الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثَّامن عَشَر: الحَجْر الكلام عن الحجرفي مباحث أربعة:
أولها ـ في تعريف الحجر ومشروعيته وحكمة تشريعه.
وثانيها ـ في أسباب الحجر.
وثالثها ـ في رفع الحجر.
ورابعها ـ تعلق الدين بالتركة.

المبحث الأول ـ تعريف الحجر ومشروعيته وحكمة تشريعه ونوعاه:
أولاً ـ تعريف الحجر: الحَجْر في اللغة: المنع والتضييق، يقال: حجر عليه حجراً أي منعه من التصرف، ومنه سمي الحرام: حِجْراً، قال تعالى: {ويقولون حجراً محجوراً} [الفرقان:22/ 25] أي حراماً محرماً، وسمي العقل حجراً، قال تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حِجْر} [الفجر:5/ 89] أي عقل؛ لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح من المفاسد وتضر عاقبته، وسمي الحطيم حِجْراً لأنه منع من الكعبة، وقطع منها، كما منع من أن يدخل في الحرم.

(6/4460)


والحَجْر في الشريعة: هو منع الإنسان عن التصرف في ماله. ويقابله الإذن وهو فك الحجر وإسقاط حق المنع (1) وللحجر تعاريف متقاربة عند الفقهاء هي مايأتي:
قال الحنفية (2): الحجر: هو المنع من لزوم العقود والتصرفات القولية. فإذا باشر المحجور عقداً أو تصرفاً قولياً كالبيع أو الهبة لا ينفذ أي لا يلزم، ولا يترتب عليه حكمه، فلا يملك بالقبض. وكون الحجر من التصرفات القولية؛ لأنها هي التي يتصور الحجر فيها بالمنع من نفاذها، أما الأفعال فلا يتصور الحجر فيها؛ لأن الفعل بعد وقوعه لا يمكن رفعه، بخلاف القول، فإنه يمكن رفعه بمنع انعقاده شرعاً أو منع نفاذه. وللحنفية تعريف آخر أدق: وهو عبارة عن منع مخصوص متعلق بشخص مخصوص، عن تصرف مخصوص أو عن نفاذه، أي لزومه؛ لأن عقد المحجور ينعقد موقوفاً (3).
فالحجر على الصغير أو المجنون قد يجعل تصرفه غير منعقد أصلاً، كما إذا كان ضرراً محضاً، كطلاق زوجته، وقد يجعله موقوفاً على إجازة الولي كالبيع والشراء من المميز، أما إذا كان لا يعقل أصلاً فتصرفه باطل.
وأما الحجر على الأفعال، فلا يفيد، ويكون كل من الصبي والمجنون ضامناً لما يتلفه من مال غيره، ويؤخذ ثمنه من ماله إن كان له مال، ويطالب بالأداء وليه أو وصيه؛ لأن الضمان من خطاب الوضع، وهو لا يشترط فيه التكليف أو التمييز، لكن لا يطبق عليهما العقاب البدني كالحدود والقصاص، لعدم توافر القصد الصحيح، وإنما تجب عليهما الدية في حال القتل، لأنه يعتبر منهما خطأ.
_________
(1) تبيين الحقائق: 203/ 5، الدر المختار ورد المحتار: 108/ 5.
(2) الدر المختار: 99/ 5، تبيين الحقائق: 190/ 5، اللباب: 66/ 2.
(3) رد المحتار: 99/ 5.

(6/4461)


وعرفه الما لكية (1) بأنه صفة حكمية ـ أي يحكم بها الشرع ـ توجب منع موصوفها من نفوذ تصرفه فيما زاد على قوته، أو تبرعه بما زاد على ثلث ماله. فشمل الأول: الحجر على الصبي والمجنون والسفيه والمفلس ونحوهم، فإنهم يمنعون من التصرف بالبيع أو التبرع فيما زاد على قوتهم ويكون تصرفهم موقوفاً على إجازة الولي. وشمل الثاني: الحجر على مريض الموت والزوجة، فإنهما لا يمنعان من البيع والشراء، وإنما يمنعان من التبرع فيما يزيد عن ثلث مالهما.
وعرفه الشافعية والحنابلة (2): بأنه المنع من التصرفات المالية. سواء أكان المنع من الشرع كمنع الصغير والمجنون والسفيه، أم من الحاكم كمنع المشتري من التصرف في ماله حتى يؤدي الثمن الحال الذي عليه. ولا يمنع المحجور (السفيه والمفلس والمريض) من التصرفات غير المالية، كالتصرف بالطلاق والإقرار بما يوجب العقوبة، وكالعبادة البدنية واجبة أو مندوبة، وتنفذ منه العبادة المالية الواجبة كالحج، دون المندوبة. لكن الصبي والمجنون لا يصح تصرفهما في شيء مطلقاً من الأموال والذمم والأحوال الشخصية من زواج وطلاق.

ثانياً ـ دليل مشروعية الحجر: ورد في القرآن الكريم آيات ثلاث تدل على مشروعية الحجر من حيث المبدأ، أولها قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً} [النساء:5/ 4] نهى الله تعالى فيها الأولياء عن إعطاء السفهاء أموالهم؛ لأن في إعطائهم تعريضاً لضياعها، فدل النص على منعهم من التصرف في أموالهم، وهو معنى الحجر عليهم.
_________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 381/ 3.
(2) مغني المحتاج: 165/ 2، المغني: 456/ 4، كشاف القناع: 404/ 3.

(6/4462)


والآية الثانية قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] أمر الله تعالى باختبار اليتامى في حفظ أموالهم، بأن يدفع لهم شيء من أموالهم، لمعرفة خبرتهم في التصرفات، فإن آنس منهم الرشد قبل البلوغ، سلموا أموالهم، فدل النص على منع دفع أموالهم إليهم، قبل الرشد، وحجرهم عنها، حتى لا يتصرفوا فيها.
والآية الثالثة قوله سبحانه: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} [البقرة:282/ 2] فسَّر الشافعي رضي الله عنه السفيه بالمبذر، والضعيف بالصبي، والكبير بالمختل، والذي لا يستطيع أن يمل بالمغلوب على عقله، فأخبر الله تعالى أن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم، فدل على ثبوت الحجر عليهم. وثبت في السنة الصحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه (1).وحجر عثمان بسبب التبذير على عبد الله بن جعفر (2).

ثالثاً ـ حكمة تشريع الحجر: ليس في الحجر إهدار حقيقي لكرامة الإنسان، وإنما هو رحمة ومصلحة وصون وتعاون، فهو رحمة بالمحجور عليه حتى يوفر له ماله في وقت تكثر فيه مسؤولياته، وتتعدد واجباته، فلا يواجه الحياة بوجه عبوس مقطب، ولا تتراكم عليه الهموم والمشكلات، ولا تصادمه الصعاب والمشاق، وإنما يجد في ماله سبيلاً للنجاة، والعيش الكريم، وشق طريق الحياة، وهو صون لماله من عبث العابثين، وحد لهوى النفس بالإنفاق في وجوه غير صحيحة.
_________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه عن كعب بن مالك (نيل الأوطار: 244/ 5 ومابعدها).
(2) رواه الشافعي في مسنده عن عروة بن الزبير: (نيل الأوطار: 245/ 5).

(6/4463)


وهو مصلحة للفرد والمجتمع ودفع للضرر عنهما، بتدريب المحجور وتوفير الخدمة اللازمة له بالتصرفات وممارسة شؤون التجارات، حتى لا يصبح عالة على المجتمع، وكيلا تبدد الأموال. وهو عون ضروري من الكبير الراشد ليتيم قاصر مثلاً للأخذ بيده في سفينة الحياة، ولتثمير ماله، والإنفاق منه على الأمور الضرورية له، والبعد عن الأوجه المتنوعة للصرف فيما لا يحق النفع والخير له. فالمحجور عليه إن كان صغيراً أو مجنوناً أو معتوهاً، هو ناقص العقل ليس أهلاً لتقدير المصلحة، ولا يتصور منه الرضا الصحيح، ولا القصد والاختيار. فالحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظاً لماله عليه. وإن كان سفيهاً مبذراً لأمواله هو متلف له ومضيعة في غير الوجوه النافعة.
وإن كان مغفلاً فلا يهتدي إلى التصرفات الرابحة، وإنما يغبن في البيوع ويتضرر بها.
وإن كان مديناً فلا بد من رعاية حق الدائنين في أموالهم وحفظ مصالحهم وعدم إضاعتها دفعاً للضرر عنهم، وحتى لا ينضب معين الخير في الناس، ولا ينفر أو يتبرم امرؤ من إقراض غيره قرضاً حسناً ينقذه من ورطات السوء.
لذا كان الحجر محققاً لمصلحة المحجور عليه نفسه بحفظ ماله وحقوقه، ولمصلحة المجتمع أيضاً بإيصاد منافذ العوز والفاقة والفقر؛ لأن المال عصب الحياة، فيجب إنفاقه في غير إسراف ولا تبذير لقوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء:27/ 17].
وقد أوصى الله الأولياء والأوصياء عن اليتامى والمساكين بضرورة الإشراف على شؤونهم بالحق والعدل والمعروف، إذ أنه ربما ترك الإنسان ذرية ضعافاً يحتاجون لمعاونة غيرهم لهم، فقال سبحانه: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم

(6/4464)


ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} [النساء:9/ 4 - 10] وروى الإمام أحمد والنسائي وأبو داود وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزلت {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/ 17] عَزَلوا أموال اليتامى، حتى جَعَل الطعامُ يفسدُ، واللحم ينتُن، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم فنزلت: {وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة:220/ 2] وأوجب الحق تبارك وتعالى اختبار الأيتام قبل دفع أموالهم إليهم، فقال: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4].
ومنع القرآن الكريم من إيتاء السفيه ماله حرصاً على مصلحته ولمصلحة الناس، فقال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء:5/ 4].
وثبت في السنة كما ذكرت الحجر على المدين، دفعاً للضرر عن الدائنين، كما ثبت عن عثمان الحجر على المبذر، حفظاً لماله من الضياع. وروى الدارقطني عن كعب بن مالك: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله، وباعه في دين عليه» وروى الشافعي في مسنده عن عروة بن الزبير أن عثمان حجر على عبد الله بن جعفر بسبب تبذيره.

رابعاً ـ تقسيم الحجر بحسب نوع المصلحة: الحجر بحسب نوع المصلحة المقصودة منه نوعان (1):
_________
(1) مغني المحتاج: 165/ 2، كشاف القناع: 404/ 3 ومابعدها.

(6/4465)


الأول ـ حجر لمصلحة المحجور عليه: وهو كحجر المجنون والصغير والسفيه والمبذر، إذ فائدة الحجر لا تتعداهم، فقد شرع لمصلحتهم أنفسهم.
الثاني ـ حجر لمصلحة الغير: وهو كحجر المدين المفلس لحق الغرماء (الدائنين)، ومريض الموت لحق الورثة فيما زاد عن ثلث التركة حيث لا دين، وحجر الراهن بعدم لزوم الرهن لحق المرتهن في العين المرهونة، فقد شرع الحجر لصالح غير المحجور عليه.
المبحث الثاني ـ أسباب الحجر:
للحجر أسباب كثيرة، منها ما هو متفق عليه كالحجر بسبب الصغر والجنون والعته، لفقد الأهلية أو نقصها. ومنها ما هو مختلف فيه كالحجر بسبب السفه والغفلة والدين، وسبب الخلاف راجع لا لقصور الأهلية، وإنما لدفع الضرر عنهم وعن الناس.
والحجر بسبب الرق متفق عليه، فالرقيق محجور عن التصرف في ملك غيره إلا بإذنه، لكونه ليس أهلاً للملك.
ويختلف أثر الحجر في تصرفات المحجور عليه باختلاف سببه، ويظهر الاختلاف في المطالب الآتية:

المطلب الأول ـ أثر الحجر في تصرفات الصغير:
الصغر طور يمر به كل إنسان، يبدأ من حين الولادة إلى البلوغ، وقد أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحُلُم (1)، لقوله تعالى:
_________
(1) بداية المجتهد: 275/ 2.

(6/4466)


{وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء:6/ 4] ولعدم توافر أهلية التصرف لعدم اكتمال الإدراك اللازم لتقدير مايترتب على التصرفات.

وقد اختلف الفقهاء في حكم تصرفات الصغير وفي أمور أخرى متعلقة به.
أولاً ـ آراء الفقهاء في حكم تصرفات الصغير أو أثر الحجر عليه: للفقهاء مذاهب في أثر الحجر على الصغير، فيرى الحنفية والمالكية ضرورة التفرقة بين المميز وغير المميز، ولم يفرق الشافعية والحنابلة بينهما.
1 - قال الحنفية والمالكية (1): الصغير إما مميز أو غير مميز، وغير المميز: هو الذي لم يتم سن السابعة من العمر. والمميز هو الذي أكمل سن السابعة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين» (2).
والتصرفات إما قولية أو فعلية:
أما التصرفات الفعلية: وهي الغصوب والإتلافات، فلا أثر لحجر الصبي والمجنون عليها، فيجب على كل منهما ضمان ماأتلف من مال أو نفس، إذ لا حجر على الأفعال، وإنما على الأقوال (3).
وأما التصرفات القولية:
_________
(1) الدرا لمختار: 101/ 5، تبيين الحقائق: 191/ 5، تكملة الفتح: 310/ 7 ومابعدها، البدائع: 171/ 7، اللباب: 67/ 2، الشرح الكبير: 294/ 3، 296، الشرح الصغير: 384/ 3، القوانين الفقهية: ص 320، بداية المجتهد: 278/ 2.
(2) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمرو.
(3) الحجر على الأقوال دون الأفعال، لأنها لا مَردَّ لها لوجودها حساً ومشاهدة، بخلاف الأقوال لأن اعتبارها موجودة بالشرع، لا بالواقع، والقصد شرط لاعتبارها (الهداية مع تكملة الفتح: 311/ 7).

