الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ السَّادس عَشَر: المقاصّة وفيه مباحث أربعة تشمل: معنى المقاصة ومشروعيتها، ومحلها، وأنواعها وأحكامها (1).
المبحث الأول ـ معنى المقاصة ومشروعيتها:
المقاصة لغة: المساواة، وفقهاً عرفها ابن جزي (2) بأنها اقتطاع دين من دين، وفيها متاركة ومعاوضة وحوالة. وعرفها الدردير (3) بقوله: هي إسقاط مالَكَ من دين على غريمك في نظير ما لَه ُ عليك بشروط. وهذا تعريف يشمل المقاصة الاتفاقية والمقاصة التي يطلبها أحد الطرفين وإن أبى الآخر. وعرفها الحنابلة بأن يستوي الدينان جنساً وصفة وحلولاً وأجلاً وقدراً.
وعرفها ابن القيم بقوله: المقاصة: سقوط أحد الدَّيْنين بمثله جنساً وصفة (4). فإذا كان لخالد دينار عند محمد، ولمحمد دينار عند خالد، تلاقى الدينان قصاصاً، وسقط حق أحدهما في مطالبة الآخر.
_________
(1) انظر بحث المقاصة لأستاذ محمد سلام مدكور في مجلة القانون والاقتصاد، العددان الأول والثاني، السنة السابعة والعشرون، والعدد الرابع من السنة التاسعة والعشرين.
(2) القوانين الفقهية: ص 292.
(3) الشرح الكبير: 227/ 3.
(4) أعلام الموقعين: 321/ 1.

(6/4417)


والمقاصة مشروعة بالاتفاق بين المذاهب لحديث ابن عمر قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم، فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا، وبينكما شيء» (1) فقوله: لا بأس فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة بغيره. وقال البابرتي في العناية (2): إن هذا الحديث يدل على المقاصة استحساناً، وهي المقاصة بين الدين والعين؛ لأن قبض نفس الدين لا يتصور؛ لأنه عبارة عن مال حكمي في الذمة، والدين لا يتعين بالتعيين، فكان قبضه بقبض بدله، وهو قبض العين. أما القياس فيقتضي ألا تقع المقاصة بين الدين والعين، لعدم المجانسة.
والعقل يقضي بجواز المقاصة؛ لأنها الطريقة الوحيدة التي يمكن قضاء الديون بها، ولا يمكن أن تقضى بسواها. وذكر الشافعية والحنابلة أن التقاص يحصل بنفس ثبوت الدينين، ولا حاجة إلى الرضا؛ لأن مطالبة أحدهما الآخر بمثل ما عليه عبث ولا فائدة (3).

المبحث الثاني ـ محل المقاصة:
الأصل في المقاصة أن تقع بين دينين، بأن يكون للمدين دين آخر على دائنه، فيتقاص الدينان، فلا تقع المقاصة بين عين وعين ولا بين دين وعين.
ولكن صرح الحنفية بحصول المقاصة بين الدين والعين. كما تبين، فمن
_________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن ابن عمر (نيل الأوطار: 156/ 5).
(2) العناية بهامش فتح القدير: 380/ 5 ومابعدها.
(3) تحفة المحتاج: 396/ 2، كشاف القناع: 253/ 3، 257.

(6/4418)


اشترى ديناراً بعشرة دراهم هي دين له على بائع الدينار، وقبض الدينار، وقعت المقاصة بنفس العقد.

والحقيقة أن هذه المقاصة وقعت بين دينين من جنس واحد، لا بين دين وعين من جنسين؛ لأن مشتري الدينار لما قبضه، كان قبضه قبض ضمان بالثمن الذي اتفقا عليه وهو العشرة، فثبت بالقبض في ذمته مثلها للبائع، فالتقى الدينان قصاصا، وإن كان الظاهر يوهم أن المقاصة وقعت بين دين وعين من جنسين مختلفين. فهذه الصورة وأمثالها من باب مقاصة الدينين. ويمكن القول بأن المقاصة الجبرية لا تكون إلا في دينين (1).
أما المقاصة الرضائية أو الاتفاقية بين صاحبي الحقين فإنها جائزة بين دين وعين.

المبحث الثالث ـ أنواع المقاصة:
المقاصة إما جائزة أو غير جائزة. والجائزة إما جبرية أو اختيارية (اتفاقية).

