الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّالث عَشَر: الصُّلح
خطة الموضوع:
الكلام عن عقد الصلح في المباحث الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الصلح ومشروعيته
وأنواعه وركنه.
المبحث الثاني ـ شروط الصلح.
المبحث الثالث ـ حكم الصلح.
المبحث الرابع ـ مبطلات عقد الصلح وحكمه بعد البطلان. وأبدأ بأولها:
المبحث الأول ـ تعريف الصلح ومشروعيته وأنواعه وركنه:
تعريف الصلح: الصلح لغة: قطع النزاع.
وشرعاً: عقد وضع لرفع المنازعة (1). وبعبارة أخرى عند الحنابلة: معاقدة
يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين. ولا يقع غالباً إلا بالأقل من المدعى
به على سبيل المداراة لبلوغ الغرض (2).
_________
(1) نتائج الأفكار: تكملة فتح القدير: 23/ 7، تبيين الحقائق للزيلعي: 29/
5، الدر المختار: 493/ 4، مغني المحتاج: 177/ 2، حاشية البجيرمي على
الخطيب: 70/ 2.
(2) المغني: 476/ 4، غاية المنتهى: 118/ 2.
(6/4330)
والمقصود من الكلام هنا هو الصلح في
المعاملات بين الناس، لا الصلح بين المسلمين والكفار، ولا الصلح بين الإمام
والبغاة، ولا الصلح بين الزوجين عند الشقاق.
مشروعيته: الصلح بين الناس مندوب، ولا بأس بأن يشير الحاكم بالصلح على
الخصوم، ولا يجبرهم عليه، ولا يلح فيه إلحاحاً يشبه الإلزام، وإنما يندبهم
إلى الصلح ما لم يتبين له أن الحق
لأحدهما، فإن تبين له أنفذ الحكم لصاحب الحق. والصلح مشروع بالكتاب والسنة
والإجماع (1):
أما الكتاب: فقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/ 4] الوارد عقب ذكر
مشروعية الصلح بين الزوجين. قال تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو
إعراضاً، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً، والصلح خير} [النساء:128/
4].
وأما السنة: فهو ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرفوعاً، وموقوفاً
على عمر، وهو: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم
حلالاً» رواه ابن حبان وصححه (2). مثال ما أحل حراماً: الصلح على حل الخمر
ونحوه أو على أكثر من الدراهم المدعاة، ومثال ما حرم حلالاً: الصلح على ألا
يطأ الزوج الضَّرة وهي امرأته الأخرى، أو يصالح زوجته على ألا يطلقها ونحو
ذلك.
_________
(1) المبسوط: 123/ 20، مغني المحتاج: 177/ 2، المغني: 476/ 4، كشاف القناع:
378/ 3، القوانين الفقهية: ص 337.
(2) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد سبق تخريجه في بحث الوديعة عن أبي
هريرة عند أبي داود، والحاكم وابن حبان، وعن عمرو بن عوف عند الترمذي وابن
ماجه والحاكم (راجع نصب الراية: 112/ 4. التلخيص الحبير: ص 249، نيل
الأوطار: 254/ 5).
(6/4331)
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على
مشروعية الصلح، لكونه من أكثر العقود فائدة، لما فيه من قطع النزاع والشقاق
(1). ولا يقع الصلح في الغالب إلا من رتبة لما هو دونها، على سبيل المداراة
للوصول إلى بعض الحق.
وحكمته: الحفاظ على المودة والألفة بين
المسلمين، ونبذ التفرقة واستئصال أسبابها المؤدية إليها. ثبت في السنة أن
النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولاتقاطعوا،
وكونوا عباد الله إخواناً» وقال أيضاً: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم
رقاب بعض» ويجوز الكذب في الصلح لإزالة النزاع وتحقيق الوفاق، أخرج البخاري
ومسلم حديث «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيَنمي (2) خيراً ويقول
خيرًا».
أنواع الصلح: يكون الصلح بين مسلمين
وأهل حرب بعقد الذمة أو الهدنة أو الأمان، وبين أهل بغي وأهل عدل، وبين
زوجين إذا خيف الشقاق بينهما أو خافت المرأة إعراض زوجها عنها، وبين
متخاصمين في غير مال، وبين متخاصمين في المال، وهذا هو محل البحث هنا،
وقسمه المالكية قسمين: صلح إسقاط وإبراء وهو جائز مطلقاً، وصلح على عوض،
وهذا يجوز إلا إن أدى إلى حرام، وحكمه حكم البيع. والصلح في الأموال قسمان:
أحدهما ـ أن يجري بين المدعي والمدعى عليه. وثانيهما ـ أن يجري بين المدعي
والأجنبي أي الشخص الآخر غير المدعى عليه.
وكل واحد من هذين القسمين أنواع ثلاثة:
1 - صلح مع إقرار المدعى عليه: وهو أن
يدعي شخص على شخص شيئاً،
_________
(1) لذلك أبيح فيه الكذب.
(2) ينمي خيراً: يبلّغ الحديث وينقله بين المتخاصمين.
(6/4332)
فيقر به المدعى عليه، ثم يصالح المدعى عنه
على عين غير المدعاة كدار، أو على منفعة لغير العين المدعاة، كخدمة في مكان
مدة معينة أو سكنى دار أو على بعض العين المدعاة كربع الدار، وهو جائز
باتفاق المسلمين (1).
وهذا الصلح إن وقع عن مال بمال، أي إن وقع على عين غير المدعاة كثوب بدلاً
عن بساط، فهو كالبيع لوجود معنى البيع فيه ـ وهو مبادلة المال بالمال ـ في
حق المتعاقدين بتراضيهما. فتجري فيه الشفعة إذا كان عقاراً، ويرد بالعيب،
ويثبت فيه خيار الشرط، ويفسده جهالة العوض أو البدل، لأنها هي المفضية إلى
المنازعة دون جهالة المصالح عنه؛ لأنه يسقط بالصلح. ويشترط القدرة على
تسليم البدل.
وإن وقع هذا الصلح عن مال بمنافع كسكنى دار، فله حكم الإجارة لوجود معنى
الإجارة، وهو تمليك المنافع بمال. والاعتبار في العقود لمعانيها، فيشترط
التوقيت فيها، ويبطل العقد بموت أحد العاقدين في أثناء مدة الإجارة لأنه
إجارة.
2 - صلح مع إنكار المدعى عليه: وهو أن
يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه، كأن يدعي شخص على آخر شيئاً، فينكره
المدعى عليه، ثم يصالح عنه ببعض الحق المدعى به، وهذا هو الغالب في منازعات
الناس، وهو جائز عند المالكية والحنفية والحنابلة، وغير جائز عند الشافعية
وابن أبي ليلى (2). وجوازه عند القائلين به مشروط بأن يكون المدعي معتقداً
أن ما ادعاه حق، والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه، فيدفع إلى المدعي
شيئاً قطعاً للخصومة (3).
_________
(1) المبسوط: 139/ 20، البدائع: 40/ 6، تكملة فتح القدير: 24/ 7، تبيين
الحقائق: 30/ 5، بداية المجتهد: 290/ 2، الشرح الكبير: 309/ 3، مغني
المحتاج: 177/ 2، المهذب: 333/ 1، المغني: 482/ 4، غاية المنتهى: 118/ 2،
الكتاب مع اللباب: 163/ 2، القوانين الفقهية: ص 238.
(2) المراجع السابقة، مغني المحتاج: ص 179 ومابعدها، المغني: ص 476.
(3) المغني: 478/ 4، غاية المنتهى: 120/ 2.
(6/4333)
وصورة الصلح على الإنكار: صالح فلان فلاناً
على جميع الدار الفلانية التي ادعى المصالح الأول على الثاني استحقاقها من
وجه شرعي، وأنكر المدعى عليه الاستحقاق، وطلب من المدعى عليه يمينه على
استحقاقها، فرأى أن يصالحه عن هذه الدعوى بمال، افتداء ليمينه، ودفعاً
للخصومة، وقطعاً للمنازعة، فاصطلحا عن المدعى به، مع الإنكار لصحة الدعوى،
واعتقاده بطلانها،
وإصراره على الإنكار إلى حين هذا الصلح وبعده، ودفع إليه مبلغ كذا وكذا،
فقبضه منه قبضاً شرعياً ... إلخ (1).
استدل الفريق الأول وهم الجمهور بعموم قوله تعالى: {والصلح خير}
[النساء:128/ 4] وقوله عليه الصلاة والسلام: «الصلح جائز بين المسلمين إلا
صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» فدل هذا العموم على أن كل صلح مشروع إلا
ما خص بدليل، قال سيدنا عمر رضي الله عنه: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن
فصل القضاء يورث بينهم الضغائن» وقال أبو حنيفة رحمه الله: «أجوز مايكون
الصلح على الإنكار» أي لأنه يحقق الحاجة إلى قطع الخصومة والمنازعة.
ودليل الشافعية وابن أبي ليلى: هو القياس على ما لو أنكر الزوج الخلع، ثم
تصالح مع زوجته على شيء، فلا يصح، ودليلهم أيضاً أن المدعي إن كان كاذباً
في دعواه، فقد استحل من المدعى عليه ماله، وهو حرام عليه. وإن كان صادقاً
في دعواه فقد عاوض على ما لم يثبت له، فلم تصح المعاوضة، كما لو باع مال
غيره، ولأن الصلح عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه، فبطل، كالصلح على
حد القذف. وفي الملة: يكون ما يأخذه المدعي أكلاً للمال بالباطل من غير عوض
فدخل هذا الصلح في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إلا صلحاً أحل حراماً، أو
حرم حلالاً» ولو بذل المدعى عليه المال لقطع الخصومة يكون البذل رشوة.
_________
(1) الإفصاح: 174/ 1.
(6/4334)
وهذا مناقش، ولا يسلم الفريق الأول بدخول
الصلح مع الإنكار في مفهوم هذا الحديث؛ لأن الممنوع أن يحل الصلح شيئاً
محرماً مع بقائه على تحريمه، كما لو تم الصلح على استرقاق حر أو إحلال
بُضْع (فرج) محرم، أو تم الصلح بخمر أو خنزير، ثم إن للمدعي أن يأخذ حقه
الثابت له بأي طريق.
