الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الرّابع عَشَر: الإِبراء فيه ستة
مباحث تشمل تعريف الإبراء ومشروعيته، وأركانه، وشروطه ومحله، وأنواعه،
وحكمه.
المبحث الأول ـ تعريف الإبراء ومشروعيته:
الإبراء لغة: التنزيه والتخليص والمباعدة عن الشيء. وفقهاً: هو إسقاط شخص
حقاً له في ذمة آخر أو قِبَله، كإسقاط الدائن دينه الذي له في ذمة المدين.
فإذا لم يكن الحق في ذمة شخص، كحق الشفعة، وحق السكنى الموصى به، فلا يعتبر
التنازل عنه أو تركه إبراء، بل هو إسقاط محض، وعليه يكون كل إبراء إسقاطاً،
وليس كل إسقاط إبراء.
والإبراء وإن تضمن معنى الإسقاط، ففيه معنى آخر وهو التمليك فهو إسقاط من
الدين، وتمليك للمدين. وقد رجح كل مذهب أحد المعنيين.
الحنفية رجحوا معنى الإسقاط مع بقاء
معنى التمليك، ورتبوا عليه عدم صحة الإبراء عن الأعيان؛ لأنه إسقاط، وملكية
الأعيان لا تقبل الإسقاط، فلو أسقط أحد ملكيته عن شيء مملوك له، لا تسقط
ويبقى ملكاً له، ولا يصح الإبراء عن المبيع؛ لأنه إسقاط، وإسقاط العين لا
يصح، والإبراء عن العين المغصوبة لا يكون سبباً لملكها، وإنما يكون إبراء
عن ضمانها، وتصير أمانة في يد الغاصب.
(6/4369)
ولكن يصح إبراء الدين الثابت في الذمة
كضمان قيمة المغصوب المتلف، ويصح الإبراء عن الدعوى المتعلقة بالأعيان. ولا
يصح إقالة الإبراء عن الدين ولا إقالة السلم؛ لأن الإبراء يسقط الدين من
الذمة، والساقط لا يعود؛ لأنه معدوم، والمسلم فيه دين سقط. ويعد الإبراء من
الدين تبرعاً؛ لأن فيه معنى التمليك، وإن كان في صورة إسقاط.
والراجح عند المالكية: كما أبان الدسوقي
(1) أن الإبراء نقل للملك فيكون من قبيل الهبة، فيحتاج لقبول.
والجديد عند الشافعية (2): أن الإبراء
تمليك المدين ما في ذمته، فيشترط علم الطرفين به إن كان في ضمن معاوضة
كخلع، وإلا فيكفي علم المبرئ فقط، والإبراء من المجهول باطل. وقال بعض
الشافعية: الأصح أن الإبراء إسقاط.
والراجح عند الحنابلة (3): أن الإبراء
إسقاط، ولا مانع يمنع الإنسان من إسقاط بعض حقه أو هبته، فقد كلم النبي
صلّى الله عليه وسلم غرماء جابر ليضعوا عنه.
مشروعية الإبراء: الإبراء في الحكم
الغالب له مندوب، قال الخطيب الشربيني: الإبراء مطلوب، فوُسِّع فيه بخلاف
الضمان (أي الكفالة)؛ لأنه نوع الإحسان والبر والصلة، لتضمنه إسقاط الحق عن
المدين، ولو لم يكن معسراً، قال تعالى: {وإن كان ذو عُسْرَة، فَنَظِرة إلى
مَيْسرة، وأن تَصدَّقُوا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:280/ 2].
_________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 99/ 4، الفروق: 111/ 2.
(2) المحلي على المنهاج مع حاشية القليوبي وعميرة: 326/ 2 ومابعدها، مغني
المحتاج: 202/ 2، أشباه السيوطي: ص 152.
(3) كشاف القناع: 379/ 3، 385، 336/ 4، المغني: 483/ 4.
(6/4370)
المبحث الثاني ـ ركن
الإبراء:
ركن الإبراء عند الحنفية: هو الإيجاب فقط الصادر من صاحب الحق المبرئ،
الدال دلالة واضحة على ترك حقه والتنازل عنه. باعتبار أن الركن هو جزء
الشيء الذي لا يتحقق بدونه. أما بقية عناصر الإبراء من متعاقدين ومحل فهي
أطراف العقد، وليست ركناً.
أما الجمهور فقالوا: للإبراء أركان أربعة: صاحب الحق المبرئ، والمدين
(المبرأ)، والصيغة، والمبرأ منه (محل الإبراء من دين أو عين أو حق) باعتبار
أن الركن: هو كل ما يتوقف عليه وجود الشيء، سواء أكان جزءاً داخلاً فيه وهو
الإيجاب وحده، أو الإيجاب والقبول معاً، أم خارجاً عنه كالأطراف والمحل.
هل يحتاج الإبراء إلى قبول؟ يرى الجمهور
غير المالكية (1): أن الإبراء لا يحتاج إلى قبول، فينعقد بمجرد الإيجاب؛
لأنه عند الحنفية والحنابلة إسقاط، والإسقاطات كالطلاق والعتق لا تحتاج إلى
قبول، سواء أكان التعبير بلفظ الإبراء أم بلفظ هبة الدين للمدين، وطالب بعض
الحنفية بالقبول في هبة الدين للمدين، والمشهور هو الأول.
وبالرغم من أن الراجح لدى الشافعية أن الإبراء تمليك المدين ما في ذمته كما
بينت، فلا يحتاج إلى القبول؛ لأن المقصود منه الإسقاط.
ومثال الإيجاب: أن يقول: أبرأتك من ديني، أو أحللتك منه، أو أسقطته عنك، أو
ملكتك إياه، أو تركته لك، ونحو ذلك. نصت المادة 1561 مجلة: «إذا قال أحد:
ليس لي مع فلان نزاع ولا دعوى، أو ليس لي عند فلان حق، أو فرغت
_________
(1) المراجع السابقة.