(6/4467)


فإن صدرت من غير مميز فجميع تصرفاته باطلة لفقده أهلية الأداء أو التصرف، إذ لا عقل له ولا تمييز، فلا يعتبر رضاه ولا قصده، سواء أكان التصرف نافعاً له، أو ضاراً به، أو متردداً بين الضرر والنفع، فلا يصح عقده ولا إقراره ولا طلاقه كالمجنون لعدم اعتبار أقوالهما.
وإن صدرت من مميز فهي ثلاثة أنواع:
أـ التصرف النافع له نفعاً محضاً، كقبوله الهبة أو الوصية، واعتناق الإسلام، يصح منه وينفذ بدون توقف على إجازة وليه أو وصيه، رعاية لجانب نفعه.
ب ـ التصرف الضار به ضرراً محضاً، كتبرعه بشيء من ماله، أو إقراضه، أو إعارته، أو طلاق زوجته، يبطل منه، ولا ينفذ ولا تصححه إجازة الولي؛ لأن الإجازة لا تلحق الباطل، ومن قواعد الحنفية: «كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه» وقد رووه حديثاً، لكنه لم يصح أصلاً (1).
جـ ـ التصرف المتردد بين الضرر والنفع، كالبيع والشراء، والإيجار والاستئجار، والزواج، ينعقد منه موقوفاً على إجازة الولي، إذا كان المميز يعقل البيع بأن يعلم أن البيع سالب، والشراء جالب، ويقصده بأن يكون غير هازل؛ لأن تصرفه يحتمل الضرر فإن أجازه نفذ، وإن لم يجزه بطل، وليس له إجازة ما فيه غبن فاحش، والولي بالخيار: إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحة، وإن شاء فسخه.
2 - وقال الشافعية والحنابلة (2): تعتبر التصرفات المالية من الصبي مميزاً أو غير مميز باطلة. لكن الشافعية قالوا: لا تصح تصرفات المميز وإن أذن له الولي، ويعتبر إذن الصبي المميز في إذن الدخول وإيصاله الهدية، ويصح إحرامه بإذن وليه، وتصح عبادته، وله إزالة المنكر ويثاب عليه كالبالغ، كما يعتبر إسلامه، كإسلام سيدنا علي رضي الله عنه صغيراً.
_________
(1) راجع نصب الراية: 161/ 4.
(2) مغني المحتاج: 166/ 2، 170، كشاف القناع: 431/ 3.

(6/4468)


أما الحنابلة فقالوا: يصح تصرف المميز بإذن الولي، وينفك عنه الحجر فيما أذن له فيه من تجارة وغيرها، ويصح إقراره فيما أذن له فيه.
واتفق المذهبان على تضمين إتلافات الصغير من مال أو نفس، كالحنفية والمالكية. والخلاصة: أنه لا تنفذ عند الحنفية والمالكية عقود الصبي والمجنون ولا إقرارهما، ولا تصح عند الشافعية والحنابلة.

ثانياً ـ عدم تسليم الصغير أمواله: اتفق العلماء على أنه لا تسلم للصغير أمواله، حتى يبلغ راشداً (1)؛ لأن الله تعالى علق دفع المال إليه على شرطين: وهما البلوغ والرشد في قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما.
فإذا بلغ الصغير، فإما أن يبلغ رشيداً أو غير رشيد.

أـ فإن بلغ رشيدا ً ـ مصلحاً للمال: دفع ماله إليه، وفك عنه الحجر (2)، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] وفي سنن أبي داود: «لا يُتم بعد الاحتلام». وإذا دفع إليه ماله أشهد عليه عند الدفع لقوله تعالى: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} [النساء:6/ 4]. وهل يحتاج رفع الحجر عن الصغير لحكم القاضي؟
_________
(1) المغني: 457/ 4 ومابعدها، 471، المهذب: 330/ 1، البدائع: 170/ 7، بداية المجتهد: 277/ 2.
(2) المهذب: 331/ 1، مغني المحتاج: 166/ 2، 170، المغني: 457/ 4، البدائع: 154/ 5 و170/ 7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 195/ 5، بداية المجتهد: 277/ 2.

(6/4469)


قال الجمهور (الحنفية والشافعية في الأرجح، والحنابلة) (1): يرتفع حجر الصغير ببلوغه رشيداً بدون حكم الحاكم؛ لأن الحجر عليه ثبت بغير حكم حاكم، فيزول من غير حكم، كالحجر على المجنون. والوجه الآخر عند الشافعية: أنه يفتقر إلى الحاكم؛ لأنه يحتاج إلى نظر واختبار كفك الحجر عن السفيه. ورأي الجمهور هو الأرجح لاتفاقه مع الواقع، والتيسير.
وقال المالكية (2): إما أن يكون الصغير ذكراً أو أنثى:

ف إن كان ذكرا ً فهناك ثلاث حالات:
أحدها ـ أن يكون أبوه حياً: فإنه ينطلق من الحجر ببلوغه بدون حكم، ما لم يظهر منه سفه أو يحجره أبوه.
الثاني ـ أن يكون أبوه قد مات وعليه وصي: فلا ينطلق من الحجر إلا بالترشيد، فإن كان وصيه مقدَّم الأب أي باختياره (وهو الوصي المختار): فله أن يرشده من غير إذن القاضي؛ لأنه ثبت عليه الحجر بالأصالة من غير فرض من أحد، فلا يحتاج رفعه لحكم القاضي. وإن كان وصي القاضي ليس له ترشيده إلا بإذن القاضي كما ذكر ابن جزي، وأما ما قرره الدردير وهو الراجح فهو أن الوصي سواء كان وصي الأب أم وصي القاضي لا يحتاج في ترشيده لإذن القاضي. والترشيد بأن يقول الوصي أمام العدول: اشهدوا أني فككت الحجر عن فلان، وأطلقت له التصرف، لما ثبت عندي من رشده وحسن تصرفه. وللقاضي ترشيد المحجور مطلقاً إذا ثبت عنده رشده.
_________
(1) المرجع السابقة.
(2) الشرح الكبير والدسوقي: 296/ 3 - 298، الشرح الصغير: 383/ 3 ومابعدها، بداية المجتهد: 277/ 2، القوانين الفقهية: ص 321.

(6/4470)


الثالث ـ أن يبلغ الصغير، وليس له أب ولا وصي، وهو المُهْمل: فهو محمول على الرشد إلا أن يتبين سفهه.
والخلاصة: أن الصبي ذا الأب أو الوصي المختار لا يحتاج رفع الحجر عنه إلى حاكم، ولكن ذو الأب لا يحتاج إلى ترشيد، وذو الوصي يحتاج إلى ترشيد. وأما ذو الوصي المعين من القاضي، فيحتاج لحكم القاضي في رأي ابن جزي، ولايحتاج لإذن القاضي فيما قرره الدردير، وهو الراجح.

وأما الأنثى: فذات الأب لا ينفك الحجر عنها إذا لم يرشدها أبوها إلا بأمور أربعة: بلوغها، وحسن تصرفها، وشهادة العدول بذلك، ودخول الزوج بها. وللأب ترشيدها قبل دخول الزوج بها بأن يقول لها: رشدتك ورفعت الحجر عنك. فيرتفع الحجر عنها وتنفذ تصرفاتها، ولو لم يشهد العدول بصلاح حالها.
وأما ذات الوصي (المختار أو المعين من القاضي): فلا ينفك الحجر عنها إلا بأمور خمسة: البلوغ، وحسن تصرفها، وشهادة البينة بذلك، ودخول الزوج بها، وفك الوصي حجرها بترشيدها، ولا يحتاج في الفك لإذن الحاكم؛ أي أن الأنثى لا تحتاج في رفع الحجر عنها إلى قضاء القاضي.
وعليه يكون مذهب المالكية قريباً من مذهب الجمهور، إذ لا يحتاج رفع الحجر عن الصغير لقضاء القاضي إلا إذا كان الصغير تحت ولاية القاضي، فيحتاج لترشيد القاضي، كما يحتاج ذو الوصي لترشيد الوصي.
والخلاصة: أن ما يرفع الحجر عن الصبي شيئان عند الجمهور غير الشافعية: هما إذن الولي إياه بالتجارة، وبلوغه رشيداً. وعند الشافعية شيء واحد هو البلوغ.

ب ـ وإن بلغ الصغير غير رشيد، لا تسلم إليه أمواله، بل يحجر عليه بسبب

(6/4471)


السفه، باتفاق المذاهب، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4].
إلا أن أبا حنيفة (1) قال: يستمر الحجر على البالغ غير الرشيد إلى بلوغه خمساً وعشرين سنة، ثم يسلم إليه ماله، ولو لم يرشد؛ لأن في الحجر عليه بعد هذه السن إهداراً لكرامته الإنسانية، ولقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} [الإسراء:34/ 17] وهذا قد بلغ أشده، ويصلح أن يكون جَدَّاً في هذه السن، ولأن المنع عنه للتأديب، ولا يتأدب بعدئذ غالباً، فلا فائدة في المنع، فلزم الدفع إليه.
وقال الصاحبان وباقي الأئمة (2): إذا بلغ الولد غير رشيد، لا يسلم إليه ماله، ويستمر الحجر عليه، حتى يؤنس رشده، ولو بلغ الستين من عمره، للآية السابقة {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] حيث شرط الله تعالى لدفع أموال اليتامى إليهم شرطين: البلوغ وإيناس الرشد، والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما، ولقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5/ 4] أي أموالهم.

ثالثاً ـ البلوغ: يحدث البلوغ إما بالأمارات الطبيعية أو بالسن. أما الأمارات أو العلامات الطبيعية، فاختلفت المذاهب في تعدادها:
فقال الحنفية (3): يعرف البلوغ في الغلام بالاحتلام، وإنزال المني، وإحبال المرأة. والمراد من الاحتلام هو خروج المني في نوم أو يقظة، بجماع أو غيره.
_________
(1) البدائع: 171/ 7، تكملة الفتح: 316/ 7، تبيين الحقائق: 195/ 5، اللباب: 69/ 2.
(2) بداية المجتهد: 277/ 2، القوانين الفقهية: ص 321، الشرح الكبير: 298/ 2، المهذب: 331/ 1، مغني المحتاج: 166/ 2، 170، المغني: 457/ 4 ومابعدها، كشاف القناع: 440/ 3.
(3) البدائع: 171/ 7، الدر المختار: 107/ 5، تبيين الحقائق: 203/ 5، تكملة الفتح: 323/ 7.

(6/4472)


والدليل على كونه علامة البلوغ قوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} [النور:59/ 24] وخبر «رفع القلم عن ثلاثة، منها: عن الصبي حتى يحتلم (1)» وروى أبو داود عن علي بن أبي طالب قال: حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يُتم بعد الاحتلام».
وإذا تحقق البلوغ بالاحتلام تحقق بالإنزال؛ لأن الاحتلام سبب لنزول الماء عادة، فعلق الحكم به. وكذا الإحبال؛ لأنه لا يتحقق بدون الإنزال عادة.
ويعرف البلوغ في الأنثى بالحيض لخبر رواه الخمسة إلا النسائي: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (2) أو بالحبل لأن الحمل دليل على إنزال المرأة فيحكم ببلوغها منذ حملت. وأدنى مدة البلوغ للغلام اثنتا عشرة سنة، وللأنثى تسع سنين، وهو المختار عند الحنفية.
فإذا لم يحصل بلوغ طبيعي، ثبت البلوغ بالسن، فمتى بلغ الولد (ذكراً أو أنثى) سن الخامسة عشرة فقد بلغ الحلم على المفتى به، وهو سن المراهقة.
وقال أبو حنيفة: يبلغ الغلام إذا أتم ثماني عشرة سنة، والأنثى سبع عشرة سنة؛ لأنه إنما يقع اليأس عن الاحتلام الذي علق الشرع الحكم به بهذه السن.
ومذهب المالكية (3): علامات البلوغ الطبيعية سبعة، خمسة منها مشتركة بين
_________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة بلفظ: «وعن الصبي حتى يكبر» ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر بلفظ: «وعن الصبي حتى يحتلم» (نصب الراية: 161/ 4 ومابعدها).
(2) وروى ابن خزيمة في صحيحه عن عائشة: «لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار» والحائض: من بلغت سن المحيض. والخمار: ما يغطى به رأس المرأة. فدل ذلك على بدء تكليفها (نيل الأوطار: 67/ 2).
(3) الشرح الكبير: 293/ 3.

