الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ التَّاسع: الوَكَالة
خطة الموضوع:
الكلام عن عقد الوكالة في المباحث الخمسة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الوكالة وركنها
ومشروعيتها.
المبحث الثاني ـ شرائط الوكالة.
المبحث الثالث ـ أحكام الوكالة.
المبحث الرابع ـ تعدد الوكلاء.
المبحث الخامس ـ طرق انتهاء الوكالة.
المبحث الأول ـ تعريف الوكالة وركنها ومشروعيتها:
تعريف الوكالة: الوكالة بفتح الواو
وكسرها، وهي تطلق لغة ويراد بها الحفظ، كما في قوله عز وجل: {وقالوا: حسبنا
الله ونعم الوكيل} [آل عمران:173/ 3] أي الحافظ، وقوله سبحانه: {لا إله إلا
هو فاتخذه وكيلاً} [المزمل:9/ 73] قال الفراء: أي حفيظاً. وتطلق ويراد بها
التفويض، يقال: وكل أمره إلى فلان: فوضه إليه واكتفى به، ومنه? توكلت على
الله) قال تعالى: {وعلى الله
(5/4055)
فليتوكل المتوكلون} [إبراهيم:12/ 14]، وقال
سبحانه مخبراً عن هود عليه السلام: {إني توكلت على الله ربي وربكم}
[هود:56/ 11] أي اعتمدت على الله، وفوضت أمري إليه.
والوكالة شرعاً عند الحنفية (1): هي عبارة عن إقامة الإنسان غيره مقام نفسه
في تصرف جائز معلوم. أو هي تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل.
والتصرف يشمل التصرفات المالية من بيع وشراء وغيرهما من كل ما يقبل النيابة
شرعاً كالإذن بالدخول. وقال الشافعية: الوكالة تفويض شخص ماله فعله مما
يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته (2). والتقييد بالحياة للتمييز عن
الوصية.
ركن الوكالة: ركن الوكالة عند الحنفية:
هو الإيجاب والقبول، فالإيجاب من الموكل ويسمى الأصيل: أن يقول: وكلتك
بكذا، أو افعل كذا، أو أذنت لك أن تفعل كذا ونحوه. والقبول من الوكيل: أن
يقول: قبلت وما يجري مجراه (3). ويتم القبول بكل فعل دل على القبول، ولا
يشترط كونه لفظاً؛ لأن التوكيل إباحة ورفع حجر، فأشبه إباحة الطعام (4).
ويجوز بالاتفاق قبول الوكالة على الفور والتراخي؛ لأن قبول وكلائه صلّى
الله عليه وسلم كان بفعلهم، وكان متراخياً عن توكيله إياهم.
فإذا لم يوجد الإيجاب والقبول لا يتم العقد، فلو وكل إنسان غيره بقبض دينه،
فأبى أن يقبل، ثم ذهب الوكيل فقبضه، لم يبرأ المدين؛ لأن تمام العقد
_________
(1) تكملة فتح القدير: 3/ 6، البدائع: 19/ 6، رد المحتار: 417/ 4، تبيين
الحقائق: 254/ 4.
(2) مغني المحتاج: 217/ 2.
(3) البدائع، المرجع السابق: /20.
(4) مغني المحتاج: 222/ 2، المغني: 84/ 5.
(5/4056)
بالإيجاب والقبول، وكل واحد منهما يرتد
بالرد قبل وجود الآخر، كما في البيع ونحوه.
وللوكالة عند الجمهور أركان أربعة: هي الموكل والوكيل والموكل فيه والصيغة.
وتصح الوكالة الدورية (1) عند الحنابلة
(2): وهي وكلتك، وكلما عزلتك أو انعزلت فقد وكلتك أو فأنت وكيلي، ويصح عزله
بقوله: كلما وكلتك أو عدت وكيلي فقد عزلتك.
تعليق الوكالة على شرط أو زمن: الوكالة
عند الحنفية والحنابلة قد تكون مطلقاً وقد تكون معلقة بالشرط، مثل: إن قدم
زيد فأنت وكيلي في بيع هذا الكتاب، ولا يصح تصرف الوكيل قبل تحقق الشرط،
وقد تكون مضافة إلى وقت في المستقبل بأن يقول: وكلتك في بيع هذا الكتاب
غداً، ولا يصير وكيلاً قبل الغد. ودليلهم على جواز ذلك أن التوكيل عقد يبيح
التصرف مطلقاً، والإطلاقات مما تحتمل التعليق بالشرط والإضافة إلى الوقت
كالطلاق، وبما أن التوكيل إذن في التصرف فهو يشبه الوصية (3).
وقال الإمام الشافعي في الأصح من مذهبه: لا يصح تعليق الوكالة بشرط من صفة
أو وقت، مثل: إن جاء زيد أو رأس الشهر فقد وكلتك بكذا. ودليله أن التوكيل
عقد تؤثر الجهالة في إبطاله، فلم يصح تعليقه على شرط كسائر العقود من
_________
(1) الدور عند المناطقة: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه، وسميت وكالة
دورية لدورانها على العزل.
(2) غاية المنتهى: 156/ 2.
(3) البدائع: 20/ 6، غاية المنتهى: 147/ 2.
(5/4057)
بيع وإجارة. ويخالف الوصية لأنها لايؤثر
فيها غرر الجهالة، فلا يؤثر فيها غرر الشرط، فتقبل التعليق. أما الوكالة
فتؤثر الجهالة في إبطالها فيؤثر غرر الشرط فيها، فلا تقبل التعليق. لكن لو
تصرف الوكيل في هذه الحالة صح تصرفه لوجود الإذن، وإن كان العقد فاسداً،
وحينئذ إذا كان وكيلاً بأجر سقط المسمى، ووجب له أجر المثل، لأنه عمل في
عقد فاسد لم يرض فيه بغير بدل، فوجب أجر المثل كالعمل في الإجارة الفاسدة
(1). وإذا نجَّز الوكالة وشرط للتصرف شرطاً جاز اتفاقاً، مثل: وكلتك بشراء
شيء، ولكن لا تشتره إلا بعد شهر.
تأقيت الوكالة: اتفق الفقهاء على صحة
تأقيت الوكالة بزمن معين كشهر أو سنة؛ لأن الوكالة بحسب الحاجة.
الوكالة بأجر: تصح الوكالة بأجر وبغير
أجر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم
عمولة (2)، ولهذا قال له أبناء عمه: «لو بعثتنا على هذه الصدقات، فنؤدي
إليك ما يؤدي الناس، ونصيب ما يصيبه الناس» أي العمولة، ولأن الوكالة عقد
جائز لا يجب على الوكيل القيام بها، فيجوز أخذ الأجرة فيها، بخلاف الشهادة
فإنها فرض يجب على الشاهد أداؤها.
فإن كانت الوكالة بغير أجرة فهي معروف من الوكيل، وإذا كانت الوكالة
_________
(1) مغني المحتاج: 223/ 2، المهذب: 350/ 1.
(2) قال ابن حجر: هذا مشهور، ففي الصحيحين عن أبي هريرة: بعث النبي صلّى
الله عليه وسلم السعاة على الصدقة، وفيهما عن أبي حميد الساعدي: استعمل
النبي صلّى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية، وفيهما عن
عمر: أنه استعمل ابن السعدي. وعند أبي داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم
بعث أبا مسعود ساعياً، وفي مسند أحمد أنه بعث أبا جهم بن حذيفة متصدقاً،
وفيه من حديث قرة بن دعموص بعث الضحاك بن قيس ساعياً، وفي المستدرك أنه بعث
قيس بن سعد ساعياً، وفيه من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه
وسلم بعثه على أهل الصدقات، وبعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ساعياً
(راجع التلخيص الحبير: /176، 251، 275).
(5/4058)
بأجر أي (بجعل) فحكمها حكم الإجارات،
فيستحق الوكيل الجُعْل بتسليم ما وكل فيه إلى الموكل إن كان مما يمكن
تسليمه كثوب يخيطه، فمتى سلمه مخيطاً، فله الأجر. وإن وكل في بيع أوشراء أو
حج استحق الأجر، إذا عمله، وإن لم يقبض الثمن في البيع (1).
وفي الوكالة بأجر يجوز للموكل أن يشترط على الوكيل ألا يخرج نفسه منها إلا
بعد أجل محدود، وإلا لما كان عليه التعويض.
عموم الوكالة وتخصيصها: تصح الوكالة
العامة عند الحنفية والمالكية (2)؛ لأنها تجوز في كل ما يملكه الموكل وفي
كل ما تصح فيه النيابة من التصرفات المالية وغيرها. وقال الشافعي والحنابلة
(3): لا تصح الوكالة العامة؛ لما فيها من عظيم الغرر. واتفق الفقهاء على
جواز الوكالة الخاصة، وهو الأصل الغالب فيها.
مشروعية الوكالة: الوكالة جائزة بالكتاب
والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف: {فابعثوا
أحدكم بوَرِقكم هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق
منه} [الكهف:19/ 18] وهذه وكالة في الشراء، وقوله عز وجل: {فابعثوا حكماً
من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/ 4] وقوله سبحانه: {اذهبوا بقميصي
هذا} [يوسف:93/ 12] وقوله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف: {اجعلني على خزائن
الأرض} [يوسف:55/ 12]. وقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها} [التوبة:60/ 9] أي السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام
لتحصيل الزكاة، لأن الله سبحانه جوز العمل
_________
(1) المغني: 85/ 5 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 2/ 6، القوانين الفقهية:
/329.
(2) تكملة رد المحتار: 357/ 7، بداية المجتهد: 302/ 2.
(3) تحفة المحتاج: 308/ 5، كشاف القناع: 471/ 3، مغني المحتاج: 221/ 2.
(5/4059)
على الصدقات، وهو بحكم النيابة عن
المستحقين. وقوله سبحانه: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله
وحكماً من أهلها} [النساء:35/ 4] والحكمان وكيلان عن الزوجين.
وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها خبر الصحيحين: «أنه صلّى الله عليه وسلم
بعث السعاة لأخذ الزكاة»، ومنها: «توكيله صلّى الله عليه وسلم عمرو بن أمية
الضَّمري في نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان» (1) ومنها «توكيله أبا رافع في
قبول نكاح ميمونة بنت الحارث» (2) ومنها «توكيله حكيم بن حزام بشراء
الأضحية، وتوكيله عروة البارقي في شراء الشاة» (3).
ومنها خبر البخاري في التوكيل بإعطاء بعير سداداً لدين رجل، وقوله عليه
السلام: «إن خياركم أحسنكم قضاء».
وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة على جواز الوكالة، ولأن الحاجة داعية
_________
(1) رواه أبو داود في سننه: 468/ 1، وقال البيهقي في المعرفة: روينا عن أبي
جعفر محمد بن علي أنه حكى ذلك ولم يسنده البيهقي في المعرفة، وكذا حكاه في
الخلافيات بلا إسناد، وأخرجه في السنن من طريق ابن إسحاق، حدثني أبو جعفر،
قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي،
فزوجه أم حبيبة، ثم ساق عنه أربع مئة دينار .. (راجع التلخيص الحبير: ص 251
ومابعدها).
(2) رواه مالك في الموطأ والشافعي عنه وأحمد والترمذي والنسائي وابن حبان
عن سليمان بن يسار أن النبي صلّى الله عليه وسلم «بعث أبا رافع مولاه
ورجلاً من الأنصار، فزوجاه ميمونة بنت الحارث، وهو بالمدينة قبل أن يخرج»
أي إلى الحج، قال ابن تيمية في منتقى الأخبار: وهو دليل على أن تزوجه بها
قد سبق إحرامه، وأنه خفي على ابن عباس (راجع التلخيص الحبير: 252، نيل
الأوطار: 269/ 5).
(3) توكيل حكيم بن حزام صحيح: رواه أبو داود والترمذي عن حبيب بن أبي ثابت
عن حكيم بن حزام، وفيه أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال له: «ضح بالشاة،
وتصدق بالدينار» وقصة توكيل عروة البارقي صحيحة أيضاً رواها أحمد والبخاري
وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن شبيب بن غرقدة السلمي الكوفي
عن عروة بن أبي الجعد البارقي، وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم «دعا له
بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه» (راجع جامع الأصول: 289/
12، نصب الراية: 90/ 4، التلخيص الحبير: /251، نيل الأوطار: 270/ 5).
(5/4060)
إليها، فإن الشخص قد يعجز عن قيامه بمصالحه
كلها (1)، فكانت جائزة لأنها نوع من أنواع التعاون على البر والتقوى.
وحكمة تشريع الوكالة واضحة: وهي رعاية
المصلحة وسد الحاجة ودفع الحرج عن الناس، فقد تتوافر القدرة والكفاءة
والخبرة عند إنسان دون آخر، وقد يكون الإنسان محقاً، ولكنه عاجز عن تقديم
الحجة والبيان، وخصمه أقدر وأعرف بالحجج، فيكون محتاجاً لتوكيل غيره للدفاع
عنه، وإظهار حقه.
الحكم التكليفي للوكالة:
الأصل في الوكالة الإباحة، وقد تصبح مندوبة إن كانت إعانة على مندوب. وقد
تصير مكروهة إن أعانت على مكروه، وقد تكون حراماً إن أعانت على حرام، وقد
تكون واجبة إن دفعت ضرراً عن الموكل.
المبحث الثاني ـ شرائط الوكالة:
يشترط لصحة الوكالة شروط في الصيغة وفي العاقدين وفي محل العقد.
والعاقدان هما: الموكل والوكيل، والموكل يجوز أن يكون غائباً أو امرأة أو
مريضاً بالاتفاق، أو حاضراً صحيحاً خلافاً لأبي حنيفة. والوكيل: كل من جاز
له التصرف لنفسه في شيء، جاز له أن ينوب فيه عن غيره، إلا أنه لا يجوز
توكيل العدو على عدوه. ولا يجوز عند المالكية توكيل الكافر على بيع أو شراء
أو عقد سلَم لئلا يفعل الحرام، ولا توكيله على قبض من المسلمين لئلا يستعلي
عليهم.
_________
(1) المغني: 79/ 5، تكملة فتح القدير: 3/ 6، مغني المحتاج: 217/ 2، المهذب:
348/ 1، المبسوط: 2/ 19 ومابعدها.
(5/4061)
أما ما يشترط
في الصيغة: فهو شرطان عند الشافعية:
1ً - أن تتم الوكالة بلفظ
يدل على الرضا بالتوكيل إما صراحة أو كناية، مثل وكلتك ببيع داري، أو أقمتك
مقامي في بيعه، ولا يشترط اللفظ في القبول، بل يكفي الفعل، كإباحة الطعام
للضيف.
2ً - عدم تعليقها على شرط
عند الشافعية، مثل إن جاء فلان من السفر فأنت وكيلي بكذا.
ولكن يصح تعليق التصرف بأمر إذا كانت الوكالة منجزة، مثل وكلتك في بيع داري
على أن يتم البيع عند قدوم فلان. ويصح تقييد الوكالة بوقت، كأن يتم التوكيل
لمدة شهر أوسنة.
أما شرط الموكل: فهو أن يكون مالكاً
للتصرف الذي يوكل فيه، وتلزمه أحكام ذلك التصرف. فلا يصح التوكيل من
المجنون والمغمى عليه والصبي غير المميز؛ لعدم وجود العقل الذي هو من شرائط
الأهلية، ولأنه لا تلزمهما أحكام التصرفات، كما لا يصح التوكيل من الصبي
المميز بما لايملكه بنفسه من التصرفات كالطلاق والهبة والصدقات ونحوها من
التصرفات الضارة ضرراً محضاً به. أما التصرفات النافعة نفعاً محضاً كقبول
التبرعات، فيجوز للصبي المميز التوكيل بها. وأما التصرفات المترددة بين
النفع والضرر كالبيع والإجارة: فإن كان المميز مأذوناً في التجارة يصح منه
التوكيل بها، لأنه يملكها بنفسه، وإن كان ممنوعاً من التصرف ينعقد التوكيل
منه موقوفاً على إجازة وليه، وعلى إذن وليه بالتجارة أيضاً (1).
_________
(1) البدائع: 20/ 6، تكملة فتح القدير: 12/ 6، 134.
(5/4062)
وقال الإمام الشافعي: لا يصح توكيل الصبي
مطلقاً، إذ لا تصح عنده مباشرته لأي تصرف. وهذا هو رأي المالكية والحنابلة
(1).
واكتفى أبو حنيفة باشتراط أن يكون التوكيل حاصلاً بما يملكه الوكيل، وبناء
عليه يجوز عنده توكيل المسلم ذمياً بشراء الخمر والخنزير.
ولا يصح توكيل المحجور عليه لسفه في تصرف مالي؛ لأنه لا يملك مباشرته. ولا
يصح للمرأة والمحرم بحج أو عمرة عند الجمهور غير الحنفية التوكيل بمباشرة
عقد الزواج؛ لأنه لا يصح منهما مباشرته. كما لا يصح للأب الفاسق أن يوكل في
تزويج ابنته؛ لأنه لا يملك مباشرة ذلك بنفسه. ويستثنى من ذلك الأعمى عند
الشافعية فإنه لا يصح له البيع والشراء ونحوهما مما يتوقف على الرواية،
ويصح أن يوكل في ذلك للضرورة.
وأما شروط الوكيل: فهو:
1 - أن يكون عاقلاً أي يعقل العقد بأن يعرف مثلاً أن البيع سالب والشراء
جالب، ويعرف الغبن اليسير من الغبن الفاحش، فلا تصح وكالة المجنون والصبي
غير المميز. أما الصبي المميز فتصح وكالته عند الحنفية سواء أكان مأذوناً
في التجارة أم محجوراً.
واشترط هذا الشرط؛ لأن الوكيل يقوم مقام الموكل في العبارة، فلابد من أن
يكون من أهل العبارة، وأهلية العبارة لاتكون إلا بالعقل والتمييز، وقد زوج
ابن أم سلمة - وكان صبياً - النبي صلّى الله عليه وسلم.