(6/4371)
من دعواي التي هي مع فلان، أو تركتها، أو
ما بقي لي عنده، أو استوفيت حقي من فلان بالتمام، يكون قد أبرأه».
ويرى المالكية على الراجح: أن الإبراء يحتاج إلى قبول؛ لأنه نقل للملك،
كالهبة فلا بد من القبول في هبة الدين، لمن هو عليه؛ لأنه إبراء.
ويكون القبول في مجلس العقد بالاتفاق، إلا أن الشافعية (1) اشترطوا القبول
لفظاً فوراً فيما لو وكله في إبراء نفسه، ولو من الحاكم. وظاهر المذهب
المالكي جواز تأخير القبول عن الإيجاب، وعبارتهم: من سكت عن قبول صدقته
زماناً، فله قبولها بعدئذ.
واستثنى الحنفية من عدم توقف الإبراء على القبول: الإبراء عن بدلي الصرف،
وعن رأس مال السلم، فيتوقف فيهما الإبراء على القبول؛ لأن الإبراء يؤدي إلى
تفويت القبض المستحق، وفواته يوجب بطلان العقد، ونقض العقد لا ينفرد به أحد
العاقدين، بل لا بد من قبول الطرف الآخر، فإن قبله برئ، وإن لم يقبله لم
يبرأ، وإذا تم الإبراء مع القبول انفسخ عقد الصرف والسلم، لعدم تحقق القبض
المشروط لصحة كل منهما.
أما الإبراء عن المسلم فيه أو عن ثمن المبيع، فيجوز من غير قبول؛ لأن قبض
المسلم فيه أو الثمن ليس بشرط، والإبراء عن دين لا يجب قبضه شرعاً إسقاط
لحق المبرئ لا غير، فيملك الإبراء من نفسه فقط (2).
رد الإبراء:
ذهب الشافعية في الراجح والحنابلة: إلى أن الإبراء يتم بالإيجاب دون حاجة
_________
(1) حاشية القليوبي: 340/ 2، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152.
(2) البدائع: 203/ 5.
(6/4372)
إلى قبول، ولا يرتد بالرد من المدين؛ لأنه
إسقاط عند الحنابلة، كإسقاط القصاص والشفعة، والمقصود منه الإسقاط عند
الشافعية، فيصح الإبراء من الدين ولو رده المدين.
وذهب الحنفية والمالكية: إلى أن الإبراء يرتد بالرد، في المجلس أو بعده،
مادام لم يحدث منه قبول صريح قبل رده؛ لأن الإبراء عند المالكية يفتقر إلى
القبول، ولأن فيه معنى التمليك. ولمراعاة
معنى التمليك عند الحنفية وإن كان إسقاطاً (1)، فنظراً لما فيه من معنى
التمليك فإنه يرتد بالرد.
والرد المعتبر: هو ما يصدر من المبرأ،
أو من وارثه بعد موته. واستثنى الحنفية مسائل أربعاً لا يرتد فيها الإبراء
بالرد وهي (2):
1 و 2 - الإبراء في الحوالة، والكفالة على الراجح؛ لأن الإبراء فيهما إسقاط
محض، ليس فيه تمليك مال، والإسقاط المحض لا يحتمل الرد، لانعدام الساقط
وتلاشيه، فلو أبرأ المحال المحال عليه فرده لا يرتد، ولو أبرأ الدائن
الكفيل فرده لايرتد.
3 - إذا تقدم من المبرأ على الإبراء طلب بأن قال للمبرئ: أبرئني، فأبرأه،
فردّ، لا يرتد.
4 - إذا سبق للمبرأ أن قبل الإبراء، فإذا رده بعدئذ لا يرتد. أما المجلة
العدلية فقد نصت في المادة 1568 على ما يلي بالنسبة للقبول والرد أخذاً
برأي الحنفية:
_________
(1) العناية بهامش تكملة فتح القدير: 44/ 7، الفتاوى الهندية: 365/ 4، 384،
الدر المختار ورد المحتار: 544/ 4، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص152، كشاف
القناع: 336/ 4، حاشية الدسوقي: 99/ 4.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 544/ 4.
(6/4373)
«لايتوقف الإبراء على القبول، ولكن يكون
بالرد مردوداً؛ لأنه إذا أبرأ أحد آخر، فلا يشترط قبوله، ولكن إذا رد
الإبراء في ذلك المجلس بقوله: لا أقبل، يكون ذلك الإبراء مردوداً، يعني لا
يبقى له حكم، لكن لو رده بعد قبول الإبراء لا يكون الإبراء مردوداً، وأيضاً
إذا أبرأ المحال له المحال عليه، أو صاحبُ الطلبِ الكفيل، ورد ذلك المحال
عليه أو الكفيل، لا يكون الإبراء مردوداً».
المبحث الثالث ـ شروط الإبراء:
هناك شروط في المبرئ، وشروط في المبرأ، وشروط في صيغة الإبراء، وشروط في
المبرأ منه (محل الإبراء).
أولاً ـ شروط المبرئ: يشترط في المبرئ ما يلي (1):
1 ً - أن يكون من أهل التبرع، أي عاقلاً
بالغاً راشداً غير محجور لسفه أو لدين؛ لأن الإبراء تبرع من الدائن؛ إذ لا
يقابله عوض من المدين. وشرْط عدم الحجر لدين عند الحنفية على المفتى به من
رأي الصاحبين بجواز الحجر على المدين هو شرط نفاذ، فإبراء المحجور عليه
بسبب الدين صحيح موقوف على إجازة الدائنين، حفاظاً على حقوقهم.
2 ً - أن يكون ذا ولاية على الحق المبرأ منه:
بأن يكون مالكاً له، أو موكلاً بالإبراء منه، أو وصياً على الدائن.