(6/4473)


الجنسين، واثنان مختصان بالأنثى. فالحيض والحبل خاص بالمرأة. وإنزال المني مطلقاً في نوم أو يقظة، وإنبات شعر العانة الخشن، لا الزغب، ونتن الإبط، وفرق أرنبة الأنف، وغلظ الصوت: مشترك بين الذكر والأنثى. ودليل حصول البلوغ بالإنبات: حديث الترمذي عن سمرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شَرْخهم، والشرخ: الغلمان الذين لم يُنْبتوا».
فإن لم يظهر شيء مما ذكر، كان بلوغ الصغير بتمام ثماني عشرة سنة، وقيل: بالدخول فيها.
ومذهب الشافعية (1): يحصل البلوغ إما باستكمال خمس عشرة سنة قمرية، أو بالاحتلام أو بخروج المني وقت إمكانه من ذكر أو أنثى، ووقت إمكانه: استكمال تسع سنين، أو بنبات شعر العانة الخشن الذي يحتاج في إزالته لنحو حلق. وأما نبات شعر الإبط واللحية، فليس دليلاً للبلوغ لندورهما دون خمس عشرة سنة.
ويزيد على المذكور بالنسبة للمرأة: الحيض والحبل.
والخلاصة: أن البلوغ عندهم يحصل بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجل والمرأة، وهي الإنزال (الاحتلام) والإنبات والسن. واثنان تختص بهما المرأة وهما الحيض والحبل.
ودليلهم على تحديد السن بـ 15 سنة: خبر ابن عمر: «عُرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، ولم يرني بلغت، وعرضت عليه
_________
(1) مغني المحتاج: 166/ 2 ومابعدها، المهذب: 330/ 1.

(6/4474)


يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني، ورآني بلغت (1)».
ومذهب الحنابلة (2) كالشافعية تماماً.

رابعاً ـ الرشد: الرشد عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (3): هو صلاح المال ولو كان فاسقاً، أي توفر الخبرة في إدارة المال واستثماره وحفظه وإصلاحه، وحسن التصرف به، وتمييز النافع من الضار، فلا ينفق ماله في غير مصلحة، ولا يضيعه بالتبذير والإسراف، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] قال ابن عباس: يعني صلاحاً في أموالهم. فمن كان مصلحاً لماله، فقد وجد منه الرشد، ولم يكن الحجر عليه إلا لحفظ ماله، فكان المؤثر فيه ما أثر في تضييع المال، أو حفظه.
وقال الشافعية (4): الرشد صلاح الدين والمال، فإصلاح الدين؛ ألا يرتكب من المعاصي ما يسقط به العدالة، وإصلاح المال: أن يكون حافظاً لماله غير مبذر، فلا يفعل محرماً يبطل العدالة: من كبيرة أو إصرار على صغيرة، ولم تغلب طاعاته على معاصيه، ولا يبذر بأن يضيع المال بغبن فاحش (5) في المعاملة ونحوها، أو
_________
(1) رواه ابن حبان، وأصله في الصحيحين وقد رواه الجماعة. وقال الشافعي: رد النبي صلّى الله عليه وسلم سبعة عشر من الصحابة، وهم أبناء أربع عشرة، لأنه لم يرهم بلغوا، ثم عرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة، فأجازهم، منهم زيد بن ثابت ورافع بن خديج وابن عمر.
(2) المغني: 359/ 4 - 461، كشاف القناع: 432/ 3.
(3) البدائع: 170/ 7، الدر المختار: 105/ 5، بداية المجتهد: 278/ 2، المغني: 467/ 4، كشاف القناع: 433/ 3.
(4) مغني المحتاج: 168/ 2، 170، المهذب: 331/ 1.
(5) وهو ما لا يحتمل غالباً. أما الغبن اليسير فمثل بيع ما يساوي عشرة بتسعة، وهذا إذا كان جاهلاً بالمعاملة.

(6/4475)


رميه في بحر، أو إنفاقه في محرم. فإذا بلغ الصغير غير رشيد لاختلال صلاح الدين أو المال، دام الحجر عليه، فيتصرف في ماله من كان يتصرف فيه قبل بلوغه.
والأصح عندهم أن صرفه في الصدقة ووجوه الخير والمطاعم والملابس التي لا تليق بحاله ليس بتبذير.
ويختبر الولي رشد الصبي في الدين والمال، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء:4/ 6] أي اختبروهم. أما في الدين فمشاهدة حاله في العبادات، وتجنب المحظورات، وتوقي الشبهات، ومخالطة أهل الخير.
وأما اختباره في المال فبحسب أمثاله، فيختبر ولد التاجر بالبيع والشراء، والمماكسة فيهما، أي طلب النقصان عما طلبه البائع، وطلب الزيادة على ما يبذله المشتري. ويختبر ولد الزارع بالزراعة، والنفقة على العمال فيها، ويختبر المحترف بما يتعلق بحرفة أبيه وأقاربه. وتختبر المرأة بما يتعلق بالغزل والقطن حفظاً وحياكة وغيرها.
ويشترط تكرر الاختبار مرتين أو أكثر، قبل البلوغ. وقيل: بعده.

خامساً ـ ولي المحجور عليه: الولي: هو صاحب السلطة الشرعية التي يتمكن بها صاحبها من التصرف في مال غيره من غير توقف على إجازة أحد. وقد اتفق أئمة المذاهب على أن ولي المحجور عليه صبياً أو غيره في الأموال هو الأب إن كان موجوداً، ولم يكن مجنوناً أو محجوراً عليه، واختلفوا في غير الأب.
قال الحنفية (1): الولي الذي له حق التصرف في مال المحجور عليه: هو
_________
(1) الدر المختار: 122/ 5، تبيين الحقائق: 220/ 5، البدائع: 155/ 5.

(6/4476)


أبو الصبي، ثم وصيه بعد موته، ثم وصي وصيه، ثم جده (أبو أبيه)، ثم وصي جده، ثم وصي وصيه، ثم الوالي، ثم القاضي أو وصي القاضي. وهذا الترتيب مبني على درجة الشفقة، فشفقة الأب فوق شفقة الكل، وشفقة وصيه فوق شفقة الجد؛ لأنه مرضي الأب ومختاره، وشفقة الجد فوق شفقة القاضي، لوجود القرابة.
وما عدا المذكورمن العَصَبة كالأخ أو العم، أو غيرهما كالأم ووصيها فليس لهم الإشراف على أموال المحجور عليه، ولا يملكون الإذن للقاصر بالتجارة. وهذا الترتيب للأولياء هو في شأن المال، أما في قضايا الزواج فللأولىاء ترتيب آخر.
وقال المالكية (1): الولي على المحجور عليه من صغير أو سفيه لم يطرأ عليه السفه بعد بلوغه (2): هو الأب الرشيد، ثم لوصيه، ثم للحاكم، فإن لم يكن حاكم فالولاية لجماعة المسلمين. فلا تثبت الولاية المالية للجد والأخ والعم إلا بإيصاء الأب.
وقال الشافعية (3): ولي الصبي: أبوه، ثم جده، ثم وصي من تأخر موته من الأب أو الجد، ثم القاضي أو نائبه، لخبر «السلطان ولي من لا ولي له» (4). ولا ولاية لسائر العصبات كالأخ والعم، كما لا ولاية للأم في الأصح: ولا ية مال أو ولاية نكاح. وإني مع هذا الرأي إذ لا أكاد أصدق أن عاطفة وصي الأب غير القريب أولى من الجد، فرابطة الدم والقرابة أشد باعثاً على الرعاية والحفظ والاهتمام بشؤون القصر.
_________
(1) الشرح الكبير: 299/ 3، الشرح الصغير: 389/ 3 ومابعدها.
(2) أما لو طرأ عليه السفه بعد البلوغ فالحجر عليه للحاكم، لا للأب.
(3) مغني المحتاج: 173/ 2 ومابعدها، المهذب: 328/ 1.
(4) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه.

(6/4477)


وقال الحنابلة (1) كالمالكية تماماً: تثبت الولاية على الصبي والمجنون للأب، ثم لوصيه بعده، ثم للحاكم. لكن إن جدد الحجر على الشخص بعد بلوغه، فالولاية عليه للحاكم؛ لأن الحجريفتقر إلى حكم حاكم، وزواله يفتقر إليه، فكذلك النظر في ماله.

سادساً ـ تصرفات ولي القاصر: اتفق الفقهاء على أن الولي يتصرف وجوباً في مال الصبي القاصر بالمصلحة وعدم الضرر لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/ 17] وقوله سبحانه: {وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة:220/ 2] كما أنهم اتفقوا على أن الغني لا يأكل من مال اليتيم، وللفقير أن يأكل بالمعروف من غير إسراف؛ لقوله تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء:6/ 4] وروى الشيخان عن عائشة أنها نزلت في ولي اليتيم إذا كان فقيراً أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف. وروي أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال، ولي يتيم، فقال عليه الصلاة والسلام: «كل من مال يتيمك غير مُسْرف، ولا مُبذِّر، ولا مُتأثِّل مالاً، ولا تقِ مالك بماله» (2).
وتفصيل المذاهب في تحقيق المصلحة كما يأتي:

قال الحنفية (3): لا يملك الولي شيئاً من التبرعات من مال الصغير؛ لأن ذلك
_________
(1) المغني: 471/ 4، كشاف القناع: 434/ 3.
(2) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو. ومعنى «غير متأثل مالاً» أي غير جامع، يقال: مال مؤثل، ومجد مؤثل: أي مجموع ذو أصل (نيل الأوطار: 251/ 5).
(3) البدائع: 153/ 5 ومابعدها، تكملة الفتح: 499/ 8 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص408.

(6/4478)


ضرر محض، فلا يقرض ماله ولا يوصي به، ولا يتصدق بماله، ولا يطلق امرأته، ولا يهب شيئاً من ماله من غير عوض، كما ليس له أن يهب بعوض عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الهبة بعوض هبة ابتداء، وإنما تصير معاوضة انتهاء، وهو لا يملك الهبة. وتجوز الهبة بعوض عند محمد لأنها في معنى البيع.
لكن للقاضي إقراض مال اليتيم، لأنه من باب حفظ الدين. وللولي أن يقبل الهبة والصدقة والوصية للصغير، لأن التصرف نفع محض، فيملكه الولي، وقال عليه الصلاة والسلام: «خير الناس أنفعهم للناس» (1).
وللولي إعارة مال القاصر استحساناً، وإيداعه، ورهنه بدين القاصر؛ لأن التصرف من توابع التجارة، وهو يملكها، كما له أن يرهن مال القاصر بدين للولي نفسه؛ لأن عين المرهون تحت يد المرتهن، إلا أنه إذا هلك يضمن مقدار ما صار مؤدياً منه دين نفسه.
وللولي أن يبيع مال القاصر بأكثر من قيمته، ويشتري له شيئاً بأقل من قيمته لأنه نفع محض له. كما له أن يبيعه بمثل قيمته، وبأقل من قيمته قدر ما يتغابن الناس فيه عادة. وله أن يشتري له شيئاً بمثل قيمته وبأكثر من قميته قدر ما يتغابن الناس فيه عادة.
وله أن يؤاجر نفس القاصر وماله بأكثر من أجر مثله، أو بأجر مثله، أو بأقل منه قدر ما يتغابن الناس فيه عادة. وله أن يستأجر للقاصر شيئاً بأقل من أجر المثل أو بأجر المثل، أو بأكثر منه قدر ما يتغابن الناس فيه عادة. وفي حالة إجارة نفس القاصر إذا بلغ، له الخيار: إن شاء أمضاها، وإن شاء أبطلها، دفعاً للإضرار، ولا خيار له في إجارة المال؛ لأن الأب يملك ذلك بحسب المصلحة، وينفذ تصرفه.
_________
(1) رواه القضاعي عن جابر بن عبد الله، وهو حديث حسن.

(6/4479)


وللولي أن يسافر بمال الصغير، وأن يضارب به، وأن يوكل بالبيع والشراء، والإجارة والاستئجار؛ لأن هذه التصرفات من توابع التجارة، وكل من ملك التجارة، ملك ما هو من توابعها.
وأما بيع عقار القاصر: فيجوز للولي العدل (محمود السيرة بين الناس أو مستور الحال) أن يبيعه بمثل القيمة فأكثر، ولا يجوز بيعه للوصي إلا للضرورة كبيعه لتسديد دين لا وفاء له إلا بهذا المبيع. وهذا هو المفتى به. وينفذ بيع الوصي بإجازة القاضي، وله رده إذا كان خيراً.
ويجوز للأب أو الجد أن يشتري مال الصغير لنفسه، أو يبيع مال نفسه من الصغير، بمثل قيمته أو بأقل مما يتغابن فيه عادة. ولا يجوز بغبن فاحش. وينفذ البيع إذا أجازه القاضي، وللقاضي نقض البيع إذا رأى ذلك خيراً للصبي.
ولا يجوز الشراء أو البيع للوصي عند محمد. ويجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف إن كان البيع للوصي أو الشراء منه خيراً لليتيم، وإلا فلا يجوز. وفسرت الخيرية: بأن تزيد السلعة التي يشتريها الوصي بعشرة من أجنبي (غير الصغير) فإنه يلزم أن يشتريها من الصغير بخمسة عشر.

