الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثَّاني عَشَر: الرَّهن
خطة البحث:
الكلام عن عقد الرهن في المباحث السبعة التالية:

المبحث الأول ـ تعريف الرهن ومشروعيته وركنه وعناصره وأحواله.
المبحث الثاني ـ شروط الرهن:
(شروط العاقدين، والصيغة، والمرهون به، والمرهون، وشروط تمام الرهن، قبض الرهن، ما يجوز ارتهانه، وما لا يجوز، وما يتفرع عن القبض وغيره من الشروط).
المبحث الثالث ـ أحكام الرهن أو آثاره
الرهن الصحيح والرهن الفاسد
المبحث الرابع ـ نماء الرهن أو زوائده
المبحث الخامس ـ الزيادة في الرهن والدين
المبحث السادس ـ انتهاء الرهن وحالاته
المبحث السابع ـ اختلاف الراهن والمرتهن

(6/4206)


المبحث الأول ـ تعريف الرهن ومشروعيته وركنه وعناصره وأحواله:
تعريف الرهن: الرهن لغة: إما الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن أي راكد، وحالة راهنة: أي ثابتة. وإما الحبس واللزوم، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38/ 74] أي محبوسة. والظاهر أن في الحبس معنى الدوام والثبوت، فأحد المعنيين تطور للمعنى الآخر، والظاهر أن المعنى الأول هو الحبس؛ لأنه المعنى المادي. وعلى كل حال، فالمعنى الشرعي ذو صلة بالمعنى اللغوي، وقد يطلق الرهن لغة على الشيء المرهون: وهو ما جعل وثيقة للدين، من باب تسمية المفعول بالمصدر.
وعقد الرهن شرعاً (1): حبس شيء بحق يمكن استيفاؤه منه، أي جعل عين لها قيمة مالية في نظر الشرع وثيقة بدين بحيث يمكن أخذ الدين كله أو بعضه من تلك العين. أو هو عقد وثيقة بمال، أي عقد على أخذ وثيقة بمال، لا بذمة شخص، فامتاز عن الكفالة؛ لأن التوثق بها إنما يكون بذمة الكفيل، لا بمال يقبضه الدائن، ومعنى «وثيقة» أي متوثق بها، فقد توثق الدين وصار مضموناً محكماً بالعين المرهونة، وكون الوثيقة ذات قيمة مالية لإخراج العين النجسة والمتنجسة بنجاسة لا يمكن إزالتها، فإنها لا يجوز أن تكون وثيقة للدين.
وعرفه الشافعية (2) بقولهم: جعل عين وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر وفائه. وقولهم «جعل عين» يفيد عدم جواز رهن المنافع؛ لأنها تتلف فلا يحصل بها استيثاق.
_________
(1) اللباب: 5/ 2، الدر المختار: 339/ 5، المبسوط: 63/ 21.
(2) مغني المحتاج: 121/ 2، حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب للأنصاري: 122/ 2، 124.

(6/4207)


وعرفه الحنابلة (1) بأنه: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه.
وعرفه المالكية (2): بأنه شيء متموَّل يؤخذ من مالكه، توثقاً به، في دين لازم، أو صار إلى اللزوم، أي أنه تعاقد على أخذ شيء من الأموال عيناً كالعقار والحيوان والعروض (السلع)، أو منفعة، على أن تكون المنفعة معينة بزمن أو عمل، وعلى أن تحسب من الدَّين. ولا بد من أن يكون الدين لازماً كثمن مبيع، أو بدل قرض، أو قيمة متلف، أو صائراً إلى اللزوم، كأخذ رهن من صانع أو مستعير، خوفاً من ادعاء ضياع، فيكون الرهن في القيمة على ما يلزم.
وليس المراد من الأخذ عند المالكية: التسليم الفعلي؛ لأن التسليم بالفعل ليس شرطاً عندهم في انعقاد الرهن، ولا في صحته، ولا في لزومه، بل ينعقد ويصح ويلزم بالصيغة أي بمجرد الإيجاب والقبول، ثم يطلب المرتهن أخذه.

صفة الرهن العامة: والرهن عقد من عقود التبرع؛ لأن ما أعطاه الراهن للمرتهن غير مقابل بشيء (3)، وهو من العقود العينية: وهي التي لا تعتبر تامة الالتزام إلا إذا حصل تسليم العين المعقود عليها، وهذه العقود خمسة: الهبة، والإعارة، والإيداع، والقرض، والرهن. والسبب في اشتراط القبض لتمامها: هو أنها تبرع، والقاعدة تقول: «لا يتم التبرع إلا بالقبض» فيعتبر العقد فيها عديم الأثر قبل القبض، والتنفيذ هو المولد لآثار العقد.
مشروعيته وحكمه: الرهن مشروع بالقرآن والسنة والإجماع. أما القرآن:
_________
(1) المغني: 326/ 4.
(2) الشرح الصغير: 303/ 3 ومابعدها، 325.
(3) رد المحتار: 340/ 5.

(6/4208)


فقوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2].
والرهن باتفاق الفقهاء جائز في الحضر والسفر، خلافاً لمجاهد والظاهرية (1)، لإطلاق مشروعيته في السنة، وذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب، لكون الكاتب في الماضي غير متوافر في السفر غالباً، ولا يشترط أيضاً عدم وجود الكاتب، لثبوت جوازه في السنة مطلقاً. والآية أرادت إرشاد الناس إلى وثيقة ميسَّرة لهم عند فقدان كاتب يكتب لهم الدين.
وأما السنة: فروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً، ورهنه درعاً من حديد» (2) وعن أنس قال: «رهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم درعاً عند يهودي بالمدينة، وأخذ منه شعيراً لأهله» (3).
وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» (4).
وعن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يَغْلَق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غُرْمة» (5) وغلق الرهن: استحقاق المرتهن إياه، لعجز الراهن عن فكاكه، أي لا ينفك ملك الرهن عن صاحبه، ولا يستحقه المرتهن، إذا
_________
(1) المغني: 327/ 4، المهذب: 305/ 1، البدائع: 135/ 6، بداية المجتهد: 271/ 2، القوانين الفقهية: ص 323، الإفصاح: 238/ 1، كشاف القناع: 307/ 3 ومابعدها.
(2) انظر هذا الحديث ومايليه في نصب الراية: 319/ 4 وما بعدها، نيل الأوطار: 233/ 5 ومابعدها.
(3) رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه.
(4) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي (نيل الأوطار: 234/ 5).
(5) رواه الشافعي والدارقطني، وقال: هذا إسناد حسن متصل.

(6/4209)


لم يفتكه في الوقت المشروط. وفي هذا رد على ما كان في الجاهلية، من أن المرتهن كان يتملك الرهن إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المعيّن، فأبطله الشارع. والحكمة من تشريع الرهن توثيق الديون، فكما أن الكفالة توثق الدين شخصياً، يوثق الرهن الدين مالياً، تسهيلاً للقروض. والرهن يفيد الدائن بإعطائه حق الامتياز أو الأفضيلة على سائر الدائنين الغرماء.
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز الرهن.
أما الكفالة أو الكتابة أو الإشهاد فلا تُحقق بنحو مؤكد مصلحة الدائن؛ لأن الرهن وثيقة بالدين في يد المرتهن مقابل حقه، ويتمكن من استيفاء دينه منه ببيعه بإذن القاضي أو بإذن مالكه الراهن. ويحقق الرهن أيضاً مصلحة الراهن بالحصول على الدين أي النقد، أو بتأجيل الثمن بدفع متاع يكون رهناً، فيكون الرهن محققاً مصلحة الطرفين.

وحكم الرهن التكليفي شرعا ً: أنه جائز غير واجب بالاتفاق؛ لأنه وثيقة بالدين، فلم يجب، كما لم تجب الكفالة. وقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] أمر إرشاد للمؤمنين، لا إيجاب عليهم، بدليل قوله تعالى عقبه: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة:283/ 2]، ولأنه تعالى أمر به عند عدم وجود الكاتب، وبما أن الكتابة غير واجبة، بدليل: {فإن أمن ... } [البقرة:283/ 2] فكذلك بدلها (1).
ركن الرهن وعناصره:
للرهن عناصر أربعة: هي الراهن، والمرتهن، والمرهون، والمرهون به. فالراهن: معطي الرهن، والمرتهن: آخذه، والمرهون أو الرهن: ما أعطي من المال وثيقة للدين، والمرهون به هو الدين.
_________
(1) المغني: 327/ 4، كشاف القناع: 307/ 3.

(6/4210)


وركن الرهن عند الحنفية (1): هو الإيجاب والقبول، من الراهن والمرتهن، كسائر العقود، ولكن لا يتم ولا يلزم إلا بالقبض أي التخلية أو النقل كأن يقول الراهن: رهنتك هذا الشيء بما لك علي من الدين، أو هذا الشيء رهن بدينك، ونحوه. ويقول المرتهن: ارتهنت أو قبلت، أو رضيت ونحوه. ولا يشترط لفظ «الرهن» فلو اشترى شيئاً بدراهم، وسلم إلى البائع شيئاً، وقال له: أمسكه، حتى أعطيك الثمن، انعقد الرهن؛ لأن العبرة في العقود للمعاني.
وقال غير الحنفية (2): للرهن أركان أربعة: صيغة، وعاقد، ومرهون، ومرهون به.
وهكذا الخلاف في قضية الركن بين الحنفية وغيرهم في كل العقود، فالركن عند الجمهور أوسع منه عند الحنفية، فإن الركن عند الحنفية: ما كان جزءاً من شيء، وتوقف وجوده عليه؛ لأن من الأجزاء ما يتوقف عليها الوجود، ومنها مالايتوقف عليها الوجود. أما الركن عند الجمهور: فهو ما توقف عليه وجود الشيء، ولا يمكن تصوره إلا به، سواء أكان جزءاً منه، أم لا. فالعاقد ركن، إذ لايتصور عقد بدون عاقد، وإن لم يكن جزءاً من العقد، أما العاقد عند الحنفية، فيعد من شروط العقد.

أحوال الرهن: للرهن المتفق عليه أحوال ثلاثة (3):
_________
(1) البدائع: 135/ 6، الدر المختار: 340/ 5، تكملة الفتح: 189/ 8 ومابعدها، تبيين الحقائق: 63/ 6، اللباب شرح الكتاب: 54/ 2.
(2) الشرح الصغير: 304/ 3 ومابعدها، مغني المحتاج: 121/ 2، كشاف القناع: 307/ 3 ومابعدها.
(3) المغني: 327/ 4، مغني المحتاج: 127/ 2، المهذب: 305/ 1، كشاف القناع: 308/ 3، حاشية الدسوقي على الدردير: 245/ 3.

(6/4211)


الأولى ـ أن يقع مع العقد المنشئ للدين: كأن يشترط البائع على المشتري بثمن مؤجل إلى المستقبل في مدة معينة تسليم رهن بالثمن. وهذا صحيح باتفاق المذاهب، لأن الحاجة داعية إليه.
الثانية ـ أن يقع بعد الحق أو نشوء الدين: وهو صحيح أيضاً بالاتفاق؛ لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به، فجاز أخذها به كالضمان (الكفالة). وآية {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] تشير إليه؛ لأن الرهن بدل عن الكتابة، والكتابة بعد وجوب الحق.
الثالثة ـ أن يقع قبل نشوء الحق: مثل: رهنتك متاعي هذا بمئة تقرضنيها: يصح عند المالكية والحنفية؛ لأنه وثيقة بحق، فجاز عقدها قبل وجوبه، كالكفالة وهذا هو المعقول. ولا يصح عند الشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب؛ لأن الوثيقة بالحق لا تلزم قبله، كالشهادة، ولأن الرهن تابع للحق، فلا يسبقه.

المبحث الثاني - شروط الرهن:
للرهن شروط انعقاد، وشروط صحة، وشرط لزوم وهو القبض.

المطلب الأول ـ شروط العاقدين:
يشترط في عاقدي الرهن (الراهن والمرتهن) ما يأتي (1):

الأهلية: الأهلية عند الحنفية والمالكية: هي أهلية البيع، فكل من يصح بيعه يصح رهنه؛ لأن الرهن تصرف مالي كالبيع، فوجب أن يراعى في عاقديه ما يراعى
_________
(1) البدائع: 135/ 6، بداية المجتهد: 268/ 2، حاشية الشرقاوي: 123/ 2، كشاف القناع: 309/ 3، الشرح الكبير للدردير:231/ 3 ومابعدها، 292.

(6/4212)


في عاقدي البيع. فيشترط في عاقدي الرهن: العقل أو التمييز، فلا يجوز الرهن والارتهان من المجنون والصبي غير المميز أو الذي لا يعقل.
ولا يشترط البلوغ، فيجوز الرهن من الصبي المأذون في التجارة؛ لأن ذلك من توابع التجارة. ويصح رهن الصبي المميز والسفيه، موقوفاً على إجازة وليه.
والأهلية عند الشافعية والحنابلة تتمثل في أهلية البيع والتبرع، فيصح الرهن ممن يصح بيعه وتبرعه؛ لأن الرهن تبرع غير واجب، فلا يصح من مستكره، ولا من صبي غير بالغ، ولا مجنون، ولا سفيه، ولا مفلس، ولا يصح من ولي أباً أو جداً أو وصي أو حاكم إلا لضرورة أو مصلحة ظاهرة للقاصر، مثال الضرورة: أن يرهن على ما يقترض لحاجة المؤنة (القوت)، ليوفي مما ينتظر من غلة، أو حلول دين، أو رواج متاع كاسد (بائر)، أو أن يرتهن ما يقرضه أو يبيعه مؤجلاً لضرورة نهب أو نحوه.
ومثال المصلحة (أو الغبطة) الظاهرة للقاصر: أن يرهن ما يساوي مئة على ثمن ما اشتراه بمئة نسيئة مؤجلة، وهو يساوي مئتين حالّتين. وأن يرتهن على ثمن ما يبيعه نسيئة بمصلحة ظاهرة.
وإذا رهن الولي أو الوصي: فلا يرهن إلا من أمين غير خائن، موسر، وأن يشهد على الرهن، وأن يكون الأجل قصيراً عرفاً. فإن فقد شرط من هذه الشروط، لم يجز الرهن (1). ولا يصح للولي أو الوصي أن يرهن مال موليه لدين عليهما لأجنبي، إذ ليس فيه مصلحة المولى عليه.
وعبر الحنابلة عن هذا الحكم بشرطين: أن يكون عند ثقة، وأن يكون للقاصر
_________
(1) حاشية الشرقاوي: 123/ 2، مغني المحتاج: 122/ 2.

(6/4213)


فيه حظ أي حاجة إلى نفقة أو كسوة أو إصلاح عقاره المتهدم أو رعاية بهائمه (1). وللأب أن يرهن من نفسه لولده، ولنفسه من ولده، والجد كالأب عند الشافعية لوفور شفقتهما.

رهن الولي والوصي مال الصغير عند الحنفية:
هنا أمور ثلاثة: رهن مال الصغير بدين للصغير، أو بدين للولي، وموقف الصغير من الرهن بعد البلوغ (2). وقد عرفنا قبله مباشرة حكم رهن مال القاصر عند غير الحنفية.

1ً - رهن مال الصغير أو المجنون بدين لهما: للولي أو الوصي أو القيم أن يرهن مال القاصر (صبي أو مجنون ونحوهما) لدين للقاصر استدين من أجل كسوته وطعامه، أو بسبب الاتجار في ماله؛ لأن الاستدانة جائزة للحاجة، والتجارة تثمير لمال القاصر، والرهن إيفاء للحق، فيجوز.
وإذا كان الأب أو الجد هو الدائن للقاصر أو كان كل من الدائن والمدين تحت ولايته، جاز له أن يتولى طرفي العقد، فيكون راهناً بالنيابة عن موليه، ومرتهناً بالنسبة إلى نفسه، في الحالة الأولى. وراهناً عن أحد مولييه، ومرتهناً بالنسبة إلى الآخر، في الحالة الثانية، لأنه لوفور شفقته، نزل منزلة شخصين، وقامت عبارته مقام عبارتين، كما في بيعه مال القاصر لنفسه.
_________
(1) المغني: 359/ 4، كشاف القناع: 319/ 3.
(2) تبيين الحقائق: 72/ 6 ومابعدها، تكملة الفتح: 209/ 8 ومابعدها، الدر المختار: 352/ 5، 364.

(6/4214)


ولا يجوز ذلك للحاكم، ولا للوصي، لقصور شفقتهما بالنسبة للأب، ولأن كليهما وكيل محض، والأصل أن الشخص الواحد لا يتولى طرفي العقد، سواء في البيع أو الرهن ونحوهما.

2ً - رهن مال القاصر بدين للولي: الاستحسان عند أبي حنيفة ومحمد: يقتضي أن يجوز للأب أو الجد أو الوصي أن يرهن مال موليه بدين نفسه عند دائنه؛ لأن للولي أو الوصي إيداع مال موليه، والرهن أولى من الإيداع؛ لأن الوديع أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، والمرتهن يضمن الرهن إن هلك، ولو بلا تعدٍ ولا تقصير.
والقياس وهو رأي أبي يوسف وزفر: ألا يجوز للولي أو الوصي رهن مال القاصر بدين لهما؛ لأنهما لا يملكان إيفاء دينهما بأموال موليهما، وفي إقدامهما على رهن مال موليهما إيفاء لدينهما حكماً، فيمنع، كالإيفاء حقيقة.
وإذا جاز الرهن عملاً بمقتضى الاستحسان، ثم هلك عند الدائن، يضمن الولي للمولى عليه الأقل من قيمة الرهن ومن الدين، دون زيادة عليه، أما الوصي فيضمن قيمة الرهن في جميع الأحوال؛ لأن للأب أو الجد أن ينتفع بمال الصغير، وليس للوصي الحق في الانتفاع.
وللولي أباً أو جداً رهن ماله بدين عليه للصغير عند ولده الصغير، ويحبسه الولي لأجل الصغير، ولا يجوز هذا الرهن للوصي.
كما يجوز للولي عكس المذكور: وهو أن يرهن عنده مال الصغير بدين عليه؛ لأنه لوفور شفقته جعل كشخصين، وتقوم عبارته مقام عبارتين أي عبارتي الإيجاب والقبول، كشرائه مال طفله. ولا يجوز هذا الرهن للوصي، لأنه وكيل

(6/4215)


محض، فلا يتولى طرفي العقد في رهن ولا بيع ونحوهما مما يتطلب وجود عاقدين في عقود ذات حقوق متباينة.

3ً - موقف الصغير من الرهن بعد البلوغ: إذا بلغ الصغير أو زال عارض الحجر، فوجد مالاً له مرهوناً، فليس له إبطال الرهن، أو استرداده حتى يقضى الدين؛ لأن تصرف الولي بالرهن وقع نافذاً لازماً، وصدر ممن له ولاية إصداره، سواء أكان الرهن بدين على الصغير، أم بدين على الولي نفسه، أم بدين عليهما معاً.
فإن قضي الدين عن الولي نفسه من مال الصغير المرهون أو هلك المرهون قبل أن يفتكه الراهن، كان للصغير بعد بلوغه حق الرجوع طبعاً في مال الولي، والمطالبة بتسديد حقه؛ لأنه مضطر إلى إحياء ملكه، والمحافظة على حقوقه سواء أكان الولي حياً أم ميتاً، ويكون في هذه الحالة مثل من أعار متاعه لآخر، ليرهنه المستعير بدين عليه لشخص ثالث، فللمعير أن يفتك ـ عند الضرورة ـ رهنه، بدفع دين المستعير، ويرجع بما أوفى من الدين على المستعير.

تعدد أطراف الرهن:
قد يتعدد الراهن أو المرتهن، كما لو رهن رجلان بدين عليهما رهناً عند آخر، أو يرهن رجل شيئاً بدين عليه عند رجلين، يصح الرهن في الحالتين لعدم الشيوع المانع من صحة الرهن عند الحنفية (1)؛ لأنه في حالة تعدد الراهن يحصل قبض المرهون من المرتهن بدون إشاعة، فصار كرهن الواحد من الواحد، وفي حالة تعدد المرتهن أضيف الرهن إلى جميع العين المرهونة بصفقة واحدة، ومقتضى الرهن (أو
_________
(1) تبيين الحقائق: 78/ 6 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 354/ 5 وما بعدها، تكملة الفتح: 218/ 8 وما بعدها، اللباب: 63/ 2 ومابعدها.

(6/4216)


موجبه) حبس المرهون بالدين، والحبس لا يتجزأ، فصار الرهن محبوساً بكل من المرتهنين.
وذلك بخلاف هبة الواحد لاثنين لا تجوز عند أبي حنيفة؛ لأن المقصود من الهبة هو التملك، والشيء الواحد الموهوب لا يتصور كونه ملكاً لكل من الموهوب لهما على سبيل الكمال والاستقلال، فلا بد من قسمة الموهوب ليتصور تملك الموهوب له للموهوب.
وأحكام الحالتين كما يأتي:

في حالة تعدد الراهنين: يصح الرهن بكل الدين، وللمرتهن حبس المرهون حتى يستوفي كل الدين من الراهنين. فإذا أدى أحد الراهنين ما عليه من الدين، لم يكن له أن يقبض شيئاً من الرهن؛ لأن فيه تفريق الصفقة على المرتهن في الإمساك. ويرى الشافعية أنه إذا وفى أحد الراهنين ما عليه من الدين، انفك من الرهن بمقدار نصيبه أو قسطه، ولا يبقى الشيء كله رهناً حتى يفك الراهن الآخر حصته.
في حالة تعدد المرتهنين: يعتبر المرهون كله أيضاً رهناً محبوساً عند كل واحد منهما بدينه، لحمل الراهن على وفاء الدين، ما دام الرهن قائماً. فإن قضى الراهن أحد المرتهنين دينه، كانت العين المرهونة كلها رهناً في يد الآخر، حتى يستوفي دينه؛ لأن العين كلها رهن في يد كل منهما بلا تفرق أو تجزئة.
وكيفية حبس المرهون عند المرتهنين: هو أنه إذا كان المرهون مما يقبل التجزؤ، فعلى كل واحد من المرتهنين حبس النصف، فلو سلم أحدهما كل المرهون للآخر، ضمنه عند أبي حنيفة، خلافاً للصاحبين. وأما إذا كان المرهون مما لا يتجزأ،

(6/4217)


فيحبسه المرتهنان على طريق المهايأة (1)، فإن تهايآ، كان كل واحد منهما في نَوْبته كالعَدْل في حق الآخر. ويرى الشافعية أنه إذا وفى الراهن دين أحد المرتهنين، انفك من المرهون قسطه الذي يقابله من الدين. أما إن تعددت العين المرهونة كرهن سيارتين مقابل دين مقداره مئتا ألف، ثم وفى المدين بعض الدين الذي يقابل إحدى السيارتين، فإن كان رهن السيارتين مقابل الدين بلا تفريق، لم يكن له الحق بقبض سيارة حتى يوفّي الدين كله. وإن كان رهن السيارتين مفرقاً بأن قال: كل سيارة بمئة ألف، كان له الحق بقبضها؛ لأن العقد صار في حكم عقدين حين عين حصة كل من المرهونين.
وإذا هلك المرهون، صار كل واحد من المرتهنين مستوفياً حصة دينه من المرهون؛ لأن الاستيفاء يتجزأ. وفي حالة الهلاك هذه لو قضى الراهن دين أحدهما، استرد ما قضاه من الدين؛ لأن ارتهان كل منهما باق، حتى يعود الرهن إلى الراهن؛ لأن كل مرتهن كالعدل بالنسبة للمرتهن الآخر في حالة عدم قابلية تجزئة المرهون.

المطلب الثاني ـ شروط الصيغة:
اشترط الحنفية (2) في صيغة الرهن ألا يكون معلقاً بشرط، ولا مضافاً إلى زمن مستقبل؛ لأن عقد الرهن يشبه عقد البيع من ناحية كونه سبيلاً إلى إيفاء الدين واستيفائه، فلا يقبل التعليق بشرط، والإضافة للمستقبل، وإذا علق الرهن أو أضيف، كان فاسداً كالبيع (3).
_________
(1) المهايأة: أن يتفق الاثنان على أن يأخذ كل واحد منهما المرهون عنده مدة معلومة.
(2) البدائع: 135/ 6.
(3) الدر المختار: 374/ 5، 357، قال في الدر: الأجل في الرهن يفسده.

(6/4218)


وإذا اقترن الرهن بالشرط الفاسد أو الباطل، صح الرهن، وبطل الشرط؛ لأن الرهن ليس من عقود المعاوضات المالية. جاء في الزيادات والبزازية: والرهن لا يبطل بالشروط الفاسدة؛ لأنه تبرع بمنزلة الهبة، إذ لا يستوجب الراهن على المرتهن شيئاً، بتمليكه حبس الرهن عنده.
ولكن جاء في البدائع (1): أن الرهن تبطله الشروط الفاسدة كالبيع، بخلاف الهبة.
والأصح في تقديري هو رواية البزازية والزيادات؛ لأن الرهن ليس من المعاوضات، فيصح الرهن وإن سقط الدين بهلاكه، جاء في الهداية: الرهن عقد تبرع، لأنه لا يستوجب بمقابلته شيئاً على المرتهن (2).
والشرط المشروط في الرهن عند غير الحنفية إما صحيح أو فاسد، والفاسد إما مفسد للعقد، وإما لاغٍ باطل وحده والعقد صحيح، على تفصيل فيما يأتي.
قال الشافعية (3): الشروط المشروطة في الرهن ثلاثة أنواع:
1 - الشرط الصحيح: وهو أن يشترط في الرهن ما يقتضيه كتقدم وفاء المرتهن عند تزاحم الغرماء، ليستوفي منه دينه، مفضلاً على بقية الدائنين، أو أن يشرط فيه مصلحة للعقد ولا يترتب عليه جهالة، كالإشهاد به، فيصح العقد والشرط، كالبيع.
2 - الشرط الباطل أو اللغو: وهو أن يشرط فيه مالا مصلحة فيه ولا غرض، كأن لا يأكل الحيوان المرهون كذا، فيبطل الشرط، ويصح العقد.
_________
(1) 140/ 6.
(2) تكملة فتح القدير على شرح الهداية: 190/ 8.
(3) مغني المحتاج: 121/ 2 ومابعدها، المهذب: 310/ 1 - 312، نهاية المحتاج: 254/ 3 ومابعدها.

(6/4219)


3 - الشرط المفسد للعقد: وهو أن يشرط ما يضر المرتهن، كشرط ألا يبيعه بعد حلول أجل وفاء الدين إلا بعد شهر، أو ألا يباع بأكثر من ثمن المثل، أو أن يشرط ما يضر الراهن وينفع المرتهن، كشرط منفعة غير مقدرة بمدة للمرتهن ولا بأجر عليها، أو إعطاء المرتهن زوائد الرهن، فيبطل الشرط للجهل بها ولعدمها حين الاشتراط ولحديث: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (1)، ويبطل العقد في الأظهر، لمخالفة الشرط مقتضى العقد، كالشرط الذي يضر المرتهن.
وكذلك يفسد الشرط والعقد إذا شرط جعل زوائد الرهن كالصوف والثمرة والولد مرهونة؛ لأنها معدومة حين الاشتراط ومجهولة.
والظاهر أن الرهن يفسد أيضاً بتعليقه أو إضافته للمستقبل. وبه يتبين أن الشرط الفاسد: هو ما كان ضاراً بأحد العاقدين، أو كان فيه جهالة. والأظهر أنه متى فسد الشرط، فسد العقد.
وقال المالكية (2): يصح الشرط الذي لا يتنافى مع مقتضى العقد، ولا يؤول إلى حرام، أما ما يتنافى مع مقتضى العقد، فهو شرط فاسد، مبطل للرهن، كأن يشترط في الرهن أن يكون تحت يد الراهن، لا يقبضه المرتهن، أو ألا يباع المرهون في الدين عند حلول الأجل، أو ألا يباع الرهن إلا بما يرضى به الراهن من الثمن.
وأما الشرط الحرام الممنوع الفاسخ للعقد: فهو أن يرهن الرجل رهناً، على أنه لو جاء بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له، فهذا فاسخ للعقد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يَغْلَقِ الرهن» (3).
_________
(1) أخرجه الشيخان عن عائشة بلفظ: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مئة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق» (سبل السلام: 10/ 3).
(2) الشرح الكبير: 240/ 3 ومابعدها، بداية المجتهد: 271/ 2.
(3) سبق شرحه، والمعنى: أنه لا يستحقه المرتهن، إذ الم يستفكه صاحبه. وكان هذا من فعل الجاهلية: أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين، ملك المرتهن الرهن، فأبطله الإسلام (النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 379/ 3).

(6/4220)


والخلاصة أن الشرط عند المالكية نوعان: صحيح وفاسد.
ومذهب الحنابلة (1) كالمالكية: قالوا: الشرط في الرهن نوعان: شرط صحيح، وشرط فاسد.
الصحيح: ما كان فيه مصلحة للعقد، ولايتنافى مع مقتضاه، ولا يؤول إلى حرمة يكرهها الشرع، مثل أن يشترط في الرهن أن يكون عند عدل، أو عدلين، أو أكثر، أو أن يبيعه العدل عند حلول أجل الدين أو الحق.
والفاسد: هو ما ينافي مقتضى العقد، مثل ألا يباع الرهن عند حلول أجل الحق، أو لا يستوفى الدين من ثمنه، أولا يباع إذا ما خيف تلفه، أو أن يباع بأي ثمن كان، أو ألا يباع إلا بما يرضى به الراهن. فهذه كلها شروط فاسدة، لمنافاتها مقتضى عقد الرهن؛ لأنها شروط تحول دون الوفاء بالدين عادة، وذلك يتنافى مع الغرض المقصود من الرهن.
ومن الشروط الفاسدة: أن يشترط الخيار للراهن نفسه، أو ألا يكون الرهن لازماً في حقه، أو توقيت الرهن، أو أن يكون الرهن يوماً، ويوماً لا يكون، أو كون الرهن في يد الراهن، أوأن ينتفع به، أو أن ينتفع به المرتهن، أو يكون مضموناً عليه، أو أنه متى حل أجل الحق ولم يوفه الراهن، فالرهن للمرتهن بالدين أو فهو مبيع بالدين، ولا يصح الرهن معلقاً بشرط كالبيع، أي أنه فاسد.
وهل يفسد الرهن بالشرط الفاسد عند الحنابلة؛ فيه آراء عندهم. قال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن يفسد الرهن بهذا الاشتراط؛ لأن العاقد إنما بذل ملكه، ورضي بالرهن على هذا الشرط، فإذا لم يسلم له، لم يصح العقد لعدم الرضا به بدونه.
_________
(1) المغني: 381/ 4 - 383، كشاف القناع: 309/ 3.

(6/4221)


وقيل: إن شرط الرهن مؤقتاً، أو رهنه يوماً، ويوماً لا، فسد الرهن، وإن شرط غيرذلك من الشروط الفاسدة، فعلى وجهين:
قيل: يفسد الرهن، وقيل: لا يفسد، وأيد أبو الخطاب عدم فساده؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن» وقد قاله في رهن شرط فيه شرط فاسد، ولم يحكم بفساده، ولأن الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط، فمع بطلانه أولى أن يرضى به.
وقيل: ما ينقص حق المرتهن يبطله وجهاً واحداً، وما لا، فعلى وجهين، والمعتمد عندهم كما جاء في مجلة الأحكام الشرعية (م962): «لايفسد عقد الرهن بفساد الشرط، وإنما يلغو الشرط فقط».

