الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ السّابع عشر: الإكْرَاه
خطة الموضوع:
الكلام عن الإكراه (1) في المباحث الأربعة التالية:
المبحث الأول ـ حقيقة الإكراه ونوعاه.
المبحث الثاني ـ شروط الإكراه.
المبحث الثالث ـ أثر الإكراه في التصرفات الحسية.
المبحث الرابع ـ أثر الإكراه في التصرفات الشرعية.
وبحثها على الترتيب المذكور.
المبحث الأول ـ حقيقة الإكراه ونوعاه:
حقيقة الإكراه: الإكراه لغة: حمل الغير
على أمر لا يرضاه قهراً. وهذا ينافي المحبة والرضا، ولذا اقترن الحب
والإكراه في قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا
شيئاً وهو شر لكم} [البقرة:216/ 2].
وهو في اصطلاح الفقهاء: حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار
_________
(1) هناك تشابه بين الإكراه والحجر، لأن في كل منهما سلب ولاية المختار عن
ممارسة تصرفاته (تكملة الفتح: 309/ 7).
(6/4432)
مباشرته، لو ترك ونفسه. وقد عرفه السرخسي
في المبسوط بأنه: «فعل يفعله الإنسان بغيره، فينتفي به رضاه، أو يزول به
اختياره».
والمقصود بالرضا: هو الارتياح إلى فعل الشيء والرغبة به.
والمقصود بالاختيار: هو ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس.
نوعا الإكراه: الإكراه عند الحنفية
نوعان: إكراه ملجئ أو كامل، وإكراه غير ملجئ أو قاصر.
والإكراه الملجئ: هو الذي لا يبقى للشخص
معه قدرة ولا اختيار، وهو بأن يهدده بما يلحق به ضرراً في نفسه، أو في عضو
من أعضائه. وحكمه: أنه يعدم الرضا ويفسد الاختيار، مثاله التهديد بالقتل أو
التخويف بقطع عضو أو بضربٍ مبرِّح (أي شديد) متوال يخاف منه إتلاف النفس أو
العضو، سواء قل الضرب أم كثر.
والإكراه غير الملجئ أو الناقص: هو
التهديد بما لا يضر النفس أو العضو، كالتخويف بالحبس أو القيد، أو الضرب
اليسير الذي لا يخاف منه التلف، أو بإتلاف بعض المال. وحكمه: أنه يعدم
الرضا، ولا يفسد الاختيار (1).
وهناك نوع ثالث عند الحنفية وهو الإكراه الأدبي: وهو الذي يعدم تمام الرضا،
ولا يعدم الاختيار، كالتهديد بحبس أحد الأصول أو الفروع، أو الأخ أو الأخت،
أو نحوهم. وحكمه أنه إكراه شرعي استحساناً لا قياساً، كما قرر الكمال بن
الهمام من الحنفية، ويترتب عليه عدم نفاذ التصرفات المكره عليها (2).
_________
(1) البدائع: 175/ 7، تكملة فتح القدير: 292/ 7 ومابعدها، تبيين الحقائق:
181/ 5، درر الحكام: 269/ 2 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 88/ 5
ومابعدها، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي للمؤلف: ص 185 ومابعدها، الشرح
الصغير: 546/ 2 ومابعدها، ط دار المعارف.
(2) بحث الإكراه بين الشريعة والقانون للشيخ زكريا البرديسي: ص 372.
(6/4433)
ويرى الشافعي أن الإكراه نوع واحد وهو
الإكراه الملجئ، وأما غير الملجئ فلا يسمى إكراهاً. قال الشافعية: يحصل
الإكراه بتخويف بمحذور كضرب شديد وحبس طويل وإتلاف مال. ويختلف أثره
باختلاف أحوال الناس، فلا يحصل الإكراه بالتخويف بالعقوبة الآجلة كقوله:
لأضربنك غداً، ولا بالتخويف بالمستحق كقوله لمن عليه قصاص: افعل كذا وإلا
اقتصصت منك. وشرط الإكراه: قدرة المُكْرِه على تحقيق ما هدد به بولاية أو
تغلب عاجلاً ظلماً، وعجز المستكره عن دفعه بهرب أو غيره وظن أنه إن امتنع
من فعل ما أكره عليه حقق المهدد به. ولا ينفذ تصرف المستكره بغير حق، لكن
يقتص منه بمباشرته جناية القتل ونحوه (1).
المبحث الثاني ـ شروط الإكراه:
يشترط لتحقق الإكراه أحد عشر شرطاً، وهي ما يأتي:
الأول ـ أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدد به، وإلا كان هذياناً،
وبناء عليه كان أبو حنيفة يقول: لا إكراه إلا من السلطان؛ لأن غير السلطان
لا يتمكن من تحقيق ما هدد به.
وقال الصاحبان والأئمة الثلاثة: يتحقق الإكراه من السلطان وغيره؛ لأن إلحاق
الضرر بالغير يمكن أن يتحقق من كل متسلط.
وهذا الاختلاف بين الإمام وصاحبيه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان،
فقد أفتى الإمام بحسب زمانه، ثم تغير الحال في زمان الصاحبين،
_________
(1) تحفة الطلاب للأنصاري: ص 272 ويظهر أن هذا هو رأي المالكية والحنابلة.
(6/4434)
فتغيرت الفتوى على حسب الحال. قال
البغدادي: الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به
سلطاناً كان أو غيره (1).
الثاني ـ أن يغلب على ظن المستكره أن المكره
سينفذ تهديده لو لم يحقق ما أكره عليه، وأنه عاجز عن التخلص من
التهديد بالهرب أو الاستغاثة أو المقاومة.
الثالث ـ أن يكون الأمر المكَره به متضمناً إتلاف نفس أو عضو أو مال أو
متضمناً أذى بعض الناس الذين يهمه أمرهم، كالتهديد بحبس الزوجة، أو
الوالدين، أو يلحق به غماً يعدم الرضا بحسب حاله، فمن الناس من يغتم بكلام
خشن، ومنهم من لا يغتم إلا بالضرب المبرح.
الرابع ـ أن يكون المستكره ممتنعاً عن الفعل الذي أكره عليه قبل الإكراه:
إما لحقه كبيع ماله، أو لحق شخص آخر كإتلاف مال الغير، أو لحق الشرع كشرب
الخمر والزنا.
الخامس ـ أن يكون المهدد به أشد خطراً على المستكره مما أكره عليه، فلو هدد
إنسان بصفع وجهه إن لم يتلف ماله أو مال الغير، وكان صفع الوجه بالنسبة
إليه أقل خطراً من إتلاف المال، فلا يعد هذا إكراهاً.
السادس ـ أن يترتب على فعل المكره به الخلاص من
المهدد به: فلو قال إنسان لآخر: (اقتل نفسك، وإلا قتلتك) لا يعد هذا
إكراهاً عند الجمهور، والراجح عند الحنابلة؛ لأنه لا يترتب على قتل النفس
الخلاص مما هدد به، فلا يصح حينئذ للمستكره أن يقدم على ما أكره عليه.