أولاً ـ المقاصة الجبرية وشروطها: المقاصة الجبرية: هي التي تحدث بنفسها بين دينين متماثلين جنساً وصفة وقدراً وحلولاً وتأجيلاً، ولا تتوقف على تراضي الطرفين ولا على طلب أحدهما. مثل أن يقترض شخص من آخر نقوداً أو شيئاً يثبت ديناً في الذمة كالمثليات، ثم يبيع المقترض لدائنه متاعاً بثمن معجل من جنس الدين الذي عليه، فتقع المقاصة بين هذين الدينين، بمجرد ثبوت الدين الثاني، جبراً على الطرفين، ولا تتوقف على تراضيهما ولا على طلب من أحدهما.
_________
(1) بحث المقاصة للأستاذ مدكور: ص/9 - 13، العدد الأول من مجلة القانون، السنة 27.

(6/4419)


وهي جائزة عند الحنفية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (1) إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع. ولم يجز المالكية (2) المقاصة الجبرية إلا بناء على طلب أو اتفاق، وأكثر التعريفات عندهم كانت للمقاصة الاتفاقية.

شروط المقاصة الجبرية:
يشترط في المقاصة الجبرية أربعة شروط (3):

1ً - تلاقي الحقين أو الدينين: وهو اجتماعهما في حيِّز واحد أي اجتماعهما لشخص باعتبارين، بأن يكون الشخص دائناً لأحدهما ومديناً بالنسبة للآخر، فلا تتحقق المقاصة إلا إذا كان كل من المتقاصين دائناً ومديناً معاً.
مثاله: لو كان للمشتري على الموكل دين تقع المقاصة لتلاقي الدينين، ولا تقع المقاصة في دين على ولي أو وصي نظير دين المولى عليه لعدم تلاقي الحقين، وتقع المقاصة بين دين لحاضنة الصغير ودين عليها، ولا تقع المقاصة بين الدائن ومدين غريمه، لعدم التلاقي بين هذين الدينين. ولا تجتمع المقاصة الجبرية مع الحوالة؛ لأن الحوالة عند الجمهور تنقل الدين من ذمة المدين إلى ذمة المحال عليه، فإذا ثبت للمدين على دائنه مثل دينه وقعت المقاصة جبراً، ولا يبقى عليه دين يحيل به دائنه على آخر، وإذا ثبت للمدين هذا الدين بعد الحوالة، لا تقع المقاصة لعدم التلاقي، فإن دائنه لم يبق دائناً له، وصار دائناً للمحال عليه.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 250/ 4، الأم للشافعي: 388/ 7 ومابعدها، المادة 154 من مشروع تقنين الشريعة على مذهب أحمد، غاية المنتهى: 114/ 2، كشاف القناع: 296/ 3 ومابعدها.
(2) الحطاب: 549/ 4.
(3) ابن عابدين: 250/ 4، كشاف القناع: 296/ 3، 373، غاية المنتهى: 114/ 2، القوانين الفقهية: ص 292، الدسوقي: 227/ 3 ومابعدها، فتح العزيز شرح الوجيز: 241/ 18، الأنوار: 528/ 2، بحث المقاصة السابق.

(6/4420)