المطلب الثالث ـ شروط المرهون به:
المرهون به: هو الحق الذي أعطي به الرهن. ويشترط فيه عند الحنفية ما يأتي:
الشرط الأول ـ أن يكون حقاً واجب التسليم إلى صاحبه: لأنه إذا لم يكن واجب التسليم، فلا محل لأن يعطى به رهن لتوثيقه، إذ لا إلزام على المطالب بالحق حتى يستوجب التوثق به (1).
وعبر الحنفية عن هذا الشرط بقولهم: أن يكون ديناً مضموناً (2)، أي أن
_________
(1) مذكرة بحث الرهن لأستاذنا الشيخ علي الخفيف: ص 45.
(2) البدائع: 142/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 196/ 8، 206 ومابعدها، تبيين الحقائق: 66/ 6، اللباب: 55/ 2 ومابعدها، الدر المختار: 350/ 5.
ومعنى كون الدين مضموناً: أن يكون متحققاً من حيث الظاهر، لا متحققاً في الواقع والباطن، فلو ادعى رجل على آخر حقاً من قرض مثلاً، ثم صالحه المدعى عليه على مبلغ معين أعطاه به رهناً، ثم تصادقا على أنه لم يكن حق، ولم يكن للمدعي على المدعى عليه شيء، ثم هلك الرهن في يد المرتهن (المدعي)، فإنه يهلك بالأقل من ثمنه، وما رهن به (البدائع: 144/ 6).

(6/4222)


يكون الدين واجب التسليم على الراهن، وعبارتنا أوضح؛ لأن الحق المرهون به: إما أن يكون ديناً، وإما أن يكون عيناً واجبة التسليم.

أولاً - إن كان ديناً، جاز الرهن به، أياً كان سبب هذا الدين، قرضاً أو بيعاً، أو إتلافاً أو غصباً؛ لأن الديون واجبة الوفاء، فكان الرهن بها رهناً بحق واجب التسليم إلى صاحبه.
وسواء في هذا أن يكون الدين مما يجوز استبداله قبل قبضه، أو مما لا يجوز استبداله قبل قبضه، كرأس مال السلم، وبدل الصرف، والمسلم فيه. وهذا عند أئمة الحنفية الثلاثة.
وقال زفر: لا يجوز الرهن بما لا يصح الاستبدال فيه قبل القبض؛ لأن سقوط الدين بهلاك الرهن إذا هلك، إنما يكون نتيجة لاستبداله بما وجب في ذمة المرتهن بذلك الهلاك، بمعنى أن عين الرهن صارت بدلاً عن الدين الذي رهنت به، واستبدال هذه الديون لا يصح، كما تبين في بحث السلم، فلو جاز الرهن بهذه الديون، لزم منه استبدال هذه الديون قبل قبضها، إذا هلك الرهن، وهو لا يجوز شرعاً.
ولا يقال في هذه الحال: إن سقوط الدين، كان بطريق الاستيفاء؛ لأن الاستيفاء لايتحقق إلا عند اتحاد الرهن والدين جنساً، والغالب أن يكونا مختلفي الجنس. فيختص جواز الرهن بدين يمكن استبداله.
ودليل جمهور الحنفية: أن سقوط الدين دائماً عند هلاك الرهن، إنما هو بطريق الاستيفاء، لا بطريق الاستبدال. ويكفي في تحقق الاستيفاء وجود المجانسة في المالية، إذ أن الاستيفاء يتم بمالية الرهن، لا بصورته، والأموال كلها من ناحية المالية جنس واحد. وقد يسقط اعتبار المجانسة من حيث الصورة، ويكتفي

(6/4223)


بالمجانسة المالية للحاجة والضرورة، كما في إتلاف مالا مثل له من جنسه (1)، وقد تحققت الحاجة والضرورة في الرهن، لحاجة الناس إلى توثيق ديونهم في جميع الأحوال (2).
وأما غير الحنفية (3): فروي عن الإمام أحمد روايتان في دين المسلم، رواية بالجواز، ورواية بعدم الجواز. وعلى الرواية الأولى: إذا كان الرهن بالمسلم فيه، ثم تقايلا السلم أو فسخ العقد، بطل الرهن، لزوال الدين الذي رهن به. وعلى المسلم إليه رد رأس مال السلم في الحال إلى رب السلم (المسلم).
وقال مالك والشافعية: لا يجوز الرهن في بدل الصرف ورأس مال السلم المتعلق بالذمة؛ لأنه يشترط التقابض في مجلس العقد. ويجوز أخذ الرهن في المسلم فيه؛ لأنه دين، والآية أجازت الرهن في المداينة.

ثانياً ـ وإن كان المرهون به عيناً، ففيه تفصيل:
إن كانت العين أمانة كالوديعة والعارية والمأجور ومال الشركة والمضاربة
_________
(1) إذ لايعد هذا من قبيل المبادلة والمعاوضة، وإلا لتوقف على الرضا، وإنما يعد استيفاء، ولذا لايتوقف على رضا صاحب الحق.
(2) وإذا هلك الرهن المعطى برأس مال السلم أو بدل الصرف في مجلس العقد، صح العقد، لأنه صار المسلم إليه مستوفياً عين حقه في المجلس. وإن هلك بعد انقضاء المجلس، بطل العقد، لعدم تحقق قبض رأس المال أو بدل الصرف في المجلس. وإذا كان الرهن بالمسلم فيه، فهلك عند رب السلم قبل الوفاء، فإنه يهلك بالأقل من قيمته ومن قيمة المسلم فيه. ولو تفاسخا السلم وهناك رهن بالمسلم فيه، يصير المرهون استحساناً رهناً برأس المال، لأنه بدل عن المسلم فيه. وحينئذ لو هلك الرهن بعد التفاسخ، فلا يهلك برأس المال، وإنما يهلك بالمسلم فيه، لأنه رهن به ابتداء، فيظل على هذا الحكم، وإن كان محبوساً بغيره (تكملة الفتح: 207/ 8).
(3) بداية المجتهد: 269/ 1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 323، مغني المحتاج: 127/ 2. المهذب: 305/ 1، المحرر في الفقه الحنبلي: 335/ 1.

(6/4224)


فلايجوز الرهن بها بالاتفاق؛ لأن قبض الرهن مضمون، فلا بد من أن يقابله مضمون، أي لا رهن إلا بمضمون، ليصبح القبض موصلاً إلى الاستيفاء.

وإن كانت العين مضمونة بنفسها: وهي التي يجب ضمان مثلها إن كان لها مثل، أو قيمتها إن لم يكن لها مثل كالمغصوب في يد الغاصب، والمقبوض على سوم الشراء، والمهر في يد الزوج، وبدل الخلع في يد الزوجة، وبدل الصلح عن دم العمد، فيجوز الرهن بها عند الحنفية، وللمرتهن أن يحبس الرهن حتى يسترد العين المرهون بها. وإن هلك الرهن في يد المرتهن قبل استرداد العين، وهي قائمة باقية، يقال للراهن: سلِّم العين إلى المرتهن، وخذ منه الأقل من قيمة الرهن، ومن قيمة العين؛ لأن المرهون مضمون بالأقل المذكور.
وأجاز المالكية والحنابلة (1) كالحنفية كون المرهون به عيناً مضمونة بنفسها.
وقال الشافعية (2) لا يصح الرهن بالعين التي هي أمانة أو مضمونة لاشتراطهم كون المرهون به ديناً؛ لأنه تعالى ذكر الرهن في المداينة، فلا يثبت في غيرها؛ ولأن هذه العين لا تستوفى من ثمن المرهون، وذلك مخالف لغرض الرهن عند البيع (3).

وأما إن كانت العين مضمونة بغيرها: كالمبيع في يد البائع، فإنه مضمون بغيره، وهو الثمن، فلو هلك المبيع في يد البائع، سقط الثمن عن المشتري، فلا يصح الرهن به، في رواية النوادر عن أبي حنيفة؛ لأن قبض الرهن قبض استيفاء، ولا يتحقق معنى الاستيفاء في المضمون بغيره، إذ لو هلك الرهن في يد المشتري، لا يصير مستوفياً شيئاً بهلاك الرهن.
_________
(1) بداية المجتهد: 270/ 1، كشاف القناع: 311/ 3، 4248.
(2) مغني المحتاج: 126/ 2، نهاية المحتاج: 265/ 3، المهذب: 305/ 1.
(3) وبناء عليه: يعرف بطلان ما جرت به عادة بعض الناس من كونه يقف كتاباً ويشرط ألا يعار، أو لا يخرج من مكان محبوس إلا برهن (البجيرمي على الخطيب: 59/ 3).

(6/4225)


وفي ظاهر الرواية: إنه يصح الرهن بالمبيع قبل القبض؛ لأنه مضمون، وللمشتري أن يحبس المرهون حتى يقبض المبيع؛ لأن الاستيفاء المطلوب يتحقق من حيث المعنى؛ لأن المبيع قبل قبضه، إن لم يكن مضموناً بقيمته، مضمون بالثمن، ويعد سقوط الثمن عن المشتري بهلاك المبيع قبل تسليمه إليه، كالعوض عنه، فيصير المشتري مستوفياً مالية المبيع.

وبناء على اشتراط كون المرهون به حقاً واجب التسليم إلى صاحبه يتفرع ما يأت: 1 - الرهن على نقود بعينها: لو تزوج شخص امرأة على نقود بعينها، أو اشترى شيئاً بنقود بعينها، فأعطى بها رهناً، لم يجز الرهن عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين، وجاز عند زفر؛ لأن النقود تتعين عنده بالتعيين.
2 - الرهن بالدين الموعود به أو بما سيقرضه المرتهن للراهن: مقتضى هذا الشرط ألا يصح الرهن بالدين الموعود به، أو بما سيقرضه المرتهن للراهن؛ لأن الدين لا وجود له عند عقد الرهن، حتى يكون واجب التسليم.
ولكن الحنفية والمالكية: أجازوا الرهن بالدين الموعود به الذي سيقرض في المستقبل، استحساناً لحاجة الناس إليه (1)، أما إذا ارتهن المرتهن بما يثبت له على الراهن في المستقبل بدون وعد فلا يجوز، ولا يصح الرهن عند الشافعية، والحنابلة في ظاهر المذهب (2) بما سيقرضه، أي بدين مستقبل؛ لأنه ليس بحق ثابت في الذمة عند عقد الرهن، وقد شرع الرهن عند ثبوت الدين، لا عند الوعد به.
_________
(1) البدائع: 143/ 3، الدر المختار: 351/ 5، الشرح الكبير للدردير والدسوقي: 245/ 3.
(2) مغني المحتاج: 127/ 2، المهذب: 305/ 1، المغني: 328/ 4.

(6/4226)


3 - الرهن بالدَّرَك (1): أي بما يدرك المبيع من استحقاق، كأن باع شخص شيئاً وقبض الثمن، وسلم المبيع إلى المشتري، فخاف المشتري الاستحقاق، فأخذ بالثمن من البائع رهناً قبل الدَّرَك: لا يجوز هذا الرهن وإن جاز ضمانه (كفالته)؛ لأن استحقاق الشيء المبيع قد يتحقق وقد لا يتحقق، فكان الرهن به رهناً بما لا يجب فيه التسليم حالاً، بل وبما لا وجود له في الحال، وربما في المستقبل.
وأما الكفالة بالدرك فجائزة؛ لأن الكفالة التزام وضمان المطالبة، ويصح التزام الأفعال وضمانها في المستقبل، كالنذور. قال الحنفية: الرهن بالدرك باطل، والكفالة بالدرك جائزة (2).
أما الرهن فهو لاستيفاء الديون، وإذا لم يثبت الدين، فكيف يستوفى؟ فلا استيفاء قبل ثبوت الدين أو وجوبه، والاستيفاء فيه معنى المعاوضة، والمعاوضات والتمليكات لا يصح أن تضاف إلى المستقبل، لما في الإضافة من الخطر والغرر، والرهن بالدرك من هذا القبيل. فكأن الراهن البائع يقول للمرتهن المشتري: إن ظهر مستحق، فهذا الشيء رهن، تستوفي منه عوض الثمن.
والفرق بين حالة الدرك والدين الموعود: أن الأول معدوم، والثاني كالموجود أي على وشك الثبوت، وقد صحح الحنفية الثاني للحاجة، كما تقدم.

الشرط الثاني ـ أن يمكن استيفاء الدين من المرهون به: فإن لم يمكن الاستيفاء منه، لم يصح الرهن؛ لأن الارتهان استيفاء، فإذا انتفى الاستيفاء، انتفى الرهن والغرض منه (3). وعليه فلا يصح الرهن بما يأتي:
_________
(1) الدرك: هو رجوع المشتري بالثمن على البائع عند استحقاق المبيع (العناية على الهداية بهامش تكملة الفتح: 206/ 8).
(2) تكملة الفتح: 206/ 8، البدائع: 143/ 6 ومابعدها، الدر المختار: 350/ 5.
(3) البدائع: 143/ 6 ومابعدها، تكملة الفتح: 208/ 8، الدر المختار ورد المحتار: 351/ 5.

(6/4227)


1 - القصاص بالنفس أو ما دونها، لا يجوز الرهن به؛ لأنه لا يمكن أو يتعذر استيفاء القصاص من المرهون. لكن يجوز الرهن بأرش (تعويض) الجناية؛ لأن استيفاء الأرش من الرهن ممكن.
2 - الكفالة بالنفس أي إحضار شخص إلى مجلس القضاء ونحوه: لا يجوز الرهن بها؛ لأن المكفول به لا يحتمل استيفاؤه من الرهن. مثل أن يكفل زيد نفس خالد، على أنه إن لم يواف به إلى سنة، فعليه الألف الذي عليه. ثم قدم خالد رهناً بالمال إلى سنة، فالرهن باطل، لأنه لم يجب المال بعد على خالد، ولأن استيفاء المكفول به (وهو تسليم نفس من عليه الحق) من الرهن غير ممكن.
3 - الشفعة: أي لا يجوز أخذ الرهن من المشتري الذي وجب عليه تسليم المبيع من أجل الشفعة، فلا يصح للشفيع أن يقول للمشتري: أعطني رهناً بالدار المشفوعة؛ لأن حق الشفعة لا يمكن استيفاؤه من الرهن، فلم يصح الرهن به. كما أن الشفعة ليست بمضمونة (واجبة التسليم) على المشتري، بدليل أنه لو هلك العقار المشفوع فيه، لا يجب عليه شيء.
4 - أجرة على فعل محرم: كأجر النائحة أو المغنية، أو الراقصة، كأن استأجرها شخص، وأعطاها بالأجرة رهناً، لا يصح الرهن، لعدم صحة الإجارة، فلا تجب الأجرة، فكان الرهن بشيء غير مضمون لعدم مقابلته بشيء مضمون، فلم يصح الرهن.
كما لا يصح الرهن بالمنفعة الثابتة في الذمة التي يلتزم بها الأجير المشترك، إذ لا يمكن استيفاء المنفعة من المال.

الشرط الثالث ـ أن يكون الحق المرهون به معلوما ً: فلا يصح الرهن بحق مجهول، فلو أعطاه رهناً بأحد دينين له، دون أن يعينه، لم يصح الرهن.

(6/4228)


واشترط الشافعية والحنابلة (1) في المرهون به شروطاً ثلاثة:
1 ً - أن يكون ديناً ثابتاً واجباً كقرض وقيمة متلف، أو منفعة كالعمل في إجارة الذمة كالأجير المشترك الذي استؤجر لخياطة ثوب وبناء دار، وحمل معلوم إلى موضع معين، لإمكان استيفاء المنفعة ببيع المرهون وتحصيلها من ثمنه، فإذا لم يقم الأجير بفعل المنفعة المستأجر عليها، بيع الرهن، واستؤجر منه من يعمل العمل المأجور عليه، وذلك خلافاً للحنفية، أما إجارة العين فلا يصح الرهن بها، لتعذر استيفاء المرهون به من غيرالمعين، وإن بيع المرهون.
ويترتب على اشتراط الدين ألا يصح الرهن عند الشافعية بالأعيان المستعارة أو المغصوبة. وأجاز الحنابلة أخذ الرهن على عين مضمونة كالمغصوب والعاريّة، والمقبوض على سوم الشراء، والمقبوض بعقد فاسد، لأنهم قالوا: يصح الرهن بكل دين واجب أو مآله إلى الوجوب، كثمن في مدة الخيار.
ولا يصح عند الشافعية والحنابلة الرهن بدين لم يثبت بعد، وهو الدين الموعود به خلافاً للحنفية.
ولا فرق في الدين بين أن يكون مستقراً، كدين القرض، وثمن المبيع المقبوض، أوغير مستقر، كثمن المبيع قبل قبضه، والأجرة قبل الانتفاع في إجارة العين، والصداق قبل الدخول. أما الأجرة في إجارة الذمة فلا يصح الرهن بها لعدم لزومها في الذمة، إذ يلزم قبضها في مجلس العقد قبل التفرق، فهي كرأس مال السلم.
_________
(1) نهاية المحتاج: 264/ 3، مغني المحتاج: 126/ 2 ومابعدها، البجيرمي على الخطيب: 60/ 3، كشاف القناع: 311/ 3.

(6/4229)


2 ً - أن يكون الدين لازماً في الحال أو آيلاً إلى اللزوم: فيصح الرهن بالثمن بعد لزوم البيع، كما يصح أثناء مدة الخيار قبل لزوم العقد؛ لأن العقد آيل إلى اللزوم بعد انتهاء مدة الخيار.
ولا يصح الرهن بدين أونجوم الكتابة، ولا بجعل الجعالة قبل الفراغ من العمل، لعدم لزوم الدين؛ لأن للعبد المكاتب، أو المجعول له أن يفسخ العقد متى شاء، فيتنافى ذلك مع معنى الرهن: وهو التوثق.

3 ً - أن يكون الدين معلوماً أو معيناً قدره وصفته للعاقدين: فلو جهلاه أو جهله أحدهما، أو رهن بأحد الدينين، لم يصح الرهن.
وأما المالكية (1) فقالوا: يصح الرهن في المرهون فيه: وهو جميع الحقوق من بيع أو سلف أوغيرهما، إلا بدل الصرف ورأس مال السلم. واشترطوا في المرهون فيه أن يكون ديناً فلا يصح الرهن بالأمانة من وديعة أو مضاربة، وأن يكون في الذمة فلا يصح الرهن بالمعين ومنفعته (2)، وأن يكون لازماً أو آيلاً للزوم، فلا يصح الرهن في نجوم الكتابة.
المطلب الرابع ـ شروط المال المرهون:
المرهون: مال حبس لدى المرتهن لاستيفاء الحق الذي رهن به. فإذا كان المرهون من جنس الحق، أخذ الحق منه، وإن كان من غير جنسه بيع واستوفي الحق
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 323، الشرح الكبير والدسوقي: 245/ 3.
(2) مثال الرهن في شيء معين: أن يبيع شخص دابة معينة، ويأخذ المشتري من البائع رهناً على أنها إن استحقت أو ظهر بها عيب، أتى له بعينها من ذلك الرهن. ومثال منفعة المعين: أن يؤجر إنسان سيارة بعينها، على أن يدفع المستأجر رهناً فإن تلفت أو استحقت أتى له بعينها، ليستوفي العمل منها، وكل من المثالين مستحيل عقلاً فلا يجوز شرعاً، لكن يصح الرهن بقيمة العين أو قيمة المنفعة.

(6/4230)


من ثمنه، إن أدى البيع إلى الاستيفاء، كأن يكون الدين نقوداً (دنانير أو ليرات مثلاً) والمرهون من الأموال القيمية، وإلا كان الوفاء من طريق المعاوضة، كأن يكون الدين حنطة، والرهن نقوداً أو مالاً مثلياً من غير النقود.
ولذا اتفق الفقهاء على أنه يشترط في المرهون ما يشترط في المبيع حتى يمكن بيعه، لاستيفاء الدين منه (1).
وطريقة البيع عند الحنفية تتم بإذن الحاكم إذا كان الراهن غائباً، لا يعرف موته ولا حياته. أما إن كان حاضراً، فيجبر على بيع المرهون، فإذا امتنع، باعه القاضي، أو نائبه، وأوفى المرتهن حقه (2).

وشروط المرهون عند الحنفية (3): أن يكون مالاً متقوماً، معلوماً، مقدور التسليم، مقبوضاً، محازاً، فارغاً عما ليس بمرهون، منفصلاً، متميزاً عنه، عقاراً كان أو منقولاً، مثلياً كان أو قيمياً. وأشرح هذه الشروط تباعاً:
1 ً - أن يكون المرهون قابلاً للبيع: وهو أن يكون موجوداً وقت العقد، مقدور التسليم، فلا يجوز رهن ما ليس بموجود عند العقد، ولا رهن ما يحتمل الوجود والعدم، كما لو رهن ما يثمر شجره هذا العام، أو ما تلد أغنامه هذه السنة، أورهن الطير الطائر، والحيوان الشارد، ونحوه، مما لا يتأتى استيفاء الدين منه ولا يمكن بيعه.
رهن الثمر أو الزرع الأخضر قبل بدو صلاحه: هذا الشرط متفق عليه بين أغلب الفقهاء، فهو رأي الحنفية، والشافعية في الأظهر، وظاهر الروايات عند
_________
(1) المغني: 337/ 4.
(2) رد المحتار: 357/ 5.
(3) البدائع: 135/ 6 - 140، الدر المختار: 340/ 5، 348، 351، تكملة الفتح: 193/ 8، 208، اللباب: 54/ 2 ومابعدها، 57.

(6/4231)


المالكية كما حقق الدسوقي، وفي وجه عند الحنابلة. فلا يجوز عندهم رهن الثمر قبل بدو صلاحه، ولا الزرع الأخضر من غير شرط القطع، لأنه لا يجوز بيعه، فلا يصح رهنه، كسائر ما لا يجوز بيعه (1).
وقال ابن القاسم وابن الماجشون المالكيان، والحنابلة في الأصح عندهم: يستثنى من قاعدة: «ما لا يصح بيعه لا يصح رهنه»: رهن الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع، ورهن الزر ع الأخضر بلا شرط القلع، ورهن الشارد والضال من الحيوان؛ لأن النهي عن البيع، إنما كان لعدم الأمن من العاهة أو للغرر والخطر، ولهذا أمر الشرع بوضع الجوائح، وهذا المعنى مفقود في الرهن؛ لأن الدين في ذمة المدين الراهن، والغرر أو الخطر قليل في الرهن، لأنه إذا تلف المرهون لا يضيع حق المرتهن من الدين، وإنما يعود الحق إلى ذمة الراهن. وإذا لم يتلف المرهون بأن أدرك الزرع، وأثمر الثمر، وعاد الضال، تحققت منفعة المرتهن، فيباع متى حل الحق، ويؤخر البيع متى اختار المرتهن. وعليه يجوز عند بعض المالكية، والحنابلة ارتهان ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان، ولا يباع إلا إذا بدا صلاحه، وإن حل أجل الدين.

2 ً - أن يكون مالاً: فلا يصح رهن ما ليس بمال، كالميتة، وصيد الحرم والإحرام، لأن هذا الصيد ميتة لا يحل تناوله.
رهن المنفعة: ولا يصح أيضاً رهن المنفعة عند جمهور الفقهاء غير المالكية، كأن يرهن سكنى داره مدة شهر أو أكثر (2) لأنها عند الحنفية ليست بمال، وعند غير
_________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 233/ 3 ومابعدها، بداية المجتهد: 269/ 2، القوانين الفقهية: ص 323، المغني: 343/ 4، مغني المحتاج: 124/ 2، كشاف القناع: 315/ 3، المهذب: 309/ 1.
(2) عبارة الحنابلة: لا يصح ذلك، لأن مقصود المرتهن استيفاء الدين من ثمن المرهون، والمنافع تهلك إلى حلول الحق (المغني: 350/ 4، كشاف القناع: 307/ 3).

(6/4232)


الحنفية: ليست مقدورة التسليم، لأنها وقت العقد غير موجودة، ثم إذا وجدت فنيت (1)، ووجد غيرها، فلا يكون لها استقرار ولا ثبوت، فلا يمكن تسليمها ولا وضع اليد عليها، ولا بقاؤها إلى حلول أجل الدين أو وقت الاستيفاء. لكن امتناع رهن المنفعة عند الشافعية هو في حالة الابتداء، فيجوز جعل المنفعة مرهوناً بلا إنشاء الرهن، كما لو مات الشخص عن المنفعة وعليه دين.

3 ً - أن يكون متقوماً: أي يباح الانتفاع به شرعاً بحيث يمكن استيفاء الدين منه.
رهن الخمر والخنزير: بناء على هذا الشرط: لا يصح للمسلم أن يرهن خمراً أو خنزيراً، ولا أن يرتهنهما من مسلم أو ذمي؛ لأن الرهن إيفاء الدين، والارتهان استيفاء، ولا يجوز للمسلم إيفاء الدين من الخمر ونحوه، ولا استيفاؤه.
ولو رهن المسلم خمراً ونحوه عند ذمي، لم يضمنها هذا للمسلم، كما لا يضمنها بالغصب منه لعدم ماليتها.
ولو كان الراهن للخمر هو الذمي عند مسلم، فعليه عند الحنفية ضمانها للذمي، كما يضمنها بالغصب منه؛ لأنها مال بالنسبة للذمي، والتقى الدينان حينئذ قصاصاً أو مقاصة.
ويصح لأهل الذمة رهن الخمر والخنزير، وارتهانهما بينهم؛ لأن كلاً منهما مال متقوم في حقهم، كالخل والشاة عندنا.

4 ً - أن يكون معلوماً: كما يشترط في المبيع أن يكون معلوماً.
_________
(1) عبارة الشافعية في ذلك هي: لا يصح رهن منفعة جزماً، لأن المنفعة تتلف فلا يحصل بها استيثاق (مغني المحتاج: 122/ 2، حاشية الباجوري: 124/ 2).

(6/4233)


رهن المجهول: وعليه فكل ما صح بيعه مع نوع من الجهالة، يصح رهنه، وما لا يصح بيعه للجهالة، لا يصح رهنه. والعلم المشترط في المبيع: هو ما يرتفع به النزاع، أو هو ما لا يقع منه نزاع في العادة.
فلو قال الراهن: رهنتك هذا المنزل بما فيه، وقبل المرتهن، وتسلم المنزل، صح الرهن عند الحنفية، لصحة بيعه، على هذا الوضع. ولم يصح عند الشافعية والحنابلة (1)، لعدم صحة بيعه على هذا الوضع، لجهالة ما يحويه.
ولو قال: رهنتك أحد هذين البيتين، صح عند الحنفية (2)، لصحة بيعه على أن يكون للمرتهن خيار التعيين. ولم يصح عند الشافعية والحنابلة، لعدم التعيين (3).
ولو دفع الراهن للمرتهن ثوبين، وقال له: خذ أيهما شئت رهناً بدينك، فأخذهما، لم يكن واحد منهما رهناً، قبل أن يختار أحدهما، لأنه إنما رهن ما يختاره المرتهن منهما، ففيما قبل الاختيار يكون المرهون غير معلوم، وبعده يكون معلوماً، فيصح الرهن.
ولو هلك الثوبان، ذهب نصف قيمة كل منهما بالدين، إن ساوى الدين قيمة أحدهما.

5 ً - أن يكون مملوكاً للراهن: وهذا ليس شرطاً لجواز صحة الرهن، وإنما هو عند الحنفية والمالكية شرط لنفاذ الرهن، وبه يعرف حكم رهن مال الغير.
فيجوز رهن مال الغير بغير إذن وإنما بولاية شرعية كالأب والوصي، يرهن
_________
(1) المهذب: 309/ 1، 263، المغني:348/ 4، الدر المختار: 356/ 5، الشرح الكبير: 231/ 3.
(2) الدر المختار: 356/ 5، 61/ 4، البدائع: 157/ 5.
(3) المرجعان السابقان عند الشافعية والمغني (المكان السابق).

(6/4234)


مال الصبي بدينه، وبدين نفسه، ويجوز رهن مال الغير بإذنه، كالمستعار من إنسان ليرهنه بدين على المستعير. فإن لم يكن هناك إذن من المالك بالرهن، كان الرهن كالبيع موقوفاً على الإجازة، فإن أجاز نفذ، وإلا بطل.
وقال الشافعية والحنابلة (1): لا يصح رهن مال الغير بغير إذنه، لأنه لا يصح بيعه، ولا يقدر على تسليمه، ولا على بيعه في الدين، فلم يجز رهنه، كالطير الطائر، والحيوان الشارد. فإن رهن شيئاً يظنه لغيره، ثم تبين أنه لأبيه، وأنه قد مات، وصار ملكاً له بالميراث، صح الرهن عند الحنابلة وفي وجه عند الشافعية، إذ العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر.
والمنصوص عند الشافعية: أن العقد باطل، لأنه عُقِد، والعاقد لاعب، فلم يصح.
فإن استعار الراهن الشيء ليرهنه، جاز عن أئمة المذاهب اتفاقاً (2)؛ لأنه بالاستعارة يقبض ملك غيره لينتفع به وحده من غير عوض. وهو شأن الإعارة، فهي جائزة لتحصيل منفعة واحدة من منافع العين المستعارة.

6 ً - أن يكون مفرَّغاً أي غير مشغول بحق الراهن، فلا يصح رهن النخل المشغول بالثمرة بدون الثمر، ولا الأرض المشغولة بالزرع بدون الزرع، ولا الدار المشغول بأمتعة الراهن بدون الأمتعة ونحوها. أما رهن الشاغل كحمل السيارة ومتاع الدار، غيرالمتصل بالمشغول، فجائز رهنه.
7ً - أن يكون محوزا ً (3) أي مجموعاً منفصلاً، لا متفرقاً متصلاً بغيره، فلا
_________
(1) المهذب: 308/ 1، كشاف القناع: 315/ 3.
(2) بداية المجتهد: 269/ 2، تبيين الحقائق: 88/ 6.
(3) المحوز: من الحوز: وهو الجمع وضم الشيء.

(6/4235)


يجوز رهن الثمر على شجر بدون الشجر، والزرع في الأرض بدون الأرض، إذ لا يمكن حيازة الثمر أو الزرع بدون الشجر أو الأرض.

8 ً - أن يكون متميزاً: أي غير مشاع، فلا يجوز رهن نصف دار أو ربع سيارة، ولو من الشريك.
والسبب في اشتراط التفرغ، والحيازة، والتميز: هو أن القبض شرط لازم لاشرط صحة في الرهن، والقبض متعذر مع وجود هذه الموانع. فإذا قبض الرهن مفرغاً محوزاً متميزاً، تم العقد فيه ولزم، وما لم يقبضه المرتهن، فالراهن بالخيار: إن شاء سلمه، وإن شاء رجع عن الرهن، كما في الهبة: لأن الرهن كالهبة عقد تبرع غير لازم إلا بالقبض. وبه يظهر أن هذه الشروط الثلاثة هي في الواقع العناصر التي يتحقق بتوافرها قبض المرهون.