وأما المدعى عليه فإنه يدفع ادعاء المدعي لدفع المسؤولية عنه، ولإنهاء
النزاع ولصيانة نفسه من التبذل وحضور مجلس الحاكم، فإن ذوي النفوس الشريفة
والمروءة يصعب عليهم هذا، ويرون أن دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم، والشرع
لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشر عنهم ببذل أموالهم، والمدعي
يأخذ المبذول عوضاً عن حقه الثابت له، فلا يمنعه الشرع منه أيضاً، سواء
أكان المأخوذ من جنس حقه، أم من غير جنسه بقدر حقه أو دونه.
3 - الصلح مع سكوت المدعى عليه: وهو ألا
يقر المدعى عليه ولا ينكر، كأن يدعي شخص شيئاً على شخص آخر فيسكت من غير
إقرار ولا إنكار، ثم يصالح عنه، وهو جائز عند الجمهور، ومنهم ابن أبي ليلى،
وغير جائز عند الشافعية، ودليل كل فريق: هو ما ذكر في الصلح عن إنكار، وقد
قرر الشافعية أن الساكت منكر حكماً، فيعامل معاملة المنكر (1).
والخلاصة: إن الصلح بأنواعه الثلاثة السابقة جائز عند الحنفية بحيث يثبت
الملك للمدعي في بدل الصلح، ويزول حق المدعى عليه في استرداد شيء؛ لأن
الصلح سبب لرفع التنازع المحظور، قال تعالى: {ولا تنازعوا} [الأنفال:46/ 8]
فكان مشروعاً. والصلح عن السكوت أو الإنكار عند الحنفية: هو في حق المدعى
عليه لافتداء اليمين وقطع الخصومة؛ لأنه في زعمه أنه مالك لما في يده، وفي
حق
_________
(1) المراجع السابقة.
(6/4335)
المدعي بمعنى المعاوضة؛ لأنه في زعمه يأخذ
عوضاً من حقه، فيعامل كل طرف على حسب معتقده (1).
أقسام الصلح عند الشافعية: قسم الشافعية
(2) الصلح إلى قسمين أذكرهما هنا لكثرة التفريعات:
أحدهما ـ الصلح الذي يجري بين المتداعيين:
وهو الصلح الذي يجري بين المدعي والمدعى عليه، وهو نوعان:
1ً
- صلح على إقرار: وهو أن يدعي شخص على
آخر حقاً من دين أوعين، فيقر المدعى عليه بهذا الحق، ثم يطلب المصالحة عن
ذلك. وهذا جائز بالاتفاق كما تقدم.
أـ وهذا إما أن يكون صلحاً على عين: كأن يتصالحا على شيء معين بذاته من دار
أو متاع أو سلعة أو دابة أو سيارة مثلاً. فإن جرى على عين غير المدعاة، كما
إذا ادعى عليه داراً، فأقر له بها وصالحه عنه بمعين كثوب، فهو بيع للعين
المدعاة من المدعي للمدعى عليه، بلفظ الصلح، ويسمى (صلح المعاوضة) وتثبت
فيه أحكام البيع كالشفعة والرد بالعيب ومنع التصرف في المصالح عليه قبل
قبضه. واشتراط التقابض في المصالح عنه والمصالح عليه إن اتفقا في علة
الربا، وغير ذلك من أحكام البيع كالخيارات، وإفساده بالشروط المفسدة،
وتحريم الغرر وإفساده به وبالجهل.
وإن جرى الصلح من العين المدعاة على منفعة عين أخرى لغير العين المدعاة،
كأن صالحه عن الدار على استعمال سيارته مثلاً سنة معلومة، فالعقد إجارة،
تثبت فيه أحكامها؛ لأن معنى الإجارة قائم فيه.
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 164/ 2.
(2) مغني المحتاج: 177/ 2 - 182.
(6/4336)
وإن جرى الصلح على منفعة العين المدعاة
نفسها، كأن صالحه على أن يسكن الدار المدعاة مثلاً مدة خمس سنوات، ثم يردها
إليه، فهو إعارة، تثبت فيه أحكامها؛ لأنه في معناها.
وإن جرى الصلح على بعض العين المدعاة، كأن يصالحه على ربع السيارة المدعاة،
فهو هبة من المدعي لبعضها الباقي لصاحب اليد عليها وهو المدعى عليه، فتثبت
أحكامها فيه، لأنه في معناها، كاشتراط قبول المدعى عليه ونحو ذلك، ويسمى
هذا صلح الحطيطة؛ لأن صاحب الحق قد حط جزءاً من حقه للمدعى عليه.
ب ـ وإما أن يكون الصلح عن إقرار صلحاً عن الدين: كأن يدعي شخص على آخر
مبلغاً من المال كألف دينار، فيقر المدعى عليه به، ثم يتصالحان عنه، ويصح
هذا الصلح بلفظ الصلح أو البيع أو الإبراء أو الحط أو الإجارة.
ويشترط للصلح عن الدين: أن يجوز الاعتياض عنه على غيره من عين أو دين أو
منفعة، فلا يصح الصلح عن دين لا يصح الاعتياض عنه كدين السلَم.
والدليل على جواز الصلح عن بعض الدين وهو صلح الحطيطة: ما أخرجه البخاري
ومسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه: «أنه تقاضى (1) عبد الله بن أبي حدرد
رضي الله عنه ديناً كان له عليه، في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في
المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في
بيت، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى كشف سَجْف حُجْرته (2)،
فنادى كعب بن مالك، فقال: يا كعب، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده: أن
ضعِ الشطر، فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: قم فاقضه».
_________
(1) تقاضى: طالب بالوفاء.
(2) سجف حجرته: بفتح السين وكسرها ستر باب غرفته.
(6/4337)
2ً
- الصلح على الإنكار أو السكوت من المدعى عليه:
كأن ادعى شخص على آخر شيئاً فأنكره المدعى عليه أو سكت، ثم صالح عنه. فإن
جرى الصلح على نفس المدَّعى به، كأن يدعي عليه داراً، فيصالحه عليها، بأن
تجعل للمدّعي أو للمدعى عليه، فهو صلح باطل في الصورتين عند الشافعية،
خلافاً للأئمة الثلاثة، ويبطل الصلح أيضاً في الأصح إن جرى على بعض الشيء
المدعى به. وإنما بطل هذا الصلح؛ لأن المدعي إن كان كاذباً، فقد استحل من
المدعى عليه ماله، وهو حرام، وإن كان صادقاً، فقد حرم عليه ماله الحلال،
فدخل في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرم حلالاً».
القسم الثاني ـ الصلح بين المدعي والأجنبي:
كأن يدعي شخص حقاً على آخر، فيأتي شخص آخر غير المدعى عليه، ويصالح المدعي
عما ادعاه.
وله صور أربع:
1 - أن يدعي الأجنبي الوكالة عن المدعى عليه: كأن يقول: وكلني المدعي عليه
في الصلح عن المدعى به، وهو مقر لك به في الظاهر، أو فيما بيني وبينه، ولم
يظهره خوفاً من أخذ المالك له، فيكون الصلح صحيحاً بينهما؛ لأن ادعاء
الإنسان الوكالة في المعاملات مقبولة.
2 - أن يصالح الأجنبي عن العين لنفسه بعين ماله أو بدين في ذمته: كأن يقول:
إن المدعى عليه مقر لك بالمدّعى به ونحو ذلك، وأنا أصالحك عنه على كذا،
يكون الصلح صحيحاً أيضاً، وكأن الأجنبي اشتراه بلفظ الشراء.
3 - أن يكون المدعى عليه منكراً ويقول الأجنبي: هو مبطل في إنكاره، لأنك
صادق عندي، فصالحني لنفسي، فهو في حكم شراء المغصوب من
(6/4338)
الغاصب، فإن كان قادراً على انتزاعه من يد
المدعى عليه، فيصح الصلح، وإن لم يكن قادراً على ذلك فلا يصح.
4 - أن يكون المدعى عليه منكراً ولم يقل الأجنبي: إن المدعى عليه مبطل في
إنكاره، وصالح المدعي عن الحق المدعى به لنفسه أو للمدّعى عليه، لم يصح
الصلح ولغا، لأنه اشترى منه ما لم يثبت ملكه له.
ما يتضمنه الصلح من العقود: يتضمن الصلح
أحد معان ستة هي ما يأتي: (1)
1 - صلح بمعنى البيع: وهو أن يدعي شيئاً في يد رجل، فيصالح عنه على دراهم
أو دنانير، أي أن الصلح تم على عين غير المدعاة، وكان عوض الصلح ذهباً أو
فضة، فهو بيع بلفظ الصلح ويسمى صلح المعاوضة.
2 - صلح بمعنى الهبة: وهو أن يدعي الرجل عيناً في يد رجل، ثم يصالح عنها
على بعضها، فيكون الباقي هبة.
3 - صلح بمعنى الإجارة: وهو أن يجري الصلح من العين المدعاة على منفعة لغير
العين المدعاة، كخدمة مدة معلومة، وسكنى في دار معينة.
4 - صلح بمعنى الإعارة: وهو أن يصالح على منفعة العين المدعاة، فإن عين مدة
فإعارة مؤقتة وإلا فمطلقة.
5 - صلح بمعنى الإبراء والحطيطة: وهو أن يدعي دراهم أو دنانير في ذمة رجل،
فيصالح منها على بعضها، ويبرئ عن البعض الأخر، كأبرأتك من خمس مئة من الألف
الذي لي عليك أو نحوها.
_________
(1) مغني المحتاج: 177/ 2 - 179، الإفصاح: 169/ 1 ومابعدها.
(6/4339)
6 - صلح بمعنى السَّلَم: وهو أن يصالح عن
شيء بعوض موصوف في الذمة كثوب موصوف بصفة السلم.