وقال المالكية (1): يتصرف الولي في مال الصغير بالمصلحة، فللأب بيع مال ولده المحجور عليه مطلقاً، عقاراً أو منقولاً، ولا يتعقب بحال، ولا يطلب منه بيان سبب البيع؛ لأن تصرفه محمول على المصلحة. وله أيضاً هبة الثواب (أي بعوض).
أما الوصي فلا يبيع عقار محجوره إلا لسبب يقتضي بيعه، كما ليس له هبة
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 299/ 3، 302 ومابعدها، الشرح الصغير: 390/ 3، 393 - 395، القوانين الفقهية: ص 322.

(6/4480)


الثواب من مال محجوره إلا لضرورة، لأنه إذا هلك الموهوب، لم يلزم إلا قيمته يوم الهلاك، ومن الجائز أن تنقص قيمته يوم الهلاك عن قيمته يوم الهبة، وهذا ضرر باليتيم.
كذلك يبيع الحاكم كالوصي مال المحجور عند الضرورة كالنفقة ووفاء الدين ونحوهما. فيكون هذا المذهب كالحنفية من حيث المبدأ.
وذكر المالكية أحد عشر سبباً لجواز بيع عقار القاصر من وصي أو حاكم للضرورة وهي:
1 - الحاجة البينة للبيع كنفقة أو وفاء دين لا قضاء له إلا من ثمنه.
2 - الخوف عليه من ظالم يأخذه منه غصباً، أو يعتدي على ريعه ولم يستطع رده.
3 - المصلحة الظاهرة (الغبطة): بأن يبيعه بزيادة الثلث على ثمن المثل فأكثر.
4 - أن يكون موظفاً عليه ضريبة ظالمة، فيباع ليشترى له ما لا توظيف عليه إلا أن يكون الأول أكثر ريعاً.
5 - أن يكون حصته مع شريك، فيباع ليشترى له عقار مستقل لا شركة فيه تخلصاً من ضرر الشركة.
6 - أن يكون ريعه قليلاً أو لا ريع له أصلاً، فيباع ليستبدل له ما فيه ريع أكثر.
7 - أن يكون العقار بين جيران سوء في الدين أو الدنيا، أو لكونه بين جيران ذميين، فيباع ليستبدل به عقار بين جيران صالحين.

(6/4481)


8 - أن يكون مشتركاً غير قابل القسمة، فيبيع شريكه حصته، فيباع مع بيع شريكه.
9 - أن يخاف خرابه، ولا مال للمحجور عليه يعمر به إذا خرب، فيباع.
10 - أن يخاف خرابه، وله مال يعمر به، ولكن بيعه أولى من تعميره.
11 - أن يصبح المنزل منفرداً في مكان لانتقال العمارة عنه.

وقال الشافعية (1): يتصرف الولي للقاصر بالمصلحة وجوباً، فيحفظ ماله عن أسباب التلف، ويستثمره ويتجر له في ماله، حتى لا تأكله المؤن من نفقة وغيرها، لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً، وارزقوهم فيها .. } [النساء:5/ 4] وقوله «فيها» لا «منها» تنبيه على أن الولي ينفق على موليه من ريع ماله بعد تشغيله، لا من عينه. ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من ولي يتيماً، وله مال فليتجر له بماله، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» (2)، ويبني له داره بأمتن مواد البناء عند الإمكان. ويشتري له العقار إذا حصل من ريعه الكفاية لأنه يبقى وينتفع بغلته، هذا إذا لم يخف جوراً من سلطان أو غيره، أو خراباً للعقار. وله أن يسافر بمال الصبي والمجنون وقت الأمن إذا اقتضت المصلحة السفر به، ولا يشتري له ما يسرع فساده، وإن كان مربحاً.
ولا يبيع عقاره إلا في موضعين: أحدهما لحاجة كنفقة وكسوة بأن لم تف غلة العقار بهما، ولم يجد من يقرضه، أو لم ير المصلحة في الاقتراض، أو خاف خرابه، والثاني ـ لمصلحة (غبطة) ظاهرة، كأن يرغب فيه شريك أو جار بأكثر من ثمن مثله، وهو يجد مثله ببعضه، أو خيراً منه بكله، أو يكون ثقيل الخراج، أي المغارم والضرائب مع قلة ريعه.
_________
(1) مغني المحتاج: 174/ 2 - 176، المهذب: 328/ 1 - 330.
(2) رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

(6/4482)


وله بيع مال القاصر مبادلة بعرض آخر، ونسيئة (مؤجلة) للمصلحة التي يراها فيهما، كأن يكون في الأول ربح، وفي الثاني زيادة لائقة، أو خاف عليه من نهب أو إغارة. وإذا باع نسيئة أشهد على البيع وجوباً وارتهن بالثمن رهناً وافياً به. ويشترط أن يكون المشتري موسراً ثقة، والأجل قصيراً عرفاً، احتياطاً للمحجور عليه، فإن لم يفعل ذلك، ضمن، وبطل البيع على الأصح. ولا يودع ماله، ولا يقرضه من غير حاجة؛ لأنه يخرجه من يده. ويزكي ماله وجوباً، لأن الولي قائم مقام القاصر، وينفق عليه بالمعروف في طعام وكسوة مما لا بد منه، بما يليق به في إعساره ويساره، فإن قتَّر أثم، وإن أسرف أثم وضمن.
فإن ادعى الصغير بعد بلوغه على الأب والجد بيعاً لماله، ولو عقاراً، بلا مصلحة، صدق الأب والجد باليمين؛ لأنهما لا يتهمان لوفور شفقتهما. وإن ادعاه على الوصي أو أمين القاضي، صدق الولد للتهمة في حقهما. وإن أراد الولي أن يبيع مال القاصر بماله: فإن كان أباً أو جداً جاز البيع؛ لأنهما لا يتهمان فيه، لكمال شفقتهما، وإن كان غيرهما لم يجز، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يشتري الوصي من مال اليتيم» (1) ولأنه متهم بمراعاة مصلحته في بيع مال القاصر من نفسه.

وقال الحنابلة (2) كالشافعية تقريباً: لا يجوز لولي الصغير والمجنون أن يتصرف في مالهما إلا على وجه الحظ (المصلحة) لهما، لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/ 17].
فإن تبرع بهبة أو صدقة، أو حابى بأن اشترى بزيادة، أو باع بنقصان، أو زاد
_________
(1) رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح عن صلة بن زفر عن ابن مسعود من قوله (مجمع الزوائد: 214/ 4).
(2) كشاف القناع: 435/ 3 - 439.

(6/4483)


على النفقة عليهما بالمعروف، ضمن؛ لأنه مفرط، كتصرفه في مال غيرهما. وللولي الإنفاق عليهما من مالهما بغير إذن الحاكم.
ولايصح للولي أو الوصي أو الحاكم أن يشتري من مال الصغير والمجنون شيئاً لنفسه، أو يبيعهما شيئاً من نفسه، أو يرتهن من مالهما لنفسه؛ لأنها مظنة التهمة، إلا الأب لوفور شفقته، وسعيه في مصلحة ابنه، فلا يفعل إلا ما فيه حظه، بخلاف غيره.
ويجب على الولي إخراج زكاة مالهما من مالهما.
ولايصح إقرار الولي عليهما بمال ولا إتلاف ونحوه؛ لأنه إقرار على الغير.
وللولي السفر بمالهما لتجارة وغيرها في مواضع الأمن وغلبة السلامة؛ لأنه أحظ لهما.
وللولي التجارة بالمال بنفسه ولا أجرة له، والربح كله للمولى عليه؛ لأنه نماء ماله، والتجارة بما لهما أولى من تركها، لقول عمر وغيره: «اتجروا في أموال اليتامى لئلا تأكلها الصدقة». وللولي دفع المال مضاربة إلى أمين يتجر فيه بجزء من الربح، وله إبضاعه أي دفع مالهما إلى من يتجر به، والربح كله للمولى عليه.
وله بيعه نسيئاً لمليِّ، وله قرضه لمصلحة فيهما، بأن يكون الثمن المؤجل أكثر مما يباع به حالاً، وذلك لحاجة سفر أو خوف على المال من نهب أو غرق أو غيرهما، ولو بلا رهن ولا كفيل به. فإن ضاع المال أو تلف بسبب ترك الرهن والكفيل لم يضمن الولي؛ لأن الظاهر السلامة.
وله إيداع مال المولى عليه لثقة، أو قرضه لمليء أمين، لمصلحة فيه؛ لأنه أحفظ له، ولا ضمان على الولي إن تلف لعدم تفريطه. ولا يقرض وصي ولا

(6/4484)


حاكم منه شيئاً لنفسه، كما لا يشتري من نفسه، ولا يبيع لنفسه للتهمة، أما الأب فيجوز له لعدم التهمة، كما تقدم.
وله هبة المال بعوض قدر قيمته فأكثر، أما بدونها فمحاباة لاتصح. وله رهنه عند ثقة لحاجة.
وللولي شراء العقار للمولى عليه ليستغل، وله أيضاً بناؤه بما جرت به عادة أهل بلده.
وله تعليمه الخط والرماية والأدب وما ينفعه، وأداء الأجرة عنه من مال المولى عليه؛ لأنه لمصلحته، وله تسليمه للعمل في صناعة، ومداواته لمصلحة بلا إذن حاكم.
وللولي بيع عقار المولى عليه لمصلحة، ولو لم يحصل زيادة على ثمن مثله. وأنواع المصلحة كثيرة منها:

ـ الحاجة إلى نفقة أو كسوة أو قضاء دين ونحوها مما لا بد منه للصغير أو المجنون إذا لم يكن لهما ما تندفع به الحاجة سوى المبيع.
ـ أن يخاف على العقار الهلاك بغرق أو حرق أو خراب، ونحوها.
ـ أن يكون في بيع العقار صفقة رابحة للقاصر، كأن يباع بزيادة كثيرة على ثمن مثله، ولا يتقيد بالثلث.
ـ أن يكون العقار في مكان لا ينتفع به، كأن يكون في حي غير عامر، أو قليل النفع، فيبيعه ليشتري له عقاراً في مكان آهل بالسكان، أو أكثر نفعاً.
ـ أن يرى الولي شيئاً يباع بسعر رخيص، لا يمكن شراؤه إلا ببيع العقار.

(6/4485)


ـ أن يكون العقار في مكان يتضرر الغلام بالمقام فيه، كسوء الجوار أو غيره. ونحوه مما لا ينحصر مما يكون فيه مصلحة. ولا يباع إلا بثمن المثل.

سابعاً ـ الإذن للقاصر في التصرفات: الإذن في اللغة: الإعلام، ومنه الأذان؛ لأنه إعلام بوقت الصلاة، قال تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} [التوبة:3/ 9] أي إعلام. وقال تعالى: {وأذن في الناس بالحج} [الحج:27/ 22] أي أعلمهم به.
وفي الشرع: الإذن: فك الحجر في التجارة، وإطلاق التصرف، وإسقاط الولي حق المنع من التصرف للقاصر.
واتفق الفقهاء على اختبار المميز في التصرفات، لمعرفة رشده، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء:6/ 4] أي اختبروهم. واختباره بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله. فإن كان من أولاد التجار، اختبر بالمماكسة في البيع والشراء، وإن كان من أولاد الزراع اختبر بالزراعة، وإن كان من أولاد أصحاب الحرف اختبر بالحرفة. والمرأة تختبر في شؤون البيت من غزل وطهي طعام وصيانته وشراء لوازم البيت،
ونحوها (1).

واختلفوا في إذن الولي للقاصر بالتجارة وفي أثر الإذن على التصرفات:
1 - فقال الشافعية (2): لا يجوز الإذن له في التجارة، وإنما يسلم إليه المال، ويمتحن في المماكسة، فإذا أراد العقد عقد الولي؛ لأن تصرفاته وعقوده باطلة لعدم توافر العقل الكافي لتقدير المصلحة في مباشرة التصرف، فلا يثبت له أحكام
_________
(1) المغني: 478/ 4.
(2) مغني المحتاج: 170/ 2.

(6/4486)


العقلاء قبل وجود مظنةكمال العقل. لكن يختبر السفيه، فإذا ظهر رشده عقد؛ لأنه مكلف.