2ً - تماثل الدينين (1): باتحادهما جنساً ونوعاً وصفة وحلولاً وأجلاً. فإذا كان الدينان من جنسين، أو متفاوتين في الوصف، أو مؤجلين، أو أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، لم تقع المقاصة عند الحنفية، وقال المالكية: تصح المقاصة عند اختلاف الجنسين، كأن يكون أحد الدينين عيناً (ذهباً أو فضة) والآخر طعاماً أو عرضاً، أو يكون أحدهما عرضاً والآخر طعاماً، والعرض: ما ليس عيناً (نقداً) ولا طعاماً.
ومن المعلوم أن صنف كل من الدراهم والدنانير جنسان مختلفان عند الحنفية في ظاهر الرواية وعند الشافعية والحنابلة، لكن في المقاصة تعتبر جنساً واحداً استحساناً في رأي بعض مشايخ الحنفية، جاء في الفتاوى الظهيرية: إذا اختلف الجنس وتقاصا، كما لو كان له عليه مئة درهم، وللمديون مئة دينار عليه، فإذا تقاصا تصير الدراهم قصاصاً بمئة من قيمة الدنانير، ويبقى لصاحب الدنانير على صاحب الدراهم ما بقي منها.
وبما أن الأوراق النقدية حلت محل الفلوس الرائجة، فالنقود في زماننا بناء على رأي بعض مشايخ الحنفية تعد جنساً واحداً في المقاصة، عملاً بالعرف في التعامل، والمراعى فيها القيمة لا ذات النقد بخصوصه.
أما عند الشافعية والحنابلة فتعتبر النقود الورقية أجناساً مستقلة بناء على أن صنف الدنانير والدراهم عندهم جنسان، فلا تقع المقاصة بين دينين أحدهما دنانير والآخر دراهم لاختلاف الجنس.
_________
(1) الدين: وصف في الذمة، وليس مالاً في الحقيقة عند الحنفية، ولا يطلق عليه اسم المال إلا تجوزاً؛ لأنه يصير مالاً بعد قبضه، ولا يصير الشيء ديناً في الذمة إلا إذا أمكن ضبطه بالوصف، بأن يكون من المثليات.

(6/4421)


أما تماثل الدينين في الصفات فهو شرط عند الحنفية والحنابلة،. ويعنون بذلك الصفات التي يكون لاختلافها اختلاف في القيمة والانتفاع.
واشترط الحنفية أن يكون الدينان حالّين، فإذا كانا مؤجلين أو كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، حتى وإن كان أجلهما واحداً، لم تقع المقاصة الجبرية.
واشترط الشافعية والحنابلة اتفاق الدينين في الحلول وفي قدر الأجل، فإذا كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، أو كانا مؤجلين واختلف أجلهما، لم تقع المقاصة. أما لو كانا مؤجلين لأجل واحد، فتقع المقاصة في رأي الحنابلة وفي الأصح عند الشافعية.
أما المالكية فقالوا: تجوز المقاصة إن حل الدينان معاً، ولم تجز إن لم يحلا أو حل أحدهما دون الآخر إن اختلف الجنس بأن كان أحدهما ذهباً والآخر فضة، فإن كانا ذهبين أو فضتين، جازت المقاصة إذا كان أجل الدينين قد حل، فإن لم يحل أجلهما أو حل أجل الواحد منهما دون الآخر ففيه قولان، والمشهور الجواز بناء على أن المقاصة متاركة تبرأ بها الذمم، ونظراً إلى بُعْد التهمة. هذا إذا كان الدينان من النقد. فإن كان الدينان طعاماً: فإن كانا من قرض، جازت المقاصة، سواء حل الأجل أم لم يحل. وإن كانا من بيع، لم تجز المقاصة، سواء حل الأجل أم لم يحل؛ لأنه من بيع الطعام قبل قبضه. وإن كان الدينان عرضين فتجوز المقاصة إذا اتفقا في الجنس والصفة سواء حل الأجل أم لم يحل.
واشترط الفقهاء أيضاً اتفاق الدينين في الجودة والرداءة، فإن كان هناك تفاوت فيهما لم تقع المقاصة.
واشترط الحنفية تماثل الدينين في القوة والضعف، فدين النفقة للزوجة لا يقع

(6/4422)


قصاصاً بدين للزوج عليها إلا بالتراضي، بخلاف سائر الديون؛ لأن دين النفقة أدنى.
أما المالكية والشافعية والحنابلة فلم يشترطوا التماثل في القوة.
واشترط الحنفية والشافعية والحنابلة أيضاً التماثل في الرواج والكساد والرخص والغلاء، فلا تقع المقاصة بنفسها إذا كان أحد الدينين من الدراهم الصحيحة، والآخر من الدراهم الغلة: وهي التي يقبلها التجار، ويردها بيت المال، لا لأنها زائفة، بل لأنها مكونة من قطع، وهي التي تسمى مكسرة أو مقطعة (1).