والإجازة اللاحقة عند من يجيز تصرف الفضولي لها حكم الوكالة السابقة.
_________
(1) الدر المختار: 531/ 4، تكملة ابن عابدين: 328/ 2، الفتاوي الهندية:
355/ 4، مرشد الحيران: م184، 185، 197، 198، الشرح الكبير: 98/ 4، القليوبي
وعميرة: 326/ 2، و 159/ 3، 162، كشاف القناع: 329/ 4، 336، مغني المحتاج:
202/ 2، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص152.
(6/4374)
والعبرة عند الحنفية والحنابلة في ولاية
المبرئ بالواقع لا في الظن، فلو أبرأ عن شيء من مال أبيه ظاناً أنه حي،
فتبين حين الإبراء أنه ميت، صح الإبراء؛ لأنه إسقاط، ولأن الشيء المبرأ منه
كان مملوكاً له في الواقع، كبيع مال مورثه الميت مع ظن الحياة. وإذا اعتبر
الإبراء تمليكاً كما يرى الشافعية في الأصح، لم يصح هذا الإبراء.
3 ً - الرضا: يشترط الرضا والاختيار من
المبرئ، فلا يصح إبراء المكرَه.
التوكيل بالإبراء: يصح التوكيل
بالإبراء، بشرط وجود إذن خاص به، ولا يكفي له الإذن بعقد ما. ولا يجوز عند
الحنفية للوكيل المأذون بالإبراء توكيل غيره.
ويكفي عند الشافعية (1) في صحة الوكالة بالإبراء: علم الموكل بقدر الدين،
وإن جهله الوكيل والمديون. ولا يصح عندهم بناء على أن الإبراء تمليك توكيل
المدين ليبرئ نفسه، كما لو وكله ليبيع من نفسه، وأما بناء على القول الثاني
وهو أن الإبراء إسقاط فيصح توكيل المدين ليبرئ نفسه.
الإبراء في مرض الموت: يتفرع عن الشرط
الأول ألا يكون المبرئ مريضاً مرض الموت: فإن أبرأ المريض وارثاً، توقف
الإبراء على إجازة الورثة، ولو كان الدين أقل من الثلث. وإن أبرأ أجنبياً،
والدين يجاوز ثلث التركة، توقف الإبراء في الزائد عن الثلث على إجازة
الورثة؛ لأن الإبراء تبرع له حكم الوصية. وإن أبرأ المريض أحد المدينين،
وكانت التركة مستغرقة بالديون، لم ينفذ إبراؤه، لتعلق حق الغرماء (2).
_________
(1) مغني المحتاج: 222/ 2، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152.
(2) الفتاوى الهندية: 382/ 4، العناية بهامش فتح القدير: 281/ 6، فتح
القدير: 23/ 7، القليوبي وعميرة: 159/ 3، 162، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص
152، المجلة العدلية: م 1570، 1571، الشرح الكبير: 98/ 4.
(6/4375)
ثانياً ـ شروط المبرأ: يشترط باتفاق
الفقهاء على المذهب لدى الحنابلة (1) في الطرف المبرأ أن يكون معلوماً
معيناً، غير مجهول، ولا مبهم، فلو أبرأ أحد غريميه (مدينيه)، فقال لهما:
أبرأت أحدكما، فلا يصح. وكذا لو قال: أبرأت كل مدين لي، أو كل مدين لمورثي،
لا يصح كما أن الإقرار ببراءة كل مدين له، لا يصح، إلا إذا قصد مديناً
معيناً أو أناساً محصورين. فإذا قال: أبرأت هؤلاء المدينين لي، صح.
وعلل الشافعية عدم صحة الإبراء مع جهالة المدين المبرأ بأن الإبراء فيه
معنى التمليك، ولا يصح تمليك المجهول، والإبراء تمليك من المبرئ، إسقاط عن
المبرأ عنه، فيشترط علم الأول دون الثاني.
وقد نصت المجلة (م 1567) على هذا الشرط: يلزم أن يكون المبرأون معلومين
ومعينين، بناء عليه، لو قال أحد: أبرأت كافة مديونيّ، أو ليس لي عند أحد
حق، لا يصح إبراؤه. وأما لو قال: أبرأت أهالي المحلة الفلانية، وكان أهل
تلك المحلة معينين، وعبارة عن أشخاص معدودين، فيصح الإبراء.
ويصح إبراء المبرأ، سواء أكان مقراً بالحق أم منكراً له، بل ولو حلف
المنكر؛ لأن الإبراء عند الجمهور غير المالكية ينعقد بمجرد الإيجاب، ولا
يفتقر إلى القبول، ولا حاجة فيه إلى تصديق الغريم.
_________
(1) جامع الفصولين: 125/ 1، ط الأزهرية سنة 1300 هـ، الخرشي: 99/ 6، ط
صادر، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152، كشاف القناع: 337/ 4.
(6/4376)
ثالثاً ـ شروط المبرأ منه (محل الإبراء):
يشترط في المحل المبرأ منه مايلي (1):
1 ً - أن يكون عند الشافعية في الجديد معلوماً: فلا يصح الإبراء من
المجهول: وهو ما لا تسهل معرفته، ويكون الإبراء من المجهول جنساً أو قدراً
أو صفة باطلاً؛ لأن الإبراء تمليك وهو يتوقف على الرضا، ولا يعقل الرضا مع
الجهالة. ولو أبرأه من الدراهم التي عليه، ولا يعلم قدرها، برئ من ثلاثة؛
لأنها أقل الجمع على المعتمد.
لكنهم قالوا: طريق الإبراء من المجهول: أنه يذكر عدداً يتحقق أنه يزيد على
قدر الدين، كمن لا يعلم، هل له عليه خمسة أو عشرة، فيبرئه من خمسة عشر
مثلاً.