المطلب الخامس ـ شرط تمام الرهن ـ قبض المرهون:
اتفق الفقهاء في الجملة على أن القبض شرط في الرهن، لقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2]، واختلفوا في تحديد نوع الشرط، هل هو شرط لزوم، أو شرط تمام؟ وفائدة الفرق: أن من قال: شرط لزوم، قال: ما لم يقع القبض، لم يلزم الراهن بالرهن، وله أن يرجع عن العقد. ومن قال: شرط تمام، قال: يلزم الرهن بالعقد، ويجبر الراهن على الإقباض، إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن أو يمرض أو يموت (1).
_________
(1) بداية المجتهد: 270/ 1 ومابعدها.

(6/4236)


1 - قال الجمهور غير المالكية (1): القبض ليس شرط صحة وإنما هو شرط لزوم الرهن، فلا يلزم الرهن إلا بالقبض، فما لم يتم القبض يجوز للراهن أن يرجع عن العقد، وإذا سلمه الراهن للمرتهن وقبضه، لزم الرهن، ولم يجز للرهن أن يفسخه وحده بعد القبض.
ودليلهم قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] فلو لزم بدون القبض، لم يكن للتقييد به فائدة فقد علقه سبحانه بالقبض فلا يتم إلا به، ولأن الرهن عقد تبرع أو إرفاق (أي نفع) يحتاج إلى القبول، فيحتاج إلى القبض ليكون دليلاً على إمضاء العقد وعدم الرجوع، فلا يلزم إلا بالقبض كالهبة والقرض.
2 - وقال المالكية (2): لا يتم الرهن إلا بالقبض أوا لحوز، فهو شرط تمام الرهن أي لكمال فائدته، وليس شرط صحة أو لزوم، فإذا عقد الرهن بالقول (الإيجاب والقبول) لزم العقد، وأجبر الراهن على إقباضه للمرتهن بالمطالبة به. فإن تراخى المرتهن في المطالبة به، أو رضي بتركه في يد الراهن، بطل الرهن.
ودليلهم: قياس الرهن على سائر العقود المالية اللازمة بالقول، لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] والرهن عقد فيجب الوفاء به. كما أن الرهن عقد توثق كالكفالة، فيلزم بمجرد العقد قبل القبض.
وبناء على اشتراط القبض: لو تعاقد الراهن والمرتهن على أن يكون الرهن في يد الراهن، لم يصح الرهن. فلو هلك الرهن في يده لا يسقط الدين، ولو أراد
_________
(1) الدر المختار: 340/ 5 وما بعدها، البدائع: 137/ 6، اللباب: 54/ 2 ومابعدها، مغني المحتاج: 128/ 2، المهذب: 305/ 1 ومابعدها، كشاف القناع: 317/ 3، المغني: 328/ 4.
(2) بداية المجتهد: 271/ 2، القوانين الفقهية: ص 323 ومابعدها، الشرح الصغير: 313/ 3.

(6/4237)


المرتهن أن يقبضه من يد الراهن ليحبسه رهناً، ليس له قبضه، إذ لا يصير الرهن صحيحاً بعد فساده (1).

كيفية القبض أو ما يتحقق به القبض:
اتفق الفقهاء على أن قبض العقار يكون بالتسليم الفعلي أو بالتخلية أي رفع المانع من القبض أو التمكن من إثبات اليد بارتفاع الموانع، فيُخلّى بين المرتهن والمرهون، ويمكن من إثبات يده عليه.
أما قبض المنقول: ففي ظاهر الرواية عند الحنفية (2): أنه يكتفى فيه بالتخلية، فإذا حصلت، صار الراهن مسلِّماً، والمرتهن قابضاً؛ لأن التخلية تعتبر إقباضاً في العرف والشرع، أما في العرف: فلأنه لا يكون في العقار إلا بها، فيقال: هذه الأرض أو الدار في يد فلان، فلا يفهم منه إلا التخلي: وهو التمكن من التصرف.
وأما في الشرع: فإن التخلية تعتبر إقباضاً في البيع بالإجماع من غير نقل أو تحويل. وهذا الرأي هو المعقول تمشياً مع طبيعة التعامل وسرعته.
وقال أبو يوسف: لا تكفي التخلية في المنقول، وإنما يشترط فيه النقل والتحويل، فما لم يوجد لا يصير المرتهن قابضاً؛ لأن القبض ورد مطلقاً في الآية: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] فينصرف إلى القبض الحقيقي، وهو لا يتحقق إلا بالنقل، أما التخلية فالذي يتحقق بها قبض حكمي، فلا يكتفى فيه. ثم إن قبض الرهـ*ن يترتب عليه إنشاء ضمان على المرتهن لم يكن ثابتاً قبل العقد، فلا
_________
(1) مغني المحتاج: 128/ 2، المغني: 328/ 4، كشاف القناع: 318/ 3.
(2) البدائع: 138/ 6، بداية المجتهد: 269/ 2، مغني المحتاج: 128/ 2، المغني: 232/ 4، المهذب: 305/ 1 ومابعدها.

(6/4238)


بد فيه من تمام النقل بالقبض ليحدث الضمان، كالشأن في الغصب، بخلاف البيع، فإن الذي يترتب عليه إنما هو نقل الضمان من البائع للمشتري، فيكتفى فيه بالتخلية. لكن يلاحظ أن هذا الفرق بين الرهن والبيع لا تأثير له.
ويتفق الشافعية والحنابلة (1) مع أبي يوسف: فإنهم قالوا: المراد بالقبض هو القبض المعهود في البيع، فقبض الرهن كقبض البيع، فإن كان عقاراً أو مما لا ينقل كالدور والأرضين، يكون قبضه بالتخلية أي التخلية من الراهن بين المرهون والمرتهن من غير حائل. وذلك ينطبق على الثمر على الشجر والزرع في الأرض وإن كان منقولاً، فقبضه يكون بنقله أو تناوله، أي أخذه إياه من راهنه فعلاً.
فإن كان كالحلي فيتم قبضه بنقله، وإن كان كالدراهم والثوب، فيتم نقله بتناوله، وإن كان مكيلاً أوموزوناً، فقبضه يكون بكيله أو وزنه. وإن كان مذروعاً، فقبضه بذرعه، وإن كان معدوداً فقبضه بعدّه. ويعتبر العرف المتعارف في المذكور كله.

الرهن الرسمي للعقار أو ما ينوب مناب القبض: الظاهر أن المقصود من قبض الرهن هو تأمين الدائن المرتهن، وإلقاء الثقة والطمأنينة لديه، بتمكينه من حبس المرهون تحت يده، حتى يستوفي منه دينه، وليس المقصود من اشتراط القبض هو التعبد أي تنفيذ المطلوب بدون معنى.
وقياساً عليه: يصح أن يقوم مقام القبض كل وسيلة تؤدي إلى تأمين الدائن، ومنها ما أحدثه القانون المدني من الرهن الرسمي في العقار بوضع إشارة الرهن في صحيفة العقار في دائرة التسجيل العقاري، فهو محقق لحفظ المرهون وبقائه ضماناً
_________
(1) مغني المحتاج: 128/ 2، المغني: 328/ 4، كشاف القناع: 318/ 3.

(6/4239)


للدائن، وتأميناً لمصلحته، فيقوم هذا مقام القبض المطلوب شرعاً. وهذا ما أقره المالكية من جواز الرهن الرسمي، بالإضافة لمشروعية الرهن الحيازي المتفق عليه بين الفقهاء.

شروط القبض:
يشترط لصحة القبض ما يأتي:

أولاً ـ أن يكون بإذن الراهن: اتفق الفقهاء (1) على أنه لا بد لصحة القبض من إذن الراهن بالقبض، إذ به يلزم الرهن، ويسقط حق الراهن في الرجوع عن الرهن. فإن تعدى المرتهن، فقبضه بغير إذن، لم يثبت حكمه وكان بمنزلة من لم يقبض رهناً. وإن أذن الراهن في القبض، ثم رجع عن الإذن قبل القبض، زال حكم الإذن. أما رجوعه بعد القبض فلا يؤثر.
وإذا قبض المرتهن شيئاً بغصب، ثم أقره المغصوب منه في يده رهناً، فقال مالك: يصح أن ينقل الشيء من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن، فيجعل المغصوب منه الشيء المغصوب رهناً في يد الغاصب قبل قبضه منه.
وقال الشافعي: لا يجوز، بل يبقى على ضمان الغصب، حتى يعود إلى الراهن ثم يأذن بقبضه ولايبرأالغاصب على الضمان بارتهان المغصوب منه.
والإذن نوعان: صريح، ودلالة.
الصريح: أن يقول الراهن: أذنت لك في القبض، أو رضيت به، أو يأمر
_________
(1) البدائع: 138/ 6، بداية المجتهد: 269/ 2، مغني المحتاج: 128/ 2، المغني: 332/ 4، المهذب: 305/ 1 ومابعدها.

(6/4240)


المرتهن بقبض الرهن بأن يقول له: اقبض، ونحوه، سواء تم القبض في مجلس العقد، أم بعده.
والإذن دلالة أو ضمناً: أن يقبض المرتهن المال المرهون في مجلس العقد، والراهن ساكت، لا يعترض، فيصح قبضه؛ لأن الإيجاب بالرهن يدل على إرادة ترتب الأثر على العقد، ولا يترتب إلا بالقبض، فكان الإيجاب إذناً بالقبض ضمناً، في مجلس العقد، لا بعده، إذ قد يتغير رأيه بعد انتهاء المجلس.
وقياس قول زفر في الهبة: أنه لا بد من الإذن بالقبض صراحة، ولا يجوز القبض بعد الافتراق من مجلس عقد الرهن؛ لأن القبض ركن في نظره.

ثانياً ـ أن يكون كل من عاقدي الرهن حين القبض أهلاً للعقد: بأن يكون عاقلاً بالغاً، غير محجور عليه لصغر، أو جنون أو سفه، أو فلس عند مجيزي الحجر على المفلس؛ لأن القبض هو المولد لآثار الرهن، فوجب فيه ما يجب للعقد. وهذا رأي الشافعية والحنابلة، وصرح الحنفية بأن الصبي المأذون يجوز له الرهن والارتهان؛ لأن الرهن من توابع التجارة، فيملكه من يملك التجارة، أي أن البلوغ ليس بشرط في العقد والقبض، والمالكية مثلهم (1).
فإن جن أحد العاقدين بعد العقد، وقبل القبض، أو عته، أو مات، بطل العقد عند الحنفية لزوال أهلية العاقد قبل تمام العقد.
وقال الشافعية في الأصح والحنابلة: لا يبطل الرهن، كالبيع الذي فيه الخيار، ويقوم ولي المجنون أو المعتوه مقامه، كما يقوم الوارث مقام الميت المورث، وكذلك
_________
(1) البدائع: 135/ 6، 141، بداية المجتهد: 268/ 2، 271، مغني المحتاج: 122/ 2، 129، المغني: 328/ 4 وما بعدها، الشرح الصغير: 316/ 3، كشاف القناع: 319/ 3، الشرح الكبير للدردير، 241/ 3، المهذب: 307/ 1.

(6/4241)


يقوم القيم على السفيه مقامه لو حجر عليه لسفه، أما إن حجر عليه لفلس لم يكن له تسليم الرهن. وإن أغمي عليه، لم يكن للمرتهن قبض الرهن.
وقال المالكية: يبطل الرهن بموت الراهن أو جنونه أو إفلاسه، أو مرضه المتصل بموته قبل القبض. ولا يبطل بموت المرتهن، أو تفليسه، أو الحجر عليه للجنون؛ لأن العقد تم بالقول، وفي إمضائه منفعة ظاهرة للمرتهن، فيقوم وارثه مقامه في القبض.
وإذا مرض الراهن مرض الموت قبل القبض، لم يجز له عند الحنفية إقباض أو تسليم المرهون، إذا كان ماله مستغرقاً بالدين، وله غرماء آخرون، إذ ليس له أن يوفي بعض الغرماء ديونهم دون بعض، لتعلق حقوقهم جميعاً حينئذ بماله، إلا إذا رضي سائر الغرماء.
وهذا موافق لرأي المالكية أيضاً كما تقدم.
وقال الشافعية في الأصح، والحنابلة في قول: للمريض أن يخص بعض غرمائه بالوفاء، ولو أحاط الدين بماله؛ لأنه يؤدي ما وجب عليه، فله إقباض الرهن. وقيل في المذهبين: ليس له تسليم الرهن.

ثالثاً ـ استدامة قبض الرهن: يشترط لصحة القبض عند الحنفية والمالكية والحنابلة (1) دوام القبض، فإن قبض الرهن، ثم رده المرتهن باختياره إلى الراهن أو عاد إليه بإعارة أو إيداع أو إجازة أو استخدام أو ركوب دابة أو سيارة، بطل الرهن عند المالكية ولم يبطل عند الحنفية، وإنما يخرج من ضمان المرتهن، وللمرتهن أن يسترجعه إلى يده، وزال لزوم الرهن وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض عند
_________
(1) البدائع: 142/ 6، بداية المجتهد: 271/ 2 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير والدسوقي: 241/ 3 وما بعدها، 243، القوانين الفقهية: ص 324، المغني: 331/ 4، تكملة فتح القدير 228/ 8.

(6/4242)


الحنابلة، فإن عاد الراهن فرده إلى المرتهن، عاد اللزوم عند الحنابلة بحكم العقد السابق. وعند الحنفية والمالكية: لا يعود الرهن إلا بعقد جديد.
ودليلهم عموم قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] الذي يفهم منه اشتراط وجود القبض واستدامته.
وقال الشافعية (1): ليس استدامة القبض فيما يمكن الانتفاع به مع بقائه من شروط صحة القبض، فلا يمنع القبض إعارة المرهون للراهن، أو أخذ الراهن المرهون بإذن المرتهن، واستعماله للركوب والسكنى والاستخدام، ويبقى وثيقة بالدين، لخبر الدارقطني والحاكم: «الرهن مركوب ومحلوب» وخبر البخاري «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً»، ولأن الرهن عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم يشترط استدامته كالهبة.
وأما إذا كان المرهون مما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه، لم يكن للراهن طلب استرداده للانتفاع به بعد قبضه، ووجب استمرار يد المرتهن عليه؛ إذ لا ضمان لحقه إلا بذلك، حتى لا يتعرض حقه للضياع والتلف.

القبض السابق للرهن، أو رهن ما في يد المرتهن:
إذا كان المرهون موجوداً في يد المرتهن بطريق الإعارة أو الإيداع أو الإجارة أو الغصب، فهل يكتفى بالقبض السابق على عقد الرهن عن قبض الرهن بعده، فيصح العقد ويلزم بمجرد الإيجاب والقبول، أو يلزم تجديد القبض المطلوب للرهن بعد العقد مرة أخرى؟
فيه رأيان: رأي الجمهور ورأي الشافعية:
_________
(1) المهذب: 311/ 1، مغني المحتاج: 130/ 2، 131، 132.

(6/4243)


1 - قول الجمهور: يرى الحنفية والمالكية والحنابلة (1): أنه يكتفى بالقبض السابق عن قبض الرهن، ولا حاجة لتجديد القبض.
أما الحنفية فقرروا بالمناسبة مبدءاً ينطبق على الهبة والرهن ونحوهما. فقالوا: إن المرهون إذا كان مقبوضاً عند العقد، فينوب عن قبض الرهن إذا تجانس القبضان، بأن كان كل منهما مماثلاً للآخر في قوته، وإذا اختلفا ناب الأعلى عن الأدنى.
وتوضيحه أن القبض كما تبين في الهبة نوعان: قبض أمانة، وقبض ضمان. فقبض الأمانة كقبض الوديعة. وقبض الضمان كقبض الغصب، والثاني أقوى من الأول.
فإذا تجانس القبضان: السابق واللاحق المطلوب، أي أنهما كانا من نوع واحد، بأن كان كلاهما قبض أمانة أو قبض ضمان، قام القبض الأول مقام القبض الثاني المطلوب. وقبض الرهن قبض أمانة (2)، وليس هناك حالة يكون فيها القبض أدنى من قبض الرهن.
فلو كان المال موجوداً بيد الدائن سابقاً على سبيل الإيداع أو الإعارة أو الإجارة ثم رهنه الراهن لدى الدائن، لزم الرهن، دون حاجة لتجديد قبض آخر؛ لأن قبض الوديعة ونحوه وقبض الرهن متجانساً، فكل منهما قبض أمانة، فينوب أحدهما مناب الآخر.
_________
(1) البدائع: 142/ 6، 126/ 5 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 236/ 3، المغني: 334/ 4، الشرح الصغير: 309/ 3، بداية المجتهد: 269/ 2.
(2) أما أن الدين يسقط كله أو بعضه بهلاك المرهون فلمعنى آخر: هو أن مالية المرهون تعتبر محبوسة لدى الدائن ضماناً لحقه ووفاء له من وجه، بوضع يده على قيمة المرهون أو على بعضها، فإذا هلك امتنع رد مالية المرهون إلى مالكه، فيتقرر بذلك استيفاء دينه من المرهون، فيسقط من الدين بقدر مالية المرهون. وعليه فإن ما يزيد من الرهن على الدين يهلك هلاك الأمانات، لأنه ليس محبوساًعلى وجه الاستيفاء.

(6/4244)


ولو كان المال موجوداً بيد الدائن سابقاً بطريق الغصب، فرهنه صاحبه لدى الغاصب بسبب علاقة دين من بيع أو قرض، ناب قبض الغصب؛ لأنه قبض ضمان أقوى، عن قبض الرهن؛ لأنه قبض أمانة أدنى، والأعلى ينوب مناب الأدنى، أو الأقوى ينوب مناب الأضعف.
وأما المالكية: فينوب عندهم أيضاً أي قبض سابق عن قبض الرهن؛ لأن غرضهم من القبض هو الحيازة، وهي متحققة. وقد نصوا على أنه يجوز رهن العين المستأجرة عند مستأجرها قبل انتهاء مدة الإجارة، ورهن البستان عند العامل فيه بعقد المساقاة، ويكفي حوزها السابق بالإجارة والمساقاة.
وأما الحنابلة فقالوا أيضاً: إذا ارتهن المرتهن ما في يده بطريق الإعارة أو الإيداع أو الغصب ونحوه، صح الرهن، ولزم بالإيجاب والقبول، من غير حاجة إلى أمر زائد عليهما، لثبوت يده حينئذ على المال المرهون، ولم يشترط القبض إلا لإثبات اليد.
2 - وقال الشافعية والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (1): يكفي القبض السابق، لكن لا يصير الشيء رهناً مقبوضاً حتى تمضي مدة يتأتى فيها قبضه. فإن كان منقولاً، فبمضي مدة يمكن نقله فيها، وإن كان مكيلاً فبمضي مدة يمكن اكتياله فيها، وإن كان غير منقول فبمضي مدة التخلية. وإن كان غائباً عن المرتهن، لم يصر مقبوضاً حتى يوافيه هو أو وكيله، ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها؛ لأن العقد يفتقر إلى القبض، والقبض إنما يحصل بفعله أو بإمكانه، وهو لا يكون إلا في زمن.
_________
(1) المهذب: 306/ 1، المغني: 334/ 4، مغني المحتاج: 128/ 2.

(6/4245)


والجمهور يقولون: إذا كانت يد المرتهن على المال المرهون قبل رهنه يد ضمان، فإنها تنقلب يد أمانة بارتهانه؛ لأن السبب المقتضي للضمان قد زال بالارتهان، فيزول أثره وهو الضمان بزوال سببه، بدليل أن الضمان يزول برد المال إلى مالكه لزوال السبب المقتضي للضمان، وسبب الضمان هو الغصب أو الاستعارة عند من يقول بأن يد المستعير يد ضمان، وهم الحنابلة، والشافعية أحياناً.
وبارتهان المال لم يبق المرتهن غاصباً ولا مستعيراً، فلا يبقى الحكم مع زوال سببه. وقال الشافعية: تظل اليد السابقة إذا كانت يد ضمان كما هي. فإذا كان المال المرهون في يد المرتهن بطريق اغتصابه أو إعارته، لا يبرئه ارتهانه عن الغصب (1)، أو الإعارة، لأنه لا منافاة بين الأمرين، فلا منافاة بين يد الغرض منها التوثق وهي يد المرتهن ـ يد الأمانة، وبين اعتبارها ضامنة، بدليل أن المرتهن لو تعدى على المرهون، ضمنه، مع بقاء الرهن، بدليل اختصاصه بضمانه دون باقي الغرماء. وإذا كان عقد الرهن لا يبطل أو لا يرتفع بالضمان، بل يبقى معه، فلا يرفع الضمان الرهن ابتداء من طريق أولى.
لكن إيداع الشيء عند الغاصب يبرئه عن الغصب في الأصح؛ لأن الإيداع ائتمان، وهو ينافي الضمان، بدليل أنه لو تعدى في الوديعة لم يبق أميناً، بخلاف الرهن.
_________
(1) وإذا كان الارتهان لا يبرئ الغاصب من الغصب، فلو أبرأ المالك غاصباً من ضمان المغصوب الباقي، لم يبرأ، لأن الأعيان لايبرأ منها، إذ الإبراء إسقاط ما في الذمة أو تمليكه، وكذا لو أبرأه عن ضمان ما يثبت في ذمته بعد تلفه، لأنه إبراء عما لم يجب. وكذلك لو أجره المغصوب، أو ضاربه به، أو وكله في التصرف فيه، لم يبرأ، كالارتهان.

(6/4246)


من يتولى قبض الرهن:
يتولى قبض الرهن المرتهن أو وكيله. ولا يصح أن يكون وكيله هو الراهن؛ لأن المقصود من القبض تأمين المرتهن، ولا يتم مع بقاء الرهن في يد الراهن.

ويجوز أن يتفق الراهن والمرتهن على أن يوضع الرهن عند شخص يختارانه، فيقبضه ويحفظه عنده، ويسمى ب العدل، لأن الراهن قد يكره وضعه عند المرتهن، والمرتهن قد يكره وضعه عنده، خوف الضمان إذا تلف، أو لسبب آخر (1).
العدل ـ تعيينه، عزله، ما له وما عليه أو أحكامه.

تعيين العدل: العدل: هو الذي يثق الراهن والمرتهن بكون الرهن في يده (2)، لحفظه وحيازته. ويعتبر نائباً عن الراهن والمرتهن جميعاً. أما الراهن فلقيامه على حفظ المرهون باختيار الراهن وثقته به واطمئنانه إلى أمانته. وأما المرتهن فيعد العدل وكيلاً عنه في القبض، برضا المرتهن، بل إنه يعد احتباسه للرهن استيفاء للدين من وجه.
فللعدل أو الأمين صفتان: صفة الأمانة، باعتباره نائباً عن الراهن المالك، فهو وديعة في عين المرهون. وصفة الضمان، باعتباره نائباً عن المرتهن، فهو وديعة في مالية المرهون.
وبما أن العدل وكيل عن الراهن والمرتهن، فيشترط فيه ما يشترط في الوكيل (3)، فلا يكون صغيراً غير مميز، ولا محجوراً عليه لجنون أو عته عند جميع الفقهاء، كما لا يكون صبياً مميزاً ولا محجوراً عليه لسفه عند الجمهور غير الحنفية.
_________
(1) الشرح الصغير: 321/ 3.
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 80/ 6.
(3) البدائع: 150/ 6، المغني: 351/ 4، مغني المحتاج: 133/ 2.

(6/4247)


ولا يصلح المدين المكفول عنه أن يكون عدلاً في رهن يقدمه كفيله؛ لأنه يكون عاملاً لنفسه، والشريك لا يصلح عدلاً في رهن يقدمه شريكه، ورب المال في المضاربة لايصلح أن يكون عدلاً في رهن يقدمه المضارب في دين للمضاربة؛ لأن يده كيد المضارب.
ولو اتفق عاقدا الرهن على أن يكون العدل هو الراهن: فإن كان الاتفاق قبل قبض المرتهن، لم يصح الرهن اتفاقاً لوجود شرط فاسد لحق العقد. وإن كان الاتفاق بعد قبض المرتهن الرهن، فهو جائز عند الشافعية (1)، إذ لا يشترط عندهم استدامة قبض الرهن لدى المرتهن، ولا يصح الرهن عند غير الشافعية.
ويحصل تعيين العدل باتفاق الراهن والمرتهن، سواء قبل أن يقبضه المرتهن، أو بعد قبض المرتهن، إذ قد تدعو الحاجة إليه، كأن يأبى الراهن أن يكون الرهن في يد الدائن؛ لأنه لا يثق به، أو لا يطمئن إلى حفظه، أو يخشى عليه منه، وهو في حاجة إليه.
وإذا قبض العدل الرهن، صح قبضه، ولزم الرهن به عند جمهور الفقهاء؛ لأنه قبض في عقد، فجاز فيه التوكيل، كسائر أنواع القبض، وكان العدل وكيلاً عن المرتهن في القبض، بالنسبة لمالية الرهن بصفة الضمان، وإن كان وكيلاً أيضاً عن الراهن بالنسبة لعين الرهن، بصفة الأمانة، ويد الضمان غير يد الأمانة.
وقال بعضهم كابن أبي ليلى وزفر وقتادة: لا يصح قبض العدل؛ لأن القبض من تمام العقد، فوجب أن يقوم به أحد العاقدين، وهو المرتهن، كالقبول والإيجاب (2).
_________
(1) مغني المحتاج: 133/ 2 وما بعدها.
(2) المغني: 351/ 4، مغني المحتاج: 133/ 2، المهذب: 310/ 1، تكملة الفتح: 220/ 8، تبيين الحقائق: 80/ 6، الد المختار: 357/ 5، الشرح الصغير: 321/ 3.

(6/4248)


ويجوز لعاقدي الرهن أن يجعلا المرهون في يد عدلين، فيحفظانه معاً، ولا ينفرد أحدهما بحفظه، وإن سلمه أحدهما إلى الآخر، كان ضامناً لنصفه: وهو القدر الذي تعدى فيه، وهذا عند الحنابلة، والأصح عند الشافعية (1)؛ لأن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما، فلم يجز لأحدهما الانفراد بالحفظ، ويجعلانه في مخزن لكل واحد منهما مفتاح.
وقال أبو حنيفة: إن كان مما ينقسم اقتسماه، وإلا فلكل واحد منهما إمساك جميعه؛ لأن اجتماعهما على حفظه يشق عليهما.
وقال الصاحبان: إذا رضي أحدهما بإمساك الآخر، جاز.

عزل العدل: ينعزل العدل في الأحوال التالية (2):
1ً - الاستقالة: إذا استقال العدل، ورد الرهن إلى العاقدين، انتهت وكالته، لأنه أمين متطوع بالحفظ. فلا يلزمه الاستمرار عليه. فإن امتنعا رفع أمره إلى القاضي، فأجبرهما على قبول استقالته، أو دفعه إلى عدل آخر.
2ً - إنهاء ولايته: إذا اتفق العاقدان على عزل العدل، أو تغييره، أو أن يكون المرهون بيد المرتهن، انعزل العدل؛ لأنه وكيل عنهما جميعاً. فإن لم يتفقا رفع الأمر إلى القاضي ليرى رأيه، فإن شاء غيره، وإن شاء أبقاه.
3ً - بيع الرهن وتسديد دين المرتهن من ثمنه.
4ً - موت الراهن، لا موت المرتهن، في ظاهر الرواية عند الحنفية، فإذا توفي
_________
(1) المغني: 134/ 4، المهذب: 310.
(2) البدائع: 151/ 6، المغني: 353/ 4 ومابعدها، مغني المحتاج: 134/ 2 ومابعدها، المهذب: 307/ 1.

(6/4249)


الراهن، وكان تعيين العدل متأخراً عن عقد الرهن، انعزل العدل؛ لأنه في هذه الحالة وكيل، وتنتهي الوكالة بموت الموكل. أما إذا مات المرتهن فلورثته عند الحنفية إمساك الرهن؛ لأن الدين قد انتقل إليهم بوثيقته، فينتقل إليهم حق إمساكه.
أما إذا كان تعيين العدل في عقد الرهن، فلا ينعزل بموت الراهن، ولا بموت المرتهن؛ لأن تعيين العدل تابع للرهن، والرهن لا يبطل بموت أحد العاقدين، فلا ينعزل العدل الذي هو تابع. وقال الحنابلة والشافعية (1): ينعزل العدل بموت الراهن؛ لأنه وكيله، ولا ينعزل بموت المرتهن؛ لأنه ليس وكيلاً له.
5ً - موت العدل: إذا توفي العدل لم يكن لورثته حق إمساك الرهن إلا إذا اتفق العاقدان على ذلك.
6ً - جنون العدل: إذا جن العدل جنوناً لا ينتظر برؤه منه، انعزل به. أما إذا كان يرجى شفاؤه منه فلا ينعزل به.
7ً - عزل الراهن العدل: ينعزل العدل عند الشافعية والحنابلة (2) بعزل الراهن له، سواء اشترط تعيينه في عقد الرهن، أم بعده لأنه وكيله. ولا ينعزل عندهم بعزل المرتهن؛ لأنه ليس وكيلاً له، كما هو الحكم في موت الراهن.
وقال الحنفية (3): إذا كان تعيين العدل عقب الرهن، فللراهن عزله، ولاينعزل فيما إذا كان التعيين في نفس عقد الرهن. وقال مالك: لا ينعزل العدل بعزل الراهن؛ لأن وكالته صارت من حقوق الرهن، فلم يكن للراهن إسقاطه كسائر حقوقه.
_________
(1) المغني: 354/ 4.
(2) المغني: 353/ 4.
(3) البدائع: 151/ 6.

(6/4250)


والخلاصة: إن موت الراهن وعزله العدل، ينعزل به العدل عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الوكالة عقد جائز غير لازم، فلا يجبر الراهن على إبقائها.
وقال الحنفية: ينعزل في تعيين متأخر عن الرهن، ولا ينعزل في تعيين مقترن بالرهن.
وقال المالكية: لا ينعزل. واتفقوا على أن العدل لا ينعزل بعزل المرتهن له ولا بموته؛ لأنه وكيل الراهن، إذ الرهن ملكه، ولو انفرد بتوكيله صح، فلم ينعزل بعزل غيره.

أحكام العدل أو ما له وما عليه:
للعدل حقوق وواجبات هي ما يأتي (1):
1ً - يجب على العدل أن يحفظ الرهن، كما يحفظ ماله. فيحفظه بنفسه أو بواسطة من يحفظ ماله عنده؛ لأنه في الحفظ بحكم الوديع.
2ً - وعليه أن يبقيه تحت يده، فليس له أن يدفعه إلى الراهن أو إلى المرتهن إلا بإذن الآخر، لاتفاقهما على وضع الرهن تحت يده، وعدم رضا كل منهما عن حفظ الآخر له. وليس للمرتهن ولا للراهن أخذ الرهن من يد العدل؛ لأن لكل منهما حقاً في الرهن، فحق الراهن في الحفظ، وحق المرتهن في الاستيفاء، ولا يملك أحدهما إبطال حق الآخر.
ولو دفعه العدل إلى أحدهما من غير رضا صاحبه، فلصاحبه أن يسترده ويعيده إلى يد العدل.
_________
(1) البدائع: 148/ 6 ومابعدها، تبيين الحقائق: 80/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 221/ 8 ومابعدها، الدر المختار: 358/ 5 ومابعدها، اللباب: 57/ 2، الشرح الصغير: 321/ 3، مغني المحتاج: 134/ 2 ومابعدها، المغني: 353/ 4 ومابعدها.