اختلاف السببين: ليس من شرط المقاصة في الدينين أن يكون سببا الدينين من نوع واحد، كأن يكون سبب أحدهما القرض والآخر ثمن مبيع أو أجرة، فإن كان أحدهما من قرض والآخر ثمن مبيع، وقعت المقاصة، وإن اختلف السبب.
وليس من شرط المقاصة في الدينين أن يكون سبب كل منهما جائزاً غير محظور، فلو كان سبب أحدهما جائزاً كالبيع، والآخر محظوراً كالغصب أو كان السببان محظورين كالاستهلاك، وقعت المقاصة، ولا أثر لعدم مشروعية السبب في منع المقاصة، بعد توفر السبب: وهو ثبوت الدين في الذمة بحيث صار كغيره من الديون التي يجب الوفاء بها.

3ً - انتفاء الضرر: يشترط في المقاصة الجبرية ألا يترتب على وقوعها ضرر لأحد، فإذا ترتب عليها ضرر لأحد الطرفين أو لغيرهما، لم تقع المقاصة. قال الحنابلة (2): من عليها
_________
(1) العناية بهامش فتح القدير: 381/ 5.
(2) كشاف القناع: 297/ 3.

(6/4423)


دين من جنس واجب نفقتها، لم يحتسب به عليها من نفقتها مع عسرتها؛ لأن قضاء الدين إنما يكون بما فضل عن النفقة ونحوها، أي أن المقاصة الجبرية بين دين نفقة المرأة ودين عليها لا تقع في حالة الإعسار؛ لأن النفقة مقدمة على وفاء الدين. وهذا ضرر للمدين.
وتجهيز الميت مقدم على الدين كالنفقة، فمن باع شيئاً من التركة لدائن الميت من جنس دينه، لم تقع المقاصة، مراعاة لحق الميت ودفعاً للضرر، وهذا ضرر للمدين.
والدين الموثق بالرهن مقدم على غيره من الديون العادية في استيفاء الدين من الرهن، فلو باع الراهن المرهون لدائن غير مرتهن، ليوفي دين المرتهن، وكان الثمن مثل الدين الذي للمشتري عليه، لم تقع المقاصة. وهذا ضرر لمن تعلق حقه بالعين.
وكما أن ضرر المدين نفسه، وضرر من تعلق حقه بالعين يمنع من المقاصة، كذلك يمنع منها تعلق حق باقي الغرماء، فللقاضي عند الجمهور غير أبي حنيفة أن يحجر على المدين المفلس بطلب غرمائه، وله أن يمنعه من البيع بأقل من ثمن المثل، ومن التصرف والإقرار، حتى لا يضر بالغرماء.
والخلاصة: إذا تعلق بأحد الدينين حق الغير لا تجوز المقاصة. مثال تعلق حق أحد الدينين: أن يبيع الرهن لإيفاء دين الدائن غير المرتهن، ومثال تعلق حق الغرماء: أن يبيع المفلس بعض غرمائه بثمن في الذمة من جنس دينه.
فلا مقاصة في الحالتين، لتعلق حق المرتهن بالمال في الأولى، ولتعلق حق باقي الغرماء في المبيع في الثانية.

(6/4424)


حق الدائن طالب البيع:
إن باع المدين (المحجور عليه) شيئاً لإيفاء دين دائن، وكان المشتري دائناً للمدين البائع بدين من نوع الثمن، وقعت المقاصة جبراً بين دين البائع ودين المشتري؛ لأن هذا المدين غير محجور عليه وتصرف المدين غير المحجور عليه نافذ، ولا حرج على المدين في أن يوفي بعض دائنيه دون البعض الآخر، ولا مانع يمنع المدين المحجور عليه من بيع المال المحجوز، ولا من وقوع المقاصة بثمنه مع المشتري إذا كان غير الدائن طالب البيع الذي حجز له بدينه.

4ً - ألا يترتب على المقاصة محظور ديني:
يشترط في المقاصة الجبرية أخيراً ألا يترتب عليها محظور ديني، كالافتراق قبل قبض رأس مال السلم، والتصرف في المسلم فيه قبل قبضه، وعدم التقابض في مجلس الصرف وفي الربويات التي يجب أن تكون يداً بيد، والتصرف على قاعدة «ضع وتعجل» عند الجمهور ونحو ذلك من المحظورات الشرعية.

ثانياً ـ المقاصة الاتفاقية:
هي التي تتم بتراضي الطرفين ما لم يترتب على ذلك محظور شرعي، سواء اتحد جنس الدينين أم لم يتحد، اتفقت الأوصاف أم اختلفت، وسواء أكان أحد الحقين ديناً والآخر عيناً.