السابع ـ أن يكون المهدد به عاجلا ً:
فلو كان آجلاً لم يتحقق الإكراه؛ لأن
_________
(1) مجمع الضمانات: ص 204.
(6/4435)
التأجيل مظنة التخلص مما هدد به بالاستغاثة
والاحتماء بالسلطات العامة. وهذا شرط عند الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة.
وقال المالكية: لا يشترط أن يكون المهدد به عاجلاً، وإنما الشرط أن يكون
الخوف حاَّلاً. وهذا هو الأرجح في تقديري.
الثامن ـ ألا يخالف المستكره المكره بفعل غير
ما أكره عليه أو بالزيادة عليه، أو بالنقصان عنه، فإن خالفه في هذه
الأحوال الثلاثة، كان طائعاً فيما أتى به، فلا يكون مستكرهاً. وهذا رأي
الشافعية والمالكية.
فلو أكره إنسان شخصاً على طلاق امرأته، فباع داره، أو أكره على طلقة واحدة
رجعية، فطلقها ثلاثاً، أو أكرهه على طلاق امرأته ثلاثاً، فطلقها واحدة،
فهذه الصور الثلاث نافذة عندهم؛ لأنها ليست من الإكراه في شيء.
وقال الحنفية والحنابلة: المخالفة بالنقصان، بأن أتى الشخص أنقص مما أكره
عليه، تجعل الشخص مكرهاً غير مختار، أما في حالة الزيادة أو فعل غير المكره
عليه فلا تجعله مكرهاً، وإنما يكون مختاراً، كما قال الشافعية والمالكية.
التاسع ـ اشترط الشافعية أن يكون المكره عليه
معينا ً بأن يكون شيئاً واحداً، فلو أكره إنسان على طلاق زوجته
(فلانة) عد هذا إكراهاً، أما لو أكره على طلاق إحدى امرأتيه، أو على قتل
زيد أو عمرو، فلا يعد هذا إكراهاً.
ولم يشترط الحنفية والمالكية والحنابلة هذا الشرط، فلو أكره رجل على أن
يطلق إحدى امرأتيه، فطلق واحدة كان مكرَهاً، وهو الرأي الأرجح لدي.
العاشر ـ ألا يكون المهدد به حقاً للمكره يتوصل به إلى ما ليس حقاً له ولا
واجباً: فإذا كان المكره به حقاً للمكره يتوصل به إلى ما ليس حقاً له ولا
واجباً
(6/4436)
كتهديد الزوج زوجته بطلاقها إن لم تبرئه من
دينها، فلا يكون إكراهاً، وقال بعضهم: يعتبر إكراهاً لأن الزوج سلطان
زوجته، فيتحقق منه الإكراه.
وهذا الشرط عند المتأخرين من الشافعية، ويوافقهم الحنفية فيه. أما الإمام
أحمد فلم يشترط هذا الشرط، فالإكراه يتحقق عنده، ولو كان المهدد به حقاً
للمكره (1). وهذا هو المعقول.
الحادي عشر ـ ألا يكون المكره عليه مستحقاً على المستكره: كتهديد المفلس
المحجور عليه ببيع ماله، وتهديد القاتل عمداً بالقصاص، وتهديد المولي (حالف
يمين الإيلاء) بالتطليق عليه، فكل هذا ليس بإكراه، لأن الأمر المهدَّد به
مستَحَق على المستكره.
والخلاصة: اتفق الشافعية والحنابلة على شروط ثلاثة للإكراه هي:
أولاً ـ قدرة المكره على تحقيق ما هدد به بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه.
وثانياً ـ عجز المستكره عن دفع الإكراه بهرب أو غيره، وأن يغلب على ظنه
نزول الوعيد به إن لم يجبه إلى ماطلبه.
وثالثاً ـ أن يكون مما يستضر به ضرراً كثيراً كالقتل والضرب الشديد، والقيد
والحبس الطويلين، وإتلاف مال ونحوه. أما الشتم أو السب فليس بإكراه.
واشترط الشافعية أيضاً أن يكون الإكراه بغير حق.
_________
(1) راجع البدائع: 176/ 7، تكملة فتح القدير: 293/ 7، الكتاب مع اللباب:
107/ 4، تبيين الحقائق: 182/ 5، الدرالمختار مع حاشية ابن عابدين عليه: 89/
5 ومابعدها، بحث الإكراه بين الشريعة والقانون للأستاذ زكريا البرديسي: ص 7
ومابعدها، مغني المحتاج: 289/ 3 ومابعدها، المغني: 120/ 7، القوانين
الفقهية: ص 227 ومابعدها.
(6/4437)
المبحث الثالث ـ أثر
الإكراه في التصرفات الحسية (أي الفعلية أو الوقائع المادية):
الذي يقع عليه الإكراه من الفعل أو الترك: إما أن يكون من الأمور الحسية أو
من الأمور الشرعية، والمكره به في كل منهما: إما معين أو مخير فيه.
أما التصرفات الحسية المعينة فيتعلق بها حكمان: أحدهما بالنسبة للآخرة،
والثاني بالنسبة للدنيا.
أما أحكام الآخرة في التصرفات الحسية المكره
عليها، فتختلف بحسب نوع التصرف، وأنواع التصرف الحسي ثلاثة: مباح،
ومرخص فيه، وحرام.
1 - التصرف الحسي المباح بالإكراه: هو
أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر، وحكمه أنه يختلف بحسب نوع
الإكراه: فإن كان الإكراه ملجئاً أو تاماً كالتخويف بالقتل أو قطع العضو
ونحوه، فتباح هذه الأفعال؛ لأن الله تعالى أباحها عند الضرورة، فقال سبحانه
{إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119/ 6] فلو امتنع المستكره عن تناولها حتى
قتل يؤاخذ به؛ لأن امتناعه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، والله تعالى يقول:
{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2].
وإن كان الإكراه ناقصاً كالتهديد بالحبس والضرب اليسير، فلا يباح الإقدام
عليها، ولا يرخص فيها أيضاً، حتى إنه يأثم بالإقدام عليها؛ لأنه يجب عليه
تقديم حق الله تعالى على حق نفسه (1).
والخلاصة: أن هذه التصرفات لاتباح إلا بالإكراه الملجئ.
_________
(1) البدائع: 176/ 7، تبيين الحقائق: 185/ 5، الدر المختار: 92/ 5، تكملة
فتح القدير: 198/ 7، الكتاب مع اللباب: 110/ 4.
(6/4438)
2 - التصرف الحسي
المرخص بالإكراه: هو كإجراء كلمة الكفر على اللسان
مع اطمئنان القلب بالإيمان، أو سب النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، أو
الصلاة إلى الصليب، أو إتلاف مال المسلم، فهذه الأمور لا تباح، ولكن يرخص
فعلها عند الإكراه التام، وإن امتنع المستكره عن فعلها حتى قتل، كان مثاباً
ثواب الجهاد؛ لأن تحريمها لم يسقط عن فاعلها. وأما وإن كان الإكراه ناقصاً،
فلا يرخص فيها أصلاً، ويحكم بكفر فاعلها، وإن كان قلبه مطمئناً بالإيمان،
وهذا مذهب الحنفية والمالكية. وعليه، لا يرخص بهذا التصرف إلا في حالة
الإكراه الملجئ.