(6/4251)


وإذا هلك الرهن في يد أحدهما قبل استرداده، ضمن العدل قيمته، بسبب اعتدائه عليه بدفعه إلى أحدهما، أي ضمن الأقل من قيمته ومن الدين، وهذا باتفاق الحنفية، والمالكية.
ومثله في الحكم أن يسلمه العدل إلى أجنبي بدون رضاها قبل سقوط الدين. وإذا ضمن العدل قيمته، فدفعها إليهما، فلهما عندئذ أن يجعلاها رهناً في يده، إلى وفاء الدين. وليس للعدل بنفسه أن يجعل القيمة رهناً في يده؛ لأنه هو الذي دفع القيمة، فلو جعلها رهناً يصير قاضياً ومقضياً وبينهما تناف. فإن وفى الراهن الدين وأراد أن يأخذ قيمة الرهن من العدل، نظرنا في الأمر:
إن كان العدل قد ضمن بسبب دفعه إلى الراهن، لم يكن للراهن أخذ قيمة الرهن منه؛ لأن حقه قد وصل إليه حين دفع إليه الرهن، فتكون القيمة حقاً للعدل.
وإن كان العدل قد ضمن بسبب دفعه إلى المرتهن، كان للراهن أن يأخذ قيمة الرهن منه؛ لأنها بدل عن عين الرهن. وعندئذ ليس للعدل أن يرجع بما ضمن على المرتهن، إذا كان قد دفعه إليه على وجه العارية أو الوديعة؛ لأن العدل قد دفع إليه ملكه الذي تملكه من وقت الدفع حين ضمن قيمته (1). وإن كان قد دفعه إليه رهناً فيكون مضموناً على المرتهن كالمقبوض على سوم الرهن أو على سوم البيع؛ لأنه دفعه إليه على وجه الضمان.
3ً - ليس للعدل أن ينتفع بالرهن، ولا أن يتصرف فيه بالإجارة، أو الإعارة، أو الرهن؛ لأن الواجب عليه الإمساك، وليس له حق الانتفاع والتصرف. وليس
_________
(1) وبعباره أخرى: إن العدل بأداء الضمان ملك العين المرهونة من وقت الدفع للمرتهن، وتبين أنه أودع أو أعار ملك نفسه، ولا يضمن المستعير ولا الوديع إلا بالتعدي.

(6/4252)


له أن يبيعه إلا إذا كان مسلطاً على بيعه في عقد الرهن، أو بعده. وإذا توفي العدل، لم يحل وارثه محله في بيع الرهن؛ لأن الوكالة لا تورث. وكذلك لا يحل وصيه محله في البيع أيضاً، لأن الراهن لم يرض برأي وصيه.
وعن أبي يوسف: أنه يحل محله؛ لأن الوكالة لازمة، فصار وصيه كوصي العامل المضارب إذا مات.
ورد عليه بأن للمضارب ولاية التوكيل في حياته بدون إذن صاحب المال، بخلاف العدل، فجاز أن يقوم وصيه مقامه، كالأب في مال الصغير.
وإذا باع العدل الرهن، لم يعد رهناً؛ لأنه صار ملكاً للمشتري، وصار ثمنه هو الرهن، لأنه قام مقامه.
وللعدل أن يبيع الزيادة المتولدة من الرهن، لكونها مرهونة تبعاً للأصل. وله أن يبيع بمثل قيمة الرهن أو بأقل منه قدر ما يتغابن الناس فيه، وبالنقد والنسيئة عند أبي حنيفة. وله أن يبيع قبل حلول الأجل ويكون الثمن حينئذ رهناً عنده إلى أن يحل الأجل؛ لأن ثمن المرهون مرهون.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يبيع العدل إلا بثمن المثل حالاً، من نقد بلده كالوكيل. وإذا باع العدل وقبض الثمن، كان الثمن عنده من ضمان الراهن لأنه ملكه، والعدل أمينه، حتى يقبضه المرتهن.
4ً - إذا هلك الرهن في يد العدل من غير تعد، كان كهلاكه في يد المرتهن؛ لأن يد العدل بالنسبة لمالية الرهن، كيد المرتهن، ويكون عند الحنفية مضموناً على المرتهن بالأقل من قيمته (أي قيمة الرهن) ومن الدين.
وإذا ضمن العدل قيمة الرهن بتعديه، أو ضمنها الأجنبي المتعدي على الرهن

(6/4253)


بعد أن دفعه العدل إليه بلا حق، لم يستطع العدل أن يجعل القيمة رهناً في يده؛ لأنها واجبة عليه في الحالين، ولا يصلح الشخص الواحد أن يكون في آن واحد قاضياً ومقتضياً، ولكن يأخذها الراهن والمرتهن، فيجعلانها رهناً عند العدل أو عند غيره. وقال الشافعية والحنابلة: تجعل القيمة رهناً في حالة كون الأجنبي هو المتعدي على الرهن.
وإذا استحق الرهن وهو قائم في يد العدل أخذه المستحق وبطل الرهن. وإذا استحق بعد هلاكه كان المستحق بالخيار بين أن يضمن الراهن قيمته أو يضمن العدل ويرجع العدل على الراهن بما ضمن لأنه غرّه.
5ً - ليس للعدل المسلط على البيع عند الحنفية أن يعزل نفسه إلا برضا المرتهن، مراعاة لحقه، إذا كانت الوكالة بالبيع مشروطة في عقد الرهن. فيجبر على البيع إذا حل أجل الدين وأبى البيع. وإجباره بأن يحبسه القاضي أياماً ليبيع، فإن أبى بعد الحبس باعه القاضي؛ لأن بيع الرهن في هذه الحالة صار حقاً للمرتهن.
أما إذا كانت وكالة العدل بالبيع بعد عقد الرهن، فللعدل أن يعزل نفسه؛ لأنها تعد وكالة مستقلة مبتدأة، فتطبق عليها أحكام الوكالة، وقال أبو يوسف: ليس له أن يعزل نفسه.
وقال الشافعية والحنابلة: للعدل في جميع الأحوال أن يعزل نفسه؛ لأنه وكيل منفصل، فلا يجبر على المضي في الوكالة.

(6/4254)


المطلب السادس ـ ما يترتب على شروط الرهن أو ما يجوز ارتهانه وما لا يجوز:
بالإضافة لما ذكر سابقاً من الأمور المترتبة على شروط الرهن، ولا سيما شرط القبض، هناك حالات تتطلب مزيد بيان وتفصيل، أهمها ما يأتي:

1 - رهن المشاع:
اختلف الفقهاء في رهن جزء مشاع كنصف وثلث وربع، فمنعه الحنفية، وأجازه الجمهور. وسبب الخلاف: هل تمكن حيازة المشاع أو لا تمكن (1)؟
أما مذهب الحنفية (2): فهو أنه لا يجوز رهن المشاع، سواء كان يحتمل القسمة أو لا، من شريكه أو غيره. والصحيح أن الرهن حينئذ فاسد، يضمن بالقبض؛ لأن القبض شرط تمام العقد ولزومه، لا شرط جوازه أو انعقاده.
ودليلهم: أن الرهن يستوجب ثبوت يد الاستيفاء، واستحقاق الحبس الدائم للمرهون، والحبس الدائم لا يتصور في المشاع، لما فيه من مهايأة في حيازته، وكأن الراهن قد رهنه يوماً، ويوماً لا، فلم يصح سواء فيما يقبل القسمة أو فيما لايقبلها، ولو من الشريك، لوجود المهايأة في الحيازة.
بل إن قبض أو حيازة الجزء الشائع وحده لا يتصور، والجزء الآخر ليس بمرهون، فلا يصح قبضه. والشيوع يمنع تحقق الجزء الشائع، سواء فيما يقبل القسمة، وما لا يقبلها، بخلاف الهبة حيث تصح فيما لا يحتمل القسمة للضرورة؛ لأنها تفيد الملك، والشيوع لا ينافيه، فاكتفي بالقبض الممكن.
_________
(1) بداية المجتهد: 269/ 2.
(2) البدائع: 138/ 6، تكملة الفتح: 203/ 8 ومابعدها، تبيين الحقائق: 68/ 6 ومابعدها، الدرالمختار: 348/ 5، اللباب: 56/ 2.

(6/4255)


وهذا الحكم سواء أكان الشيوع مقارناً لعقد الرهن أم طارئاً عليه، فإذا طرأ الشيوع على الرهن، أفسده. وروي عن أبي يوسف: أن الشيوع الطارئ على العقد، لا يفسده؛ لأنه يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء، كالهبة التي يطرأ عليها الشيوع بعد القبض، فلا يفسدها.
ورد عليه: أن العلة في المنع كون الشيوع ما نعاً من تحقق القبض، وهذا يستوي فيه الابتداء والبقاء، بخلاف الهبة؛ لأن الملك لا يتنافى مع الشيوع.
وأما مذهب الجمهور غير الحنفية (1): فهو أنه يصح رهن المشاع أو هبته أو التصدق به أو وقفه، كرهن كله، من الشريك وغيره، محتملاً للقسمة أم لا؛ لأن كل ما يصح بيعه يصح رهنه، ولأن الغرض من الرهن استيفاء الدين من ثمن المرهون ببيعه عند تعذر الاستيفاء من غيره، والمشاع قابل للبيع، فأمكن الاستيفاء من ثمنه. والقاعدة عندهم: كل ما جاز بيعه جاز رهنه من مشاع وغيره.
وأما كيفية الحيازة، فقال المالكية: يجب قبض جميع ما يملكه الراهن، ما رهنه وما لم يرهنه، لئلا تجول يد الراهن فيما رهنه، فيبطل الرهن. فإن كان الجزء غير المرهون غير مملوك للراهن، اكتفي بحيازة الجزء المرهون. ولا يستأذن الراهن شريكه في رهن حصته، إذ لا ضرر على الشريك، وهذا قول ابن القاسم المشهور. نعم يندب الاستئذان لما فيه من جبر الخواطر. وقال أشهب: يجب استئذانه.
ويرى الشافعية والحنابلة: أن قبض المشاع في العقار يكون بالتخلية، وإن لم يأذن الشريك، وفي المنقول يكون بالتناول، ويشترط فيه إذن الشريك، ولا يجوز نقله بغير إذن الشريك. فإن أبى ورضي المرتهن بكونه في يد الشريك، جاز وناب
_________
(1) الشرح الكبير: 235/ 3، بداية المجتهد: 269/ 2، القوانين الفقهية: ص 323، المهذب: 308/ 1، مغني المحتاج: 122/ 2 ومابعدها، المغني: 337/ 4 ومابعدها، كشاف القناع: 312/ 3.

(6/4256)


عنه في القبض. وإن تنازع الشريك والمرتهن عين الحاكم عدلاً يكون في يده، إما أمانة أو بأجرة. وتجري المهايأة بين المرتهن والشريك كجريانها بين الشريكين.

2 - رهن المتصل بغيره والمشغول:
الخلاف في هذا كالخلاف في رهن المشاع، على رأيين:
قال الحنفية (1): لا يصح رهن شيء متصل بغير المرهون كالثمر على الشجر بدون الشجر، والزرع في الأرض بدونها، والشجر في الأرض بدونها، والأرض بدون ما عليها من زرع أو شجر؛ لأن المرهون متصل بغيره، فيتعذر الحبس بدونه، فهوكرهن المشاع.
ولا يصح رهن المشغول بغير المرهون، كرهن دار فيها متاع الراهن دونه؛ لأن المرهون مشغول بغيره، ولا يمكن حبسه، فهو في معنى رهن المشاع.
وأما الجمهور الذين جوزوا رهن المشاع، فجوزوا رهن المتصل والمشغول، لإمكان تسليمه مع ما هو متصل به. وأما المتاع الموضوع في الدار، فلا يدخل في الرهن إلا بالنص عليه؛ لأنه ليس بتابع للدار.
ويدخل في رهن الأرض أو الدار عند الحنابلة ما يدخل في البيع، فإذا رهن أرضاً، كان في دخول الشجر وجهان. وإذا رهن شجراً مثمراً، لم تدخل الثمرة الظاهرة، كما لا تدخل في البيع، وإن لم تكن ظاهرة دخلت.
وذهب الشافعية إلى عدم دخول الثمرة مطلقاً ـ ظهرت أو لم تظهر، في الرهن بحال.
_________
(1) البدائع: 138/ 6، 140، تكملة فتح القدير: 205/ 8، الدر المختار: 350/ 5، تبيين الحقائق: 69/ 6.

(6/4257)


ولو رهن داراً فخلى بينه وبينها، وعاقدا الرهن فيها، ثم خرج الراهن، صح الرهن عند الشافعية والحنابلة. وقال الحنفية: لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها (1).

3 - رهن الدين:
أجاز المالكية دون غيرهم رهن الدين.
فقال الحنفية (2): لا يجوز رهن الدين؛ لأنه ليس مالاً لأن المال عندهم لا يكون إلا عيناً، ولا يتصور فيه القبض، والقبض لا يكون إلا للعين. فلو كان خالد دائناً لعمر بمئة دينار، وعمر دائن لخالد بمئة مد حنطة، لم يجز لعمر أن يجعل دينه من الحنطة رهناً عند خالد بدينه الذي يستحقه قبل عمر، فهذا رهن الدين عند المدين، حيث جعل الدين الذي للدائن رهناً في الدائن الذي عليه.
وكذلك قال الشافعية والحنابلة في الأصح عندهم (3): شرط المرهون كونه عيناً يصح بيعها، فلا يصح رهن دين ولو ممن هو عليه، أو من هو عنده؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.
لكن امتناع رهن الدين عند الشافعية هو في حالة جعل الدين رهناً ابتداء، أما في حالة البقاء فلا مانع من الرهن كضمان المرهون عند الجناية عليه، فبدله في ذمة الجاني يكون رهناً بالدين على الأرجح؛ لأن الدين قد يصير رهناً ضرورة في البقاء، حتى امتنع على الراهن أن يبرئه منه بلا رضاء المرتهن.
_________
(1) المغني: 333/ 4، 340، مغني المحتاج: 123/ 2.
(2) البدائع: 135/ 6، تبيين الحقائق: 69/ 6.
(3) مغني المحتاج: 122/ 2، كشاف القناع: 307/ 3، المغني: 347/ 4 ومابعدها، المهذب: 309/ 1.

(6/4258)


لكن أقول: لا حاجة أن يعد ما في الذمة من ضمان رهناً بالدين، وإنما هو في الواقع دين تعلق به حق المرتهن، كتعلق حق الدائن بما يكون للمدين المتوفى من ديون عند الغير.
وأما المالكية (1): فقالوا: يجوز رهن كل ما يباع، ومنه الدين، لجواز بيعه عندهم، فيجوز رهنه من المدين ومن غيره. وقد ذكرت صورة رهنه من المدين. أما صورة رهنه من غير المدين: أن يكون لخالد دين عند عمر، ولعمر دين على أحمد، فيرهن عمر دينه الثابت له في ذمة أحمد لدى خالد بدينه الثابت له في ذمته (أي ذمة عمر). والطريقة: هي أن يدفع له وثيقة الدين الذي له على أحمد، حتى يوفيه دينه.
ويشترط لصحة هذه الصورة الأخيرة قبض الوثيقة، والإشهاد على حيازتها، أما في الصورة الأولى فيشترط لصحتها، سواء أكان الدينان من قرض أم مبايعة، أن يكون أجل الدين المرهون هو أجل الدين المرهون به، أو أبعد منه، بأن يحل الدينان في وقت واحد، أو يحل دين الرهن بعد حلول الدين المرهون به.
أما إذا كان أجل حلول الدين المرهون أقرب، أو كان الدين المرهون حالاً، فرهنه لا يصح؛ لأنه يؤدي إلى إقراض نظير إقراض، إن كان الدينان من قرض. وإلى اجتماع بيع وسلف إن كانا من بيع؛ لأن بقاء الدين المرهون بعد أجله عند المدين به يعد سلفاً في نظير سلف الدين المرهون به. وإذا كان الدينان من بيع، فبقاء الدين المرهون يعد سلفاً مصاحباً للبيع، وهو ممنوع عند المالكية.
_________
(1) بداية المجتهد: 269/ 2، القوانين الفقهية: ص 323، الشرح الكبير مع الدسوقي 231/ 3، 237، الشرح الصغير: 310/ 3 ومابعدها.

(6/4259)


4 - رهن العين المستأجرة أو المعارة:
يجوز عند أئمة المذاهب رهن المدين مالاً له، ولو كان مأجوراً أو مستعاراً (1)، على النحو التالي (2):
قال الحنفية: يجوز رهن المستعار والمستأجَر عند المستعير أو المستأجر، وينوب قبض العارية وقبض الإجارة مناب قبض الرهن (3). إلا أنهم قرروا: إذا اتفق المتراهنان على الرهن، تبطل الإجارة والإعارة، فلا يبقى في يد المرتهن مستأجراً ولا مستعاراً، ويصح الرهن، إذ لا يجتمع على عين واحدة، في وقت واحد إجارة ورهن.
وإذا طرأت الإجارة على الرهن، بطل الرهن وصحت الإجارة؛ لأن الرهن عقد غير لازم، والإجارة عقد لازم.
وعبارة المالكية تتضمن جواز رهن العين المستأجرة، فإن رهنها مؤجرها عند مستأجرها بدين له عليه، ناب القبض السابق لها بعقد الإجارة عن قبض الرهن. وإن رهنها عند غير مستأجرها بدين له عليه، جاز إذا عين الدائن المرتهن أميناً ليلازم مستأجرها يكون قبضه وحيازته بدلاً عن قبض المرتهن وحيازته؛ لأن قبض المستأجر إنما كان لنفسه، فلا يقوم قبضه مقام قبض المرتهن.
ويلاحظ أن الأرض في يد المزارع، والبستان في يدالمساقي يجوز رهنها كالعين المستأجرة.
_________
(1) البدائع: 146/ 6، بداية المجتهد: 269/ 2، الشرح الكبير: 236/ 3، المهذب: 306/ 1، المغني: 334/ 4، مغني المحتاج: 128/ 2، حاشية الباجوري: 127/ 2، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 88/ 6.
(2) يلاحظ أن رهن الدين ورهن العين المستأجرة أو المعارة يمثلان مبدأ رهن الحقوق.
(3) يلاحظ أن قول الكاساني في البدائع: «إن قبض الرهن دون قبض الإجارة» محل نظر، إذ القبضان قبض أمانة.

(6/4260)


وأجاز الحنابلة أيضاً رهن المأجور أو المعار أو الوديعة أو المغصوب، وينوب القبض السابق مناب قبض الرهن، ولا حاجة لتجديد القبض، كما بينت سابقاً.
والشافعية أيضاً أجازوا رهن العين المستأجرة والمستعارة والوديعة، بشرط مضي زمان يتأتى فيه القبض. فإن رهنها لدى المستأجر والمستعير، بقي الرهن لبقاء يد المرتهن، وعدم المنافاة بين كونه مستأجراً، وكونه مرتهناً. وإن رهنها عند غير المستأجر أو المستعير، صح إذا رضي به المرتهن عدلاً، فتبقى في يد المستأجر والمستعير على اعتبار أنه أمين عن كل من عاقدي الرهن، ويظل الرهن أيضاً.
وإن لم يرض المرتهن بالمستأجر أو بالمستعير عدلاً، ينظر: فإن كان الرهن بإذن المستأجر بطلت الإجارة، وإن كان بغير إذنه بطل الرهن، وأما العارية فهي عقد غير لازم، فإذا رهن المستعار، فسخت الإعارة.

5 - رهن المستعار:
يلاحظ أنه في الحالة السابقة: الراهن هو المالك للعارية، فيرهن ملك نفسه، أما في هذه الحالة: فالراهن غير مالك للعارية وإنما يرهن مستعاراً مملوكاً لغيره.
اتفق الفقهاء كما تقدم سابقاً على أنه يجوز للإنسان أن يستعير مال غيره، ليرهنه بإذن مالكه، في دين عليه (1)؛ لأن مالكه متبرع حينئذ بإثبات اليد أو الحيازة عليه، والمالك حر التصرف بملكه، فله إثبات ملك العين واليد معاً عن طريق الهبة مثلاً، كما له إثبات اليد فقط بالإعارة للرهن.
وفي حالة الإذن من المالك بالرهن، قال الحنفية (2): للمستعير عند إطلاق
_________
(1) المغني: 344/ 4، بداية المجتهد: 269/ 2، كشاف القناع: 309/ 3.
(2) البدائع: 136/ 6، تبيين الحقائق: 88/ 6، الدر المختار: 365/ 5.

(6/4261)


المعير وعدم تقييده بشيء أن يرهن العارية عند من يشاء، وبأي دين أراد، وفي أي بلد أحب. وهو رأي الشافعية أيضاً.
أما إذا قيده بقيود فإنه يتقيد بها، فإن قيده بقدر، لم يرهن بأكثر منه، ولا بأقل إذا كان ما رهنه به أقل من قيمة الرهن؛ لأن المتصرف بإذن يتقيد تصرفه بقدر الإذن، ولأن المرهون مضمون، والمالك جعله مضموناً بقدر ما حدد، وقد يكون له غرض بالقيد. أما إذا كان المستعار مساوياً لقيمة الرهن أو كانت هي أكثر، فلا يعد مخالفاً الإذن؛ لأنه خلاف إلى خير؛ لأن المالك حين يريد فكاك الرهن لا يكلف إلا بقدر الدين، ولا يناله ضرر بسبب الرهن عند الهلاك؛ لأن الضائع عليه أقل من قيمة الرهن.
وإذا قيده بجنس من الدين لم يجز له أن يرهنه بجنس آخر؛ لأن قضاء الدين من بعض الأجناس قد يكون أيسر من بعض.
وإذا قيده بدائن أو بلد، لم يجز له أن يخالف القيد.
فإن خالف في شيء من هذه القيود، فهو ضامن لقيمته، إذا هلك؛ لأنه بهذه المخالفة يصير غاصباً، وكان الرهن باطلاً؛ لأنه وقع على مال مغصوب.
وإذا هلك المال المستعار عند المرتهن، كان مالكه بالخيار: إن شاء ضمن المستعير قيمته لاعتباره غاصباً بسبب مخالفته، وبأدائه الضمان يتملكه المستعير من وقت قبضه من المعير، وإن شاء ضمن المرتهن لهلاك المال في يده، فصار كغاصب الغاصب، وإذا ضمن المرتهن رجع على الراهن. والخلاصة: أنه بالمخالفة يبطل الرهن ويضمن المستعير.
وكذلك قال المالكية (1): إن خالف المستعير قيود المعير، فهلكت العارية أو
_________
(1) الشرح الكبير: 239/ 3.

(6/4262)


سرقت أو نقصت، ضمن المستعير مطلقاً لتعديه. ولو لم تتلف العارية فللمعير ردها وتبطل الإعارة.
ويتقيد المستعير عند الشافعية والحنابلة (1) بقيود المعير، إلا أنهم قالوا: إذا قيده بمقدار من الدين، فرهنه بأقل منه، لم يكن مخالفاً؛ لأن الإذن بما زاد يعتبر إذناً بما نقص عنه، وليس في النقص ضرر؛ لأن الرهن عندهم أمانة في يد المرتهن.

انتفاع المستعير بالعارية: إن مستعير العارية لرهنها يعتبر عند الحنفية وديعاً قبل الرهن، لا مستعيراً؛ لأنه غير مأذون له إلا بالرهن، فليس له أن ينتفع بالعارية، لا قبل رهنها، ولا بعد فكاكها، فإن فعل ضمن، لأنه لم يؤذن له إلا بانتفاع على وجه خاص وهو رهنها.
فإذا انتفع بغير الرهن، كان مخالفاً، فيضمن، وإذا انتفع بها قبل رهنها، ثم رهنها، برئ من الضمان، حيث رهن؛ لأنه بالرهن عاد إلى وفاق المعير، فيبرأ بسبب الوفاق من الضمان، وبما أنه كالوديع، فالوديع إذا عاد إلى الوفاق بعد خلاف في الوديعة لا يضمن لأن القصد من الوديعة وهو الحفظ للمالك قد تحقق. وهذا بخلاف المستعير، إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، فإنه لايبرأ من الضمان لثبوت التعدي، كما بينت وجه الفرق في بحث العارية.

نوع ضمان هلاك العارية: إذا قبض المستعير العارية لرهنها، فهلكت في يده قبل رهنها أو هلكت في يده بعد فكاكها، لم يضمنها؛ لأنها هلكت وهي مقبوضة قبض العارية، لا قبض الرهن، وقبض العارية قبض أمانة، لا قبض ضمان عند
_________
(1) مغني المحتاج: 129/ 2، المغني: 344/ 4 ومابعدها، كشاف القناع: 309/ 3، نهاية المحتاج: 269/ 3.

(6/4263)


الحنفية. وذلك بخلاف المالكية والشافعية، والحنابلة في أظهر القولين عندهم، فإن العارية مضمونة مطلقاً عند الحنابلة، وفي بعض الحالات عند المالكية والشافعية، كما تبين في بحث الإعارة.
وإذا هلكت العارية عند المرتهن، فليس لمالكها عند الحنفية إلا ما كان مضموناً منها، وهو الأقل من قيمتها ومن الدين. وإذا كان الدين هو الأقل، فلا يرجع المالك على المستعير بالزيادة؛ لأن العارية أمانة، وهي لا تضمن إلا بالتعدي.
وقال المالكية: يرجع المالك على المستعير بقيمة العارية يوم استعارها. وقال الشافعية، والحنابلة في أظهر القولين: إذا تلفت العارية لدى المرتهن من غير تعد، ضمن المستعير (الراهن) قيمتها يوم تلفها، إذ العارية مضمونة مطلقاً عند الحنابلة، ومضمونة أحياناً عند الشافعية والمالكية.

طلب المعير فكاك العارية من الرهن: إذا رهن المستعير العارية، كان لمالكها أن يطلب من الراهن فكاكها في أي وقت شاء عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة)؛ لأن العارية عندهم عقد غير لازم، وللمستعير أن يستردها متى شاء، ولو كانت مقيدة بوقت. فإن افتكها الراهن ردها إلى مالكها وإن عجز عن فكاكها، كان لمالكها أن يفتكها، تخليصاً لحقه، ويرجع بجميع ما أداه للمرتهن على المستعير.
وقال المالكية: الراجح أن للمعير الرجوع في الإعارة لمطلقها متى أحب، وليس له الرجوع في العارية المقيدة بالشرط أو العرف، أو العادة، كما ذكر في بحث العارية.

(6/4264)


الاستئجار للرهن: إذا جاز استعارة عين لترهن، جاز كذلك استئجارها لترهن (1).
وإذا هلكت بلا تعد، فلا ضمان؛ لأن المستأجر أمانة غير مضمونة في يد المستأجر اتفاقاً، وليس للمؤجر فكها قبل انتهاء مدة الإجارة.

6 - رهن ملك الغير:
يجوز للإنسان كما بان سابقاً أن يرهن ملك الغير بإذنه كالمستعار والمستأجر، وليس لأحد رهن ملك غيره إلا بولاية عليه، فإذا لم يكن له ولاية في الرهن، وسلم المرهون إلى المرتهن، كان بهذا التسليم متعدياً وغاصباً، وكان الرهن عند الحنفية موقوفاً على الإجازة، فإن لم يجزه مالك المرهون بطل الرهن، وكانت العين في ضمان الراهن بسبب غصبه. هذا بالنسبة للراهن.
أما بالنسبة للمرتهن:
فقال الحنفية (2): إذا هلك الرهن عند المرتهن، ثم تبين أنه مستحق لغير الراهن، أي لم يكن المرتهن عالماً بأنه ملك لغير الراهن، فإن المالك المستحق بالخيار بين أن يضمن الراهن قيمته، أو يضمن المرتهن؛ لأن كل واحد متعدٍ في حقه، أما الراهن فباستيلائه عليه بغير حق وتسليمه للمرتهن، وأما المرتهن فبقبضه وتسلمه.
فإن ضمن المستحق (المالك) الراهنَ، صار المرتهن بسبب الضمان مستوفياً لدينه، بقدر قيمة الرهن، لهلاك الرهن في يده؛ لأن الراهن قد ملكه إذا أدى ضمانه ملكاً مستنداً إلى وقت استيلائه عليه بغير حق، قبل عقد الرهن، فيصبح راهناً ما يملك، ثم يصير المرتهن مستوفياً لدينه بالهلاك عنده إذا كانت قيمته مساوية لدينه، أو أكثر، وإلا فبقدر قيمته.
_________
(1) الشرح الكبير: 236/ 3.
(2) تبيين الحقائق: 83/ 6 ومابعدها، البدائع: 147/ 6.

(6/4265)


وإن ضمن المستحق المرتهنَ ابتداء (مباشرة)، رجع المرتهن على الراهن بما ضمن، كما يرجع بدينه. أما رجوعه بما ضمن من مثل أو قيمة فلأنه تسلم الرهن مغروراً من جهة الراهن، والمغرور يرجع بما ضمن، وأما رجوعه بالدين، فلأن استيفاءه لدينه، قد انتقض بظهور أنه قد تسلم عيناً مملوكة لغير راهنها، فبطل الرهن، وعاد حقه كما كان.
وقال الحنابلة (1): إما أن يكون المرتهن عالماً بالغصب، وإما أن يكون غير عالم به. فإن كان عالماً به، وأمسك الشيء حتى تلف في يده، استقر عليه الضمان.
وكان المالك حينئذ بالخيار: إن شاء ضمن المرتهن، وغرم القيمة من ماله، وإن شاء ضمن الراهن. وعندئذ يرجع الراهن بما ضمن على المرتهن، لاستقرار الضمان عليه، إذا كان عليه أن يرد الشيء إلى مالكه، ولم يفعل حتى تلف في يده.
وإن أمسك المرتهن الشيء غير عالم بغصبه حتى تلف في يده بتفريطه، فالحكم كما تقدم. وإن تلف بغير تفريط منه ولا تقصير فثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يضمن، ويستقر عليه الضمان؛ لأنه متعد بإمساك مال غيره، وتلف المال تحت يده، فيضمن كما لو علم بالغصب. ويلاحظ أنه في الحقيقة غير متعد؛ لأنه أمسك المال بإذن الراهن ولا علم له بالغصب.
ثانيها: أنه لا ضمان عليه؛ لأن المرتهن قبضه على أنه أمانة من غير علمه بالغصب، فيكون الضمان على الراهن.
_________
(1) المغني: 397/ 4 ومابعدها.

(6/4266)


ثالثها: أن للمالك الخيار في تضمين أيهما شاء، ولكن الضمان يستقر على الراهن. وهذا في تقديري أولى الآراء.
ومثل هذا في الحكم ما لو حكم باستحقاق الرهن لغير راهنه، مع ملاحظة أن الرهن لا يهلك بالدين، وإنما هو أمانة عند الحنابلة والشافعية.