2 - وقال الحنفية، والمالكية في المعتمد عندهم، والحنابلة في الرواية الراجحة (1): يجوز للولي المالي الإذن للقاصر في التجارة إذا أنس منه الخبرة، لتدريبه على طرق المكاسب، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء:6/ 4] أي اختبروهم لتعلموا رشدهم. وإنما يتحقق الاختبار بتفويض التصرف إليهم في البيع والشراء، ولأن المميز عاقل محجور عليه، فيرتفع حجره بإذن وليه، ويصح تصرفه بهذا الإذن، فلو تصرف بلا إذن لم يصح عند الحنابلة، ولم ينفذ عند المالكية والحنفية. وهذا الرأي هو الأرجح والمعقول، لاتفاقه مع طبيعة التدريب على التصرفات.
والإذن عند الحنفية والمالكية قد يكون صريحاً، مثل أذنت لك في التجارة، أو دلالة، كما لو رآه يبيع ويشتري، فسكت؛ لأن سكوته دليل الرضا، ولو لم يعتبر سكوته، لأدى إلى الإضرار بمن يعاملونه.
وقال الحنابلة وزفر من الحنفية: لا يثبت الإذن بالدلالة، لأن سكوته محتمل للرضا، ولعدم الرضا.
وأما أثر الإذن: فقال الحنفية: الإذن فك الحجر لا توكيل، فيكون عاماً، وإن قيده بنوع خاص، فلا يتوقت ولا يتخصص بنوع ولا بمكان؛ لأنه إسقاط، والإسقاطات لا تقبل التقييد. فإذا أذن الولي في التجارة، نفذت جميع تصرفات
_________
(1) الدر المختار: 108/ 5 - 111، تبيين الحقائق: 203/ 5 ومابعدها، البدائع: 194/ 7 ومابعدها، الشرح الكبير: 294/ 3، 303 ومابعدها، الشرح الصغير: 384/ 3، 396، المغني: 468/ 4، كشاف القناع: 445/ 3.

(6/4487)


المأذون التي تحتمل النفع والضرر، فله أن يبيع ويشتري ويضارب ويرهن ويسترهن، ويؤجر ويستأجر. وليس له أن يهب أو يتصدق أو يقرض أو يتكفل، لأن التصرف تبرع، وليس تجارة ولا من مستلزمات التجارة.
ويجوز للمأذون عند أبي حنيفة أن يتصرف بغبن فاحش؛ لأنه أصبح بالإذن كامل الأهلية، ولكامل الأهلية التصرف بشؤون التجارة ولو بغبن فاحش.
وقال الصاحبان: لا يجوز تصرفه بغبن فاحش؛ لأن الزيادة الناجمة عن الغبن بمنزلة التبرع، وهو لا يملكه. وهذا في تقديري أولى لأن هذا التصرف مشتمل على ضرر له، وهو لا يملك التصرف الضار.

ومذهب المالكية في نفاذ تصرفات المأذون في المعاوضات المالية دون التبرعات هو كالحنفية، إلا أنهم قالوا كالصاحبين: لا ينفذ التصرف المشتمل على غبن فاحش.
ومذهب الحنابلة: أن الإذن بمثابة التوكيل، فلا ينفك الحجر بالإذن إلا فيما أذن له فيه وليه فقط، فإذا أذن الولي في التجارة في مئة، لم يصح تصرف المأذون فيما زاد عليها، وإذا أذن في نوع من التجارة، يتقيد فيه فقط؛ لأن تصرفه جاز بالإذن، فيزول الحجر عنه ويتقيد فيما أذن له فيه. لكن المأذون في التجارة من مميز ونحوه كمضارب في البيع، له البيع نسيئة أو بعرض (متاع)، لا كوكيل؛ لأن الغرض هنا الربح كالمضاربة.
ويصح إقرار المميز المأذون بقدر ما أذن له فيه؛ لأن الحجر انفك عنه فيه، وليس له التوكيل فيما أذن له فيه.
أجر الولي على ولايته: إن كان الولي غنياً لم يجز له الأجر على رعايته

(6/4488)


أموال المحجور وتنميتها وتشغيلها، وإن كان فقيراً، وانشغل بهذه الرعاية عن كسبه والتفرغ لشأن نفسه، جاز له أن يأخذ أجراً معتدلاً على رعايته، ويعين الأجر بحسب العرف الشائع، ودليل هذا التفصيل قوله تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف .. } [النساء:6/ 4].

المطلب الثاني ـ أثر الحجر في تصرفات المجنون:
المجنون: هو من زال عقله. فإن استمر جنونه في جميع الأوقات، كان جنوناً مُطْبِقاً، وإذا ذهب عقله في وقت، وأفاق في وقت، كان جنونه متقطعاً.
ففي وقت الجنون يكون المجنون كالصبي غير المميز، تنسلب عنه الولايات الثابتة بالشرع كولاية الزواج، أو الثابتة بالتفويض كالإيصاء والقضاء، وتبطل أقواله في الدين والدنيا كالإسلام والمعاملات، لعدم قصده.
فلا تعتبر تبرعاته كالصدقة والهبة، وتبطل جميع عقوده وتصرفاته كالبيع والشراء وإقراراته وطلاقه؛ لأنه فاقد الأهلية. وتعتبر أفعاله كالإحبال وإتلاف مال غيره، فينسب الولد له، ويضمن جنايته على نفس أو طرف أو جرح، فيلتزم بأرش (تعويض) الجناية.
وأما في وقت الإفاقة التامة بحيث يكون المصاب كامل العقل والتمييز فتعتبر تصرفاته صحيحة نافذة. فإن كانت إفاقته غير تامة، بأن كان يعقل بعض الأشياء دون بعض، فتعد تصرفاته كالمميز موقوفة على إجازة وليه إذا كانت محتملة الضرر والنفع، وتبطل إذا كانت ضارة، وتنفذ إذا كانت نافعة. وهذا عند الحنفية والمالكية.

(6/4489)


المطلب الثالث ـ أثر الحجر في تصرفات المعتوه:
المعتوه: هو من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير لاضطراب عقله، سواء من أصل الخلقة، أو لمرض طارئ.
فإن كان العته شديداً، والمعتوه غير مميز، فهو كالمجنون والصغير غير المميز، تكون تصرفاته كلها باطلة. وقد ألحقت كتب الفقهاء العته بالجنون (1).
وإن كان العته خفيفاً، والمعتوه مميزاً، فتصرفه الضار عند الحنفية والمالكية يكون باطلاً، والنافع يكون صحيحاً، والدائر بين النفع والضرر يكون موقوفاً على إجازة وليه، فهو كالصبي المميز (2).

المطلب الرابع ـ أثر الحجر على السفيه:
يحجر على السفيه باتفاق المذاهب، كما يحجر على الصبي والمجنون، والحجر على السفيه هو المفتى به والمختار في المذهب الحنفي.
والسفيه: هو من يبذر ماله، ويصرفه في غير موضعه الصحيح، بما لا يتفق مع الحكمة والشرع. وفسر المالكية (3) السفه: بصرف المال في معصية كخمر وقمار (اللعب بالدراهم على أن من غلب صاحبه فله من المعلوم كذا، وهو محرم إجماعاً) أو بصرفه في معاملة من بيع أو شراء بغبن فاحش خارج عن العادة بلا
_________
(1) البدائع: 170/ 7، تبيين الحقائق: 191/ 5 ومابعدها، تكملة الفتح: 310/ 7 - 313، الدر المختار: 100/ 5 ومابعدها، اللباب: 66/ 2 ومابعدها، الشرح الكبير: 292/ 3، الشرح الصغير: 382/ 3، 388، مغني المحتاج: 165/ 2 وما بعدها، المهذب: 328/ 1، كشاف القناع: 430/ 3 ومابعدها.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 100/ 5، تكملة الفتح: 311/ 7.
(3) الشرح الصغير: 393/ 3.

(6/4490)


مصلحة (من غير مبالاة) أو صرفه في شهوات نفسانية على خلاف عادة مثله في مأكله ومشربه وملبوسه ومركوبه ونحوها، أو بإتلافه هَدَراً، كأن يطرحه على الأرض أو يرميه في بحر ونحوه.
وقد اختلفت المذاهب في تعريفه وفي أحكامه.

1 - مذهب الحنفية (1): السفه: هو تبذير المال وتضييعه على خلاف مقتضى الشرع أو العقل، ولو في الخير، كأن يصرفه في بناء المساجد ونحوها. والتبذير كالإسراف في النفقة، وأن يتصرف تصرفات لا لغرض، أو لغرض لا يعده العقلاء المتدينون غرضاً كدفع المال إلى المغنين، والغبن في التجارات من غير محمدة (2).
والسفيه: الخفيف العقل، المتلف لماله فيما لا غرض له فيه، ولا مصلحة. وحكمه مختلف فيه، فقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر العاقل البالغ بسبب السفه والدَّيْن والفسق والغفلة. فلا يحجر على السفيه ويظل تصرفه في ماله جائزاً، وإن كان مبذراً مفسداً يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة؛ لأن في سلب ولايته على ماله إهدار آدميته، وإلحاقه بالبهائم، وهو أشد ضرراً من التبذير، فلا يتحمل الضرر الأعلى لدفع الأدنى. قال تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} [النساء:2/ 4] والمراد به بعد البلوغ (3).
لكن إذا بلغ الغلام غير رشيد لإصلاح ماله، لم يسلم إليه ماله في أوائل بلوغه، حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة. وإن تصرف في ماله بعد البلوغ قبل أن
_________
(1) البدائع: 169/ 7، 171، الدر المختار ورد المحتار: 102/ 5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 195/ 5 ومابعدها، تكملة الفتح: 310/ 7 ومابعدها، اللباب: 68/ 2 ومابعدها.
(2) التسامح في التصرفات من حيث الأصل، والبر والإحسان مشروع، إلا أن الإسراف حرام كالإسراف في الطعام والشراب، قال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} [الفرقان:67/ 25].
(3) لكن يلاحظ أن هذه الآية مقيدة بآية: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5/ 4].

(6/4491)


يبلغ تلك السن، نفذ تصرفه، لوجود الأهلية، وإذا بلغ خمساً وعشرين سنة، سلِّم إليه ماله، وإن لم يؤنس منه الرشد؛ لأن المنع عنه للتأديب، ولا يتأدب بعد هذه السن غالباً، فقد يصير جَدَّاً في هذه السن، فلا فائدة في المنع. وهذا كله غير المفتى به.
وقال الصاحبان: يحجر على السفيه والمديون والمغفل، ولا يحجر على الفاسق. وبقولهما يفتى صيانة لمال السفيه والمغفل، ورعاية لمصلحة الدائنين الغرماء. ودليل الصاحبين وأئمة المذاهب الأخرى على جواز الحجر على السفيه: قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء:5/ 4] فقد نهى الله الأولياء عن إعطاء السفهاء أموالهم، مما يدل على منعهم من التصرف، إذ لو أبيح لهم التصرف، لأمكنهم إتلاف أموالهم، وهي في يد أوليائهم، فلا يكون لمنع المال عنهم فائدة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الطبراني بإسناد صحيح: «خذوا على يد سفهائكم».
ثم إن في الحجر على السفيه رعاية لمصلحته، ودفع الضرر عنه بحفظ ماله وعدم وقوعه في الحاجة والفقر، كما أن فيه رعاية المصلحة العامة بدفع الضرر عن الناس الذين يعاملونه، حتى لا يصبح الشخص عالة على المجتمع، ومنعاً من إلحاق الضرر بالأموال، ودفع الضرر واجب شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» (1).
وبناء على قول الصاحبين المفتى به: حكم السفيه المحجور عليه كحكم الصبي المميز، في التصرفات التي تحتمل الفسخ كالبيع والشراء، تصح موقوفة
_________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري، ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وله طرق يقوي بعضها بعضاً.

(6/4492)


على إجازة القيم عليه. فإن باع بعد الحجر لم ينفذ بيعه، وإن كان في بيعه مصلحة، أجازه الحاكم.
أما التصرفات التي لا تحتمل الفسخ كالزواج والطلاق، فتصح منه، فإن تزوج امرأة أو أربع نسوة، جاز نكاحه؛ لأنه من حوائجه الأصلية، ولأنه لا يبطله الهزل. ثم إن سمى لها مقدار مهر مثلها، وإن زاد على مهر المثل، بطل الزائد؛ لأنه لا ضرورة فيه. ولو طلقها قبل الدخول، وجب نصف المهر المسمى.
وتصح وصيته بمقدار الثلث من ماله، بشرط أن تكون الوصية لجهة خيرية كالإنفاق على الفقراء، أو بناء المساجد أو المشافي أو المدارس؛ لأن الوصية لا تنفذ إلا بعد وفاته.
ويجوز إقراره على نفسه بالحدود والقصاص، ولا يصح إقراره بالمال بعد الحجر عليه.
وتجب عليه نفقة أولاده وزوجته ومن تجب عليه نفقته من ذوي أرحامه، وتخرج زكاة ماله؛ لأن السفه لا يبطل حقوق الناس.
وتصح منه عباداته، ومنها الحج المفروض عليه، لكن لا يسلم القاضي النفقة إليه، وإنما يسلمها إلى ثقة من الحجاج، ينفقها عليه في طريق الحج، كيلا يتلفها في غير الحج.
ويلاحظ أنه لا يثبت الحجر على السفيه أو المدين إلا بقضاء القاضي، بخلاف الصغر والجنون والعته.

2 - مذهب المالكية (1): السفيه هو المبذر لماله إما لإنفاقه باتباعه لشهوته،
_________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 296/ 3 ومابعدها، الشرح الصغير: 387/ 3 ومابعدها، و 393، بداية المجتهد: 279/ 2، القوانين الفقهية: ص 321.

