الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ العاشِر: الكَفَالة الكفالة والحوالة والرهن هي عقود الاستيثاق، تبحث تباعاً.
خطة الموضوع وأسماء الكفالة:
الكفالة لها أسماء وهي: كفالة وحمالة وضمانة وزعامة. ويقال للملتزم بها: ضمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وصبير. قال الماوردي من كبار الشافعية: غير أن العرف جار بأن الضمين مستعمل في الأموال، والحميل الديات، والزعيم في الأموال العظام، والكفيل في النفوس، والصبير في الجميع. والشائع الاستعمال أن الكفالة بالدين تسمى الضمان، والكفالة بإحضار الملزم بحق من دين أو قصاص وغيرهما تسمى كفالة بالنفس، أو الكفالة بالوجه.
والكلام عن هذا العقد في المباحث الخمسة الآتية:

المبحث الأول ـ مشروعية الكفالة وتعريفها وركنها وألفاظها.
المبحث الثاني ـ شرائط صحة الكفالة.
المبحث الثالث ـ أحكام الكفالة.
المبحث الرابع ـ انتهاء الكفالة.
المبحث الخامس ـ رجوع الكفيل على الأصيل (المكفول عنه).

(6/4141)


المبحث الأول: مشروعية الكفالة وتعريفها وركنها وألفاظها:
مشروعية الكفالة: الكفالة في الجملة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72/ 12] قال ابن عباس: الزعيم: الكفيل.
وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام: «الزعيم غارم» رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه (1). وجاء في صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بجنازة رجل ليصلي عليه، فقال: «هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران (2).
فقال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي صلّى الله عليه وسلم» (3).
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة لحاجة الناس إليها ودفع الضرر عن المدين (4). وإنما اختلفوا في بعض الفروع التي ستذكر إن شاء الله تعالى. ويلاحظ أن الكفالة بالنية الحسنة تكون طاعة يثاب عليها
_________
(1) روي عن ثلاثة من الصحابة وهم: أبو أمامة الباهلي، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وقد تقدم تخريجه (انظر جامع الترمذي: 295/ 6، ط حمص).
(2) وفي لفظ: ثلاثة دنانير.
(3) أخرجه البخاري وأحمد والنسائي وابن حبان عن سلمة بن الأكوع، وروى أحمد وأصحاب السنن إلا أبا داود هذه القصة من حديث أبي قتادة. وصححه الترمذي، وقال فيه النسائي وابن ماجه: فقال أبو قتادة: «أنا أتكفل به» هذا صريح في الإنشاء لا يحتمل الإخبار بما مضى. وروى القصة أيضاً أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم عن جابر بن عبد الله. وفي موضوع القصة روى الدارقطني والبيهقي حديثاً عن أبي سعيد الخدري بأسانيد ضعيفة، وفي موضوعها أيضاً روى البزار ورجاله رجال الصحيح حديثاً عن أبي هريرة. ورواية القصة بأن الدين كان درهمين وأن الكفيل كان علياً بن أبي طالب رواية ضعيفة، كما قال ابن حجر (راجع التلخيص الحبير: ص 250 ومابعدها، مجمع الزوائد: 127/ 4، سبل السلام: 62/ 13، نيل الأوطار: 237/ 5 ومابعدها).
(4) سبل السلام:62/ 3، المبسوط: 160/ 19 ومابعدها، مغني المحتاج: 198/ 2، المغني: 534/ 4.

(6/4142)


فاعلها. أما في الواقع، فأولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها
غرامة (1)، فبعد تمامها في أول الأمر يلوم الكفيل نفسه أو يلومه الناس، وعند المطالبة بالمال يندم على إتلافه لماله، ثم بعدئذ يغرم المال.

وحكمة تشريعها: توثيق الحقوق وتحقيق التعاون بين الناس وتيسير معاملاتهم في إقراض الديون والأموال وإعارة الأعيان، ليطمئن صاحب الحق في الدين أو العين المعارة للوصول إلى حقه ورعاية مصالحه، ودفع الحرج عن الناس.
تعريفها: الكفالة لغة كما في كتب الحنفية والحنابلة: هي الضم. وفي كتب الشافعية: هي الالتزام. واصطلاحاً في الأصح عند الحنفية: هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة مطلقاً أي ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المدين في المطالبة بنفس أو بدين أو عين كمغصوب ونحوه، فلا يثبت الدين في ذمة الكفيل، ولا يسقط عن الأصيل (2).
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: الكفالة: هي ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق أي في الدين، فيثبت الدين في ذمتهما جميعاً، كما جاء في المغني لابن قدامة الحنبلي (3).
ويلاحظ أنه ليس من ضرورة ثبوت الدين في ذمة الكفيل مع بقائه في ذمة الأصيل أن يترتب عليه زيادة حق للدائن؛ لأن الدين وإن ثبت في ذمة الكفيل، فلا يحق لرب الدين إلا استيفاء قيمة واحدة: إما من الكفيل أو من الأصيل.
_________
(1) قال بعض أصحاب القفال الشافعي: إن في التوراة مكتوباً: إن الكفالة مذمومة، أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة.
(2) راجع فتح القدير: 389/ 5، البدائع: 2/ 6، الدر المختار: 260/ 4.
(3) راجع الشرح الكبير: 329/ 3، مغني المحتاج: 198/ 2، المغني: 534/ 4.

(6/4143)


كما يلاحظ أيضاً أنه لا مانع من ثبوت الدين في أكثر من ذمة؛ لأن الدين أمر اعتباري من الاعتبارات الشرعية، فجاز أن يعتبر الشيء الواحد في ذمتين، وإنما الممتنع هو ثبوت عين في زمن واحد في ظرفين حقيقيين.
والدليل على ثبوت الدين في ذمة الكفيل أنه لو وهب الدين للكفيل صحت الهبة، وأن الكفيل يرجع بالدين على الأصيل مع أن هبة الدين لغير من عليه الدين لا تجوز. ويصح أيضاً للدائن أن يشتري شيئاً من الكفيل بالدين الذي له، مع أن الشراء بالدين من غير من عليه الدين لا يصح.
وأما دليل الحنفية على مذهبهم: فهو أن الدين وإن أمكن شرعاً اعتباره في ذمتين لا يجب الحكم بوقوع كل ممكن إلا بموجب، ولا موجب هنا؛ لأن التوثق بالدين يحصل بثبوت حق المطالبة، وأجابوا عن صحة الهبة ونحوها بأنهم جعلوا الدين في حكم الدينين لضرورة تصحيح تصرف صاحب الحق (1).
ومن أدلة الحنفية أيضاً أن الكفالة كما تصح بالمال تصح بالنفس مع أنه لا دين فيها، والمضمون بالكفالة بالنفس هو إحضار المكفول به، وكما تصح بالدين تصح بالأعيان المضمونة، وتعريف الكفالة بما يفيد ثبوت حق المطالبة فيها هو من أجل شمول جميع هذه الأنواع بخلاف ما لو قصرنا معناها على الضم في الدين، فإنه يراد بها الكفالة بالمال فقط. والخلاصة: إن تعريف الكفالة بالضم في المطالبة أعم لشموله أنواع الكفالة: وهي الكفالة بالمال وبالنفس وبالأعيان، وهو معنى كون هذا التعريف أصح.
وأما من عرفها بالضم في الدين فإنه أراد تعريف نوع منها وهو الكفالة بالمال. وأما النوعان الآخران فمتفق على كون الكفالة بهما كفالة بالمطالبة. فيكون
_________
(1) المراجع السابقة.

(6/4144)


تصحيح الحنفية للتعريف الذي اختاروه مقبولاً من هذه الزاوية فقط وهي كونه أعم وأشمل لأنواع الكفالة الثلاث.
أما من ناحية الواقع بالنسبة لأحكام الكفالة فقد استظهر ابن عابدين أن الفقهاء متفقون على ثبوت الدين في ذمة الكفيل مع بقائه في ذمة الأصيل، بدليل الاتفاق على صحة هبة الدين والشراء به كما عرفنا، ولأن اعتبار الدين في ذمتين ممكن كما تقدم، ولو كانت الكفالة ضَمّاً في المطالبة فقط بدون دين لزم ألا يؤخذ المال من تركة الكفيل؛ لأن المطالبة تسقط عنه بموته كالكفيل بالنفس، مع أن المنصوص عليه حتى عند الحنفية هو أن المال يحل بموت الكفيل، ويؤخذ من تركته. وبدليل أنه يجوز أن يكفل الكفيل كفيل آخر بالمال المكفول به.
وتظهر ثمرة الخلاف بين التعريفين فيما إذا حلف الكفيل ألا دين عليه، فإنه يحنث إذا قلنا بأن الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في الدين، ولا يحنث إذا قلنا بأنها ضم في المطالبة (1).

ركن الكفالة: ركن الكفالة عند أبي حنيفة ومحمد: هو الإيجاب والقبول أي الإيجاب من الكفيل، والقبول من الدائن (2).
وقال أبو يوسف وجمهور الفقهاء: ركن الكفالة هو الإيجاب وحده. وأما القبول فليس بركن.
وعلى هذا تتم الكفالة بالكفيل وحده في الكفالة بالمال والنفس، ولا يشترط عند جمهور الفقهاء قبول المكفول له وهو الدائن، ولا رضاه لعدم التعرض للقبول في حديث أبي قتادة السابق ذكره، فإنه صحت الكفالة بمجرد أن قال أبو قتادة: هما
_________
(1) راجع رد المحتار على الدر المختار: 261/ 4.
(2) فتح القدير: 390/ 5،البدائع: 2/ 6، الدر المختار، المرجع السابق، مجمع الضمانات: ص 275.

(6/4145)


علي يا رسول الله، فصلى عليه، ولم ينقل أنه قبل الدائن. ولأن الكفالة ضم لغة والتزام المطالبة بما على الأصيل شرعاً، ومعنى الضم والالتزام يتم بإيجاب الكفيل، فأشبه النذر (1).
وقال أبو حنيفة ومحمد: يشترط رضا المكفول له، كما سيأتي في شروط الكفالة.
وأما رضا المكفول عنه أي الأصيل فلا يشترط بالاتفاق بين العلماء؛ لأن قضاء دين الغير بغير إذنه جائز، فالتزامه أولى، ولأنه يصح الضمان عن الميت اتفاقاً ما عدا أبا حنيفة وإن لم يترك وفاء لدينه أي كان مفلساً. وأركان الكفالة أو الضمان عند الجمهور (2) أربعة: ضامن (وهو كل من يجوز تصرفه في ماله فلا يجوز ضمان الصغير ولا السفيه). ومضمون (وهو كل حق تصح النيابة فيه، وهو الدين أو العين المضمونة، وذلك في الأموال، لا في الحدود ولا في القصاص؛ لأنه لا تصح النيابة فيه) ومضمون عنه (وهو كل مطلوب بمال، حياً كان أو ميتاً) وصيغة (إيجاب) وأضاف الشافعية ركناً خامساً وهو المضمون له (وهو مستحق الدين).

ألفاظ الكفالة: تنعقد الكفالة بصيغة معينة، وألفاظها عند الحنفية والشافعية: إما صريح أو كناية: وهي كل لفظ ينبئ عن العهدة في العرف والعادة (3).
الصريح: أن يقول الكفيل: تكفلت أو ضمنت أو أنا ضامن ما عليه، أو أنا زعيم، أو قبيل، أو هو إلي أو علي، أو لك عندي، أو لك قبلي، أو على أن أوافيك به، أو على أن ألقاك به، أو دعه إلي.
_________
(1) مغني المحتاج: 200/ 2، المهذب: 340/ 1، المغني: 535/ 5.
(2) القوانين الفقهية: ص 325، مغني المحتاج: 198/ 2، غاية المنتهى: 104/ 2.
(3) فتح القدير: 292/ 5، البدائع، المرجع السابق، الدر المختار: 264/ 4، مجمع الضمانات: ص 265، مغني المحتاج، المرجع السابق: ص 206، حاشية قليوبي وعميرة: 330/ 2.