ثالثاً ـ المقاصة غير الجائزة:
لا تجوز المقاصة إذا تخلف شرط من شروطها، ومنها أن يترتب على وقوعها مخالفة حكم شرعي، ويظهر هذا في بعض مسائل الصرف، وفي رأس مال السلم، وفي المسلم فيه، وفيما إذا وجدت شبهة الربا، ولو تراضيا.

(6/4425)


1ً - الصرف (1):
إذا وقعت المقاصة بين ديني المتصارفين بعد انتهاء مجلس عقد الصرف، كانت المقاصة باطلة؛ لأن عقد الصرف يقع باطلاً ولا يثبت به دين، فتبطل المقاصة لعدم قيام الدين في ذمة أحد المتقاصين.
وفيما عدا ذلك تكون المقاصة صحيحة، سواء أكانت بدين سابق، أم بدين لاحق، أم بدين ثبت للمدين على دائنه في المجلس من طريق قبض مضمون.
أـ إذا تصارف شخصان بدين سابق أضافا العقد إليه، جاز، كما إذا كان لرجل على آخر عشرة دراهم، فباعه هذا المدين ديناراً بالدراهم العشرة التي هي عليه دين؛ لأنه بإضافة العقد إلى هذا الدين، تقع المقاصة بالعقد نفسه بلا توقف على إرادة العاقدين لها، ووجه الجواز: أنه جعل ثمن الدينار دراهم لا يجب قبضها ولا تعيينها بالقبض، وهو جائز إجماعاً؛ لأن التعيين بالقبض للاحتراز عن ربا النسيئة، ولا ربا في دين سقط، إنما الربا في دين يقع الخطر في عاقبته (أي احتمال القبض وعدمه) ولذا لو تصارفا دراهم ديناً بدنانير ديناً، صح لفوات الخطر.
ب ـ إذا باع المدين بالعشرة التي لدائنه ديناراً بعشرة مطلقة عن التقييد بدين عليه، ودفع له الدينار، وتقاصا العشرة الثمن بالعشرة الدين، جاز استحساناً (2)؛ لأنه بالتقابض انفسخ العقد الأول، وانعقد صرف آخر مضاف إلى الدين؛ لأنهما لما غيّرا موجب العقد، فقد فسخاه إلى آخر اقتضاه، كما لو جدد البيع بأكثر من
_________
(1) المبسوط: 19/ 14 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 379/ 5 ومابعدها، البدائع: 206/ 5، 218، الدر المختار ورد المحتار: 249/ 4 ومابعدها.
(2) والقياس الذي أخذ به زفر: ألا يجوز، لكونه استبدالاً ببدل الصرف قبل قبضه

(6/4426)


الثمن الأول، أي أن المقاصة تتضمن فسخ العقد الأول، ويكون الفسخ ثابتاً اقتضاء. وهاتان الحالتان مقاصة في دين سابق.
جـ ـ إذا كان الدين لاحقاً للصرف، كما لو باع ديناراً لآخر بعشرة دراهم، وباع مشتري الدينار لبائعه ثوباً بعشرة دراهم في مجلس الصرف، وسلم الثوب، ثم تقاصا العشرة بالعشرة في المجلس، جازت المقاصة في أصح الروايتين؛ لأن العقد الأول ينفسخ اقتضاء، لما قصدا إلى المقاصة.
د ـ إذا حصل الصرف ببيع عين بدين مطلق، ثم ثبت للمدين على دائنه دين في المجلس من طريق قبض مضمون، وقعت المقاصة جبراً من غير حاجة إلى تراض، كما لو استقرض الدائن من المدين مثل الثمن أو غصبه منه؛ لأن القبض قد تحقق.
ويلاحظ أنه في جميع هذه الحالات ما عدا الصورة الأولى لا بد من وقوع المقاصة قبل انتهاء مجلس عقد الصرف، فإذا انتهى المجلس بطلت المقاصة لبطلان الصرف كما تبين.