7 - رهن العين المرهونة (تعدد الرهن):
الرهن إما أن يقع على بعض الشيء أو على كله، وفي الحالتين يتعدد الرهن.
أـ فإن وقع الرهن على بعض الشيء، ثم رهن البعض الآخر، طبقت أحكام رهن المشاع.
فعند الجمهور (مالكية وشافعية وحنابلة) القائلين بجواز رهن المشاع: إذا رهُن جزء من عين على الشيوع بدين، جاز رهن الجزء الباقي منها شائعاً بذلك الدين، أو بدين آخر، لنفس الدائن المرتهن الأول أو لغيره. لكن إذا كان الرهن لشخص آخر غير المرتهن الأول، لزم رضا الثاني بيد المرتهن الأول (1)، أو أن يحدث اتفاق جديد بين الثلاثة (الراهن والمرتهن الأول والثاني) على وضع الرهن تحت يد عدل.
وأما عند الحنفية الذين لا يجيزون رهن المشاع أصلاً، فلا يتصور عندهم هذه الحالة، إلا إذا أفرزت العين أو قسمت، وسلمت غير مشغولة بغيرها.
ب ـ وأما إن رهن الشيء كله بدين، وأريد رهنه بدين آخر، فلا يجوز الرهن
_________
(1) الشرح الصغير: 308/ 3.

(6/4267)


الثاني عند الحنفية والشافعية والحنابلة (1)؛ لأن فيه مساساً بحق المرتهن الدائن، إذ مالية المرهون له، فلا يكون لغيره أن يتعلق حقه به.
لكن إذا أجاز المرتهن الأول الرهن الثاني نفذ، وبطل ارتهانه للشيء، ويبطل ارتهان المرتهن أيضاً، إذا رهن الشيء وهو بدين عليه، بإذن مالكه، ويصير رهناً بدينه، ويكون حكمه حكم رهن الشيء المستعار للرهن.
أما إن رهنه المرتهن الأول بدون إذن مالكه الراهن، كان رهنه غير صحيح، وكان للمالك إعادة الشيء إلى يد المرتهن الأول كما كان.
فلو هلك الشيء في يد المرتهن الثاني قبل إعادته للأول، فمالكه بالخيار عند الحنفية: إن شاء ضمن المرتهن الأول، وإن شاء ضمن المرتهن الثاني، كما هو الحكم في رهن ملك الغير. فإن ضمن الأول، جاز رهنه؛ لأن بدل المرهون يصير مرهوناً. وإن ضمن المرتهن الثاني، بطل رهن الأول، وكان الضمان رهناً لدى المرتهن الأول، ويرجع الثاني على الأول بما ضمن، لأنه غرره.
وقال المالكية (2): يجوز رهن العين المرهونة إذا كانت قيمتها تزيد على قيمة الدين، فيكون الرهن الجديد لتلك الزيادة، ويكون الدين الثاني المتعلق بالمرهون في المنزلة الثانية، فإذا بيعت العين في الدين يوفى الدين الأول، والباقي يوفى به الدين الثاني. وبه يظهر أن حق الدائن الأول لم يمس، فلا يتوقف نفاذ الرهن الثاني على إجازته.
وإذا كانت العين في يد عدل، والرهن الجديد للمرتهن الأول أو لأجنبي غيره، لم يتم الرهن الثاني إلا برضا العدل بحوزه على الوضع الجديد.
_________
(1) البدائع: 147/ 6، نهاية المحتاج: 267/ 3، 305، مغني المحتاج: 127/ 2، المغني: 347/ 4 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير: 238/ 3.

(6/4268)


وهذا الرأي بجواز الرهن على الرهن يتفق مع القانون المدني. وإذا كان الرهن الثاني لأجنبي، فهل يشترط رضا المرتهن الأول؟ عند المالكية أقوالاً ثلاثة: قيل: لا يشترط رضاه، وقيل: لا بد من رضاه، وقيل: لا يجوز وإن رضي. وإذا كانت العين بيد عدل، ففيه القولان: الأول والثاني.
وإذا كان الرهن الثاني لأجنبي، وكان الدينان بأجل واحد فلا إشكال. فإن اختلف الأجلان، وحل أجل الدين الثاني أولاً، قسم الرهن بين الدينين إن أمكنت قسمته بلا ضرر، كنقص قيمته، ويدفع للمرتهن الأول قدر ما يفي بدينه، والباقي للثاني.
وإن لم تمكن قسمته، بيع المرهون، وقضي الدينان، على أن يكون للدين الأول الأسبقية في الوفاء، والباقي للثاني.
وهذا كله إن كان في الرهن فضل يفي بالثاني، وإن لم يوجد، لا يباع الرهن إلا بعد أن يحل الدين الأول.
أما إن حل أجل الدين الأول أولاً، فإن الرهن يباع، ويقضى الدينان من ثمنه على الوضع السابق، إن لم تمكن قسمته بين الدينين من غير ضرر.
ولا يضمن المرتهن الأول الجزء الفاضل للثاني إن هلك الرهن بيده، وكان مما يغاب عليه (يمكن إخفاؤه كالثياب والحلي) إلا بالتعدي؛ لأنه أمين في الجزء الفاضل.

8 - رهن الوارث جزءاً من التركة المديونة: قد يكون هناك حق لغير الراهن في المرهون يمنع الرهن كرهن المرهون ورهن التركة المدينة، كما أن رهن ملك الغير يكون موقوفاً على إجازة المالك.

(6/4269)


فإذا رهن الوارث بعض أعيان التركة التي يتعلق بها دين على الميت، فقال الحنفية: يكون الرهن موقوفاً على تخليص أو تطهير التركة من الدين، لكي تخلص العين المرهونة لمرتهنها، ولأن الدين يمنع تملك الورثة للتركة، على خلاف بين الحنفية في الدين الذي لا يحيط بها.
وكذلك قال المالكية: إن رهن الوارث في هذه الحال صحيح، ولكن نفاذه موقوف على سداد الدين، فإذا لم يسدد، نقض هذا التصرف؛ لأن الدين يمنع من تملك الورثة عندهم.
وقال الحنابلة (1) في أصح الوجهين عندهم: لو رهن الوارث تركةا لميت، أو باعها، وعلى الميت دين، ولو من زكاة، صح الرهن والبيع، لانتقال التركة إليه بموت مورثه، فتصرفه صادف ملكه، ولم يرتب عليه من قبله أوباختياره حقاً لغيره، فلم يكن مثل رهن المر هون الذي رهنه من قبل والذي تعلق به حق الغير باختياره، وإنما في التركة لم يتعلق دين المتوفى بالمال باختيار الوارث، بل بحكم الشرع. وهكذا الحكم في كل حق ثبت وتعلق بالمال من غير إثباته وفعله كالزكاة والجناية، فلا يمنع ذلك من رهن ما تعلق به الحق.
فيصح الرهن، وتكون أعيان التركة محملة بالدين. فإن تم الرهن، ثم وفى الوارث الحق الذي تعلق بالتركة: وهو الدين الذي على المتوفى، من مال آخر، فالرهن على حاله، وإن لم يقض الحق، فلغرماء التركة انتزاع ما رهن منها؛ لأن حقهم أسبق.
وهذا مثل ما لو تصرف الوارث في التركة، ثم رد عليه مبيع باعه المورث بعيب ظهر فيه، أو تعلق بالتركة حق بعد وفاة المورث بسبب سابق، كأن وقعت
_________
(1) المغني: 350/ 4، كشاف القناع: 316/ 3 ومابعدها.

(6/4270)


بهيمة بعد موته في بئر حفره في غير ملكه، فتصرف الوارث في هذه الأحوال صحيح غير لازم، فإن وفى الوارث الحق من ماله مثلاً أجزأه، وإلا فسخ تصرفه.
ويراعى حينئذ أن يكون الوارث مختصاً بالعين التي رهنها، حتى لا يكون رهنه لما يملك غيره من الورثة.
وقال الشافعية (1): يبطل رهن الوارث بعض أعيان التركة؛ لأن التصرف عندهم، إما صحيح نافذ وإما باطل، وتصرف الفضولي عندهم كالحنابلة غير صحيح، وقد منع من صحة هذا الرهن ونفاذه تعلق الدين بالتركة، وتعلق الدين وإن كان لا يمنع تملك الورثة، لكن تعتبر التركة مرهونة بالدين رهناً شرعياً، لا نتيجة لعقد رهن.
والأظهر عندهم ألا فرق بين أن يكون الدين محيطاً بالتركة (مستغرقاً)، أو غير محيط (غير مستغرق) بها. ولهذا يمنعون الوارث من أن يتصرف في التركة مع تعلق حق الدين بها، كما يمنعون الراهن من أن يتصرف في العين المرهونة مع قيام الدين الذي رهنت العين به.

9 - رهن ما يتسارع إليه الفساد:
يصح رهن ما يسرع إليه الفساد بالدين الحال والمؤجل عند الحنابلة وغيرهم (2)، سواء أكان مما يمكن إصلاحه بالتجفيف كالعنب والرطب، أم لا يمكن كالبطيخ والطبيخ. فإن كان قابلاً للتجفيف، فعلى الراهن تجفيفه؛ لأنه من مؤنة حفظه وتبقيته. وإن كان مما لا يجفف، فإنه يباع ويقضى الدين من ثمنه، إن كان
_________
(1) مغني المحتاج: 144/ 3 ومابعدها، نهاية المحتاج: 304/ 3 ومابعدها.
(2) المغني: 341/ 4،المهذب: 308/ 1، البدائع: 148/ 6.

(6/4271)


حالاً، أو يحل قبل فساده، وإن كان لا يحل قبل فساده، جعل ثمنه مكانه رهناً، سواء شرط في الرهن بيعه أو أطلق؛ لأن العرف يقتضي ذلك، لحرص المالك على ملكه، فإذا تعين حفظ ملكه ببيعه، حمل عليه مطلق العقد، كتجفيف ما يجف والإنفاق على الحيوان.
وقال الشافعية (1): إن رهنه بدين مؤجل لا يحل قبل فساد المرهون، ينظر فيه: فإن شرط أن يبيعه إذا خاف عليه الفساد، جاز رهنه. وإن أطلق فلم يشترط، ففيه قولان: الصحيح أنه لا يصح رهنه؛ لأنه لا يمكن بيعه بالدين قبل حلول أجل الحق، كما لا يصح إن شرط منع بيعه. وإن لم يعلم، هل يفسد المرهون قبل حلول الأجل، صح الرهن المطلق في الأظهر؛ لأن الأصل عدم فساده قبل الحلول.

10 - رهن العصير:
يجوز رهن العصير؛ لأنه يجوز بيعه، وتعرضه للخروج عن المالية بالتخمر لا يمنع صحة رهنه. فإن صار خلاً، فالرهن بحاله. وإن صار خمراً بعد القبض وجبت إراقته، وزال لزوم العقد، فإن أريق بطل العقد فيه، ولا خيار للمرتهن؛ لأن التلف حصل في يده.
وإن استحال خمراً قبل قبض المرتهن له بطل الرهن عند الحنابلة، وقال الحنفية والمالكية، وفي الأصح عند الشافعية: لم يبطل الرهن، وهو بحاله؛ لأنه يغتفر في الدوام والبقاء مالا يغتفر في الابتداء، ولأنه كانت له قيمة حالة كونه عصيراً، ويجوز أن يصير له قيمة (2). قال ابن قدامة: وهذا أقرب إلى الصحة؛ لأنه يعود رهناً باستحالته خلاً.
_________
(1) المهذب: 308/ 1، مغني المحتاج: 123/ 2 ومابعدها.
(2) المغني: 342/ 4، مغني المحتاج: 129/ 2، كشاف القناع: 316/ 3.

(6/4272)


11 - رهن المصحف:
يصح عند الحنفية والمالكية. وفي الأصح عند الشافعية (1): رهن المصحف وكتب الحديث والتفسير والآثار، ولا يقرأ فيها المرتهن؛ لأن عقد الرهن يفيد حق الحبس، لاحق الانتفاع، فإن انتفع بالمرهون، فهلك في حال الاستعمال يضمن كل قيمته، لأنه صار غاصباً.
والأصح عند الحنابلة (2): أنه لا يصح رهن المصحف؛ لأنه لا يصح بيعه، والمقصود من الرهن استيفاء الدين من ثمنه، ولا يحصل ذلك إلا ببيعه، وبيعه غير جائز. ولكن يصح رهن كتب الحديث والتفسير، ولو لكافر إذا شرط أن تكون بيد مسلم عدل.

المبحث الثالث ـ أحكام الرهن أو آثاره:
الكلام عن أحكام الرهن يتناول أمرين:

أولاً ـ أحكام الرهن الصحيح.
وثانياً ـ أحكام الرهن الفاسد.
الرهن الصحيح: هو ما توافرت فيه شروط الرهن. وغير الصحيح: هو ما لم تتوافر فيه شروط الرهن. وغير الصحيح عند الحنفية نوعان: باطل وفاسد.
الباطل: هو ما كان الخلل فيه في أصل العقد، بأن يفقد أهلية التعاقد عند العاقد كالمجنون والمعتوه، أو يزول محل العقد مثل رهن غير مال أصلاً، أو أن يكون المرهون به لا يستوفى بالمال كالقصاص والشفعة، أو يفقد معناه كاشتراط ألا يباع المرهون في الدين، أو ألا يكون للمرتهن فيه امتياز على سائر الغرماء.
_________
(1) البدائع: 146/ 6، بداية المجتهد: 269/ 1، المهذب: 309/ 1، حاشية الباجوري: 126/ 2.
(2) كشاف القناع: 314/ 3، المغني: 343/ 4.

(6/4273)


والفاسد: ما لحق الخلل فيه وصف العقد، كأن يكون المرهون مشغولاً بغيره، أو أن يكون المرهون به مضموناً بغيره كالمبيع في يد البائع، على رواية النوادر. وظاهر الرواية أنه يصح الرهن بالمبيع قبل القبض، كما بينت في بحث الشروط.
وغير الصحيح عند غير الحنفية نوع واحد: باطل أو فاسد: وهو ما لم تتوافر فيه شروط الرهن الصحيح التي يشترطونها، على خلاف بينهم في بعضها.

أحكام الرهن الصحيح:
فيه بيان حكم لزوم الرهن، وعشرة مطالب في آثار الرهن:

حكم الرهن الصحيح أو حكم لزوم الرهن:
يلزم الرهن بالنسبة للراهن لا للمرتهن، فلا يملك الراهن فسخه؛ لأنه عقد وثيقة بالدين، ويملك المرتهن فسخه في أي وقت؛ لأن العقد لمصلحته (1)، ولا تترتب آثاره عند جميع الفقهاء إلا بالقبض، فلا يختص المرتهن بثمن العين المرهونة، ولا يثبت له حق الامتياز على غيره من الدائنين إلا بالقبض.
ولا يتحقق لزوم الرهن عند الجمهور إلا بالقبض، ويلزم عند المالكية بالإيجاب والقبول. وتفصيل المذاهب فيما يأتي:
قال الجمهور من الحنفية والشافعية، والحنابلة في الأصح (2): لا يلزم الرهن في جميع أحواله إلا بالقبض، أما قبل القبض، فللراهن إمضاء الرهن أو فسخه.
_________
(1) المهذب: 305/ 1، 307.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 340/ 5 ومابعدها، تبيين الحقائق: 63/ 6، المهذب: 305/ 1، المغني: 328/ 4 ومابعدها.

(6/4274)


ودليلهم ـ كما بان سابقاً ـ قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] إذ المعنى فرهن رهان مقبوضة، لأن المصدر المقترن بالفاء في جواب الشرط هو في معنى الأمر، أي «فارهنوا»، والأمر بالشيء الموصوف يقتضي أن يكون الوصف شرطاً فيه، فما شرع بصفة لا يوجد شرعاً إلا بها، فلا يلزم الرهن إلا بالقبض، ولأن الرهن عقد تبرع، لا يجبر الراهن على شيء فيه، فوجب لنفاذه وإمضائه القبض، إذ ليس للرهن قبل قبضه مظهر في الخارج إلا القبض، كما هو الشأن في الهبة والصدقة، فلا يوجد عقد الرهن شرعاً، ولا يترتب عليه أثره إلا مع القبض، ولا يلزم إلا بالقبض.
وقال المالكية (1): يلزم الرهن بالإيجاب والقبول، ويتم بالقبض. فإذا ما صدر الإيجاب والقبول، لزم العقد، ويجبر الراهن على تسليم الرهن إلى المرتهن ما لم يوجد أحد الموانع الأربعة التالية وهي:
موت الراهن بعد العقدوقبل التسليم، مطالبة الغرماء بأداء الراهن ديونهم، حالة التفليس العام (أي أن تكون الديون محيطة بمال الراهن). مرض الراهن المخوف، أو جنونه المتصلان بوفاته.
ودليلهم ـ كما سبق بيانه ـ على أن الرهن يلزم بالعقد: أن العقد والالتزام يتحققان بالإيجاب والقبول، وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] والرهان عقد، والأمر للوجوب، فكان الوفاء به واجباً، من طريق لزومه بالنسبة للراهن، لأنه هو الملتزم.
_________
(1) بداية المجتهد: 270/ 2 ومابعدها، الشرح الكبير: 240/ 3 ومابعدها.

(6/4275)


آثار عقد الرهن:
إذا تم عقد الرهن بتسليم العين المرهونة إلى المرتهن، ترتب على تمامه وتسليمه الأحكام الآتية:
1 - تعلق الدين بالمرهون.
2 - حق حبس الرهن.
3 - حفظ الرهن.
4 - مؤنة الرهن.
5 - منع الراهن من التصرف بالرهن.
6 - عدم الانتفاع بالرهن.
7 - ضمان الر هن (ضمان ما قابل الدين من الرهن عند الحنفية).
8 - بيع الرهن، أو مطالبة المرتهن ببيع الرهن لسداد الدين.
9 - امتياز الدائن المرتهن عن سائر الغرماء.
10 - تسليم الرهن أو رده عند انتهاء الدين.

المطلب الأول ـ تعلق الدين بالمرهون:
المبدأ العام في هذا هو عدم تجزئة الرهن، فإذا رهنت عين بدين، تعلق هذا الدين بجميع أجزاء العين المرهونة، أو بجميع وحداتها، كما أنها هي رهن بجميع أجزاء الدين. فإذا سقط جزء من الدين بإبراء أو وفاء مثلاً، ظل باقيه متعلقاً بجميع العين المرهونة. وبه أخذ القانون المدني المصري والسوري.

(6/4276)


والدين الذي تعلق بالرهن: هو الذي جعل المال رهناً به فقط، ولا يتعلق غيره من الديون بالمرهون.
وعلى أساس هذا التعلق، يثبت حق الحبس للمرتهن، فله حبس جميع المرهون، حتى يوفى كل الدين، سواء أكان المال شيئاً أم عدة أشياء.
وهذا المبدأ أو الأصل السابق متفق عليه فقهاً، لكن الفقهاء اختلفوا في تطبيقه في حالة تعدد العقد، وعدم تعدده.
فقال الحنفية (1): إن اتحاد العقد يقوم على اتحاد الصيغة، فإذا اتحدت الصيغة اتحد العقد، سواء أكان الرهن في دين واحد أم أكثر، فلو وفى المدين الديون لا يسترد ما يقابله من المرهون، سواء اتحد المرهون أم تعدد. فلو وفى الراهن ما يقابل أحد الأعيان المرهونة لا يسترده، حتى ولو سمى في عقد الرهن لكل عين مرهونة حصة من الدين؛ لأن العقد واحد، لا يتعدد بالتسمية.
وسواء تعدد الراهن (كأن يرهن مدينان شيئاً عند دائن) أو تعدد المرتهن (بأن كانا شريكين أو كان لكل واحد منهما دين مستقل على الراهن).
فإذا اتحد العقد لا يتحرر شيء من الرهن؛ لأن الرهن محبوس بجميع الديون، أو بجميع الدين. وإذا تعدد العقد بتعدد الصيغة يتحرر من الرهن ما يقابله.
وقال المالكية (2): يتعدد العقد بتعدد كل من الراهن والمرتهن، أو بتعدد أحد الطرفين. ويكون عقد الرهن واحداً إذا كان كل من الراهن والمرتهن واحداً.
فإذا
_________
(1) البدائع: 153/ 6، تبيين الحقائق: 78/ 6.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 258/ 3، الدردير: 257/ 3.

(6/4277)


اتحد عقد الرهن، يكون جميع المرهون رهناً بما بقي من الدين بعد وفاء بعضه؛ لأن كل جزء من المرهون رهن بكل جزء من الدين.
وإذا تعدد الرهن، بأن كان الراهن اثنين، والمرتهن واحداً، فوفى أحد الراهنين ما عليه من الدين، استرد حصته. أو كان الراهن واحداً والمرتهن متعدداً، فوفى الراهن حصة أحد الدائنين، فإنه يسترد من الرهن ماقابلها.
ويلاحظ أن الراهن إذا كان واحداً، والمرتهن متعدداً، وكان المرهون مما لا ينقسم، ووفى أحد الدائنين، يجعل الرهن تحت يد أمين، أو تبقى الحصة في يد المرتهن أمانة.
وقال الحنابلة (1) بمثل قول المالكية: يتعدد العقد بتعدد الموجب أو القابل، فإذا كان الموجب اثنين والقابل واحداً، نشأ عقدان. وإذا كان الموجب واحداً، والقابل اثنين، نشأ أيضاً عقدان. وإذا كان كل من الموجب والقابل اثنين، نشأ أربعة عقود.
ويكون عقد الرهن واحداً إذا كان كل من الراهن والمرتهن واحداً، سواء أكان الدين واحداً أم متعددا. فإذا وفى المدين بعض الدين، أو ديناً من الديون، لم يكن له أن يسترد ما يقابله من الرهن.
وإذا تعدد الراهن، فمن وفى دينه، خرجت حصته من الرهن. وإذا تعدد المرتهن، فوفى الراهن أحد الدائنين، خرجت حصته من الرهن، واستردها الراهن.
وإذا تعدد الراهن والمرتهن معاً، وهذه أربعة عقود، فيصير كل ربع من المرهون رهناً بربع الدين، فإذا وفى ربع الدين أو أكثر، انفك من الرهن ما يقابله قدراً، قال القاضي أبو يعلى: وهذا هو الصحيح.
_________
(1) المغني: 346/ 4، 402.

(6/4278)


وقال الشافعية (1):يتعدد الرهن ويتحد بتعدد الدين ووحدته. والغالب أن يتعدد الدين بتعدد العاقدين، ولو اتحد وكيلهما، بخلاف البيع، العبرة فيه بتعدد العاقد المباشر للعقد، ولو وكيلاً؛ لأن المال المرهون وثيقة بالدين، فإذا تعدد الدين، تعددت الوثيقة، وتعدد الدائن أو المدين يستلزم تعدد الدين غالباً. أما البيع فهو عقد ضمان، فكان النظر فيه لمن باشره.
فالمناط عندهم هو تعدد الدين وعدم تعدده، ويتعدد الدين بتعدد المدين أو الدائن غالباً، ويتحد بعدم تعددهما، أو بكون الدين مشتركاً ولو كان الدائن اثنين، وبهذه الحالة الأخيرة يفترق مذهب الشافعية عن مذهبي المالكية والحنابلة.
وبناء عليه: لو رهن شخص داراً عند دائنين، ثم وفى دين أحدهما، انفك من الرهن ما يقابل هذا الدين من المرهون، لتعدد الدين بسبب تعدد الدائن، بشرط أن يختص أحد الدائنين بما يقبضه، فإن شاركه فيه الآخر، لم ينفك شيء من الرهن، لعدم وفاء الدين على التمام.
ولو استعار مالاً من اثنين ليرهنه، ثم أدى نصف الدين، انفك نصف المال المرهون.
والخلاصة: أن العبرة باتفاق الفقهاء في فكاك شيء من المرهون أو عدم فكاكه بتعدد عقد الرهن وعدم تعدده، إلا أن مناط تعدده عند الحنفية: هو تعدد الصيغة، دون نظر لتعدد العاقدين أو عدم تعددهما. ومناطه عند المالكية والحنابلة: هو تعدد العاقد. وعند الشافعية: هو تعدد الدين وعدم تعدده، ويتعدد الدين عندهم بتعدد المدين أو الدائن غالباً، فيصبح مذهبهم قريباً من مذهبي المالكية والحنابلة.
_________
(1) مغني المحتاج: 141/ 2 ومابعدها، المهذب: 307/ 1.

(6/4279)


المطلب الثاني ـ حق حبس الرهن:
حق الحبس: يترتب على تعلق الدين بالمرهون؛ لأن التعلق شرع وسيلة لوفاء الدين من المرهون أو من غيره، ولا يتم التعلق على وضع مأمون إلا بحبس مايتعلق به الدين لدى المرتهن، حتى يكون حبسه حاملاً للمدين على الوفاء، مخافة بيع المال المحبوس جبراً عنه عند إبائه. فكان تعلق الدين بالرهن، وحبس المرهون من عناصر التوثق.

وبناء عليه قال الحنفية (1): يترتب على صحة الرهن ثبوت حق المرتهن في حبس العين المرهونة، على وجه الدوام، وعدم تمكين الراهن من استرداد المرهون قبل وفاء الدين؛ لأن الرهن شرع للتوثق، والتوثق لا يكون إلا بحبس ما يكون به الوفاء، وهو المال المرهون.
وإثبات حق الحبس يكون عند الحنفية بإثبات يد استيفاء الدين للمرتهن على المرهون؛ لأن معنى الاستيفاء: هو ملك عين المستوفى، وملك اليد عليه معاً، وبما أن ملك عين المرهون ممنوع شرعاً بالحديث الصحيح: «لا يغلق الرهن من صاحبه» بقي ملك اليد، ويصير موجب عقد الرهن الذي شرع وثيقة للاستيفاء: وهو ثبوت ملك اليد فقط دون ملك العين؛ لأنه مدلول لفظ الرهن لغة وهو الحبس، والمعاني الشرعية تثبت على وفق المعاني اللغوية.
وبما أن المرهون عين لها مالية، والوفاء إنما هو بماليتها، كانت يد المرتهن هي بالنظر إلى ماليتها، فتكون يد استيفاء بالنسبة لماليتها، فتقتصر على ما يقابل الدين من ماليتها، والزائد عنه أمانة في يد المرتهن.
_________
(1) المبسوط: 63/ 21، البدائع: 145/ 6، تبيين الحقائق: 64/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 194/ 8 - 196، الدر المختار: 345/ 5.

(6/4280)


وقال الجمهور (الشافعية والمالكية والحنابلة): إن موجب الرهن هو موجب سائر الوثائق، وهو أن تزداد به طرائق المطالبة بالوفاء، فيثبت به للمرتهن حق تعلق الدين بالعين المرهونة عيناً، والمطالبة بإيفائه من ماليتها، عن طريق بيعها واختصاصه بثمنها.
أما حق الحبس، فليس بحكم لازم لعقد الرهن عند الشافعية، فللراهن أن يسترد الرهن لينتفع به بدون استهلاكه، فإذا انتهى انتفاعه، رده إليه. بدليل الحديث «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» أي لا يحبس، وأضافه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الراهن بلام التمليك، وسماه صاحباً، فاقتضى أن يكون هو المالك للرهن رقبة وانتفاعاً وحبساً.
والحبس على الدوام يتنافى مع كون الرهن توثيقاً، فقد يهلك الرهن، فيسقط الدين أي كما قال الحنفية، فيكون توهيناً لا توثيقاً. ثم إن في الحبس تعطيلاً للانتفاع بالرهن، فهو تسييب، والتسييب ممنوع شرعاً.
والخلاصة: إن عقد الرهن يثبت حق الحبس الدائم للمرتهن على المرهون عند الجمهور. أما عند الشافعية: فيقتضي الرهن عندهم فقط تعين المرهون للبيع لوفاء الدين.
وفي تقديري أن رأي الجمهور أسلم لاتفاقه مع واقع الرهن وهو الاحتفاظ به لحمل المدين على الوفاء بالدين. لذا قرر المالكية والحنابلة كما تبين في شروط القبض ضرورة استدامة قبض المرهون في يد الدائن، حتى يؤدي الراهن ماعليه (1).
_________
(1) بداية المجتهد: 272/ 2، المغني: 331، مغني المحتاج: 131/ 2، 133.

(6/4281)


وانبنى على الخلاف بين الحنفية والشافعية في مقتضى عقد الرهن، أهو الحبس، أم تعينه للبيع مسائل هي:
1 - استرداد الرهن: لا يجيز الحنفية استرداد الرهن لينتفع به؛ لأنه يتنافى مع مقتضى عقد الرهن وهو حبس المرهون لدى المرتهن. ويجيز الشافعية استرداده للانتفاع به؛ لأن استرداده لا يتنافى مع مقتضى العقد: وهو تعين المرهون للبيع في سبيل وفاء الدين.
2 - الزوائد المنفصلة المتولدة: يسري الحبس عند الحنفية إلى الزوائد المنفصلة المتولدة، فتحبس مع أصلها، لأنها كالجزء منها. ولا يسري عليها حكم الرهن عند الشافعية، فلا تباع في الدين، لأنها عين أخرى.
3 - رهن المشاع: لا يصح رهن المشاع عند الحنفية؛ لأن الحبس الدائم لايتصور فيه. وعند الشافعية والمالكية والحنابلة: يجوز لجواز بيعه، وحكم الرهن هو تعينه للبيع واستيفاء الدين من ثمنه.

مطالبة المرتهن بوفاء دينه مع استمرار حبس الرهن:
قال الحنفية (1): للمرتهن أن يطالب الراهن بدينه مع استمرار حبسه للمال المرهون إذا كان الدين حالاً.
فإذا أراد المدين أداء الدين، كان له أن يطالب المرتهن بإحضار الرهن، وعلى المرتهن إحضاره ليعلم أنه لا يزال موجوداً لم يهلك. وهذا إذا لم يكن للرهن حمل ومؤنة، كأن كان في بلد عقد الرهن. ولا يكلف المرتهن بإحضار الرهن إذا كان
_________
(1) البدائع: 148/ 6، 153 ومابعدها، الدر المختار: 343/ 5 ومابعدها، اللباب: 58/ 2.

(6/4282)


للرهن حمل ومؤنة، وكانت المطالبة في بلد غير عقد الرهن؛ لأن الواجب عليه حينئذ التخلية، لا نقله إلى مكان الإيفاء، لئلا يترتب عليه ضرر كبير. فإن كانت المطالبة في البلد الذي تم فيه عقد الرهن، فإنه يحضره، لعدم ترتب ضرر كبير على إحضاره. كذلك لا يكلف المرتهن إحضاره إذا كان في يد عدل (أمين)، لأنه لا قدرة له على إحضاره؛ إذ العدل ممنوع من تسليم الرهن إلى أحد العاقدين، وإلا كان ضامناً وآخذه غاصباً.
والخلاصة: أن المطالبة إن كانت في بلد الرهن، يؤمر المرتهن بإحضاره مطلقاً. وإلا فإن لم يكن له حمل ومؤنة فيؤمر كذلك، وإن كان له حمل، لا يؤمر. وقال ابن عابدين: فيه نظر، فالمعول عليه على وجود المؤنة، فإن احتاج إلى نفقة حمل بأن كان في موضع آخر، لم يكلف إحضاره، وإن لم يحتج كلف إحضاره. وفي تقديري أن هذا هو الأدق والأولى.