ركن الصلح: ركن الصلح عند الحنفية: هو
الإيجاب والقبول، وهو أن يقول المدعى عليه: صالحتك من كذا على كذا، أو من
دعواك كذا على كذا. ويقول الآخر: قبلت أو رضيت، أو ما يدل على قبوله ورضاه،
فإذا وجد الإيجاب والقبول تم عقد الصلح (1). وأركان الصلح عند الجمهور
أربعة: عاقدان (متصالحان) وصيغة (إيجاب وقبول) ومصطلح عنه (محل النزاع)
ومصطلح عليه (بدل الصلح).
المبحث الثاني ـ شروط الصلح يشترط في
عقد الصلح شروط تتعلق إما بالصيغة أو بالمصالح أو بالمصالح عليه أو
بالمصالح عنه.
الصيغة: يشترط في الصلح كونه بإيجاب وقبول من المتصالحين، بأن يقول أحدهما:
صالحتك على كذا بكذا، ويقول الآخر: قبلت أو رضيت أو صالحت. ويصح الصلح في
بعض أنواعه بلفظ الإبراء والحط ونحوهما.
شروط المصالح: يشترط في المصالح شروط هي
ما يأتي (2):
1 - أن يكون عاقلا ً: فلا يصح صلح
المجنون والصبي الذي لا يعقل، لانعدام أهلية التصرف بانعدام العقل، ولا
يشترط البلوغ عند الحنفية، فيصح صلح الصبي المأذون في التصرف إذا كان له
فيه نفع ظاهر، أو لا يكون له فيه ضرر
_________
(1) البدائع: 40/ 6، تكملة فتح القدير: 23/ 7، الدر المختار: 493/ 4.
(2) البدائع: 40/ 6 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 493/ 4 ومابعدها.
(6/4340)
ظاهر. ويشترط البلوغ عند الشافعية، فلا يصح
الصلح من الصبي وإن كان مميزاً، لأن تصرفاته غير معتبرة شرعاً.
2 - ألا يكون المصالح بالصلح على الصغير مضراً به مضرة ظاهرة: سواء أكان
الصغير مدعى عليه أم كان وليه مدعياً له.
فإذا ادعى إنسان على صبي ديناً فصالح أبوه مما ادعي به على مال الصغير: فإن
كان للمدعي بينة وكان ما أعطاه الأب من المال مثل الحق المدعى به، أو
بزيادة يتغابن الناس في مثلها، فالصلح جائز؛ لأن الصلح في هذه الصورة فيه
معنى المعاوضة، والأب يملك المعاوضة من مال الصغير بالغبن اليسير.
وإن لم تكن للمدعي بينة لا يجوز الصلح؛ لأن الصلح حينئذ يقع تبرعاً بمال
الصغير، والتبرع ضرر محض، فلا يملكه الأب، فإن صالح الأب من مال نفسه جاز،
لأنه لم يضر الصغير، وإنما نفعه حيث أنهى أمر الخصومة أو الدعوى عنه.
وإذا ادعى أبو الصغير على إنسان ديناً للصغير، فصالح المدعى عليه على أن
يحط بعضه عنه ويأخذ الباقي: فإن كان للأب بينة على المدعى به كسند مثلاً
فلا يجوز الصلح؛ لأن الحط منه تبرع من مال الصغير، والأب لا يملك ذلك. وإن
صالحه على مثل قيمة الشيء، أو نقص منه شيئاً يسيراً جاز الصلح؛ لأنه في هذه
الصورة بمعنى البيع، وهو يملك البيع، فيملك الصلح.
3 - أن يكون المصالح عن الصغير ممن يملك التصرف
في ماله، كالأب والجد والوصي؛ لأن الصلح تصرف في المال، فيختص بمن
يملك التصرف فيه.
4 - ألا يكون المصالح مرتدا ً: وهذا شرط
عند أبي حنيفة بناء على أن القاعدة عنده في تصرفات المرتد هي أنها موقوفة.
وأما عند الصاحبين فلا يشترط هذا
(6/4341)
الشرط بناء على القاعدة المقررة عندهما:
وهي أن تصرفات المرتد نافذة. وأما المرتدة فصلحها جائز بلا خلاف عندهم.
شروط المصالح عليه: يشترط في بدل الصلح
الذي يتم عليه العقد شروط هي ما يلي:
1 - أن يكون المصالح عليه مالا ً (1):
فلا يصح الصلح على الخمر والميتة والدم وصيد الحرم والإحرام ونحوها مما ليس
بمال؛ لأن في الصلح معنى المعاوضة، فما لا يصلح عوضاً في البيوع لا يصلح
بدل الصلح.
ولا فرق في المال المصالح عليه بين أن يكون عيناً أو ديناً أو منفعة؛ لأن
العوض في المعاوضات قد يكون عيناً، وقد يكون ديناً، وقد يكون منفعة، إلا
أنه يشترط القبض في بعض الأعواض في بعض الأحوال دون بعض. وهذا الموضوع
يحتاج إلى البحث والتفصيل.
قال الحنفية: إن المدعى به في الدعوى إما أن يكون عيناً: وهو ما يحتمل
التعيين جنساً ونوعاً وقدراً وصفة واستحقاقاً كالعروض (الأمتعة) من الثياب،
والعقار من الأرضين والدور، والحيوان من الدواب، والمكيل من الحنطة
والشعير، والموزون من الحديد والنحاس ونحوها.
وإما أن يكون ديناً: وهو ما لا يحتمل التعيين كالنقود والمكيلات والموزونات
الموصوفة في الذمة والثياب والحيوانات الموصوفة في الذمة.
وإما أن يكون منفعة كسكنى دار معينة.
_________
(1) البدائع: 42/ 6، مجمع الضمانات: ص 390.
(6/4342)
وإما أن يكون حقاً ليس بعين ولا دين ولا
منفعة، كالقصاص والتعزير.
وبدل الصلح: إما أن يكون عيناً أو ديناً أو منفعة، والصلح إما أن يكون عن
إقرار المدعى عليه أو عن إنكاره، أو عن سكوته كما عرفنا، وهنا بيان حكم كل
حالة.
ف إن كان المدعى به عيناً والصلح عن إقرار: فإن هذا الصلح يجوز، سواء أكان
بدل الصلح عيناً أو ديناً إذا كان معلوم
القدر والصفة؛ لأن هذا الصلح في معنى البيع من الجانبين، فكان بدل الصلح في
معنى الثمن، وهذه الأشياء تصلح ثمناً في البيوع عيناً كانت أم ديناً.
فإن كان بدل الصلح عيناً، قائماً، معيناً، مملوكاً، فيجوز الصلح سواء أكانت
العين مكيلة أم موزونة، أم غيرهما من العروض والحيوان.
وإن كان بدل الصلح ديناً، فإن كان شيئاً من المكيل والموزون معلوم القدر
والصفة يجوز الصلح، كما في البيع؛ لأن هذه الأشياء تصلح ثمناً.
وإن كان بدل الصلح ثياباً موصوفة في الذمة: فلا يجوز الصلح، ما لم تتوافر
فيه جميع شرائط السلم التي عرفناها في عقد السلم، كبيان القدر والوصف
والأجل؛ لأن الثياب لا تثبت ديناً إلا بشرائط السلم. وهذا بخلاف المكيل
والموزون فإنهما يثبتان في الذمة مطلقاً في المعاوضات، فيصلح كل منهما
ثمناً من غير ذكر أجل، ولا يشترط قبضهما في المجلس.
وإن كان البدل حيواناً موصوفاً في الذمة: فلا يجوز الصلح؛ لأنه لا يصير
أصلاً ديناً ثابتاً في الذمة في مقابلة مال بمال، فلا يصلح ثمناً.
(6/4343)
وإن كان المدعى به ديناً والصلح عن إقرار:
أـ فإن كان دراهم أو دنانير فصالح منها،
فلا يخلو الأمر من إحدى حالتين: إما أن يصالح منها على خلاف جنسها أو على
جنسها.
ففي الحالة الأولى: إن كان بدل الصلح عين مال معلوم جاز الصلح، ويكون العقد
بمنزلة بيع الدين بالعين، وإن كان بدل الصلح ديناً من الدراهم والدنانير،
لايجوز الصلح، حتى لا يؤدي الاتفاق إلى بيع الدين بالدين.
وفي الحالة الثانية أي (الصلح على جنس الدين) كأن صالح من دراهم على دراهم:
فإن صالح على مثل حقه قدراً وصفة، مثل أن يصالح من ألف جياد على ألف جياد،
فلا شك في جواز هذا الصلح؛ لأن المدعي استوفى عين حقه.
وإن صالح على أقل من حقه قدراً وصفة، مثل أن يصالح من الألف الجياد على خمس
مئة رديئة يجوز الصلح أيضاً، ويصير المدعي مستوفياً بعض حقه، ومبرئاً
المدعى عليه من الباقي.
وإن صالح على أكثر من حقه قدراً وصفة، مثل أن يصالح من الألف الرديئة على
ألف وخمس مئة جيدة لا يجوز الصلح؛ لأنه ربا في هذه الحالة؛ لأن القاعدة
المقررة في هذه الحالات كلها هي: أن الصلح متى وقع على جنس ما هو المستحق
بعقد المداينة يعتبر استيفاء من المدعي لحقه، فإذا تعذر جعله استيفاء يعتبر
معاوضة، فتطبق شروط المعاوضة (1).
وفي الحالة الأخيرة يعتبر العقد معاوضة؛ لأنه بعكس الحالة التي سبقتها؛
فإنه يتعذر اعتبار المدعي مستوفياً بعض حقه ومسقطاً البعض الآخر.
_________
(1) تكملة فتج القدير: 41/ 7، المبسوط: 27/ 21، تبيين الحقائق: 41/ 5، الدر
المختار: 500/ 4.
(6/4344)
وعلى هذا: إذا صالح على أكثر من حقه صفة لا
قدراً بأن صالح من ألف رديئة على ألف جيدة، جاز الصلح، ويشترط تطبيق شروط
عقد الصرف حينئذ، ومنها الحلول أو التقابض، فإذا وجد التقابض وهما في مجلس
واحد جاز؛ لأن الجودة لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها. وإن افترقا ولم يتم
القبض في المجلس بطل العقد، لأن هذا عقد صرف.