وقال الشافعي والمالكية والحنابلة: وكالة الصبي والمجنون والمغمى عليه غير
صحيحة؛ لأن كل واحد منهم غير مكلف، فلا تصح مباشرته التصرف لنفسه،
_________
(1) مغني المحتاج: 217/ 2، المهذب: 349/ 1، الفقه على المذاهب الأربعة:
236/ 3 ومابعدها.
(5/4063)
فلا يصح توكله، وأجاز الشافعية على الصحيح
توكيل الصبي المميز في الإذن بدخول دار وإيصال هدية وحج وتطوع وذبح ضحية
وتفرقة زكاة.
ولا يصح توكيل السفيه في تصرف مالي، ولا توكيل المحرم بحج أو عمرة، ولا
توكيل المرأة في إبرام عقد نكاح عند الجمهور غير الحنفية، لعدم صحة مباشرة
المحرم والمرأة عقد الزواج. ولا يصح عند الشافعية توكيل الأعمى في تصرف
يتطلب الرؤية.
2 - ويشترط عند الحنفية أيضاً: أن يكون الوكيل قاصداً العقد، بألا يكون
هازلاً، وأن يعلم بالتوكيل في الجملة، فلو وكل رجلاً ببيع كتابه، فباعه
الوكيل من رجل قبل أن يعلم بالوكالة، لا يجوز بيعه، حتى يجيزه الموكل أو
الوكيل بعد علمه بالوكالة؛ وعلم الوكيل بالوكالة يثبت بالمشافهة أو الكتابة
إليه، أو بإرسال
رسول إليه، أو بإخبار رجلين أورجل واحد عدل أو غير عدل وصدقه الوكيل (1).
3 - أن يكون الوكيل معيناً إما بنسبة أو إشارة إليه، فلو وكل أحد رجلين لم
تصح الوكالة للجهالة. وأن يكون عالماً بموكله بوصف له أو شهرة (2).
واشترط المالكية في الموكل والوكيل ثلاثة شروط: الحرية، والرشد، والبلوغ،
فلا يصح التوكيل بين الأرقاء والأحرار، ولا بين السفهاء والمحجورين، ولا
بين الصبيان أو بينهم وبين البالغين. واشترط الشافعية في الوكيل أن يكون
عدلاً إذا كان وكيلاً عن القاضي أو عن الولي في بيع مال من تحت ولايته.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: 20 ومابعدها، المبسوط: 158/ 19 ومابعدها، رد
المحتار: 417/ 4، مغني المحتاج: 218/ 2.
(2) البدائع، المرجع السابق، الدسوقي: 378/ 3، مغني المحتاج: 219/ 2، كشاف
القناع: 450/ 3.
(5/4064)
وأما شروط
الموكل به فهي:
1 - ألا يكون الموكل فيه من الأمور المباحة:
فلا يصح لإنسان أن يوكل غيره بالاحتطاب والاحتشاش واستقاء الماء واستخراج
المعادن كالنحاس والرصاص والجواهر، فإذا حصل التوكيل في شيء مما ذكر فهو
للوكيل، وليس للموكل فيه شيء. وهذا الشرط عند الحنفية، وأجاز الجمهور في
الأظهر عند الشافعية التوكيل في هذه الأمور، ويقسم بينهم على قدر أجر كل
منهم بلا ترجيح بينهم لحصوله بمنافع مختلفة (1)؛ لأن تملك المباحات أحد
أسباب الملك، فأشبه الشراء والبيع، فصح التوكيل فيه.
2 - أن يكون الموكل به مملوكاً للموكل: لأن ما لا يملكه لا يتصور تفويض
التصرف به لغيره، وهذا متفق عليه.
3 - أن يكون معلوماً من بعض الوجوه بحيث لا يعظم الغرر فيه، وهذا شرط
للشافعية.
4 - ألا يكون الموكل فيه طلب قرض من الغير،
فإذا وكل إنسان غيره في أن يقترض له من شخص مالاً، فقال الوكيل: أقرضني
كذا، فأقرضه، كان القرض للوكيل لا للموكل، لكن يصح ذلك بطريق الرسالة، بأن
يقول: أرسلني فلان ليستقرض كذا.
5 - أن يكون قابلاً للنيابة شرعاً: وهو كل ما تصح النيابة فيه من الأمور
المالية وغيرها، فلا تصح الوكالة في العبادات البدنية المحضة كالصلاة
والصيام والطهارة من الحدث؛ لأن المقصود منها الابتلاء والاختبار بإتعاب
النفس، وهو لا يحصل
_________
(1) الفتاوى الهندية: 440/ 3، مغني المحتاج: 221/ 2، روضة الطالبين: 291/
4، المغني: 81/ 5.
(5/4065)
بالتوكيل، ولا يصح التوكيل باليمين؛ لأن
المقصود منها إظهار صدق الحالف وتعتمد على الإجلال والتعظيم والعبودية لله
تعالى، وهذا أمر شرعي، ولا يصح التوكيل بالنكاح بمعنى الوطء؛ لأن المقصود
به الإعفاف وإنجاب ولد ينسب إليه.
وتجوز الوكالة عند الجمهور في العبادات التي لها تعلق بالمال قبضاً
وإخراجاً ودفعاً إلى المستحق كالزكاة والكفارة والنذر والصدقة والحج
والعمرة عند العجز وبعد الموت، وذبح الهدي وجبران النقص في الإحرام بالحج
أو العمرة وذبح الأضحية ونحوها (1)؛ لأن المقصود بها إيصالها لأهلها، ولم
يجز المالكية التوكيل بالحج؛ لأن المقصود به تهذيب النفس وتعظيم شعائر الله
(2)، وأما إنفاق المال فهو أمر عارض.
وقد اختلف الفقهاء في بعض الأمور التي يجوز التوكيل بها، مما يقتضينا قسمة
ما يجوز التوكيل به وما لا يجوز إلى قسمين: إما أن يكون التوكيل بحقوق الله
عز وجل وهي كل الحدود عند الحنفية، وعند غيرهم ما عدا حد القذف. وإما أن
يكون بحقوق العباد.
أولاً ـ الوكالة في حقوق الله تعالى: التوكيل في حقوق الله تعالى نوعان:
أحدهما ـ بالإثبات، والثاني ـ بالاستيفاء.
1 - التوكيل بإثبات الحدود: قال
الحنفية: إن كان الحد لايحتاج في إظهاره
_________
(1) تكملة ابن عابدين: 271/ 7، بداية المجتهد: 297/ 2، مغني المحتاج: 219/
2، المغني: 83/ 5، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 377/ 3 ومابعدها، روضة
الطالبين: 294/ 4.
(2) وضع الشافعيةضابطاً لما يجوز التوكيل فيه وما لا يجوز، فقالوا: تصح
الوكالة إلا في مجهول مطلق، كأن وكله في كل قليل وكثير، وإلا في حد أو قود،
أو قبض في مال ربوي أو رأس مال سلم، وإلا في وطء، أو شهادة، أو يمين كإيلاء
أو لعان، أو إقرار، أو ظهار، أو عبادة إلا نُسكاً من حج أوعمرة، وتفرقة
زكاة وذبح أضحية (تحفة الطلاب: ص 169).
(5/4066)
لكن استثناء القود محل نظر كما سيأتي. عند
القاضي إلى الخصومة (أي للدعوى) كحد الزنا وشرب الخمر فلا يصح فيه التوكيل
بإثباته؛ لأنه يثبت عند القاضي بالبينة أو الإقرار من غير حاجة إلى رفع
دعوى من صاحب الحق، فتكفي فيه شهادة الحسبة بدون دعوى. فيتلخص من هذا أنه
يشترط في الموكل فيه ألا يكون حداً من الحدود التي لا يشترط فيها إقامة
الدعوى كحد الزنا وحد شرب الخمر.
وإن كان مما يحتاج فيه إلى الخصومة (أي إقامة دعوى) كحد السرقة وحد القذف
فيجوز التوكيل بإثباته عند أبي حنيفة ومحمد، بإقامة البينة على الجريمة
الموجبة للحد. ولا يجوز التوكيل بذلك عند أبي يوسف وإنما لا يثبت إلا
بالبينة أو الإقرار من الموكل، وهذا الخلاف يجري أيضاً في إثبات القصاص،
استدل أبو يوسف على رأيه؛ وهو أن الوكالة لا تجوز في إثبات الحدود والقصاص
بالقياس على عدم جواز الوكالة بالاستيفاء، فكما لا يجوز التوكيل باستيفاء
الحدود والقصاص لا يجوز التوكيل بإثباتها؛ لأن الإثبات وسيلة إلى
الاستيفاء.
ورد أبو حنيفة ومحمد على دليل أبي يوسف بأن هناك فرقاً بين الإثبات
والاستيفاء، فإن امتناع التوكيل بالاستيفاء بسبب وجود شبهة كما سنعرف، وتلك
الشبهة غير متوفرة في التوكيل بالإثبات (1).
وقال الشافعية: لا يجوز التوكيل في إثبات حدود الله تعالى، لأن الحق فيها
لله سبحانه، وهو قد أمرنا بدرء الحدود والتوصل إلى إسقاطها، وبالتوكيل
يتوصل إلى إيجاب الحد، فلا يجوز. أما إثبات القصاص وحد القذف فيجوز التوكيل
فيهما؛ لأنهما حق آدمي، فجاز التوكيل في إثباته، كالحق في المال (2). ويجوز
التوكيل عندهم في استيفاء الحدود كما سيأتي بيانه.
_________
(1) البدائع: /21، تكملة فتح القدير: 7/ 6، مختصر الطحاوي: ص 109.
(2) المهذب: 349/ 1، مغني المحتاج: 221/ 2.
(5/4067)
وقال الحنابلة (1): يجوز التوكيل في إثبات
القصاص وحد القذف في حضرة الموكل وغيبته؛ لأنهما من حقوق الآدميين، وتدعو
الحاجة إلى التوكيل فيهما. وكذلك الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا
والسرقة: يجوز التوكيل في إثباتها؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم وكل
أنيساً في إثبات واستيفاء حد الزنا، فإنه قال: «فإن اعترفت فارجمها» وهذا
يدل على أنه لم يكن ثبت، وقد وكله في إثبات الحد واستيفائه جميعاً.
والوكيل يقوم مقام الموكل في درء الحدود بالشبهات.
2 - التوكيل في استيفاء الحدود: اتفق
أئمة المذاهب الأربعة في الجملة على أنه يجوز للحاكم التوكيل في استيفاء
(2) حدود الله تعالى وفي القصاص، غير أنه قد يوجد خلاف في المذهب في صحة
التوكيل بالاستيفاء حال غياب الموكل عن مجلس الاستيفاء أي والموكل غير
حاضر. وأذكر هنا تفصيل كل مذهب على حدة:
قال أبو حنيفة ومحمد: أما التوكيل من
صاحب الحق باستيفاء الحدود التي تحتاج إلى إقامة الدعوى كحد القذف وحد
السرقة، فإن كان الموكل حاضراً بأن يحضر هو ووكيله حال تنفيذ الحد، فإنه
يجوز التوكيل إذ ليس كل أحد يحسن الاستيفاء إما لضعف قلبه أو لنقص خبرته
ومعرفته. وأبو يوسف: لا يجيز التوكيل في
استيفاء حد القذف وحد السرقة، كما لا يجوز التوكيل في إثباتهما، والظاهر
أنه يقول: إن التوكيل في الحدود التي هي من حقوق الله تعالى لا معنى له،
سواء
_________
(1) المغني: 81/ 5 ومابعدها، غاية المنتهى: 150/ 2.
(2) استيفاء: أي توفية الحد وتنفيذه على الجاني. وحقوق الله أي أن الله
تعالى قرر لها عقوبة ثابتة ليس للمجني عليه فيها شأن، فلا بد من تنفيذها.
(5/4068)
احتاجت لدعوى أم لا؛ لأن ولي الأمر مطالب
باستيفائها، فلا بد له من تنفيذها، وليس للمجني عليه فيها شأن (1).
وأما إن كان المقذوف والمسروق منه غائباً وقت الاستيفاء فاختلفت فيه مشايخ
الحنفية.
فقال بعضهم: يجوز التوكيل؛ لأن عدم الجواز لاحتمال حدوث العفو والصلح، وهنا
لا يتأتى ذلك الاحتمال؛ لأن الأمر وصل إلى القاضي، والحق صار لله تعالى
وحده، فلو عفا عنه المسروق منه لا يلتفت إليه.
وقال بعضهم وهو الأرجح عند الحنفية: لا يجوز التوكيل بالاستيفاء؛ لأن
الحدود تدرأ بالشبهات، وغيبة الموكل شبهة؛ لأنه لو كان حاضراً وقت
الاستيفاء وإن لم يملك العفو والصلح إلا أنه إذا كان مقذوفاً قد يصدق
القاذف فيما قذفه به، وإذا كان مسروقاً منه فقد يترك الخصومة (أي يسقط
ادعاءه)، فلا يجوز استيفاء الحد مع الشبهة.
والنتيجة: أنه لا يصح وقوع الحد بدون حضور الموكل وهو المجني عليه.
وأما التعازير: فيجوز التوكيل بإثباتها
واستيفائها باتفاق الحنفية وباقي المذاهب (2)، وللوكيل أن يستوفي سواء أكان
الموكل غائباً أم حاضراً؛ لأن التعزير حق الشخص، ولا يسقط بالشبهات بخلاف
الحدود.
وأما التوكيل باستيفاء القصاص: فإن كان
الموكل وهو ولي الدم حاضراً جاز، لأنه قد لا يقدر على الاستيفاء، فيحتاج
إلى التوكيل، وإن كان غائباً لا
_________
(1) راجع الفقه على المذاهب الأربعة: 232/ 3، الإفصاح لابن هبيرة: ص 208.
(2) البدائع، المرجع السابق، الشرح الصغير: 503/ 3، روضة الطالبين: 293/ 4،
الشرح الكبير مع المغني: 207/ 5.
(5/4069)
يجوز، لاحتمال صدور العفو منه عن القاتل
إذا كان حاضراً، فلا يجوز استيفاء القصاص مع قيام الشبهة.
هذا هو مذهب الحنفية في الاستيفاء (1)، وخلاصته: أنه لا يجوز التوكيل
باستيفاء الحدود والقصاص بدون حضور الموكل وهو المجني عليه وقت الاستيفاء؛
لأنها تدرأ بالشبهات، وشبهة العفو ثابتة حال غيبة الموكل، بخلاف حال حضرته
أو وجوده لانتفاء الشبهة.
وقال المالكية: تجوز الوكالة باستيفاء العقوبات في حضرة الموكل وغيبته (2).
وقال الحنابلة في ظاهر المذهب عندهم: تجوز الوكالة باستيفاء الحدود والقصاص
في حضرة الموكل وغيبته؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اغد يا أنيس
إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها أنيس، فاعترفت، فأمر بها
فرجمت» (3) وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم برجم ماعز، فرجموه، ووكل عثمان
علياً في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة، ووكل علي الحسن في ذلك، فأبى
الحسن، فوكل عبد الله بن جعفر، فأقامه وعلي يعد، ولأن الحاجة قد تدعو إلى
التوكيل؛ لأن الإمام لا يمكنه تولي الحد بنفسه.
وقال بعض الحنابلة كالحنفية: لا يجوز استيفاء القصاص وحد القذف في غيبة
الموكل؛ لأنه يحتمل أن يعفو الموكل في حال غيبته فيسقط العقاب، وهذا
الاحتمال شبهة تمنع الاستيفاء، ولأن العفو مندوب إليه، فإذا حضر احتمل أن
يرحم المقتص منه أو القاذف، فيعفو.
_________
(1) المبسوط: 9/ 19، 106، فتح القدير: 104/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير:
6/ 6 ومابعدها، البدائع: 21/ 6 ومابعدها، رد المحتار على الدر المختار:
218/ 4.
(2) بداية المجتهد: 297/ 2، الشرح الكبير: 378/ 3.
(3) تقدم تخريجه في الحدود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني، رواه الموطأ
وأحمد وأصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
(5/4070)
إلا أن الرأي الأول هو ظاهر مذهب الحنابلة
كما ذكرت؛ لأن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكل جاز في غيبته كالحدود وسائر
الحقوق، واحتمال العفو بعيد، والظاهر أنه لو عفا أعلم وكيله بعفوه، والأصل
عدم العفو فلا يؤثر (1).
وقال الشافعية: يصح التوكيل في استيفاء عقوبة آدمي كقصاص وحد قذف كسائر
الحقوق المالية، بل قد يجب التوكيل في حد القذف، وكذا في حد قطع الطريق،
سواء في حضرة الموكل أو في غيبته.
ويصح التوكيل أيضاً للإمام في استيفاء حدود الله تعالى؛ لأن النبي صلّى
الله عليه وسلم بعث أنيساً لإقامة الحد، وقال: «واغد ياأنيس إلى امرأة هذا،
فإن اعترفت فارجمها» وقال عليه الصلاة والسلام في قصة ماعز: «اذهبوا به
فارجموه» ووكل عثمان رضي الله عنه علياً كرم الله وجهه ليقيم حد الشرب على
الوليد بن عقبة (2). جاء في البخاري أنه صلّى الله عليه وسلم وكل في رجم من
ثبت زناه. وجلد من ثبت شربه المسكر.
والخلاصة: إن المالكية والشافعية والحنابلة يجيزون استيفاء الحدود والقصاص
مع غيبة الخصم، أما الحنفية: فلا يجيزون ذلك إلا بحضور الخصم.
ولا يجوز التوكيل في المعصية أو المحرَّم كالظهار، فلا يوكل من يظاهر عنه
زوجته؛ لأنه منكر ومعصية (3). ولا يصح التوكيل في غصب شيء أو سرقته أو
ارتكاب جناية؛ لأن حكم المعاصي أو المحرمات مختص بمرتكبها، فيسأل عنها
بذاته دون غيره.
_________
(1) المغني: 84/ 5، الإفصاح لابن هبيرة: /208.
(2) مغني المحتاج: 221/ 2، المهذب: 349/ 1.
(3) الشرح الصغير: 504/ 3، نهاية المحتاج: 22/ 5.