ورخص الشافعية والحنابلة والظاهرية التلفظ بالكفر عند الإكراه الناقص؛ لأن
الكثير من حوادث الإكراه على الكفر في بدء الإسلام كانت إكراهاً ناقصاً،
فهذا هو الراجح إذن من الرأيين.
والترخيص بإجراء كلمة الكفر عند الإكراه التام ثابت بقوله تعالى: {من كفر
بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر
صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل:16/ 106]. وهذا هو مذهب
الجمهور والظاهرية.
أما المالكية: فلا يبيحون إجراء كلمة الكفر على اللسان إلا في الإكراه على
القتل فقط، أما الإكراه بقطع عضو، فلا يعتبرونه مبيحاً لإجراء كلمة الكفر
على اللسان.
ويلاحظ أن الامتناع عن الكفر أفضل، بدليل ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ
اثنين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما: ما تقول في
محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول في؟ قال: وأنت أيضاً، فخلى سبيله.
وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: كما تقول في؟ قال: أنا
أصم، لا
(6/4439)
أسمع، فأعاد عليه ثلاث مرات، فأعاد جوابه،
فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أما الأول فقد أخذ
برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئاً له» (1).
وأما الترخيص بسبِّ النبي صلّى الله عليه وسلم عند الإكراه، فهو جائز لما
روي أن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، لما أكرهه الكفار على سبِّ محمد صلّى
الله عليه وسلم، رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: ما وراءك
يا عمار؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركوني حتى نلت منك، فقال له الرسول
صلّى الله عليه وسلم: «إن عادوا فعد» (2).
ولو امتنع المستكره عن سب النبي حتى مات كان مأجوراً، بدليل ما روي من قصة
خبيب، فقد أخذه المشركون وباعوه من أهل مكة، فأخذوا يعذبونه على أن يذكر
آلهتهم بخير، ويسب محمداً، فلم يسب إلا آلهتهم، ولم يذكر محمداً إلا بخير،
ولما يئسوا من كفره، أجمعوا على قتله، فسألهم أن يصلي ركعتين، فأوجز في
صلاته حتى لا يظنوا أنه يخشى الموت، ثم سألهم أن يلقوه على وجهه ليموت وهو
ساجد، فأبوا عليه ذلك، فرفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني لا أرى إلا
وجه عدو، فاقرأ رسول الله مني السلام، ثم قال: اللهم أحص هؤلاء عدداً،
واجعلهم بدَد َا َ، ولا تبق منهم أحداً، ثم أنشأ يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
فلما قتلوه وصلبوه، تحول وجهه نحو القبلة، فقال فيه الرسول صلّى الله عليه
وسلم: «هو سيد الشهداء، وهو رفيقي في الجنة» (3).
_________
(1) تفسير القرطبي: 189/ 10، التلخيص الحبير: ص371.
(2) رواه الحاكم والبيهقي وابن أبي شيبة وأبو نعيم وعبد الرزاق وإسحاق بن
راهويه وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (راجع نصب الراية:
158/ 4).
(3) روى قصة القتل أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة (راجع
نصب الراية، المرجع السابق: ص159، نيل الأوطار: 253/ 7 ومابعدها)، وقول
الرسول «هو سيد الشهداء .. إلخ» حديث غريب كما قال الزيلعي، لأن المعروف أن
حمزة سيد الشهداء كما روى الحاكم.
(6/4440)
فهذا دليل على أن الامتناع عن شتم النبي
أفضل (1).
وأما إتلاف مال المسلم: فيرخص فيه عند الإكراه التام؛ لأن مال الغير يستباح
للضرورة، كما في حال المخصمة، والضرورة متحققة هنا؛ لأن الإكراه نوع منها.
غير أن أثر الرخصة يظهر في سقوط المؤاخذة الأخروية، لا في سقوط أصل الحرمة؛
إذ الحرمة قائمة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام:
دمه وماله وعرضه» (2) والمراد بالإكراه التام في إتلاف المال: هو الإحراق
أو ما في معناه عند الشافعية والحنفية والحنابلة في المعتمد عندهم.
ويرى المالكية والظاهرية أنه لا يرخص في الإحراق لتعلق حق العبد به (3):
لأن الشارع حرم إضرار الغير، قال صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»
(4).
وأما الإكراه على الإسلام: وإن كان ممنوعاً شرعاً، فإن وقع اعتبر إسلام
المستكره صحيحاً، وعومل معاملة المسلمين؛ لأنه إكراه في صالح المستكره،
وإعلاء للدين الحق.
3 - التصرف الحسي الحرام الذي لا يباح ولا يرخص
بالإكراه:
هو قتل المسلم بغير حق أو قطع عضو من أعضائه ولو أنملة؛ لأن القتل حرام
_________
(1) المراجع السابقة: البدائع: ص176 ومابعدها، تكملة فتح القدير: ص299،
تبيين الحقائق: ص186، الدر المختار: ص93، الكتاب مع اللباب: 110/ 4،
الموافقات: 325/ 1، أصول الفقه للمؤلف: 113/ 1، ط دار الفكر، الشفاء للقاضي
عياض: 222/ 2، بحث الإكراه للأستاذ البرديسي: ص 59 ومابعدها.
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة (الأربعين النووية: ص 76 ومابعدها).
(3) تكملة فتح القدير: 302/ 7، الدر المختار: 93/ 5، بحث الإكراه: ص53
ومابعدها، والمراجع السابقة.
(4) رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري، ورواه
مالك في الموطأ مرسلاً، وله طرق يقوي بعضها بعضاً عن جماعة آخرين من
الصحابة (مجمع الزوائد: 110/ 4، سبل السلام: 84/ 3، الإلمام: ص 363،
المقاصد الحسنة: ص 468).
(6/4441)
محض، قال تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي
حرم الله إلا بالحق} [الإسراء:33/ 17]، ولأن الاعتداء حرام أيضاً، قال
تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا
بهتاناً وإثماً مبيناً} [الأحزاب:58/ 33]، والتحريم سواء أكان الإكراه
ناقصاً أم كاملاً.
ومثله أيضاً: ضرب الوالدين قل أو كثر، فإنه لا يباح بالإكراه؛ لأنه حرام،
قال تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} [الإسراء:23/ 17] والنهي عن
التأفيف نهي عن الضرب من باب أولى، فلو فعل شيئاً مما ذكر أثم.
وكذلك أيضاً: الزنا، فإنه لا يباح ولا يرخص للرجل بالإكراه مطلقاً، ولو فعل
أثم؛ لأن حرمة الزنا ثابتة عقلاً، قال تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان
فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء:32/ 17]. وكذا المرأة لا يرخص لها أيضاً عند
الإكراه ولو كان تاماً، كما رجح الكاساني صاحب البدائع (1).
