيد الملك بنفسه، بدون اشتراط القبض؛ لأن معنى البيع موجود في
هذا العقد، إذ البيع تمليك العين بعوض.
_________
(1) انظر التفصيل في المبسوط: 75/ 12 ومابعدها، البدائع: 130/ 6، تكملة فتح
القدير: 133/ 7، حاشية ابن عابدين: 539/ 4 ومابعدها.
(5/4007)
واعتمد جمهور الحنفية على أنه وجد في هذا
العقد لفظ الهبة، ومعنى البيع، فيعطى شبه العقدين (1).
وقال المالكية: يعتبر هذا العقد كالبيع في غالب الأحوال، ويخالفه في الأقل
منها؛ لأن هبة الثواب تجوز مع جهل عوضها، وجهل أجله، وليس للواهب رد الثواب
المعيب، وإنما يلزم بقبوله، ما لم يكن العيب فادحاً كجذام وبرص، وإلا فلا
يلزم الواهب قبوله، ولو كمل له القيمة (2).
وقال الشافعية والحنابلة: يعتبر العقد بيعاً على الصحيح، فيلتزم الموهوب له
بدفع العوض المشروط، وتطبق عليه أحكام البيع من الشفعة والخيار وضمان
الدرَك أي ما يدرك المبيع من استحقاق، ونحو ذلك (3). والسب هو أن اشتراط
العوض صراحة يبطل الهبة، لأنه شرط مخالف لمقتضى العقد.
ب ـ العوض المتأخر عن العقد:
العوض المتأخر عن العقد إما أن يضاف إلى الهبة الأولى مثل: هذا عوض عن
هبتك، أو بدل عنها أو مكانها، وإما ألا يضاف إليها.
فإذا لم يضف العوض إلى الهبة الأولى، تكون الهبة الثانية هبة مبتدأة، ويثبت
حق الرجوع في الهبتين.
وأما إذا أضيف العوض إلى الهبة الأولى، فيكون التعويض المتأخر عن الهبة
_________
(1) البدائع: 132/ 6.
(2) بداية المجتهد: 326/ 2، حاشية الدسوقي: 114/ 4، القوانين الفقهية: ص
352.
(3) المهذب: 447/ 1، مغني المحتاج: 404/ 2، ضمان الدرك: هو التزام سلامة
المبيع مما يمكن أن يلحقه ويدركه من حقوق لغير البائع في عينه، وتحمل
التبعة عند ظهور حق فيه لأحد. (عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 97).
(5/4008)
الأولى هبة مبتدأة بلا خلاف، تصح بما تصح
به الهبة، وتبطل بما تبطل به الهبة، ولكن يخالف الهبة المبتدأة في إسقاط
الرجوع في الهبة الأولى، فكان فيه معنى العوض (1).
ولكن هل الهبة المطلقة عن شرط التعويض عنها تقتضي الإثابة والتعويض؟
اختلف العلماء: فقال الحنفية، والحنابلة، والشافعية في الأرجح عندهم:
لاتقتضي ثواباً، سواء أكانت من الإنسان لمثله، أم دونه، أم أعلى منه، فلا
يلزم الموهوب له بالإثابة والتعويض للواهب (2).
وقال المالكية: الهبة تقتضي الثواب وتحمل على إرادة التعويض إذا اختلف
الواهب والموهوب له في ذلك، وخصوصاً: إذا دلت قرينة الحال على قصد الثواب.
مثل: أن يهب الفقير الغني، أو لمن يرى أنه إنما قصد بذلك الثواب. ودليلهم
قول عمر رضي الله عنه: ومن وهب هبة أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع
فيها، إذا لم يرض منها (3).
ثانياً ـ العوض من حيث المعنى: وهو ليس بعوض مالي، وهو ثلاثة أنواع (4).
الأول ـ الثواب من الله تعالى: فلا رجوع
في الهبة من الفقير بعد قبضها؛ لأن الهبة إلى الفقير صدقة، ويطلب بها
الثواب، ولا رجوع في الصدقة.
_________
(1) البدائع: 131/ 6، المبسوط: 76/ 12، 82.
(2) البدائع: 132/ 6، المهذب: 447/ 1، مغني المحتاج: 404/ 2، المغني: 623/
5.