(6/4493)


وإما لقلة معرفة بمصالحه وإن كان صالحاً في دينه. والسفه: صرف المال في غير ما يراد له شرعاً. والحجر على السفيه من حقوق الأب إذا كان السفه قريباً من البلوغ كالصبي، فإن كان طروء السفه بعد البلوغ بأكثر من عام، فلا بد من حكم الحاكم بالحجر عليه.
وحكم تصرفاته ما يأتي: ينفذ على الراجح قبل الحجر تصرف السفيه الذكر البالغ الذي لا ولي له ولا قيِّم عليه (ويسمى المُهْمَل) المحقق السفه، بدون إجازة من أحد، ولو تصرف بغير عوض، سواء أكان سفهه أصلياً (أي حدث قبل البلوغ) غير طارئ، أم طرأ بعد أن بلغ رشيداً.
أما غير محقق السفه أي مجهوله فتصرفه نافذ اتفاقاً. وأما الصبي السفيه والأنثى البالغة السفيهة المُهْمَلان (أي لا ولي لهما) فترد تصرفاتهما، إلى أن يبلغ الصبي، وإلى أن تعنس الأنثى وتقعد عن المحيض وهو سن الأربعين أو من خمسين إلى ستين، أو تمضي سنة بعد دخول الزوج بها.
وتصح وصية السفيه المحجور، وتنفذ، كما ينفذ طلاق زوجته وخلعه لها، ولا تلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية، ولا شيء من المعروف. ويصح إقراره بموجب عقوبة من حد أو قصاص.
وأما تصرف السفيه المحجور بعوض، فهو موقوف على نظر وليه، أي أن حكم تصرفه كحكم تصرف الصبي المميز، المتقدم. ويتصرف الولي على المحجور وجوباً بالمصلحة العائدة على محجوره حالاً أو مآلاً، فله ترك شفعة وقصاص، ولا يعفو عن عمد أو خطأ مجَّاناً بلا أخذ مال، لما فيه من عدم المصلحة.

(6/4494)


3 - مذهب الشافعية (1): السفه: تبذير (2) المال، وسوء التصرف، بأن يُضيِّع المال باحتمال غبن فاحش في المعاملة ونحوها، أو يرمي المال وإن قل في بحر أو نار، أو نحوه، أو ينفقه في محرَّم ولو معصية صغيرة، لما فيه من قلة الدين. والأصح أن صرف المال، وإن كثر، في الصدقة وباقي وجوه الخير، والمطاعم والملابس التي لا تليق بحاله، ليس بتبذير؛ لأن له في الصرف في الخير غرضاً وهو الثواب، فإنه لا سرف في الخير، كما لا خير في السرف، ولأن المال يتخذ لينتفع به ويلتذ.
ولا بد في الحجر على السفيه من حكم القاضي عليه، لا غيره من أب أو جد لأنه محل اجتهاد، ويسن أن يشهد القاضي على حجر السفيه، ليتجنب في المعاملة. ولو عاد رشيداً لا يرتفع الحجر عنه إلا برفع القاضي له، كما لا يثبت إلا به.
وولي السفيه: هو القاضي، إذ ولاية الأب ونحوه قد زالت، فيشرف عليه من له النظر العام.
وأما تصرفاته: فيصح بإذن الولي نكاحه. ويصح طلاقه ورجعته وخلعه زوجته بمثل المهر وبدونه، وظهاره وإيلاؤه، ونفيه النسب لما ولدته زوجته بلعان، واستلحاقه نسب ولد منه.
ولا يصح تصرفه المالي في الأصح ولو بإذن الولي؛ لأن عبارته مسلوبة، كما لو أذن لصبي فلا يصح من المحجور عليه لسفه بيع ولا شراء ولا هبة، فلو اشترى
_________
(1) مغني المحتاج: 168/ 2، 170 - 173، المهذب: 332/ 1.
(2) التبذير: الجهل بواقع الحقوق. والسرف: الجهل بمقادير الحقوق، وحقيقة السرف: ما لا يكسب حمداً في العاجل، ولا أجراً في الآجل.

(6/4495)


أو اقترض وقبض وتلف المأخوذ في يده أو أتلفه فلا ضمان عليه، ولا يصح إقراره بدين قبل الحجر عليه أو بعده، كالصبي. كما لا يصح إقراره بإتلاف المال أو جناية توجب المال في الأظهر، كدين المعاملة. ويصح إقراره بالحد والقصاص، لعدم تعلقهما بالمال، ولبعد التهمة. وتقطع يده لو كان الحد سرقة. ولا يلزمه المال لو عفا مستحق القصاص؛ لأن المال ثبت باختيار غيره، لا بإقراره.
وحكمه في العبادة الواجبة مطلقاً، والمندوبة البدنية كالرشيد، لاجتماع الشرائط فيه. أما المندوبة المالية كصدقة التطوع، فليس هو فيها كالرشيد. لكن لا يفرق الزكاة بنفسه؛ لأنه ولاية وتصرف مالي، لكن لو أذن له الولي، وعين له المدفوع إليه، صح صرفه، كالصبي المميز، بشرط أن يكون تصرفه بحضرة الولي أو نائبه، لأنه قد يتلف المال إذا خلا به، أو يدّعي صرفه كاذباً.
ويصح نذره في الذمة بالمال، لا بعين ماله. وإذا أحرم بحج مفروض (أصلي أو قضاء أو منذور قبل الحجر)، أعطى الولي كفايته لثقة ينفق عليه في طريقه، كما قال الحنفية. وإن أحرم حال الحجر بتطوع من حج أو عمرة، أو بنذر بعد الحجر، وزادت مؤنة سفره عن نفقته المعتادة في أثناء الإقامة (أو الحضر)، فللولي منعه من الإتمام، أو الإتيان به، صيانة لماله، والمذهب أنه يكون كمُحْصَر (ممنوع من إكمال الحج)، فيتحلل؛ لأنه ممنوع من المضي، ويتحلل بالصوم؛ لأنه ممنوع من المال. لكن لو كان له في طريقه كسب، قدرَ زيادة المُؤنة، لم يجز منعه؛ لأن الإتمام بدون التعرض للمال ممكن.

4 - مذهب الحنابلة (1): السفيه: هو الذي لا يحسن التصرف.
_________
(1) المغني: 469/ 4 - 475، كشاف القناع: 440/ 3 - 443.

(6/4496)


ولا بد للحجر عليه ـ كما قال سائر الأئمة ـ من حكم الحاكم، كما أن رفع الحجر عنه لا بد له من الحكم؛ لأنه حجر ثبت بحكمه، فلم يزل إلا به، كالمدين المفلس.
ومن حجر عليه الحاكم استحب له إظهاره والإشهاد على الحجر عليه، لتجتنب معاملته، كما قال الشافعية، ومن عامله بعدئذ فهو المتلف لماله.
وولي السفيه: هو الأب، أو وصيه بعده، أو الحاكم عند عدمهما، إن كان محجوراً عليه صغيراً، واستديم الحجر عليه لسفهه. وإن جدد الحجر عليه بعد بلوغه، لم ينظر في ماله إلا الحاكم؛ لأن الحجر وإزالته يفتقر إلى حكم الحاكم، فكذلك النظر في ماله.
وأما تصرفاته: فيصح نكاحه بإذن وليه وبغير إذنه، كما قال الحنفية، إن احتاج إليه؛ لأنه في هذه الحالة مصلحة محضة، ويتقيد بمهر المثل فلا يزيد عليه؛ لأن الزيادة تبرع، وليس السفيه من أهله. فإن لم يكن السفيه محتاجاً إلى التزوج، لا يصح تزوجه إلا بإذن وليه؛ لأنه تصرف يجب به مال، فلم يصح بغير إذن وليه كالشراء.
ويصح طلاقه؛ لأن الطلاق ليس بتصرف في المال، كما يصح خلعه زوجته؛ لأنه إذا صح الطلاق من دون دفع مال منه، فالخلع الذي يجلب له المال أولى، لكن لا يدفع العوض إليه. وهو متفق عليه فقهاً، كما لا حظنا.
ويصح ظهاره وإيلاؤه ولعانه ونفي النسب باللعان عن السفيه، وإقراره بنسب ولد منه.
وتصح وصيته، كما قال سائر الفقهاء، لأنها محض مصلحته، لأنها تقرب إلى الله تعالى بماله، بعد استغنائه عنه.

(6/4497)


ويصح إقراره بما يوجب حداً أو قصاصاً، كما قال سائر الفقهاء، كالزنا والسرقة والشرب والقذف والقتل العمد أو قطع اليد وما أشبهها. وإذا أقر بما يوجب القصاص، فعفا المقر له على مال، فالصواب: أنه لا يجب المال الذي عفا عليه في الحال، كما قال الشافعية؛ لأن السفيه والمقر له قد يتواطآن على العفو، بل يجب إذا انفك الحجر عنه.
ولا يصح إقراره بدين، أو بما يوجب الدين كجناية الخطأ، وشبه العمد وإتلاف المال وغصبه وسرقته، ولا يلزمه ما أقر به في حال حجره؛ لأنه محجور عليه لمصلحته، لكن الظاهر من قول الحنابلة: أنه يلزمه ما أقرَّ به بعد فك الحجر عنه.
والحكم في السفيه كالحكم في الصبي والمجنون في وجوب الضمان بإتلاف مال الغير بغير إذنه، كما قال سائر الفقهاء.
ولا تصح تبرعاته، كالهبة والوقف، كما قال بقية الفقهاء؛ لأن التبرع ضرر محض، وليس السفيه من أهله، حفظاً لماله. ولا تصح شركة السفيه ولا حوالته ولا الحوالة عليه، ولا كفالته لغيره، لأن المذكور تصرف مالي، فلم يصح منه كالبيع والشراء.
ولا تصح تصرفاته من بيع وشراء بغير إذن وليه، فتكون باطلة؛ لأنه محجور عليه لحفظ ماله عليه. فإن أذن ولي السفيه له بالبيع والشراء، فهل يصح منه؟. على وجهين:
أحدهما ـ يصح لأنه عقد معاوضة، فملكه بالإذن كالنكاح، ويظهر أن هذا هو الأرجح عندهم.

(6/4498)


والثاني ـ لا يصح؛ لأن الحجر عليه لتبذيره وسوء تصرفه، فإذا أذن له، فقد أذن فيما لا مصلحة فيه، فلم يصح. وقد عرفنا أن هذا الوجه هو الأصح عند الشافعية.
ويلتزم السفيه بواجباته الشرعية كنفقة زوجته وخادمه ومن تلزمه نفقته، وتجب عليه الفرائض الدينية المتعلقة بالأموال، كالزكاة، لكن لا يباشر توزيعها بنفسه، بل يفرقها وليه، كسائر تصرفاته المالية. ويصح منه نذر كل عبادة بدنية كالحج والصيام والصلاة؛ لأنه غير محجور عليه في بدنه. ولا يصح منه نذر عبادة مالية كصدقة وأضحية لأنه تصرف في مال.
وإن أحرم السفيه بحج فرض، صح إحرامه به، كسائر عباداته، وتدفع النفقة من ماله إلى ثقة، ينفق عليه في الطريق، حتى يعود، كما قال باقي الفقهاء. وإن كان الحج الذي أحرم به تطوعاً، وكانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر، أو كانت نفقته في السفر أزيد، لكن يكتسب السفيه الزائد في سفره، لم يمنعه وليه من إتمام الحج؛ لأنه وجب بالشروع. فإن كانت نفقة السفر أزيد، ولم يكتسبها فلوليه تحليله من الإحرام بحج النفل، لما عليه من الضرر فيه، ويتحلل بالصيام أي صيام عشرة أيام، كالمعسر إذا أحصر، كما قال الشافعية.
وحكم تصرف ولي السفيه، كحكم تصرف ولي الصغير والمجنون مقيد بتحقيق المصلحة للمولى عليه.
والخلاصة: أن تصرفات السفيه بالبيع والشراء ونحوهما موقوفة على إجازة وليه عند الحنفية والمالكية، وباطلة ولو بإذن الولي عند الشافعية، وباطلة بغير إذن الولي، وتصح وتنفذ بإذنه عند الحنابلة على الراجح.

(6/4499)


المطلب الخامس - أثر الحجر على المغفل:
المغفل أو ذو الغفلة: هو من يغبن في البيوع، ولا يهتدي إلى التصرفات الرابحة في بيعه وشرائه، لقلة خبرته وسلامة قلبه. ويختلف عن السفيه بأنه ليس بمفسد لماله، ولا بمتابع هواه، ولا يقصد الإفساد. والسفيه عكسه، مفسد قصداً لماله، متابع لهواه. والمغفل ليس هو المعتوه؛ يخلط في كلامه.
ولا يحجر على المغفل عند أبي حنيفة، ويحجر عليه عند الصاحبين، ويفتى بقولهما، وهو رأي باقي الفقهاء، رعاية لمصلحته وحكم تصرفاته كالسفيه (1).