المطلب الثالث ـ حفظ المال المرهون:
بناء على ثبوت حق حبس المال المرهون عند المرتهن في مذهب الحنفية، فإن المرتهن يحفظ المرهون تحت يده بما يحفظ به مال نفسه عادة، فيحفظه بنفسه، وزوجته، وولده وخادمه إذا كانا يسكنان معه، وبأجيره الخاص؛ لأن عين المرهون أمانة في يد المرتهن، فصار من هذه الناحية كالوديعة، يحفظه كما تحفظ.
ولا يجوز له حفظه بغير هؤلاء، فإذا أودعه أو قصر في حفظه، ضمن قيمته بالغة ما بلغت. والضامن عند أبي حنيفة: هو المرتهن لا الوديع، وعند الصاحبين: كلاهما ضامن، المرتهن بالدفع، والوديع بتسلمه ما ليس مملوكاً للدافع، لكن يستقر الضمان في النهاية على المرتهن، كما في وديع الوديع.

(6/4283)


ويجوز للمرتهن السفر بالمرهون إذا كان الطريق آمناً، كما في الوديعة، وإن كان له حمل ومؤنة (1).

المطلب الرابع ـ الإنفاق على الرهن أو مؤنة الرهن:
اتفق الفقهاء على أن نفقة أو مؤنة الرهن على المالك الراهن؛ لأن الشارع قد جعل الغنم والغرم للراهن: «لا يغلق ـ لا يُتملك ـ الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» (2).
لكنهم اختلفوا على رأيين في نوع النفقة الواجبة على الراهن.
1 - فقال الحنفية (3): توزع النفقة على الراهن، باعتباره مالك العين، وعلى المرتهن، باعتباره مكلفاً بحفظها، على النحو التالي:
كل ما يحتاج إليه من النفقات لمصلحة المرهون وتبقيته، فهو على الراهن؛ لأنه ملكه. وكل ما كان لحفظ المرهون، فهو على المرتهن؛ لأن حبسه له، فلزمه توابعه.
وبناء عليه، على الراهن: طعام الحيوان وشرابه وأجرة الراعي. وعليه سقي الشجر ونفقة تلقيحه وجذاذه (قطفه) والقيام بمصالحه، وسقي الأرض وإصلاحها وكري أنهارها وإنشاء مصارفها، وضريبة خراجها وعشر حاصلاتها؛ لأن كل ما ذكر من مؤونة (ما به بقاؤه) المال المملوك، ومؤُونة المملوك على مالكه.
_________
(1) الدر المختار: 345/ 5، 347 ومابعدها، اللباب: 64/ 2 ومابعدها، تكملة الفتح: 202/ 8.
(2) سبق تخريجه، رواه الشافعي والدارقطني وغيرهما عن أبي هريرة، وقال عنه الدارقطني: هذا إسناد حسن متصل (نيل الأوطار: 235/ 5) فإن قيل: إن نهاية الحديث من كلام ابن المسيب، أجيب بأن مراسيله يعمل بها، بل إنه تأيد بمرفوع عند غيره.
(3) البدائع: 151/ 6، تبيين الحقائق: 68/ 6، اللباب: 61/ 2، الدر المختار وحاشيته: 346/ 5، تكملة الفتح: 202/ 8.

(6/4284)


ولا يجوز للراهن أن يجعل النفقة على الرهن، أو من زوائده، إلا برضا المرتهن، لأن المرهون كله قد تعلق به حق المرتهن، وفي بيعه للإنفاق على الباقي اعتداء على حقه، فلا يجوز بغير إذنه.
وعلى المرتهن أجرة الحفظ، للحارس أو المحل الذي يحفظ فيه المرهون، مثل أجر حظيرة الحيوان، وأجرة المخزن المحفوظ فيه، لأن الأجرة مؤنة الحفظ، وهي عليه. وبناء عليه لا يجوز أن يشترط في عقد الرهن أجر للمرتهن على قيامه بحفظ الرهن، لأنه واجب عليه، ولا أجر على واجب.
وروي عن أبي يوسف: أن أجرة المأوى على الراهن، بمنزلة النفقة؛ لأنه سعي في تبقيته.
وأما نفقات رد المرهون عند ضياعه، ونفقات علاجه من القروح أو
الأمراض (1)، فعلى كل من الراهن والمرتهن، المرتهن بقدر ضمانه: وهو ما يقابل الدين، والباقي: وهو ما زاد على قدر الدين، وهو الأمانة التي لا تدخل في ضمان المرتهن، على الراهن، إذا كانت قيمته أكثر من الدين، وإلا فعلى المرتهن.
2 - وقال المالكية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (2): إن جميع نفقات أو مؤونات الرهن على الراهن، سواء منها ما كان لبقاء عينه، أو بقصد حفظه وعلاجه، للحديث السابق: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» وكل إنفاق من غرمه، ولأن نفقة المملوك على مالكه.
فإن لم ينفق الراهن، ما الحكم؟
_________
(1) وجاء في الفتاوى البزازية: أن ثمن الدواء وأجرة الطبيب على المرتهن.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 251/ 3 ومابعدها، مغني المحتاج: 136/ 2، المغني: 392/ 4، كشاف القناع: 326/ 3 ومابعدها، المهذب: 314/ 1.

(6/4285)


قال المالكية: إن لم ينفق الراهن، واحتاج الرهن إلى نفقة كعلف حيوان وإصلاح عقار، أنفق المرتهن، ويرجع بجميع ما أنفق على الراهن، وإن زاد على قيمة الرهن. وتكون النفقة ديناً في ذمة الراهن، لا بمالية الرهن أو عينه، سواء أنفق بإذن منه، أم بغير إذن، لأنه قام بواجب على الراهن.
وقال الشافعية: يجبر القاضي الراهن على النفقة على المرهون إذا كان حاضراً موسراً، فإن تعذر الجبر بسبب إعساره أو غيبته، ففي حال الغيبة يمونه القاضي من مال الراهن إن كان له مال. وفي حال الإعسار: يقترض القاضي، أو يبيع جزءاً من الرهن لإبقائه، أو يأمر المرتهن بالإنفاق عليه، على أن يكون ديناً في ذمة الراهن.
وإذا أنفق المرتهن، رجع على الراهن إن كان الإنفاق بإذن القاضي، أو أشهد عند الإنفاق. وعند غيبة الراهن: أشهد أنه إنما أنفق ليرجع.
وقال الحنابلة: إن أنفق المرتهن بدون إذن الراهن، مع قدرته على استئذانه، كان متبرعاً، لا حق له في الرجوع بما أنفق. فإن عجز عن استئذانه لغيبة أو نحوها، وأنفق، يرجع بأقل المبلغين: نفقة المثل، وما أنفقه فعلاً، بشرط أن ينوي الرجوع بالنفقة. ولا يشترط استئذان القاضي، ولا الإشهاد على النفقة.

المطلب الخامس ـ الانتفاع بالرهن:
لا يجوز تعطيل منفعة الرهن؛ لأنه تضييعٌ للمال وإهدارٌ له، وإنما يجب الإفادة منه أثناء الرهن، فمن الذي ينتفع به، الراهن أم المرتهن؟
تبحث كل حالة على حدة، انتفاع الراهن، ثم انتفاع المرتهن.

(6/4286)


أولاً ـ انتفاع الراهن بالرهن: هناك في انتفاع الراهن بالرهن رأيان: رأي الجمهور غير الشافعية بعدم جواز الانتفاع. ورأي الشافعية بجوازه ما لم يضر بالمرتهن (1). وتفصيل الأقوال فيما يأتي:
1 - قال الحنفية (2): ليس للراهن أن ينتفع بالمرهون استخداماً أو ركوباً أو لبساً أو سكنى وغيرها، إلا بإذن المرتهن، كما أنه ليس للمرتهن الانتفاع بالرهن إلا بإذن الراهن، ودليلهم على الحالة الأولى: أن حق الحبس ثابت للمرتهن على سبيل الدوام، وهذا يمنع الاسترداد. فإن انتفع الراهن من غير إذن المرتهن، فشرب لبن البقرة المرهونة، أو أكل ثمر الشجر المرهون، ونحوهما، ضمن قيمة ما انتفع به؛ لأنه تعدى بفعله على حق المرتهن، وتدخل القيمة التي هي بدل الاستهلاك في حبس المرتهن للرهن، ويتعلق بها الدين.
وإذا استعاد الراهن الرهن لاستعماله بدون إذن المرتهن، فركب الدابة المرهونة، أو لبس الثوب المرهون، أو سكن الدار المرهونة أو زرع الأرض، ارتفع ضمان المرتهن للرهن، وكان غاصباً للرهن، فيرد إلى المرتهن جبراً عنه. وإذا هلك في يده هلك عليه. فإن لم يترتب على انتفاع الراهن بالرهن رفع يد المرتهن، فله الانتفاع به، كإيجار آلة يشغلها المرتهن، مثل آلة طحن ونحوه، فأجر ما تطحنه حينئذ للراهن؛ لأن نماء الرهن وزوائده للراهن (3)، وإذا أخذه المرتهن احتسب من دينه. وهذا المذهب مبني على أن الرهن يلحق الزيادة المتولدة من الرهن متصلة أو منفصلة عنه.
_________
(1) الإفصاح: 238/ 1.
(2) البدائع: 146/ 6، الدر المختار: 342/ 5 ومابعدها.
(3) الدر المختار: 370/ 5.

(6/4287)


2 - وقال الحنابلة (1) مثل الحنفية: لا يجوز للراهن الانتفاع بالرهن إلا بإذن أو رضا المرتهن. فليس له استخدامه ولا ركوبه ولا لبسه ولا سكناه. وتعطل منافعه أي على كره من الشرع، إذا لم يتفق الراهن والمرتهن على انتفاع الراهن، فتغلق الدار مثلاً حتى يفك الرهن؛ لأن الرهن عين محبوسة، فلم يجز للمالك أن ينتفع بها، كالمبيع المحبوس لدى البائع حتى يوفى ثمنه.
وهذا المذهب مبني على مبدأ أن جميع منافع الرهن ونمائه تكون رهناً مع أصلها، كالحنفية تماماً.

إصلاح الرهن: ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ودفع الفساد عنه ومداواته إن احتاج إليها، وإنزاء الفحل على الأنثى المرهونة عند الحاجة.
3 - وتشدد المالكية (2) أكثر من المذهبين السابقين، فقرروا عدم جواز انتفاع الراهن بالرهن، وقرروا أن إذن المرتهن للراهن بالانتفاع مبطل للرهن، ولو لم ينتفع؛ لأن الإذن بالانتفاع يعد تنازلاً عن حقه في الرهن.
وبما أن منافع الرهن مملوكة للراهن، فله أن ينيب المرتهن في أن ينتفع بالرهن نيابة عنه ولحساب الراهن، حتى لا تتعطل منافع الرهن. فإن عطل المرتهن استغلال المرهون، كإغلاق الدار، ضمن عند بعض المالكية أجرة المثل في مدة التعطيل؛ لأنه ضيعها عليه. وقال بعضهم: لا يضمن، إذ ليس عليه أن يستغل للراهن ماله. وقال بعضهم: يضمن إلا إذا علم الراهن بالاستغلال ولم ينكر عليه التعطيل.
4 - وأما الشافعية (3) فقالوا خلافاً للجمهور السابق: للراهن كل انتفاع
_________
(1) المغني: 390/ 4 ومابعدها، كشاف القناع: 323/ 3.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 241/ 3 ومابعدها.
(3) مغني المحتاج: 131/ 2 ومابعدها.

(6/4288)


بالرهن لا يترتب عليه نقص المرهون، كالركوب، والاستخدام، والسكنى، واللبس، والحمل على الدابة أو السيارة؛ لأن منافع الرهن ونماءه ملك للراهن، ولا يتعلق بها الدين عندهم، ولخبر الدارقطني والحاكم: «الرهن مركوب ومحلوب» وخبر البخاري: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً».
أما ما يترتب عليه نقص قيمة الرهن كالبناء والغرس في الأرض المرهونة، فلا يجوز للراهن إلا بإذن المرتهن مراعاة لحقه. وللمرتهن أن يرجع عن إذنه قبل تصرف الراهن.
وإذا أمكن الراهن الانتفاع بالمرهون بغير استرداد كإيجار آلة عند المرتهن، لم يسترد من المرتهن. وإن لم يمكن الانتفاع به بغير استرداد كأن يكون داراً يسكنها، أو دابة أو سيارة يركبها، فيسترد للحاجة إليه، حتى إذا انتهى انتفاعه به، رده على المرتهن.

ثانياً ـ انتفاع المرتهن بالرهن: يرى الجمهور غير الحنابلة: أنه ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن. وحملوا ما ورد من جواز الانتفاع بالمحلوب والمركوب بمقدار العلف على ما إذا امتنع الراهن من الإنفاق على الرهن، فأنفق عليه المرتهن، فله الانتفاع بمقدار علفه. والحنابلة يجيزون الانتفاع للمرتهن بالرهن إذا كان حيواناً، فله أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه (1). وتفصيل المذاهب كما يأتي:
1 - قال الحنفية (2): ليس للمرتهن أن ينتفع بالمرهون استخداماً ولا ركوباً ولا
_________
(1) بداية المجتهد: 273/ 2.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 342/ 5، البدائع: 146/ 6، تبيين الحقائق: 67/ 6، الهداية مع تكملة الفتح: 201/ 8.

(6/4289)


سكنى ولا لبساً ولا قراءة في كتاب، إلا بإذن الراهن؛ لأن له حق الحبس دون الانتفاع. فإن انتفع به، فهلك في حال الاستعمال يضمن كل قيمته، لأنه صار غاصباً.
وإذا أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بالمرهون، جاز مطلقاً عند بعض الحنفية. ومنهم من منعه مطلقاً؛ لأنه ربا أو فيه شبهة الربا، والإذن أو الرضا لا يحل الربا ولا يبيح شبهته. ومنهم من فصل فقال: إن شرط الانتفاع على الراهن في العقد، فهو حرام؛ لأنه ربا، وإن لم يشرط في العقد، فجائز؛ لأنه تبرع من الراهن للمرتهن. والاشتراط كما يكون صريحاً، يكون متعارفاً، والمعروف كالمشروط.
وهذا التفصيل هو المتفق مع روح الشريعة، والغالب من أحوال الناس أنهم عند دفع القرض إنما يريدون الانتفاع، ولولاه لما أعطوا الدراهم، وهذا بمنزلة الشرط؛ لأن المعروف كالمشروط، وهو مما يُعيِّن المنع، كما قال ابن عابدين.
وأرى أن الاحتياط في الدين أمر واجب، وكل قرض جر نفعاً مشروطاً أو متعارفاً فهوعند الحنفية ربا، وقد صرح ابن نجيم في الأشباه أنه يكره (أي تحريماً) للمرتهن الانتفاع بالرهن (1). وقال في التتارخانية ما نصه: «ولو استقرض دراهم، وسلم حماره إلى المقرض ليستعمله إلى شهرين، حتى يوفيه دينه، أو داره ليسكنها، فهو بمنزلة الإجارة الفاسدة، إن استعمله، فعليه أجر مثله، ولا يكون رهناًَ». وعليه نرى أن مااعتاده الناس في زماننا من رهن الدور على أن يسكنها المرتهن، ريثما يرد إليه الراهن دينه، وهو قرض، غير جائز باتفاق المذاهب، وليس العقد من قبيل بيع الوفاء، لعدم انصراف مقاصد الناس إلى البيع.
_________
(1) المقرر في القانون المدني السوري والمصري يتفق مع الشريعة، فقد نص فيهما على أنه ليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن دون مقابل.

(6/4290)


2 - وفصل المالكية (1) فقالوا: إذا أذن الراهن للمرتهن بالانتفاع أو اشترط المرتهن المنفعة، جاز إن كان الدين من بيع أو شبهة (معاوضة)، وعينت المدة بأن كانت معلومة، للخروج من الجهالة المفسدة للإجارة، لأنه بيع وإجارة، وهو جائز. والجواز كما قال الدردير بأن يأخذ المرتهن المنفعة لنفسه مجاناً، أو لتحسب من الدين على أن يعجل دفع باقي الدين. ولايجوز إن كان الدين قرضاً (سلفاً)؛ لأنه قرض جر نفعاً. ولا يجوز الانتفاع في حالة القرض إن تبرع الراهن للمرتهن بالمنفعة أي لم يشترطها المرتهن؛ لأنها هدية مديان، وقد نهى عنها النبي صلّى الله عليه وسلم (2).
والخلاصة: إن هناك ثماني صور لاشتراط المرتهن منفعة الرهن لنفسه، سبعة منها ممنوعة، وواحدة منها فقط جائزة. أما الممنوعة فأربع صور منها في القرض: وهي ما إذا كانت مدة المنفعة معينة، أو مجهولة، مشترطة أو متطوعاً بها، وثلاث صور منها في البيع: وهي ما إذا كانت متطوعاً بها، سواء كانت مدتها معينة أم مجهولة، أو كانت مشترطة ولم تعين مدتها أي المدة مجهولة.
وأما الصورة الجائزة: فهي ما إذا كانت المنفعة مشترطة في عقد البيع، والمدة معينة. ومحل الجواز فيها إذا اشترطت ليأخذها المرتهن مجاناً، أو لتحسب من الدين على أن يعجل الباقي منه.
3 - وقال الشافعية (3) كالمالكية إجمالاً: ليس للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن من صاحبه، الذي رهنه، له غنمه وعليه
_________
(1) الشرح الكبير للدردير والدسوقي: 246/ 3، بداية المجتهد: 273/ 2، القوانين الفقهية: ص 324.
(2) عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أقرض فلا يأخذ هدية» أي قبل الوفاء. رواه البخاري في تاريخه (نيل الأوطار: 231/ 5).
(3) حاشية البجيرمي على الخطيب: 61/ 3، الإفصاح لابن هبيرة: 238/ 1، مغني المحتاج: 121/ 2.

(6/4291)


غرمه» قال الشافعي: غنمه: زياداته. وغرمه: هلاكه ونقصه. ولا شك أن من الغُنم سائر وجوه الانتفاع. وهذا رأي ابن مسعود.
فإن شرط المرتهن في عقد القرض ما يضر الراهن، كأن تكون زوائد المرهون أو منفعته له، أي للمرتهن، بطل الشرط، والرهن في الأظهر، لحديث «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل». وأما بطلان الرهن فلمخالفة الشرط مقتضى العقد، كالشرط الذي يضر المرتهن نفسه.
أما إن كانت المنفعة مقدرة أو معلومة، وكان الرهن مشروطاً في بيع، فإنه يصح اشتراط جعل المنفعة للمرتهن؛ لأنه جمع بين بيع وإجارة في صفقة، وهو جائز. مثل أن يقول شخص لغيره: بعتك حصاني بمئة بشرط أن ترهنني بها دارك، وأن تكون منفعتها لي سنة، فبعض الحصان مبيع، وبعضه أجرة في مقابلة منفعة الدار.
فإن لم يكن الانتفاع مشروطاً في العقد، جاز للمرتهن الانتفاع بالرهن، بإذن صاحبه، لأن الراهن مالك، وله أن يأذن بالتصرف في ملكه لمن يشاء، وليس في الإذن تضييع لحقه في المرهون؛ لأنه لا يخرج عن يده، ويبقى محتبساً عنده لحقه.
4 - وأما الحنابلة (1) فقالوا في غير الحيوان: ما لا يحتاج إلى مؤنة (قوت) كالدار والمتاع ونحوه، لا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال؛ لأن الرهن ومنافعه ونماءه ملك الراهن، فليس لغيره أخذها بغير إذنه، فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض، وكان دين الرهن من قرض لم يجز؛ لأنه قرض جر منفعة، وذلك حرام، قال أحمد: أكره قرض الدور وهو الربا المحض، يعني إذا كانت الدار رهناً في قرض ينتفع بها المرتهن.
_________
(1) المغني: 385/ 4 ومابعدها، كشاف القناع: 342/ 3 ومابعدها.

(6/4292)


وعبارتهم في الموضوع: «لا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء، إلا ما كان مركوباً أو محلوباً، فيركب ويحلب بقدر العلف». وإن كان الرهن بثمن مبيع، أو أجر دار أو دين غير القرض، فأذن له الراهن في الانتفاع، جاز، أي ولو مع المحاباة في الأجرة.
وإن كان الانتفاع بعوض هو أجر المثل من غير محاباة، جاز في القرض وغيره، لكونه لم ينتفع بالقرض، بل بالإجارة. وإن حاباه لا يجوز في القرض، ويجوز في غيره.
والخلاصة: أن الانتفاع إن كان بعوض جاز في القرض وغيره إن كان بأجر المثل، وإن كان بغير عوض لا يجوز في القرض، وإذا انتفع المرتهن من غير إذن الراهن، حسب من دينه.
وأما الحيوان: فيجوز للمرتهن أن ينتفع به إن كان مركوباً أو محلوباً، على أن يركب ويحلب، بقدر نفقته، متحرياً العدل في النفقة، وإن لم يأذنه الراهن.
ودليلهم الحديث السابق: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبَن الدَّر يُشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» وجملة «الظهر يركب، والدر يشرب» جملة خبرية في معنى الإنشاء مثل: {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة:233/ 2]، ولأن التصرف معاوضة، والمعاوضة تقتضي المساواة بين البدلين.
لكن قال ابن القيم في أعلام الموقعين: لا ضرورة إلى المساواة بين البدلين؛ لأن الشارع ساوى بينهما، ويعسر علينا أمر الموازنة بين الركوب واللبن وبين النفقة.
ولم يعمل الجمهور بهذا الحديث، وقالوا: إنه حديث ترده أصول وآثار صحيحة. ويدل على نسخه حديث: «لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه» (1)، وحديث: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه».
_________
(1) أخرجه البخاري في أبواب المظالم عن ابن عمر (سبل السلام: 51/ 3).

(6/4293)


وأجاب الحنابلة: بأن السنة أصل، فكيف تردها الأصول؟! وأما الحديث الناسخ فهو عام، وحديث الرهن خاص، فيكون الخاص مقيداً له.
وأرى الأخذ بهذا الاستثناء الوارد عند الحنابلة؛ لأن الحديث صحيح. وفيما عداه القول الراجح هو ما عليه اتفاق المذاهب، بدليل أن الحنابلة قالوا:
إن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن، فالشرط فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن، وأما الرهن في البيع فجائز لأنه بيع وإجارة كما قال الشافعية.

المطلب السادس ـ التصرف في الرهن:
إما أن يصدر التصرف في الرهن من الراهن أو من المرتهن.

أولاً ـ تصرف الراهن بالرهن: أـ قبل التسليم: ينفذ عند الحنفية والشافعية والحنابلة تصرف الراهن بالرهن قبل القبض بدون إذن المرتهن؛ لأنه لم يتعلق به حق المرتهن حينئذ.
أما المالكية (1) القائلون بأن الرهن يلزم بالإيجاب والقبول، وبأن الراهن يجبر على تسليم الرهن للمرتهن، فيجيزون ـ بالرغم مما ذكر ـ للراهن أن يتصرف في الرهن قبل القبض، فلو باع الراهن الرهن المشترط في عقد البيع أو القرض نفذ بيعه، إن فرط مرتهنه في طلبه حتى باعه، وصار دينه بلا رهن لتفريطه. فإن لم يفرط في الطلب وجدَّ في المطالبة، ففيه ثلاثة آراء:
الأول لابن القصار: وهو أن للمرتهن رد البيع ولا ينفذ، إن كان المبيع باقياً. وإن فات (ذهب من يد البائع) كان ثمنه رهناً عنده مكانه، وينفذ البيع.
_________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 248/ 3.

(6/4294)


الثاني لابن أبي زيد: وهو نفاذ البيع، وجعل الثمن بدله رهناً.
الثالث لابن رشد: وهونفاذ البيع، ويصير الدين بلا رهن، ولا يكون الثمن رهناً بدله.
وأما إن كان الرهن متطوعاً به بعد العقد، وباعه الراهن قبل أن يقبضه المرتهن، فينفذ بيعه، وهل يكون ثمنه رهناً أو لا يكون؟ فيه خلاف، كالخلاف في بيع الهبة قبل قبضها.

ب ـ بعد التسليم: إذا سلم الراهن المرهون، بقي على ملكه، ولكن تعلق به دين المرتهن، فاستحق حبسه وثيقة بالدين إلى أن يوفى عند الحنفية، ويصبح متعيناً للبيع وثيقة بالدين عند الجمهور غير الحنفية.
وعلى كلا الرأيين: لا يجوز للراهن أن يتصرف بالرهن إلا بإذن المرتهن، لتعلق حقه به، فيتنازل عن حقه في حبس الرهن أو تعينه للبيع. وتفصيل المذاهب فيما يأتي:
1 - قال الحنفية (1): إذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن، فالبيع موقوف لتعلق حق الغير به، فإن أجازه المرتهن، أو قضاه الراهن دينه، أو أبرأه المرتهن عن الدين، جاز البيع ونفذ، وصار ثمنه في غير حال الوفاء بالدين رهناً مكانه في ظاهر الرواية؛ لأن البدل له حكم المُبْدَل. وإن لم يجزه، لم ينفسخ وبقي موقوفاً في أصح الروايتين، وكان المشتري ـ في حال عدم علمه بأنه مرهون ـ بالخيار: إن شاء صبر إلى فك الرهن، أو رفع الأمر إلى القاضي بفسخ البيع.
_________
(1) البدائع: 146/ 6، تكملة الفتح: 224/ 8، تبيين الحقائق: 84/ 6 ومابعدها، الدر المختار: 361/ 5، اللباب: 59/ 2.

(6/4295)


ووجه ظاهر الرواية: أن حق المرتهن متعلق بمالية المرهون، فإذا بيع وأصبح الثمن بدلاً عن المال المرهون، لم يتضرر المرتهن؛ لأن حقه لم يزل بالبيع.
وإذا تكرر بيع الراهن قبل أن يجيز المرتهن، كأن باعه مرة ثانية، كان البيع الثاني موقوفاً أيضاً على إجازة المرتهن، فأي البيعين أجازه لزم، وبطل الآخر.
وإذا كان التصرف الثاني (الوارد بعد بيع الراهن الرهن) هبة أو إجارة أو رهناً فأجاز المرتهن هذا التصرف، نفذ البيع الأول، دون هذه التصرفات؛ لأن إجازته هذه التصرفات إسقاط لحقه في الحبس، وبها يزول المانع من نفاذ البيع، فينفذ، وتتحقق مصلحة المرتهن بتحول حقه لثمن المبيع، أما تلك التصرفات فليس في نفاذها منفعة للمرتهن، لعدم تحول حقه فيها إلى بدل يقوم مقام المرهون.
وإذا تصرف الراهن أولاً بالإعارة أو الإجارة أو الهبة أو الرهن، كان تصرفه أيضاً موقوفاً على إجازة المرتهن.
أما في حال الإعارة: فإن ردها المرتهن بطلت، وإن أجازها نفذت، ولا يبطل بإجازتها عقد الرهن؛ لأن الإعارة عقد غير لازم، فلكل من الراهن والمرتهن بعد نفاذها استرداد العارية، وإعادتها رهناً كما كانت.
وأما في حال الإجارة: فإجارتها مبطلة لعقد الرهن؛ لأنها عقد لازم.
وإذا تصرف الراهن بعقد من هذه العقود مع المرتهن، فحكمها حكم إجازة المرتهن لهذه العقود إذا كانت لغيره. فإذا كان هو المشتري أو الموهوب له أو المتصدق عليه (أي المتملك)، فإن الرهن يبطل بذلك.
وإذا كان هو المستعير لم يبطل الرهن، ولكن يرتفع ضمانه وقت انتفاعه بالعين المرهونة فقط، فإذا هلك أثناء انتفاعه، هلك هلاك الأمانات، وإذا هلك قبل انتفاعه، أو بعد انتهائه هلك هلاك الرهن.

(6/4296)


وإذا كان هو المستأجر، فإن جدد القبض للإجارة (وهو أمر شكلي) بطل الرهن، ونفذت الإجارة؛ لأن قبض الرهن دون قبض الإجارة، فلا ينوب منابه؛ لأن قبض الرهن قبض لا يؤدي إلى جواز الانتفاع، وقبض الإجارة يؤدي إليه، فهو أقوى، فلم ينب منابه. وإذا جدد القبض للإجارة، فهلك المقبوض، هلك هلاك الأمانات، لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتقصير. ومن التعدي: أن يمنع المرتهن الرهن عن مالكه بعد انتهاء مدة الإجارة.
2 - وقال المالكية (1): إذا تصرف الراهن بالرهن من غير إذن المرتهن، ببيع أو إجارة أو هبة، أو صدقة، أو إعارة ونحوها، كان التصرف موقوفاً على إجازة المرتهن، فيخير مثلاً بين أن يرد البيع ويرجع الرهن لما كان عليه من الرهنية، أو يجيزه. وبطل الرهن على المعتمد بمجرد الإذن (أي إذن المرتهن للراهن بالتصرف) وإن لم يتصرف الراهن، لاعتبار الإذن تنازلاً عن الرهن.
3 - وقال الشافعية (2): ليس للراهن المُقْبِض تصرف يزيل الملك، كالهبة والبيع والوقف، مع
غير المرتهن بغير إذنه؛ لأنه لو صح لفاتت الوثيقة. كما لا يصح له رهن المرهون لغير المرتهن الأول عنده، ولا إجارة المرهون إن كان الدين حالاً، أو يحل أجله قبل انقضاء مدة الإجارة، ويعد التصرف حينئذ باطلاً.
فإن كان هذا التصرف مع المرتهن أو بإذنه، فيصح ويبطل الرهن، إلا في الإجارة فيستمر الرهن، ويصح للراهن كل تصرف لا يضر المرتهن كالسكنى والركوب كما بان سابقاً، ويصح له أيضاً الإجارة والإعارة إلى مدة لا تمتد إلى ما
_________
(1) الشرح الكبير: 241/ 3 ومابعدها، 248، بداية المجتهد: 274/ 2، القوانين الفقهية: ص 324.
(2) مغني المحتاج: 130/ 2 وما بعدها، المهذب: 309/ 1، 311.

(6/4297)


بعد حلول الدين، لأنه تصرف لا يمس حق المرتهن في بيع الرهن عند حلول الدين، وعدم الوفاء.
4 - والحنابلة (1) كالشافعية قالوا: إذا تصرف الراهن بالرهن تصرفاً بغير إذن المرتهن، بطل التصرف؛ لأنه يؤدي إلى إبطال حق المرتهن بالوثيقة، سواء أكان التصرف بيعاً أم إجارة أم هبة أم وقفاً، أم رهناً وغيره. وإذا أذن المرتهن بهذا التصرف، صح، وبطل الرهن، إلا في الإجارة فيستمر الرهن في الأصح. كما أن الرهن يبقى بحاله مستمراً إذا كان التصرف إعارة أذن بها المرتهن.
والخلاصة: إن تصرف الراهن بالرهن بغير إذن المرتهن موقوف عند الحنفية، باطل عند الأئمة الآخرين.