(3) بداية المجتهد: 326/ 2، حاشية الدسوقي: 114/ 4، المنتقى على الموطأ:
111/ 6.
(4) البدائع: 132/ 6، تكملة فتح القدير: 134/ 7، حاشية ابن عابدين: 541/ 4.
(5/4009)
الثاني ـ صلة الرحم:
فلا يصح الرجوع في هبة ذوي الأرحام المحارم؛ لأن هذه الصلة عوض معنوي؛ لأن
التواصل سبب التناصر والتعاون في الدنيا، فيكون وسيلة إلى استيفاء النصرة،
وسبب الثواب في الدار الآخرة، فكان ذلك أقوى من المال.
الثالث ـ صلة الزوجية: فلا يصح الرجوع
في هبة الزوجين؛ لأن هذه الصلة تجري مجرى صلة القرابة الكاملة، بدليل أنه
يتعلق بها التوارث في جميع الأحوال.
ثالثاً ـ الزيادة المتصلة في الموهوب بفعل الموهوب له أو بفعل غيره: هذه
الزيادة تمنع الرجوع، سواء أكانت متولدة أم غير متولدة، كأن يكون الموهوب
داراً، فبنى الموهوب له فيها بناء، أو كان أرضاً فغرس فيها أشجاراً، أو
أقام مضخة ماء وثبّتها في الأرض وبنى عليها، أو كان الموهوب ثوباً فصبغه
بصباغ زادت به قيمته، أو قطعه قميصاً وخاطه، أو طرأ سمن وجمال، فلا يصح
الرجوع؛ لأن الموهوب اختلط بغيره، والرجوع لا يمكن في غير الموهوب، لأنه
ليس بموهوب، وبما أنه لا يمكن الرجوع في الأصل بدون الزيادة، فامتنع الرجوع
أصلاً.
وأما الزيادة المنفصلة: فلا تمنع من الرجوع، سواء أكانت متولدة من الأصل
كالولد واللبن والثمر، أم غير متولدة كالأرش (1) والكسب والغلة؛ لأن هذه
الزوائد لم يرد عليها العقد، فلا يرد عليها الفسخ، وإنما ورد على الأصل،
ويمكن فسخ العقد في الأصل دون الزيادة، بخلاف المتصلة، وبخلاف زوائد
المبيع، فإنها تمنع الرد بالعيب، حتى لا يحصل هناك ربا؛ لأنه يترتب على فسخ
البيع وردِّ
_________
(1) الأرش: هو العوض المالي الذي يقدر ويجب على الجاني في غير النفس أو
الأعضاء، وذلك في كل جناية بحسبها كما في الكسر أو الرض.
(5/4010)
الأصل أن يبقى الولد مثلاً عند المشتري
بدون مقابل، وهذا هو معنى الربا، ومعنى الربا لا يتصور في الهبة؛ لأن الربا
يختص بالمعاوضات.
وأما نقصان الموهوب فلا يمنع من الرجوع في الهبة، لأنه ما دام له الحق في
الرجوع في كل الموهوب، فيكون له الرجوع في بعض الموهوب مع بقائه، فكذا عند
نقصانه. ولا يضمن الموهوب له النقصان؛ لأن قبض الهبة ليس بقبض مضمون (1).
رابعاً ـ خروج الموهوب عن ملك الموهوب له: بأي سبب كان، كالبيع أو الهبة
ونحوهما؛ لأن الملك يختلف بهذه التصرفات، واختلاف الملكين كاختلاف العينين،
فلو وهب عيناً لم يكن له أن يرجع في عين أخرى، فكذا إذا أوجب ملكاً لم يكن
له أن يفسخ ملكاً آخر (2).
خامساً ـ موت أحد العاقدين: إذا مات الموهوب له امتنع الرجوع؛ لأن الملك
انتقل إلى ورثته، فصار كما إذا انتقل في حياته. وكذا إذا مات الواهب؛ لأن
الملك ينتقل إلى وارثه، وهو أجنبي، لم تحدث منه الهبة (3).
سادساً ـ هلاك الموهوب أو استهلاكه: لأنه لا سبيل إلى الرجوع في الهالك،
ولا سبيل إلى الرجوع في قيمته؛ لأنها ليست بموهوبة، لعدم ورود العقد عليها،
وقبض الهبة غير مضمون (4).