واستثنوا من بطلان الإبراء من المجهول: الإبراء من إبل الدية فيصح الإبراء
منها، وإن كانت مجهولة الصفة؛ لأنها معلومة السن والعدد، فيرجع في صفتها
إلى غالب إبل البلد.
واستثنوا أيضاً: ما لو أبرأه بعد موته، فيصح مع الجهل؛ لأنه وصية.
ولم يشترط الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) هذا الشرط، وأجازوا
الإبراء من المجهول قدراً ووصفاً، ولو لم يتعذر علمه؛ لأنه إسقاط حق أو
إسقاط محض كالإعتاق والطلاق، فينفذ مع العلم والجهل، فلو أبرأه من أحد
الدينين صح الإبراء، لكن قال الحنابلة: لو كتم المدين الدين عن الدائن
خوفاً من أن الدائن
_________
(1) تكملة ابن عابدين: 182/ 2 - 183، الشرح الكبير مع الدسوقي: 411/ 3،
مغني المحتاج: 202/ 2 وما بعدها، القليوبي: 326/ 2 ومابعدها، كشاف القناع:
336/ 4.
(6/4377)
لو علم الدين، لم يبرئه، وجهله رب الدين،
لم تصح البراءة عنه؛ لأن فيه تغريراً للمبرئ، وقد أمكن التحرز عنه.
2 ً - ألا يكون المبرأ منه عيناً من الأعيان: لأن العين لا تثبت في الذمة،
والإبراء إسقاط، والذي يقبل الإسقاط: ما يشغل الذمم من الحقوق، فيكون
الإبراء من الأعيان باطلاً، فلو غصب إنسان كتاباً، لم يصح الإبراء منه.
ويصح الإبراء من الديون، ولو كان الدين من الأعيان كالدية من الإبل مثلاً.
ويصح الإبراء من الحقوق، كالإبراء عن حق الدعوى، وإبراء الدائن الكفيل من
الكفالة، والمحال عليه من الحوالة، إذ البراءة فيهما عن حق الكفالة أو
الحوالة.
3 ً - أن يكون المبرأ منه موجوداً عند الإبراء: فيبطل الإبراء من الحق قبل
وجوده، كأن تبرئ شخصاً مما سيقرضه لك، أو مما سيجب له. وبناء عليه، لم يجز
الحنفية إبراء الزوجة زوجها من نفقة مستقبلة، ولا من نفقة العدة قبل أن
يطلقها؛ لأن الإبراء إسقاط، وما سيوجد ساقط فعلاً، فلا يقبل إسقاطاً.
واستدل الفقهاء لعدم صحة الإبراء من الدين قبل وجوبه، بقوله صلّى الله عليه
وسلم: «لاطلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك» (1) والإبراء في
معناهما.
رابعاً ـ شروط صيغة الإبراء: يشترط في صيغة الإبراء وذاته أربعة شروط هي ما
يلي (2):
_________
(1) حديث حسن رواه أبو داود والحاكم بلفظ «لا طلاق إلا فيما يملك، ولا عتق
إلا فيما يملك» ورواه ابن ماجه عن المسور بلفظ «لا طلاق قبل النكاح، ولا
عتاق قبل ملك».
(2) تكملة فتح القدير: 41/ 7، 44 ومابعدها، الدر المختار: 176/ 4، تكملة
ابن عابدين: 330/ 2، الفتاوى الهندية: 378/ 4، 384، البدائع: 45/ 6، 50،
118، الدسوقي: 307/ 2، و89/ 4، 99، 100، فتح العلي المالك: 229/ 1، 322،
335، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152، المجموع: 100/ 10، القليوبي: 292/
2، 45/ 3، 83، 310، 368/ 4، كشاف القناع: 305/ 3، 337/ 4، المغني: 483/ 4
ومابعدها، و564/ 5، مغني المحتاج: 66/ 2.
(6/4378)
1 ً - أن يكون
منجزاً غير معلق بشرط ولا مضاف للمستقبل (1): وهذا شرط عند الجمهور
غير المالكية. فالتنجيز شرط كأن يقول الدائن لمدينه: أبرأتك من ديني؛ لأن
في الإبراء معنى التمليك، والتمليكات لا تقبل التعليق.
والتعليق على شرط: إن كان على شرط موجود
بالفعل، فهو في حكم المنجز. وإن كان على شرط ملائم، مثل: إن كان لي عليك
دين، أو إن مت، فأنت بريء، فهو جائز اتفاقاً، بدليل قول أبي اليسر الصحابي
لغريمه: «إن وجدتَ قضاء فاقض، وإلا فأنت في حلّ» ولم ينكر ذلك عليه. ومنه
قول الحنفية في الإبراء من الكفالة أو الحوالة: إذا قال الدائن للكفيل: إن
وافيتني بالدين غداً، فأنت بريء من الكفالة، فإن وافاه في الغد برأ منها.
وإن علق على الموت، صح في رأي الحنفية والحنابلة؛ لأنه يكون حينئذ في معنى
الوصية، والوصية بالبراءة من الدين جائزة.
وإن علق الإبراء على الشرط المتعارف، لم يجز في مذهب الحنفية، وجاز عند بعض
الحنفية.
أما إن كان التعليق على غير ما ذكر فلا يجوز عند الجمهور، لما في الإبراء
من معنى التمليك، والتمليكات لا تقبل التعليق، والتعليق مشروع في الإسقاطات
المحضة.
وأجاز المالكية تعليق الإبراء مطلقاً، لما فيه من معنى الإسقاط.
_________
(1) التعليق: ربط وجود الشيء بوجود غيره، فهو مانع لانعقاد العقد.
والتقييد: لا يمنع الانعقاد، بل هو لتعديل آثار العقد الأصلية. والإضافة:
لتأخير بدء الحكم في زمن مستقبل.