والخلاصة: إن الكفروالقتل والزنا لا يباح بحال فيظل الإثم قائماً، وإن رخص
بالنطق بالكفر، وهناك فرق بين الرخصة والإباحة، ففي الرخصة لا يباح الفعل
أحياناً في حد ذاته، وإنما ترتفع المسؤولية فقط، أما في حال الإباحة فيصبح
الشيء مباحاً في ذاته، فيرتفع الإثم والمسؤولية الدنيوية أيضاً.
وأما الأحكام الدنيوية في هذه الأنواع
الثلاثة فهي مايأتي (2):
النوع الأول، والكلام فيه عن:
1ً
ـ الإكراه على شرب الخمر: إذا كان
الإكراه تاماً فلا يجب الحد على
_________
(1) راجع البدائع: 177/ 7، تكملة فتح القدير: 302/ 7، 306، تبيين الحقائق:
186/ 5 ومابعدها، 189، الدر المختار: 93/ 5 ومابعدها، الكتاب مع اللباب:
112/ 4 ومابعدها.
(2) المراجع السابقة المذكورة عند تفصيل كل نوع من أنواع التصرفات الحسية.
(6/4442)
المستكره على شرب الخمر اتفاقاً؛ لأن الحد
شرع زاجراً عن الجناية في المستقبل، والشرب المكره عليه ليس جناية، بل هو
مباح.
ولا تنفذ تصرفات السكران المكره على الشرب عند جمهور الفقهاء؛ لأن نفاذ
تصرفات السكران حالة الاختيار عند القائلين به (1) كان تغليظاً عليه وزجراً
له، ولامعنى للتغليظ في حالة الإكراه؛ لأنه ليس قائم العقل، فهو كالمجنون.
وأما إذا كان الإكراه ناقصاً فيجب الحد عند الحنفية؛ لأن شرب الخمر حينئذ
يعتبر حراماً، فيطبق عليه حكم الشُّرب.
وقال جمهور الفقهاء: لا يجب الحد على المستكره على شرب الخمر إكراهاً
ناقصاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه» (2).
2ً
ـ الإكراه على السرقة: إذا كان الإكراه
تاماً فلا إثم على السارق المستكره، ولا حد عليه للحديث السابق: «إن الله
تجاوز عن أمتي ... » ولأن الحدود تدرأ بالشبهات. وإن كان الإكراه ناقصاً،
فلا يرتفع الإثم ولا الحد عند بعض الفقهاء
_________
(1) الراجح من مذهب الشافعية رواية أحمد: هو نفاذ تصرفات السكران باختياره
مطلقاً. والحنفية: يرون نفاذ تصرفات السكران مختاراً ماعدا الردة، والإقرار
بما يحتمل الرجوع كحد الزنا، والمالكية: يرون نفاذ التصرفات ماعدا
الإقرارات والعقود في المشهور من المذهب. والظاهرية ورواية عن أحمد: يرون
عدم نفاذ التصرفات مطلقاً.
(2) رواه الطبراني في الكبير عن ثوبان وأبي الدرداء، وأخرجه ابن ماجه وابن
حبان والحاكم عن ابن عباس مرفوعاً، ورواه ابن ماجه أيضاً عن أبي ذر، ورواه
أبو نعيم عن ابن عمر، بلفظ «إن الله وضع» إلا حديث أبي الدرداء وثوبان فهو
بلفظ «إن الله تجاوز عن أمتي ... » وذكره ابن عدي عن أبي بكرة بلفظ «رفع
الله عن هذه الأمة ثلاثاً» ورواه الطبراني في الأوسط عن عقبة بلفظ «وضع عن
أمتي ... » وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف. فلفظ «رفع عن أمتي .. » ليس موجوداً
(نصب الراية: 64 - 65، التلخيص الحبير: ص109، مجمع الزوائد: 250/ 6).
(6/4443)
(الحنفية)، إذ لا ضرورة لفعل السرقة، ويرى
جمهور الفقهاء أنه لا إثم ولا حد، عملاً بمقتضى إطلاق الحديث السابق: «إن
الله تجاوز عن أمتي» فهذا الحديث ناطق بالعفو عن موجب الإكراه مطلقاً؛
تاماً أو ناقصاً.
النوع الثاني وفيه بحثان:
1ً
ـ الإكراه على الكفر: إذا كان الإكراه
تاماً، فلا يحكم بالردة، ولا تبين امرأة المستكره اتفاقاً بين الفقهاء، ما
عدا المالكية فيما إذا كان التهديد بغير القتل، وأقدم المهدد على الكفر،
فإنه يرتد عندهم؛ لأن غير القتل أقل خطورة من الكفر.
وإن كان الإكراه ناقصاً، وتلفظ المستكره بالكفر لا يصبح مرتداً عند
الشافعية والحنابلة والظاهرية، عملاً بقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد
إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .. } [النحل:16/ 106].
وقال المالكية والحنفية: يحكم بكفر المستكره إكراهاً ناقصاً، ويصبح مرتداً
تلحقه أحكام المرتدين؛ لأنه ليس بمكره حقيقة بل أقدم على ما أقدم عليه لدفع
الغم عن نفسه لا للضرورة. ويظهر أن الرأي الأول أرجح عملاً بالنص.
ويجري هذا الخلاف في الإكراه على الصلاة للصليب أو على السجود للصنم.
وإذا كان الإكراه على الكفر لا يجعل المستكره كافراً، فإن
الإكراه على الإسلام يجعل المستكره مسلماً كما تقدم، والفرق بين
الحالتين: أن الإيمان في الحقيقة تصديق، والكفر تكذيب، وذلك يحصل في القلب،
والإكراه لا شأن له بالقلب، ففي حالة الاختيار جعل اللسان دليلاً على ما في
القلب ظاهراً، وفي حالة الإكراه على الكفر لا يجعل اللسان دليلاً على ما في
القلب؛ لأن الإيمان أمر
(6/4444)
قلبي، أما في حال الإكراه على الإسلام،
فيحكم بالإسلام مع احتمال أنه كافر في قلبه؛ لأن ترجيح جانب الإسلام إعلاء
الدين الحق، وإعلاء الدين الحق واجب (1)، قال عليه الصلاة والسلام:
«الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» (2).
ويلاحظ أن الذي يجوز إكراهه على الإسلام هو الحربي عند جمهور العلماء، وكذا
يجوز إكراه الذمي والمستأمن عند الحنفية، ولا يجوز إكراههما عند جمهور
العلماء، والأدلة تعرف في كتب الفقه المطولة، والراجح مذهب الجمهور في
الذمي، كما أن الراجح في تقديري هو أن الحربي أيضاً لا يكره على الإسلام
كما يقرر جماعة من العلماء لقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} [البقرة:256/
2] (3).
2ً
ـ الإكراه على إتلاف المال: إذا أكره
شخص غيره على إحراق أثاث منزل لآخر مثلاً، ف إن
كان الإكراه تاما ً، فالضمان على المكره عند الحنفية والحنابلة في
الأرجح عندهم وبعض الشافعية؛ لأن المستكره مسلوب الإرادة، وما هو إلا آلة
للمكره، ولا ضمان على الآلة اتفاقاً.