_________
(1) راجع المبسوط: 88/ 12، البدائع: 129/ 6، تكملة فتح القدير: 132/ 7
ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 538/ 4 ومابعدها، المبسوط: 83/ 12.
(2) البدائع: 128/ 6، حاشية ابن عابدين: 541/ 4، تكملة فتح القدير، المرجع
السابق، المبسوط: 84/ 12.
(3) تكملة فتح القدير، المرجع السابق، حاشية ابن عابدين: 539/ 4.
(4) البدائع: 128/ 6، حاشية ابن عابدين: 542/ 4.
(5/4011)
ماهية الرجوع:
لا خلاف في أن الرجوع في الهبة بقضاء القاضي فسخ. واختلف العلماء في الرجوع
فيها بالتراضي، فقال جمهور الحنفية: إنه فسخ أيضاً كالرجوع بالقضاء، فيجوز
بالمشاع، ولا يشترط لصحته القبض.
وقال زفر: إنه هبة مبتدأة؛ لأن ملك الموهوب عاد إلى الواهب بتراضيهما، فصار
يشبه الرد بالعيب، فيعتبر عقداً جديداً بالنسبة لشخص ثالث غير المتعاقدين.
واستدل جمهور الحنفية بأن الواهب بالفسخ يستوفي حق نفسه، واستيفاء الحق لا
يتوقف على قضاء القاضي، بخلاف الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء القاضي: إنه
يعتبر بيعاً جديداً في حق شخص ثالث (أي غير المتعاقدين)، لأنه لا حق
للمشتري في الفسخ، وإنما حقه في كون المبيع سالماً من العيوب، فإذا لم يسلم
اختل رضاه (1).
المبحث السادس ـ عطية الأولاد:
لا خلاف بين جمهور العلماء في استحباب التسوية في العطاء بين الأولاد،
وكراهة التفضيل بينهم في حال الصحة كما تقدم، واختلفوا في بيان المراد من
التسوية المستحبة.
فقال أبو يوسف من الحنفية، والمالكية والشافعية وهو رأي الجمهور: يستحب
للأب أن يسوي بين الأولاد ـ الذكور والإناث ـ في العطية، فتعطى الأنثى
مثلما يعطى الذكر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «سووا بين أولادكم في
العطية، ولو كنت مؤثراً
_________
(1) البدائع: 134/ 6.
(5/4012)
لآثرت النساء على الرجال» (1) رواه سعيد بن
منصور في سننه والبيهقي بإسناد حسن، وفي رواية للبخاري: «اتقوا الله
واعدلوا بين أولادكم» (2)، ولأن العدل في القسمة والمعاملة مطلوب (3)،
وقدحملوا الأمر في هذه الأحاديث على الندب.
وقال الحنابلة، ومحمد من الحنفية: للأب أن يقسم بين أولاده على حسب قسمة
الله تعالى في الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن الله تعالى قسم
بينهم كذلك، وأولى ما اقتدى به: هو قسمة الله، ولأن العطية في الحياة أحد
حالي العطية، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كحالة الموت، والميراث المترتب
عليه. يدل لهذا أن العطية استعجال لما يكون بعد الموت، فينبغي أن تكون على
حسبه (4).
أما عن حكم التسوية في العطية: فقال
جمهور العلماء (5): لا تجب التسوية بل تندب، فإن فضل بعض الورثة صح وكره،
وحملوا الأمر بالتسوية في الأحاديث على الندب؛ لأن الإنسان حر التصرف
بماله، لوارث وغيره، وكذلك حملوا النهي الثابت في رواية لمسلم بلفظ «أيسرك
أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذن» على التنزيه، فالعدل:
هو التسوية بين الأولاد.
_________
(1) ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم
قال: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء» وفي
إسناده سعيد بن يوسف، وهو ضعيف، وذكر ابن عدي في الكامل أنه لم يرو له أنكر
من هذا (راجع التلخيص الحبير: ص260، مجمع الزوائد: 153/ 4).