(6/4379)
وأما التقييد
بالشرط: فيجوز تقييد الإبراء بشرط صحيح باتفاق المذاهب الأربعة، ولا
يصح التقييد بشرط غير صحيح، فإذا أبرأه على أنه بالخيار، صح الإبراء وبطل
الشرط، وإذا أبرأه عن كل حق له عليه، شمل حق الخيار، لكن بالنسبة لسقوط
الخيار، يصح الإبراء ويبطل الشرط؛ لأن الإبراء دون الهبة في كونه تمليكاً.
وأما إضافة الإبراء إلى المستقبل ولو إلى وقت معلوم غير الموت، فلا يصح؛
لأن الأصل في الإبراء هو التنجيز، ولأن الإبراء فيه معنى التمليك، والتمليك
لا يحتمل الإضافة للوقت.
وأما الإبراء بشرط أداء البعض:
آـ فإن صدر مطلقاً عن الشرط: كأن يعترف له بدين في ذمته، فيقول الدائن: قد
أبرأتك من نصفه أو ثلثه، فأعطني الباقي، فالإبراء صحيح اتفاقاً؛ لأنه منجز
غير معلق ولا مقيد بشرط، والمبرئ متطوع بإسقاط بعض حقه بطيب من نفسه، وقد
صح أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لكعب: «ضع الشطر من دَيْنك» (1).
ب ـ وإن كان الإبراء فيه معلقاً على أداء الباقي، لم يجز عند الجمهور، وجاز
عند المالكية، كما تبين في حكم التعليق.
جـ ـ وإن كان الإبراء فيه مقيداً بشرط أداء الباقي، مثل أن يقول: من له على
آخر ألف: أبرأتك عن خمس مئة، بشرط أن تعطيني ما بقي، جاز عند الحنفية
والمالكية والشافعية؛ لأنه استيفاء البعض، وإبراء عن الباقي.
واشترط الشافعية الجمع بين لفظي الإبراء والصلح، ليكون من أنواع الصلح، لكن
لا يحتاج لقبول، نظراً للفظ الإبراء.
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن زياد بن أبي حَدْرد.
(6/4380)
ولا يصح الإبراء المقيد بشرط أداء البعض
عند الحنابلة؛ لأنه إبراء عن بعض الحق في مقابل بقيته، فكأنه عاوض بعض حقه
ببعض.
هذا إذا كان الشرط أداء الباقي، أما إن أبرأه عن البعض بشرط تعجيل الباقي،
لم يجز كما أبان الشافعية؛ لأنه يشبه ربا الجاهلية. فإن عجل المدين وفاء
بعض الدين بغير شرط، فأخذه منه الدائن، وأبرأه مما بقي، فإنه يصح.
2 ً - ألا يتنافى مع الشرع: كالإبراء من
شرط التقابض في الصرف، والإبراء من حق السكنى في بيت العدة، والإبراء من حق
الولاية على الصغير، فلا يصح؛ لأن كل ما يؤدي إلى تغيير المشروع باطل، ولا
يستطيع أحد تغيير حكم الله تعالى.
ويشترط أيضاً ألا يؤدي الإبراء إلى ضياع حق الغير، كالإبراء الصادر من الأم
المطلَّقة عن حق الحضانة، لأنه حق للصغير وللحاضنة.
3 ً - أن يكون للمبرئ ملك سابق في الحق المبرأ
منه: لأنه لا يصح تصرف الإنسان في ملك غيره دون إنابة منه، أو فضالة
عنه عند من يصحح تصرف الفضولي. وهذا شرط متفق عليه؛ لأن تصرف الفضولي جائز
عند القائلين به في حالة الظهور بمظهر المالك، وإلا كان من بيع ما لا يملك،
وهو منهي عنه.
أما الإبراء بعد سقوط الحق أو وفائه، أي بعد قضاء الدين، فهو صحيح عند
الحنفية؛ لأن الساقط بقضائه هو المطالبة، لا أصل الدين، فتسقط مطالبة كل من
طرفي الدين للآخر، لانشغال ذمة كل منهما بدين الآخر، وأما الدينان
فيتساقطان بطريق المقاصة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها. فإذا أبرأ الدائن
المدين بعد وفاء الدين، كان للمدين الرجوع بما أداه، إذا أبرأه براءة
إسقاط، أما إذا أبرأه براءة استيفاء فلا رجوع. ويعرف نوع البراءة عند
الإطلاق بالعرف. وعليه، لو تبرع إنسان بقضاء
(6/4381)
دين لآخر، ثم أبرأ الدائن المدين على وجه
الإسقاط، فللمتبرع أن يرجع على المبرئ
بما تبرع به. هذا رأي الحنفية، ووافقهم الحنابلة فيه (1).
4 ً - أن يقع الإبراء بعد وجوب الحق المبرأ منه
أو وجود سببه: لأن الإبراء إسقاط ما في الذمة، ويكون بعد انشغالها.
وقد اتفق الفقهاء على عدم صحة الإبراء قبل وجود السبب، إذ لا معنى لإسقاط
ما هو ساقط فعلاً، ويكون الإبراء مجرد وعد، وهو غير ملزم.
أما بعد وجود السبب ففيه خلاف: أما الجمهور غير المالكية فاشترطوا كون
الإبراء من الدين بعد وجود السبب، فلا يصح الإبراء قبله، للحديث المتقدم:
«لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك» والإبراء في معناهما.
والأمثلة عند الحنفية: الإبراء عن نفقة الزوجية قبل القضاء بتقديرها،
والإبراء عن ثمن ما تشتريه مني غداً، فلا يصح الإبراء في الحالتين، لأنه
قبل وجود السبب.