(5/4071)
ثانياً ـ الوكالة في حقوق العباد: حقوق
العباد تنقسم إلى قسمين:
نوع لا يجوز استيفاؤه مع وجود شبهة
كالقصاص في القتل أو الأطراف. ونوع يجوز استيفاؤه مع الشبهة. وحكم
النوع الأول كما عرفنا: هو أنه يصح التوكيل في إثباته عند أبي حنيفة
ومحمد.
ولا يجوز التوكيل في استيفائه حال غيبة المجني عليه؛ لأنه قد يرتفع بحضور
المجني عليه وعفوه عنه، ففيه شبهة العفو، والحدود تدفع بالشبهات كما تقدم.
وأما النوع الثاني: وهو ما يجوز استيفاؤه مع
الشبهة فهو كالديون والأعيان وسائر الحقوق غير القصاص، فإنه يجوز
للوكيل أن يتسلمها مع وجود شبهة عفو صاحبها، وتركها لمن هي عليه.
حكم هذا النوع: أنه يصح التوكيل
باستيفائه وإثباته باتفاق العلماء، والدليل على جواز التوكيل بالخصومة هو
حاجة الناس؛ إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات، وقد صح أن علياً وكل
عقيلاً عند أبي بكر رضي الله عنهم، وبعد ما أسن وكل عبد الله بن جعفر عند
عثمان رضي الله عنهما، وقال: إن للخصومة قُحَماً، وإن الشيطان ليحضرها،
وإنى لأكره أن أحضرها (1).
غير أن الحنفية اختلفوا في اشتراط توافر رضا
الخصم للزوم التوكيل بإثبات الدين والعين وسائر الحقوق.
فقال أبو حنيفة: لا يلزم التوكيل
بالخصومة إذا لم يكن الموكل حاضراً مجلس القضاء مع الوكيل إلا برضا الخصم
إلا أن يكون الموكل مريضاً أو مسافراً مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً أو لا يحسن
الادعاء والتقاضي؛ أو كانت امرأة مستورة في خدرها، أو كانت المرأة حائضاً
أو نفساء والقاضي في المسجد؛ لأنها تستحي من
_________
(1) رواه البيهقي، والقُحَم: جمع قُحْمة: وهي الأمر الشاق الذي لا يكاد
يحتمل، وقحم الخصومات: ما يحمل الإنسان على ما يكرهه.
(5/4072)
الحضور لمحافل الرجال، وعن الجواب بعد
الخصومة، فيضيع حقها، وفي غير المذكور للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا
لم يكن حاضراً مجلس القضاء؛ لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه،
فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه كالدين الذي عليه (1). والخلاصة:
أن أبا حنيفة لا يجيز التوكيل بغير رضا الخصم لمن لا عذر له إذا لم يكن
الموكل حاضراً مجلس القضاء مع الوكيل. أما إذا كان الموكل حاضراً مجلس
الحكم فتجوز الوكالة بلا خلاف بين الإمام وصاحبيه.
وقال الصاحبان وبقية الأئمة غير الحنفية:
يجوز التوكيل في مطالبة الحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها، حاضراً كان الموكل
أو غائباً، صحيحاً أو مريضاً وإن لم يرض الخصم، بشرط ألا يكون الوكيل عدواً
للخصم؛ لأن المذكور حق تجوز النيابة فيه، فكان لصاحبه الاستنابة بغير رضا
خصمه كحال غيبته ومرضه، وكدفع المال الذي عليه، ولأنه إجماع الصحابة رضي
الله عنهم، فإن علياً رضي الله عنه وكل عقيلاً عند أبي بكر رضي الله عنه،
وقال: «إن للخصومة قُحَماً، ـ أي مهالك ـ وإن الشيطان ليحضرها، وإني لأكره
أن أحضرها» ولأن الحاجة تدعو إلى التوكيل في الخصومات، فإنه قد يكون له حق
أو يدعى عليه ولا يحسن الخصومة (2)، أو لايريد أن يتولاها بنفسه (3).
_________
(1) المبسوط: 7/ 19 ومابعدها، فتح القدير: 104/ 6 - 105، تكملة فتح القدير:
8/ 6 ومابعدها، البدائع: 22/ 6، مختصر الطحاوي: /108، رد المحتار: 418/ 4،
تكملة ابن عابدين: 280/ 7، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود
حمزة: /134، قال ابن عابدين: لاخلاف في الجواز، إنما الخلاف في اللزوم يعني
هل ترتد الوكالة برد الخصم؟ عند أبي حنيفة: ترتد، وعند الصاحبين: لا ترتد
ويجبر عليها.
(2) إن أصل معنى الخصومة في اللغة: هو النزاع والجدال، ولكن هذا المعنى غير
مقصود في اصطلاح الفقهاء، فيحمل مجازاً على معنى الإجابة على دعوى المدعي
من قبيل ذكر المطلق وإرادة المقيد.
(3) مختصر خليل: ص 216، الميزان: 83/ 2، المغني: 81/ 5، المهذب: 348/ 1،
الشرح الكبير للدردير: 378/ 3، الإفصاح لابن هبيرة: ص 207، كشاف القناع:
471/ 3.
(5/4073)
واستثنى المالكية حالة ما إذا جالس الموكل
خصمه ثلاث جلسات فأكثر عند القاضي، فحينئذ لا يجوز له التوكيل إلا لعذر
كمرض. واشترط الحنابلة شرطين لجواز الوكالة
بالخصومة وهما:
1 - ألا يكون التوكيل ممن علم ظلم موكله في
الخصومة، لقوله تعالى: {ولا تكن للخائنين خصيماً} [النساء:105/ 4].
2 - ألا يخاصم الوكيل عن الموكل في إثبات حق أو
نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمر موكله.
والمختار للفتوى عند الحنفية تفويض التوكيل للحكم، فإن علم القاضي التعنت
من الخصم يقبل التوكيل من غير رضاه. وإن علم قصد الموكل إضرار خصمه لا يقبل
التوكيل (1).
والتوكيل بالشهادة: لا يجوز؛ لأن
الشهادة تتعلق بعين الشاهد، لكونها خبراً عما رآه أو سمعه، ولا يتحقق هذا
المعنى في وكيله (2). وكذلك لا تصح الوكالة في النذور والأيمان، لأن فيها
تعظيم الله تعالى، فأشبهت العبادة المحضة، وتعلقت بعين الحالف والناذر. ولا
تصح الوكالة أيضاً في الإيلاء واللعان والقسامة؛ لأنها أيمان.
وأما التوكيل بالإقرار في الوكالة بالخصومة:
فيجوز عند الحنفية كما ذكر محمد في (الأصل) وعند المالكية والحنابلة، كأن
يقول (وكلتك لتقر عني لفلان بكذا) فيقول الوكيل: (أقررت عنه بكذا، أو جعلته
مقراً بكذا)؛ لأن هذا الإقرار معناه إثبات حق في الذمة بالقول، فجاز
التوكيل فيه كالبيع (3).
_________
(1) الدر المختار: 418/ 4.
(2) نهاية المحتاج: 22/ 5، المغني: 82/ 5.
(3) البدائع: 22/ 6، بداية المجتهد: 297/ 2، المغني: 82/ 5.
(5/4074)
وأما الشافعية: فلا يجوز عندهم في الأصح
التوكيل في الإقرار؛ لأنه إخبار عن حق، فلا يقبل التوكيل كالشهادة، فإنه لا
يصح التوكيل بها؛ لأنها تتعلق بعين الشاهد؛ لكونها خبراً عما رآه أو سمعه،
ولا يتحقق هذا المعنى في نائبه (1). ورد الجمهور على قياس الإقرار على
الشهادة بأن هناك فرقاً بينهما، فإن الشهادة لا تثبت الحق، وإنما هي إخبار
بثبوت الحق على غيره.
ويجوز فيما عدا ذلك التوكيل بقبض الدين؛
لأن الموكل قد لا يقدر على الاستيفاء بنفسه، فيحتاج إلى التفويض إلى غيره
كالوكيل بالبيع والشراء وسائر التصرفات، إلا أن
التوكيل بقبض رأس مال السلم وبدل الصرف: إنما يجوز في مجلس العقد،
لا خارج المجلس؛ لأن الموكل نفسه يملك القبض فيه لا في غيره، وبالقبض يبرأ
المدين (2).
وتجوز الوكالة بقضاء الدين، لأن الموكل
يملك القضاء بنفسه، وقد لايتهيأ له القضاء بنفسه، فيحتاج إلى التفويض إلى
غيره.
وتجوز الوكالة بالإبراء من الدين؛ لأنه
إذا جاز التوكيل في إثباتها واستيفائها، جاز التوكيل في الإبراء عنها.
وتجوز الوكالة بطلب الشفعة وبالرد بالعيب
وبالقسمة؛ لأن هذه حقوق يتولاها المرء بنفسه، فيملك توليتها غيره.
ويجوز التوكيل بالنكاح والخلع والصلح عن
دم العمد والصلح عن إنكار؛ لأنه يملك هذه التصرفات بنفسه، فيملك تفويضها
إلى غيره.
_________
(1) مغني المحتاج: 221/ 2، المهذب: 349/ 1.
(2) البدائع، المرجع السابق.
(5/4075)
ويجوز أيضاً بالهبة والصدقة والإعارة
والإيداع والرهن والاستعارة والارتهان والاستيهاب (أي طلب
الهبة من الغير) كما ذكر.
ويجوز بالشركة والمضاربة أيضاً، كما يجوز بالإقراض والاستقراض، إلا أن في
التوكيل بالاستقراض لا يملك الموكل ما استقرضه الوكيل إلا إذا قال: (أرسلني
فلان إليك ليستقرض كذا) وحينئذ يكون المرسل رسولاً، لا وكيلاً.
ويجوز التوكيل بالصلح والإبراء، كما يجوز بالطلاق والإجارة والاستئجار لما
ذكر.
ويجوز بالسلم والصرف، لأنه يملكها بنفسه، فيملك تفويضهما إلى غيره، ولكن
بشرط قبض البدل في مجلس العقد، كما هو معروف (1).
إلا أن بعض هذه العقود لا يصح للوكيل فيها أن
يسندها إلى نفسه، بل لا بد من إسنادها إلى الموكل، ومنها
النكاح، فلا بد من أن يقول الوكيل:
(قبلت الزواج لفلان موكلي) أو (زوجت فلانة موكلتي) فإذا قال: (قبلت الزواج)
ولم يقيده بأحد غيره، أو قال: (قبلت الزواج لنفسي) فإنه ينعقد له، لا
لموكله.
ومنها ـ الهبة فإنه لا بد من أن يقول الوكيل فيها: (وهب موكلي) فإذا قال:
(وهبت) لا تصح الهبة.
ومنها ـ الصلح عن دم العمد، والصلح عن إنكار:
فإذا ادعى شخص على آخر مئتي درهم، فأنكر المدعى عليه، ثم وكل من يصالح على
مئة، فإنه لا بد في الصلح من أن يقول الوكيل: (قبلت الصلح لفلان على مئة
مثلاً) وإلا لم يصح الصلح. وهذا بخلاف الصلح عن إقرار فإنه يصح إضافته إلى
الوكيل والموكل.
_________
(1) راجع البدائع: 23/ 6، بداية المجتهد: 297/ 2، مغني المحتاج: 220/ 2
ومابعدها، المغني: 81/ 5، المهذب: 348/ 1، تكملة فتح القدير: 21/ 6
ومابعدها.
(5/4076)
ومنها ـ التصدق:
فإذا وكله في أن يتصدق من ماله بكذا، فإنه ينبغي للوكيل أن يضيف الصدقة إلى
موكله، وإلا كانت من ماله.
ومنها ـ الإيداع والإعارة والرهن والشركة
والمضاربة،
فلا بد من إضافتها إلى الموكل (1).
والخلاصة: إن كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه، جاز أن يوكل به غيره، كما
قال الحنفية (2).
وتجوز الوكالة بفسخ العقود؛ لأنه إذا جاز التوكيل في عقدها، ففي فسخها
أولى.
وأما التوكيل في تملك المباحات وتحصيلها:
كإحياء الموات وسقاية الماء والاصطياد والاحتشاش واستخراج المعادن، فلا
يجوز عند الحنفية، فإذا حصل الوكيل على شيء مما ذكر فهو له، وليس للموكل
منه شيء. ويجوز عند المالكية وعند الشافعية في الأظهر، وعند الحنابلة،
لأنها تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز التوكيل فيه كسائر أسباب الملك من
بيع أو هبة ونحوهما (3).
أما الوكالة بالخصومة كالمحاماة اليوم:
فتجوز في حقوق الناس، لما روي أن علياً وكل عقيلاً في الخصومة عند أبي بكر
وعمر، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان (4)، ولأن الحاجة تدعو إلى التوكيل
فيها، إذ قد لا يحسن المرء الدفاع عن حقوقه، أو يكره أن يتولى الخصومة
بنفسه (5).
_________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 233/ 3.
(2) راجع البداية: 109/ 3.
(3) المراجع السابقة.
(4) سنن البيهقي: 81/ 6.
(5) الهداية: 136/ 2، مختصر خليل: ص 216، المهذب: 148/ 1، المغني: 81/ 5.
(5/4077)
وأما التوكيل
بالبيع والشراء: فيجوز بلا خلاف بين الفقهاء، لأنهما مما يملك
الموكل مباشرتهما بنفسه، فيملك التفويض إلى غيره، إلا أن لجواز
التوكيل بالشراء شرطاً: وهو الخلو عن
الجهالة الكثيرة إذا كانت الوكالة خاصة.
وبيان المذكور عند الحنفية أن التوكيل بالشراء نوعان: عام وخاص (1):
الوكالة العامة: كأن يقول الموكل: اشتر
لي ما شئت أو ما رأيت، أو أي ثوب شئت أو أي دار شئت ونحوها. وهي تصح مع
الجهالة الفاحشة من غير بيان النوع والصفة والثمن؛ لأنه فوض الرأي إليه،
فتصح مع الجهالة الكثيرة، كما في عقد المضاربة.
ووافق المالكية الحنفية في تجويز الوكالة العامة، ويدخل فيها جميع ما تصح
فيه النيابة من الأمور المالية والزواج والطلاق وغيرها، إلا ما يستثنيه
الموكل من الأشياء.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يصح التفويض العام، كأن يوكله في كل قليل
وكثير، لوجود الغرر الكثير الذي لا ضرورة إلى احتماله.
والوكالة الخاصة: كأن يقول الموكل: اشتر
لي ثوباً أو بيتاً أو جوهراً أو شاة ونحوها، ويتنازع أمر الجهالة فيها قياس
واستحسان. فالقياس: أنها لا تصح مع الجهالة قليلة كانت أم كثيرة، فلا بد من
بيان الجنس والنوع والصفة ومقدار الثمن؛ لأن البيع والشراء لا يصحان مع
الجهالة اليسيرة، فلا يصح التوكيل بهما أيضاً.
والاستحسان: أن الجهالة اليسيرة لا تؤثر، وإنما تؤثر الجهالة الكثيرة في
صحة التوكيل. وجه الاستحسان: ما ثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلم «دفع
ديناراً إلى حكيم ابن حزام ليشتري له به أضحية».
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 328، تحفة الطلاب: ص 169، غاية المنتهى: 151/ 2.
(5/4078)
ولو كانت الجهالة القليلة ما نعة من صحة
التوكيل بالشراء، لما فعله الرسول عليه السلام؛ لأن جهالة الصفة لا ترتفع
بذكر الأضحية وقدر الثمن، ولأن الجهالة القليلة في باب الوكالة لا تفضي إلى
المنازعة؛ لأن مبنى التوكيل على المسامحة.
وضابط الجهالة القليلة: هو أنه إذا كان
اسم ما وكل بشرائه مما لا يتناول إلا نوعاً واحداً، وذكر فيه أحد أمرين:
إما الصفة أو مقدار الثمن، فتكون الجهالة قليلة.
وأما إذا كان اسم ما وكل بشرائه يتناول أنواعاً مختلفة أو في حكم الأنواع
المختلفة، فإن الجهالة تكون كثيرة، فلا تجوز الوكالة إلا إذا بين النوع
الموكل بشرائه، ولا يكفي بيان مقدار الثمن أو الصفة.
وعلى هذا فإن الجهالة اليسيرة: هي جهالة النوع المحض أي الذي لا تتفاوت قيم
آحاده تفاوتاً فاحشاً.
وأما الجهالة الكثيرة: فهي جهالة الجنس. وعلى هذا، يغتفر الحنفية من الغرر
في الوكالة ما لا يغتفرونه في البيع، والجهالة التي اعتبروها هنا: هي جهالة
فاحشة مانعة من صحة البيع عند
أكثرهم ومن لزومه عند بعضهم (1).
من أمثلة الجهالة القليلة ما يلي:
إذا قال الموكل للوكيل: (اشتر لي صوفاً انكليزياً أو هندياً أو يابانياً)
تصح الوكالة لأنه بين الصفة، أو قال: (اشتر لي صوفاً بألف ليرة) تصح
الوكالة، لأنه بين مقدار الثمن.
_________
(1) رسالة الغرر وأثره في العقود للدكتور الصديق الأمين: ص 559.
(5/4079)
ولو قال: (اشتر لي حماراً أو بغلاً أو
فرساً أو بعيراً) ولم يبين له صفة ولا ثمناً، قالوا: تصح الوكالة؛ لأن
النوع معلوم، وهو لا يختلف باختلاف أفراده، وأما الصفة فهي معلومة هنا
أيضاً، وذلك بحسب حال الموكل.
ولو قال (اشتر لي شاة أو بقرة) ولم يذكر صفة ولا ثمناً: لا تصح الوكالة؛
لأن الشاة والبقرة لا تصير معلومة الصفة بحال الموكل، ولا بد من أن يكون
أحدهما معلوماً كما ذكر.