وإذا صالح على أكثر من حقه صفة وأقل منه قدراً بأن صالح من ألف درهم رديئة
على خمس مئة جيدة، لا يجوز الصلح في ظاهر الرواية عند الحنفية؛ لأن الصلح
من الرديء على الجيد اعتياض عن صفة الجودة، وهذا لا يجوز؛ لأن الجودة في
الأموال الربوية لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها، للقاعدة الشرعية المروية
حديثاً: «جيدها ورديئها سواء» (1) والعقد هنا عقد صرف، وليس استيفاء للحق؛
لأن مستحق الرديء لا يستحق الجيد، وإذا كان العقد صرفاً فإن من المقرر أن
بيع ألف درهم رديئة بخمس مئة جيدة لا يجوز لأنه ربا.
والخلاصة: أن الصلح متى وقع على أقل من جنس حق المدعي من الدراهم والدنانير
يعد استيفاء لبعض الحق، وإبراء عن الباقي. ومتى وقع على أكثر من جنس حقه
منها، أو وقع على جنس آخر من دين أو عين يعتبر معاوضة (2).
وبناء عليه: إذا صالح المدعي من الدين الحال على الدين المؤجل وهما في
القدر سواء، كأن يصالح من ألف حالَّة على ألف مؤجلة، جاز الصلح، ويكون
_________
(1) قال الحافظ الزيلعي عن هذا الحديث: غريب. ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث
أبي سعيد الخدري، وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة
بالفض، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً
بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء»
أخرجه مسلم (راجع نصب الراية: 37/ 4).
(2) البدائع: 44/ 6، تبيين الحقائق: 42/ 5، الدر المختار: 500/ 4.
(6/4345)
هذا تأجيلاً للدين، ولو كان الصلح على
العكس من الحالة السابقة: يجوز أيضاً، ويكون استيفاء من المدعي لحقه، ويصير
المدعى عليه تاركاً حقه في تأجيل الدين.
ولو كان الدين مؤجلاً، فصالح صاحب الدين على بعضه معجلاً، كأن يصالح من
الألف المؤجلة على خمس مئة معجلة: لا يجوز الصلح؛ لأن صاحب الدين المؤجل لا
يستحق المعجل، فلا يمكن أن يجعل هذا استيفاء للحق، فصار التعاقد معاوضة عن
الأجل، فلا يجوز؛ لأن الأجل ليس بمال، وبيع خمس مئة بألف لا يجوز (1).
أما لو كان الدين معجل الوفاء، فعين الدائن وقت الأداء، كأن كان له على
المدين ألف ليرة حل أداؤها بحكم عقد المداينة، فقال له: (صالحتك على خمس
مئة على أن تعطيها اليوم أو على أن تعجلها اليوم) فإن أعطاه في نفس اليوم
برئ عن خمس مئة باتفاق الحنفية. وإن لم يعطه حتى مضى اليوم بطل الصلح وعادت
الألف عليه كما كانت عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: يمضي الصلح ويبرأ
عن الخمس مئة ويبقى عليه خمس مئة فقط.
وجه قول أبي يوسف: أن هذا الصلح تضمن تعليق البراءة عن بعض الدين بشرط
تعجيل البعض الآخر، والبراءة لا يصح تعليقها بالشروط، فإذا لم يوجد الوفاء
بالتعجيل لم ينفسخ العقد بدون شرط الفسخ صراحة، ولم يوجد شرط الفسخ، فبقي
الحط عن بعض الدين صحيحاً.
ووجه قول أبي حنيفة ومحمد: هو أن شرط تعجيل بعض الدين هو شرط لانفساخ العقد
عند عدم التعجيل، وهو كأنه نص صريح على شرط الفسخ، كما قال شخص لغيره:
(أبيعك هذا المتاع بألف ليرة على أن تعجلها اليوم، فإن لم
_________
(1) تكملة فتح القدير: 42/ 7.
(6/4346)
تعجلها فلا بيع بيننا) فالبيع في هذه
الصورة جائز؛ لأن شرط التعجيل شرط في الفسخ، لا في العقد، فكذا هذا في
الصورة المختلف فيها؛ لأن المفهوم ضمناً أو دلالة كالمفهوم صراحة، فصارت
الصورة كأن المصالح قال: (فإن لم تعجل فلا صلح بيننا).
يفهم منه أن الحنفية متفقون على أن الدائن إذا قال: (أصالحك عن الألف التي
لي عليك على خمس مئة تعجلها اليوم، فإن لم تعجلها فالألف عليك) ولم يعجلها
اليوم، فالصلح باطل، وعليه الألف باتفاق الحنفية، لوجود النص الصريح على
الفسخ.
ولو صالح على أن (يعطيه خمس مئة إلى شهر على أن يحط عنه خمس مئة في الحال،
فإن لم يعطه إلى شهر، فعليه الألف) فهو صلح صحيح؛ لأنه إبراء للحال، وتعليق
لفسخ الإبراء بالشرط.
وكذلك لو أخذ الدائن من المدين كفيلاً بألف ليرة، وتصالح معه على أن يحط
عنه خمس مئة، وشرط على الكفيل أنه إن لم يوفه خمس مئة إلى رأس الشهر، فعليه
كل المال وهو الألف، فهو جائز، والألف لازمة للكفيل إن لم يوفه، لأنه جعل
عدم إيفاء الخمس مئة إلى رأس الشهر شرطاً للكفالة بألف.
ولو ضمن الكفيل الألف ليرة بدون شرط شيء، ثم قال له الدائن: (حططت عنك خمس
مئة على أن توفيني رأس الشهر خمس مئة، فإن لم توفني فالألف عليك) فهذا صحيح
أيضاً، بل هو شرط أوثق من شرط الحالة الأولى؛ لأنه جعل هنا عدم التعجيل
شرطاً لانفساخ الحط لا شرطاً للعقد.
ولو قال الدائن لمن عليه الألف ليرة? إن أديت إلي خمس مئة فأنت بريء من
الباقي) أو قال? متى أديت خمس مئة فأنت بريء من خمس مئة) فإنه لا يصح،
(6/4347)
ويبقى عليه الألف؛ لأنه تعليق البراءة
بالشرط، ولا يبرأ عن الباقي حتى يبرئه (1).
ب ـ وإن كان المدعى به ديناً سوى الدراهم والدنانير: فإن كان مكيلاً بأن
كان مد حنطة مثلاً، فصالح منه فله حالتان: إما أن يصالح على جنسه أو على
خلاف جنسه (2).
الحالة الأولى ـ إن صالح على جنسه فله أحوال: إن صالح على مثل حقه قدراً
وصفة، جاز الصلح، ولايشترط القبض؛ لأنه استوفى عين حقه.
وإن صالح على أقل من حقه قدراً وصفة جاز، ويعتبر الصلح حطاً عن الباقي، لا
معاوضة؛ لأنه يعتبر استيفاء لبعض حقه وإبراء عن الباقي، ولايشترط القبض.
وإن صالح على أقل من حقه صفة لا قدراً، جاز أيضاً، ويكون استيفاء لعين حقه
وإبراء للمدعى عليه عن الصفة، ولايشترط القبض.
وإن صالح على أكثر من حقه قدراً وصفة أو قدراً لا صفة: لا يجوز الصلح؛ لأنه
ربا.
وإن صالح على أكثر منه صفة لا قدراً: بأن صالح من مد حنطة رديء على مد جيد
جاز، ويعتبر معاوضة.
الحالة الثانية ـ إن صالح على خلاف جنس حقه: فإن كان بدل الصلح من الدراهم
والدنانير جاز الصلح، ويشترط القبض حتى لا يفترق المتعاقدان عن دين بدين.
_________
(1) راجع البدائع: 44/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 42/ 7 ومابعدها،
تبيين الحقائق: 43/ 5 ومابعدها.
(2) البدائع: 45/ 6 ومابعدها، المبسوط: 26/ 21 وما بعدها، تبيين الحقائق:
42/ 5.
(6/4348)
وإن كان بدل الصلح من المكيلات، وهو شيء
معين بذاته، جاز الصلح، ولا يشترط القبض. وإن كان موصوفاً في الذمة، جاز
الصلح أيضاً، ولكن يشترط القبض في المجلس احترازاً من الافتراق عن دين
بدين، وعليه فإن الصلح عن دين بدين لا يجوز، فلو كان لشخص على آخر مد حنطة،
فصالحه عليه بدراهم إلى أجل لا يصح؛ لأنهما افترقا عن دين بدين (1).
وإن كان المدعى به حيواناً موصوفاً في الذمة: بأن وجب في الذمة عن قتل
الخطأ أو شبه العمد أو عن المهر أو بدل الخلع، فصالح على مكيل أو موزون سوى
الدراهم والدنانير، جاز الصلح، ويكون معاوضة، ويشترط التقابض احترازاً عن
افتراق العاقدين عن دين بدين.
ولو صالح على قيمة الحيوان أو أكثر مما يتغابن الناس فيه، جاز؛ لأن قيمة
الحيوان دراهم ودنانير، وهي ليست من جنس الحيوان، فكان الصلح عليها معاوضة،
فيجوز سواء قل أو كثر، ولا يشترط القبض.
وكذا إذا صالح من الحيوان على دراهم في الذمة، وافترق العاقدان من غير قبض،
جاز الصلح، وإن كان افتراقاً عن دين بدين؛ لأن هذا المعنى ليس بمعاوضة، بل
هو استيفاء عين حقه؛ لأن الحيوان الذي وجب في الذمة، وإن كان ديناً لكنه
ليس بدين لازم، بدليل أن من عليه الحيوان إذا جاء بقيمته يجبر من له على
القبول، بخلاف سائر الديون، فلا يكون افتراقاً عن دين بدين حقيقة (2).
بدل الصلح منفعة: ذكرت أحكام الشرط
الأول من شروط المصالح عليه إذا كان بدل الصلح عيناً أو ديناً. فأما إذا
كان منفعة، بأن كان على رجل عشر ليرات
_________
(1) الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 146.
(2) البدائع: 46/ 6 ومابعدها.