وقال المالكية والظاهرية وبعض الشافعية: الضمان على المستكره؛ لأنه يكون في
هذه الحالة كالمضطر إلى أكل طعام الغير، بجامع الإباحة في كل منهما، وكما
يجب ضمان المضطر يجب ضمان المستكره.
_________
(1) البدائع: 178/ 6، بحث الإكراه للأستاذ البرديسي: 61 - 67، تكملة فتح
القدير: 307/ 7، المغني: 145/ 8، الكتاب مع اللباب: 114/ 4.
(2) أخرجه الدارقطني عن عائذ عن عمرو بن المزني، وفيه مجهولان، ورواه
الطبراني والبيهقي عن عمر، ورواه نهشل عن معاذ، وروي موقوفاً على ابن عباس
(راجع نصب الراية: 213/ 3، سبل السلام: 67/ 4).
(3) راجع آثار الحرب في الفقه الإسلامي - الطبعة الثانية، للمؤلف: ص 78.
(6/4445)
وقال الشافعية في الأرجح عندهم وفي وجه عند
الحنابلة: الضمان على المكره والمستكره؛ لأن الإتلاف صدر من المستكره
حقيقة، ومن المكره بالتسبب، والتسبب في الفعل والمباشرة سواء، لكن يستقر
الضمان في النهاية على المكره في الأصح.
وإن كان الإكراه ناقصا ً: فالضمان على
المستكره عند الحنفية والمالكية والظاهرية والشافعية والحنابلة؛ لأن
الإكراه الناقص لا يسلب الاختيار أصلاً، فلم يكن المستكره مجرد آلة للمكره،
فكان الإتلاف من المستكره، فوجب الضمان عليه (1).
النوع الثالث، وفيه بحثان:
1ً
ـ الإكراه على القتل: اتفق الفقهاء على
تأثيم من أكره على القتل، فقتل، واختلفوا في القصاص منه
إذا كان الإكراه تاما ً.
فقال أبو حنيفة ومحمد، وداود، وأحمد في رواية، والشافعي في أحد قوليه: لا
قصاص على المستكره، وإنما يقتص من المكره، ويعزر المستكره فقط، لقوله صلّى
الله عليه وسلم: «عفوت عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» والعفو
عن الشيء عفو عن مقتضاه، فكان مقتضى ما أكره عليه عفواً، ولأن المستكره
مجرد آلة للمكره، إذ القاتل في المعنى هو المكره، وإنما الموجود من
المستكره صورة القتل، فأشبه المستكره الآلة، ولا قصاص على الآلة.
_________
(1) المراجع السابقة، البدائع: ص 179، مجمع الضمانات: ص205، اللباب شرح
الكتاب: 112/ 4، تكملة فتح القدير: 302/ 7، تبيين الحقائق: ص186، المحلى
لابن حزم: 281/ 8، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص179، قواعد الأحكام: 132/ 2،
تهذيب الفروق: 203/ 2، الفروق: 208/ 2، كشاف القناع: 98/ 4، الشرح الكبير
للدردير وحاشية الدسوقي: 444/ 3، القواعد لابن رجب: ص 286.
(6/4446)
وقال زفر وابن حزم الظاهري: يقتص من
المستكره؛ لأن القتل وجد منه حقيقة حساً ومشاهدة، ولأنه أتى محرماً عليه
إتيانه. وأما المكره فهو متسبب، ولا قصاص بالتسبب عندهم، ورجح الطحاوي هذا
الرأي.
وقال أبو يوسف: لا يقتص من المستكره ولا من المكره، للشبهة لأن المكره ليس
بقاتل حقيقة وإنما هو مسبب للقتل، وإنما القاتل هو المستكره، ولما لم يجب
القصاص على المستكره، فلأن لا يجب على المكره أولى. وإنما يجب على المكره
الدية ولا يرجع على المستكره بشيء.
وقال المالكية والشافعية في الأرجح، والحنابلة في المذهب عندهم: يقتص من
المكره والمستكره؛ لأن المستكره وجد منه القتل حقيقة، والمكره متسبب في
القتل، والمتسبب كالمباشر كما ثبت شرعاً.
ويظهر أن الرأي الأول أرجح الآراء، وهو مذهب أبي حنيفة.
وأما إذا كان الإكراه ناقصا ً فيجب
القصاص على المستكره بلا خلاف؛ لأن الإكراه الناقص لا يسلب الاختيار، فلا
يمنع وجوب القصاص (1).
وأما الدية حال الإكراه: ففي وجوبها روايتان عند الحنفية أرجحها أنها تجب
على المكره.
وأما الإرث: فلا يمنع منه المستكره الذي أكره على قتل مورثه عند أئمة
الحنفية ما عدا زفر.
والمستكره على قطع يد إنسان إذا قطعهما يجري فيه الخلاف المذكور في الإكراه
على القتل.
_________
(1) المراجع السابقة، مغني المحتاج: 7/ 2، 289/ 3، قواعد الأحكام: 132/ 2،
القواعد لابن رجب: ص 287، المغني: 645/ 7.
(6/4447)
فإذا أذن المجني عليه للمستكره بقطع يده أو
قتله، فلا يباح له الفعل؛ لأن هذه الجنايات لا تباح بالإذن. فإن تم القطع
في هذه الحالة، فلا ضمان على أحد، لوجود الإذن من جهة المجني عليه، وأما في
القتل فلا عبرة بالإذن، وتجب حينئذ الدية على المكره، كما في ظاهر الرواية.
وفي رواية: لا تجب (1).
2ً
ـ الإكراه على الزنا: الإكراه على الزنا
إما أن يقع على المرأة أو على الرجل.
ف إذا أكرهت المرأة على الزنا: فلا يقام
عليها الحد عند جمهور الفقهاء، سواء أكان الإكراه تاماً أم ناقصاً، لقوله
تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة
الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} [النور:33/ 24] فدلت
الآية على انتفاء الإثم عن المرأة المكرهة على الزنا، وإذا انتفى الإثم
عنها ارتفع الحد.
وإذا أكره الرجل على الزنا إكراهاً
تاماً أو ناقصاً، فالمختار عند الحنابلة وجوب الحد عليه؛ لأن الزنا لا
يتحقق إلا بانتشار العضو، والانتشار لا يكون مع الخوف، فحيث يوجد الانتشار،
توجد الطواعية في الفعل، فيكون المستكره على الزنا إذا حدث منه طائعاً،
فيجب عليه الحد.
والواقع أن الانتشار طبيعي ليس دليلاً على الاختيار؛ لأن الانتشار الطبيعي
عند مقابلة المرأة، ولذا يحدث للنائم ولا اختيار له.
وقال الشافعية في المعتمد عندهم: لا يجب الحد على المستكره على الزنا سواء
أكان الإكراه تاماً أم ناقصاً؛ لأن الإكراه أياً كان نوعه يورث شبهة،
والحدود تدرأ بالشبهات.
_________
(1) البدائع: 180/ 7، مجمع الضمانات: ص 204 - 205، اللباب شرح الكتاب: 112/
4، مختصر الطحاوي: ص 409 ومابعدها.