ومن أمثلة الجهالة الكثيرة ما يأتي:
إذا قال الموكل للوكيل: اشتر لي حيواناً أو ثوباً أو دابة أو أرضاً أو
جوهراً أو حنطة أو داراً ونحوها، لا تصح الوكالة لوجود الجهالة الفاحشة؛
لأن كل واحد من هذه الأشياء اسم يقع على أنواع مختلفة، الثوب مثلاً يطلق
على ثوب الحرير والقطن والكتان والصوف ونحوها، فكان لا بد من ذكر نوع معين
بأن يقول: اشتر لي ثوباً قطنياً من صنع دمشق مثلاً، أو يقول: (اشتر لي حنطة
بثمن كذا، أو بوزن كذا) (1).
المبحث الثالث ـ أحكام الوكالة:
إذا وقعت الوكالة صحيحة كان لها أحكام تتعلق بالتصرفات التي يملكها الوكيل،
وبالحقوق التي ترجع له في التوكيل بالبيع والشراء، وبحال المقبوض في يده،
هل يعتبر أمانة أو مضموناً؟
_________
(1) راجع المبسوط 38/ 19 ومابعدها، البدائع: 23/ 6، تكملة فتح القدير: 27/
6 ومابعدها، رد المحتار على الدر المختار: 420/ 4، تكملة رد المحتار: 365/
7.
(5/4080)
أولاً ـ تصرف الوكيل: يترتب على الوكالة
ثبوت ولاية التصرف الذي تناوله التوكيل، وسأذكر هنا أنواع الوكالات لمعرفة
أوجه التصرف التي يملكها الوكيل والتي لا يملكها.
1 - الوكيل بالخصومة (المحامي):
أ - صلاحية الإقرار: الوكيل بالخصومة أي
بالمرافعة أمام القاضي مثل المحامي اليوم، يملك الإقرار على موكله بغير
القصاص والحدود عند جمهور الحنفية؛ لأن الوكيل بالخصومة وكيل بالجواب عن
دعوى المدعي لبيان الحق وإثباته، لا المنازعة فيه. والجواب قد يكون
إنكاراً، وقد يكون إقراراً (1). وقيده أبو حنيفة ومحمد أن يكون الإقرار في
مجلس القاضي، بينما لم يقيده أبو يوسف، فأجاز إقرار الوكيل في مجلس القاضي
وغيره.
وقال زفر ومالك والشافعي وأحمد: إذا كانت الوكالة مطلقة، فلا تتضمن الإقرار
على الموكل، فلو وكل رجلاً في الخصومة لم يقبل إقراره على موكله بقبض الحق
وغيره؛ لأن الوكالة بالخصومة معناها التوكيل بالمنازعة، والإقرار مسالمة؛
لأنه معنى يقطع الخصومة، فهو يتنافى مع معنى الوكالة بالخصومة، فلا يملكه
الوكيل فيها كالإبراء. وفارق الإقرار الإنكار: بأنه لا يقطع الخصومة، ولأن
الوكيل لا يملك الإنكار على وجه يمنع الموكل من الإقرار، فلو ملك الإقرار
لامتنع على الموكل الإنكار، وهو لا يجوز بدليل أن الوكيل لا يملك المصالحة
عن الحق ولا الإبراء منه بدون خلاف (2).
_________
(1) البدائع: 24/ 6، تكملة فتح القدير: 10/ 6، المبسوط: 4/ 19 ومابعدها،
الدر المختار: 430/ 4، الكتاب مع اللباب: 151/ 2.
(2) بداية المجتهد: 297/ 2، الشرح الكبير: 379/ 3، المهذب: 351/ 1، المغني:
91/ 5.
(5/4081)
واستثنى المالكية حالة كون الوكيل عاماً
وجعل له الموكل الإقرار في عقد الوكالة، وحالة اشتراط خصم الموكل أن يجعل
الإقرار لوكيله، بأن يقول له: لاأتعاطى المخاصمة مع وكيلك حتى تجعل له
الإقرار.
ومنشأ الخلاف في الحقيقة هو في قاعدة «هل الأمر المطلق الكلي يقتضي الأمر
بشيء من جزئياته أو لا يقتضي؟» قال الحنفية: يقتضي ما ذكر، لاشتمال الكلي
على الجزئي ضرورة، فيصح إقرار الوكيل بالخصومة.
وقال غير الحنفية: لا يقتضي ما ذكر، إذ لا اختصاص للجنس بنوع من أنواعه ولا
فرد من أفراده، فلم يصح إقرار الوكيل بالخصومة؛ لأن اللفظ من حيث إطلاقه لا
يتناوله، والقرينة العرفية إن لم تنفه فلا تقتضيه.
وبناء عليه قال الجمهور غير الحنفية:
ليس للوكيل المطلق ببيع شيء كأن يقول الموكل للوكيل: بع هذه العين، أن
يبيعه بالغبن الفاحش ولا بثمن المثل ولا بدون ثمن المثل، ولا بالنقد ولا
بالنسيئة، إذ لا اختصاص للجنس بنوع من أنواعه ولا فرد من أفراده، وإنما ملك
البيع بثمن المثل، لقيام القرينة الدالة على الرضا بسبب العرف (1).
ثم إن الحنفية القائلين بجواز إقرار الوكيل اختلفوا في مكان صحته:
فقال أبو حنيفة ومحمد: يصح إقرار الوكيل في مجلس القاضي لا في غيره، فيما
عدا الحدود والقصاص؛ لأن الموكل فوض الأمر إليه، لكن في مجلس القضاء؛ لأن
التوكيل هو بالخصومة أو بجواب الخصومة، وكل ذلك يختص بمجلس القاضي، بدليل
أن الجواب لا يلزم في غير مجلس القاضي.
_________
(1) تخريج الفروع على الأصول: ص 100.
(5/4082)
وقال أبو يوسف: يصح إقرار الوكيل في مجلس
العقد وفي غيره؛ لأن التوكيل تفويض ما يملكه الموكل إلى غيره، وإقرار
الموكل لا تقف صحته على مجلس القاضي، فكذا إقرار الوكيل (1).
واتفق الحنفية على أنه إذا وكل بالخصومة، واستثنى الإقرار وتزكية الشهود في
عقد الوكيل يصح، ويكون وكيلاً بالإنكار. وإذا كان الاستثناء بكلام منفصل عن
العقد بعد أن تم التوكيل مطلقاً، فيصح عند أبي يوسف. ولا يصح عند محمد.
واتفق العلماء على أن إقرار الأب والوصي وأمين القاضي على الصغير لايصح.
ب ـ صلاحية القبض: إن الوكيل بالخصومة
في مال إذا قضى القاضي به يملك قبضه عند جمهور الحنفية، وعند زفر: لا يملك،
ودليله: أن المطلوب من الوكيل بالخصومة الاهتداء إلى الحق، ومن الوكيل
بالقبض الأمانة، وليس كل من يهتدي إلى شىء يؤتمن عليه، فلا يكون التوكيل
بالخصومة توكيلاً بالقبض.
ورد جمهور الحنفية على دليل زفر بأن الموكل لما وكل غيره بالخصومة فقد
ائتمنه على قبضه؛ لأن الخصومة فيه لا تنتهي إلا بالقبض، فكان التوكيل بها
توكيلاً بالقبض (2).
قال صاحب الهداية: والفتوى اليوم على قول زفر رحمه الله، لظهور الخيانة في
الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال (3).
_________
(1) البدائع، المرجع السابق، تكملة فتح القدير: 102/ 6 ومابعدها.
(2) البدائع: 6 ص 24 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 96/ 6.
(3) تكملة فتح القدير: 97/ 6، المبسوط: 19/ 19، مجمع الضمانات: ص 261.
(5/4083)
وقال الشافعية والحنابلة: إن الوكيل
بالخصومة لا يملك القبض؛ لأنه غير مأذون به صراحة ولا عرفاً، إذ ليس كل من
يرضاه لتثبيت حقه يرضاه لقبضه (1).
جـ ـ صلاحية الصلح والإبراء: لا يملك
الوكيل بالخصومة عند الحنفية والشافعية المصالحة عن الحق الموكل به ولا
الإبراء عنه (2).
د ـ توكيل الوكيل بالخصومة غيره: ليس
للوكيل بالخصومة أن يوكل غيره، إلا إن أذن له الموكل؛ لأن الناس متفاوتون
في الكفاءة في الخصومة، وقد رضي الموكل برأي الوكيل لا برأي غيره (3).
2 - الوكيل بتقاضي الدين (4): إن أصل
المنقولة عن أئمة الحنفية تقضي بأن الوكيل بتقاضي الدين يملك قبض الدين؛
لأن حق التقاضي لا يتم المقصود منه إلا بالقبض، فكان التوكيل به توكيلاً
بالقبض، ولأن التقاضي بمعنى القبض في الوضع اللغوي، يقال: تقاضيته ديني
وبديني، واقتضيته ديني واقتضيت منه حقي أي أخذته. وقال في القاموس: وتقاضاه
الدين: قبضه منه.
ولكن المتأخرين من الحنفية قالوا: إن الوكيل بتقاضي الدين لا يملك القبض
عرفاً؛ لأن الناس في هذا الزمان فسدت أحوالهم، فلا يرضون بقبض الوكلاء
لتهمة الخيانة في أموال بعضهم بعضاً. وهذا هو المفتى به عملاً بتعارف
الناس، والعرف قاض على أصل وضع المذهب (5).
_________
(1) المهذب: 351/ 1، المغني: 91/ 5.
(2) تكملة ابن عابدين: 365/ 7، المهذب: 351/ 1.
(3) المبسوط: 12/ 19.
(4) تقاضي الدين لغة: هو أخذ الدين، وعرفاً: هو المطالبة بالدين، والعرف
قاضٍ على اللغة، كما هو معروف.
(5) انظر البدائع: 25/ 6، تكملة فتح القدير: 97/ 6، المبسوط: 67/ 19
ومابعدها، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 429/ 4، الكتاب مع
اللباب: 150/ 2.
(5/4084)
والوكيل بتقاضي الدين لا يملك أن يوكل
غيره؛ لأن الناس يتفاوتون في التقاضي، فقد يتضايق المدين من تقاضي بعض
الناس.
3 - الوكيل بقبض الدين: اختلف أئمة
الحنفية في أن الوكيل بقبض الدين، هل يملك الخصومة في إثبات الدين إذا أنكر
المدين أو لا؟
فقال أبو حنيفة: يملك الخصومة في إثبات الدين، حتى لو أقيمت عليه البينة
على استيفاء الموكل الدين من المدين أو إبرائه المدين عن الدين تقبل
البينة. ودليله: أن التوكيل بقبض الدين توكيل بالمبادلة (أي أن يتملك
المقبوض بمقابلة ما في ذمة المدين قاصاً) والحقوق في مبادلة المال بالمال
تتعلق بالعاقد كما في البيع والإجارة، والوكيل هنا هو العاقد.
ولإيضاح كون قبض الدين يعتبر مبادلة قيل: إن الديون تقضى بأمثالها؛ لأن قبض
نفس الدين غير متصور استيفاؤه، لأنه وصف ثابت في ذمة من عليه الدين، فكان
استيفاء الدين عبارة عن نوع مبادلة، وهو مبادلة ما يأخذه عيناً بما في ذمة
المدين، فأشبهت هذه العملية عملية البيع، وحقوق عقد البيع يمارسها العاقد
نفسه، فإذا كان البيع قد تم بواسطة وكيل عن البائع، فإن الوكيل هو المسؤول
أمام المشتري عن كل ما يتعلق بالتزامات العقد مثل تسليم المبيع وكونه
خالياً من العيوب ونحوهما، كما أنه هو الذي يطالب بتسليم الثمن.
وقال الصاحبان: إن الوكيل بقبض الدين لا يكون وكيلاً بالخصومة؛ لأن القبض
هو استيفاء عين الحق، فهو غير الخصومة، وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي
إلى وجه الخصومة، فلا يكون الرضا بالقبض رضا بالخصومة.
واتفق الحنفية على أن الوكيل بقبض العين
كالكتاب مثلاً لا يملك الخصومة، لأنه أمين محض حيث لا مبادلة هنا، لكونه
وكيلاً بقبض عين حق الموكل،
(5/4085)
والقبض ليس بمبادلة، فأشبه الرسول. وعلى
هذا إذا وكل إنسان غيره بقبض كتاب له من شخص آخر، فأقام من بيده الكتاب
بينة على أن الموكل باعه إياه، وقف الأمر حتى يحضر الموكل.
واتفقوا أيضاً على أن الوكيل بملازمة المدين ليحمله على وفاء الدين: لا
يملك قبض الدين ولا الخصومة فيه.
وكذلك اتفق أئمة الحنفية الثلاثة على أن الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض؛ لأن
من ملك شيئاً ملك تمامه، وتمام الخصومة بالقبض. وقال زفر: ليس وكيلاً
بالقبض لأن الموكل رضي بخصومته والقبض غير الخصومة، ولم يرض به. والفتوى
على قول زفر، لظهور الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن
على المال.
أما الوكيل بطلب الشفعة أو بالرد بالعيب أو بالقسمة فإنه يملك الخصومة
بالاتفاق أيضاً؛ لأن الوكيل بأخذ الشفعة وكيل بالمبادلة؛ لأن الأخذ بالشفعة
بمنزلة الشراء، وكذا الرد بالعيب والقسمة فيهما معنى المبادلة، فكانت
الخصومة فيها من حقوقها (1).
وقال الشافعية والحنابلة: إن الوكيل بقبض الدين أو العين يكون وكيلاً
بالخصومة في إثباته في أحد الوجهين؛ لأنه لا يتوصل إلى القبض إلا بالإثبات،
فكان إذناً فيه عرفاً، ولأن القبض لا يتم إلا به. وفي وجه آخر لا يكون
وكيلاً بالخصومة؛ لأن الإذن بالقبض ليس بإذن في الإثبات لا نطقاً ولا
عرفاً؛ لأنه ليس
_________
(1) المبسوط: 17/ 19، البدائع: 25/ 6، تكملة فتح القدير: 99/ 6 - 102، رد
المحتار: 429/ 4، الكتاب مع اللباب: 150/ 2 ....
(5/4086)
في العرف أن من يرضاه للقبض يرضاه للإثبات.
وكذلك هناك وجهان عندهم في الوكالة لطلب الشفعة أو قسمة شيء (1).
ويظهر لنا أن الأصح من الوجهين هو الثاني عند الشافعية، والأول عند
الحنابلة.
وهناك أحكام أخرى عند الحنفية تتعلق بالوكيل بالقبض، منها:
توكيل الوكيل بالقبض غيره: القاعدة
العامة هي أن الوكيل لا يجوز له أن يوكل غيره فيما وكل به، بدون إذن موكله
أو أن يقول له: اعمل برأيك؛ لأن الموكل رضي برأيه وأمانته وحده، والناس
متفاوتون في الآراء والأمانة. ولكن مع هذا ينبغي أن نقسم الوكالة عند
الحنفية إلى قسمين لمعرفة مدى انطباق هذه القاعدة، وهما: الوكالة العامة
والوكالة الخاصة.
فإذا كانت الوكالة عامة: بأن قال الموكل وقت التوكيل بالقبض: اصنع ما شئت،
أو ما صنعت من شيء فهو جائز علي، أو نحوه، فإنه يجوز للوكيل أن يوكل غيره
بالقبض، عملاً بمقتضى العموم.
وإذا كانت الوكالة خاصة: بأن لم يقل الموكل لفظاً يشعر بعموم الإذن
بالتصرف، فإنه لا يجوز للوكيل أن يوكل غيره بالقبض؛ لأن الوكيل يتصرف
بتفويض الموكل، فيملك قدر ما فوض إليه.
فإن وكل مع ذلك وقبض الوكيل الثاني لم يبرأ المدين من الدين، لأن توكيله
بالقبض إذا لم يصح، فقبضه وقبض الأجنبي سواء، إلا إذا وصل ما قبض إلى
الوكيل الأول، فيبرأ المدين من الدين، لأنه وصل إلى يد من هو نائب الموكل
في القبض.
_________
(1) المهذب: 351/ 1، المغني: 91/ 5 ومابعدها.
(5/4087)
فإن هلك المقبوض في يد القابض قبل أن يصل
إلى الوكيل الأول، ضمن القابض للمدين، وكان للدائن أن يأخذ الدين من
المدين؛ لأن التوكيل بالقبض لم يصح، فإذا أخذه منه، رجع على من دفعه إليه،
فيرجع هذا بما ضمن على الوكيل الأول إن هلك ما قبض في يده، لأنه صار
مغروراً به من جهته بتوكيله بالقبض، فيرجع عليه، إذ كل غار ضامن للمغرَّر
به بما لحقه من المسؤولية من جهة ضمان الكفالة (1).
وقال المالكية: ليس للوكيل أن يوكل غيره إلا أن يكون الوكيل لا يليق به
تولي ما وكل فيه بنفسه، كأن يكون وجيهاً، والموكل به أمر حقير، فله التوكيل
حينئذ (2).
وقال الشافعية والحنابلة: ليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به بلا إذن الموكل
متى كان قادراً على ما وكل فيه، أما إذا لم يكن قادراً على القيام بكل ما
وكل فيه فله أن يوكل غيره (3).
أخذ العوض عن الدين: ليس للوكيل بقبض
الدين أن يأخذ عيناً مكان الدين؛ لأن هذا يعتبر معاوضة، وعقد المعاوضة ليس
من صلاحية الوكيل بالقبض، لأنه موكل بقبض الحق لا غير، لا بالاستبدال ولا
بالاعتياض (4).
توكيل اثنين بقبض الدين: لو وكل إنسان
وكيلين بقبض دينه، فليس لأحدهما أن ينفرد بالقبض دون صاحبه؛ لأن الموكل رضي
برأيهما لا برأي أحدهما، فإن قبض أحدهما لم يبرأ الغريم، حتى يصل ما قبض
أحدهما إلى
_________
(1) البدائع: 25/ 6، تكملة فتح القدير: 89/ 6 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 388/ 3.
(3) مغني المحتاج: 226/ 2، المغني: 88/ 5.
(4) البدائع، المرجع السابق: ص 26.
(5/4088)
صاحبه، فيقع المقبوض في أيديهما جميعاً، أو
يصل إلى الموكل؛ لأن المقصود بالقبض قد حصل، فكأنهما قد قبضاه من ابتداء
الأمر (1).