(6/4146)


والكناية: أن يقول: خل عن فلان، والدين الذي عليه عندي، أو دين فلان إلي، أو ضمنت فلاناً، أو ضمان فلان علي، فإن نوى المال، أو البدن لزم وإلا لغا. وإذا قال: لفلان عندي كذا، فهو يحتمل كونه وديعة ويحتمل كونه في الذمة، لأن كلمة (عند) تفيد القرب والحضرة، وهو موجود في المعنيين السابقين، فإذا أطلق اللفظ يحمل على كونه وديعة في يده، وعند قرينة الدين يحمل على ما في الذمة أي في ذمتي؛ لأن الدين لا يحتمله إلا الذمة.

والكفالة نوعان: كفالة بالنفس وكفالة بالمال. وتنعقد الكفالة بالنفس إذا قال الكفيل: تكفلت بنفس فلان أو برقبته أو بروحه أو بجسده أو برأسه أو ببدنه، وكذا إذا قال: بنصفه أو بثلثه، أو بجزء منه؛ لأن القاعدة الفقهية: «ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله» فيكون كفيلاً بكله؛ لأنه مما لا يتجزأ (1) بخلاف ما إذا قال: بيد فلان أو برجله. وكذا تنعقد إذا قال: ضمنته، أو قال: علي، أو قال: أنا زعيم به أو قبيل، بخلاف قوله: أنا ضامن بمعرفته.
أحوال ركن الكفالة: الاتفاق على الكفالة إما أن يكون مطلقاً أو مقيداً بوصف، أو معلقاً بشرط، أو مضافاً إلى وقت (2).
أـ إن كانت الكفالة مطلقة: فتجوز بالشروط التي ستذكر، غير أنها تتقيد بوصف الدين: فإن كان حالاً كانت الكفالة حالة، وإن كان مؤجلاً كانت الكفالة مؤجلة.
_________
(1) ومثل ذلك ما لو طلق رجل زوجته نصف تطليقة أو ربعها مثلاً، تطلق تطليقة كاملة رجعية؛ لأنها مما لا يتجزأ، بخلاف كفالة المال، فلو كفل بجزء من الدين، كنصفه أو ربعه، لم يكن كفيلاً بأكثر؛ لأنه مما يقبل التجزئة.
(2) راجع التفصيل في البدائع: 3/ 6، فتح القدير: 404/ 5، 411.

(6/4147)


ب ـ وإن كانت الكفالة مقيدة: فإما أن تقيد بوصف التأجيل أو بوصف الحلول. فإن كانت مؤجلة إلى أجل معلوم كشهر أو سنة، جازت. ويجوز أن يكون أجل الكفالة مماثلاً لأجل الدين أو أزيد منه أو أنقص؛ لأن المطالبة بالدين حق الدائن المكفول له، فله أن يتفق مع الكفيل والمدين على ما يشاء.
وإن كان الدين حالاً، جاز التأجيل في الكفالة، ويستفيد المدين نفسه من الأجل أيضاً في ظاهر الرواية؛ لأن التأجيل إذا كان في نفس العقد، يجعل الأجل صفة للدين، والدين واحد. أما إذا كان التأجيل بعد تمام العقد، فيختص به الكفيل فقط. وإذا كان التأجيل عن الأصيل، فيستفيد الكفيل من الأجل، أما إذا أجل الكفيل، فلم يستفد الأصيل من الأجل؛ لأن المقصود تأخير المطالبة، لا إسقاط الحق.
وإذا كانت الكفالة مؤجلة إلى سنة مثلاً، فمات الأصيل قبل تمام السنة، يحل الدين في ماله، ويبقى الأجل للكفيل، وكذا يحل الدين في مال الكفيل إذا مات، ويبقى الأصيل على أجله.
هذا هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية (1)؛ لأن الموت عند الحنفية يعصف بذمة الإنسان ويبطل الأهلية إلا بمقدار ما تقتضيه ضرورة تسوية الحقوق وثبوت الأحكام التي لها سبب في حال الحياة.
وعند الحنابلة روايتان، رجح ابن قدامة أن الدين لا يحل بالموت؛ لأن الدين مؤجل، فلا تجوز المطالبة به قبل الأجل، كما لو لم يمت (2).
_________
(1) البدائع، المرجع السابق، المبسوط: 28/ 20، مختصر الطحاوي: ص 105، الشرح الكبير: 337/ 3، مغني المحتاج: 208/ 2.
(2) المغني: 545/ 5.

(6/4148)


وإن كان التأجيل إلى وقت مجهول، فتجوز الكفالة عند الحنفية والحنابلة والمالكية إذا كان الأجل متعارفاً بين الناس كالحصاد والدياس والنيروز ونحوه؛ لأن هذه الجهالة ليست فاحشة فتتحملها الكفالة. وقال الشافعي: لا يجوز التأجيل إلى هذه الأوقات، لأنه أجل مجهول (1).
وإن لم يكن الأجل متعارفاً بين الناس كالتأجيل إلى مجيء المطر أو هبوب الريح، فالأجل باطل، والكفالة صحيحة؛ لأن هذه جهالة فاحشة، فلا تتحملها الكفالة، فلا يصح التأجيل، فبطل. هذا إذا كانت الكفالة مؤجلة.
فإن كانت الكفالة حالَّة، فيجوز للدائن أن يشرط الحلول على الكفيل، سواء أكان الدين حالاً أم مؤجلاً. ولو كفل الكفيل حالاً يصح للدائن أن يؤجله بعدئذ، ويكون التأجيل خاصاً به.
وفي الجملة: يجوز في المذاهب الأربعة ضمان الدين الحال مؤجلاً، وضمان المؤجل حالاًّ؛ لأن الضمان تبرع، والحاجة تدعو إليه، فيصح على حسب ما التزم به الضامن (2)، وقد روى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم ضمن مديناً لوفاء دينه لمدة شهر.
وفي الكفالة بالنفس: لو تكفل شخص برجل إلى شهر أو ثلاثة أيام ونحوها: جاز، ولكن الكفيل إنما يطالب بتسليم المكفول بنفسه بعد مضي تلك المدة المتفق عليها ولا يطالب به في الحال في ظاهر الرواية.
_________
(1) المغني، المرجع السابق: ص 560، مغني المحتاج: 307/ 2، المبسوط: 172/ 19، مجمع الضمانات: ص 273، الفرائد البهية في القواعد الفقهية: ص 142.
(2) البدائع، المرجع السابق: الشرح الكبير: 331/ 3، نهاية المحتاج للرملي: 416/ 3، مغني المحتاج: 207/ 2، المغني: 544/ 4.

(6/4149)


وقال أبو يوسف: إنه يطالب به للحال، إذا مضى الأجل يبرأ الكفيل. وهو قول الحسن بن زياد، وقال القاضي النسفي: وقول أبي يوسف أشبه بعرف الناس. وكان بعضهم يفتي به (1).

ج ـ إن كانت الكفالة معلقة بشرط: فتجوز عند الحنفية إذا كان الشرط ملائماً لمقتضى العقد، مثل أن يكون الشرط سبباً لوجوب الحق، كأن يقول الكفيل: إذا استحق المبيع فأنا كفيل، أو شرطاً لإمكان الاستيفاء (أي لسهولته) مثل قوله: إذا قدم زيد ـ وكان هو المكفول عنه ـ فأنا كفيل، أو شرطاً لتعذر الاستيفاء وصعوبته مثل: إن غاب زيد عند البلدة فأنا كفيل.
وفيما عدا مثل هذه الحالات كالتعليق بهبوب الريح أو مجيء المطر، أو دخول زيد الدار بأن يقول: إذا جاء المطر أو نحوه فأنا كفيل، تثبت الكفالة حالة، ويبطل الأجل (2). والخلاصة: أنه يصح تعليق الكفالة بنوعيها بشرط متعارف، والمتعارف كأن يعلق الكفالة بما هو سبب الحق، أو سبب لإمكان التسليم. وأما التعليق بهبوب الريح ونحوه فهو غير متعارف.
وقال الشافعية: الأصح أنه لا يجوز تعليق الكفالة بشرط مثل: إذا جاء رأس الشهر، فقد ضمنت ما على فلان، أو تكفلت ببدنه (3).

تعليق كفالة المال على عدم الموافاة بالنفس:
لو كفل إنسان بنفس آخر، فقال: إن لم أحضر غداً فأنا ضامن ما عليه، فلم
_________
(1) مجمع الضمانات: ص 266.
(2) فتح القدير: 414/ 5، البدائع: 4/ 6، الدر المختار: 277/ 4، مجمع الضمانات: ص 273، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 142.
(3) نهاية المحتاج: 415/ 3، المهذب: 341/ 1، مغني المحتاج: 207/ 2.

(6/4150)


يحضر به، أو مات المكفول، فالمال لازم للكفيل عند الحنفية، لأن هنا كفالتين: بالنفس والمال، وكل ما في الأمر أنه كفل بالنفس مطلقاً، وعلق الكفالة بالمال بشرط عدم الموافاة بالنفس، وهذا التعليق صحيح إذا أقر المدين بالمدعى به، أو ثبت بالبينة وقضى به القاضي (1).
وقال الشافعية: لايضمن المال (2). وذكر الحنفية تفريعات أخرى قريبة من هذا الموضوع. منها: لو كفل إنسان بنفس رجل، وقال: إن لم أوافك به غداً، فعلي ألف ليرة، ولم يقل الألف التي عليه أو الألف التي ادعيت، وكان المطالب بالمبلغ ينكر المال، فالمال لازم للكفيل عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: لا يلزمه. وجه قول محمد: أن هذا إيجاب المال معلقاً بالخطر أي بالاحتمال، لأنه لم توجد الإضافة إلى الواجب، ووجوب المال لا يتعلق بالخطر، أما الكفالة بمال ثابت فتتعلق بالخطر.
ووجه قول الشيخين: أن مطلق الألف ينصرف إلى الألف المعهودة، وهي الألف المضمونة.
ولو كفل رجل بالمال، وقال للمكفول له: «إن وافيتك به غداً، فأنا بريء» فوافاه من الغد يبرأ من المال في رواية؛ لأن هذا ليس بتعليق البراءة بشرط الموافاة، بل هو جعل الموافاة غاية للكفالة بالمال، والشرط قد يذكر بمعنى الغاية لمناسبة بينهما. وفي رواية وهي الراجحة: لا يبرأ من المال لأن قوله: «إن وافيتك به غداً
_________
(1) البدائع: 4/ 6 ومابعدها، فتح القدير: 396/ 5، المبسوط: 176/ 19، الدر المختار: 269/ 4، مجمع الضمانات: ص 266 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 25/ 2 ومابعدها.

(6/4151)


فأنا بريء» تعليق البراءة عن المال بشرط الموافاة بالنفس، والبراءة
لا تحتمل التعليق بالشرط؛ لأن فيها معنى التمليك، والتمليكات لا يصح تعليقها بالشرط (1).

د ـ وإن كانت الكفالة مضافة إلى وقت في المستقبل: جازت عند الحنفية مثل أن يضمن إنسان لآخر ما يقرضه لفلان، أو ما يستهلكه من ماله أو ما يغصبه منه، أو ثمن ما يبايعه به، فهذه الكفالة صحيحة لأنها أضيفت إلى سبب الضمان. وقد أجاز القانون المدني تعليق الكفالة على شرط أو إضافتها إلى زمن مستقبل.
الخيار في الكفالة: اتفق العلماء على أنه لا يدخل في الضمان والكفالة خيار؛ لأن الخيار جعل ليعرف ما فيه الحظ، والضمين والكفيل على بصيرة أنه لاحظ لهما، ولأن الضمان عقد لا يفتقر إلى القبول، فلم يدخله خيار كالنذر (2).