(6/4448)
وأما الحنفية: فكان أبو حنيفة يرى وجوب
الحد على المستكره على الزنا، ثم قال: إذا كان الإكراه تاماً ـ وهو الذي
يتحقق فقط من السلطان بحسب عرف زمانه ـ فلا يجب الحد. وأما إكراه غير
السلطان فيوجب الحد. وقال الصاحبان: لا يجب الحد حالة الإكراه التام، سواء
أكان الإكراه من السلطان أم من غيره، ورأيهما هو الأرجح عند الحنفية. وهو
رأي أبي حنيفة أخيراً.
وإن كان الإكراه ناقصاً: فيجب الحد عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن الإكراه
الناقص لا يسلب الاختيار، فيكون الزاني في هذه الحالة مختاراً، فيحد.
والخلاصة: إن الحنفية لا يوجبون الحد في حالة الإكراه التام، ويوجبونه في
حالة الإكراه الناقص.
وقال المالكية: إن كان الرجل والمرأة مكرهين على الزنا فيجب الحد. وإن كانت
المرأة طائعة ولم تكن ذات زوج، فقد أسقطت حقها برضاها، فلم يبق سوى حق الله
تعالى، وحق الله يسقط بالإكراه، فلا يجب الحد عند بعض المالكية إذا كان
التهديد بالقتل. أما بغير القتل فيجب الحد، وهذا هو المفتى به. والمشهور في
المذهب: وجوب الحد على الرجل والمرأة.
وكذلك يحد المكره على الزنا في مذهب الحنابلة.
والذي يظهر هو رجحان مذهب الشافعية؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات (1).
الإكراه على أحد أمرين: كل ما ذكر إذا
كان التصرف الحسي المكره عليه معيناً، فإن كان المكره عليه مخيراً فيه:
فبالنسبة للحكم الأخروي يظل المباح
_________
(1) البدائع: 180/ 7، تكملة فتح القدير: 306/ 7، مختصر الطحاوي: ص 410،
الدر المختار: 95/ 5، تبيين الحقائق: 189/ 5، بحث الإكراه للأستاذ
البرديسي: ص 56 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 318/
4، المغني: 251/ 5.
(6/4449)
والمرخص فيه والحرام كما هو في حالة
التعيين، ولكن عليه اختيار الأخف، فإذا أكره إنسان على أكل ميتة أو قتل
مسلم، يباح له الأكل، ولا يرخص له القتل، ولو امتنع من الأكل حتى قتل يأثم.
ولو أكره على إتلاف مال إنسان أو قتله رخص له الإتلاف.
ولو أكره على القتل أو الزنا، لا يرخص له أن يفعل أحدهما، ولا يأثم إذا
قتل.
ولو أكره على القتل أو الكفر، يرخص له إجراء كلمة الكفر إذا كان قلبه
مطمئناً بالإيمان.
وأما بالنسبة للحكم الدنيوي: فقد يختلف الحكم بالتخيير عن حالة التعيين،
فلو أكره على أكل الميتة أو قتل المسلم، فلم يأكل وقتل، يجب القصاص على
المستكره عند الحنفية؛ لأنه أمكنه دفع الضرورة بتناول المباح، فكان القتل
حاصلاً باختياره.
ولو أكره على الكفر أو القتل، فقتل ولم يكفر بلسانه، فالقياس: أنه يجب عليه
القصاص؛ لأنه اختار القتل الذي هو حرام على المرخص فيه، ومقتضى الاستحسان.
أنه لا قصاص عليه، ولكن تجب عليه الدية، إن لم يكن عالماً أنه مرخص له بلفظ
الكفر (1).
المبحث الرابع ـ أثر الإكراه في التصرفات
الشرعية: (أي في التصرفات القولية أو التصرفات القانونية).
أبدأ الكلام على التصرفات الشرعية المعينة وأقول:
_________
(1) راجع البدائع: 181/ 7
(6/4450)
التصرفات الشرعية المعينة إما أن تكون
إنشاء أو اقراراً. والتصرفات الإنشائية نوعان: نوع لا يحتمل الفسخ، ونوع
يحتمل الفسخ.
أما التصرفات التي لا تحتمل الفسخ: فهي كالطلاق والنكاح والظهار واليمين
والعفو عن القصاص. وقد أوصلها بعض الحنفية إلى عشرين، والتحقيق أنها خمسة
عشر (1).
وأما التصرفات التي تحتمل الفسخ: فهي كالبيع والإجارة ونحوهما من كل تصرف
يعتبر سبباً للملك.
أولاً ـ التصرفات التي لا تحتمل الفسخ (أي الرد، وهي التصرفات اللازمة):
يرى الحنفية أنه لا تأثير للإكراه على التصرفات الشرعية التي لا تحتمل
الفسخ أي الرد، ولا يشترط فيها الرضا، فتعتبر هذه التصرفات نافذة مع
الإكراه؛ لأنها لا تقبل الفسخ، فتصبح لازمة. فلو أكره الرجل على الطلاق أو
النذر أو اليمين أو الظهار أو النكاح أو الرجعة، أو الإيلاء أو الفيء فيه
باللسان، أو العفو عن القصاص، وقع المكره عليه؛ لأنها تصرفات يستوي فيها
الجدل والهزل، والإكراه في معنى الهزل لعدم القصد الصحيح للتصرف فيهما،
والأصل فيه حديث حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه، وهو «أن المشركين لما
أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة،
فحلف مكرهاً، ثم أخبر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: أوف لهم
بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم» وقد أخرج عبد الرزاق في
مصنفه عن ابن
_________
(1) راجع الدر المختار ورد المحتار عليه: 96/ 5.
(6/4451)
عمر أنه أجاز طلاق المكره (1). ويؤيده عموم
قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} [البقرة:230/ 2] الآية.
والخلاصة: أن هذه التصرفات تصح وتلزم من المستكره.
ويرى جمهور الأئمة غير الحنفية أن الإكراه يؤثر في هذه التصرفات، فيفسدها،
فلا يقع طلاق المكره مثلاً، لا يثبت عقد النكاح بالإكراه ونحوهما. وهذا هو
الأرجح.
واستدلوا بأن الله تعالى لما لم يرتب على التلفظ بالكفر حالة الإكراه أثراً
في قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106/ 16] فلا
يترتب على أي تصرف قولي مع الإكراه أي أثر.
وقد ثبت في السنة أن خنساء بنت خزام الأنصارية زوجها أبوها وهي ثيب، فكرهت
ذلك، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرد نكاحها (2)، ويؤيدها حادثة
أخرى وهي أن فتاة زوجها أبوها من ابن أخيه وهي كارهة، فجعل رسول الله صلّى
الله عليه وسلم الأمر إليها (3).
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر (نصب الراية: 222/ 3).
(2) رواه البخاري عن خنساء بنت خزام (نصب الراية: 191/ 3).
(3) أخرجه النسائي وأحمد عن عائشة بلفظ: «إن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن
أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته (أي دنا ءته) وأنا كارهة، قالت:
اجلسي حتى يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت:
يارسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء، أن ليس للآباء
من الأمر شيء» قال البيهقي: هذا مرسل. ويؤيده خبر آخر في موضوعه، رواه أحمد
وأبو داود وابن ماجه مرسلاً عن ابن عباس (راجع سبل السلام: 122/ 3، نصب
الراية، المرجع السابق: ص 192).