قبض الشيء معيبا ً: لو أن الوكيل بقبض
الدين قبضه، فوجده معيباً، فما كان للموكل رده فله رده، وأخذ بدله، لأنه
قائم مقام الموكل، فهو يملك قبض حقه أصلاً ووصفاً، فكذا الوكيل (2).
ادعاء الوكالة عن الغائب في قبض الدين:
إذا ادعى إنسان أنه وكيل فلان الغائب في قبض دينه، فصدقه المدين، أمر
بتسليم الدين إليه (3)؛ لأن تصديق المدين إياه معناه: أنه أقر بالدين على
نفسه، ومن أقر على نفسه بشيء أمر بتسليمه إلى المقر له.
وحينئذ إذا حضر رب الدين الغائب، فصدق مدعي الوكالة بأنه وكيله، فبها
ونعمت، وإن لم يصدقه، فهناك ثلاثة أوجه:
أحدها: إن صدق المدين مدعي الوكالة، ودفع الدين إليه، فإنه يدفع إلى الدائن
دينه مرة أخرى؛ لأنه إذا أنكر الوكالة، لم يثبت للدائن استيفاء حقه، والقول
في إنكار الوكالة قول رب الدين مع يمينه؛ لأن الدين كان ثابتاً، والمدين
يدعي أمراً عارضاً وهو سقوط الدين بأدائه إلى الوكيل، ورب الدين ينكر
الوكالة، ومن المعروف أن القول قول المنكر مع يمينه، وإذا لم يثبت
الاستيفاء يفسد الأداء إلى مدعي الوكالة، وحينئذ يجب الدفع ثانية إلى رب
الدين؛ لأن أداء الدين واجب على المدين، ثم يرجع المدين بما دفعه ثانياً
على مدعي الوكالة إن كان المال باقياً في
_________
(1) تكملة فتح القدير، المرجع السابق: ص 86 ومابعدها.
(2) البدائع، المرجع السابق.
(3) أي إلى مدعي الوكالة .....
(5/4089)
يده؛ لأن غرض المدين من الدفع إلى الوكيل
براءة ذمته من الدين، ولم تحصل تلك البراءة، فيحق للمدين أن ينقض قبض
الوكيل. وإن كان ما دفعه إليه، ضاع في يده، لم يرجع المدين على الوكيل؛ لأن
المدين بتصديق الوكيل اعترف أن الوكيل محقّ في القبض، والمحق في القبض لا
رجوع عليه، ولأن المدين بتصديقه اعترف أنه مظلوم في أخذ الدين مرة ثانية،
والمظلوم لا يظلم غيره.
ولكن إذا قال مدعي الوكالة: إني وكيل فلان الغائب بقبض الوديعة التي عندك،
فصدقه الوديع، لم يؤمر بالتسليم إليه؛ لأنه أقر له بمال الغير، بخلاف
الدين، لأن الدين حق شخصي ثابت في الذمة، فيلزم المدين إذا صدق المدعي
بتسليمه الدين عملاً بإقراره، أما في حالة الوديعة فلا يلزم بتسليمها إلى
مدعي الوكالة؛ لأن حق المودع فيها حق عيني، وهو الملكية المتعلقة بعينها،
فلا يعمل بإقراره لمساسه بحق الغير. أما الدين فيقتصر أثر الإقرار فيه على
المقر فينفذ.
والثاني: إن صدق المدين مدعي الوكالة وضمنه عند الدفع بأن يقول له: اضمن لي
ما دفعته عن الدائن، حتى لو أخذ مني الدائن ماله آخذ منك ما دفعته إليك،
فإن المدين يرجع على الوكيل حينئذ بما دفعه له أولاً؛ لأن الذي أخذه الدائن
منه مرة ثانية ضامن له في زعم الوكيل والمدين؛ لأن الدائن في نظرهما يعتبر
غاصباً فيما يقبضه ثانياً. وكأن هذا يعتبر كفالة من مدعي الوكالة كما لو
قال: «أنا ضامن لك ما يقبضه منك فلان»، وهذه الكفالة صحيحة؛ لأنها كالكفالة
المضافة إلى وجوب شيء في المستقبل على المكفول عنه، أي بما يجب على إنسان
في المستقبل.
والثالث: إذا كذب المدعي مدعي الوكالة، أو لم يصدق ولم يكذب ومع ذلك دفع
الدين إليه على ادعائه، فإن رجع صاحب المال على المدين، رجع المدين على
الوكيل، لأنه إذا كذبه، صار الوكيل في حقه، بمنزلة الغاصب، وللمغصوب
(5/4090)
منه حق الرجوع على الغاصب قطعاً. وإذا لم
يصدقه ولم يكذبه في ادعاء الوكالة، فهو إنما دفع إليه على رجاء أن يجيزه
صاحب المال، فإذا انقطع رجاؤه بسبب أخذ الدائن حقه منه، رجع المدين الغريم
على الوكيل (1).
4 - الوكيل بالبيع: الوكيل بالبيع إما
أن يكون مطلق التصرف أو مقيد التصرف. فإن كان مقيد التصرف، فيراعى فيه
القيد بالاتفاق، فإذا خالف قيده، لا ينفذ تصرفه على الموكل، ولكن يتوقف على
إجازته إلا إذا كانت مخالفته إلى خير؛ لأنه محقق لمقصوده ضمناً. بيانه
بالمثال: أن يقول الموكل: بع بستاني هذا بألف ليرة، فباعه بأقل من ألف، لا
ينفذ لأنه خلاف إلى شر، وإن باعه بأكثر من ألف ليرة نفذ لأنه خلاف إلى خير.
وإذا وكله بالبيع نقداً، فباع مؤجلاً لم ينفذ، بل يتوقف على إجازة الموكل.
أما إذا وكله بالبيع مؤجلاً فباع نقداً نفذ.
وإذا وكله بالبيع في مكان معين لكون الثمن فيه أجود أو أكثر، لا يجوز له
البيع في غيره عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه قد يفوت غرضه. وكذا عند
الحنفية إن أكده بالنفي، فقال له: لا تبعه إلا في سوق كذا.
وإذا وكله بالبيع في زمان معين، لزمه بيعه فيه؛ لأنه قد يحقق له مصلحة أو
حاجة في ذلك الزمان بعينه.
وإذا وكله بالبيع من رجل بعينه، لا يجوز له أن يبيعه لغيره؛ لأنه قد يؤثر
الموكل تمليك هذا الرجل دون غيره.
وإذا وكله بالبيع بمئة مثلاً، لا يجوز أن يبيع بأقل منها، لفوات المقدار
المنصوص عليه، ومخالفته للإذن الصادر.
_________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية: 113/ 6 ومابعدها، البدائع: 26/ 6، مجمع
الضمانات: ص 253، الكتاب مع اللباب: 152/ 2.
(5/4091)
وإن كان الوكيل مطلق التصرف، فيعمل بمقتضى
الإطلاق عند أبي حنيفة، فيجوز له أن يبيع بأي ثمن كان، قليلاً أو كثيراً،
وإن كان بغبن فاحش، أو كان الثمن عيناً أو ديناً في الذمة. دليله: أن الأصل
في اللفظ المطلق أن يجري على إطلاقه، ولا يجوز تقييده إلا بدليل كوجود
تهمة، فيتناول كل ما يطلق عليه البيع، ولا يعتمد على العرف؛ لأن العرف
متعارض، فإن البيع بغبن فاحش ليتوصل بثمن المبيع إلى شراء ما هو أربح منه
متعارف أيضاً، فلا يجوز تقييد المطلق مع تعارض العرف.
وقال الصاحبان وبه أخذ الطحاوي وهو الراجح المفتى به عند الحنفية: لا يجوز
للوكيل بالبيع مطلقاً أن يبيع إلا بالنقود الرائجة في البلد (أي الأثمان
المطلق في اصطلاح الفقهاء) وبمثل القيمة، فلا يجوز البيع إلا بما يتغابن
الناس فيه عادة، والمقدار الذي يتغابن الناس فيه عند الطحاوي كما ذكر محمد
في الجامع الصغير: هو نصف العشر فأقل منه، ودليلهما: أن الوكالة بالبيع
مطلقاً تنصرف إلى البيع المتعارف، والبيع بغير النقود أوبغبن فاحش ليس
بمتعارف، وإنما المتعارف هو البيع بالنقود وبثمن المثل، فيتقيد الإطلاق
بالعرف، كما في التوكيل بالشراء (1).
والصحيح في تقدير الغبن الذي يفصل بين الغبن اليسير والغبن الفاحش: هو ما
روي عن محمد رحمه الله في النوادر: وهو أن كل غبن يدخل تحت تقويم المقومين،
فهو يسير، وما لا يدخل تحت تقويم المقومين فهو فاحش (2).
_________
(1) البدائع: 27/ 6، مختصر الطحاوي: ص 111، تكملة ابن عابدين: 383/ 7،
تكملة فتح القدير: 70/ 6 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 249، مختصر خليل: ص
216 ومابعدها، المجموع: 563/ 13، المهذب: 353/ 1 وما بعدها، الكافي لابن
قدامة: 254/ 2، طبع المكتب الإسلامي، كشاف القناع: 463/ 3 ومابعدها.
(2) تكملة فتح القدير، المرجع السابق: ص 76 - 77، البدائع: 30/ 6، الدر
المختار: 425/ 4.
(5/4092)
وضبطاً للمقاييس القضائية حددت مجلة
الأحكام العدلية (م 165) الغبن الفاحش بما يعادل 5% في المنقولات، و 10% في
الحيوان، والخمس أو 20% في العقارات، أو أزيد من ذلك، وما دونه غبن يسير.
وقال جمهور العلماء بما قال به الصاحبان، فلم يجيزوا البيع بأقل من ثمن
المثل بما لا يتغابن الناس به من غير إذن الموكل؛ لأن الوكيل منهي عن
الإضرار بالموكل، مأمور بالنصح له، كما لم يجيزوا البيع بغير نقد البلد (أي
بلد البيع) بدلالة القرينة العرفية عليه (1). فإن كان في البلد نقدان باع
بالغالب منهما، وإن استويا باع بما هو أنفع للموكل.
ويجري هذا الخلاف في صفة البيع نقداً أو نسيئة: فقال أبو حنيفة: يملك
الوكيل البيع بالنقد وبالنسيئة، لإطلاق الوكالة.
وقال الصاحبان وجمهور العلماء: لا يملك الوكيل إلا البيع بالنقد أي حالاً
غير مؤجل؛ لأن الأصل في البيع النقد، وإنما يحصل التأجيل لظروف طارئة كما
في أحوال الكساد (2).
وأما الوكيل بالشراء: فلا يجوز له
بالاتفاق أن يشتري إلا بثمن المثل أو بما يتغابن الناس في مثله عادة، ولا
يجوز بما لا يتغابن الناس في مثله. ففي الوكالة بالشراء يتفق أبو حنيفة مع
بقية العلماء. والسبب في تفرقته بين البيع والشراء: هو أن الشراء يشتمل على
التهمة، فإن الوكيل الذي يشتري الشيء الموكل به يستحسن
_________
(1) الشرح الكبير: 382/ 3، المهذب: 353/ 1 ومابعدها، مغني المحتاج: 223/ 2
ومابعدها، المغني: 124/ 5، بداية المجتهد: 298/ 2، قواعد الأحكام لابن عبد
السلام، ط الاستقامة: 107/ 2.
(2) المراجع السابقة.
(5/4093)
هذا الشيء فيشتريه لنفسه، فإذا لم يوافقه
بأن تبين فيه الغبن، ألحق الشراء بغيره وهو الموكل، ومثل هذه التهمة غير
متحققة في البيع (1).
بيع الوكيل بعض الموكل ببيعه: إذا باع
الوكيل بعض الموكل ببيعه فهو على وجهين:
أـ إن كان ذلك مما لا ضرر في تبعيضه، جاز باتفاق الحنفية، وذلك مثل المكيل
والموزون، أو بيع شيئين كدارين، فباع إحداهما، جاز اتفاقاً.
ب ـ وإن كان في تبعيضه ضرر بأن وكله ببيع كتاب، فباع نصفه، جاز عند أبي
حنيفة رحمه الله. وعند الصاحبين والشافعية والحنابلة: لا يجوز إلا بإجازة
الموكل، أو بيع النصف الباقي، دليلهم: أن التوكيل ينصرف إلى المتعارف، وبيع
النصف غير متعارف، لما فيه من ضرر الاشتراك بملكية الأعيان، ويجب دفع
الضرر.
ودليل أبي حنيفة: هو أنه كما يجوز للوكيل بيع الكل بهذا القدر من الثمن
الذي باع به، يجوز بيع البعض به من باب أولى؛ لأنه نفع موكله حيث أمسك
البعض على ملكه.
وأما الوكيل بالشراء: فلا يجوز له باتفاق الحنفية أن يشتري البعض إلا
بإجازة الموكل، أو بشراء البعض الآخر. والفرق بين الوكيل بالشراء والوكيل
بالبيع عند أبي حنيفة: هو أن الشراء تتحقق فيه التهمة بعكس البيع، كما
عرفنا، فلا يجوز للوكيل بالشراء أن يشتري البعض بثمن الكل (2).
_________
(1) البدائع، المرجع السابق، تكملة الفتح، المرجع السابق: ص 75، رد
المحتار: 424/ 4، تكملة المجموع: 573/ 13، المغني: 127/ 5.
(2) البدائع: 27/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 78/ 6 ومابعدها.
(5/4094)
أخذ الشافعية والحنابلة كما تقدم بمذهب
الصاحبين في بيع بعض الموكل ببيعه (1). وأما المالكية فقالوا: إن لفظ
الموكل العام يتخصص بالعرف (2). والعرف في بيع كتاب مثلاً أن يعقد على
جميعه.
إبراء المشتري من الثمن: الوكيل بالبيع
يملك عند أبي حنيفة إبراء المشتري من الثمن، وله أن يؤخره عنه كما له أن
يأخذ عوضاً به أو أن يصالحه على شيء، أو يحال به على شخص آخر، ويكون حينئذ
ضامناً الثمن للموكل. دليله: أن قبض الثمن من حق الوكيل. فتكون هذه
التصرفات حقاً له، ولكن يضمن الثمن للموكل؛ لأنه وإن كان التصرف في حق
نفسه، لكنه تعدى إلى ملك غيره بالإتلاف، فيجب عليه الضمان (3).
ولا يملك الوكيل عند الصاحبين شيئاً مما ذكر؛ لأنه تصرف في حق الموكل بغير
إذنه.
توكيل الوكيل بالبيع غيره: ليس للوكيل
بالبيع بالاتفاق أن يوكل غيره بدون إذن موكله؛ لأن الوكالة ملحوظ فيها خصوص
شخص الوكيل لاعتبارات تتعلق بالرأي والخبرة والأمانة ونحوها (4). واستثنوا
مما قالوا ما يأتي:
أـ أن يكون الموكل فيه مما لا يليق بمروءة الوكيل، كبيع دابة في السوق،
والحال أن الوكيل شريف النفس لا يناسبه تولي مثل البيع بنفسه.
_________
(1) المهذب: 353/ 1، المغني: 126/ 5.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 381/ 3.
(3) البدائع: 28/ 6، مجمع الضمانات: ص 245.
(4) البدائع، المرجع السابق، تكملة ابن عابدين: 356/ 7، الشرح الصغير: 513/
3، مغني المحتاج: 226/ 2، المغني: 88/ 5 ومابعدها.
(5/4095)
ب ـ أن يكون الموكل فيه كثيراً مما لايمكنه
تولي العمل كله بنفسه إلا بمساعدة غيره.
جـ ـ أن يكون الموكل فيه مما يحتاج إلى مهارة خاصة كالهندسة ونحوها،
والوكيل ليس أهلاً لذاك. وهذا في الوكيل الخاص، أما الوكيل العام عند
الحنفية والمالكية فيجوز له توكيل غيره مطلقاً.
التصرفات المشبوهة أو المتهم فيها بالمحاباة:
ليس للوكيل بالبيع أن يبيع لنفسه؛ لأنه متهم في تصرفه، ولأن حقوق العقد
تعود إلى الوكيل، فيؤدي بيعه من نفسه إلى أن يكون الشخص الواحد في زمان
واحد مسلِّماً ومتسلماً مطالِباً ومطالَباً، هذا محال. وبناء عليه اشترط
الفقهاء لانعقاد البيع تعدد العاقد.
كما أنه ليس للوكيل عند أبي حنيفة أن يبيع أو يشتري بثمن المثل أو أقل (1)
من أبيه وجده وولده وسائر من لا تقبل شهادته له كولد ولده وزوجته؛ لأن
البيع من هؤلاء بيع من نفسه من حيث المعنى، لاتصال منافع ملك كل واحد منهم
به (2)، فكان في بيعه لهم تهمة بإيثار العين المبيعة لهم، بدليل أنه لا
تقبل شهادة أحدهما لصاحبه بخلاف الأجنبي.
وقال الصاحبان: يجوز له أن يبيع لهؤلاء أي لا لنفسه بمثل القيمة؛ لأن
التوكيل مطلق، والبيع من هؤلاء ومن شخص آخر أجنبي عنهم سواء، ولا تهمة هنا؛
لأن أملاكهم متباينة، فلا يملك أحدهم ما يملكه الآخر، وإذا كانت الأملاك
متباينة تكون المنافع منقطعة فيما بينهم (3).
_________
(1) أما بأكثر من ثمن المثل فيجوز.
(2) بدليل أن كل واحد منهم ينتفع بمال الآخر عادة، فصار مال كل واحد منهم
كمال صاحبه من وجه.
(3) البدائع، المرجع السابق، تكملة فتح القدير: 67/ 6 ومابعدها، رد
المحتار: 424/ 4، مجمع الضمانات: ص261.
(5/4096)
وقال المالكية: لا يجوز للوكيل أن يبيع ما
وكل ببيعه لنفسه أو من في حِجْره من صغير أو سفيه أو مجنون، ويجوز أن يبيع
لزوجته وولده الرشيد إذا لم يحابهما، وروي عن الإمام مالك أنه يجوز للوكيل
أن يشتري الشيء لنفسه (1).