ومثل الشافعية بإبراء المفوّضة (2) عن مهرها قبل التقدير والدخول، والإبراء
عن المتعة قبل الطلاق، لعدم الوجوب. واستثنوا صورة يصح فيها الإبراء قبل
الوجوب: وهي ما لو حفر بئراً في ملك غيره بلا إذن، وأبرأه المالك من ذلك
التصرف أو رضي ببقاء البئر، فإن حافرها يبرأ مما يقع فيها. ولو أبرأ
المشتري البائع عن ضمان المبيع إذا تلف قبل القبض، لم يبرأ في الأظهر؛ لأنه
أبرأ عما لم يجب.
أما المالكية فاختلفوا على قولين في صحة الإبراء قبل وجود السبب، وهو
التصرف الذي ينشأ به الحق المبرأ منه، مثل إسقاط المرأة عن زوجها نفقة
المستقبل،
_________
(1) القواعد لابن رجب: ص 120.
(2) المرأة المفوضة: هي التي مات عنها زوجها قبل أن يدخل بها ولم يكن لها
صداق مفروض.
(6/4382)
والقول الراجح أنه يلزمها ذلك أي يصح
إبراؤها. ومثل: إسقاط الشفيع شفعته قبل الشراء، في لزومه قولان.
ومثل: عفو المجروح عما يؤول إليه الجرح، وكإجازة الوارث الوصية للوارث أو
بأكثر من الثلث للأجنبي في مرض الموصي، ونحوهما، فيه قولان.
المبحث الرابع ـ محل الإبراء:
محل الإبراء: إما الأعيان، وإما الديون،
وإما الحقوق (1):
أما الإبراء عن الأعيان: فقد يكون عن دعوى العين أو عن العين نفسها.
أما الإبراء عن دعوى العين فيشمله
الكلام الآتي عن الإبراء عن الحقوق. وهو صحيح بالاتفاق؛ لأنه إسقاط لحق.
وأما الإبراء عن العين نفسها بمعنى
إسقاط ملكية الأعيان فهو غير صحيح اتفاقاً؛ لأن الأعيان ـ كما تبين في شروط
محل الإبراء ـ لا تقبل الإسقاط، فلا يترتب على الإبراء عنها بذاتها أي أثر،
فلا يتملكها المبرأ، بل تظل في يد واضع اليد عليها مملوكة له، فالإبراء
عن الأعيان بمعنى تمليكها لمن هي في يده لا يصح، ويحق لمن ظفر بها
أن يأخذها.
وإذا أطلق هذا التعبير أي البراءة عن العين كان المراد منه عند الحنفية
والشافعية والحنابلة سقوط حق الادعاء بها بعد الإبراء. وفي بعض كتب
الحنفية: يبقى له حق الادعاء بها.
_________
(1) تكملة ابن عابدين: 182/ 2 ومابعدها، الدر المختار وحاشية ابن عابدين:
495/ 4، الدسوقي: 411/ 3، القليوبي وعميرة: 327/ 2، القواعد لابن رجب: ص
119 ومابعدها.
(6/4383)
وعند المالكية: يراد بها سقوط الطلب بقيمة
العين إذا فوتها المبرأ، وسقوط الطلب برفع اليد عنها إن كانت قائمة.
وهناك أثر آخر عند الحنفية للإبراء عن العين نفسها إذا كانت مضمونة كالدار
المغصوبة: وهو سقوط ضمانها، سواء أكانت قائمة أم هالكة، فتصير العين بعد
الإبراء عنها أمانة كالوديعة في يد الغاصب. فإذا كانت العين قائمة كان
الإبراء عنها إبراء عن ضمانها لو هلكت، فتصبح كالأمانة لا تضمن إلا بالتعدي
عليها. وإذا كانت العين هالكة، كان الإبراء عنها إبراء عن قيمتها.
وأما الإبراء عن أعيان هي أمانة فلا محل له، ولا وجه للإبراء عنها، إذ لم
تلحقه عهدتها، فلا يجوز للقاضي أن يسمع دعواه بها بعد البراءة، فتصح
البراءة قضاء، لكن لا تعتبر ديانة بمعنى أنه إذا ظفر بها صاحبها أخذها.
وأما الإبراء عن الديون الثابتة في الذمم:
فهو صحيح بالاتفاق؛ لأن مدار الإبراء هو إسقاط ما في الذمم.
وأما الإبراء عن الحقوق:
آـ فإن كان عن الحقوق الخالصة للعبد كالكفالة والحوالة فهو صحيح اتفاقاً.
ب ـ وإن كان عن الحقوق الخالصة لله عز وجل كحد الزنا، وحد القذف وحد السرقة
بعد الرفع للحاكم عند الحنفية والمالكية، فلايصح الإبراء عنها.
جـ ـ وإن كان عن الحقوق التي يغلب فيها حق العبد كالتعزير والقصاص والدية
وحق القسم بين الزوجات وحق الانتفاع وحق الفسخ بخيار العيب وغرامة تلف
المال، ونحوها من الحقوق الشخصية التي تثبت في الذمم، فيصح الإبراء عنه.
ويجوز الإبراء عن دين المدين بعد وفاته بالاتفاق، وهل يرتد بالرد من
الوارث؟ فيه خلاف عند الحنفية.
(6/4384)
ولا يصح عند الحنفية الإبراء عن الحقوق
التي لا تقبل الإسقاط، كحق الرجوع في الهبة، والرجوع في الوصية؛ لأن في
جوازه تغييراً للمشروع، وهو غير جائز خلافاً للجمهور في رجوع الهبة.
ولا يصح أيضاً الإبراء من خيار رؤية المبيع، ولا من حق الاستحقاق في الوقف،
وحق الإرث.