المبحث الثاني ـ شروط الكفالة:
تشترط في الكفالة شروط تتعلق إما بالصيغة أو بالكفيل، أو بالأصيل، أو بالمكفول له، أو بالمكفول به، فالذي تلزمه المطالبة بالمال الذي على المدين هو الكفيل، والمدين: هو المكفول عنه، ويسمى الأصيل أيضاً، والمدعي ـ وهو الدائن: مكفول له، ومحل الكفالة ـ وهو المال أو النفس المكفولة: هو المكفول به.

شروط الصيغة: يشترط في صيغة الكفالة ثلاثة شروط وهي:
1ً - أن تكون بلفظ يدل على الالتزام صراحة أو كناية كما تقدم، مثل ضمنت دينك على فلان أو تكفلت به أو تكفلت بنفس فلان ونحو ذلك من الصريح، أو يقول: الدين الذي لك على فلان هو علي ونحو ذلك من الكنايات.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق، المبسوط للسرخسي: 178/ 19.
(2) المغني: 555/ 4.

(6/4152)


2ً - التنجيز في العقد: فلا تصح الكفالة المعلقة على شرط غير متعارف، مثل إن قدم فلان من السفر فأنا كفيل لك بما على فلان، أو إن فعلت كذا تكفلت بإحضار فلان، أو إن نزل المطر فأنا كفيل؛ لأن الكفالة عقد يفيد أثره في الحال، فلا يقبل التعليق.
3ً - عدم التأقيت: سواء في كفالة المال؛ لأن المقصود منها الأداء، أم في كفالة البدن؛ لأن المقصود الإحضار. لكن يصح ضمان النفس في الحال بشرط تأخير إحضار المكفول إلى أجل معلوم. ويصح تنجيز الكفالة بالدين الحال على أن يؤديه في أجل معين؛ لأنه قد لا يتيسر للضامن الأداء حالاً، ويصح ضمان الدَّيْن المؤجل حالاً؛ لأنه تبرع بالتزام التعجيل؛ ولكن لا يلزمه التعجيل، بل له الحق في الأجل تبعاً للأصيل الذي عليه الدَّين، كما تقدم.
شروط الكفيل: اشترط فقهاء الحنفية وغيرهم في الكفيل شرطين (1):
أولهما ـ أهلية العقل والبلوغ أي أهلية التبرع: فلا تنعقد كفالة الصبي والمجنون؛ لأن الكفالة عقد تبرع بالتزام المال، فلا تنعقد ممن ليس من أهل التبرع، وهذا شرط متفق عليه، وهو المعبر عنه بالرشد أي صلاح الدين والمال عند الشافعية خلافاً للجمهور الذين يكتفون بصلاح المال. لأن الكفالة تصرف مالي، فلا تصح من مجنون وصبي ومحجور عليه بسفه، لعدم رشدهم.
أما ضمان المريض مرض الموت المخوف فحكمه حكم تبرعه، لا يصح فيما يزيد عن ثلث ماله، وإلا توقف على إجازة الوارث.
_________
(1) البدائع: 5/ 6 ومابعدها، المبسوط: 8/ 20، الدر المختار: 262/ 4، الكتاب مع اللباب: 159/ 2، الشرح الصغير: 433/ 3، القوانين الفقهية: ص 325، مغني المحتاج: 198/ 2، غاية المنتهى: 103/ 2، المغني: 541/ 4 ومابعدها.

(6/4153)


ولم يجز المالكية خلافاً لجمهور الفقهاء كفالة المرأة في الديون إلا في حدود ثلث مالها كالمريض، لأنها محجورة عندهم عن التصرف فيما يزيد عن ثلث مالها، منعاً من الإضرار بالزوج، فإن زاد الدين عن ثلث مالها، لم يلزمها الضمان، بل يتوقف على إجازة الزوج.

ثانيهما ـ الحرية: وهذا شرط نفاذ للتصرف، فلا يجوز كفالة العبد؛ لأنها تبرع، والعبد لا يملك التبرع بدون إذن سيده، ولكن الكفالة تنعقد، حتى إن العبد يطالب بموجبها بعد عتقه.
شروط الأصيل: يشترط في الأصيل المكفول عنه شرطان أيضاً (1):
أولهما ـ أن يكون قادراً على تسليم المكفول به إما بنفسه أو بنائبه. وهذا الشرط خاص عند أبي حنيفة، فلا تصح الكفالة عنده بالدين عن ميت مفلس مات ولم يترك وفاء لدينه؛ لأنه دين ساقط، فلم يصح ضمانه، كما لو سقط بالإبراء، ولأن ذمة الميت قد زالت بالموت، فلم يبق فيها دين، والضمان: ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة به.
وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء (2): يصح ضمان الدين عن الميت المفلس بدليل حديث أبي قتادة السابق ذكره، فإنه ضمن دين ميت لم يترك شيئاً لوفاء دينه. والنبي صلّى الله عليه وسلم حض الصحابة على ضمان دين الميت في حديث أبي قتادة بقوله: «ألا قام أحدكم فضمنه؟» ولأن دين الميت دين ثابت، فصح ضمانه ما لو خلف وفاء لدينه. والدليل على ثبوت هذا الدين: أنه لو تبرع رجل بقضائه، جاز
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص6، الدر المختار: 262/ 4، 278، فتح القدير: 419/ 5.
(2) بداية المجتهد: 294/ 2، الشرح الكبير للدردير: 331/ 3، المهذب: 339/ 1، المغني: 537/ 4.

(6/4154)


لصاحب الدين اقتضاؤه، وكذا لو ضمنه حياً، ثم مات لم تبرأ ذمة الضامن، مما يدل على أنه لم تبرأ ذمة المضمون عنه.

ثانيهما ـ أن يكون الأصيل معروفاً (أي معلوماً) عند الكفيل: فإذا قال الكفيل: كفلت ما على أحد من الناس، لا تصح الكفالة؛ لأن الناس لم يتعارفوا ذلك، ولأن اشتراط هذا الشرط إنما هو لأجل معرفة المكفول عنه: هل هو موسراً وممن يبادر إلى قضاء دينه أو يستحق اصطناع المعروف أو لا، وأجاز بعض الفقهاء أن يكون المكفول عنه مجهولاً. ولا يشترط حضرة الأصيل، فتجوز
الكفالة عن غائب أو محبوس؛ لأن الحاجة إلى الكفالة في الغالب تظهر في مثل هذه الأحوال (1).
وقال الشافعية والحنابلة: الأصح أنه لا يشترط معرفة المكفول عنه قياساً على رضاه، فإنه ليس بشرط، وأما اصطناع المعروف فهو معروف، سواء أكان لأهله أم لغير أهله (2).

شروط المكفول له: يشترط في المكفول له وهو الدائن شروط (3) وهي:
أولاً ـ أن يكون معلوماً: فلو كفل إنسان لأحد من الناس، فلا تجوز الكفالة، لأنه إذا كان المكفول له مجهولاً لا يتحقق المقصود من الكفالة وهو التوثق. ويوافق الشافعية على هذا الشرط في الأصح عندهم؛ لأن مستحقي الدين يتفاوتون عادة في استيفاء الدين تشديداً وتسهيلاً (4).
_________
(1) بداية المجتهد: 294/ 2، البدائع: 6/ 6، مغني المحتاج: 204/ 3.
(2) مغني المحتاج: 200/ 2، المغني: 535/ 4.
(3) راجع البدائع: 6/ 6 ومابعدها، فتح القدير: 417/ 5، المبسوط: 9/ 20، الدر المختار: 280/ 4.
(4) مغني المحتاج، المرجع السابق.

(6/4155)


وأجاز المالكية والحنابلة الضمان مع جهالة المكفول له، نحو: أنا ضامن زيداً بالدين الذي عليه للناس. ويستدلون بقوله تعالى: {قالوا: نفقد صُواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم} [يوسف:72/ 12] لأن المنادي لم يكن مالكاً، وإنما كان نائباً عن يوسف عليه السلام، فشرط حمل البعير على يوسف لمن جاء بالصواع، وتحمل هو به عن يوسف (1).

ثانياً ـ أن يكون المكفول له حاضراً في مجلس العقد: وهذا شرط انعقاد عند أبي حنيفة ومحمد إذا لم يكن هناك نائب عن المكفول له يقبل الكفالة في المجلس. فلو كفل إنسان لغائب عن المجلس، فبلغه الخبر، فأجاز لا تجوز الكفالة عندهما إذا لم يقبل به حاضر في المجلس. دليلهما: أن في الكفالة معنى التمليك، والتمليك لا يحصل إلا بالإيجاب والقبول، فلا بد من توافره لإتمام صيغة العقد.
وأما أبو يوسف فعنه روايتان، والقول المتأخر عنه أن الكفالة عن الغائب تجوز؛ لأن معنى الكفالة وهو الضم والالتزام يتم بإيجاب الكفيل، فكان إيجابه صالحاً وحده لإتمام العقد، وهذا رأي جمهور الفقهاء القائلين بأن الكفالة تنعقد بالإيجاب وحده.

ثالثاً ـ أن يكون المكفول له عاقلاً: وهذا متفرع على مذهب أبي حنيفة ومحمد في اشتراط الشرط السابق، فلا يصح قبول المجنون والصبي غير المميز، لأنهما ليسا أهلاً لصدور القبول عنهما باعتباره ركناً في العقد.
شروط المكفول به: يشترط في المكفول به شروط ثلاثة (2):
_________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 1085/ 3، المغني: 535/ 5 ومابعدها.
(2) البدائع: 7/ 6 ومابعدها، فتح القدير: 402/ 5 ومابعدها، رد المحتار: 264/ 4، 281، مجمع الضمانات: ص 271، روضة الطالبين 255/ 4، المغني: 538/ 4 ومابعدها.

(6/4156)


أولاً ـ أن يكون المكفول به مضموناً على الأصيل، سواء أكان ديناً أم عيناً أم نفساً أم فعلاً عند الحنفية بشرط أن تكون العين مضمونة بنفسها (1) كالمغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد، والمقبوض على سوم الشراء.
أما العين التي هي أمانة سواء أكانت غير واجبة التسليم كالودائع ومال الشركات، أم واجبة التسليم كالعارية والمستأجر في يد الأجير أو المضمونة بغيرها، كالمبيع قبل القبض، والرهن، فلا تصح الكفالة بهما؛ لأن العين التي هي أمانة ليست بمضمونة، ولأن المضمون بغيره ليس بمضمون بنفسه. فإذا هلك المبيع قبل القبض لا يجب على البائع شيء، ولكن يسقط الثمن عن المشتري، وإذا هلك الرهن لا يجب على المرتهن شيء ولكن يسقط الدين عن الراهن بقدره.
والمراد بالفعل المكفول به: هو فعل التسليم مثل الكفالة بتسليم المبيع والرهن، وتصح الكفالة بالفعل؛ لأن التسليم مضمون على الملتزم به، فالمبيع مضمون التسليم على البائع، والرهن مضمون التسليم على المرتهن في الجملة بعد قضاء الدين.

ضمان الأعيان: يتبين من هذا أنه يجوز ضمان الأعيان المضمونة، ولا يصح ضمان الأعيان إذا لم تكن مضمونة على من هي في يده، وهذا رأي جمهور الفقهاء، وأحد قولي الشافعي الراجح في المذهب؛ لأن الأعيان المضمونة مضمونة على من هي في يده، فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة. أما القول الآخر للشافعي فلا يصح ضمان الأعيان؛ لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة، والجواب:
_________
(1) العين نوعان: أمانة ومضمونة. فالأمانة كالودائع ومال الشركات والمضاربات والعارية والمستأجر في يد الأجير، والمضمونة إما بنفسها كالمغصوب ونحوه، أو بغيرها كالمبيع قبل القبض، فإنه مضمون بالثمن، والرهن فإنه مضمون بالدين.