ثانياً ـ تصرف المرتهن بالرهن: تبين مما سبق أن حق الراهن قائم في عين الرهن، فهو ملكه، وحق المرتهن ثابت في ماليته، فله حبسه لوفاء الدين.
وبناء عليه، لا يجوز للمرتهن أن يتصرف في الرهن بغير إذن الراهن، كما في تصرف الراهن، لأنه تصرف فيما لا يملك، ويكون تصرفه موقوفاً عند الحنفية والمالكية كتصرف الفضولي، وباطلاً عند الشافعية والحنابلة، وتفصيل المذاهب فيما يأتي:
1 - قال الحنفية (2): ليس للمرتهن أن يتصرف بغير إذن الراهن؛ لأنه تصرف فيما لا يملك، إذ
لا حق له إلا في حبس المرهون، فإن تصرف بغير إذنه بالبيع أو الهبة، أو الصدقة أو الإعارة ونحوها، كان تصرفه موقوفاً على إجازة الراهن، إن
_________
(1) المغني: 363/ 4، كشاف القناع: 321/ 3 ومابعدها.
(2) البدائع: 146/ 6، الدر المختار: 342/ 5 ومابعدها، ورد المحتار: 139/ 5.

(6/4298)


أجازه نفذ، وإلا بطل. لكن إن أجره المرتهن بلا إذن، فالأجرة له، وإن كان بإذن فللمالك الراهن، وبطل الرهن (1).
وإن هلك المرهون عند المتصرف إليه، ففيه تفصيل:
أـ إن باعه المرتهن أو وهبه أو تصدق به أو أعاره فهلك عند المتصرف إليه، فللراهن الخيار: إما أن يضمن المرتهن لتعديه، ويستقر الضمان عليه، فلا يرجع على أحد، وبأدائه الضمان يتبين أنه تصرف في ملكه. وإما أن يضمن المتصرف إلىه ولا يرجع أحدهم على المرتهن؛ لأن كل واحد عامل لنفسه، فالمشتري أو الموهوب له أو المتصدق له قبض لنفسه، وفي ضمان نفسه، سواء أكان عالماً بأنه معتد، أم غير عالم، لأنه في الحالة الأخيرة أقدم على تصرف يتبعه ضمانه، كما لو كان ملكاً للمرتهن. وأما المستعير فقد قبض لنفسه لينتفع مجاناً.
ب ـ وإن أجره المرتهن أو أودعه، أو رهنه، ثم هلك، فللراهن الخيار: إما أن يضمن المرتهن، فلا يرجع على أحد، ويتبين أنه تصرف في ملك نفسه، أو يضمن المتصرف إليه، ولكن يرجع كل منهم على المرتهن؛ لأنه ليس عاملاً لنفسه، وإنما هو عامل للمؤجر أو المودع أو الراهن في حفظ العين لصالحه أي المؤجر ونحوه، وإذا كان كل منهم عاملاً للمرتهن فيرجعون بالضمان عليه.
وإذا كان الهلاك بتعدي المتصرف إليه، كان هو الضامن لتعديه، ويستقر الضمان عليه لو ضمن الراهن المرتهن.
ويلاحظ أنه إذا اختار الراهن تضمين المرتهن أو المتصرف إليه، لا يعود إلى
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 342/ 5، 372.

(6/4299)


تضمين الآخر؛ لأن اختياره تضمين أحدهما بمثابة تمليك له، وإذا ملك شخصاً لم يكن له أن يملِّك غيره، ولأن اختياره تضمين أحدهما يعتبر منه إقراراً بأنه هو المعتدي على حقه دون الآخر، فلا يقبل منه بعدئذ تضمينه.
2 - وقال المالكية (1) كالحنفية: لا يجوز تصرف المرتهن في الرهن بغير إذن الراهن؛ لأنه تصرف فيما لا يملك. فإن تصرف فيه بغير إذنه بيعاً أو هبة أو إجارة أوإعارة، كان موقوفاً على إجازة الراهن، كتصرف الفضولي عندهم.
وإن تصرف بإذن الراهن نفذ، وبطل رهنه إذا كان التصرف بيعاً أو هبة، أو إجارة لمدة تمتد إلى ما بعد حلول أجل الدين. أما إذا كانت مدتها تنتهي قبل حلول أجل الدين، فلا يبطل الرهن، ويسترده المرتهن بعد انتهاء مدتها. كما يبطل الرهن بإعارته لمدة تمتد إلى ما بعد حلول أجل الدين، ولم يشترط رد المرهون إلى المرتهن عند حلول الدين، أو لم يكن هناك عرف يقضي برده. فإن انتهت مدة الإعارة قبل حلول الأجل، أو اشترط الرد عند الحلول، أو وجد عرف يقضي برده، فلا يبطل الرهن حينئذ.
3 - وقال الحنابلة والشافعية (2): ليس للمرتهن أن يتصرف في الرهن بغير إذن الراهن؛ لأنه ليس ملكاً له، فإن أقدم على التصرف كان تصرفه باطلاً، ولا يبطل الرهن. أما إن تصرف بإذن الراهن فتصرفه ينفذ، ويبطل الرهن إن كان تمليكاً. ولا يبطل الرهن إن كان إجارة أو إعارة، سواء أكان التصرف للراهن أم لغيره، وإنما يزول عند الحنابلة لزوم الرهن بالتصرف بالمرهون، وكأنه لم يلحقه
_________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 242/ 3.
(2) المغني: 331/ 4، مغني المحتاج: 131/ 2.

(6/4300)


قبض. فإذا عاد المرهون للمرتهن عاد رهناً كما كان. وأما عند الشافعية الذين لايشترطون استدامة قبض الرهن، فيظل الرهن ولو كان بيد غير المرتهن.

المطلب السابع ـ ضمان الرهن:
البحث هنا في ثلاثة أمور:
أولها ـ صفة يد المرتهن.
وثانيها ـ كيفية ضمان المرتهن عند الحنفية وعند الجمهور.
وثالثها ـ استهلاك الرهن.

أولاً ـ صفة يد المرتهن: هل هي يد أمانة أو يد ضمان؟ فيه رأيان: الأول للحنفية، والثاني للجمهور.
1 - قال الحنفية (1): يد المرتهن يد أمانة بالنظر لعين المال المرهون، ويد استيفاء أو ضمان بالنسبة لمالية المرهون فيما يقابل الدين من مالية الرهن. بمعنى أن ما يساوي الدين من مالية الرهن تعتبر يد المرتهن عليه يد ضمان أو استيفاء، فإذا امتنع رد المرهون لصاحبه بسبب هلاك أو غيره، كان المرتهن مستوفياً من دينه هذا المقدار، واحتسب من ضمانه، وأما ما زاد من قيمة الرهن على الدين فهو أمانة، يهلك هلاك الأمانة، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير.
وأدلتهم: حديث «الرهن بما فيه» (2) أي يهلك بما رهن فيه، وما روي أن رجلاً
_________
(1) الدر المختار: 342/ 5، اللباب: 55/ 2، تكملة الفتح: 198/ 8، تبيين الحقائق: 63/ 6، البدائع: 154/ 6.
(2) رواه الدارقطني مسنداً عن أنس وأبو داود مرسلاً، والأول حديث ضعيف والثاني مرسل صحيح (نصب الراية: 321/ 4).

(6/4301)


رُهن فرساً، فنَفَق (مات) في يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمرتهن: «ذهب حقك» (1).
وقد عمل الحنفية بالحديث الأول: «إذا عُمِّي فهو بما فيه» فقالوا (2): معناه: إذا اشتبهت قيمته بعد هلاكه، بأن قال كل: لا أدري كم كانت قيمته، ضمن بما فيه من الدين.
أـ وقال الجمهور غير الحنفية (3): يد المرتهن على الرهن يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، ولا يسقط شيء من الدين بهلاك الرهن. إلا أن المالكية بالرغم من قولهم بأن يد المرتهن يد أمانة استحسنوا تضمين المرتهن عند وجود التهمة: وهي عندما يكون الرهن مما يغاب عليه (أي يمكن إخفاؤه) كالحلي والثياب والكتب والسلاح والسفينة وقت جريها ونحوه مما يمكن إخفاؤه وكتمه، إذا كان المرهون بيد المرتهن، لا بيد أمين (عدل) ولم تقم بينة (شهادة اثنين) أوشاهد مع يمين على احتراقه أو سرقته أو تلفه، بلا تعدٍ ولا إهمال من المرتهن.
أما إذا كان المرهون مما لا يغاب عليه كالعقار والحيوان، أو كان الرهن بيد أمين، أو قامت بينة على تلفه بلا تعد ولا إهمال من المرتهن، فلا يضمنه المرتهن عند هلاكه.
ودليل الجمهور على كون يد المرتهن يد أمانة: حديث أبي هريرة السابق: «لا
_________
(1) رواه أبو داود في مراسليه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وهو مرسل وضعيف (نصب الراية: 321/ 4).
(2) الدر المختار: 348/ 5.
(3) الشرح الكبير والدسوقي: 253/ 3 - 255، بداية المجتهد: 273/ 2، القوانين الفقهية: ص 324، مغني المحتاج: 136/ 2، المهذب: 316/ 1، أعلام الموقعين: 35/ 4، المغني: 396/ 4، كشاف القناع: 328/ 3.

(6/4302)


يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» فقد جعل النبي غرم الرهن ـ ومنه هلاكه ـ على الراهن، وإنما يكون غرمه عليه إذا هلك أمانة؛ لأن عليه قضاء دين المرتهن. أما إذا هلك مضموناً، فإن غرمه على المرتهن، حيث سقط حقه، لا على الراهن.
ثم إن الرهن وثيقة بالدين، فلا يجوز أن يسقط الدين بهلاكه، إذ يتنافى السقوط مع كونه وثيقة.
كما أن وجود المرهون في يد المرتهن حدث برضا الراهن، فكان بسبب الرضا أميناً، كالوديع بالنسبة للمودع.
ويلاحظ أن رأي الجمهور أقوى لقوة أدلتهم، وضعف أحاديث الحنفية.

ثانياً ـ كيفية ضمان المرتهن: 1 - مذهب الحنفية: إن المرهون مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين (1)، فإن كانت القيمة أقل من الدين، فهو مضمون بالقيمة وسقط من الدين بقدرها، ورجع المرتهن بالفضل الزائد على الراهن، وإن تساوى الدين وقيمة المرهون، صار المرتهن مستوفياً دينه حكماً، لتعلق قيمة الرهن بذمته، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين، فالفضل الزائد أمانة في يد المرتهن لا يضمن مالم يتعد عليه، أو يقصر في حفظه (2).
شرائط الضمان: اشترط الحنفية لضمان الرهن على النحو المذكور شروطاً ثلاثة (3):
_________
(1) أي ما هو أقل. و «مِنْ» لبيان الأقل الذي هو القيمة تارة، والدَّينُ أخرى.
(2) اللباب: 55/ 2، البدائع: 160/ 6، ومراجع الحنفية في صفة يد المرتهن.
(3) البدائع: 155/ 6 - 160، تكملة الفتح: 240/ 8.

(6/4303)


الأول ـ شرط بقاء الدين أي وجود الدين عند هلاك المرهون، أو أن يكون موعوداً به عند قبض الرهن: فإذا سقط الدين قبل هلاك الرهن، بالإبراء أو بالوفاء ونحوهما، ثم هلك الرهن، فإنه يهلك على الراهن بغير شيء، ولا ضمان على المرتهن حينئذ.
الثاني ـ شرط بقاء القبض أي أن يكون هلاك الرهن في يد المرتهن أو في يد العدل، وفي حال قبضه على حكم الرهن: فإذا هلك المرهون، وهو في يد الراهن، أو في يد غاصبه، لم يهلك هلاك الرهن، وإنما يهلك على ضمان الراهن إذا كان في يده، أو على ضمان الغاصب إذا هلك في يده.
وإذا أذن الراهن المرتهن في الانتفاع بالرهن، فهلك حال انتفاعه به، بناء على الإذن، فإنه أيضاً يهلك هلاك الأمانة، ولا يسقط بهلاكه شيء من الدين، لأنه لم يهلك في قبض الرهن، وإنما هلك في قبض العارية.
أما إن هلك قبل أن يبدأ انتفاعه به، أو بعد انتهائه، فإنه يهلك هلاك الرهن، لأنه هلك في قبض الرهن.
وكذلك لو أعاره أحدهما بإذن الآخر لأجنبي، فهلك عنده، هلك هلاك العارية. وإن أودعه المرتهن لدى الراهن، فهلك في يده، لم يسقط شيء من الدين بهلاكه، لانتقاض قبض الرهن برده إلى الراهن.
الثالث ـ شرط كون المرهون مقصوداً بالرهن أي ألا يكون الهالك من زيادة الرهن ونمائه، مما يدخل في الرهن تبعاً، كالولد واللبن والثمرة والصوف ونحوها، من كل زيادة متولدة منفصلة.
فإذا هلك النماء أو الزيادة، هلك هلاك الأمانة؛ لأن الزيادة لم تدخل في الرهن إلا تبعاً للأصل، فكانت يد المرتهن عليها يداً تابعة ليده على أصلها.

(6/4304)


نقص سعر المرهون: لا يؤثر نقص سعر المرهون عند جمهور الحنفية خلافاً لزفر في ضمان الرهن؛ لأن ما يسقط من الدين بهلاك الرهن مراعى فيه قيمته وقت قبضه، لا وقت هلاكه؛ لأن قبضه قبض استيفاء، فتراعى قيمته في وقت القبض. فإذا نقصت قيمته بسبب تغير الأسعار، لا يسقط بسبب التغير شيء من الدين (1).
نقص قيمة الرهن بسبب هلاك بعضه أو تعيبه: إذا كان الرهن متعدداً، فهلك بعضه، أو كان سليماً فتعيب عند المرتهن، سقط من الدين بمقدار ما نقص من قيمة الرهن بسبب هلاك بعضه أو تعيبه، وكان الباقي من الرهن رهناً بالباقي من الدين.
إلا أنه إذا كان المرهون من الأموال الربوية بأن كان مكيلاً أو موزوناً ورهن بجنسه كسوار ذهب بليرات ذهبية وكسبيكة فضية بحلي من فضة، ثم هلك، فيهلك عند أبي حنيفة بمثله وزناً من الدين (2)، وإن اختلف الرهن والدين في الجودة والصناعة؛ لأنه لا عبرة بالجودة، أي لا ينظر إليها عند المقابلة بالجنس في الأموال الربوية (3). وإن رهنت بخلاف جنسها كقمح بذهب هلكت بقيمتها كسائر الأموال.

2 - مذهب الجمهور غير الحنفية في كيفية ضمان الرهن:
لا يضمن الرهن عند جمهور الفقهاء (4) إذا هلك بلا تعد ولا تقصير، وهو في يد المرتهن، وإنما يضمن بالتعدي أو التقصير، ولا يسقط شيء من الدين بتلف
_________
(1) تبيين الحقائق: 91/ 6.
(2) تكملة الفتح: 212/ 8، تبيين الحقائق: 74/ 6، اللباب: 57/ 2.
(3) وقال الصاحبان: يضمن المرتهن قيمة المرهون من مال آخر خلاف جنسه، ويحل الضمان مكان أصله في الرهن عند المرتهن.
(4) المغني: 396/ 4، مغني المحتاج: 137/ 2، القوانين الفقهية: ص 324، الشرح الكبير: 344/ 3، المقدمات الممهدات: 367/ 2.

(6/4305)


المرهون إلا أن المالكية ـ كما تقدم ـ ضمنوا المرتهن إذا كان الرهن في يده وحيازته لا في يد أمين مما يغاب عليه، كالحلي والسلاح والثياب والكتب والسفينة وقت جريها وكان المرهون في يده وحيازته، لا في يد أمين، ولم تقم بينة على هلاكه من غير تعد ولا تقصير، وحينئذ يضمن قيمته بالغة ما بلغت، ويستمر الضمان إلى تسليم الرهن لصاحبه، فلا يرفعه وفاء الدين ولا سقوطه. ويسقط دين المرتهن إن كان مساوياً للرهن. ولديهم قولان في وقت تقدير قيمة المرهون: قول بتقديرها يوم الضياع (أي التغيب) وقول بتقديرها يوم الارتهان (1)، وكيفية الضمان عندهم: أن العاقدين يترادان الفضل بينهما، فإن كانت قيمة الدين أكثر من قيمة الرهن، رجع المرتهن على الراهن بالفضل، وإن كانت قيمة الرهن أكثر، رجع الراهن على المرتهن بما فضل من قيمة الرهن على الدين.

ثالثاً ـ حكم استهلاك الرهن: اتفقت المذاهب على وجوب ضمان الرهن باستهلاكه، وعلى أن قيمة الضمان تحل محل المرهون، واختلفوا في جزئيات مثل تحديد الخصم الذي يطالب بالضمان، وتعيين وقت تقدير القيمة.
فقال الحنفية (2): إذا استهلك أو أتلف الراهن الرهن، ضمن قيمته إن كان قيمياً، ومثله إن كان مثلياً، يوم الاستهلاك أو الإتلاف (وقت التعدي) ويكون المرتهن هو الخصم الذي يطالب الراهن بالضمان؛ لأنه صاحب الحق بحبس المرهون، ويأخذ المرتهن المضمون (القيمة أو المثل) رهناً في يده؛ لأنه قائم مقام
_________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 253/ 3. قال الدسوقي: هل تعتبر القيمة يوم الضياع أي وقت تغيبه، أم يوم الارتهان؟ قولان. ووفق بعضهم بين القولين بأن الأول هو ضمان قيمته يوم الضياع إذا كان قد ظهر عنده يوم ادعى التلف، وأن الثاني ـ وهو ضمان قيمته يوم ارتهانه إذا لم يظهر عنده منذ ارتهنه إلى وقت ادعائه تلفه.
(2) البدائع: 163/ 6، تبيين الحقائق: 87/ 6، اللباب: 60/ 2.

(6/4306)


أصل المرهون، إلى حلول أجل الدين. فإن كان الدين حالاً، أخذ المرتهن دينه كله من القيمة.
وإذا استهلك المرتهن الرهن أو أتلفه بتعدٍ أو تقصير من جهته، ضمن قيمته إن كان قيمياً، ومثله إن كان مثلياً، والمعتبر قيمته يوم قبضه؛ لأن المرهون دخل في ضمانه من يوم قبضه.
فإن أتلفه أجنبي، ضمن قيمته يوم التعدي، كما هو المقرر في اعتداء الراهن؛ لأن نشوء الضمان كان بالتعدي.
وسواء أتلفه المرتهن أو الأجنبي أو الراهن يكون المضمون (مثلاً أو قيمة) رهناً مكان أصله؛ لأنه بدله، فيتعلق به حق المرتهن، كما كان متعلقاً بأصله. ويكون الخصم في مطالبة الأجنبي أو الراهن بالضمان هو المرتهن، ويعطى لمن كان أصل المرهون في يده، من مرتهن أو عدل.
وقال الشافعية والحنابلة (1): يضمن المتعدي على الرهن قيمته أو مثله، وقت التعدي، ويكون بدله رهناً مكانه، ولو لم يقبض هذا الضمان، حتى يظل المرتهن صاحب امتياز أو أفضلية على سائر الغرماء في مقدار بدل الرهن من تركة المتعدي.
والخصم في اقتضاء بدل الرهن: هو الراهن؛ لأنه المالك، ولكن يقبضه من كان الأصل في يده من مرتهن أو عدل.
وقال المالكية (2): تكون قيمة الرهن عند ضمانه، بسبب التعدي عليه من الراهن أو من أجنبي إن لم يأت الراهن برهن مثل الأول وتقدر القيمة يوم التعدي.
_________
(1) مغني المحتاج: 136/ 2، 138، المغني: 396/ 4، كشاف القناع: 328/ 3.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 244/ 3، 253.

(6/4307)


فإن كان المرتهن هو المتعدي على الرهن، فيضمن قيمته يوم ضياعه (تغيبه)، وقيل: يوم ارتهانه.

المطلب الثامن ـ بيع الرهن:
الكلام عن بيع المرهون يتطلب أموراً خمسة: ولاية البيع الاختياري والجبري، وبيع مايتسارع إليه الفساد، وحق امتياز المرتهن، واشتراط المرتهن تملك المرهون عند عدم الوفاء، واستحقاق الرهن بعد بيعه.

أولاً ـ ولاية بيع المرهون: أـ البيع الاختياري: اتفق الفقهاء على أن المرهون يظل ملكاً للراهن بعد تسليمه للمرتهن، كما دلت السنة: «لا يغلق الرهن من صاحبه» فتكون ولاية بيع المرهون للراهن، لا لغيره، لكن لتعلق حق المرتهن به، وثبوت حق حبسه إياه عند الجمهور غير الشافعية، وكونه أولى بماليته من الراهن، يتوقف عند الحنفية والمالكية نفاذ بيعه على رضا المرتهن وإذنه، ما دام حقه قائماً، فإذا انتهى هذ الحق، نفذ البيع بانتهائه، كما بان في بحث التصرف بالرهن.
وعليه يكون للراهن باتفاق الفقهاء أن يبيع الرهن بإذن المرتهن. فإذا توفي الراهن، كانت ولاية البيع لوصيه أو لوارثه، كما يكون له في حال حياته، أن يوكل في البيع غيره، فيوكل المرتهن، أو العدل، أو أجنبياً آخر غيرهما.
وذكر الحنفية (1) فروقاً بين الوكالة المشروطة في عقد الرهن، والوكالة المفردة الحادثة بعد عقد الرهن، من هذه الفروق:
_________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 81/ 6 ومابعدها.

(6/4308)


أن الوكالة المشروطة في عقد الرهن لا ينعزل الوكيل فيها بعزل الموكل ولابموت الراهن أو المرتهن، ولا تقبل التقييد بعد الإطلاق، ويجبر فيها الوكيل ببيع الرهن على بيعه إذا امتنع عنه؛ لأن الوكالة صارت شرطاً أو وصفاً من شروط الرهن، فتلزم بلزومه.
بخلاف الوكالة المفردة في كل هذه الأحكام، فإنها تنتهي بالعزل أو بموت الراهن والمرتهن، ... إلخ؛ لأنها لم تصر وصفاً من أوصاف الرهن، ولم يتعلق بها حق المرتهن.
وأوضح المالكية (1) بعض الأمور في حالة إذن الراهن بالبيع، فقالوا: ليس للعدل أو المرتهن بيع الرهن إلا بإذن الراهن؛ لأن ولاية البيع له، فإذا أذن الراهن لأحدهما بالبيع، فإما أن يكون الإذن مطلقاً أو مقيداً.
فإن قيده بعدم وفاء الدين في وقت معين، لم يجز لأحدهما بيعه قبل الوقت، بل يجب الرجوع إلى القاضي، ليبين أن الدين قد وفي أم لا.
وإن كان الإذن مطلقاً: فإن كان للعدل، استقل حينئذ ببيعه بدون رجوع إلى القاضي. وإن كان للمرتهن، فله البيع بدون الرجوع للقاضي إذا صدر الإذن بعد العقد، أما إذا صدر حال العقد، فلا يبيع إلا أن يرجع إلى القاضي، حتى ترتفع شبهة إكراه الراهن على إصدار الإذن.
وينفذ البيع، إذا لم يكن فيه غبن، أما إن بيع بأقل من قيمته، فللراهن أخذه من المشتري، وإن تداولته الأيدي بأي ثمن شاء مما بيع به.
وقالوا كالحنفية: لايملك الراهن ولا المرتهن عزل الوكيل في بيع الرهن، كما لا يجوز له أن يعزل نفسه، ولا ينعزل إلا باتفاقهما على عزله.
_________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 250/ 3 وما بعدها.

(6/4309)


وكذلك قرر الشافعية والحنابلة (1): أن ولاية البيع للراهن، بإذن المرتهن، فلا يبيعه هو أو وكيله من غير إذنه، إلا إذا تعنت، فرفض أن يأذن بالبيع، فيرفع الراهن الأمر للقاضي، فيأمره بأن يأذن بالبيع أو يبرئ الراهن، دفعاً للضرر عنه، وإلا أذن القاضي للراهن بالبيع لوفاء الدين.

ب ـ البيع الجبري:
الرهن وثيقة بالدين كما عرفنا، والهدف المقصود من الرهن هو الحصول على الدين من ثمن المرهون، إذا لم يوف الراهن المدين بالدين عند حلول أجل الدين، عن طريق بيع المرهون.
ويتم البيع في الأحوال العادية بواسطة الراهن أو وكيله؛ لأنه هو المالك للمرهون.
وبناء عليه، إذا حل أجل الدين، طالب المرتهن الراهن بوفاء الدين، فإن استجاب إلى طلبه، فوفى، فبها ونعمت، وإن لم يستجب لمطل أو إعسار، أو لغيبة، أجبره القاضي على البيع باتفاق الفقهاء.
ويجبر القاضي عند الحنفية والمالكية وكيل الراهن على البيع، كما تقدم، ولا يجبر عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الوكيل متفضل، له أن يتخلى عن وكالته، فلا يجبر على البيع، وإنما يتم البيع بواسطة القاضي إذا كان الرهن غائباً. أو كان حاضراً وأبى البيع.
ويطلب القاضي أولاً من الراهن الحاضر بيع المرهون، فإن امتثل، تم
_________
(1) مغني المحتاج: 130/ 2، المغني: 362/ 4 ومابعدها.

(6/4310)


المقصود، وإن امتنع، باعه القاضي عند المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة بدون حاجة إلى إجباره بحبس أو ضرب أو تهديد (1).
وقال أبو حنيفة: ليس للقاضي أن يبيع الرهن بدين المرتهن من غير رضا الراهن، لكنه يحبس الراهن حتى يبيعه بنفسه (2).
وإذا وجد في مال المدين الراهن مال من جنس الدين، وُفِّيَ الدين منه، ولا حاجة حينئذ إلى البيع جبراً.
وإذا احتاج بيع المال المرهون إلى نفقات، كانت على الراهن؛ لأنه هوالمالك، وهو ملزم بقضاء الدين، والبيع نتيجة لعدم وفائه.

ثانياً ـ بيع ما يتسارع إليه الفساد: عرفنا فيما مضى أنه يصح رهن ما يسرع إليه الفساد من أنواع الفواكه، فإن أمكن تجفيفه تجنباً لفساده، جفف، والمؤنة على الراهن، ولا يطلب رضاه؛ لأن الجفاف من مؤونته وحفظه وتبقيته، وهو على الراهن. وإن كان مما لا يجفف: فللمرتهن أن يبيعه في الحال؛ لأن بيعه ضروري لحفظه، ولكن بإذن القاضي؛ لأن له ولاية في مال غيره في الجملة، فإن باع بغير إذنه، ضمن لأنه لا ولاية له عليه.
فإن كان الدين حالاً، يقضى من ثمنه، وإن كان مؤجلاً، يكون الثمن رهناً إلى وقت الحلول.
وإن كان لا يحل الدين قبل أوان فساده، بل يحل بعد فساده أو معه، فإنه يباع
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 251/ 3، القوانين الفقهية: ص 324، مغني المحتاج: 134/ 2، المهذب: 307/ 1، كشاف القناع: 330/ 3.
(2) البدائع: 148/ 6، الدر المختار: 359/ 5، رد المحتار: 357/ 5، تكملة الفتح: 222/ 8.

(6/4311)


أيضاً، ويجعل الثمن رهناً مكانه، سواء شرط في عقد الرهن بيعه، أو أطلق أي خلا العقد من الشرط (1).
وخالف الشافعية في الصورة الأخيرة، وهي ما إذا كان يحل بعد فساده، أو معه، فقالوا: إن شرط في الرهن بيعه، وجعل ثمنه رهناً مكانه، صح الرهن، ونفذ الشرط. وإن أطلق فعلى قولين، وهما وجهان عند الحنابلة: أحدهما: لا يصح الرهن، وهو الصحيح عند الشافعية، وعكسه هو الأصح عند الحنابلة، ودليل الشافعية أن بيع الرهن قبل حلول أجل الدين، لا يقتضيه عقد الرهن، فلا يجوز. وحينئذ إذا بقي الرهن على حاله إلى أن يفسد، ذهبت الوثيقة (2).

ثالثاً ـ حق امتياز المرتهن: حق الامتياز: معناه أن يكون المرتهن أولى أو أحق بثمن المرهون من سائر الغرماء (الدائنين) حتى يستوفي حقه، حياً كان الراهن أو ميتاً. ويثبت هذا الحق للمرتهن باتفاق الفقهاء (3) ما عدا الظاهرية بناء على تعلق حقه أو دينه بالمال المرهون، وكون الرهن وثيقة بالدين، وثبوت حق المرتهن في حبسه عند غير الشافعية (الجمهور)، ومنع الراهن من التصرف بالرهن إلا بإذن المرتهن باتفاق المذاهب.
_________
(1) البدائع: 148/ 6، الدر المختار: 157/ 5، المغني: 341/ 4، المهذب: 308/ 1، مغني المحتاج: 123/ 2 ومابعدها.
(2) والقول الثاني وهو الراجح عند الحنابلة: يصح الرهن، ويباع المرهون عند الإشراف على الفساد؛ لأن الظاهر والذي يقتضيه العرف أن المالك لا يقصد برهنه مع الإطلاق إتلاف ماله، فإذا تعين حفظه في بيعه، حمل عليه مطلق العقد. وعزاه الرافعي في الشرح الصغير إلى تصحيح الأكثرين، وقال الإسنوي: إن الفتوى عليه.
(3) البدائع: 153/ 6، القوانين الفقهية: ص 324، مغني المحتاج: 134/ 2، المغني: 404/ 4 ومابعدها.

(6/4312)


وعليه إذا ضاق مال الراهن عن وفاء ديونه، وطالب الغرماء بديونهم، أو حجر على المدين لإفلاسه عند مجيزي الحجر خلافاً لأبي حنيفة، وأريد قسمة ماله بين غرمائه (دائنيه)، فأول من يقدم هو المرتهن لاستيفاء حقه من ثمن المرهون، أو من قيمته عند ضمانه عوضاً عنه من قيمة أو مثل، أياً كان الضامن، بسبب الإتلاف.
ولا يحق الاعتراض لباقي الغرماء، ولهم أخذ ما فضل من الثمن؛ لأن حق المرتهن متعلق بعين الرهن، وذمة الراهن معاً، فهو صاحب حق عيني، وأما سائر الغرماء، فيتعلق حقهم بالذمة، دون العين، فكان حقه أقوى، وحقهم شخصي فقط.
هذا إن كان ثمن المرهون كافياً لحق المرتهن، ويفضل منه شيء، فيوزع الفاضل أو الباقي على الغرماء بالتساوي، فإن فضل من دين المرتهن شيء، أخذ ثمن المرهون، وساهم مع الغرماء ببقية دينه.
ويسدد دين المرتهن من ثمن المرهون، إذا كان الدين حالاً، فإن كان مؤجلاً، وبيع الرهن لسبب من الأسباب التي تستوجب بيعه قبل حلول أجل الدين كما في بيع ما يسرع إليه الفساد، فإن الثمن يبقى رهناً بدل أصله، إلى أن يحل الدين.