2ً - المقاصة برأس مال السلم: اتفق الحنفية ـ على ما عليه عامة الكتب عدا البدائع ـ والشافعية والحنابلة (1) على أنه لا تجوز المقاصة برأس مال السلم مع دين آخر مطلقاً، سواء وجب الدين بعقد متقدم أو متأخر عن عقد السلم، ولو تراضيا عليها؛ لأن المقاصة تصرف في دين السلم قبل قبضه، وهو غير صحيح، إذ يشترط قبض جميع رأس مال السلم في مجلس العقد.
_________
(1) تبيين الحقائق: 140/ 4، الأنوار: 265/ 1، كشاف القناع: 296/ 3 ومابعدها.

(6/4427)


3ً - المقاصة بالمسلم فيه: لا تجوز المقاصة أيضاً بالمسلم فيه كما أبان محمد في كتابه «الأصل» (1) فمن أسلم إلى رجل في مد حنطة، ثم أسلم الآخر إليه في مد حنطة، وأجلهما واحد، وصفتهما واحدة أو مختلفة، فلا تصح المقاصة بينهما؛ لأنه بيع ما لم يقبض، فكل منهما لم يقبض شيئاً من مد الحنطة، وإنما أخذ به ديناً عليه، ولايجوز أن يأخذ إلا رأس ماله أو سلمه الذي أسلم فيه.
فإن كان أولهما سلماً والآخر قرضاً، لا يصير أحدهما قصاصاً في الحال؛ لأن المقاصة عبارة عن المساواة، ولا مساواة بينهما؛ لأن أحدهما معجل، والآخر مؤجل، والمعجل خير من المؤجل، فإن حل أجل السلم، كان أحدهما قصاصاً بالآخر.
وإن كان الأول منهما قرضاً والآخر سلماً، فلا مقاصة بينهما، وإن تراضيا على المقاصة.

4ً - رأس مال السلم بعد الإقالة: حكم رأس مال السلم إذا حصلت فيه إقالة كحكم المسلم فيه، وبما أنه لا تجوز المقاصة في المسلم فيه؛ لأنه مبيع منقول لا يجوز التصرف فيه قبل القبض، لا تجوز المقاصة في رأس مال السلم بعد الإقالة، فإن تقايلا السلم، لم يكن له أن يشتري من المسلم إليه برأس المال شيئاً حتى يقبضه كله (2)، لقوله عليه الصلاة والسلام:
_________
(1) المبسوط: 168/ 12.
(2) الهداية مع فتح القدير: 345/ 5 ....

(6/4428)


«لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» (1) أي عند الفسخ، ولأنه أخذ شبهاً بالمبيع، فلا يحل التصرف فيه قبل قبضه.

5ً - شبهة الربا: اتفق الأئمة على تحريم ما فيه شبهة الربا، فكل قرض جر نفعاً فهو ربا حرام، وعملاً بمبدأ سد الذرائع المتفق عليه بين الأئمة، وإن اختلفوا في مداه وتطبيقاته. فإذا أدت المقاصة إلى شيء من الربا، كانت غير جائزة.
ومن أمثلتها في بيوع الآجال كما ذكر المالكية (2): باع له عشرة أرادب من الطعام بعشرة دراهم أي إلى أجل، وبعد أن غاب على الطعام وانتفع به، باع لبائعه عشرين أردباً من نوع ما اشتراه بعشرة دراهم، وتقاصا العشرة بالعشرة، لم يجز؛ لأنه أسلفه عشرة أرادب انتفع بها، ثم رد إليه عشرين أردباً، والثمن بالثمن ملغى؛ لأنه مقاصة، فهو قرض جر نفعاً.

المبحث الرابع ـ أحكام المقاصة:
يراد بالحكم هنا الأثر المترتب على الشيء أو مقتضاه.
مقتضى المقاصة (3): هو الإسقاط، لكنه ليس إسقاطاً محضاً، وإنما هو إسقاط فيه معنى الوفاء، أي إسقاط بعوض، والعوض هو إسقاط فيه معنى.
_________
(1) هذا أثر رواه عبد الرزاق عن ابن عمر، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو، وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (نصب الراية: 51/ 4).
(2) شرح الرسالة: 140/ 2.
(3) بحث المقاصة السابق.

(6/4429)


الوفاء، أي إسقاط بعوض، والعوض هو إسقاط الآخر حقه، كما هو الحال في الطلاق على الإبراء، فكل من الطلاق والإبراء إسقاط، وكل منهما في مقابلة الآخر، فتكون المقاصة إسقاطاً فيها معنى المعاوضة، قال المالكية: إن المقصود من المقاصة: المعاوضة والإبراء. وقال الحنفية: إن في المقاصة وفاء، بل الوفاء في نظرهم لا يكون إلا من طريق المقاصة.
وهو إسقاط يقع جبراً، حتى في المقاصة التي لا تكون إلا عن تراض في رأي الحنفية.