(6/4157)


الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها، والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها، وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع، فإن ضمانها يصح وهو في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه إن ظهر بالمبيع عيب أو خرج مستحقاً.
وظاهر كلام أحمد صحة ضمان الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة والشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط إن صارت مضمونة على صاحبها إن تعدى فيها.

الكفالة بالنفس: وعلى هذا تصح الكفالة بنفس من عليه الحق لأن الكفالة بالنفس (1) كفالة بالفعل: وهو تسليم النفس، وفعل التسليم مضمون على الأصيل، فجازت الكفالة به.
وقد أجاز الكفالة بالنفس إذا كانت بسبب المال جمهور الفقهاء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة، لقوله تعالى: {قال: لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتُنني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف:66/ 12] ولقوله عليه الصلاة والسلام «الزعيم غارم» وهذا يشمل الكفالة بنوعيها، ولأن ما وجب تسليمه بعقد، وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال، ولأن الكفيل يقدر على تسليم الأصيل بأن يعلم من يطلبه مكانه، فيخلي بينه وبينه، أو يستعين بأعوان القاضي في التسليم. وأما قول الشافعي: «كفالة البدن ضعيفة» فإنه أراد أنها ضعيفة من جهة القياس؛ لأن الشخص الحر لا يدخل تحت اليد، ولا يقدر على تسليمه (2). هذا هو تحقيق مذهب الشافعي وهو المشهور بخلاف ما تذكره كتب الحنفية.
_________
(1) الكفالة بالنفس أو بالبدن وتسمى كفالة الوجه: هي التزام إحضار المكفول إلى المكفول له، للحاجة إليها.
(2) راجع الشرح الكبير: 344/ 3، بداية المجتهد: 291/ 2، مغني المحتاج: 203/ 2، المهذب: 342/ 1، المغني: 556/ 4، المبسوط: 162/ 19، البدائع: 8/ 6، فتح القدير: 391/ 5. الكتاب مع اللباب: 153/ 2، كشاف القناع: 362/ 3.المقدمات الممهدات 399/ 3.

(6/4158)


إلا أن الشافعية قالوا: المذهب صحة الكفالة بالنفس أو البدن لمن عليه مال أو لمن عليه عقوبة لآدمي كقصاص وحد قذف، والمذهب منعها في حدود الله تعالى كحد الخمر والزنا والسرقة؛ لأنه يسعى في دفعها ما أمكن.
وقال الحنابلة والمالكية: لا تصح الكفالة ببدن من عليه حد، سواء أكان حقاً لله تعالى، كحد الزنا والسرقة، أم لآدمي كحد القذف والقصاص.

ومن أحكام الكفالة بالنفس: أنه إذا شرط الأصيل في الكفالة تسليم المكفول به في وقت بعينه، لزم الكفيل إحضار المكفول به إذا طالبه به في الوقت، وفاء بما التزمه كالدين المؤجل إذا حل، فإن أحضره، فبها، وإن لم يحضره، حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حق مستحق عليه. وإن أحضره وسلمه في مكان يقدر المكفول له على محاكمته كالمصر، برئ من الكفالة، لأنه أتى بما التزمه. وإذا تكفل به على أن يسلمه في مجلس القاضي، فسلمه في السوق برئ أيضاً؛ لأن المقصود هو إمكان الخصومة وإثبات الحق، وهذا حاصل متى سلمه في السوق لتعاون الناس معه على إحضاره إلى القاضي.
ويلاحظ أن المالكية يمنعون الزوجة من كفالة النفس مالم يأذن زوجها؛ لأنها قد تحبس أو تخرج لخصومة أو لطلب المضمون، وفي ذلك معرة، وأجازوا ما سموه بضمان الطلب وهو في الحقيقة نوع من كفالة النفس أو الوجه، ولكن بشرط عدم غرم المال إلا إذا فرط في الطلب، فهو التزام طلب المكفول والبحث عنه إن تغيب، وإرشاد صاحب الحق عليه، كأن يقول: أنا كفيل أو حميل بطلبه أو علي طلبه بشرط عدم غرم المال إن لم أجده (1).
_________
(1) الشرح الصغير: 430/ 3، 433، 451.

(6/4159)


ثانياً ـ أن يكون المكفول به مقدور الاستيفاء من الكفيل ليكون العقد مفيداً، وذلك في الأموال عند جمهور العلماء. وعليه لا تجوز الكفالة بالحدود والقصاص لتعذر الاستيفاء من الكفيل (أي لأن النيابة لا تجري في العقوبات)، فلا تفيد الكفالة فائدتها. هذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة (1). ودليلهم ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا كفالة في حد» (2) ولأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الدرء والإسقاط بالشبهات، فلا يلائمها الاستيثاق، ولأن الحق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به.
ويلاحظ أن عدم جواز الكفالة بالحدود والقصاص معناه عند الحنفية: عدم جواز الإجبار على إعطاء الكفالة، فإن سمحت نفس المدعى عليه وتبرع بإعطاء الكفالة في حالة القصاص والحد الذي فيه حق للعبد وهو حد القذف وحد السرقة، جازت الكفالة بالنفس؛ لأنها كفالة بمضمون على الأصل مقدور الاستيفاء من الكفيل، فتصح كالكفالة بتسليم نفس من عليه الدين.
فإن لم يتبرع المدعى عليه وهو الذي توجه عليه الحد أو القصاص، فلا يجبر عند أبي حنيفة على تقديم كفيل بنفسه بإحضاره في مجلس القضاء لإثبات دعوى المدعى عليه؛ لأن الكفالة لا تتلاءم مع الحدود كما عرفنا، وحينئذ يحبسه القاضي حتى تقام عليه البينة أو يستوفى الحد. وقال الصاحبان: يجبر على تقديم كفيل بنفسه في القصاص وفي حد القذف؛ لأن فيهما حق العبد.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق، الشرح الكبير: 346/ 3، بداية المجتهد: 293/ 2، المغني: 557/ 4، فتح القدير: 399/ 5، مجمع الضمانات: ص 272، الكتاب مع اللباب: 157/ 2 ومابعدها.
(2) رواه البيهقي بإسناد ضعيف، وقال: إنه منكر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ورواه ابن عدي في الكامل، وأعله أيضاً برواية أبي عمر الكلاعي بأن أحاديثه منكرة (راجع سبل السلام: 63/ 3، نصب الراية: 59/ 4).

(6/4160)


والخلاصة: أنه لا تجوز الكفالة بنفس الحد أو القصاص بدون نفس من عليه الحد، إذ الحد عقوبة لا تجري فيها النيابة، أما لو كفل بنفس من عليه الحد فتصح الكفالة.
وقال الشافعية: المذهب أنه لا تجوز كفالة النفس (أو البدن) في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الخمر والزنا والسرقة، لأنه يسعى في دفعها ما أمكن.
وتجوز كفالة تسليم النفس في الحدود الخالصة للآدمي كقصاص وحد قذف وتعزير؛ لأنها حق
لآدمي، فصحت الكفالة، كسائر حقوق الآدميين المالية (1).
ويتفرع على هذا الشرط عند الحنفية: أنه تصح الكفالة بالتزام حمولة شيء في ذمة متعهد النقل بوسيلة نقل غير معينة بذاتها كأي سيارة أو دابة لأن المستحق حينئذ مقدور للكفيل. لكن لا تصح الكفالة بالتزام نقل حمل من مكان إلى آخر على سيارة أو دابة معينة بذاتها دون غيرها؛ لأن الكفيل قد يعجز عن الحمولة بتلف وسيلة النقل المخصصة.

ثالثاً - أن يكون الدين لازماً صحيحاً: وهو ما لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء. وهذا الشرط خاص بالكفالة بالمال. ويترتب عليه أنه لا تصح الكفالة ببدل الكتابة، لأنه ليس بدين لازم، أو أنه دين ضعيف؛ لأن للمكاتب إسقاط الدين عن نفسه بالتعجيز لا بالكسب، فلا معنى للتوثق به، ولا تصح أيضاً الكفالة بما ليس بدين كنفقة الزوجة قبل القضاء بها أو التراضي عليها؛ لأنها لا تصير ديناً إلا بالقضاء أو الرضا (2).
_________
(1) مغني المحتاج: 203/ 2 ومابعدها، المهذب: 343/ 1.
(2) الدر المختار مع رد المحتار: 262/ 4، 274، الشرح الكبير: 333/ 3، الشرح الصغير: 431/ 3 - 434، المهذب: 340/ 1، مغني المحتاج: 201/ 2، كشاف القناع: 356/ 3.

(6/4161)


قال البغدادي: لو كفل بالنفقة المقررة الماضية صحت الكفالة مع أنها تسقط بدون الأداء أو الإبراء، بموت الكفيل أو المكفول له. وكذا لو كفل بنفقة شهر مستقبل، وقد قرر لها في كل شهر كذا، أو بيوم يأتي وقد قرر لها في كل يوم، فإنها صحيحة (1).
ضمان ما لم يجب: لا خلاف في جواز ضمان الدين اللازم في الحال إذا كان معلوماً، أما غير اللازم في الحال فلا خلاف أيضاً في عدم جواز ضمانه إن كان لا يؤول إلى اللزوم، فإن كان يؤول إلى اللزوم في المستقبل كجعل الجعالة، وكقول قائل لآخر: داينْ فلاناً أو بايعه أو عامله، وأنا ضامن، فهو جائز عند الجمهور، بدليل تجويزهم ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، وهو أحد وجهين عند الشافعية في ضمان الجعل في الجعالة قبل العمل، والراجح عندهم عدم الجواز، فلا يصح عندهم ضمان ما لم يجب، سواء أجرى سبب وجوبه: كنفقة ما بعد اليوم للزوجة وخادمها، أم لا كضمان ما سيقرضه لفلان؛ لأن الضمان وثيقة بالحق، فلا يسبقه كالشهادة، فيصح بنفقة اليوم للزوجة وما قبله لثبوته، لا بنفقة القريب لمستقبل.
ضمان المجهول: لا يشترط في الكفالة بالمال عند جمهور الفقهاء (2) أن يكون الدين معلوم القدر والصفة والعين، فتصح الكفالة بالمعلوم كقوله: تكفلت عنه بألف، أو بالمجهول كقوله: تكفلت عنه بمالك عليه، أو بما يدركك في هذا البيع من الضمان؛ لأن الكفالة عقد تبرع مبينة على التوسع، فيحتمل فيها الجهالة بعكس
_________
(1) مجمع الضمانات: ص 269.
(2) البدائع: 9/ 6، فتح القدير: 402/ 5 ومابعدها، بداية المجتهد: 294/ 2، مغني المحتاج: 200/ 2، المغني: 536/ 4 - 539، 557، المبسوط: 50/ 20، الدر المختار: 275/ 4، مجمع الضمانات، المرجع السابق.

(6/4162)


البيع،
وقد أجمع الفقهاء على صحةضمان الدَّرَك (1): وهو أن يضمن شخص للمشتري الثمن إن خرج المبيع مستحقاً أو معيباً أو ناقصاً إما لرداءته أو لنقص صنجات الوزن التي وزن بها.
وصحح الحنفية الكفالة فيما لو قال إنسان لغيره: اسلك هذا الطريق فإن أخذ مالك فأنا ضامن، فأخذ ماله، صح الضمان، والمضمون عنه مجهول، وكذا لو قال: لو غصب مالك فلان أو واحد من هؤلاء القوم فأنا ضامن، صح الضمان (2).