(6/4349)
مثلاً، فصالح منها على منفعة بيت بأن يسكنه
شهراً أو على ركوب دابة أياماً معلومة أو على زراعة أرض مدة معينة ونحوها
جاز الصلح (1)، ويكون التصالح إجارة (أي في معنى الإجارة) سواء أكان الصلح
عن إقرار المدعى عليه أم عن إنكاره أم سكوته؛ لأن الإجارة تمليك المنفعة
بعوض، وقد وجد العوض هنا، والمعاوضة ظاهرة المعنى في الصلح عن إقرار، وأما
في الصلح عن إنكار، فالمعاوضة عن الخصومة واليمين.
وكذا في الصلح عن سكوت؛ لأن الساكت منكر حكماً.
وإذا اعتبر الصلح على المنافع إجارة، فيصح بما تصح به الإجارات ويفسد بما
تفسد به، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة (2).
2 - الشرط الثاني من شروط المصالح عليه (بدل
الصلح) أن يكون متقوما ً: فلا يصح على الخمر والخنزير من المسلم؛
لأنه ليس بمال متقوم في حقه (3)، لكن في هذه الحالة إذا تم الصلح على ما لا
يصلح أن يكون عوضاً أصلاً نفذ الصلح ولم يجب شيء، لأنه يدل على أن
المتصالحين ما أرادا المعاوضة، ويكون الصلح عفواً من المصالح.
_________
(1) قال الحنفية (تحفة الفقهاء: 426/ 3): كل ما يصلح مهراً في النكاح (وهو
أن يكون مالاً متقوماً عند الناس، المرجع السابق: 201/ 2) وتصح تسميته، صح
أن يكون بدلاً في الصلح. وكل ما لا يصلح مهراً ولا تصح تسميته ويجب فيه مهر
المثل في النكاح، لا يصح أن يكون بدلاً في الصلح، والواجب حينئذ في الصلح
دية النفس في القتل وأرش الجناية فيما دون النفس. وقد أجاز الحنفية
(الهداية مع الفتح: 450/ 2) أن يكون المهر منفعة يمكن تسليمها شرعاً كسكنى
الدار أو ركوب الدابة أو الحمل عليها، أو على أن تزرع أرضه، ولكن لا يصح أن
تكون المنفعة خدمة الحر لزوجته، أو كانت مما لا يستحق عليها الأجر كتعليم
القرآن؛ لأنه في الأولى ينقلب وضع الرجل فيصبح خادماً وفي الثانية ليس ذلك
مالاً.
(2) البدائع: 47/ 6، تكملة فتح القدير: 31/ 7، الشرح الكبير: 310/ 3، مغني
المحتاج: 178/ 2، المغني: 483/ 4.
(3) البدائع: 47/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 33/ 7، تبيين الحقائق: 36/
5.
(6/4350)
3 - الشرط الثالث ـ أن يكون مملوكاً
للمصالح: فلو صالح على مال، ثم استحق من يد المدعي، لم يصح الصلح؛ لأنه
تبين أنه ليس مملوكاً للمصالح (1).
4 - الشرط الرابع ـ أن يكون معلوما ً:
لأن جهالة البدل تؤدي إلى المنازعة، فتوجب فساد العقد (2).
شروط المصالح عنه:
يشترط في محل عقد الصلح شروط هي ما يأتي:
أحدها ـ أن يكون حقاً للإنسان لا حقاً لله عز وجل، سواء أكان مالاً عيناً
أم ديناً، أم حقاً ليس بمال كالقصاص والتعزير (3). فلا يصح الصلح من حد
الزنا والسرقة وشرب الخمر بأن يأخذ رجل زانياً أو سارقاً أو شارب خمر،
وأراد أن يرفعه إلى الحاكم، فصالحه المأخوذ على مال ليتركه، فالصلح باطل؛
لأن الحد حق الله تعالى، والاعتياض عن حق الغير لا يجوز، وهو الصلح على
تحريم الحلال أو تحليل الحرام.
وكذا لا يصح الصلح من حد القذف بأن قذف الإنسان رجلاً، فصالحه على مال على
أن يعفو عنه؛ لأن هذا الحد، وإن كان للإنسان فيه حق، فالمغلَّب فيه عند
الحنفية هو حق الله تعالى.
وكذا لا يصح الصلح مع شاهد يريد أن يشهد عليه على مال، على ألا يشهد
_________
(1) البدائع: المرجع السابق: ص 48.
(2) البدائع، المرجع السابق، الدر المختار: 493/ 4.
(3) البدائع، المرجع نفسه، تبيين الحقائق: 37/ 5، تكملة فتح القدير، المرجع
السابق: ص 34، الدرا لمختار: 493/ 4.
(6/4351)
عليه فهو باطل؛ لأن الشاهد في إقامة
الشهادة محتسب حقاً لله تعالى، والصلح عن حقوق الله عز وجل باطل، ويجب على
العاقد رد ما أخذ من المال؛ لأنه أخذ بغير حق. ولو علم القاضي به أبطل
شهادته؛ لأنه فسق، إلا أن يتوب، فتقبل.
ويجوز الصلح باتفاق المذاهب الأربعة عن القصاص في النفس وما دون النفس من
الأعضاء؛ لأن القصاص حق للإنسان، فالصلح يجوز حينئذ، سواء أكان بدل الصلح
عيناً أم ديناً، لكن إذا كان
البدل ديناً يشترط القبض في المجلس، حتى لا يكون افتراقاً دين بدين (1).
وسواء أكان البدل معلوماً أم مجهولاً غير فاحشة، فإذا صالح مثلاً على ثوب
أو دابة أو دار لا يجوز؛ لأن الثياب والدواب والدور أجناس ذات أنواع
مختلفة، وجهالة النوع تعتبر فاحشة، فتمنع الجواز.
والضابط في هذا: أن كل جهالة تمنع صحة تسمية المهر في النكاح تمنع صحة
الصلح من القصاص، وما لا يمنع التسمية فلا يمنع الصحة؛ لأن كلاً من بدل
الصلح والمهر يجب بدلاً عما ليس بمال. وعليه إن كان البدل مما يصلح مهراً
في النكاح فيصلح بدلاً في الصلح، وإذا لم يصلح تسمية المهر بسبب الجهالة
يجب مهر المثل، وإذا لم يصلح تسمية بدل الصلح يسقط القصاص وتجب دية النفس
في القتل، وأرش الجناية فيما دون النفس، إلا أن بين النكاح والصلح فرقاً من
وجه وهو أنه إذا صالح عن القصاص على خمر أو خنزير، يسقط القصاص، ولا يجب
شيء آخر، ويكون الصلح عفواً من صاحب الدم؛ أما في النكاح فإنه يجب مهر
المثل. وجه الفرق: هو أن لفظ (الصلح) كناية عن العفو، فإذا لم يذكر مال
متقوم
_________
(1) البدائع، المرجع السابق، المبسوط: 9/ 21، تبيين الحقائق: 35/ 5، تكملة
فتح القدير: 32/ 7، الشرح الكبير: 317/ 3، المغني: 494/ 4 ومابعدها.
(6/4352)
في الصلح عن القصاص كان بمثابة السكوت عن
ذكر عوض، وإذا لم يذكر العوض كان معناه هو العفو، وبعد العفو لا يجب شيء.
أما في النكاح فلا يحتمل العفو عن المهر؛ لأنه إذا سكت عنه يجب حكماً لأنه
من ضرورات عقد النكاح، فإنه ما شرع إلا بالمال، فإذا لم يكن المسمى صالحاً
للمهر، صار كما لو لم يسم العاقد مهراً، وإذا لم يسم مهراً وجب مهر المثل.
وأما الصلح: فليس من ضروراته وجوب المال، فإنه لو عفا بلا تسمية شيء لم يجب
شيء (1).
والصلح عن القصاص جائز سواء أكان بدل الصلح قدر الدية أم أقل أم أكثر لقوله
تعالى: {فمن عفي له (2) من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}
[البقرة:178/ 2] قال ابن عباس: «إنها نزلت في الصلح عن دم العمد» واسم
الشيء يتناول القليل والكثير، فدلت الآية على جواز الصلح من القصاص على
القليل والكثير.
وهذا بخلاف الصلح عن القتل الخطأ وشبه العمد: فإنه إذا صالح على أكثر من
الدية والأرش لا يجوز الصلح؛ لأن الأرش والدية مقدران شرعاً بمقدار معلوم
لا زيادة عليه، فالزيادة على المقدر تكون ربا، فلا يجوز، أما بدل الصلح عن
القصاص فعوض عن القصاص، والقصاص ليس بمال، حتى يكون البدل عنه زيادة على
المال المقدر، وليس فيه تقدير شرعي، فلا يتحقق الربا (3).
الصلح عن المجهول: لا يشترط عند الحنفية
والحنابلة: أن يكون المصالح عنه
_________
(1) العناية بهامش تكملة فتح القدير: 33/ 7، تبيين الحقائق: 35/ 5.
(2) أي أعطي له. ومعنى الآية: أن الله تعالى أمر الولي بالاتباع بالمعروف
إذا أعطي له شيء.
(3) البدائع: 49/ 6، العناية مع تكملة الفتح: 34/ 7، تبيين الحقائق: 36/ 5،
الدر المختار: 497/ 4.
(6/4353)
معلوماً، فيصح الصلح عن المجهول، سواء أكان
عيناً أم ديناً، فمن ادعى على آخر حقاً في عين، فأقر به المدعى عليه، أو
أنكر، فصالح على مال معلوم، جاز (1)؛ لأن الصلح كما يصح بطريق المعاوضة يصح
بطريق الإسقاط، وهذا إسقاط حق، فصح في المجهول كالعتاق والطلاق، ولأنه إذا
صح الصلح مع العلم، وإمكان أداء الحق بعينه، فلأن يصح مع الجهل أولى، إذ لو
لم يجز الصلح حينئذ أدى إلى ضياع المال، والصلح هنا ليس بيعاً وإنما هو
إبراء، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في رجلين اختصما في
مواريث درست: «استهما، وتوخيا، وليحلل أحدكما صاحبه» (2)، وهذا صلح على
المجهول كما قال ابن قدامة.
وقال المالكية: ينبغي أن يعرف المدعي قدر ما يصالح عنه من الدين، فإن كان
مجهولاً لم يجز.