(2) أخرجه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن النعمان
بن بشير قال: «تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي - عمرة بنت رواحة -: لا
أرضى حتى تشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى النبي صلّى
الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا. قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم؟ فرجع
أبي، فرد تلك الصدقة» وله روايات أخرى (راجع جامع الأصول: 266/ 12
ومابعدها، التلخيص الحبير: ص260، سبل السلام: 89/ 3).
(3) تحفة الفقهاء: 274/ 3، الطبعة القديمة، الميزان: 100/ 2، المهذب: 446/
1. مغني المحتاج: 401/ 2.
(4) المغني: 604/ 5 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 367، ط فاس، غاية
المنتهى: 335/ 2.
(5) نيل الأوطار: 7/ 6، سبل السلام: 89/ 3، كشاف القناع: 342/ 4 - 345.
(5/4013)
وقال جماعة (وهم أحمد والثوري وطاووس
وإسحاق وآخرون): تجب التسوية بين الأولاد في العطية أو الهبة، وتبطل العطية
مع عدم المساواة، عملاً بظاهر الأمر في الأحاديث، الذي يقتضي الوجوب مثل
قوله عليه السلام: «اتقوا الله» وقوله: «اعدلوا بين أولادكم» (1) وقوله:
«فلا إذن» وقوله في حالة إعطاء بعض دون بعض: «لا أشهد على جور».
واختلف هؤلاء في كيفية التسوية، فقيل بأن تكون عطية الذكر والأنثى سواء وهو
ظاهر رواية عند النسائي: «ألا سويت بينهم» وعند ابن حبان: «سووا بينهم»
وحديث ابن عباس: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت
النساء».
وقال الحنابلة: بل التسوية أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين على حسب التوريث.
وروي عن أحمد: أنه يجوز التفاضل إن كان له سبب، كأن يحتاج الولد لزمانته
المرضية أو لعمى، أو لقضاء دينه، أو كثرة عائلته، أو للاشتغال بالعلم، أو
نحو ذلك دون الباقين (2).
_________
(1) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير (نيل الأوطار: 6/
6).
(2) أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر جواباً عن سؤال حول إمكان التمييز بين
الورثة، وتضمنت الفتوى ما يلي:
أولاً ـ يجب على الوالدين التسوية بين الأولاد في العطية والهدايا
والإنفاق، ما استطاعا إلى ذلك سبيلاً، ولا يجوز الخروج عن هذا الأصل إلا
لمبرر يأتي، عملاً بالأحاديث السابقة الآمرة بالتسوية.
ثانياً ـ إذا أنفق أحد الوالدين على أحد الأولاد نفقة ذات قيمة بأن زوجه
ودفع له مهر الزوجة، أو أنفق على تعليمه بما أوصله إلى وظيفة ذات غناء، أو
جهز إحدى بناته، كان عليه أن يعوض سائر ولده الآخرين بمقدار ما أنفقه على
ولده الأول.
ثالثاً ـ يجوز تفضيل بعض الأولاد على بعض لمبرر شرعي، ومن المبررات
الشرعية: العاهات المانعة من التكسب كالزمانة، والعمى المانع، والشلل،
وكذلك العجز عن التكسب، والاشتغال بالعلم الديني (مجلة الأزهر ـ العدد
الثالث من السنة الرابعة عشرة).
(5/4014)
العطية للوالدين: تسن التسوية أيضاً في
العطية للوالدين، ويجوز تفضيل الأم
أحياناً وتخصيصها بمزيد من العطاء والإكرام؛ لما أخرجه البخاري ومسلم عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟
قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أبوك».
العطية للإخوة والأخوات: يستحب كذلك
التسوية بين الإخوة والأخوات في العطاء والهبات والهدايا في المناسبات
وغيرها، إذا كانوا بدرجة واحدة من الحاجة، ويجوز تخصيص الأكبر بشيء، لقوله
صلّى الله عليه وسلم: «حقُّ كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده»
وفي رواية «الأكبر من الإخوة بمنزلة الأب» (1).
_________
(1) الحديث الأول رواه البيهقي عن سعيد بن العاص، وهو ضعيف، والحديث الثاني
رواه البيهقي والطبراني وابن عدي عن كليب الجهني، وهو ضعيف أيضاً.
(5/4015)
|