ومذهب الشافعي الجديد: أنه ينبغي أن يكون المضمون به معلوماً جنساً وقدراً وصفةً وعيناً؛ لأن الضمان إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد، فلم يجز مع الجهالة، كالثمن في البيع، فلا يصح المجهول ولا غير المعين كأحد الدينين. وأما ضمان الدَّرَك فهو جائز عندهم لحاجة الناس إليه (3).
المبحث الثالث ـ أحكام الكفالة:
للكفالة حكمان (4):
_________
(1) بفتح الراء وسكونها، وهو التبعة أي المطالبة والمؤاخذة، وإن لم يكن له حق ثابت، لأن الحاجة قد تدعو إلى معاملة الغريب، ويخاف أن يخرج ما يبيعه مستحقاً ولا يظفر به، فا حتيج إلى التوثق به. ويسمى أيضاً ضمان العهدة لالتزام الضامن ما في عهدة البائع رده. والعهدة في الحقيقة عبارة عن الصك المكتوب فيه الثمن، ولكن الفقهاء يستعملونه في الثمن مجازاً (انظر مغني المحتاج، المرجع الآتي) فالكفالة بالدرك (بفتحتين): هي الكفالة بما يدرك المال المبيع ويلحق به من خطر بسبب سابق على البيع (المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف271) قال بعض الحنفية: الكفالة بالدرك جائزة وهو التزام تسليم الثمن عند استحقاق المبيع، ولا يلزمه حتى يقضى بالاستحقاق على البائع أو على المشتري (مجمع الضمانات: ص 275).
(2) مجمع الضمانات: ص 270.
(3) نهاية المحتاج: 403/ 3، مغني المحتاج: 201/ 2، المهذب: 340/ 1 - 342.
(4) البدائع: 10/ 6 ومابعدها، فتح القدير: 391/ 5، 403، المبسوط: 162/ 19، الدر المختار: 262/ 4، القوانين الفقهية: ص 325، مغني المحتاج: 208/ 2، كشاف القناع: 352/ 3، المغني: 547/ 5.

(6/4163)


أحدهما ـ ثبوت ولاية مطالبة الكفيل بما على الأصيل. والمطالب به يختلف بحسب محل الكفالة. فإن كانت الكفالة بالدين، فيطالب الكفيل بما على الأصيل بالدين كله إن كان واحداً. فإن كان هناك كفيلان والدين ألف مثلاً، فيطالب كل واحد منهما بخمس مئة إذا لم يكفل كل واحد منهما عن صاحبه، لأنهما استويا في الكفالة، والمكفول به يحتمل الانقسام، فينقسم عليهما في حق المطالبة. ولو أدى أحدهما لا يرجع على صاحبه؛ لأنه يؤدي عن نفسه، لا عن صاحبه، لكن يرجع على الأصيل بما أدى.
وإن كانت الكفالة بالنفس: فيطالب الكفيل بإحضار المكفول بنفسه إن لم يكن غائباً. وإن كان غائباً يؤخر الكفيل إلى مدة يمكنه إحضاره فيها، فإن لم يحضر في المدة ولم يظهر عجزه، للقاضي حبسه إلى أن يظهر عجزه له. فإذا ظهر للقاضي أنه لا يقدر على الإحضار بدلالة الحال، أو بشهادة الشهود أو غيرها، أطلقه من الحبس وأنظره إلى حال القدرة على إحضاره، لأنه بمنزلة المفلس بالنسبة للدين. وإذا أخرجه القاضي فإن الدائنين الغرماء يلازمونه، ولا يحول القاضي بينه وبين الغرماء، ولكن ليس للغرماء أن يمنعوه من أشغاله أو من الكسب وغيره. هذا مذهب الحنفية.
وقال الشافعية: يلزم الكفيل بإحضار المكفول إن علم مكانه، فإن جهل مكانه لم يلزم بإحضاره، وإذا ألزم بالإحضار يمهل مدة الذهاب والإياب، فإن مضت تلك المدة ولم يحضره حبس إلى أن يتعذر إحضار المكفول بموت أو جهل بموضعه أو إقامة عند شخص يمنعه من إمكان الوصول إليه (1).
وإن كانت الكفالة بالعين، فيطالب الكفيل بتسليم العين إن كانت قائمة وبمثلها أو قيمتها إن كانت هالكة.
_________
(1) مغني المحتاج: 205/ 2.

(6/4164)


هل يبرأ الأصيل من الدين؟ يلاحظ أنه لا يترتب على الكفالة عند جمهور الفقهاء براءة الأصيل (1)، فيكون الدائن بالخيار بين أن يطالب الأصيل أو يطالب الكفيل إلا إذا كانت الكفالة بشرط براءة الأصيل؛ لأنها حوالة معنى (2).
ولم يجز الشافعية في الأصح عندهم الكفالة بشرط براءة الأصيل؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الضمان.
وقال الإمام مالك في أحد قوليه: ليس للدائن أن يطالب الكفيل إلا إذا تعذر مطالبة المكفول عنه؛ لأن الضمان وثيقة، فلا يستوفى الحق منها إلا عند تعذر استيفائه من الأصيل كالرهن.
وقال ابن أبي ليلى وابن شُبْرمة وأبو ثور وابن سيرين والظاهرية والإمامية: إن الكفالة توجب براءة الأصيل، وينتقل الحق إلى ذمة الكفيل، فلا يملك الدائن مطالبة الأصيل أصلاً كما في الحوالة، واحتجوا بقصة ضمان أبي قتادة رضي الله عنه الدينارين عن ميت، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال له: «جزاك الله خيراً وفك رهانك كما فككت رهان أخيك» (3) فدل هذا على أن المضمون عنه برئ من الضمان.
والصحيح هو قول الجمهور؛ لأن الكفالة معناها ضم ذمة إلى ذمة في حق المطالبة أو في حق أصل الدين على الخلاف السابق، والبراءة تنافي الضم، ولأنَّ الكفالة لو كانت مبرئة، لكانت حوالة، وهما متغايران؛ لأن تغاير الأسامي دليل
_________
(1) البدائع، المرجع السابق، مغني المحتاج: 208/ 2، بداية المجتهد: 292/ 2، المغني: 546/ 4، 547، فتح القدير: 390/ 5.
(2) المبسوط: 46/ 20.
(3) ذكر سابقاً أن رواية علي ضعيفة كما قال ابن حجر، والأصح منها رواية القصة عن أبي قتادة. تغاير المعاني في الأصل.

(6/4165)


واستدلوا من السنة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلَّقة بدينه حتى يقضى عنه» (1). وقوله في قصة أبي قتادة: «الآن بردت جلدته» (2) حين أخبره أنه قضى دينه. وأما صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم على المضمون عنه، فلأنه بالضمان صار له وفاء، وإنما امتنع عن الصلاة على مدين لم يخلف وفاء. وأما قوله: «فك الله رهانك إلخ» فإنه كان بحال لا يصلي عليه النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما ضمن عنه فكه عن ذلك أو عما في معناه (3).
وهناك فرق بين وضع الكفالة ووضع الغاصب وغاصب الغاصب، فإن للمالك المغصوب منه أن يضمن أيهما شاء، وإذا اختار تضمين أحدهما لا يملك اختيار تضمن الآخر. ووجه الفرق: أن المالك المغصوب منه إذا اختار تضمين الغاصب أو غاصب الغاصب أي إن قضى القاضي عليه فاختياره يتضمن التمليك منه للمضمون، فيبرأ الآخر بالضرورة، بخلاف المطالبة بمقتضى الكفالة، فإنها لا تقتضي التمليك للمضمون؛ لأن مقتضى الكفالة هو الضم، ولا يحصل التمليك فيها، حتى ولو قضى القاضي ما لم توجد حقيقة الاستيفاء.

الحكم الثاني للكفالة: هو ثبوت ولاية مطالبة الكفيل الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره في جميع أنواع الكفالات، فإذا كانت الكفالة بدين مثلاً يطالب
_________
(1) رواه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة. وفي معناه روى الطبراني في الأوسط عن البراء بن عازب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «صاحب الدين مأسور بدينه يشكو إلى الله الوحدة» وفيه مبارك بن فضالة وثقه عفان وابن حبان وضعفه جماعة (راجع الجامع الصغير: 188/ 2، مجمع الزوائد: 129/ 4).
(2) هذا ثابت في رواية جابر بن عبد الله عند أحمد والدارقطني والحاكم بلفظ «الآن بردت عليه جلده» وفي رواية: «قبره» (راجع التلخيص الحبير: ص 251، نيل الأوطار: 239/ 5).
(3) فتح القدير: 390/ 5 والمراجع السابقة.

(6/4166)


الكفيل المكفول عنه بالخلاص إذا طولب، وإن حبس فله أن يحبس المكفول عنه؛ لأنه هو الذي أوقعه في هذه التبعة (المسؤولية)، فكان عليه تخليصه منها.
أما إذا كانت الكفالة بغير أمر الأصيل فليس للكفيل حق ملازمة الأصيل إذا لوزم، ولا حق الحبس إذا حبس.
وإذا قضى الكفيل الدين متبرعاً به، لا ينوي الرجوع به على المكفول عنه، برئ المدين، وأصبح غير ملتزم بالدين، سواء تمت الكفالة والأداء بأمر المكفول عنه وبغير أمره.
وليس للكفيل أن يطالب بالمال قبل أن يؤدي هو، وإن كانت الكفالة بأمر الأصيل؛ لأن ولاية المطالبة إنما تثبت بحكم القرض والتمليك، وكل ذلك يقف على الأداء ولم يوجد فلا يكون الرجوع إلا بعد الأداء، وهذا بخلاف الوكيل بالشراء، فإن له مطالبة الموكل بالثمن بعد الشراء قبل أن يؤدي هو من مال نفسه؛ لأن الثمن هنا يقابل المبيع، وملك المبيع وقع للموكل، فكان الثمن عليه، فيكون للوكيل الحق في أن يطالبه به. وأما في الكفالة فإن حق المطالبة هو بسبب القرض أو التمليك، ولم يوجد بعد.
فإذا أدى الكفيل كان له أن يرجع على الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره؛ لأن العلاقة بينهما تكون حينئذ علاقة قرض واستقراض، فالأصيل مستقرض والكفيل بأداء المال مقرض، والمقرض يرجع على المستقرض بما أقرضه.

(6/4167)


المبحث الرابع ـ انتهاء الكفالة:
أذكر هنا طرق انتهاء الكفالة بإيجاز بحسب كل نوع من أنواعها. فإذا كانت الكفالة بالمال فهي تنتهي بأحد أمرين (1):
أولهما ـ أداء المال إلى الدائن أو ما هو في معنى الأداء، سواء أكان الأداء من الكفيل أم من الأصيل؛ لأن حق المطالبة بالدين طريق إلى الأداء، فإذا وجد فقد حصل المقصود من الكفالة، فينتهي حكم العقد.
وتنتهي الكفالة إذا وهب الدائن المال إلى الكفيل أو إلى الأصيل؛ لأن الهبة بمنزلة الأداء. ومثل الهبة التصدق بالدين على الكفيل أو على الأصيل. ومثله أيضاً إذا مات الدائن وورثه الكفيل أو الأصيل؛ لأن بالميراث يملك ما في ذمته، فإن كان الوارث هو الكفيل فقد ملك ما في ذمته، فيرجع على الأصيل، كما لو ملكه بالأداء. وإن كان الوارث هو المكفول عنه برئ الكفيل، كأنه أدى.