وقال الشافعية في الأصح عندهم، والحنابلة في إحدى الروايتين عن أحمد: لا
يجوز للوكيل أن يبيع لنفسه وولده الصغير، ويجوز أن يبيع لأبيه وجده وابنه
البالغ وسائر فروعه المستقلين؛ لأنه باع بالثمن الذي لو باع به لأجنبي لصح،
فلا تهمة حينئذ، فهو كما لو باع من صديقه (2). وبه يتبين أن الحنفية لا
يجيزون مطلقاً بيع الوكيل لنفسه، وأما الجمهور فلا يجيزون هذا البيع إلا إن
أذن له الموكل بالبيع. واشترط المالكية أيضاً شرطين آخرين:
1ً - أن يكون البيع بحضرة
الموكل ولم ينكر عليه.
2ً - أن تتناهى الرغبات فيه
ويسمى الثمن.
ومنع أبو حنيفة البيع للأصول والفروع والزوجة، وأجاز الجمهور البيع للأصول
والزوجة بثمن المثل دون الفروع. ورأي أبي حنيفة أرجح لدي لا سيما في عصرنا
بعداً عن التهمة.
والخلاصة: أن على الوكيل أن يلتزم بواجباته، وتنفيذ ما التزم به في حق
الموكل. وعلى الموكل واجب تحمل الخسارة العارضة إن لم تكن بتعدٍ أو تقصير،
وواجب دفع ما يستحقه الوكيل من أجر إذا كانت الوكالة مأجورة، وأدى الوكيل
العمل المأمور به.
_________
(1) الشرح الكبير: 387/ 3 ومابعدها، المغني: 107/ 5 ومابعدها، الخرشي: 77/
6 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 224/ 2 ومابعدها، المغني: 107/ 5 ومابعدها.
(5/4097)
5 - تصرفات الوكيل
بالشراء: بينت حكم الجهالة في نوعي الوكالة بالشراء
العامة والخاصة، وأبيّن هنا تصرفات الوكيل بالشراء في نوعي الوكالة المطلقة
والمقيدة (1).- إذا كانت الوكالة مقيدة فإنه يراعى فيها القيد ما أمكن،
سواء أكان القيد راجعاً إلى الْمُشتَرى، أم إلى الثمن، فإذا خالف الوكيل لا
يلزم الموكل بالشراء إلا إذا كان خلافاً إلى خير، فيلزمه.
مثال القيد العائد للمشتَرى: أن يقول الموكل: اشتر لي ثلاجة من صنع بلدة
معينة، فاشترى ثلاجة من صنع بلدة أخرى، فلا يلزم الموكل بالشراء، ويلزم
الوكيل؛ لأن الأصل في كل مقيد اعتبار القيد فيه إلا قيداً لا فائدة من
اعتباره، وهذا القيد المذكور مفيد.
ومثال القيد العائد للثمن: أن يقول الموكل: اشتر لي ثلاجة بألف ليرة،
فاشترى ثلاجة بأكثر من الألف، فيلزم الشراء بالوكيل دون الموكل؛ لأنه خالف
أمر الموكل، فيصير مشترياً لنفسه.
وإن اشترى ثلاجة بثمان مئة ليرة، ومثله يشترى عادة بألف، لزم الشراء
الموكل؛ لأن الخلاف إلى خير لا يكون خلافاً معنى.
وإن وكله بشراء شيء فاشترى بعضه: فإن كان في تبعيضه ضرر كالسيارة لم يلزم
الموكل بشراء البعض، وإن لم يكن في تبعيضه ضرر، كالأرض الواسعة، لزم الموكل
الشراء عند الحنفية والشافعية والحنابلة.
_________
(1) راجع التفصيل في البدائع: 29/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 75/ 6
ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 110 وما بعدها، المبسوط: 39/ 19، الدر المختار:
421/ 4 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 249.
(5/4098)
ولو وكله بالشراء بالتقسيط أو مؤجلاً،
فاشترى بثمن حالّ، لزم الشراء الوكيل، لأنه خالف قيد الموكل. فإن كانت
الوكالة بالعكس، فاشترى بالتقسيط أو مؤجلاً، لزم الشراء الموكل؛ لأنه وإن
خالف الوكيل مخالفة صورية، فقد وافق طلب الموكل في المعنى، والعبرة للمعنى
لا للصورة.
ولو وكله أن يشتري ويشترط الخيار للموكل، فاشترى بغير خيار، لزم الشراء
الوكيل.
وإذا وكله بشراء شيء بعينه، فاشترى الوكيل غيره، يكون الموكل عند الحنفية
مخيراً بين القبول والرد، وعند الجمهور: إن الشراء لازم للوكيل.
وفي الجملة: إن القاعدة العامة هي أن الوكيل بالشراء إذا خالف أمر الموكل
يكون عند الحنفية مشترياً لنفسه إلا إذا كان خلافاً إلى خير فيلزم به
الموكل باتفاق الفقهاء، والوكيل بالبيع إذا خالف أمر الموكل يتوقف بيعه على
إجازة الموكل. والفرق بينهما كما عرفنا سابقاً: هو أن الوكيل بالشراء متهم
في جعل الشراء لنفسه، فينفذ عليه (1).
وبناء عليه: إذا وكله في شراء شاة بدينار فاشترى بالدينار شاتين يلزم
الموكل بهما عند الحنفية؛ لأنه خلاف إلى خير. وكذا يلزم الموكل بهما بلا
خيار عند المالكية. ويلزم بها عند الشافعية والحنابلةإن ساوت كل واحدة
منهما أو إحداهما ديناراً (2) عملاً بقصة عروة البارقي وكيل النبي صلّى
الله عليه وسلم.
_________
(1) المبسوط: 117/ 19.
(2) تكملة ابن عابدين: 311/ 7، مختصر خليل: ص 217، الخرشي: 75/ 6، المهذب:
355/ 1، تكملة المجموع: 584/ 13، المغني: 128/ 5.
- وإذا كانت الوكالة مطلقة فيراعى فيها الإطلاق ما أمكن إلا إذا قام دليل
__________
(5/4099)
على التقييد من عرف أو غيره، فيتقيد به.
وعليه إذا وكل رجلاً بشراء دابة وسمى نوعها وثمنها، بأن قال: حماراً أو
نحوه، فاشترى دابة عوراء، جاز الشراء ولزم الموكل، وكذا إذا اشترى دابة
عمياء أو مشلولة اليدين أو الرجلين، ألزم الموكل بالشراء عند أبي حنيفة؛
لأن اسم الدابة بإطلاقها يقع على هذه الدابة، كما يقع على سليمة الأعضاء،
فلا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل.
وقال الصاحبان: لا يلزم الموكل بهذا الشراء، ويلزم الوكيل به؛ لأن الدابة
تشترى لاستخدامها عرفاً وعادة، وغرض الاستخدام لايحصل عند فوات جنس
المنفعة، فيتقيد المشترى بالسلامة عن هذه الصفة بدلالة العرف.
وإذا وكِّل إنسان بشراء شيء وكالة صحيحة ولم يسمِّ له الموكل ثمناً، فاشترى
الوكيل الشيء بمثل القيمة، أو بأقل من القيمة، أو بزيادة يتغابن الناس في
مثلها، جاز الشراء على الموكل. وإن اشترى الوكيل بزيادة لا يتغابن الناس في
مثلها، يلزم الوكيل بالشراء؛ لأن الزيادة القليلة مما لا يمكن الاحتراز
عنها، فجاز الشراء على الموكل، حتى لا يضيق الأمر على الوكلاء، ولتأمين
حاجة الناس إلى الوكالات، وهذا هو الراجح لدى الحنفية.
وأما الزيادة الكثيرة فلا ضرورة فيها،
لإمكان الاحتراز عنها (1).
والضابط المميز بين الزيادة القليلة والكثيرة في الراجح عند الحنفية هو كما
عرفنا سابقاً: إن كانت الزيادة داخلة تحت تقويم المقومين لثمن الشيء، فهي
قليلة، وإن كانت غير داخلة تحت تقويمهم فهي كثيرة؛ لأن الزيادة حينئذ تكون
متحققة.
_________
(1) الخلاصة أن الشراء بالغبن الفاحش لاينفذ على المشتري باتفاق أئمة
الحنفية، أما البيع بغبن فاحش ففيه اختلاف، قال أبو حنيفة: ينفذ البيع على
الموكل عملاً بإطلاق التوكيل، وقال الصاحبان: لا ينفذ البيع؛ لأن المطلق
مقيد بالعرف، وهو الراجح.
(5/4100)
ومنعاً من الاختلاف: لا بد للموكل الذي
يوكل غيره بشراء شيء من تسمية جنسه وصفته، أو جنسه ومقدار ثمنه، إلا أن
يوكله وكالة عامة، فيقول: اشتر لي ما رأيت؛ لأنه فوض الأمر إلى رأيه، فأي
شيء يشتريه يكون ممتثلاً في رأي أبي حنيفة خلافاً للصاحبين إذ يتقيد بالعرف
والعادة (1).
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إذا كانت الوكالة بالشراء مطلقة، فيلزم
المشتري أن يشتري بثمن المثل، ولا يشتري بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن
الناس به من غير إذن الموكل؛ لأن الوكيل منهي عن الإضرار بالموكل، مأمور
بالنصح له، وفي الزيادة على ثمن المثل في الشراء إضرار وترك للنصح (2). ولا
يشتري شيئاً معيباً مع العلم بالعيب؛ لأن الموكل لم يأذن له بشراء المعيب،
وقد لا يتمكن الموكل من رد المبيع لهرب البائع، فيتضرر بذلك.
وإذا وُكل رجل بشراء شيء بعينه لا يملك أن يشتريه لنفسه، وإذا اشترى يقع
الشراء للموكل؛ لأن شراءه لنفسه عزل لنفسه عن الوكالة، وهو لا يملك العزل
إلا بمحضر من الموكل.
أما إذا وكل بشراء شيء بغير عينه، فيكون الشراء لنفسه، إلا أن ينويه
للموكل. والوكيل بالشراء لا يملك الشراء من نفسه، كما لا يملكه الوكيل
بالبيع، وهذا باتفاق الحنفية والشافعية والحنابلة وكذا المالكية؛ لأن حقوق
العقد كما عرفنا ترجع عند الحنفية والشافعية إلى الوكيل، ولا يمكن أن يكون
الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً، مطالِباً ومطالباً، ولأنه
متهم في الشراء من نفسه. وروي عن الإمام مالك: أنه يجوز للوكيل أن يشتري من
نفسه بثمن المثل فأكثر (3).
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 142/ 3، 147.
(2) بداية المجتهد: 298/ 2، الشرح الكبير: 382/ 3، المهذب: 354/ 1، المغني:
124/ 5.
(3) بداية المجتهد، المرجع السابق، المغني: 107/ 5 ومابعدها، الميزان
للشعراني: 85/ 2.
(5/4101)
ويجوز عند المالكية: أن يبيع الوكيل لزوجته
وولده الرشيد إذا لم يحابهما، كما يجوز له الشراء منهما مما وكل فيه إذا لم
يكن محاباة لهما وقت الشراء.
وكذلك لا يملك الشراء من أبيه وجده وولده وولد زوجته، وكل من لا تقبل
شهادته له عند أبي حنيفة. وأما عند الصاحبين: فيجوز إذا اشترى بمثل القيمة
أو بأقل أو بزيادة يتغابن الناس في مثلها. وقد ذكرت أدلة مختلف الآراء في
الوكالة بالبيع، وتعرف آراء المذاهب الأخرى في الشراء لنفسه وأصوله وفروعه
من حكم البيع لنفسه.
وإذا وُكل إنسان بشراء طعام، فيراد به الحنطة والدقيق بقرينة الشراء في
العرف.
وإذا وكل بشراء لحم ينصرف المقصود إلى اللحم الذي يباع في السوق، ويشتري
الناس منه في الأغلب من لحم الضأن والمعز والبقر والإبل إن جرت العادة
بشرائه، ولا ينصرف المراد إلى المشوي والمطبوخ إلا إذا كان مسافراً، ولا
إلى لحم الطير والوحش والسمك ولا إلى شاة حية ولا إلى مذبوحة غير مسلوخة،
لعدم جريان العادة بشرائه، ولا إلى البطن والكرش والكبد والرأس والكراع،
لأنها ليست بلحم عرفاً.
ولو وكل إنسان بشراء سمك، فيراد به الطري الكبير، لا المملح ولا الصغير،
لأن العادة كذلك.
ولو وكل بشراء الرأس، فيقصد منه الرأس النيء لا المطبوخ والمشوي ويحدد
المطلوب برأس الغنم دون الإبل والبقر إلا في موضع جرت العادة بما اشتراه.
ولو وكل بشراء فاكهة، فله أن يشتري أي فاكهة تباع في السوق عادة. وإذا
(5/4102)
وكل بشراء البيض فيراد به بيض الدجاج. وإذا
وكل بشراء لبن فيراد به ما يباع عادة في السوق من الغنم والبقر والإبل.
وبه يلاحظ أن المقصود فيما يوكل الإنسان بشرائه يتحدد بحسب العرف السائد
عادة وفعلاً بحسب كل زمان ومكان.
علاقة الوكيل بالشراء بموكله:
إذا دفع الوكيل بالشراء الثمن من ماله من غير صريح إذن الموكل وقبض المبيع،
فله أن يرجع به على الموكل لوجود الإذن دلالة؛ لأن حقوق العقد كما سأبين
لما كانت عائدة إلى العاقد وقد علم الموكل بالثمن، يكون راضياً بدفعه. فإن
هلك المبيع في يد الوكيل قبل حبسه عن الموكل، هلك من مال الموكل، ولم يسقط
الثمن؛ لأن يده كيد الموكل. وللوكيل بالشراء أن يحبس المبيع في يده حتى
يستوفي الثمن، وإن لم يكن قد دفعه بعد؛ لأنه مع الموكل بمنزلة البائع. فإن
حبسه لاستيفاء الثمن، فهلك في يده، كان مضموناً عليه ضمان الرهن عند أبي
يوسف، فيضمن الأقل من قيمته ومن الثمن، وضمان الغصب عند زفر فيجب مثله أو
قيمته بالغة ما بلغت، وضمان المبيع عند أبي حنيفة ومحمد، فيسقط الثمن
قليلاً كان أو كثيراً (1).
وأما علاقة الوكيل بمن تعامل معه لحساب الموكل فهي تنفيذ حقوق العقد، كدفع
الثمن والرد بالعيب ما دام المبيع في يده.
ثانياً ـ حقوق العقد وحكمه في الوكالة:
حقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها
للحصول على الغاية والغرض من
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 143/ 2، الهداية: 140/ 3، تكملة ابن عابدين: 304/ 7،
الدسوقي: 381/ 3، المهذب: 353/ 1، كشاف القناع: 460/ 3، 467.
(5/4103)
العقد، مثل تسليم المبيع، وقبض الثمن،
والرد بالعيب أو بخيار الرؤية أو الشرط، وضمان رد الثمن إذا استحق المبيع
مثلاً (1).
وقد اتفق الفقهاء على أن الوكيل إذا أضاف العقد إلى الموكل في العقود التي
تتم بالإيجاب والقبول كالبيع، تنصرف حقوق العقد إلى الموكل. فإن أضاف العقد
إلى نفسه، فالقاعدة العامة في التوكيل بالبيع والشراء: أن حقوق العقد ترجع
عند الجمهور إلى الوكيل، فهو الذي يلتزم بتسليم المبيع ويقوم بتسليمه فعلاً
وبقبضه، وهو الذي يقبض الثمن ويطالب به، ويخاصم في الرد بالعيب، ونحو ذلك.
وعند الحنابلة ترجع إلى الموكل، على تفصيل سيأتي قريباً.
قال الحنفية: الوكالة: منها ـ ما لا حقوق له إلا ما أمر به الوكيل،
كالوكالة بتقاضي الدين، والوكالة بالملازمة (2) ونحوهما.
ومنها ـ ما تعود حقوقه للوكيل، ومنها ما تعود حقوقه للموكل.
أـ والقاعدة العامة في هذا عند الحنفية
أن كل عقد لا يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل ويكتفي فيه بالإضافة إلى
نفسه: فحقوقه راجعة إلى العاقد، كالبياعات والأشرية والإجارات والصلح الذي
هو في معنى البيع (أي الصلح عن إقرار) فحقوق هذه العقود ترجع للوكيل وعليه،
مثل تسليم المبيع، وقبض الثمن، والمطالبة بالثمن إذا اشترى، وقبض المبيع،
والمخاصمة بالعيب.
فيجب عليه تسليم المبيع إلى المشتري، وقبض الثمن. وإذا وجد المشتري بالمبيع
عيباً فله أن يخاصم الوكيل، وإذا ظهر أن المبيع مستحق لغير البائع، فيجب
_________
(1) الاستحقاق: هو أن يدعي أحد ملكية شيء موجود في يد غيره ويثبتها
بالبينة، ويقضى له بها.
(2) هو أن يقول إنسان لآخر: وكلتك بأن تلازم فلاناً بمال لي عليه حتى يدفعه
لي، ويختار للملازمة عادة أسفه الناس ومن يتأذى المدين بملازمته.
(5/4104)
على الوكيل الضمان، إلا إذا كان العاقد ليس
من أهل لزوم العهدة (أي ليس أهلاً للمسؤولية والتزام الحقوق) كالصبي
المحجور عن التصرف، والقاضي، وأمين القاضي، ونحوهم، فحينئذ ترجع حقوق العقد
للموكل نفسه لا إلى الوكيل، وكذلك ترجع حقوق العقد للموكل، إذا أضاف الوكيل
العقد إلى الموكل.