وقال الشافعي: لا يصح الصلح على المجهول؛ لأن الصلح بيع، ولايصح على
المجهول (3).
_________
(1) يعني أن يكون بين رجلين معاملة وحساب من زمن طويل، ولا علم لكل واحد
منهما بما عليه لصاحبه، فيجوز الصلح بينهما، وكذلك من عليه حق، لا علم له
بقدره، جاز أن يصالح عليه.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وأصله في الصحيحين عن أم سلمة قالت:
جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد
دَرِست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون
إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته
من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً
فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها أسطاماً (أي المسعار وهو
الحديدة التي يسعر بها النار) في عنقه يوم القيامة، فبكى الرجلان، وقال كل
واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما إذ قلتما
فاذهبا، فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليُحلل كل واحد منكما
صاحبه» ليحلل: أي ليسأل كل واحد منكما صاحبه أن يجعله في حل من قبله بإبراء
ذمته، وفيه دليل على أنه يصح الإبراء من المجهول (راجع نيل الأوطار: 253/
5).
(3) راجع البدائع: 49/ 6، مجمع الضمانات: ص 388، تبيين الحقائق: 32/ 5،
الدر المختار: 493/ 4، المغني: 490/ 4 ومابعدها، الميزان: 79/ 2، حاشية
الدسوقي على الشرح الكبير: 310/ 3.
(6/4354)
الشرط الثاني ـ أن يكون المصالح عنه حقاً
للمصالح، فإذا لم يكن حقاً له، بطل الصلح (1).
الشرط الثالث ـ أن يكون حقاً ثابتاً للمصالح في محل الصلح، فإذا لم يكن
حقاً ثابتاً له، لا يجوز الصلح عنه، كما يظهر من الحالات الآتية (2).
ـ لو أن امرأة طلقها زوجها ادعت عليه صبياً في يده أنه ابنه منها، فصالحت
عن النسب على شيء، فالصلح باطل؛ لأن النسب حق الصبي، لاحقها فلا تملك
المعاوضة عن حق غيرها.
ـ ولو صالح الشفيع المشتري عن حق الشفعة الذي وجب له، على مال معلوم على أن
يسلم الدار المبيعة مثلاً للمشتري، فالصلح باطل؛ لأنه لا حق للشفيع في محل
الصلح، إنما الثابت له حق التملك، وهذا عبارة عن ولاية له، وهي صفة له،
فليس هذا الحق لمعنى في المحل، فلا يحتمل الصلح عنه (3) وهو بخلاف الصلح عن
القصاص؛ لأن المحل هنا يصير مملوكاً في حق الاستيفاء.
ـ وإذا صالح الكفيل بالنفس المكفول له على مال معلوم على أن يبرئه من
الكفالة، فالصلح باطل، والكفالة لازمة؛ لأن الثابت للدائن المكفول له: هو
حق مطالبة الكفيل بتسليم المكفول بنفسه، وهو عبارة عن ولاية المطالبة، وهي
صفة للدائن، فلا يجوز الصلح عنها فأشبه الشفعة.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) البدائع، المرجع السابق، المبسوط: 35/ 21، مجمع الضمانات: ص 385.
(3) أي أن حق الشفعة: حق أن يتملك، وذلك ليس بحق ثابت في المحل قبل التملك،
فأخذ بدل عنه أخذ مال في مقابلة ما ليس بشيء ثابت في المحل، وهو رشوة حرام
(العناية مع تكملة فتح القدير: 33/ 7).
(6/4355)
ـ ولو كان لرجل ظلَّة (1) على طريق نافذ أو
كنيف (2) ممتد إلى الشارع أو ميزاب، فخاصمه رجل فيه، وأراد طرحه وإزالته،
فصالحه على مال فالصلح باطل؛ لأن الطريق حق لجماعة المسلمين، وليس لأحد
منهم حق معتبر ثابت في الطريق، وإنما له فقط حق المرور، وولاية المرور،
وهما صفة للمار، فلا يجوز الصلح عنه. هذا فضلاً عن أنه لا فائدة من هذا
الصلح، لأنه إن سقط حق واحد بالصلح، فللباقين حق القلع (3).
أما إذا كان الطريق غير نافذ، فخاصمه رجل من أهل الطريق على مال لترك الظلة
ونحوها، فالصلح جائز؛ لأن الطريق هنا مملوكة ملكاً مشتركاً بين جماعة
محصورة، فكان لكل واحد منهم جزء مملوك له، فجاز الصلح عنه، وفي هذا الصلح
فائدة لاحتمال أن يصالح الباقون بخلاف حالة ما إذا كان الطريق نافذاً، فإنه
لا يتصور الصلح من جميع الناس.
ـ ولو ادعى رجل على رجل مالاً، فأنكره المدعى عليه، ولا بينة للمدعي، فطلب
من المدعى عليه اليمين، فصالح عن اليمين على ألا يستحلفه، جاز الصلح، وبرئ
من اليمين.
ـ ولو ادعى رجل على آخر مئة ليرة مثلاً، فأنكرها المدعى عليه، فتصالحا على
أنه (إن حلف المدعى عليه، فهو بريء) فحلف المدعى عليه: (ما لهذا المدعي
قليل ولا كثير عندي) فإن الصلح باطل، والمدعي على دعواه، فإن أقام بينة أخذ
حقه بها؛ لأن قوله: (على أنه إن حلف المدعى عليه فهو بريء) تعليق البراءة
_________
(1) الظلة: المظلة الضيقة وهي ما يستظل بها من الحر أو البرد كالخيمة
المعروفة الآن.
(2) هو الكنة التي تشرع فوق باب الدار، أي السقيفة الممتدة خارج البيت إلى
الشارع كالروشن الآن.
(3) البدائع: 49/ 6، مغني المحتاج: 183/ 2، المهذب: 333/ 1.
(6/4356)
بالشرط، وهو باطل؛ لأن في الإبراء معنى
التمليك، والأصل في التمليك ألا يحتمل التعليق بالشرط.
وإن لم تكن له بينة وأراد استحلاف المدعى عليه، فهناك وجهان:
أـ إن كان ذلك الحلف الذي صدر من المدعى عليه عند غير القاضي: فله أن
يستحلفه عند القاضي مرة أخرى؛ لأن تلك اليمين غير معتبرة.
ب ـ وإن كان حلف عند القاضي: فلا يستحلفه مرة ثانية؛ لأن حق المدعي في
الاستحلاف صار مستوفى مرة، فلا يجب عليه الإيفاء مرة ثانية.
ـ ولو تصالحا على أن (يحلف المدعي، فمتى حلف، فالدعوى لازمة للمدعى عليه)
(1) فحلف المدعي على دعواه، فإن الصلح باطل، ولا يلزم المدعى عليه بشيء؛
لأن هذا تعليق وجوب المال بشرط وهو باطل لكونه قماراً (2).
ـ ولو ادعى رجل على امرأة نكاحاً، فجحدته، فصالحته على مال بذلته، حتى يترك
الدعوى، جاز الصلح؛ لأن النكاح حق ثابت من حقوق المدعي، فكان الصلح على حق
ثابت، فكان في معنى الخلع، إذ هو أخذ المال بدلاً عن الحقوق الزوجية، ومن
حقها بذل مال لإسقاط الخصومة (3).
ـ ولو قال رجل لامرأة: (أعطيتك مئة ليرة على أن تكوني امرأتي) فهو جائز إذا
قبلت الزواج بمحضر من الشهود، ويكون هذا كناية عن إنشاء النكاح ابتداء.
ـ وكذا لو قال: (تزوجتك أمس على ألف ليرة) فجحدت، وقالت: (لا)
_________
(1) أي فالمال واجب على المدعى عليه.
(2) البدائع: 50/ 6.
(3) البدائع، المرجع السابق، تبيين الحقائق: 37/ 5، الدر المختار: 496/ 4،
مجمع الضمانات: ص 385.
(6/4357)
فقال: (أزيدك مئة على أن تقري لي بالنكاح)
فأقرت، جاز الصلح، ولها ألف ومئة، والنكاح جائز، ويحمل إقرارها على الصحة
(1).
ـ ولو ادعت امرأة على رجل نكاحاً، فجحد الرجل، فصالحها على مال بذله لها،
لا يجوز الصلح، لأنه لا يخلو إما أن يكون النكاح ثابتاً أو لم يكن ثابتاً،
فإن لم يكن ثابتاً كان دفع المال إليها من الرجل في معنى الرشوة، إذ ليس
هناك شيء يقابله العوض وقد بذل لها المال لتترك الدعوى. وإن كان ثابتاً لا
تثبت الفرقة بهذا الصلح؛ لأن العوض في مثل هذه الفرقة تعطيه المرأة لا
الزوج فهو لا يعطي العوض في الفرقة، فلا يكون المال الذي تأخذه المرأة
عوضاً عن شيء، فلا يجوز. لكن لو ادعى الدعوى، جاز الصلح، وكان الصلح في
معنى الخلع في جانبه، لزعمه أن النكاح قائم، ولدفع الخصومة في جانبها (2).
ـ ولو ادعى إنسان على آخر ألف ليرة، فأنكر المدعى عليه، فصالحه المدعي على
مئة ليرة على أن يقر له بالألف، فالصلح باطل؛ لأن المدعي لا يخلو إما أن
يكون صادقاً في ادعائه الألف، وإما أن يكون كاذباً فيها، فإن كان صادقاً
فيها، فالألف واجبة على المدعى عليه، ويكون أخذ العوض عليه في معنى الرشوة،
وهو حرام.
وإن كان كاذباً في ادعائه فإقرار المدعى عليه بالألف التزام المال من بادئ
الأمر، وهذا لا يجوز (3).
_________
(1) البدائع: 51/ 6.
(2) البدائع: المرجع نفسه: ص 50، تكملة فتح القدير مع العناية: 35/ 7،
تبيين الحقائق: 37/ 5، الكتاب مع اللباب: 165/ 2.
(3) البدائع، المرجع السابق: ص 51.
(6/4358)
ـ ولو ادعى إنسان على رجل وديعة، أو عارية،
أو مال مضاربة أو إجارة، فقال الأمين: (قد رددتها عليك) أو (هلكت) وكذبه
المدعي، وقال: (استهلكتها) ثم تصالحا على مال، فالصلح باطل عند أبي يوسف.