ولكن ما الذي يسقط بالمقاصة؟ أهو نفس الدين أو المطالبة به؟ قال الجمهور غير الحنفية: إن المقاصة تسقط الدينين إن كانا متساويين، وتسقط مقدار الأقل منهما إن كانا متفاضلين، فيسقط من الأكثر بقدر الأقل إن تفاوتا قدراً، وتبرأ الذمم بها براءة إسقاط، لا براءة مطالبة فحسب.
ويرى الحنفية أن المقاصة لا تسقط أصل الدين، وإنما تسقط المطالبة به فقط، أما الدين فيبقى شاغلاً للذمة، وإن لم تصح المطالبة به، فهو أشبه بالحق الذي لا تسمع الدعوى به للتقادم، ويترتب عليه أنه يصح الإبراء من الدين بعد المقاصة براءة إسقاط، وتصح هبته، ويصح الحط منه، ويرجع من تبرع بقضاء دين عن إنسان على من أداه له إذا أبرأه غريمه منه، بعد هذا، براءة إسقاط. وهذا في الواقع رأي غريب تأباه العدالة، فمن أدى دينه إلى غريمه أو قاصه فيه، لا يفهم منه إلا أنه قام بما يلغي تبعته، ويطهر ذمته، لا أنه يسعى إلى دفع المطالبة فقط.
وإن كانت العين خيراً من الدين وتفضله؛ لأن الدين على خطر التوى والضياع، فهذا يظهر في دين يبقى دائماً، لا في دين ثابت يوفيه صاحبه بالعين،

(6/4430)


فينقضي بحصول هذا الوفاء. وإذا قلنا بأن الوفاء يثبت به دين في ذمة المستوفي، ووجد إذ ذاك دينان متماثلان متلاقيان، فلم لا يسقط أصل الدين، وتسقط المطالبة به وحدها (1)؟

نقض المقاصة: إذا تمت المقاصة على وجه صحيح، لا يمكن نقضها لا بالفسخ ولا بغيره، إذ أن الساقط لا يعود، فمتى سقط الدين وتلاشى لا يمكن النقض.
لكن قد يطرأ بعد وقوع المقاصة الصحيحة ما يجعل أحد الدائنين لا حق له في استيفاء كل الدين الذي وقعت فيه المقاصة، فتنقض بالقدر الذي لا حق له في استيفائه، كما أنه يطرأ بعد وقوعها ما يقتضي زوال أحد الدينين، فتنقض من أجل ذلك.
مثال الحالة الأولى: إذا كان على رجل ألف دينار قرضاً، ثم باع المقترض لمقرضه في حال الصحة عيناً كسجادة مثلاً بألف دينار مؤجلة، ثم مرض المقترض، وحل الأجل، وعليه ديون، وقعت المقاصة.
فإن مات وعليه ديون، كان الغرماء أسوة المشتري فيما عليه من الثمن. ومعنى هذا أن المقاصة وقعت في حياته بكل الثمن، إذ لا يمكن للغرماء الاعتراض عليه في حياته، لعدم تبين أنه في حالة مرض موت، فإذا مات في مرضه هذا، تبين أن حق الغرماء متعلق بماله من وقت ثبوت سببه وهو مرض الموت، فلا يكون للمشتري أن يستوفي من دينه إلا بقدر ما يصيبه مع الغرماء، وتبطل المقاصة التي وقعت صحيحة في حياة المريض، بالقدر الذي زاد على حصة المشتري.
ومثال الحالة الثانية: إذا كان على الوكيل دين للمشتري، يصير الثمن قصاصاً. فإذا لم يسلم الوكيل ما باع حتى هلك المبيع في يده، بطلت المقاصة؛ لأن المبيع لما هلك قبل التسليم، انفسخ البيع من الأصل، وصار كأن لم يكن.
_________
(1) بحث المقاصة للأستاذ سلام مدكور في مجلة القانون ـ العدد الرابع للسنة 29: ص 34.

(6/4431)