وللوكيل أن يوكل غيره في تحمل حقوق العقد، وليس للموكل أن يباشر شيئاً منها
بنفسه ما دام الوكيل قائماً، فإذا طالب الموكل بالبيع المشتري بالثمن،
فللمشتري أن يمنعه من قبضه؛ لأنه أجنبي عن العقد وحقوقه؛ لأن الحقوق إلى
العاقد. فإن دفع المشتري الثمن إلى الموكل جاز؛ لأن نفس الثمن المقبوض
يعتبر حقه، وليس للوكيل أن يطالبه به ثانياً لعدم الفائدة لأنه لو أخذه منه
لوجب عليه إعادته له.
ب ـ وكل عقد يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل،
أي أن يذكر اسم الموكل في عبارته ليدل على أنه يتصرف له: فحقوقه
ترجع إلى الموكل كالنكاح، والطلاق على مال، والخلع، والصلح عن دم العمد،
والصلح عن إنكار المدعى عليه، ونحوها، فحقوق هذه العقود تكون للموكل وعليه،
والوكيل فيها يكون سفيراً ومعبراً محضاً، حتى إن وكيل الزوج في النكاح لا
يطالب بالمهر، وإنما يطالب به الزوج، إلا إذا ضمن المهر، فحينئذ يطالب به
بحكم الضمان، ووكيل المرأة في النكاح لا يملك قبض المهر، ولا يلزم وكيل
المرأة تسليمها. وكذا الوكيل بالخلع لا يملك قبض بدل الخلع إن كان وكيلاً
عن الزوج، وإن كان وكيلاً عن المرأة لا يطالب ببدل الخلع إلا بالضمان، وكذا
الوكيل بالصلح عن دم العمد.
جـ ـ وكذلك العقود التي لا تتم إلا بالقبض،
أي العقود العينية كالهبة والقرض والإعارة والرهن ونحوها لا بد من إضافتها
إلى الموكل وترجع الحقوق
(5/4105)
له، وإلا وقع العقد للوكيل. والسبب في أن
هاتين الفئتين من العقود لا بد فيها من نسبة العقد للأصيل: هو أنه يكون
للاعتبار الشخصي فيها المقام الأول.
هذا مذهب الحنفية (1)، ويذكرون في كتبهم كعادتهم في كثير من الأحيان: أن
الشافعية يخالفونهم، فيجعلون حقوق العقد
راجعة للموكل دون الوكيل (2)، إلا أن الواقع يوجب الاعتماد في نقل أحكام
المذاهب على الكتب المعتمدة عند أصحابها، ففي كتاب المنهاج للنووي نص صريح
على أن أحكام العقد أي (حقوقه) تتعلق بالوكيل دون الموكل (3)، فهم كالحنفية
في هذا.
وكذلك قال المالكية: ترجع حقوق العقد
للوكيل من قبض الثمن وغيره لا للموكل (4).
أما الحنابلة فيقولون: إن حقوق العقد
ترجع للموكل دون الوكيل؛ لأن الوكيل عندهم مجرد سفير ومعبر عن العاقد
الأصيل (5). وفي هذا الرأي إضاعة للغرض من الوكالة؛ لأن الموكل يوكل غيره
في أموره ليخفف من عناء مباشرته لها بنفسه أو لأنه لا يليق به أن يباشرها،
أو لعدم قدرته على القيام بها، فإذا عادت الحقوق للموكل نفسه لم يتحقق له
الغرض من الوكالة (6).
_________
(1) مختصر الطحاوي: ص 109، البدائع: 33/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 16/
6 ومابعدها، رد المحتار: 419/ 4، مجمع الضمانات: ص 243، الكتاب مع اللباب:
141/ 2.
(2) راجع البدائع مثلاً: 33/ 6، تبيين الحقائق للزيلعي: 256/ 4، تكملة فتح
القدير: 17/ 6.
(3) نهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي: 47/ 4، مغني المحتاج للخطيب
الشربيني: 230/ 2 ومابعدها، المهذب: 353/ 1.
(4) الشرح الصغير: 506/ 3 ومابعدها، المدونة الكبرى: 83/ 10، 186، ط 1323
هـ. قال العلامة خليل وشارحه الدردير: 382/ 3: وطولب الوكيل بالعهدة من عيب
أو استحقاق ما لم يعلم المشتري أنه وكيل (أي كالسمسار) وإلا فالطلب على
الموكل لا الوكيل إلا أن يكون مفوضاً أي فإن كان مفوضاً كان للعاقد الرجوع
عليه وعلى الموكل، كالشريك المفوض.
(5) كشاف القناع: 467/ 4، المغني: 97/ 5، غاية المنتهى: 156/ 3، مطالب أولي
النهى: 462/ 3.
(6) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 376.
(5/4106)
هذا الاختلاف بين المذاهب محصور فيما إذا
لم يصرح الوكيل بأن التعاقد لحساب الأصيل، فإن صرح بأن التعاقد باسم الأصيل
فالمذاهب مجمعة على ثبوت حكم العقد وحقوقه معاً تقع للأصيل دون النائب.
يستفاد من هذا البحث معرفة حقوق كل من الموكل
والوكيل وواجباتهما في البيع، ف واجبات
الموكل في الوكالة بالبيع: تحمل الخسارة العارضة إذا لم يكن تعد أو
تفريط، ودفع الأجر للوكيل إن كانت الوكالة بأجر ونفذ العمل، وحق الموكل:
تنفيذ الوكيل ما التزم به في حقه.
وواجبات الوكيل بالبيع: التقيد بالقيود
ومراعاة الشروط المبينة في الوكالة المقيدة، ومراعاة العرف والعادة في
الوكالة المطلقة.
وواجبات الموكل في الوكالة بالشراء: دفع
ثمن السلعة المشتراة، وتحمل الخسارة العارضة في التصرف الموكل فيه إذا لم
تكن بتعدٍ أو تفريط، ودفع أجر الوكيل إن كانت الوكالة بأجر.
وواجبات الوكيل بالشراء: الشراء بثمن
المثل عملاً بالعرف، وشراء السلعة السليمة من العيوب عند الجمهور غير أبي
حنيفة، وعليه عند الحنفية شراء الشيء المعين للموكل لا لنفسه وأقاربه،
وعليه عند المالكية فعل كل ما فيه مصلحة للموكل، فإن خالف الوكيل شروط
الموكل كان عند الحنفية مشترياً لنفسه.
وحقوق الوكيل بالشراء: الشراء بأقل مما
عينه له الموكل؛ لأنه خلاف إلى خير، والرجوع على الموكل بما دفع من ماله
ثمناً للسلعة المشتراة للموكل، وحبس ما اشتراه للموكل حتى يستوفي الثمن
منه، والرد بالعيب ما دام المعيب في يده.
حكم العقد: تكلمنا عن حقوق عقد الوكالة
التي ترجع إلى الوكيل عند الحنفية والشافعية. وقد رأينا من المناسب أن نذكر
حكم العقد هنا استطراداً.
(5/4107)
المراد بحكم العقد:
هو الغرض والغاية منه:
أـ ففي عقد البيع ونحوه مما يتوقف على الإيجاب
والقبول يكون الحكم: هو ثبوت الملكية في المبيع للمشتري وفي الثمن
للبائع. واتفق الفقهاء على أن حكم العقد الذي يتم بواسطة وكيل يقع للموكل
نفسه لا للوكيل؛ لأن الوكيل متكلم باسم الموكل وعاقد له، فهو قد استمد
ولايته منه. وينصرف حكم العقد للموكل عند الجمهور مطلقاً، سواء أضاف الوكيل
العقد لنفسه أم أسنده إلى الموكل. وعند المالكية: ينصرف الحكم للموكل إذا
أعلن الوكيل في العقد أنه يعمل لحساب موكله.
وتثبت الملكية للموكل مباشرة بمجرد تمام العقد أي من ابتداء الأمر دون حاجة
لثبوتها للوكيل أولاً، ثم انتقالها عنه لموكله، وهذا في المذاهب الأربعة؛
لأن الوكيل يعمل في الحقيقة لموكله وبأمره (1). ويترتب عليه أن المسلم لو
وكل ذمياً بشراء خمر أو خنزير لم يصح الشراء؛ لأن المسلم ليس له أن يتملك
شيئاً من هذين. هذا هو مذهب الحنفية لا ما تذكره كتب الحنابلة والمالكية من
أن مذهب أبي حنيفة أن الملكية تنتقل إلى الوكيل ثم إلى الموكل.
ب ـ العقود التي لا تتم إلا بالقبض كالهبة
والإعارة: يقع حكم العقد للموكل ولو أضاف الوكيل العقد لنفسه بأن
قال: وهبت أو أعرت هذا الشيء؛ لأن الوكيل في هذه العقود مجرد سفير ومعبر.
جـ ـ عقد الزواج: إذا أضاف العقد لموكله
بأن قال: تزوجك فلان، انصرف
_________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 256/ 4، الفرائد البهية في القواعد الفقهية
للشيخ محمود حمزة: ص 137، المغني لابن قدامة: 130/ 5، مغني المحتاج: 229/ 2
ومابعدها، بداية المجتهد: 298/ 2، المهذب: 356/ 1.
(5/4108)
حكمه إلى الموكل. وإذا أضافه إلى نفسه
فقال: تزوجتك، كان الزواج له لا لموكله.
د ـ الطلاق مثل الزواج في التفصيل السابق، إن كان وكيلاً عن الزوج، فإن كان
وكيلاً عن الزوجة، فلا بد من إضافة الطلاق إليها، فيقول: طلِّق فلانة على
كذا.
ثالثاً ـ حال المقبوض في يد الوكيل: اتفق الفقهاء على أن المقبوض في يد
الوكيل يعتبر أمانة بمنزلة الوديعة ونحوها؛ لأن يده نيابة عن الموكل بمنزلة
يد الوديع، فيضمن بما يضمن في الودائع، ويبرأ بما يبرأ فيها، ويكون القول
قوله في
دفع الضمان عن نفسه (1). ومجمل القول في سبب الحكم: هو أن الوكيل أمين فلا
ضمان عليه لموكله إلا إذا حدث منه تعد أو تفريط، ويتحمل الموكل الخسارة
العارضة إذا لم تكن بتعدٍ أو تفريط من الوكيل.
وبناء على هذه القاعدة ذكر ابن قدامة في المغني
حكم ستة أحوال يختلف فيها الوكيل والموكل عادة، أذكرها باختصار:
أحدها ـ أن يختلفا في تلف أو ضياع المال،
فقال الوكيل: تلف مالك في يدي، أو ضاع، فيكذبه الموكل، فالقول بالاتفاق قول
الوكيل مع يمينه، لأنه أمين، وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه، فلا يكلف
بالبينة كالوديع. واستثنى الحنابلة حالة ادعاء الوكيل التلف بأمر ظاهر
كالحريق والنهب ونحوهما، فعليه إقامة البينة على وجود التلف.
_________
(1) راجع البدائع: 34/ 6، مجمع الضمانات: ص 251، درر الحكام: 287/ 2، بداية
المجتهد: 299/ 2، الشرح الصغير: 519/ 3، مغني المحتاج: 230/ 2، المهذب:
357/ 1 ومابعدها، المغني: 94/ 5.
(5/4109)
ثانيها ـ أن يختلفا
في تعدي الوكيل أو تفريطه في الحفظ ومخالفته أمر الموكل،
مثل: أن يدعي عليه أنه حمل الدابة فوق طاقتها أو فرط في حفظها، أو أمره برد
المال فلم يفعل، ونحوها، فالقول قول الوكيل أيضاً مع يمينه، لأنه أمين كما
تقدم. والمشهور عند المالكية أن يحكم بقول الموكل (1).
والوكيل أمين سواء أكانت الوكالة بجعل أم بغير جعل؛ لأن الوكيل نائب عن
الموكل في اليد (أي الحيازة) والتصرف، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد
المالك، فلا يضمن ما تلف في يده بلا تعد.
ثالثها ـ أن يختلفا في التصرف، فيقول
الوكيل: بعت الثوب وقبضت الثمن، فتلف، فيقول الموكل: لم تبع ولم تقبض. أو
يقول: بعت ولم تقبض شيئاً، أي أن الخلاف إما في حدوث البيع، أو في قبض
الثمن بعد الاتفاق على البيع، فالقول قول الوكيل عند الحنابلة والحنفية؛
لأنه يملك البيع والقبض، فيقبل قوله فيهما (2).
وعند الشافعية قولان: أصحهما أنه يصدق قول الموكل بيمينه؛ لأن الأصل عدم
التصرف، وبقاء ملك الموكل (3).
رابعها ـ أن يختلفا في رد الشيء الموكل فيه إلى
الموكل، فيدعيه الوكيل وينكره الموكل، فالقول قول الوكيل عند أئمة
المذاهب الأربعة في الراجح منها، سواء أكانت الوكالة بجعل أم بغير جعل؛ لأن
الموكل ائتمنه، وإذا كانت الوكالة بجعل، فإن الوكيل ينتفع بالعمل بالعين لا
بالعين نفسها، فلم يكن قبضه لنفع نفسه كالمستعير (4).
_________
(1) بداية المجتهد: 299/ 2 ومابعدها.
(2) البدائع: 36/ 6، المغني: 95/ 5.
(3) مغني المحتاج: 235/ 2، المهذب: 357/ 1.
(4) البدائع، المرجع السابق، المبسوط: 10/ 19، المغني، المرجع السابق، ص96،
مغني المحتاج: 235/ 2، المهذب: 358/ 1، بداية المجتهد: 299/ 2.
(5/4110)
خامسها ـ إذا اختلفا
في أصل الوكالة، فقال الوكيل: وكلتني، فأنكر
الموكل، فالقول قول الموكل بيمينه في المذاهب الأربعة؛ لأن الأصل عدم
الوكالة، فلم يثبت أنه أمينه، ليقبل قوله عليه (1).
سادسها ـ أن يختلفا في صفة الوكالة بأن
يقول الوكيل: وكلتني في البيع نسيئة، أو الشراء بعشرين ليرة مثلاً، أو ببيع
هذا الكتاب، فقال الموكل: بل نقداً، أو بعشرة، أو هذا القلم، فالقول قول
الموكل بيمينه في المذاهب الأربعة؛ لأن الأصل عدم الإذن فيما ذكره الوكيل،
ولأن الموكل أعرف بحال الإذن الصادر منه (2).
وإن تنازعا في الثمن المدفوع للسلعة في الوكالة بالشراء فالقول عند الحنفية
قول الوكيل إن كان الشيء يساوي ما ادعاه الوكيل، وإن كان لا يساويه فالقول
قول الموكل. وقال الشافعية والحنابلة: القول قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه
أمين (3). وإن تنازعا في نوع الشيء المشترى كأن اشترى الوكيل تمراً فزعم
الموكل أنه أمره بشراء عنب، فالقول قول الوكيل مع يمينه. وقال المالكية: إن
اشترى الوكيل شيئاً بالثمن المدفوع له لشراء سلعة، فزعم الموكل أنه أمره
بشراء سلعة غيرها، فالقول قول الوكيل مع يمينه، وكذا إذا وكل شخص غيره ببيع
سلعة، فباعها بعشرة، وادعى أن الموكل أمره بذلك، وقال الموكل: بل أمرته
بأكثر من ذلك، فالقول قول الوكيل بيمينه (4).
_________
(1) المغني، المرجع السابق: ص97، مغني المحتاج: 233/ 2، الشرح الكبير: 393/
3.
(2) المراجع السابقة، الهداية: 147/ 3.
(3) الهداية: 144/ 3، تكملة المجموع: 606/ 13، المغني: 95/ 5.
(4) الشرح الكبير مع الدسوقي: 393/ 3، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: 521/
3 ومابعدها.
(5/4111)
المبحث الرابع ـ
تعدد الوكلاء قد يتعدد الوكلاء عن الشخص الواحد في
التصرفات والخصومات، أو المرافعة أمام القضاء كما يحدث عادة في كثير من
الأحيان، فيكون هناك وكيلان أو أكثر.
فإن وكل إنسان وكلاء متعددين كلاً في عقد خاص وأعمال خاصة، كان للواحد منهم
عند الحنفية أن يقوم بما وكل فيه وحده دون حاجة لاستشارة غيره. وإن كانت
الوكالة لعمل واحد كان لأي وكيل القيام به وحده أيضاً.
وإن كانت الوكالة للجميع في عقد واحد فليس لأحدهم ـ دون إذن الموكل ـ
الانفراد بالقيام بما وكلوا فيه، إلا إذا كان التصرف مما لا يحتاج لتبادل
الرأي كرد الودائع ووفاء الديون، أو مما لا يمكن الاجتماع فيه كالوكالة
بالخصومة، أي المرافعة أمام مجلس القضاء، وكالطلاق.
وأجاز المالكية تعدد وكلاء الخصومة بشرط موافقة الخصم على التعدد. ولم يجز
الشافعية لأحد وكلاء الخصومة المتعددين الانفراد بالخصومة؛ لأن الموكل لم
يرض إلا بتصرفهما معاً، وعند الحنابلة قولان: قول كالشافعية، وقول يجيز
الانفراد بالتصرف عرفاً (1).
هذه هي القواعد العامة لتعدد الوكلاء، وتطبيقها يظهر في استعراض أنواع
الوكالات فيما يأتي:
إذا كان التصرف مما يحتاج فيه لأخذ الرأي،
فليس لأحد الوكلاء أن يتصرف فيما وكلوا به دون الآخرين؛ لأن الموكل رضي
برأيهم المشترك، لا برأي
_________
(1) الشرح الصغير: 505/ 3، تكملة المجموع: 557/ 13، الفروع لابن مفلح
المقدسي: 693/ 3.
(5/4112)
أحدهم، فإذا وكل اثنان بالبيع، فلا يملك
أحدهما التصرف بدون صاحبه، ولو فعل لم يجز البيع حتى يجيزه صاحبه، أو
الموكل؛ لأن البيع يحتاج فيه إلى أخذ الرأي، والموكل رضي برأيهما، لا برأي
أحدهما.
وإذا وكل اثنان بالشراء فلا يملك أحدهما الانفراد بالتصرف إلا أنه في
الشراء إذا اشترى أحدهما بدون وجود الآخر ينفذ العقد على المشتري، ولا يقف
على الإجازة، بخلاف البيع؛ لأن الوكيل بالشراء متهم بمراعاة مصلحته كما
عرفنا.