وأبحث على التخصيص بعض أحكام الإبراء عن بعض
الحقوق لاختصاصها بأحكام خاصة:
1 ً - الإبراء من نفقة الزوجة:
لا يصح بالاتفاق الإبراء من نفقة الزوجة حتى تصبح ديناً قائماً في ذمة
زوجها، أما قبل شغل ذمة الزوج بها، فلا يصح إبراء الزوج عنها؛ لأن الإبراء
لا يكون إلا من دين قائم موجود.
لكن لا تصبح النفقة المستحقة ديناً واجباً عند الحنفية إلا إذا كانت مفروضة
بالقضاء أو التراضي عليها. ويصح الإبراء عن النفقة المتجمدة التي سبق
فرضها، ويصح الإبراء عن نفقة الشهر بدخول الشهر إذا كانت مفروضة مشاهرة،
وعن السنة في بداية السنة إذا فرضت مسانهة، وعن اليوم الأول إن فرضت
مياومة.
2ً
- المبارأة بين الزوجين: تكون المبارأة
بين الزوجين لفسخ الزواج، وإسقاط الحقوق المترتبة عليه، ويترتب عليها عند
الحنفية بينونة الزوجة بطلقة بائنة، كالخلع، مثل أن يقول الزوج لزوجته:
بارأتك على ألف دينار، فتقول له: قبلت، أو نحوه، والمعنى: خالعتك من الزواج
على ألف، وعليها دفع عوض المبارأة.
(6/4385)
3ً
- الإبراء عن حق الدعوى: الإبراء عن
الدعوى إما عام أو خاص:
الإبراء عن الدعوى إبراء عاماً بإسقاط الحق في المخاصمة لا يجوز اتفاقاً؛
لأنه يتناول الموجود وما لم يوجد، والإبراء عما لم يوجد سبب وجوبه باطل.
لكن الإبراء العام عن جميع الدعاوى السابقة بين شخصين صحيح، كأن يقول شخص:
أبرأت فلاناً من جميع الدعاوى، أو ليس لي عنده حق أبداً (1).
والإبراء الخاص عن دعوى معينة صحيح اتفاقاً، ولا تسمع دعواه بعدئذ عن موضوع
تلك الدعوى (2).
وقد يحصل الإبراء ضمناً أو تبعاً، وهو الإبراء عن العين، يكون عند الحنفية
إبراء عن ضمانها أو دعواها، كما بينا.
المبحث الخامس ـ أنواع الإبراء:
لإبراء الإسقاط تقسيمات باعتبارات متعددة، فقد ينقسم بحسب الشمول وعدمه إلى
خاص وعام، وقد ينقسم بحسب الزمن إلى ماض ومستقبل، وقد ينقسم بحسب صيغته إلى
إبراء إسقاط وإبراء استيفاء.
التقسيم الأول ـ الإبراء من حيث الشمول وعدمه:
الإبراء نوعان: عام وخاص (3).
_________
(1) المجلة: م 1565.
(2) المجلة: م 1564.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 495/ 4.
(6/4386)
أما العام: فهو الإبراء عن كل عين ودين وحق
لشخص عند آخر. ويشمل كما أبان الحنفية البراءة عن كل حق، ولو غير مالي
كالكفالة بالنفس والقصاص وحد القذف، والبراءة عما هو بدل مالي كالثمن
والأجرة، وبدل غير مالي كالمهر وأرش الجناية، وما هو مضمون كالمغصوب، أو
أمانة كالوديعة والعارية.
وأما الإبراء الخاص: فهو ما يتناول حقاً معيناً، وحكمه: أنه يختص بمحله،
فإذا أبرأ عن دين خاص برئ عنه، أو عن دين عام كالإبراء عمَّا لشخص عند آخر،
برئ أيضاً. وإذا أبرأ عن دار أو عين أو أمانة برئ.
التقسيم الثاني ـ الإبراء من حيث الزمن
والأشخاص:
يقتصر أثر الإبراء على ما سبق تاريخه، فلا يشمل ما بعده من ديون أو حقوق،
للاتفاق على اشتراط وجود سبب سابق لصحة الإبراء، جاء في فتاوى قاضيخان:
«البراءة السابقة لا تعمل في الدين اللاحق».
وأما أثر الإبراء على غير المبرأ، كإبراء البائع المشتري من بعض الثمن،
فرأى أبو حنيفة ومالك أن الشفيع يستفيد من الإبراء، فيسقط عنه مقدار ما حطه
البائع عن المشتري، ويلتحق حط البعض بأصل العقد.
ورأى الحنابلة والشافعية أن الإبراء يصح، ولا يستفيد منه سوى المشتري، وأما
الشفيع فيدفع الثمن كله أويترك (1).
التقسيم الثالث ـ الإبراء بحسب صيغته:
ينقسم الإبراء عند الحنفية (2) بحسب صيغته إلى إبراء إسقاط وإبراء استيفاء.
_________
(1) فتح القدير والعناية: 271/ 5، الدسوقي: 495/ 3، المغني: 323/ 5.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 176/ 4.
(6/4387)
أما براءة الإسقاط: فتسقط الدين عن الذمة،
مثل: أسقطت، وحططت، وأبرأت براءة إسقاط، وهي قد تكون بالنسبة للدين كله أو
بعضه.
وأما براءة الاستيفاء: فهي عبارة عن الإقرار بأنه استوفى حقه وقبضه، مثل:
أبرأتك براءة استيفاء، أو قبض، أو أبرأتك عن الاستيفاء. وتفيد عدم جواز
المطالبة بالدين بعدئذ.
والفرق بينهما بالنسبة للرجوع على الدائن المبرئ: أن المدين المبرأ يرجع
بما دفع في براءة الإسقاط، لا في براءة الاستيفاء اتفاقاً، ويتفرع عنه أنه
لو علق رجل طلاق امرأته بإبرائها عن المهر، ثم دفعه لها، لا يبطل التعليق،
وإذا أبرأته براءة إسقاط وقع الطلاق ورجع عليها بالمهر.