ثانيهما ـ الإبراء وهو في معناه: إذا أبرأ الدائن الكفيل أو الأصيل انتهت الكفالة، غير أنه إذا أبرأ الكفيل لا يبرأ الأصيل، وإذا أبرأ الأصيل يبرأ الكفيل؛ لأن الدين على الأصيل لا على الكفيل، فكان إبراء الأصيل إسقاطاً للدين عن ذمته، فيسقط حق المطالبة للكفيل بالضرورة؛ لأنه إذا سقط الأصل سقط الفرع.
أما إبراء الكفيل فهو إبراء عن المطالبة لا عن الدين، إذ لا دين عليه وليس من ضرورة إسقاط حق المطالبة عن الكفيل سقوط أصل الدين عن الأصيل، لأنه إذا سقط الفرع لا يسقط الأصل.
_________
(1) البدائع: 11/ 6 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 104، الدر المختار: 285/ 4، مجمع الضمانات: ص 274، المغني: 546/ 4 ومابعدها.

(6/4168)


ولو قال الدائن للكفيل أو المدين: (برئت إلي من المال) يبرأ، لأن هذا إقرار بالقبض والاستيفاء؛ لأنه جعل نفسه غاية لبراءته (1)، وتلك هي براءة القبض والاستيفاء، ويبرأ الكفيل والأصيل جميعاً؛ لأن استيفاء الدين يوجب براءتهما جميعاً، فيرجع الكفيل على الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره.
وإذا قال الدائن للكفيل أو للمدين: (برئت من المال) ولم يقل: (إلي) فيبرأ أيضاً عند أبي يوسف مثل الصورة السابقة. فهو إقرار بالقبض؛ لأن البراءة المضافة إلى المال تستعمل في الأداء عرفاً وعادة فتحمل عليه.
وعند محمد: يبرأ الكفيل دون الأصيل، مثل قوله: (أبرأتك) لأن البراءة عن المال قد تكون بالأداء، وقد تكون بالإبراء، فلا تحمل على الأداء إلا بدليل زائد، وقد وجد هذا في الصورة السابقة وهي قوله: (إلي) لأن الكلام ينبئ عن معنى الأداء لما ذكر، ولم يوجد هنا.

وإذا أحال الكفيل أو المدين الدائن بمال الكفالة على رجل، وقبل المحال، فتنتهي الكفالة؛ لأن الحوالة مبرئة عن الدين والمطالبة جميعاً.
وكذلك تنتهي الكفالة بالصلح: بأن يصالح الكفيل الدائن على بعض المدعى به، ويبرأ حينئذ الكفيل والأصيل في حالتين:
إحداهما ـ أن يقول: على أني والمكفول عنه بريئان من الباقي.
والثانية ـ أن يقول: (صالحتك على كذا) مطلقاً عن شرط البراءة.
_________
(1) أي أن مفاد هذا التركيب براءة من المال مبدؤها من الكفيل، ومنتهاها صاحب الدين، وهذا هو معنى الإقرار بالقبض من الكفيل، فكأنه قال (دفعت إلي).

(6/4169)


ويبرأ الكفيل وحده في حال واحدة وهي أن يقول: (على أني بريء من الباقي) (1).
وتنتهي الكفالة أيضاً بفسخ سبب الكفالة أو إبطاله وهو الدين المكفول: كأن يكفل شخص ما في ذمة المشتري من ثمن الشراء، أو يكفل البائع في تسليم المبيع، ثم فسخ عقد البيع، فتنتهي الكفالة حيث لا يوجد دين مكفول ويسقط حق المكفول له في مطالبة الكفيل.

وإذا كانت الكفالة بالنفس فإنها تنتهي بثلاثة أمور (2):
الأول ـ تسليم النفس (3) إلى المطالب بها في موضع يقدر على إحضاره مجلس القاضي، مثل أن يكون في مصر من الأمصار؛ لأن الكفيل أتى بما التزمه، وحصل المقصود من الكفالة بالنفس: وهو إمكان المحاكمة عند القاضي، وإذا تحقق المقصود تنتهي الكفالة.
فإن سلمه في صحراء أو برية، لم يبرأ الكفيل؛ لأنه لا يقدر على المحاكمة فيها، فلم يحصل المقصود. وكذا إذا سلمه في بلد ليس فيها قاض أو أعوان القاضي، كالشرطة مثلاً، لعدم إمكان المحاكمة فيها.
وإن سلمه في السوق أو في المصر، فإنه يبرأ؛ لأن المطلوب هو أن يتحقق التسليم في مكان يقدر فيه على إحضاره إلى مجلس القاضي.
_________
(1) المبسوط: 58/ 20، 91، البدائع، المرجع السابق: ص 12، فتح القدير: 412/ 5، مختصر الطحاوي: ص 105، مجمع الضمانات: ص 274.
(2) البدائع: 12/ 6 ومابعدها، المبسوط: 166/ 19، 175، فتح القدير: 393/ 5 ومابعدها، 411، الدر المختار: 267/ 4 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 266، 274، الكتاب مع اللباب: 153/ 2 ومابعدها.
(3) التسليم يتحقق بالتخلية بين المكفول بنفسه والمكفول له.

(6/4170)


وإن شرط على الكفيل أن يسلم المكفول بنفسه في مصر معين، فسلمه في مصر آخر، فيبرأ عند أبي حنيفة لوجود القدرة على المحاكمة في المصر المعين. ولا يبرأ عند الصاحبين إلا بتسليمه في المكان المشروط؛ لأن التقييد بالمصر قد يكون لغرض مفيد، كأن يكون له شهود فيما عينه دون غيره.
ولو شرط على الكفيل أن يسلم المكفول بنفسه عند الأمير، فسلمه عند القاضي، فإنه يبرأ.

الثاني ـ الإبراء: أي أن يبرئ صاحب الحق الكفيل من الكفالة بالنفس فتنتهي الكفالة؛ لأن مقتضى الكفالة ثبوت حق المطالبة بتسليم النفس، فإذا أسقط حق المطالبة بالإبراء فينتهي الحق ضرورة.
ولا يبرأ الأصيل في هذه الحالة؛ لأن الإبراء صدر للكفيل دون الأصيل. فإن صدر الإبراء للأصيل برئا جميعاً.

الثالث ـ موت المكفول بنفسه: إذا مات الأصيل المكفول به برئ الكفيل بالنفس من الكفالة؛ لأنه عجز عن إحضاره، ولأنه سقط الحضور عن الأصيل، فيسقط الإحضار عن الكفيل.
وكذلك تنتهي الكفالة إذا مات الكفيل؛ لأنه لم يبق قادراً على تسليم المكفول بنفسه. وأما ماله فلا يصلح لتنفيذ هذا الواجب بخلاف الكفيل بالمال.
ولو مات المكفول له فلا تسقط الكفالة بالنفس كما لا تسقط الكفالة بالمال؛ لأن الكفيل ما زال قادراً على تنفيذ واجبه، ويقوم الوصي أو الوارث مقام الميت في المطالبة.

(6/4171)


وأما الكفالة بالأعيان المضمونة بنفسها، فتنتهي بأحد أمرين (1):
أحدهما ـ تسليم العين المضمونة بنفسها إن كانت قائمة، وتسليم مثلها أو قيمتها إن كانت هالكة.
الثاني ـ الإبراء: أي إبراء الكفيل من الكفالة، بأن يقول له: (أبرأتك من الكفالة) فيبرأ؛ لأن الكفالة حقه، فيسقط بإسقاطه كالدين، أو إبراء الأصيل.
المبحث الخامس ـ رجوع الكفيل على الأصيل:
الكلام في هذا البحث عن ناحيتين: شرائط الرجوع، وبيان ما يرجع به ومتى يرجع. أما شرائط الرجوع فهي ما يأتي (2):
1 - أن تكون الكفالة بأمر المكفول عنه أي بإذنه: فإن لم تكن بأمره لم يرجع بما يؤديه؛ لأن الكفيل حينئذ يكون متبرعاً بما أدى، ولو كان له الرجوع لما صلى النبي صلّى الله عليه وسلم على الميت بضمان أبي قتادة، هذا هو مذهب الحنفية والشافعية (3).
وقال الإمام مالك والإمام أحمد في رواية عنه: لا يشترط أن يكون الضمان بإذن المضمون عنه، لأنه قضاء مبرئ من دين واجب، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه، كما قال ابن قدامة. وأما أبو قتادة فإنه تبرع بالقضاء والضمان، إذ أنه قضى دين الميت قصداً لتبرئة ذمته، ليصلي عليه النبي صلّى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لم يترك وفاء، والمتبرع لا يرجع بشيء (4).
_________
(1) البدائع: 13/ 6.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 13 ومابعدها، فتح القدير: 408/ 5 ومابعدها، المبسوط: 178/ 19.
(3) المهذب: 341/ 1، مغني المحتاج: 209/ 2.
(4) بداية المجتهد: 294/ 2، المغني: 449/ 4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 325.

(6/4172)


2 - أن تكون الكفالة بإذن صحيح: أي بإذن شخص أهل لصدور الإقرار على نفسه بالدين، فلا يعتبر إذن الصبي المحجور عن التصرفات، وبالتالي لايحق للكفيل الرجوع عليه بما أداه عنه؛ لأن العلاقة علاقة استقراض، واستقراض الصبي لا يتعلق به الضمان.
3 - إضافة الضمان إلى الأصيل بأن يقول للكفيل: اضمن عني، لأنه إذا لم يضف إلى نفسه، فلا يتحقق معنى الإقراض الذي تقوم عليه العلاقة بين الكفيل والأصيل؛ لأن الكفالة بالنسبة للمكفول عنه استقراض (أي طلب القرض) وبالنسبة للكفيل بعد الأداء إقراض للمكفول عنه ونائب عنه في الأداء إلى المكفول له. أما بالنسبة للمكفول له: فهو تمليك ما في ذمة المكفول عنه من الكفيل بما أخذه من المال، فيرجع عليه بما أقرضه.
4 - ألا يكون للأصيل على الكفيل دين مثل الدين الذي أداه الكفيل؛ لأنه إذا أدى الدين، حصلت مقاصة بينهما:
ولو وهب صاحب الدين المال للكفيل يرجع على الأصيل؛ لأن الهبة في معنى أداء المال. وإذا وهب الدين إلى الأصيل برئ الكفيل؛ لأن هذا وأداء المال سواء.
ولو مات الدائن فورثه الكفيل يرجع على الأصيل، ولو ورثه الأصيل يبرأ الكفيل؛ لأن الإرث من أسباب الملكية، ومتى ملك الأصيل المال برئ، فيبرأ الكفيل.
ولو أبرأ الدائن الكفيل لا يرجع على الأصيل؛ لأن الإبراء إسقاط وهو بالنسبة للكفيل إسقاط حق المطالبة لا غير.

(6/4173)


وإذا أبرأ الكفيل الأصيل مما ضمنه عنه بإذنه أو وهبه منه جاز، فلو أدى الكفيل الدين بعدئذ، لا يرجع على الأصيل.
ولو قال الدائن للكفيل: (برئت إليَّ من المال) يرجع الكفيل على الأصيل باتفاق الحنفية؛ لأن هذا إقرار بالقبض والاستيفاء، باعتبار أن اللفظ يستعمل في الأداء، فيرجع: أي أن هذه البراءة لا تكون إلا بالإيفاء فكان ذلك بمنزلة قوله: (دفعت إليَّ المال أو قبضته منك) وهو إقرار بالقبض.
أما إذا قال: (برئت من المال) فهو إقرار بالقبض عند أبي يوسف كأنه قال: (برئت إليَّ من المال) لأنه أقر ببراءة خاصة بالكفيل وهو يكون بفعل صادر عنه، كما إذا قيل: (قمت وقعدت مثلاً) وهذا الفعل هنا هو الإيفاء.
وعند محمد: لا يرجع الكفيل على المكفول عنه؛ لأن هذا بمنزلة قوله: (أبرأتك من المال) لأنه يحتمل البراءة بالأداء إليه (أي بالقبض والإبراء) فيثبت القدر الأدنى وهو براءة الكفيل، وأما الزائد عليه (وهو الأداء) ففيه شك، فلا يثبت القبض بالشك، وبالتالي لا يحق للكفيل الرجوع حينئذ على المكفول عنه، وهذا هو الرأي الأرجح عند الحنفية.
وأما سبب عدم رجوع الكفيل على المكفول عنه في قول الدائن له: (أبرأتك) فهو أن هذا اللفظ يفيد تخصيص البراءة بالكفيل، ولا يتعدى أثره إلى غيره بإسقاط الدين عن المدين، فلم يكن هذا اللفظ متضمناً إقرار الدائن بإيفاء الدين. والفرق بين هذه الصورة وصورة: (برئت من المال) عند أبي يوسف: هو أن البراءة بالإبراء لا تتحقق بفعل الكفيل بل بفعل الدائن، فلا يكون الفعل حينئذ منسوباً إلى الكفيل (1).
_________
(1) المبسوط: 93/ 20، فتح القدير: 413/ 5، رد المحتار على الدر المختار: 287/ 4 ومابعدها.