وإذا وكل اثنان بعقد الزواج أو الطلاق على مال ونحوهما من كل عقد فيه عوض
مالي، فلا يملك أحدهما إجراء العقد بدون الآخر؛ لأن الأمر هنا يحتاج إلى
تبادل وجهات النظر وأخذ الآراء.
والوكيلان بقبض الدين لا يملك أحدهما أيضاً أن يقبض دون وجود صاحبه؛ لأن
قبض الدين مما يحتاج إلى أخذ الرأي والأمانة، وقد فوض الموكل الرأي لهما،
لا إلى أحدهما، ورضي بأمانتهما، لا بأمانة أحدهما.
وأما إذا كان التصرف مما لا يحتاج فيه لأخذ
الرأي، فيملك أحد الوكيلين أن ينفرد بالتصرف دون الآخر، مثل
الوكيلين بالطلاق بغير عوض، أو برد الوديعة أو قضاء الدين، فينفرد أحدهما
بالتصرف فيما وكلا به؛ لأن هذه التصرفات مما لا يحتاج فيها إلى أخذ الرأي،
وإنما هي تعبير محض، وعبارة الواحد أو أكثر سواء.
وأما الوكيلان بالخصومة أي القيام بالمرافعة فعلاً أمام المحكمة فكل واحد
منهما يتصرف بانفراده عند جمهور الحنفية؛ لأن الاجتماع فيها في وقت واحد
أمر متعذر؛ لأن الغرض من الخصومة إعلام القاضي بما يملكه الخصم من وسائل
الدفاع واستماع القاضي إليها، واجتماع الوكيلين على الدفاع يخل بالإعلام
والاستماع، كما هو واضح. أما إعداد المذكرات للدفاع بها فيمكن طبعاً
الاجتماع على
(5/4113)
تحضيرها، كما يمكن تقسيم الدفاع على
المحامين الموكلين فيما بينهم، فيقوم كل واحد منهما بقسم منه.
وقال زفر: لا ينفرد أحد الوكيلين بالخصومة بالقيام بها دون الآخر؛ لأن
الخصومة مما تحتاج إلى أخذ الرأي، ولم يرض الموكل برأي أحدهما (1).
وقال الجمهور (2) (المالكية والشافعية والحنابلة): إذا تعدد الوكلاء فليس
لأحدهم الانفراد بالتصرف بدون مشاورة الآخر؛ لأنه لم يرض بتصرف أحدهما دون
الآخر، إلا إذا أذن لهما الموكل بإفراد التصرف، فيجوز لكل واحد منهما أن
يستقل بالتصرف.
المبحث الخامس ـ طرق انتهاء الوكالة
صفة عقد الوكالة: اتفق الفقهاء (3) على
أن عقد الوكالة بغير أجر جائز غير لازم بالنسبة للعاقدين، أما من جانب
الموكل: فلأنه قد يرى المصلحة في ترك ما وكل فيه، أو في توكيل شخص آخر.
وأما من جانب الوكيل: فلأنه قد لا يتفرغ لأعمال الوكالة، فيكون لزوم العقد
مضراً بالطرفين. وبناء عليه، لكل من طرفي عقد الوكالة الرجوع عنه متى شاء،
وتنتهي حينئذ الوكالة. وأذكر هنا طرق انتهاء الوكالة.
وأما الوكالة بأجر: فإن كانت على سبيل
الجعالة بأن لم يعين في العقد الزمن أو العمل فهي غير لازمة أيضاً
بالاتفاق، إلا أن المالكية قالوا: تلزم الجاعل فقط بعد الشروع في العمل.
_________
(1) انظر البدائع: 32/ 6، تكملة فتح القدير: 86/ 6 - 88.
(2) الخرشي: 82/ 6 ط ثانية، المهذب: 351/ 1، المغني: 87/ 5.
(3) البدائع: 37/ 6، تكملة ابن عابدين: 351/ 7، الحطاب: 215/ 5، بداية
المجتهد: 297/ 2، مغني المحتاج: 231/ 2 ومابعدها، المهذب: 356/ 1، المغني:
113/ 5، الشرح الكبير مع الدسوقي: 396/ 3 ومابعدها، الدر المختار: 433/ 4،
وانظرحالات لزوم الوكالة المستثناة في كل مذهب من المذاهب ما عدا الحنابلة
في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة: 278/ 3 - 282.
(5/4114)
وإن كانت على سبيل الإجارة بأن عين الزمن
والعمل كالبياع والسمسار، فهي لازمة عند الحنفية وفي المشهور لدى المالكية؛
وغير لازمة عند الشافعية والحنابلة.
وتنتهي الوكالة بأمور كثيرة وهي (1):
1 - عزل الموكل وكيله: تنتهي الوكالة
بالاتفاق بعزل الموكل وكيله؛ لأن الوكالة كما عرفنا عقد غير لازم، فكان
بطبيعته قابلاً للفسخ بالعزل، ولكن يشترط لصحة العزل عند الحنفية والمالكية
شرطان:
أحدهما ـ أن يعلم الوكيل بالعزل؛ لأن العزل فسخ للعقد، فلا يلزم حكمه إلا
بعد العلم به كالفسخ. والعلم بالعزل يتم إما بحضور الوكيل، أو بالكتابة له،
أو بإرسال رسول إليه، أو بإخبار رجلين أو رجل واحد عدل، أوغير عدل وصدقه
بالعزل. وأما قبل العلم بالعزل، فتكون تصرفات الوكيل كتصرفاته قبل العزل في
جميع الأحكام.
وهذا الشرط مشروط أيضاً في الأرجح عند المالكية وفي رواية عن الإمام أحمد:
والسبب في اشتراط هذا الشرط: هو أن العزل يترتب عليه إضرار بالوكيل من
ناحيتين: أولهما ـ أنه يترتب عليه إبطال ولايته بالعزل. وثانيهما ـ أنه
يكون متحملاً لحقوق العقد، فيدفع الثمن إن كان وكيلاً بالشراء، ويسلم
المبيع إن كان وكيلاً بالبيع.
وقال الشافعي في الأصح عنده، وأحمد في الرواية الثانية عنه وهي الراجحة في
مذهبه: لا يشترط هذا الشرط، فلو عزل الموكل وكيله في حضوره أو أثناء غيبته
_________
(1) راجع مذهب الحنفية في البدائع: 37/ 6 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص109،
تكملة فتح القدير: 123/ 6 ومابعدها، المبسوط: 12/ 19 ومابعدها، الدر
المختار: 434/ 4، الكتاب مع اللباب: 145/ 2، تكملة ابن عابدين: 308/ 7.
(5/4115)
انعزل في الحال، لأنه رفع عقد لايفتقر إلى
رضا صاحبه، فلا يحتاج إلى علمه كالطلاق، وقياساً على ما لو وكل شخص غيره،
وكان الوكيل غائباً (1).
واتفقت المذاهب على أنه في حال عزل الوكيل نفسه عن الوكالة يشترط إخبار
الموكل بالأمر، صيانة لحق الموكل، ومنعاً من التغرير به.
ثانيهما ـ ألا يتعلق بالوكالة حق للغير، فإذا تعلق حق للغير بها لم يصح
العزل بغير رضا صاحب الحق، مثل وكيل المدين ببيع الرهن لسداد الدين عند
حلول الأجل، فإنه لا يملك المدين الموكل عزل وكيله هذا إلا برضا الدائن،
لتعلق حقه بالوكالة إذ أنه يريد أخذ دينه عن طريق بيع العين. ومثل وكيل
الزوج بطلاق زوجته متى شاء، فإنه لا يملك الزوج الموكل الرجوع عن وكالته
إلا برضا المرأة. ومثل الوكالة بالخصومة بطلب الدائن عند غيبة المدين، كأن
يكون لشخص عند آخر دين، ثم يعزم المدين السفر إلى بلاد بعيدة، فيطلب صاحب
الدين من المدين أن يوكل عنه شخصاً ليخاصمه في طلب الدين حال غيابه، فوكل
عنه بناء على هذا الطلب، فيصبح هذا لوكيل غير قابل للعزل، لأنه قام مقام
المدين الغائب، وليس لصاحب الدين من يطالبه بدينه سواه، فلو عزله ضاع عليه
حقه.
2 - تصرف الموكل فيما وكل به: أي أن
يقوم الموكل صاحب الشأن بالعمل الذي وكل فيه غيره، كأن يوكل إنسان غيره
ببيع شيء ثم يبيعه الموكل، فتنتهي الوكالة بالاتفاق (2)؛ لأن العقد يصبح
حينئذ غير ذي موضوع، فينعزل الوكيل وإن لم يعلم بالعزل.
3 - انتهاء الغرض من الوكالة: وهو أن
يتم تنفيذ التصرف الذي وكل فيه الوكيل، لأن العقد يصبح حينئذ غير ذي موضوع.
_________
(1) بداية المجتهد: 298/ 2، الشرح الكبير: 396/ 3، مواهب الجليل 214/ 5
ومابعدها، مغني المحتاج: 232/ 2، المهذب: 356/ 1، المغني: 113/ 5 ومابعدها،
غاية المنتهى: 155/ 2، القوانين الفقهية: ص 329.
(2) المبسوط: 50/ 19، الشرح الصغير: 523/ 3، كشاف القناع: 457/ 3.
(5/4116)
4 - خروج الموكل أو
الوكيل عن الأهلية: بموت بالاتفاق أو جنون مطبق (1)
عند الجمهور خلافاً للشافعية، أو حجر عليه لسفه باتفاق المذاهب الأربعة،
وألحق الشافعية الإغماء بالجنون في الأصح عندهم. وقال غيرهم: الإغماء لا
يخرج عن أهلية التصرف. ولا يشترط عند الحنفية والشافعية والحنابلة أن يعلم
العاقد بخروج الطرف الآخر عن الأهلية بهذه العوارض (2). وقال المالكية:
الأرجح أن الوكيل لا ينعزل بموت الموكل حتى يعلم به (3).
واختلف أبو يوسف ومحمد في حد الجنون المطبق، فقال أبو يوسف: هو ما استوعب
شهراً؛ لأن الشهر يسقط به صوم شهر رمضان.
وقال محمد: هو ما استوعب حولاً كاملاً؛ لأن الحول يسقط به جميع العبادات
فيقدر به احتياطاً. قال قاضي زاده صاحب تكملة فتح القدير: والمختار ما قاله
أبو حنيفة أنه مقدر بالشهر؛ لأن ما دون الشهر في حكم العاجل، فكان قصيراً،
والشهر فصاعداً في حكم الآجل، فكان طويلاً، قال صاحب الدر: وبه يفتى.
5 - لحاق الموكل مرتداً بدار الحرب: هذه الحالة عند أبي حنيفة؛ لأنه يصير
حينئذ من أهل الحرب. وقال الصاحبان: لا تنتهي الوكالة بذلك؛ لأن تصرفات
المرتد عندهما نافذة، فلا تبطل الوكالة إلا بموته أو بقتله بسبب ردته، أو
بحكم القاضي بلحاقه. وأما مذهب أبي حنيفة في هذا فهو أن تصرفات المرتد
موقوفة عنده، ومنها الوكالة، فإن أسلم الموكل نفذت، وإن قتل على الردة أو
لحق بدار الحرب بطلت الوكالة.
_________
(1) المطبق: أي الدائم، ومنه الحمى المطبقة أي الدائمة التي لا تفارق ليلاً
ولا نهاراً. وقد اشترط الجمهور كون الجنون مطبقاً، وقال الشافعية: تنتهي
الوكالة بالجنون وإن زال عن قرب.
(2) البدائع: 38/ 6، تكملة فتح القدير والعناية: 126/ 6 ومابعدها، مغني
المحتاج: 232/ 2، المغني: 113/ 5، المهذب: 357/ 1، المبسوط: 13/ 19.
(3) بداية المجتهد: 298/ 2، الشرح الكبير: 396/ 3، مغني المحتاج: 232/ 2،
المغني: 113/ 5، القوانين الفقهية: ص 329.
(5/4117)
وأما الوكيل إذا لحق بدار الحرب مرتداً
فإنه لا يخرج عن الوكالة باتفاق الحنفية إلا أن يقضي القاضي بلحاقه، لكن
بمجرد لحوقه لا يجوز له التصرف إلا أن يعود مسلماً، فإن عاد مسلماً من دار
الحرب إلى دار الإسلام قال محمد: تعود الوكالة إليه لزوال المانع من
التصرف. وقال أبو يوسف: لا تعود الوكالة؛ لأنه بلحاقه بدار الحرب يلحق
بالأموات، فيبطل ما ملكه من ولاية تنفيذ التصرف على الموكل، وإذا بطلت
الولاية بطل التوكيل، وإذا بطلت الولاية لا تعود.
وقال المالكية: ينعزل الوكيل بردته أيام الاستتابة، وأما بعدها فإن قتل
انعزل، وإن أخر قتله لمانع كوجود حمل عند المرأة، فإن العلماء ترددوا في
عزله، وكذا ينعزل بردة الموكل بعد مضي أيام
الاستتابة، ولم يرجع ولم يقتل لمانع (1).
وقال الشافعية والحنابلة: لا تبطل الوكالة بردة الوكيل، سواء لحق بدار
الحرب أو أقام بدار الإسلام؛ لأن الردة لا تمنع ابتداء وكالته، فلم تمنع
استدامتها كسائر أنواع الكفر. وأما ارتداد الموكل فلا يبطل الوكالة فيما له
التصرف فيه عند الحنابلة، وهو الظاهر عند الشافعية لعدم زوال ملكه (2).
6 - عزل الوكيل نفسه أو أن يخرج الوكيل نفسه من
الوكالة: إذا قال الوكيل: عزلت نفسي أو رددت الوكالة أو خرجت منها
ونحوها انعزل (3)، لدلالة ذلك عليه. وقد اشترط الفقهاء لانتهاء الوكالة مما
ذكر أن يعلم الموكل بهذا، حتى لا يتضرر مما فعل الوكيل.
وذكر المالكية أن للوكيل بغير أجر أن يعزل نفسه متى شاء إلا حيث يمنع موكله
من عزل نفسه.
7 - هلاك العين الموكل بالتصرف فيها:
تنتهي الوكالة أيضاً باتفاق
_________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 396/ 3.
(2) المغني: 116/ 5، كشاف القناع: 458/ 3، مغني المحتاج: 219/ 2، تحفة
المحتاج: 341/ 5، المهذب: 357/ 1.
(3) مغني المحتاج: 232/ 2، القوانين الفقهية: ص 329.
(5/4118)
الفقهاء (1) بهلاك العين التي وكل فيها
إنسان بالتصرف فيها بالبيع أو الشراء، أو الإيجار مثلاً؛ لأن العقد يصبح في
هذه الحالة غير ذي موضوع، فيكون التصرف في المحل المعقود عليه غير متصور
بعد هلاكه، والوكالة بالتصرف فيما لا يحتمل التصرف محال، فتبطل الوكالة.
8 - خروج الموكل فيه عن ملك الموكل: كأن
وكله ببيع منزل فصادرته الدولة، فتزول الوكالة (2).
9 - الإفلاس: تنتهي الوكالة بإفلاس
الموكل إذا كانت الوكالة بأعيان ماله؛ لأنه بالإفلاس ينتقل مال الموكل
لغرمائه (3).
10 - الجحود: تنتهي الوكالة عند الحنفية
والشافعية بحجودها من الموكل أو الوكيل؛ لأن الجحود بمثابة رد الوكالة. ولا
تبطل الوكالة عند الحنابلة بالجحود (4).
11 - التعدي: تنتهي الوكالة في أحد
وجهين عند الشافعية بتعدي الوكيل في التصرف الموكل فيه، كأن يوكله ببيع ثوب
فيلبسه؛ لأن الوكالة عقد أمانة تبطل بخيانة الوكيل فيها. وفي الوجه الثاني
لا تبطل، وإنما تبطل الأمانة ويصير ضامناً، ويبقى التصرف (5)، ويظهر لي أن
الوجه الثاني أصح وهو رأي الحنابلة.
12 - الفسق: تبطل الوكالة عند الشافعية
والحنابلة بفسق الوكيل في عقد ينافيه الفسق كإيجاب في الزواج لخروجه عن
أهلية التصرف (6)، بخلاف قبول الزواج أو الشراء.
13 - الطلاق: قال المالكية: ينعزل الزوج
عن وكالته لزوجته بالطلاق إذا طلقها؛ لأن الطلاق بيده، ولا تنعزل الزوجة عن
وكالتها بطلاقه لها، إلا أن يعلم
_________
(1) الفتاوى الهندية: 493/ 3، المغني: 116/ 5.
(2) المبسوط: 50/ 19، مغني المحتاج: 232/ 2، المغني: 116/ 5.
(3) الدسوقي: 396/ 3، المغني والشرح الكبير: 213/ 5.
(4) تكملة رد المحتار: 387/ 7، مغني المحتاج: 233/ 2، كشاف القناع: 458/ 3.
(5) المهذب: 357/ 1، تكملة المجموع: 600/ 13.
(6) تكملة المجموع: 566/ 13، كشاف القناع: 457/ 3.
(5/4119)
من الموكل كراهة ذلك منها. وقال الحنابلة:
لا تبطل الوكالة بطلاق امرأة وكلها زوجها بشيء (1).
14 - مضي الوقت: تنتهي الوكالة بمضي
المدة المحددة لها كعشرة أيام مثلاً عند المالكية والشافعية والحنابلة، ولا
تنتهي به على الأصح عند الحنفية (2).
هذه هي أهم الحالات التي تنتهي بها الوكالة عند الفقهاء، وهي فيما عدا حالة
العزل تنتهي بها الوكالة على رأي الحنفية، سواء علم بها الوكيل أم لم يعلم.
انتهى الجزء الخامس
ويتبعه الجزء السادس
تتمة العقود وما يتعلق بها
الملكية وتوابعها
_________
(1) الدسوقي: 396/ 3، كشاف القناع: 470/ 3.
(2) تكملة رد المحتار: 393/ 7، مغني المحتاج: 233/ 2، كشاف القناع: 460/ 3.
(5/4120)
|