(6/4452)
وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق في
إغلاق» (1) وفسر الشافعي الإغلاق بالإكراه، وقال عليه السلام أيضاً: «إن
الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (2) أي رفع حكم
الإكراه وغيره. ثم إن هذه التصرفات لا تصح مع الإكراه حتى لا يترتب عليها
زوال حقوق الناس وأملاكهم بدون رضاهم.
وبناء عليه قال الشافعية: إن طلاق المستكره وعتاقه وبيعه وإجارته ونكاحه
ورجعته وغيرها من التصرفات لا تصح؛ لأن رفع حكم الإكراه إنما يكون بانعدام
الحكم المتعلق به، كوقوع الطلاق، وصحة البيع والنكاح.
وأما وجوب القصاص عندهم على القاتل المستكره، فيستثنى من عموم الصيغة،
تعظيماً لأمر الدم، فإنه لا سبيل إلى استباحته، وتجب رعاية حرمته (3).
وأما حديث: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» (4) الذي
تمسك به الحنفية فهو ضعيف على الأرجح، وأما حديث حذيفة فهو حديث مكذوب كما
قال ابن حزم.
وأما ما روي عن ابن عمر أنه أجاز طلاق المكره، فيقدح فيه ما رواه ابن حجر
في فتح الباري أن عبد الرزاق أخرج عن ابن عمر عدم جواز طلاق المكره في قصة
_________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وقال: على شرط مسلم، ولفظه: «لا طلاق
ولا عتاق في إغلاق» قال أبو داود: أظنه الغضب ـ يعني الإغلاق ـ وقال ابن
قتيبة: الإغلاق. وقال بعضهم: الصحيح أنه يعم الإكراه والغضب والجنون، وكل
أمر انغلق على صاحبه علمه وقصده (راجع نصب الراية: 223/ 3).
(2) رواه الطبراني عن ثوبان، ورمز السيوطي لصحته. (راجع الفتح الكبير: 35/
4).
(3) تخريج الفروع على الأصول: ص 149.
(4) رواه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي وصححه الحاكم عن أبي هريرة، وفي
رواية لابن عدي من وجه آخر ضعيف: «الطلاق والعتاق والنكاح» (راجع سبل
السلام: 175/ 3، الإلمام لابن دقيق العيد: ص 423 وما بعدها، نصب الراية:
293/ 3 ومابعدها).
(6/4453)
ثابت الأعرج، ويؤيده أن عدم جواز طلاق
المكره روي عن ابن عمر في سنن البيهقي، وفي صحيح البخاري، وفي موطأ مالك.
وأما ما استدل به الحنفية من عموم قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من
بعد} [البقرة:230/ 2] فهو معارض لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت
قلوبكم} [البقرة:225/ 2] والمستكره لم يطلق قط، بل إن حديث «لا طلاق في
إغلاق» يقيد إطلاق آية الطلاق، حتى على مذهب الحنفية القائلين بأن هذا
الحديث ظني، والظني لا يقيد القطعي؛ لأن هذه الآية قيدت بحديث مشهور وهو
قوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يكبر (أو
يعقل أو يحتلم)، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق» (1)
فصارت ظنية، فأصبحت بعدئذ صالحة لتقييدها بخبر ظني (2).
ثانياً ـ التصرفات التي تحتمل الفسخ: إذا أكره الإنسان إكراهاً تاماً أو
ناقصاً على تصرف يحتمل الفسخ أي يقبل الرد، ويشترط فيه الرضا كالبيع
والشراء والهبة والإجارة ونحوها، فإن الإكراه عند جمهور الحنفية يفسده أي
أن التصرف نافذ، ولكنه فاسد، وحينئذ يملك المشتري المبيع بالقبض. وسبب
الفساد: هو أن الرضا شرط نفاذ هذه التصرفات، والإكراه
_________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي وصححه الحاكم، وأخرجه ابن
حبان عن عائشة، ورواه بعضهم عن علي وعمر ابن عباس وأبي هريرة وغيرهم (مجمع
الزوائد: 251/ 6، سبل السلام: 180/ 3، الإلمام: ص 66، 421.
(2) راجع البدائع: 182/ 7 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 303/ 7، تبيين
الحقائق: 5 - 188، الدر المختار: 96/ 5، مجمع الضمانات: ص 206، المحلى:
383/ 8 ومابعدها، مغني المحتاج: 289/ 3، الشرح الكبير للدردير: 367/ 2،
المغني: 118/ 7، بحث الإكراه للأستاذ البرديسي ـ القسم الثاني: ص 2
ومابعدها.
(6/4454)
يعدم الرضا، وانتفاء الشرط يترتب عليه
انتفاء المشروط، وهو النفاذ، فيفسد التصرف. وعليه يكون بيع المستكره
وإجارته وهبته فاسدة، ولكن للمستكره بعد زوال الإكراه الخيار بين إمضاء
التصرف وفسخه؛ لأن الرضا كما ذكرت شرط لصحة هذه التصرفات.
وقال المالكية وزفر من الحنفية: تعتبر هذه التصرفات بالإكراه موقوفة؛ لأن
الرضا شرط في صحة العقد، لا في انعقاده، حتى لو أجاز المستكره ما أكره عليه
بعد زوال الإكراه أصبح العقد صحيحاً، ولو كان العقد فاسداً لما جاز؛ لأن
الفاسد لا يجوز بالإجازة، ولا يرتفع الفساد بالإجازة كسائر البيوع الفاسدة،
فأشبه بيع الفضولي، وبما أنه بيع موقوف، لا يثبت به الملك بالقبض.
والخلاصة: إن أبا حنيفة وصاحبيه ذهبوا إلى أن الإكراه يفسد العقد إفساداً
فقط، لا إبطالاً، وتترتب عليه الأحكام المقررة لفساد العقود إلا من ناحية
واحدة، وهي أنه بعد زوال الإكراه، لو أجاز المستكره العقد، صح هذا العقد،
ويصبح ملزماً؛ لأن الفساد إنما كان صيانة لمصلحته الخاصة لا لمصلحة عامة.
وأما زفر فيجعل العقد غير نافذ كعقد الفضولي، فهو صحيح موقوف بالنسبة
للمستكره، ويتوقف على إجازته بعد زوال الإكراه، وبما أن هذا العقد يجوز
ويلزم بالإجازة، فهذا دليل على كون العقد موقوفاً لا فاسداً؛ لأن العقد
الفاسد يفسخ فسخاً ولا يجاز إجازة. ويلاحظ أن دليل زفر أقوى وأوجه، ولكن
المعتمد عند الحنفية هو رأي الإمام وصاحبيه (1).
وقال باقي الفقهاء: تعتبر هذه التصرفات مع الإكراه باطلة غير صحيحة (2).
_________
(1) راجع المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ص 364.