وعند محمد: صحيح.
وجه قول محمد: أن هذا صلح وقع عن دعوى صحيحة، ويمين موجهة، فيصح.
ووجه قول أبي يوسف: أن المدعي مناقض نفسه في هذه الدعوى؛ لأن الوديع أمين
المالك، وقول الأمين قول المؤتمن، فكان إخباره بالرد أو الهلاك إقراراً من
المودِع، فكان مناقضاً نفسه في ادعاء الاستهلاك، والتناقض يمنع صحة الدعوى،
إلا أنه يستحلف لكن لا لدفع الدعوى، لأنها مندفعة لبطلانها، بل للتهمة،
وإذا لم تصح الدعوى لا يصح الصلح (1).
الصلح على العيب: لو اشترى رجل شيئاً
فوجده معيباً، فصالحه البائع من العيب على شيء دفعه إليه، أو حط عنه من
ثمنه شيئاً: فإن كان المبيع مما يجوز رده على البائع، أو كان له حق
المطالبة بأرش العيب دون رده، فالصلح جائز؛ لأن الصلح عن العيب صلح عن حق
ثابت في المحل وهو (صفة سلامة المبيع عن العيب) (2).
وإن لم يكن للمشتري حق رد المبيع ولا أخذ الأرش (التعويض عن العيب) بأن باع
الشيء أو حدثت زيادة منفصلة متولدة من الأصل أو حدث عيب جديد
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 50
(2) يلاحظ أن هذا الصلح جائز في البيع العادي الذي يجوز فيه التفاضل، أما
إذا كان البيع فيما يجري فيه الربا، فلا يجوز الصلح على شيء، لأنه يؤدي إلى
الزيادة، وهو ربا، وهو لا يجوز.
(6/4359)
عند المشتري عدا العيب القديم المجيزللرد:
فلا يجوز الصلح؛ لأن هذا أخذ مال لا بمقابلة شيء، فلا يجوز.
وإذا جاز الصلح عن العيب، فزال العيب، كأن كان العيب بياضاً في عين الدابة
فانجلى البياض، يبطل الصلح، ويأخذ البائع ما أداه، لأن صفة سلامة المبيع قد
عادت إليه، فيعوض العوض، ويزول حق المشتري فيه.
ولو طعن المشتري بعيب في المبيع، فصالحه البائع على أن يبرئه من العيب
المذكور ومن كل عيب، فالصلح جائز؛ لأن الإبراء عن العيب إبراء عن صفة
السلامة في المبيع وإسقاط لها.
وكذلك لو لم يطعن المشتري بعيب، فصالحه البائع من كل عيب على مال، فالصلح
جائز؛ لأنه وإن لم يطعن بعيب فله حق الخصومة، فيجوز الصلح لإبطال هذا الحق.
ولو طعن المشتري بنوع من العيوب كالعمى والقروح، فصالحه البائع عليه، جاز
الصلح؛ لأنه لما جاز عن كل عيب، جاز عن العيب الواحد. فإذا ظهر عيب آخر،
كان للمشتري حق الخصومة فيه؛ لأن الصلح وقع عن نوع خاص، فكان له حق الخصومة
في غيره (1).
الصلح بين المدعي والأجنبي:
كان الكلام السابق عن الصلح بين المدعي والمدعى عليه. أما إذا كان الصلح
بين المدعي والأجنبي المتوسط أو المتبرع بالصلح فلا يخلو الحال بين أن يكون
الصلح بإذن أو أمر من المدعى عليه أو بغير إذنه أو أمره.
_________
(1) البدائع: 51/ 6، المبسوط: 6/ 21. .
(6/4360)
فإن كان الصلح بإذن من المدعى عليه: فإنه
يصح الصلح، ويكون المصالح وكيلاً عن المدعى عليه، والصلح مما يحتمل التوكيل
به، ويجب المال على المدعى عليه دون الوكيل، سواء أكان الصلح عن إقرار أم
عن إنكار؛ لأن الوكيل في الصلح لا ترجع إليه حقوق العقد. والمال لازم
للموكل دون الوكيل إلا إذا ضمن الوكيل بدل الصلح عن المدعى عليه، فإنه يجب
عليه حينئذ بموجب عقد الكفالة والضمان، لا بموجب عقد الصلح (1)
وقال الشافعية كما تقدم بيانه: إن قال الأجنبي للمدعي: وكلني المدعى عليه
في الصلح وهو مقر لك بما تدعي، صح الصلح بينهما؛ لأن ادعاء الوكالة في
المعاملات مقبول، ولو صالح الأجنبي عن العين (المدعاة) لنفسه بماله، وقال
الأجنبي للمدعي: إن المدعى عليه مقر لك بالمدعى، صح الصلح إيضاً، وكأن
اشترى المدعى به. وإن كان المدعى عليه منكراً، وقال الأجنبي: هو مبطل في
إنكاره؛ لأنك صادق عندي، فصالحني: فإن كان المدعى به عيناً، فيطبق عليه حكم
شراء المغصوب، أي فإن كان قادراً على انتزاعه من المدعى عليه صح الصلح، وإن
لم يقدر على انتزاعه فلا يصح. وإن لم يقل الأجنبي: هو مبطل في إنكاره، لغا
الصلح (2).
وإن كان الصلح بغير إذن من المدعى عليه: فهو
صلح الفضولي، وهو على خمسة أوجه:
في أربعة منها يصح الصلح، ويجب المال على المصالح الفضولي، ولا يجب على
المدعى عليه شيء. وهذه الأوجه هي:
_________
(1) البدائع: 52/ 6، تكملة فتح القدير: 38/ 7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 39/
5 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 167/ 2.
(2) مغني المحتاج: 181/ 2، المهذب: /333.
(6/4361)
أولاً ـ أن يضيف الضمان إلى نفسه: بأن يقول
الفضولي للمدعي: (صالحتك من دعواك هذه على فلان بألف ليرة على أني ضامن لك
هذه الألف)، أو (على أن علي الألف).
ثانياً ـ أن يضيف المال إلى نفسه: بأن يقول: (على ألفي هذا، أو على متاعي
هذا).
ثالثاً ـ أن يعين البدل وإن كان لا ينسبه إلى نفسه بأن يقول: (على هذا
الألف أو على هذا المتاع).
رابعاً ـ أن يسلم البدل، وإن لم يعين ولم ينسب إلى نفسه: بأن قال: (صالحتك
على ألف) وسلمها إليه.
والدليل على صحة الصلح في هذه الأوجه الأربعة هو قوله تعالى: {إنما
المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات:10/ 49]، وقوله عز وجل:
{والصلح خير} [النساء:128/ 4] ولأن الفضولي بالصلح عن غيره في هذه الوجوه
متصرف على نفسه بالتبرع بإسقاط الدين عن الغير، بأن يقضي دينه من مال نفسه
إذا كان الصلح عن إقرار. وإن كان الصلح عن إنكار فهو متبرع بإسقاط الخصومة
عن غيره، فيجوز التبرع في الحالتين.
وفي وجه واحد: لا يصح الصلح، وإنما يكون موقوفاً على إجازة المدعى عليه،
وهو بأن يقول الفضولي: (صالحتك من دعواك هذه مع فلان على ألف ليرة أو على
متاع كذا: الوسط)، ففي هذه الحالة إن أجاز المدعى عليه صلح الفضولي نفذ،
ويجب البدل عليه دون المصالح؛ لأن الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة،
وحكم الوكالة كذلك.
(6/4362)
وإن لم يجز بطل الصلح؛ لأن التصرف على
الإنسان لا يصح من غير إذنه وإجازته، والأصل في العقد إنما هو المدعى عليه
(1).
وهذه الأحكام تطبق على الخلع من الأجنبي:
فإن كان خلع الزوجة بإذن الزوج أو المرأة: يصير المخالع وكيلاً، ويجب المال
على المرأة للزوج دون الوكيل؛ لأنه سفير ومعبر عن الأصيل، فلا يرجع إليه
بشيء من حقوق العقد.
وإن كان الخلع بغير إذن: فإن وجد من الفضولي ضمان بدل الخلع، أو قال: (خالع
امرأتك على كذا ليرة علي) أو (على متاعي هذا) أو (على هذا الألف) أو (على
هذا المتاع) فإن الخلع صحيح، ويجب المال على الفضولي، وليس له أن يرجع على
الأصيل، لأنه متبرع.
وإن قال الفضولي للزوج: (اخلع امرأتك على كذا) فقال: (خلعت) فإن الخلع يكون
موقوفاً على إجازة المرأة: فإن أجازت صح الخلع، ويجب البدل عليها دون
الفضولي، وإن لم تجز بطل الخلع، ولا يقع الطلاق.
وتطبق هذه الأحكام أيضاً على الصلح عن دم العمد من الأجنبي، كما تطبق كذلك
على الزيادة في الثمن من الأجنبي: إن كانت بإذن المشتري يكون الشخص الفضولي
وكيلاً، وتجب الزيادة على المشتري. وإن كانت بغير إذن المشتري، فعلى
التفصيل السابق الذي ذكر في الصلح (2).
_________
(1) البدائع: 52/ 6، تكملة فتح القدير: 40/ 7، تبيين الحقائق: 40/ 5.
(2) البدائع: 52/ 6.
(6/4363)
المبحث الثالث ـ
أحكام الصلح:
للصلح أحكام هي (1):
أولاً ـ انقطاع الخصومة والمنازعة بين المتداعيين شرعاً: فلا تسمع دعواهما
بعدئذ، وهذا حكم ملازم جنس الصلح.
ثانياً ـ حق الشفعة للشفيع: إذا كان المدعى به داراً وبدل الصلح ليس داراً،
وإنما هو نقد أو غيره، فإن حق الشفعة يثبت للشفيع إذا كان الصلح عن إقرار
من المدعى عليه؛ لأن الصلح حينئذ يكون في معنى البيع بالنسبة لطرفي العقد.
أما إذا كان الصلح عن إنكار من المدعى عليه، فلا يثبت حق الشفعة، لأنه ليس
في معنى البيع بالنسبة للمدعى عليه، بل هو بذل المال لدفع الخصومة واليمين.