(6/4174)


والخلاصة: أن الراجح عند الحنفية هو أن الكفيل لا يرجع على الأصيل في قول الدائن للكفيل: (برئت) بدون إلي أو (أبرأتك) لأنه إبراء لا إقرار بالقبض.

رجوع الكفيل على الأصيل حالة تعدد الكفلاء: إذا كفل رجلان رجلاً بألف ليرة مثلاً، ولم يكفل كل واحد منهما عن صاحبه، فأدى أحدهما ما عليه، فلا يرجع على صاحبه بشيء مما أدى؛ لأنه أدى عن نفسه لا عن صاحبه، ولكنه يرجع على الأصيل؛ لأنه كفيل عنه بأمره.
فإن كفل واحد منهما عن صاحبه بما عليه، فالقول قول الكفيل فيما أدى أنه من كفالة الكفيل الآخر، أو من كفالة نفسه؛ لأنه لزمه المطالبة بالمال من وجهين:
أحدهما ـ من جهة كفالة نفسه عن الأصيل.
والثاني ـ من جهة الكفالة عن صاحبه. وليس أحد الوجهين أولى من الآخر، فكان له ولاية الأداء عن أيهما شاء.
وإذا كفل كل واحد منهما عن صاحبه بما عليه، فما أدى كل واحد منهما، يكون عن نفسه إلى نصف المكفول به: وهو خمس مئة ليرة في مثالنا. ولا يقبل قوله فيه أنه أدى عن شريكه لا عن نفسه، بل يكون عن نفسه إلى هذا القدر، فلا يرجع على شريكه. كما لا يقبل قوله أيضاً حين الأداء أنه يؤدي عن شريكه لا عن نفسه.
ولا يرجع على شريكه ما لم يزد المؤدى عن نصف المكفول به وهو خمس مئة في مثالنا، فإن زاد على خمس مئة يرجع بالزيادة إن شاء على شريكه، وإن شاء على الأصيل.
وهذه القاعدة تنطبق أيضاً في فروع أخرى منها: لو اشترى رجلان شيئاً بألف

(6/4175)


ليرة، وكفل كل واحد منهما عن صاحبه بحصته من الثمن، فما أدى أحدهما يقع عن نفسه، ولا يرجع على شريكه حتى يزيد على النصف.
ومنها: أن الشريكين شركة مفاوضة إذا افترقا وعليهما دين، فلصاحب الدين أن يطالب كل واحد منهما، وأيهما أدى شيئاً لا يرجع على شريكه حتى يزيد المؤدى على النصف (1).

وأما ما يرجع به الكفيل على الأصيل: فهو أنه يرجع عند الحنفية بما ضمن، لا بما أداه؛ لأنه ملك ما في ذمة الأصيل، فيرجع بما تمت الكفالة عليه. فلو كانت الكفالة على شيء جيد، فأدى ما هو أدون منه، فإنه يرجع على الأصيل بالجيد.
وكذلك إذا كفل ديناً نقدياً، فأدى عنه مكيلاً أو موزوناً أو عروض تجارة، فإنه يرجع بما كفل، لا بما أدى.
وهذا بخلاف الوكيل بقضاء الدين، فإنه يرجع على الموكل بما أدى لا بالدين، لأنه بالأداء ما ملك الدين، بل أقرض ما أداه الموكل، فيرجع عليه بما أقرضه. أما في حالة الصلح على بعض الدين فإنه يرجع بما صالح به، لا بكل الدين، لأنه بأداء البعض لم يملك ما في ذمة الأصيل وهو كل الدين، إذ لا يمكن اعتبار الصلح تمليكاً؛ لأنه يؤدي إلى الربا (2).
وقال المالكية والشافعية في الأصح عندهم: يرجع الكفيل بما غرم (أي بما أدى فعلاً) لأنه هو الشيء الذي بذله. وكذلك في حالة الصلح أو الإبراء من بعض
_________
(1) البدائع: 14/ 6 ومابعدها، فتح القدير: 437/ 5 وما بعدها، المبسوط: 34/ 20، الدر المختار: 298/ 4.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 15.

(6/4176)


الدين يرجع الكفيل بما أدى عند الشافعية، وبالأقل من الدين وقيمة الشيء المصالح به عند المالكية (1).
وقال الحنابلة: يرجع الكفيل على الأصيل بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين؛ لأنه إن كان الأقل هو الدين، فالزائد لم يكن واجباً، فهو متبرع بأدائه.
وإن كان المقضي أقل فإنما يرجع بما غرم (2)، فيكون مذهبهم كالمالكية والشافعية.

متى يرجع الكفيل على الأصيل؟ ليس للكفيل أن يطالب الأصيل (المكفول عنه) بالمال الذي كفله عنه قبل أن يؤديه عنه؛ لأنه لا يملكه قبل الأداء، بخلاف الوكيل بالشراء، حيث يرجع قبل الأداء كما بان سابقاً؛ لأنه بمنزلة البائع. فإن لوزم الكفيل بالمال المكفول به، كان له أن يلازم الأصيل المكفول عنه. وإن حبس به، كان له أن يحبسه، حتى يخلصه؛ لأنه لم يلحقه من السوء ما لحقه، إلا بسببه، فيجازى بمثله (3).
ملحق ـ أخذ الأجر على الكفالة في الوقت الحاضر:
الكفالة عقد تبرع، وطاعة يثاب عليها الكفيل؛ لأنها تعاون على الخير، وللكفيل الرجوع على المكفول عنه بما تحمله من مسؤولية الضمان إذا دفعه لصالح الجهة المكفول لها. والأولى تتم تبرعاً بدون مقابل، فذلك أبعد عن الشبهة. ولو قام المكفول له بتقديم شيء من المال للكفيل هبة أو هدية، جاز، جزاء المعروف
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 346/ 3، مغني المحتاج: 209/ 2 ومابعدها.
(2) المغني: 551/ 4.
(3) الكتاب مع اللباب: 157/ 2.

(6/4177)


الذي أسداه له الكفيل. لكن إن شرط الكفيل تقديم مقابل أو أجر على كفالته، وتعذر على المكفول عنه تحقيق مصلحته من طريق المحسنين المتبرعين، جاز دفع الأجر للضرورة أو الحاجة العامة، لما يترتب على عدم الدفع من تعطيل المصالح كالسفر للخارج للدراسة أو للارتزاق، أو لتأجيل الجندية ونحوها، وأساس القول بالجواز فيه: أن الفقهاء أجازوا دفع الأجر للحاجة لأداء القربات والطاعة من تعليم قرآن وممارسة الشعائر الدينية، كما أنهم أجازوا دفع شيء من المال على سبيل الرشوة للوصل إلى الحق أو دفع الظلم، أو الدفع لعدو لدرء خطره وضرره عن البلاد. والمكفول عنه يحقق بالكفالة منفعة له تتعين الكفالة المأجورة سبيلاً إليها، لكن يجب عدم الاستغلال أو المغالاة في اشتراط المقابل، مراعاة لأصل مشروعية الكفالة وهو التبرع. كما يمكن اعتبار الأجر لمكاتب الكفالات مقابل الأتعاب في إنجاز معاملة الكفالة.

الاعتماد المستندي: الاعتماد المستندي يستعمل في تمويل التجارة الخارجية، وهو تعهد كتابي صادر من مصرف بناء على طلب مستورد لصالح مورد، يتعهد فيه المصرف بدفع المبالغ التي يستحقها المورد ثمناً لسلع يصدرها للمستورد طالب فتح الاعتماد، متى قدم المورد المستندات المتعلقة بالسلع، والشحن، على أن تكون هذه المستندات مطابقة لشروط الاعتماد.
وحكم الاعتماد المستندي المغطى غطاء كلياً يكون المصرف فيه وكيلاً عن فاتح الاعتماد، وإن كان كفيلاً بالنسبة للمصدِّر الذي يعتبر مكفولاً له، وللمصرف أن يأخذ عمولة أو أجراً عن وكالته، لا عن كفالته.
أما في الاعتماد غير المغطى كلياً أو جزئياً، فالمصرف كفيل، وفاتح الاعتماد غير المغطى مكفول عنه، فإذا أخذ المصرف عمولة مقابل المبلغ المكفول به، لا مقابل

(6/4178)


العمل الذي يقوم به، فقد أخذ أجراً مقابل الكفالة ذاتها، وهو لا يجوز (1).
وينطبق حكم الكفالة على خطابات الضمان (2) التي تصدرها البنوك إذا كان الخطاب غير
مغطى من العميل، والحكم الشرعي أنه لا يجوز للبنك أخذ الأجر على هذا العمل؛ لأنه أجر على الكفالة. أما إذا كان الخطاب مغطى بالغطاء النقدي من العميل ولو غطاءً جزئياً لا كلياً، فيجوز للبنك أخذ مقابل إصدار الخطاب وما يقترن به من العمل على أساس الوكالة، ومن المعلوم أنه يجوز أخذ الأجر على الوكالة، ولا يجوز أخذ الأجر على الكفالة، ويكون أجر الوكالة ـ كما جاء في المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية في دبي ـ مراعى فيه حجم التكاليف التي يتحملها المصرف في سبيل أدائه لما يقترن بإصدار خطاب الضمان من أعمال يقوم بها المصرف بحسب العرف المصرفي.
وتشمل هذه الأعمال بوجه خاص تجميع المعلومات، ودراسة المشروع الذي سيعطى بخصوصه خطاب الضمان، كما يشمل ما يعهد به العميل إلى المصرف من خدمات مصرفية تتعلق بهذا المشروع، مثل تحصيل المستحقات من أصحاب المشروع. ويجوز للمصرف أخذ مقابل الخدمات والمصاريف في الضمان غير المغطى.
_________
(1) الكفالة للدكتور علي السالوس: ص 159 - 160.
(2) خطاب الضمان: تعهد كتابي، يتعهد بمقتضاه المصرف بكفالة أحد عملائه (طالب الإصدار) في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث، بمناسبة التزام ملقى على عاتق العميل المكفول، وذلك ضماناً لوفاء هذا العميل بالتزامه تجاه ذلك الطرف خلال مدة معينة، على أن يدفع المصرف المبلغ المضمون عند أول مطالبة في مدة الخطاب.

(6/4179)


تطبيقات على الكفالات المعاصرة أولاً ـ أهم أنواع الكفالات التجارية: عرف الفقهاء أنواعاً مهمة من الكفالات التجارية التي تشبه في جوهرها الكفالات المصرفية أهمها ما يلي:
1 - ضمان الدرك أو ضمان العهدة: وهو كما تقدم ضمان الثمن للبائع، وضمان المبيع للمشتري.
2 - ضمان السوق: وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر من الديون، وما يقبضه من الأعيان المضمونة، وهو ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول. وقد أجازه الجمهور وأبطله الشافعي (1). ودليل جوازه قوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72/ 12]. وصرح صاحب الفتاوى الحامدية بجوازه (2).
نصت مجلة الأحكام الشرعية (م 1094) على هذا النوع: «يصح ضمان السوق، مثلاً: لو ضمن ما يلزم التاجر أو مايبقى عليه للتجار أو ما يقبض من الأعيان المضمونة، صح الضمان».