(2) البدائع: 186/ 7، تكملة فتح القدير: 293/ 7 ومابعدها، الكتاب مع
اللباب: 108/ 4، تبيين الحقائق: 182/ 5، الدر المختار ورد المحتار: 89/ 5
ومابعدها، المحلى: 380/ 8، غاية المنتهى: 5/ 2، بحث الإكراه للأستاذ
البرديسي ـ القسم الثاني: ص 25.
(6/4455)
مثاله: حالة الإكراه على البيع سواء أكان
تاماً أم ناقصاً.
وبه يلاحظ أن للعلماء في حكم بيع المستكره
أربعة مذاهب:
1 - ذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى فساد بيع المكره عملاً بعمومات نصوص البيع،
ولا فرق بين فساد البيع بسبب الجهالة أو الربا أو غيرهما وبين فسا ده
بالإكراه، لعدم توافر الرضا إلا في أن المستكره له حق إجازة العقد بعد زوال
الإكراه، كما له حق الفسخ مطلقاً، فيسترد المبيع الذي أكره على بيعه، ولو
تداولته الأيدي كأن تصرف المشتري به، صيانة لمصلحته ومحافظة على إرادته
ورضاه. أما بقية البيوع الفاسدة فلا تلحقها الإجازة؛ لأن فسادها لحق الشرع
من حرمة الربا ونحوه، كما أنه إذا تصرف المشتري الجديد بالمبيع نفذ تصرفه،
وليس للبائع الأصلي حق الفسخ نظراً لتعلق حق المشتري الجديد بالمبيع، وحق
العبد مقدم على حق الله، لاستغناء الله واحتياج العبد.
2 - وذهب زفر من الحنفية إلى أن بيع المستكره موقوف.
3 - وقرر المالكية أن بيع المستكره غير لازم أي أن للعاقد المكره الخيار في
إمضاء العقد أو فسخه، وهذا يتفق مع ما ذكره القدوري الحنفي في بيان حكم بيع
المستكره وشرائه وإقراره.
4 - وذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى بطلان بيع المستكره.
أثر الإكراه على الإقرارات:
تحدثت عن أثر الإكراه في التصرفات الإنشائية، وأذكر هنا أثر الإكراه في
الإقرارات.
(6/4456)
إذا أكره رجل بغير حق على أن يقر بشيء، ففي
هذا الإقرار للفقهاء مذهبان:
1 - مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية: يقرر إلغاء الإقرار وعدم
ترتب أي أثر عليه، سواء أكان المقر به مما يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة، أم
مما لا يحتمل الفسخ كالطلاق والرجعة.
استدل الحنفية بأن الإقرار خبر يحتمل الصدق والكذب، إلا أنه يصح الإقرار
حالة الاختيار؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه، ولم يصح حالة الإكراه،
لترجح جانب الكذب بسبب وجود التهديد.
واستدل غير الحنفية بحديث «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه» فلفظ «ما» في الحديث يفيد العموم، فيكون حكم كل تصرف أكره
عليه الإنسان مرفوعاً، والإقرار تصرف من التصرفات، فيكون حكمه مرفوعاً عند
الإكراه، فلا يترتب عليه أي أثر من آثاره.
2 - مذهب المالكية يقرر عدم لزوم إقرار المستكره بغير حق، أي أن المستكره
بعد زوال الإكراه مخير بين أن يجيز الإقرار وبين ألا يجيز.
واستدلوا بأن إقرار المستكره كطلاقه بجامع عدم الرضا في كل، فكما لا يلزم
طلاق المستكره لا يلزم إقرار المستكره.
وأما الإقرار مكرهاً بالزنا أو شرب الخمر أو السرقة أو القذف أو القتل،
فإنه يعتبر ملغياً، ولا يقام عليه حد ولا قصاص عند أغلب الفقهاء، ومنهم
المالكية؛ لأن الإكراه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات (1).
_________
(1) البدائع: 189/ 7 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 265/ 7، تبيين الحقائق:
182/ 5، الدر المختار: 89/ 5، مجمع الضمانات: ص 206، الشرح الكبير للدردير:
397/ 3، المغني: 196/ 8، حاشية الباجوري: 4/ 2، بحث الإكراه للبرديسي ـ
القسم الثاني: ص 44 ومابعدها.
(6/4457)
أثر الإكراه في
التصرفات الشرعية المخير فيها:
عرفنا أن التصرفات الشرعية إما أن تكون قابلة للفسخ أو غير قابلة للفسخ.
أما التصرفات الشرعية التي لا تحتمل الفسخ والمخير فيها بالإكراه، فللفقهاء
في حكمها رأيان:
الأول ـ رأي الشافعية: وهو أنهم يشترطون تعيين الشيء المكره عليه، فلا
إكراه مع التخيير، وتكون التصرفات المخير فيها التي لا تقبل الفسخ نافذة.
الثاني ـ رأي جمهور الأئمة: وهو أنهم يقولون: لا يشترط التعيين في المكره
عليه، فالإكراه باق مع التخيير، ويترتب على الإكراه أثره في التصرفات
الشرعية المخير فيها التي لا تحتمل الفسخ بحسب المقرر في كل مذهب، كما
تقدم.
فإذا أكره إنسان على أن يطلق امرأته المدخول بها أو امرأته غير المدخول بها
وطلق إحدى المرأتين: لم يعتبر الإكراه عند الشافعية، ويقع الطلاق؛ لأنه
وجدت قرينة على الاختيار فيما أتى به.
وعند بقية الأئمة: يعتبر الإكراه، ولكنهم فصلوا في وقوع الطلاق أي ترتيب
أثر الإكراه، فعند الحنفية: يقع الطلاق إذ لا أثر للإكراه عندهم في
التصرفات القولية التي لا تحتمل الفسخ. وفي المعتمد عند المالكية: لا يلزم
الطلاق، وللمستكره بعد زوال الإكراه حق إجازة الطلاق. وعند الحنابلة: يقع
الطلاق؛ لأن التخيير كالتعيين عندهم.
وأما التصرفات الشرعية المخير فيها التي تحتمل الفسخ، فكذلك للفقهاء في أثر
الإكراه فيها رأيان:
الأول ـ رأي الشافعية القائلين بأنه لا إكراه مع التخيير.
(6/4458)
الثاني ـ رأي باقي الأئمة الذين يقولون
بأنه لا مانع من وجود الإكراه مع التخيير.
مثلاً: إذا أكره الرجل على بيع إحدى العمارتين المملوكتين له، فباع
إحداهما، كان البيع نافذاً عند الشافعية لانعدام الإكراه هنا.
وعند باقي الأئمة: يترتب على الإكراه أثره كما في حالة التعيين. وبناء عليه
يكون بيع إحدى العمارتين باطلاً عند الحنابلة والظاهرية، وفاسداً عند جمهور
الحنفية، وموقوفاً عند المالكية وزفر. وأدلة كل منهم تعرف في مثال الإكراه
على البيع السابق ذكره (1).
_________
(1) المراجع السابقة في بحث الإكراه في التصرفات القابلة للفسخ، مغني
المحتاج: 289/ 3، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 367/ 2، بحث
الإكراه للبرديسي ـ القسم الثاني: ص 60 ومابعدها.
(6/4459)
|