وإن كان بدل الصلح داراً، والصلح عن إقرار المدعى عليه يثبت حق الشفعة
للشفيع في الدارين، لما عرفنا أن الصلح هنا في معنى البيع من الطرفين.
وإن كان الصلح عن إنكار يثبت للشفيع حق الشفعة في الدار التي هي بدل الصلح،
ولا يثبت في الدار المدعاة؛ لأنها لم تعتبر مبيعة، إذ أن الصلح عن إنكار
يعتبر معاوضة بالنسبة للمدعي، وأما بالنسبة للمدعى عليه فليس بمعاوضة، بل
هو إسقاط للخصومة ودفع اليمين عن نفسه، فلم يكن للدار المدعاة حكم المبيع
في حقه، فلا يثبت للشفيع حق أخذها بالشفعة.
ثالثاً ـ حق الرد بالعيب، وحكم الاستحقاق: فحق الرد بالعيب يثبت لطرفي عقد
الصلح إن كان الصلح عن إقرار؛ لأنه بمنزلة البيع.
وإن كان عن إنكار يثبت حق الرد بالنسبة للمدعي، ولا يثبت بالنسبة
_________
(1) البدائع: 53/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 29/ 7، المبسوط: 163/ 20،
تبيين الحقائق: 33/ 5، الدر المختار مع رد المحتار: 494/ 4.
(6/4364)
للمدعى عليه؛ لأن هذا الصلح بمنزلة البيع
بالنسبة للمدعي، لا بالنسبة للمدعى عليه.
وتطبق هذه الأحكام إذا كان الصلح عن إقرار، واستحق بعض المصالح عنه، فيرجع
المدعى عليه على المدعي بحصة المستحق من العوض المصالح به؛ لأن الصلح مع
الإقرار كالبيع، وهذا هو حكم الاستحقاق في البيع. وإذا كان الصلح عن إنكار
أو سكوت فاستحق المتنازع فيه كله، رجع المدعي بالخصومة على المستحق، لقيامه
مقام المدعى عليه، ورد العوض المصالح به على من أخذه منه (1)؛ لأن المدعى
عليه ما بذل العوض للمدعي إلا ليدفع خصومته عن نفسه، فإذا ظهر الاستحقاق
تبين أنه لا خصومة له، فيبقى العوض في يده غير مشتمل على غرضه، فيسترده.
وإن استحق بعض المتنازع فيه، رد حصته، ورجع بالخصومة فيه على المستحق.
رابعاً ـ الرد بخيار الرؤية في نوعي الصلح: لأن الخيار ثبت للمدعي فيستدعي
كون الصلح معاوضة عن حقه.
خامساً ـ إنه لا يجوز التصرف في بدل الصلح قبل القبض إذا كان منقولاً في
نوعي الصلح؛ فلا يجوز للمدعي بيعه وهبته ونحوهما. وإن كان عقاراً يجوز عند
أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: لا يجوز، كما هو معروف في بحث عقد البيع.
ويجوز للمصالح في الصلح عن القصاص أن يبيع بدل الصلح أو يبرئ عنه قبل
القبض، كما يجوز البيع ونحوه في المهر والخلع؛ لأن المانع من جواز التصرف
في الشيء قبل القبض: هو المحافظة على العقد من الانفساخ نتيجة هلاك الشيء،
_________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية، المرجع السابق: ص 29، المبسوط: 149/ 20
ومابعدها، تبيين الحقائق: 32/ 5، 34، الكتاب مع اللباب: 164/ 2.
(6/4365)
واحتمال الفسخ لا يتأتى في الصلح عن
القصاص، لأنه مما لا يحتمل الفسخ، فلا حاجة إلى القول بعدم جواز التصرف في
بدل الصلح قبل القبض.
سادساً ـ إن الوكيل بالصلح يلتزم ببدل الصلح دون المدعى عليه إذا كان الصلح
في معنى المعاوضة، كما إذا تم الصلح على جنس آخر خلاف جنس حق المدعي، لأنه
يكون حينئذ جارياً مجرى البيع، وحقوق البيع ترجع إلى الوكيل.
وإن كان الصلح في معنى استيفاء عين الحق، كمن له على آخر ألف ليرة، فصالحه
على خمس مئة، فيلتزم الوكيل ببدل الصلح إن ضمنه، وإن لم يضمنه لم يلزمه؛
لأنه يكون حينئذ سفيراً بمنزلة الرسول، فلا ترجع إليه حقوق العقد. أما إن
ضمنه لزمه بحكم الكفالة لا بحكم العقد. وقد سبق أن أشرت إليه.
والخلاصة: أن الصلح كما قال الشافعية إذا كان عن إقرار وجرى على عين غير
المدعاة، فهو بيع بلفظ الصلح تثبت فيه أحكامه، كالشفعة، والرد بالعيب، ومنع
التصرف قبل القبض، واشتراط التقابض إن اتفق المصالح عنه والمصالح عليه في
علة الربا (1).
المبحث الرابع ـ مبطلات عقد الصلح وحكمه بعد
البطلان:
مبطلات الصلح: يبطل الصلح بأشياء هي ما
يأتي (2):
1 - الإقالة في غير حالة الصلح على القصاص: فلو أقال أحد المتصالحين الآخر
انفسخ الصلح؛ لأن فيه معنى معاوضة المال بالمال، فكان محتملاً للفسخ كالبيع
ونحوه. أما القصاص: فالصلح فيه إسقاط محض لحق ولي الدم في استيفاء القصاص
من القاتل؛ لأنه عفو عن القاتل، فلايحتمل الفسخ كالطلاق ونحوه.
_________
(1) مغني المحتاج: 177/ 2، المهذب: 333/ 1.
(2) البدائع: 54/ 6 ومابعدها، تبيين الحقائق للزيلعي: 32/ 5، 34، الدر
المختار مع رد المحتار: 494/ 4.
(6/4366)
2 - لحاق المرتد بدار الحرب أو موته على
الردة عند أبي حنيفة: وهذا مبني على القاعدة المقررة عنده: وهي أن تصرفات
المرتد موقوفة على العودة إلى الإسلام أو اللحاق بدار الحرب أو الموت، فإن
أسلم نفذت تصرفاته، وإن لحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه، أو قتل أو مات
على الردة بطلت تصرفاته.
وعند الصاحبين: تعتبر تصرفات المرتد نافذة.
3 - الرد بخيار العيب أو الرؤية: لأن الرد يفسخ العقد.
4 - هلاك أحد المتعاقدين في الصلح على المنافع قبل انقضاء المدة: لأن في
الصلح على المنفعة معنى الإجارة، والإجارة تبطل بموت أحد العاقدين. وكذا
يبطل الصلح إذا هلك ما وقع الصلح على منفعته.
حكم الصلح بعد بطلانه: إذا بطل الصلح
يرجع المدعي إلى أصل دعواه إن كان الصلح عن إنكار. ويرجع المدعي على المدعى
عليه بالمدعى به لا غيره إن كان الصلح عن إقرار؛ لأنه إذا بطل الصلح، جعل
كأن لم يكن، فعاد الأمر على ما كان من قبل.
لكن في الصلح عن القصاص: يرجع المدعي على القاتل بالدية دون القصاص، وفي
الصلح عن المنفعة، إذا بطل بموت أحد العاقدين ونحوه من المبطلات في أثناء
المدة، يرجع المدعي بالمدعى به، بقدر ما لم يُستوف من المنفعة إن كان الصلح
عن إقرار. وإن كان عن إنكار المدعي إلى أصل الدعوى في قدر ما لم يستوف من
المنفعة (1).
الصلح عن التركة (التخارج): يصح الصلح
عن حصة الوارث في التركة،
_________
(1) البدائع: 55/ 6 ومابعدها، المبسوط: 34/ 21، تبيين الحقائق:33/ 5، الدر
المختار ورد المحتار: 495/ 4.
(6/4367)
وتطبق أحكام البيع، ويسمى هذا الصلح
مخارجة. والمخارجة: هي عقد يتصالح فيه أحد الورثة على أن يخرج من التركة،
فلا يأخذ نصيبه، نظير مال يأخذه من التركة، أو من غيرها. ويختلف الحكم فيما
إذا كانت التركة أشياء عينية، أو أشياء نقدية. فإن كانت التركة أشياء عينية
كعقار أو عروض تجارية، صح الصلح مهما كان مقدار العوض قليلاً كان أو
كثيراً؛ لأنه بيع، وقد صالح عثمان امرأة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم
على ربع ثمنها على ثمانين ألف دينار.
أما إن كانت التركة نقداً ذهباً أو فضة، فيصح الصلح مهما كان العوض إذا كان
من جنس غير جنس مال التركة، كإعطاء ذهب بفضة أو بالعكس؛ لأنه بيع الجنس
بخلاف الجنس، فلا يعتبر التساوي، ولكن بشرط قبض العوضين في مجلس العقد،
لأنه عقد صرف.
وإن كانت التركة خليطاً من أشياء عينية ونقدية وهو الغالب فلا بد من أن
يكون العوض أكثر من نصيبه في التركة، حتى يتساوى نصيبه بمثله، وتغطي
الزيادة الأشياء العينية الأخرى مثل العروض التجارية والعقارات ونحوها،
منعاً من الوقوع في الربا، ولا بد من التقابض فيما يقابل نصيبه من الذهب أو
الفضة؛ لأن هذا عقد صرف في هذا القدر (1).
والخلاصة: أنه يشترط عند الحنفية كون التركة معلومة، ولا يشترط أن يكون
التخارج بمقدار الحصة تماماً؛ لأن هذا العقد بيع، والعلم بالمبيع شرط
لإمكان التسليم، ولا يلزم كون الثمن مساوياً لقيمة المبيع، لكن يشترط أن
يكون المتخارج عالماً بنصيبه من التركة خشية الغرر، ويشترط أيضاً التقابض
فيما هو عقد صرف، لعدم الوقوع في الربا.
_________
(1) اللباب شرح الكتاب: 170/ 2، تكملة رد المحتار: 205/ 7 ومابعدها.
(6/4368)
|