وبالنسبة لأثرهما يختص إبراء الإسقاط بالديون؛ لأن العبارة فيه صريحة في
إسقاطها، ولا يصح في الأعيان، لعدم صحة إسقاط الأعيان. أما إبراء
الاستيفاء: فإنه يكون في الدين والعين جميعاً؛ إذ الإقرار بالوفاء كما يكون
في الدين يكون في العين، عن طريق دفعها إلى مالكها.
المبحث السادس ـ حكم الإبراء وحكم الرجوع عنه:
حكم الإبراء، أي أثره المترتب عليه إذا صدر مستوفياً شروطه: هو سقوط الحق
المبرأ منه بحسب كون الإبراء خاصاً أو عاماً، فإذا كان خاصاً، لم تجز
المطالبة بالحق، ولا تسمع دعواه فيما تناوله الإبراء. وإذا كان عاماً شمل
جميع الحقوق الموجودة عند صدوره، ولا يشمل ما يحدث بعده من الحقوق.
ولا يقبل من المبرئ الرجوع عن الإبراء ولا العدول عنه في رأي الحنفي
(6/4388)
والحنابلة، وفي الراجح عند الشافعية (1)،
كما لا يقبل الرجوع بالاتفاق إذا زال الملك عن الموهوب.
وكذلك لا يجوز الرجوع عن الإبراء في مذهب المالكية بعد القبول؛ إذ ظاهر
المذهب كما عرفنا اشتراط القبول (2)، كما لا يجوز في الهبة.
واستثنى الحنفية (3) من أثر الإبراء بعدم سماع الدعوى بعده المسائل الآتية:
1 - ادعاء ضمان الدَّرَك في البيع السابق للإبراء: لأنه وإن كان البيع
متقدماً على الإبراء ومشمولاً بأثره، فإن ضمان الدرك متأخر عنه. وضمان
الدرك: هو التزام سلامة المبيع مما يمكن أن يلحقه ويدركه من حقوق لغير
البائع في عينه، وتحمل التبعة عند ظهور حق فيه.
2 - ظهور شيء من الحقوق للقاصر، لم يكن يعلم به، بعد أن بلغ وأبرأ وصيه
إبراءً عاماً، بأن أقر بأنه قبض كامل تركة والده.
3 - ادعاء الوصي ديناً للميت، بعد أن أقر باستيفاء جميع ماله على الناس.
4 - ادعاء الوارث ديناً للمورث، بعد إقراره على النحو السابق.
وسبب استثناء هذه الصور طروء خفاء يعذر به المبرئ في دعواه مع صدور الإبراء
العام منه.
ويلاحظ أن سقوط حق الادعاء بسبب الإبراء إنما هو عند الحنفية بالنسبة
لأحكام القضاء لا الديانة، فلو ظفر المبرئ بحقه أخذه (4).
_________
(1) تكملة ابن عابدين: 182/ 2، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص152، كشاف
القناع: 346/ 4.
(2) الفروق: 111/ 2.
(3) تنبيه ذوي الأفهام لابن عابدين: 91/ 2.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 495/ 4، تكملة ابن عابدين: 182/ 2.
(6/4389)
وقال الشافعية (1): الإبراء في الدنيا
إبراء في الآخرة.
وللمالكية قولان (2)، الظاهر منهما أن الإبراء مطلقاً يشمل أحكام الدنيا
والآخرة، فلا يؤاخذ المولى أحداً بحق جحده، وأبرأه صاحبه منه. والقول
الآخر: لا تسقط عنه مطالبة الله في الآخرة بحق خصمه.
سماع الدعوى بعد الإبراء العام:
لا تسمع الدعوى بعد الإبراء، كما تقدم، ولكن فصَّل الحنفية (3) في الموضوع،
فقالوا: إن كان الإبراء العام عن الدين، فلا تسمع الدعوى بعده إلا عن دين
حادث بعد الإبراء.
وإن كان الإبراء عن عين: فلا تسمع الدعوى بعده إن كان المدعى عليه منكراً
كون العين للمدعي؛ لأن الإبراء من المدعى موافقة على الإنكار.
أما إن كان المدعى عليه مقراً بأن العين للمدعي، لكنه تمسك بإبراء المدعي،
فإن كانت العين قائمة تسمع الدعوى بعد الإبراء عنها، وإن كانت هالكة، كان
الإبراء عن ضمانها، فلا تسمع الدعوى بها بعد الإبراء كالدين.
أثر الإقرار بعد الإبراء:
لا يعتبر ـ كما أبان الحنفية والمالكية (4) ـ الإقرار بالدين بعد صدور
الإبراء العام من الدين إبراء عاماً؛ لأن الدين قد سقط بالإبراء، والساقط
لا يعود.
_________
(1) حاشية قليوبي وعميرة: 327/ 2.
(2) الدسوقي: 411/ 3.
(3) إعلام الأعلام لابن عابدين: 100/ 2.
(4) إعلام الأعلام: 101/ 2، الدسوقي: 411/ 3.
(6/4390)
الإبراء بعوض:
الإبراء بعوض عند الحنفية (1): هو صلح
بمال.
وأجاز الشافعية (2) بذل العوض في الإبراء، كأن يعطيه متاعاً مثلاً مقابل
الإبراء عما عليه من الدين، فيملك الدائن العوض المبذول له، ويبرأ المدين.
لكن لو أعطاه بعض الدين على أن يبرئه من الباقي، فليس العطاء تعويضاً،
وإنما هو من الدائن قبض بعض حقه، ويظل الباقي في ذمة المدين، ويبطل الإبراء
عند الجمهور غير المالكية، كما تقدم في شروط الصيغة.
_________
(1) الدر المختار: 495/ 4.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج: 381/ 3، طبعة إحياء التراث.
(6/4391)
|