3 - ضمان نقص الصنجة أو المكيال أو الذراع: وهو كما تقدم وكما هو واضح: التعهد بضمان نقص أدوات الكيل أو الوزن أو المساحة كالذراع ونحوه.
جاء في مجلة الأحكام الشرعية (م 1091): «يصح ضمان نقص الصنجة أو المكيال أو الذراع، مثلاً، لو اشترى موزوناً فشك في نقص الصنجة، أو مكيلاً فشك في نقص المكيال أو مذروعاً، فشك في نقص الذراع فضمن شخص النقص صح ضمانه، فيرجع المشتري بما نقص والقول له بيمينه».
_________
(1) فتاوى ابن تيمية 549/ 29.
(2) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 285/ 1.

(6/4180)


وهذه الأنواع الثلاثة ضمان مجرد: وهو عقد تبرع خالص لا أجر له، بخلاف أنظمة المصارف الربوية.

ثانياً ـ الاعتمادات المستندية: الاعتماد المستندي: تعهد كتابي من المصرف لصالح مورِّد، يتعهد فيه المصرف بدفع ثمن السلع المصدرة لمستورد طالب فتح الاعتماد، متى قدم المورد مستندات السلع والشحن، على أن تكون
هذه المستندات مطابقة لشروط الاعتماد. ويستعمل في تمويل التجارة الخارجية (1).

وحكمه حكم خطاب الضمان: إن كان مغطى غطاء كلياً، كان المصرف وكيلاً عن فاتح الاعتماد، وله أن يأخذ عمولة أو أجراً عن وكالته. وإن كان غير مغطى كلياً أو جزئياً، كان المصرف كفيلاً، وفاتح الاعتماد مكفول عنه، فلا يجوز للمصرف أخذ أجر مقابل الكفالة ذاتها، وإنما مقابل الإجراءات والمصاريف الإدارية فقط. وإذا كان الغطاء جزئياً لاستيراد سلعة معينة، فإن البنك يصبح شريكاً لفاتح الاعتماد في الكسب أو الخسارة بنسبة معينة هي 2% مثلاً، وليس كفالة مجردة.
ثالثاً ـ التأمين التجاري ذو القسط الثابت: يسمى هذا التأمين أيضاً بالضمان، ومنه شركة الضمان السورية، وذلك حتى يلتبس بالكفالة ويوهم الناس بمشروعيته، وربما أدخل تحت كفالة المجهول وضمان ما لم يجب.
_________
(1) الكفالة في ضوء الشريعة الإسلامية للدكتور علي السالوس: ص 159.

(6/4181)


وتعريفه قانونا ً: هو عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّن له (المستأمن) أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغاً من المال، أو إيراداً مرتباً، أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث، أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط، أو أية دفعة أخرى يؤديها المؤمَّن له إلى المؤمِّن.
فهو كما يتبين عقد من العقود الاحتمالية ومن عقود المعاوضات المالية، وليس العوض تبرعاً من المؤمِّن. والعقود الاحتمالية داخلة تحت فئة عقود الغرر؛ إذ لايعرف وقت العقد مقدار ما يعطي كل من العاقدين أو يأخذ، فقد يدفع المستأمن قسطاً واحداً من الأقساط، ثم يقع الحادث، وقد
يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الحادث (1).
وهو بهذه الأوصاف غير جائز شرعاً لاشتماله على الغرر والربا.
أما الغرر: فواضح فيه؛ لأنه من عقود الغرر: وهي العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد ثبت «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (2). ويقاس على البيع عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها، كما يؤثر في عقد البيع. وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان (عقود الغرر) لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين. والغرر في التأمين كثير لا يسير ولا متوسط؛ لأن من أركان التأمين: الخطر، والخطر حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين. والمؤمَّن له (المستأمن) لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطاً واحداً، ويقع الخطر، فيستحق جميع ما التزم به المؤمِّن، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الخطر، فلا يأخذ شيئاً.
_________
(1) الغرر وأثره في العقود: ص 639 - 663.
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(6/4182)


وكذلك حال المؤمِّن، لا يعرف عند العقد مقدار ما يأخذ أو ما يعطي، وإن كان يستطيع إلى حد كبير معرفة كل ذلك بالنسبة لجميع المؤمن لهم، بالاستعانة بقواعد الإحصاء الدقيق. وبالرغم من ذلك لا تنتفي مع هذه القواعد صفة الاحتمال والغرر والغبن في الظروف العادية؛ لأن انتفاء الغرر بالنسبة للمؤمِّن وحده لا يكفي لانتفاء الغرر عن عقد التأمين، فلا بد من انتفائه بالنسبة للمستأمن أيضاً.
وليس الأمان بالنسبة للمستأمن هو محل العقد، وإنما هو الباعث على عقد التأمين، ولو كان هو محل العقد، لكان عقد التأمين باطلاً؛ لأن المحل يلزم أن يكون ممكناً غير مستحيل، والأمان يستحيل الالتزام به.

وأما الربا: فمن المؤكد أن عوض التأمين ناشئ من مصدر مشبوه، لأن كل شركات التأمين تستثمر أموالها في الربا، وقد تعطي المستأمن (المؤمن له) في التأمين على الحياة جزءاً من الفائدة، والربا حرام قطعاً. ثم إن الربا واضح بين العاقدين: المؤمِّن والمستأمن؛ لأنه لا تعادل ولا مساواة بين أقساط التأمين وعوض التأمين، فما تدفعه الشركة قد يكون أقل أو أكثر، أو مساوياً للأقساط، وهذا نادر، والدفع متأخر في المستقبل، فإن كان التعويض أكثر من الأقساط، كان فيه ربا فضل وربا نسيئة، وإن كان مساوياً ففيه ربا نسيئة، وكلاهما حرام.
وكان ابن عابدين المتوفى سنة 1252 هـ أول من اعتبر عقد التأمين البحري غير مشروع، قال بعد بيان ما يسمى سوكرة وتضمين الحربي ما هلك في المركب: «والذي يظهر لي: أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لايلزم» (1).
_________
(1) رد المحتار على الدر المختار 273/ 3، ط البابي الحلبي.

(6/4183)


وتأيد هذا بما قرره المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة عام (1396 هـ/1976 م) وكذا مجمع الفقه في جدة عام 1406هـ/1985م من عدم مشروعية التأمين التجاري.
وقال ابن نجيم المصري (1): الغرور لا يوجب الرجوع، فلو قال: اسلك هذا الطريق، فإنه آمن، فسلكه فأخذه اللصوص، أو كل هذا الطعام، فإنه ليس بمسموم، فأكله فمات فلا ضمان. ثم استثنى من ذلك ثلاث حالات، منها إذا كان الغرور بالشرط، كما لو زوجه امرأةً على أنها حرة، ثم استحقت، فإنه يرجع على المخبر بما غرمه للمستحق من قيمة الولد.

أما التأمين التعاوني بين فئة من الناس، فهو جائز شرعاً؛ لأنه عقد من عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون المطلوب شرعاً على البر والخير؛ لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس، لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أياً كان نوع الضرر من حريق أو غرق أو سرقة أو حادث سيارة أو بسبب حوادث العمل أو موت حيوان ونحو ذلك، ولأنه لا يهدف إلى تحقيق الأرباح، كما تفعل شركات التأمين ذات القسط الثابت.
وقد أجاز مؤتمر علماء المسلمين الثاني في القاهرة عام (1385 هـ/1965 م) ومؤتمر علماء المسلمين السابع عام (1392هـ/1972 م) كلاً من التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني، وهو ما قرره المجمع الفقهي في مكة المكرمة عام (1398هـ/1978 م) ومجمع الفقه الإسلامي في جدة في قراره رقم 9 عام 1406هـ/ 1985م.
_________
(1) الأشباه والنظائر ص 252 وما بعدها، ط دار الفكر بدمشق.

(6/4184)


والخلاصة: لا يجوز التأمين التجاري لاشتماله على الربا والغرر، وليس هو من باب الكفالة سواء كفالة المجهول وضمان ما لم يجب؛ لأن الكفالة تبرع، والتأمين عقد معاوضة احتمالي.
ويجوز التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني لقيامه على التبرع، والتعاون على البر والخير والإحسان المحض من غير معاوضة.

رابعاً ـ كفالات الإقامة والسفر: عرفنا أن الكفالة عقد تبرع وطاعة يثاب عليها الكفيل؛ لأنها تعاون على الخير، وللكفيل أن يرجع على المكفول عنه بما تحمله من مسؤولية الضمان إذا دفعه لصالح الجهة المكفول لها. والكفالة مشروعة سواء كانت كفالة بالمال (أو الدين) أو كفالة بالنفس.
ومن المعروف أن دول الخليج تشترط تقديم كفيل بالنفس والمال على العمال وأرباب العمل الذين يمارسون أعمالهم فيها، ويلتزم الكفيل من أجل منح هؤلاء الإقامة في هذه البلاد التي يعملون فيها تقديم الأجنبي للسلطات المختصة لترحيله عند انتهاء إقامته أو إلغائها، أو صدور قرار بإبعاده، مع سداده نفقات الترحيل. كما يلتزم بجميع الديون والالتزامات التي تترتب في ذمة مكفوله الأجنبي خلال مدة إقامته في البلاد، إذا لم يف بها، ولم تكن له أموال ظاهرة يمكن التنفيذ عليها.
كما توجب قوانين بعض الدول تقديم كفيل بالنفس والمال عند السماح لبعض رعاياها بالسفر للخارج من أجل العمل أو الدراسة أو تأجيل خدمة العلم (الجندية) ونحوها، ويلتزم الكفيل بدفع مبلغ من المال إذا لم يقدم المكفول بنفسه للدولة حال مطالبة السلطات الحكومية بإحضاره.

(6/4185)


وحكم هذين النوعين من الكفالة: كفالة الإقامة والسفر للخارج: أن الكفالة بالرغم من كونها عقد تبرع، يجوز بموجبها للكفيل أخذ مقابل عمله وجهده فقط، وله الرجوع بما يغرم، وما زاد عن هذا فهو سحت حرام (1)، بل هو ظلم وغبن فاحش إذا تجاوز الكفيل هذه الحدود المشروعة، بأن طالب المكفول بتقديم نسبة من أرباح العمل، أو بأقساط شهرية دورية، دون أن يقدم الكفيل لمكفوله أي عمل، أو يتحمل أي جهد، أو يؤدي عنه أي نفقة.
وقد نصت المادة (1098) من قانون المعاملات المدنية في دولة الإمارات، المستمد من الفقه الإسلامي على ما يلي:
«لا يجوز للكفيل أن يأخذ عوضاً عن كفالته، فإن أخذ عوضاً عنها وجب عليه رده لصاحبه، وتسقط عنه الكفالة إن أخذه من الدائن أو من المدين أو من أجنبي بعلم من الدائن، فإن أخذه بدون علم منه لزمته الكفالة مع رد العوض».
وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذه المادة: وإنما منع أخذ الضامن عوضاً عن ضمانه؛ لأن الدين إن دفعه المدين، كان أخذ الضامن للعوض من أكل أموال الناس بالباطل. وإن دفعه الضامن ثم رجع به على المدين، كان دفعه للدين وأخذه من المدين سلفاً للمدين بزيادة، وهي العوض الذي أخذه، وهذا ممنوع.
والخلاصة: يجوز أخذ الأجر على كفالة الإقامة أو السفر إذا كانت مقابل عمل وجهد فقط أو بسبب غرم الكفيل، وما زاد على ذلك فهو مال حرام.
_________
(1) الكفالة للدكتور علي السالوس: ص 172.

(6/4186)