بدء الحجر على السفيه والمغفل ونهايته:
قال محمد بن الحسن، وابن القاسم المالكي (2): يثبت الحجر على السفيه والمغفل من وقت ظهور أمارات السفه أو الغفلة، ويزول بزوالهما، دون توقف على قرار القاضي بالحجر؛ لأن المسبب يدور مع سببه وجوداً وعدماً.
وبناء عليه، لا تصح ولا تنفذ تصرفاتهما بمجرد ظهور الأمارات المذكورة، ويكون محجوراً عليهما ولو قبل صدور قرار القاضي.
وقال أبو يوسف (ورأيه هو الراجح عند الحنفية) وجمهور الفقهاء (3): لايثبت الحجر على
السفيه وذي الغفلة، ولا يرفع إلا بقرار القاضي بثبوته أو رفعه؛ لأن كلاً من السفه والغفلة ليس أمراً محسوساً كالجنون والعته، وإنما يستدل عليه
_________
(1) الدر المختار: 102/ 5 ومابعدها، تبيين الحقائق: 198/ 5 ومابعدها، البدائع: 169/ 7.
(2) رد المحتار: 103/ 5، 106، الشرح الكبير: 297/ 3 ومابعدها.
(3) القوانين الفقهية: ص 321، رد المحتار: 103/ 5، الشرح الصغير: 388/ 3، مغني المحتاج: 170/ 2، المغني: 469/ 4.

(6/4500)


بالتصرفات الحاصلة من السفيه والمغفل، وهذه أمور تقديرية اجتهادية، تختلف باختلاف وجهات النظر، فلا بد من حكم القاضي للتثبت من الأمر ورفع الخلاف، ومنعاً من تغرير المتعاملين معهما، وعدم إضرارهم بهما؛ لأنهم لا يعلمون أمرهما إلا بقرار الحجر عليهما.
ويترتب على هذا الرأي الراجح لدي لضبطه وعدم إضرار أحد أو تغريره نفاذ تصرفات السفيه والمغفل قبل الحجر القضائي عليهما، فينفذ مثلاً ما باعه أحدهما قبل حجر القاضي.

المطلب السادس ـ الحجر على الفاسق:
اتفقت المذاهب الأربعة في الأصح عند الشافعية (1): على أنه لا يحجر على الفاسق بسبب الفسق وحده دون تبذير ماله، فلو فسق السفيه مثلاً ولم يبذر: أي مع صلاح تصرفه في ماله بعد بلوغه رشيداً، لم يحجر عليه؛ لأن الفاسق أهل للولاية على نفسه وأولاده، ولأن الحجر شُرع لدفع الإسراف والتبذير، وهو مصلح لماله، ولأن السلف لم يحجروا على الفسقة.
والفسق الأصلي بأن بلغ فاسقاً، والطارئ بعد البلوغ: سواء في عدم جواز الحجر على صاحبه.

ملاحظة حول الحجر على الغائب:
قال الحنفية خلافاً لمبدئهم في عدم جواز القضاء على الغائب (2): يصح الحجر على الغائب، لكن لا ينحجر مالم يعلم بالحجر.
_________
(1) الدر المختار: 102/ 5، اللباب مع الكتاب: 75/ 2، القوانين الفقهية: ص320، الشرح الكبير: 292/ 3، مغني المحتاج: 170/ 2، كشاف القناع: 440/ 3.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 106/ 5.

(6/4501)


المطلب السابع ـ الحجر للمصلحة العامة:
صرح الحنفية (1) بأنه يجوز الحجر للمصلحة العامة؛ لأنه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام أو يدفع الضرر الأعلى بالأدنى، فيحجر (أي يمنع) على الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن، والمُكاري المفلس. وذلك بأن يسقي المتطبب الناس دواء مهلكاً، أو لا يقدر على إزالة ضرر دواء اشتد تأثيره على المرضى.
والمفتي الماجن: بأن يعلم العوام الحيل الباطلة، كتعليم الارتداد لتبين المرأة من زوجها، أو لتسقط عنها الزكاة، ولا يبالي بما يفعل من تحليل الحرام، وتحريم الحلال؛ أو أن يفتي عن جهل.

والمُكَارِي المفلس: وهو الذي يتقبل الكراء، ويؤجر وسائل النقل من إبل أو سيارات مثلاً، وليست عنده تلك الوسائل، كما أنه لا مال له، ليشتري بها الوسائل، ويعتمد الناس عليه، ويدفعون الكراء إليه، ويصرف هو ما أخذه منهم في حاجته، فإذا جاء موعد النقل، يختفي عن الأنظار، فتذهب أموال الناس، وتتعطل مصالحهم. وبكلمة موجزة: المكاري المفلس: هو متعهد النقل بدون إمكانات، فهو محتال نصاب.
فيحجر على هؤلاء وأمثالهم؛ لأن دفع الضرر العام واجب، وإن كان فيه إلحاق الضرر الخاص ومصادمة الحريات. والحجر في هذه الحالات عقوبة مناسبة لزجرهم ودرء المفاسد عن الناس، لهذا روي عن أبي حنيفة أنه كان لا يجري الحجر إلا على هؤلاء الثلاثة؛ لأن الطبيب يضر الأبدان، والمفتي يضر الأديان، والمكاري يضرّ الأموال.
_________
(1) تبيين الحقائق: 193/ 5، الدر المختار: 102/ 5 ومابعدها، البدائع: 169/ 7، الهداية مع تكملة الفتح: 316/ 7، الكتاب مع اللباب: 68/ 2.

(6/4502)


لكن ليس المراد بالحجر عليهم هو حقيقة الحجر: وهوالمنع الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف؛ لأن المفتي لو أفتى بعد الحجر، وأصاب، جاز، وكذا الطبيب لو باع الأدوية، نفذ بيعه، فدل على أن المراد هو المنع الحسي أي يمنع هؤلاء الثلاثة عن عملهم حساً؛ لأن المنع من العمل من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بسبب أن الطبيب الجاهل يفسد أبدان الناس، والمفتي الماجن يفسد دين المسلمين، والمكاري المفلس يفسد أموال الناس، ويلحق ضرراً بهم.

المطلب الثامن ـ الحجر على المريض مرض الموت:
مرض الموت: هو الذي يغلب بسببه الموت بحسب رأي الأطباء، أو يحدث منه الموت، ولو لم يحصل الموت به غالباً، أي أن المدار على كثرة الموت من المرض، ولو لم يكن غالباً (1).
وعرفته مجلة الأحكام العدلية (م 1595) بأنه المرض الذي يعجز الرجل أو المرأة عن ممارسة أعمالهما المعتادة، ويتصل به الموت قبل مضي سنة من بدئه، إذا لم يكن في حالة تزايد أو تغير، فإن كان يتزايد، اعتبر مرض موت من تاريخ اشتداده أو تغيره، ولو دام أكثر من سنة. ويقال لصاحبه: المريض، ويقابله: الصحيح وهو من ليس في حال مرض الموت، ولو كان مريضاً بمرض آخر. ويعد المرض الذي صح منه المريض كالصحة، والمقعد والمفلوج والمسلول إذا تطاول زمن المرض ولم يقعده في الفراش كالصحيح.
وبناء عليه قال المالكية (2): المريض نوعان: مريض لايخاف عليه الموت غالباً كالأبرص والمجذوم والأرمد، وغيرهم، فلا حجر عليه أصلاً.
_________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 306/ 3.
(2) القوانين الفقهية: ص 322.

(6/4503)


ومريض يخاف عليه في العادة كالُحمَّى القوية والسُّل وذات الجنب وشبهها. وفي رأيي أن تقدير خطر الموت عائد لظروف تقدم الطب في كل عصر. فإذا كان السل مثلاً مرضاً خطيراً في الماضي، فقد أصبح في عصرنا غير خطير بعد اكتشاف عصيات السل؛ وعلاجه المناسب له.
واتفق أئمة المذاهب (1) على جواز الحجر على مريض الموت لحق الورثة. وصرح المالكية أنه يلحق به: من يخاف عليه الموت كالمقاتل في صف القتال، والمحبوس للقتل، أو المحكوم بالإعدام، والحامل إذا بلغت ستة أشهر، ودخلت في السابع ولو بيوم. واختلف في راكب البحر وقت الهول بشدة ريح أو غيرها، والأصح أنه لايعتبر كمريض الموت.
والذي يحجر به على مريض الموت: هو تبرعاته فقط فيما زاد عن ثلث تركته، حيث لا دين، فيحجر على المريض في تبرع كهبة وصدقة ووصية ووقف وبيع محاباة، وبيع مشتمل على غبن، فيما يزيد عن ثلث ماله، أي أن حكم تبرعاته كحكم وصيته، تنفذ من الثلث، وتكون موقوفة على إجازة الورثة في الزائد عن الثلث. فإن برئ من مرضه، صح تبرعه. وهذا رأي الحنفية والشافعية والحنابلة. فإن استغرقت الديون جميع تركته حجر عليه جميع تصرفاته دون نظر إلى الثلث رعاية لحقوق الدائنين الغرماء.
وقال المالكية: لاينفذ من الثلث تبرع المريض في الحال أو لا ينجز للمتبرع له إلا إذا كان المال المتبرع منه مأموناً أي لايخشى تغيره وهو العقار كدار وأرض
_________
(1) الدر المختار: 480/ 5 ومابعدها، شرح السراجية: ص5، الشرح الكبير: 306/ 3 ومابعدها، الشرح الصغير: 399/ 3 - 402، مغني المحتاج: 165/ 2، القوانين الفقهية: ص 322 ومابعدها، المغني: 465/ 4، كشاف القناع: 404/ 3.

(6/4504)


وشجر، فإن كان المال غير مأمون فلا ينفذ وإنما يوقف ولو بدون الثلث حتى يظهر حاله من موت أو حياة.
ويمنع عند المالكية تصرف المريض فيما زاد على قدر الحاجة من الأكل والشرب والكسوة والتداوي، كما يمنع من الزواج بما زاد على الثلث.
ولايمنع من تصرفات المعاوضات المالية كبيع وشراء وقرض وقراض (مضاربة) ومساقاة وإجارة، إلا إن كان فيها محاباة.
فإن مات المريض، نفذ تصرفه من التبرعات في ثلث ماله. وإن عاش، نفذ تصرفه من رأس ماله كله.
وقال الحنفية: تنفذ تصرفات المريض الضرورية الخاصة بشخصه وأسرته دون إجازة أحد، وهي النفقات الضرورية اللازمة للطعام والكسوة والسكنى له، ولمن تلزمه نفقته، أو اللازمة للعلاج كأجر الطبيب وثمن الدواء وأجور العملية الجراحية. وله الزواج، لأنه قد يحتاج إلى من يخدمه أو يؤنسه، بشرط كون المهر في حدود مهر المثل، والزائد عنه تبرع في حكم الوصية.
وللمريض أن يقر بدين لأجنبي أو لوار ث، فإن كان لأجنبي غير وارث فهو صحيح نافذ دون حاجة لإجازة الورثة، لكن يقدم عليه دين الصحة.

المطلب التاسع ـ الحجر على الزوجة:
قال المالكية وفي رواية عن أحمد (1): يحجر على المرأة المتزوجة الحرة الرشيدة لصالح زوجها في التصرف بغير عوض كالهبة والكفالة فيما زاد على ثلث
_________
(1) الشرح الكبير: 307/ 3 ومابعدها، الشرح الصغير: 402/ 3، القوانين الفقهية: ص 323، المغني: 464/ 4، كشاف القناع: 405/ 3.

(6/4505)


مالها قياساً على المريض، ويكون تبرعها بزائد عن الثلث نافذاً، حتى يرد الزوج جميعه أو ما شاء منه، على المشهور عند المالكية.
وبناء على هذا المشهور، ينفذ جميع ما تبرعت به، إن لم يعلم الزوج بتبرعها حتى بانت منه بطلاق، أو علم وسكت، أو مات أحدهما.
وللزوج رد جميع ما تبرعت به الزوجة إن تبرعت بزائد على ثلثها، وله إمضاؤه وإنفاذه، وله رد الزائد فقط. ورد الزوج رد إيقاف على المعتمد، ورد إبطال عند أشهب.
وليس للزوجة بعد الثلث تبرع إلا أن يبعد ما بين التبرعين بنصف عام على المعتمد عندهم.
أما واجبات الزوجة من نفقة أبويها، فلا يحجر عليها فيه، ولو قصدت بالإنفاق ضرر الزوج عند ابن القاسم، خلافاً لما روي عن مالك من رد الثلث إذا قصدت به ضرر الزوج، ولها أن تهب جميع مالها لزوجها، ولا اعتراض عليها في الهبة لأحد. ولها التصرف بعوض في جميع مالها.
ودليل هذا المذهب أخبار منها: «لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها، إذ هو مالك عصمتها» (1).
وقال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة في الراجح عندهم) (2):للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم
_________
(1) رواه الخمسة إلا الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في خطبة خطبها: «لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها»، وهناك روايات أخرى عن ابن ماجه (المغني، المكان السابق، نيل الأوطار: 18/ 6).
(2) المغني: 464/ 4.