رابعاً ـ اشتراط المرتهن تملكه للرهن عند عدم الوفاء (غَلَق الرهن): اتفق جمهور الفقهاء (1) على أنه إذا شرط المرتهن في عقد الرهن أنه متى حل الدين، ولم يوف، فالمرهون له بالدين، أو فهو مبيع له بالدين الذي على الراهن،
_________
(1) المغني: 383/ 4، القوانين الفقهية: ص 324 ومابعدها، المنتقى على الموطأ: 239/ 5، نيل الأوطار: 235/ 5 ومابعدها، مغني المحتاج: 137/ 2.

(6/4313)


فهو شرط فاسد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يَغْلَق الرهن من صاحبه»، أي لا يستحقه ولا يملكه المرتهن إذا لم يُفْتَكَّ في الوقت المشروط. قال مالك: «لا يغلق الرهن» معناه ـ والله أعلم ـ لا يمنع من فكه، والنهي عن الشيء يقتضي فساد المنهي عنه. وقال الأزهري: الغَلَق في الرهن: ضد الفك، فإذا فك الراهن الرهن، فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه. وروى عبد الرزاق عن معمر: أنه فسر غَلَق الرهن بما إذا قال الرجل: إن لم آتك بمالك، فالرهن لك.
والخلاصة: أن المراد بالحديث: لا يستحق المرتهن الرهن، إذا لم يُفْتَكَّ في الوقت المشروط، فلو هلك الرهن، لم يذهب حق المرتهن، وإنما يهلك من رب الرهن، إذ له غنمه وعليه غرمه.
قال النووي في المنهاج وشراحه: ولو شرط كون المرهون مبيعاً له عند الحلول، فسد، أي الرهن لتأقيته، والبيع لتعليقه. والمرهون قبل المَحِل، أي وقت الحلول أمانة؛ لأنه مقبوض بحكم الرهن الفاسد، وبعده مضمون بحكم الشراء الفاسد.
وهناك قول لأبي الخطاب من الحنابلة، ولبعض الحنفية: أن الرهن لا يفسد بهذا الشرط؛ لأن الحديث: «لا يغلق الرهن» نفى غَلَقه دون أصله، فيدل على صحته، ولأن الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط، فمع بطلانه أولى أن يرضى به.
ورد ابن قدامة الحنبلي: أنه رهن بشرط فاسد، فكان فاسداً، كما لو شرط توقيته. وليس في الخبر أنه شرط ذلك في ابتداء العقد، فلا يكون فيه حجة.

(6/4314)


خامساً ـ استحقاق الرهن بعد بيعه: قال الحنفية (1): إذا ظهر كون الرهن بعد بيعه مستحقاً لغير الراهن، فإما أن يكون المرهون المبيع موجوداً حين ادعاء الاستحقاق، أو هالكاً.
فإن كان موجوداً، أخذه المستحق إن أراد؛ لأنه وجد عين ماله، فلا يمنع عنه إلا بحق لزمه، ولم يوجد. ويكون مشتريه حينئذ بالخيار: إن شاء رجع على من باعه إياه بما دفع إليه من ثمن؛ لأنه هو العاقد، وإن شاء رجع به على المرتهن إذا كان قد قبض الثمن؛ لأن البيع قد انتقض بالاستحقاق، وبطل أن يكون المدفوع ثمناً، وقد وصل إلى يد المرتهن على هذا الأساس، فيجب عليه رده، ونقض قبضه حكماً.
وإذا كان البائع هو العدل، رجع العدل بالثمن على الراهن، إن شاء؛ لأنه وكيل عنه في البيع، فتلحقه العهدة بسبب الوكالة، وبه يصح الوفاء بما دفع العدل للمرتهن.
وإن كان الرهن عند الاستحقاق هالكاً، فإن المستحق بالخيار: إن شاء ضمن الراهن قيمته؛ لأنه غاصب حقه، بأخذه ورهنه. وإن شاء ضمن العدل؛ لأنه متعد في حقه بالبيع والتسليم. وإن شاء على ما يظهر ضمن المشتري لهلاك ملكه في يده.
فإن ضمن الراهنَ، نفذ البيع، وصح الوفاء؛ لأن الراهن بأدائه الضمان، ملك الشيء المضمون أي العين المرهونة، ملكاً مستنداً إلى وقت الاعتداء، فتبين أنه رهن ملك نفسه، وأمر ببيع ملك نفسه.
_________
(1) تكملة فتح القدير: 223/ 8، الدر المختار: 359/ 5 ومابعدها.

(6/4315)


وإن ضمن العدلَ ـ البائعَ، نفذ البيع أيضاً؛ لأن العدل قد ملكه بأداء الضمان، فتبين أنه قد باع ملك نفسه. وبتضمينه يرجع العدل بالخيار: إن شاء على الراهن بما ضمن، لأنه وكيله، وينفذ البيع، ويصح الوفاء. وإن شاء على المرتهن بالثمن، لا بالقيمة؛ لأنه تبين أنه أخذ الثمن بغير حق؛ لأن العين صارت ملكه بالضمان، ونفذ بيعه بسبب تملكه، وصار الثمن له، وقد أداه إليه على حساب أنه للراهن، لا له، يرجع به لهذا السبب، وإذا رجع بطل الوفاء، ويرجع المرتهن على الراهن بدينه.
وإن ضمن المشتري، رجع بالثمن على العدل؛ لأنه البائع له، ويرجع العدل به على الراهن؛ لأن العهدة عليه، وبه يصح الوفاء، إن وصل إلى المرتهن.

المطلب التاسع ـ تسليم المرهون:
للمرتهن عند الجمهور غير الشافعية كما تبين حق الحبس الدائم للمرهون حتى يستوفي دينه، ليضطر المدين إلى تسديد دينه، لاسترداد المرهون، لحاجته إليه، والانتفاع به. وللمرتهن أيضاً عند حلول أجل الدين المطالبة بدينه، مع بقاء الرهن تحت يده (1).

وعلى المرتهن تسليم المرهون لصاحبه إما ب انتهاء الدين، أو بانتهاء عقد الرهن. وانتهاء الدين: يكون بأسباب كالإبراء من الدين أو هبته أو وفاء الدين، أو شراء سلعة من الراهن بالدين، أو إحالة الراهن المرتهن على غيره.
فإذا بقي المرهون في يد المرتهن بعدئذ، كان وديعة عند الشافعية والحنابلة (2).
_________
(1) تكملة فتح القدير: 198/ 8.
(2) المغني: /397، مغني المحتاج: 136/ 2.

(6/4316)


ويبقى وديعة عند أبي حنيفة إذا كان انتهاء الدين بالإبراء أو بالهبة؛ فإن كان بغيرهما كالوفاء بأدائه، وبشراء سلعة به من الراهن، أو بواسطة الإحالة، فيظل المرهون مضموناً استحساناً، كما كان قبل، فإذا هلك يهلك بالأقل من قيمته ومن الدين.
وسبب التفرقة بين الحالين أن الدين بالإبراء أو الهبة للمدين، يسقط نهائياً، فيزول ضمان الرهن. أما في الوفاء فلايسقط، وإنما يثبت في ذمة الدائن دين مثله، يمنع الدائن من المطالبة به، وتحدث المقاصة بين الدينين، وإذا ظل الدين قائماً في ذمة المدين، ظل الضمان به قائماً (1).
وقال المالكية (2): إذا كان الرهن مما يغاب عليه (يمكن إخفاؤه) كالحلي والكتب والثياب والسلاح، والسفن وقت جريها، لزم المرتهن أن يقوم برده عند انقضاء الدين، وإلا استمر ضامناً؛ لأن الرهن بعد الوفاء ليس كالوديعة؛ لأن الوديعة عقد يتم لمنفعة المودع، وعقد الرهن يتم لمنفعة العاقدين جميعاً، فإذا طلب الراهن إبقاء المرهون بعد إيفاء الدين عند المرتهن، كان أمانة.
وانقضاء عقد الرهن أو انتهاؤه: يكون بأسباب كالإبراء والهبة والوفاء، أو بالفسخ قبل سقوط الدين وزواله. وقد ينتهي إذا تبين أن لا دين عند إنشاء الرهن، وسأبين تلك الأسباب.
فإذا رد المال المرهون إلى الراهن نتيجة لانتهاء عقد الرهن، فلا خلاف في أنه لا يبقى للرهن أثر في هذه الحال.
أما إن بقي المرهون عند المرتهن، سواء أكان هناك دين وانتهى، أم تبين أن لا دين، أم تصادق الراهن والمرتهن على أنه لم يكن دين عند الرهن، فهو أمانة عند الشافعية والحنابلة.
_________
(1) تكملة الفتح: 243/ 8، تبيين الحقائق: 96/ 6.
(2) الشرح الكبير: 253/ 3، القوانين الفقهية: ص 324.

(6/4317)


وكذلك هو أمانة عند المالكية إن تصادق الراهن والمرتهن على عدم وجود الدين عند الرهن.
أما الحنفية (1) فيرون في حالة التصادق هذه أن ضمان المرتهن يستمر إذا كان التصادق بعد هلاك الرهن. فإن كان التصادق والرهن قائم، ثم هلك، فاختلف الحنفية: فذهب بعضهم إلى أن الرهن يرتفع، ويصبح المال المرهون أمانة في يد المرتهن. وذهب آخرون إلى أن الضمان يستمر ما بقي المال المرهون في يد المرتهن، والرأي الأول أرجح.
وأما حالات غير التصادق، فكما بينت في حالة انتهاء الدين.

متى يتم تسليم المرهون؟ يسلم الراهن الدين أولاً، ثم يسلم المرتهن المرهون، كتسليم المبيع والثمن في البيع، يسلم الثمن أولاً، ثم يسلم المبيع؛ لأن حق المرتهن يتعين بتسلم الدين، وحق الراهن متعين في تسلم المرهون، فيتم التسليم على هذا الترتيب تحقيقاً للتسوية بين الراهن والمرتهن (2).
وإذا سلم الراهن بعض الدين يظل المرهون كله رهناً بحاله على ما بقي من الدين باتفاق المذاهب الأربعة (3)؛ لأن الرهن كله وثيقة بالدين كله، وهو محبوس بكل الحق، والحبس بالدين الذي هو موجب الرهن لا يتجزأ، فيكون محبوساً بكل جزء من الدين، لا ينفك منه شيء حتى يقضى جميع الدين، سواء أكان الرهن مما يمكن قسمته أم لا يمكن.
_________
(1) الدر المختار: 373/ 5 ومابعدها.
(2) تكملة الفتح: 198/ 8، 200.
(3) الدر المختار: 354/ 5، اللباب: 63/ 2 ومابعدها، البدائع: 153/ 6، تكملة الفتح: 200/ 8، بداية المجتهد: 272/ 2، القوانين الفقهية: ص 324، مغني المحتاج: 141/ 2، المغني: 361/ 4.

(6/4318)


مكان تسليم المرهون: قال الحنفية (1): إما أن يكون للرهن حمل ومؤنة أو لا.
أـ فإن كان للرهن حمل ومؤنة، وطالب المرتهن بإيفاء دينه في غير البلد الذي تم فيه العقد، فإنه يؤدى دينه، ولا يكلف إحضار المرهون؛ لأنه يتطلب نفقة، وإنما يجب عليه فقط تسليم المرهون بمعنى التخلية بينه وبين الراهن، لا النقل من مكان إلى آخر؛ لأنه يتضرر به، ولم يلتزمه في العقد.
ب ـ وإن لم يكن للرهن حمل ومؤنة، يؤمر المرتهن بإحضار الرهن؛ لأن الأماكن كلها في حق تسليم ما لا حمل له ولا مؤنة، كمكان واحد، وعليه لا يشترط بيان مكان الإيفاء في الرهن وهذا مثل عقد السلم.
ويلاحظ من هذا التفصيل أن المرتهن يكلف بإحضار الرهن إذا كانت المطالبة بالدين في بلد العقد، سواء أكان الرهن محتاجاً لحمل ومؤنة أم لا.
لكن عقب ابن عابدين على هذا بأن فيه نظراً؛ لأن الواجب على المرتهن التخلية، لا النقل، وهذا المتبادر من كلام المؤلفين يخالف ما في البزازية حيث قال: إن لم يلحقه مؤنة في الإحضار يؤمر به، وإن كان مما يلحقه مؤنة، بأن كان في موضع آخر، لا يؤمر به.

أحكام الرهن الفاسد:
عرفنا مما سبق أن أهم أحكام الرهن الصحيح: هو اختصاص المرتهن بالرهن، دون سائر الغرماء، وحق حبسه وضمانه عند الحنفية.
_________
(1) تكملة الفتح: 198/ 8، الدر المختار ورد المحتار: 343/ 5 ومابعدها.

(6/4319)


واتفق أئمة المذاهب على أن الرهن غير الصحيح باطلاً أو فاسداً لا حكم له حال وجود المرهون، فلا يثبت للمرتهن حق الحبس، وللراهن أن يسترد المرهون منه، فإن منعه حتى هلك صار غاصباً، فيضمن مثله إن كان له مثل، وقيمته إن لم يكن له مثل، كضمان المغصوب.
وإن هلك المرهون المقبوض بيد المرتهن بناء على عقد غير صحيح، مثل: رهن المشاع عند الحنفية، فإنه يهلك عندهم (1) هلاك الرهن، أي بالأقل من قيمته ومن الدين، وهو الرأي الأصح. وقال الكرخي: إنه يهلك هلاك الأمانة؛ لأن الرهن إذا لم يصح، كان القبض قبض أمانة؛ لأنه قبض بإذن المالك، فأشبه قبض الوديعة.
ومن مات وله غرماء، فالمرتهن في الرهن الفاسد أحق به، كما في الرهن الصحيح.
والمالكية في الجملة كالحنفية، قالوا (2): إذا قبض المرتهن المرهون بناء على عقد فاسد، فالمرتهن أحق بالرهن من سائر الغرماء، حتى يقبض حقه.
وإذا هلك المرهون في يد المرتهن بعقد فاسد، فحكم هلاكه مثل حكم هلاك المرهون فيما إذا كان العقد صحيحاً.
أما حق الاحتباس، فيظهر أنه ثابت للمرتهن بناء على ثبوت حق امتيازه، لكن ليس له بناء على عقد فاسد طلب المرهون وتسلمه من الراهن.
وقال الشافعية والحنابلة (3): حكم فاسد العقود حكم صحيحها في الضمان
_________
(1) البدائع: 163/ 6، الدر المختار: 365/ 5، 374.
(2) الشرح الكبير والدسوقي: 237/ 3، 241، 247.
(3) مغني المحتاج: 137/ 2، كشاف القناع: 329/ 3، المغني: 381/ 4، 385.

(6/4320)


وعدمه؛ لأن العقد إن اقتضى صحيحه الضمان بعد التسليم، كالبيع والإعارة، ففاسده أولى، فالمبيع بعقد صحيح مضمون، فكذا المقبوض ببيع فاسد. وإن اقتضى العقد الصحيح عدم الضمان كالرهن، والهبة بلا ثواب، والعين المستأجرة، ففاسده كذلك؛ لأن واضع اليد أثبتها بيد مالكها، ولم يلتزم بالعقد ضماناً.
وعليه، إذا فسد الرهن كالمرهون المحرم، والمجهول، والمعدوم، وما لا يقدر على تسليمه، أوغير المعين، وقبضه المرتهن، فلا ضمان عليه إن تلف بيده؛ لأن الرهن الصحيح غير مضمون، ففاسده كذلك.

المبحث الرابع ـ نماء الرهن أو زوائده:
يشمل الرهن نماء المرهون ويتعلق الدين المرهون به بزوائد المرهون عند الفقهاء على تفصيل بينهم في التضييق والتوسع، ولكنهم متفقون على أن النماء ملك للراهن، لأنه مالك للأصل، وهذا نماء ملكه.
1 - قال الحنفية (1): يدخل في الرهن كل زيادة متولدة من الأصل متصلة به كالثمر واللبن والصوف، أو منفصلة عنه كالولد، فيكون رهناً مع الأصل؛ لأنه تبع له، والرهن حق لازم، فيسري إليه.
ولا يدخل في الرهن الزيادة غير المتولدة، كالأجرة، وغلة الأرض، فلا تكون رهناً مع أصلها، وإنما هي للراهن خالصة، فلا يتعلق بها الدين، لأنها نتيجة تعاقد بين مالك الرهن وغيره، لا متولدة من المال، فكانت خالصة لمن استحقها بالعقد، وهو مذهب المالكية والشافعية أيضاً.
_________
(1) تكملة الفتح: 240/ 8، الدر المختار: 365/ 5، 370، تبيين الحقائق: 94/ 6، اللباب: 62/ 2، البدائع: 152/ 6.

(6/4321)


2 - وقال المالكية (1): يدخل في الرهن كل زيادة متولدة متصلة لا تنفصل، كالسمن والجمال، أو منفصلة متناسلة كالولد والنتاج وفسيل النخيل أو الشجر؛ لأنه كولد الحيوان، ونحوه مما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته، ويدخل أيضاً صوف الغنم إذا كان وقت الرهن قد تم على ظهرها تبعاً لها، وإلا لم يدخل.
أما ما لم يكن على خلقه المرهون وصورته، فلا يدخل في الرهن، سواء أكان متولداً عنه كثمر الشجر أو النخل واللبن، أم غير متولد ككراء الدار وسائر الغلات.
3 - وقال الشافعية (2): يدخل في الرهن الزيادة المتصلة أي الزيادة الوصفية كالسمن والكبر والجمال ونمو الثمر، لأنها تتبع أصلها، لعدم تميزها عنه. ولا يدخل في الرهن، أي زيادة منفصلة أو نماء متميز، كثمرة وولد وصوف وشعر ولبن وبيض أو أجرة دار، لحديث أبي هريرة المتقدم: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» والنماء من الغنم، فوجب أن يكون له. ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك عن رقبة المرهون، فلا يسري إلى النماء المتميز كالإجارة.
4 - وقال الحنابلة (3): إن جميع نماء الرهن وغلاته، متصلاً أو منفصلاً، متولداً أو غير متولد، غلة أو غيرها، يكون رهناً في يد المرتهن، أو نائبه، وتباع مع الأصل، وفاء للدين إن دعت الحاجة إلى بيعه؛ لأن تعلق الدين بالمال المرهون يثبت فيه بعقد، فيدخل فيه النماء والمنافع، كما في البيع، ولأن النماء المنفصل متولد من عين مرهونة، فيكون حكمه حكم المتصل بها، فيسري إليه حكم الرهن.
_________
(1) الشرح الكبير: 244/ 3، القوانين الفقهية: ص 324، بداية المجتهد: 272/ 2.
(2) مغني المحتاج: 139/ 2، المهذب: 310/ 1 وما بعدها.
(3) المغني: /388 وما بعدها، كشاف القناع: 326/ 3.

(6/4322)


والخلاصة: أن مذهب الحنابلة موسع، يلحق نماء الرهن وزياداته في الرهنية مطلقاً، ثم يليهم الحنفية الذين يلحقون بالرهن النماء المتولد المنفصل أو المتصل، دون غير المتولد، ثم يليهم المالكية الذين يلحقون بالرهن النماء المنفصل الذي ليس في معنى الغلة كالولد والفسيل والصوف التام وقت الرهن، دون المتولد المنفصل الذي فيه معنى الغلة. ثم يليهم الشافعية الذين يلحقون بالرهن الزيادة الوصفية فقط، ولا يدخل في الرهنية أي زيادة منفصلة.

المبحث الخامس ـ الزيادة على الرهن أو على الدين المرهون به:
الزيادة في الرهن: بأن يضم الراهن إلى المرهون عيناً أخرى تصير معها رهناً بالدين المرهون به، كأن يستدين من شخص مئة، يرهن بها ثوباً، ثم يزيد الراهن عليه ثوباً آخر أو كتاباً، ليكون مع الأول رهناً بالمئة. وهي جائزة عند الجمهور؛ لأنها زيادة في التوثيق، وهو الغرض من الرهن.
وقال زفر: لا تجوز، لأنها تؤدي إلى الشيوع في الدين؛ لأنه لا بد للرهن الثاني من أن تكون له حصة من الدين، فيخرج من الرهن الأول بقدره من أن يكون رهناً، وهو شائع، والشيوع مفسد للرهن. ورد عليه بأن الشيوع في الدين غير مانع من صحة الرهن. ويقسم الدين على الأصل وعلى الزيادة بحسب قيمتها يوم القبض.
وأما الزيادة في الدين المرهون به: فهي أن يقترض الراهن من المرتهن قرضاً آخر على رهن واحد، كأن يقترض منه ألفاً ويرهنه سجادة، ثم يقترض منه ألفاً آخر على أن تكون السجادة رهناً بالألفين.
وللفقهاء رأيان فيها:

(6/4323)


أـ لا تجوز الزيادة في الدين عند أبي حنيفة ومحمد، والحنابلة، وفي قول للشافعي؛ لأنها تقتضي رهناً ثانياً، أو رهن مرهون، ولا يجوز رهن المرهون، لتعلق الدين الأول به كاملاً.
ب ـ وقال مالك وأبو يوسف، وأبو ثور والمزني وابن المنذر: تجوز الزيادة، لأنه لو زاده رهناً جاز، فكذلك إذا زاد في دين الرهن، ولأن الزيادة في الدين فسخ للرهن الأول، وإنشاء رهن جديد بالدينين جميعاً، وهو جائز اتفاقاً (1).

المبحث السادس ـ انتهاء عقد الرهن:
ينتهي عقد الرهن بحالات كالإبراء والهبة ووفاء الدين ونحوها، وهي ما يأتي:
1ً - تسليم المرهون لصاحبه: ينتهي به الرهن عند الجمهور غير الشافعية؛ لأنه وثيقة بالدين، فإذا سلم المرهون، لم يعد الاستيثاق قائماً، فينتهي الرهن، كما ينتهي عند الجمهور بإعارة المرتهن المرهون بإذن المرتهن للراهن، أو لغيره بإذنه.
2ً - تسديد الدين كله: إذا وفى الراهن الدين المرهون به، انتهى الرهن.
3ً - البيع الجبري: الصادر من الراهن بأمر القاضي، أو من القاضي إذا أبى الراهن البيع، فإذا بيع المرهون وفِّي الدين من ثمنه، وزال الرهن.
أما البيع الاختياري الحاصل من الراهن بإذن المرتهن، فإن كان بعد حلول أجل الدين، تعلق الحق بثمنه. وإن كان قبل حلوله، تعلق الحق أيضاً عند
_________
(1) تكملة الفتح: 241/ 8، الدر المختار: 372/ 5، تبيين الحقائق: 95/ 6، اللباب: 62/ 2، كشاف القناع: 309/ 3، المغني: 347/ 4 ومابعدها.

(6/4324)


أبي حنيفة ومحمد بالثمن، فيصبح رهناً؛ لأن الراهن باع الرهن بإذن المرتهن، فوجب أن يثبت حقه فيه، كما لو حل الدين.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يبطل الرهن ببيع المرهون بإذن المرتهن، ولم يكن على الراهن عوضه، ويبقى الدين بلا رهن (1).
4ً - البراءة من الدين بأي وجه، ولو بحوالة المرتهن على مدين للراهن. ولو اعتاض المرتهن عن الدين عيناً أخرى غير الأولى، انفك الرهن (2).
5ً - فسخ الرهن من قبل المرتهن، ولو بدون قبول الراهن؛ لأن الحق له، والرهن جائز غير لازم من جهته. ولا ينتهي الرهن بفسخه من الراهن، للزومه من جهته (3).
ويشترط الحنفية لانفساخ الرهن بقول المرتهن رد المال المرهون إلى الراهن؛ لأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فكذا فسخه لا يتم إلا بالقبض، عن طريق رد المال المرهون إلى الراهن.
ويبطل الرهن عند المالكية بترك الرهن قبل القبض في يد الراهن حتى باعه؛ لأن تركه على هذا الوضع كتسليم المرتهن بالأمر، فصار في معنى الفسخ (4). وكذلك ينتهي الرهن عندهم بإذن المرتهن للراهن في بيع الرهن بعد أن سلمه له، وباعه فعلاً، ويبقى الدين بلا رهن.
6ً - يبطل الرهن عند المالكية (5) قبل قبضه بموت الراهن أو إفلاسه، أو قيام
_________
(1) المغني: 403/ 4، الشرح الكبير والدسوقي: 242/ 3.
(2) مغني المحتاج: 141/ 2.
(3) مغني المحتاج: 141/ 2.
(4) الشرح الكبير: 242/ 3 ومابعدها.
(5) الشرح الكبير: 241/ 3 ومابعدها.

(6/4325)


الغرماء بمطالبته بأداء الدين، أو برفع أمره إلى الحاكم يطلبون الحجر عليه، أو بمرضه أو بجنونه المتصلين بوفاته؛ لأن الرهن يلزم عندهم بمجرد الإيجاب والقبول.
ويبطل الرهن عند الحنفية بموت الراهن أو المرتهن قبل التسليم، ولا يبطل بإفلاس الراهن، ولا يبطل الرهن عند الشافعية والحنابلة بوفاة الراهن أو المرتهن، قبل التسليم، ولا بجنون أحدهما، ولا بإفلاس الراهن. أما بعد قبض المرهون فلا يبطل الرهن بالاتفاق بموت الراهن أو المرتهن، أو بإفلاس الراهن.
7ً - هلاك المرهون: ينتهي عقد الرهن باتفاق الفقهاء بهلاك المال المرهون، سواء عند الجمهور القائلين بأن المرهون أمانة غير مضمونة على المرتهن إلا بالتعدي أو التقصير، أو عند الحنفية القائلين بأن المرهون بالنسبة لماليته مضمون إذا هلك بالأقل من قيمته ومن الدين، لانعدام محل العقد.
8ً - التصرف بالمرهون بالإجارة أو بالهبة أو الصدقة: ينتهي الرهن إذا أقدم كل من الراهن أو المرتهن على إجارة الرهن أو هبته أو التصدق به أو بيعه لأجنبي بإذن صاحبه. كما ينقضي باستئجار المرتهن العين المرهونة من الراهن إذا جدد القبض بناء على الإجارة.
أما البيع من المرتهن للراهن فلا ينقضي به الرهن؛ لأن للمال المرهون خلفاً، هو الثمن، فيحل الثمن محل أصله في الرهنية (1)، كما تبين في بحث التصرف بالرهن.
_________
(1) الدر المختار: 364/ 5.

(6/4326)


المبحث السابع ـ اختلاف الراهن والمرتهن:
هذا المبحث يتعلق بدور القاضي أو غيره في توزيع عبء الإثبات على الطريق المتنازعين في قضايا الرهن أو الدين المرهون به.
أـ إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق أو الدين المرهون به، فقال الراهن: رهنتك متاعي بألف، وقال المرتهن: بل بألفين، فالقول عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة): قول الراهن بيمينه؛ لأنه منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن، والقول قول المنكر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» (1). والراهن هنا مدعى عليه، والمرتهن مدع فوجب أن تكون اليمين على الراهن على ظاهر السنة المشهورة.
وقال المالكية: القول قول المرتهن، إلا فيما زاد على قيمة الرهن، فالقول قول الراهن؛ لأن المرتهن، وإن كان مدعياً، فله ههنا شبهة، بنقل اليمين إلى حيِّزه، وهو كون الرهن شاهداً له لأنه أكثر من قدر المرهون به. ومن أصول مالك: أن يحلف أقوى المتداعيين شبهة.
وهذا لا يلزم عند الجمهور؛ لأنه قد يرهن الراهن الشيء، وقيمته ليست أكثر من المرهون فيه.
ولا خلاف في أنه إن اختلف المتراهنان في قدر الرهن، فقال الراهن: رهنتك هذا الشيء، فقال المرتهن: بل هو وشيء آخر، فالقول قول الراهن؛ لأنه منكر (2).
_________
(1) رواه مسلم والبخاري عن ابن عباس. ورواه البيهقي بلفظ: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (الأربعين النووية).
(2) البدائع: 174/ 6، تكملة الفتح: 231/ 8، بداية المجتهد: 274/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 325، مغني المحتاج: 142/ 2، المهذب: 316/ 1 ومابعدها، المغني: 398/ 4 ومابعدها، كشاف القناع: 339/ 3.

(6/4327)


ب ـ إذا اختلف المتراهنان في تلف العين المرهونة، فقال المرتهن: هلكت، ولم يذكر سبباً، فالقول باتفاق أئمة المذاهب قول المرتهن بيمينه؛ لأنه أمين (1).
والقول للمرتهن أيضاً إذا اختلفا في مقدار المرهون بعد هلاكه؛ لأنه غارم (2).
فإن اختلفا في قدر قيمة المرهون يوم الرهن، أو في أصل الرهن، هل هو موجود أو لا، فالقول قول الراهن بيمينه (3)، كالاختلاف في قدر الرهن.
ج ـ إن اختلف المتراهنان في قبض المرهون، هل حدث أو لا، فالقول عند الحنفية والشافعية للراهن بيمينه، سواء أكان في يد الراهن أم في يد المرتهن؛ لأن الأصل عدم لزوم الرهن، وعدم إذنه في القبض.
وقال الحنابلة: القول قول صاحب اليد في حالة الاختلاف في القبض، فإن كان بيد الراهن فالقول له؛ لأن الأصل عدم القبض، وإن كان بيد المرتهن فالقول له؛ لأن الظاهر قبضه بحق. فإن اختلفا في الإذن في القبض، فقال الراهن: أخذت المرهون بغير إذني، فلم يلزم، وقال المرتهن: بل أخذته بإذنك، وهو الآن في يد المرتهن، فالقول للراهن؛ لأنه منكر (4).
د ـ إن اختلفا في وقت هلاك الرهن، فقال المرتهن: هلك في وقت العمل، وقال الراهن: هلك في غير وقت العمل، فالقول للمرتهن عند الحنفية؛ لأنه منكر، والبينة للراهن (5).
_________
(1) البدائع: 154/ 6، بداية المجتهد: 275/ 2، الشرح الكبير: 260/ 3، مغني المحتاج: 138/ 2، المهذب: 319/ 1، كشاف القناع: 340/ 3.
(2) المراجع السابقة، المغني: 398/ 4، البدائع: 174/ 6.
(3) البدائع: 174/ 6، مغني المحتاج: 142/ 2.
(4) المراجع السابقة. كشاف القناع: 321/ 3.
(5) الدر المختار: 364/ 5.

(6/4328)


هـ ـ قال الحنفية: إن اختلفا في نوع المرهون، فقال الراهن: الرهن غير هذا، وقال المرتهن: بل هذا هو الذي رهنته عندي، فالقول للمرتهن؛ لأنه القابض (1). والقول للمرتهن أيضاً إن حدث اختلاف في مقدار ثمن بيع المرهون، أو في بيعه بثمن المثل أم لا؛ لأن المرهون خرج عن كونه رهناً بالمبيع، وتحول الضمان إلى الثمن، والراهن يدعي زيادة الضمان، والمرتهن ينكر، فكان القول قوله (2).
وـ قال المالكية (3): إذا تنازع الراهن والمرتهن في كيفية وضع الرهن، فقال الراهن مثلاً: يوضع على يد أمين، وقال المرتهن: يوضع عندي، أو بالعكس، فالقول قول من طلب وضعه عند الأمين، وهو الراهن.
_________
(1) الدر المختار: 347/ 5.
(2) البدائع: 174/ 6.
(3) الشرح الكبير: 244/ 3.

(6/4329)