(6/4506)


رشداً، فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] وهو ظاهر في فك الحجر عنهم، وإطلاقهم في التصرف. وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يا معشر النساء! تصدقن، ولو من حُليِّكن ... » (1)، وأنهن تصدقن، فقبل صدقتهن، ولم يسأل، ولم يستفصل. وهذا الرأي هو الأوجه؛ لأن ذمة المرأة المالية مستقلة عن ذمة الزوج في الإسلام، وهذا من مفاخر الشريعة التي أعطت المرأة أهلية كاملة في التملك والتصرف.

ملحق ـ هل للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشيء اليسير بغير إذنه؟ هناك روايتان عن الإمام أحمد تمثلان أهم آراء السلف إجمالاً (2):
إحداهما ـ الجواز وهو الأصح، وهي الرواية الراجحة المشهورة في المذهب؛ لأن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مُُفْسِدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً» (3)، ولم تذكر إذناً، إذ العادة السماح، وطيب النفس به، فجرى صريح الإذن، كتقديم الطعام بين يدي الضيفان قام مقام صريح الإذن في أكله.
لكن إن منعها الزوج من التصدق، أو كان الزوج بخيلاً، وتشكُّ في رضاه، فيحرم عليها الصدقة بشيء من ماله حينئذ، كما يحرم على الرجل الصدقة بطعام
_________
(1) رواه الترمذي عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود (سنن الترمذي رقم الحديث: 635).
(2) المغني: 465/ 4 ومابعدها، كشاف القناع: 448/ 3 ومابعدها، نيل الأوطار: 16/ 6.
(3) رواه الجماعة، وهناك أحاديث أخرى في معناها متفق عليها (نيل الأوطار: 15/ 6 وما بعدها).

(6/4507)


امرأته بغير إذنها؛ لأن العادة لم تجر به. ومن يقوم مقام المرأة كالأخت والخادمة والغلام المتصرف في مال سيده، هو كالزوجة، يجوز له الصدقة بنحو رغيف من مال رب البيت، ما لم يمنع أو يكن بخيلاً، أو يضطرب العرف ويشك في رضاه.
والرواية الثانية ـ لا يجوز، لما روى أبو أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟
قال: ذاك أفضل أموالنا» (1)، ولأنه تبرع بمال غيره، بغير إذنه، فلم يجز للغير وللزوجة.
قال ابن قدامة الحنبلي: والأول أصح؛ لأن الأحاديث فيها (أي في الرواية الأولى) خاصة صحيحة، والخاص يقدم على العام ويبينه، ويعرِّف أن المراد بالعام غير هذه الصورة المخصوصة. وحديث الباهلي ضعيف. ولا يصح قياس المرأة على غيرها؛ لأنه بحكم العادة تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه، وتتصدق منه لحضوره وغيبته، والإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي، فصار كأنه قال لها: افعلي هذا.

المطلب العاشر ـ الحجر على المدين وأثره (التفليس):
أولاً ـ تعريف التفليس والمفلس: التفليس لغة: النداء على المفلس، وشهره بين الناس بصفة الإفلاس المأخوذ من الفلوس التي هي أخس الأموال. وشرعاً: جعل الحاكم المديون مفلساً بمنعه من التصرف في ماله أو خلع الرجل عن ماله للغرماء.
_________
(1) رواه سعيد بن منصور في سننه، وفي معناه أحاديث: حرمة مال الإنسان بغير طيب منه، وتحريم الأموال والدماء بين المسلمين.

(6/4508)


والفلس: عدم المال، والمفلس في العرف: من لا مال له. وهو المعدم، وفي الشرع: من لا يفي ماله بدينه، أو الذي أحاط الدين بماله، أو من لزمه من الدين أكثر من ماله الموجود. وسمي مفلساً، وإن كان ذا مال؛ لأن ماله مستحق الصرف في جهة دينه، فكأنه معدوم، أو باعتبار ما يؤول من عدم ماله بعد وفاء دينه، أو لأنه يمنع من التصرف في ماله إلا الشيء التافه الذي لا
يعيش إلا به، كالفلوس ونحوها (1).

ثانياً ـ هل يحجر على المدين المفلس؟ قال أبو حنيفة (2): لا أحجر على المفلس في الدَّين؛ لأن مال الله غاد ورائح، فهو لا يرى الحجر على المدين المفلس، كما لا يرى الحجر على السفيه؛ لأن في الحجر إهداراً لحريته وإنسانيته وأهليته، فذلك أخطر من ضرر خاص يلحق الدائن. فتنفذ تصرفاته، ولا يباع ماله جبراً عنه، وإنما يؤمر بسداد ديونه؛ فإن امتثل فلا يتعرض له بشيء، وإن امتنع عن الأداء، حبس حتى يسدد دينه، أو يبيع ماله بنفسه، وشرع حبسه دفعاً لظلمه؛ لأن قضاء الدين واجب عليه، والمماطلة ظلم. وليس للقاضي أن يبيع ماله جبراً عنه؛ لأنه نوع حجر عليه، وهو لا يجوز عنده. والخلاصة: أن أبا حنيفة قال: ليس للحاكم أن يحجر على المفلس، ولا يبيع ماله بل يحبسه، حتى يؤدي أو يموت في السجن.
والمفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين، وهو قول جمهور الفقهاء: وهو جواز الحجر على المدين المفلس في تصرفاته المالية، حفاظاً على حقوق الدائنين
_________
(1) بداية المجتهد: 280/ 2، القوانين الفقهية: ص 318، الشرح الكبير: 261/ 3، مغني المحتاج: 146/ 2، المغني: 408/ 4، كشاف القناع: 405/ 3.
(2) الهداية مع تكملة الفتح: 324/ 7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 199/ 5، الكتاب مع اللباب: 72/ 2.

(6/4509)


وأموالهم من الضياع. بدليل ماروى الدارقطني، والخلال، وصحح الحاكم إسناده: أن النبي صلّى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ماله في دين كان عليه، وقسمه بين غرمائه، فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلم: ليس لكم إلا ذلك.
واختلفت المذاهب في بعض التفصيلات، منها توقف الحجر على قضاء القاضي ومايتبعه من أمور.

ثالثاً ـ هل يتوقف الحجر على المدين على قضاء القاضي؟ 1 - مذهب المالكية (1): للمفلس الذي أحاط الدين بماله أحوال ثلاثة:
الحالة الأولى ـ قبل التفليس أي قبل نزع ماله منه وإعطائه للدائنين: يكون للدائنين الحق في منعه من التصرف في ماله بغير عوض، وإبطال تصرفه، سواء أكان دينهم حالاً أم مؤجلاً. فيمنعونه من التصرفات الضارة بمصلحتهم، كالتبرع والهبة والصدقة والوقف، والكفالة والقرض والإقرار بدين لشخص يتهم بأن إقراره له فراراً من الدين، كولده وزوجه. أما من لايتهم معه، فيعتبر إقراره له. وماعدا المذكور من تصرفات المعاوضة كالبيع والشراء، تنفذ منه.
الحالة الثانية (2) ـ ألا يرفع الأمر إلى الحاكم، وإنما يقوم الغرماء على المدين، فيستتر منهم ولايجدونه، فلهم أن يحولوا بينه وبين ماله، ويمنعوه من التبرعات
_________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 261/ 3 - 264، الشرح الصغير: 345/ 3 - 353، بداية المجتهد: 280/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص318 ومابعدها.
(2) وتسمى إفلاساً بالمعنى الأعم.

(6/4510)


والتصرفات المالية بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، ولو بغير محاباة، ومن التزوج، ولهم قسم ماله بالمحاصة، أي بنسبة حصص ديونهم.

الحالة الثالثة (1) ـ حكم الحاكم بتفليسه، أي بخلع ماله لغرمائه، وهو نزع ماله منه وإعطائه للدائنين، لعجزه عن قضاء مالزمه من الديون.
ولاتتحقق هذه الحالة إلا بطلب الدائنين (الغرماء) جميعهم أو بعضهم، وأن يكون الدين حالاً، فلا يصح تفليسه بدين مؤجل، وأن يكون الدين زائداً على ماله ومتى فلسه الحاكم اشترك الجميع في ماله، من طلب ومن لم يطلب.
ويترتب على تفليسه في هذه الحال أمور أربعة تحقق معنى الحجر عليه وهي: منعه من التبرعات؛ ومن المعاوضات المالية، والزواج بأكثر من زوجة واحدة؛ وقسمة ماله بين الدائنين، وحلول الدين المؤجل، أي يحجر عليه في جميع التصرفات بعوض أو بغير عوض، وللدائنين منعه من سفر التجارة أو غيرها إن حل دينه أو كان يحل بغيبته، كما لهم طلب سجنه، فيحبسه الحاكم استبراء لأمره.

2 ـ مذهب الجمهور (غير المالكية) (2): لايحجر على المدين إلا بقضاء القاضي، فتكون تصرفاته قبل القضاء نافذة. وإذا حجر عليه، فإنه يمنع من جميع التصرفات التي تضر بالدائنين، وهي التبرعات والمعاوضات المالية، والإقرار بالدين في حال الحجر، ويبيع الحاكم ماله، ويقسم ثمنه على الغرماء.
_________
(1) وتسمى إفلاساً بالمعنى الأخص.
(2) تبيين الحقائق: 199/ 5، الدر المختار: 103/ 5، الكتاب مع اللباب: 73/ 2، تكملة الفتح: 327/ 7 ومابعدها، مغني المحتاج: 147/ 2 - 149، المهذب: 320/ 1، المغني: 409/ 4، 471، كشاف القناع: 407/ 3 - 411.

(6/4511)


وشرط الحنفية في المفتى به وهو قول الصاحبين شرطين للحجر على المدين: أن يكون دينه مستغرقاً أمواله أو يزيد عنها، وأن يطلب الغرماء الحجر عليه.
وشرط الشافعية والحنابلة للحجرعلى المدين شرطين أيضاً كالشرطين السابقين: أن تكون عليه ديون حالّة تزيد على ماله، وأن يطلب الغرماء الحجر عليه.
ويصح تزوج المفلس بمهر المثل، وطلاقه وخلعه زوجته ورجعتها واستيفاؤه القصاص، وإسقاط القصاص ولو مجاناً. وله أن يرد المبيع الذي اشتراه قبل الحجر بالعيب أو الإقالة، إن كانت المصلحة في الرد. والأصح عند الشافعية سريان الحجر على مايتملكه المدين بعد الحجر بالاصطياد والهبة، والوصية، والشراء في الذمة، على القول الراجح بجواز هذا الشراء؛ لأن مقصود الحجر وصول الحقوق إلى أهلها، وهو لايختص بالمال الموجود وقت الحجر.
وينفق على المدين من ماله وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه؛ لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء.

الفرق بين حجر المدين وحجر السفيه: فرَق الحنفية (1) بين الحجر بالدين والحجر بالسفه من وجوه، منها:
1 ـ أن حجر السفيه لمعنى في نفسه، وهو سوء اختياره، لا لحق الغرماء، أما الحجر للدين فهو لمصلحة الدائنين، ويحتاج كلاهما لحكم القضاء.
2 ـ أن المحجور بالدين لو أقر حالة الحجر ينفذ إقراره بعد زوال الحجر ولو فيما سيحدث له من مال، والمحجور بالسفه لا يجوز إقراره بالدين، لا حال
_________
(1) رد المحتار: 103/ 5، تبيين الحقائق: 196/ 5.

(6/4512)


الحجر، ولا بعده، ولا في المال القائم، ولا الحادث. وهذان الوجهان مقرران أيضاً عند الشافعية والحنابلة والمالكية.
وحجر الفلس أقوى من حجر المرض بدليل أن المريض يتصرف في مرض الموت في ثلث ماله، ولا تتعلق حقوق الورثة بماله إلا بعد الموت. أما حجر الفلس فتتعلق حقوق الغرماء بعين مال المدين في الحال كالمرهون (1).

رابعاً ـ سفر المدين المفلس: للفقهاء في منع المدين من السفر رأيان متقاربان:
فقال الحنفية والشافعية (2): ليس للدائنين منع المدين من السفر قبل حلول الأجل، سواء أكان الأجل بعيداً أم قريباً؛ لأنه لا حق لهم في مطالبة حلول الأجل. فإذا حل الأجل لهم منعه من المضي في سفره حتى يوفي دينه.
وقال المالكية (3): للدائن منع المدين من سفر لتجارة أو غيرها إن حل أجل الدين، أو كان يحل في أثناء غيبته، مطلقاً أي ولو لم يكن الدين محيطاً بمال المدين، إذا لم يوكل من يوفي عنه دينه، أو لم يضمنه موسر.
فإن كان الدين مؤجلاً، أو لا يحل أثناء الغيبة في السفر، ليس للدائن منعه من السفر.
ويتفق الحنابلة (4) مع المالكية بالقول: للدائن منع المدين الذي أراد سفراً طويلاً فوق مسافة القصر، إن حل الدين قبل عودته من السفر. وليس له منعه إن كان
_________
(1) مغني المحتاج: 148/ 2، المهذب: 321/ 1.
(2) البدائع: 173/ 7، تكملة الفتح: 329/ 7، اللباب: 74/ 2، المهذب: 319/ 1، مغني المحتاج: 157/ 2.
(3) الشرح الكبير: 262/ 3، الشرح الصغير: 348/ 3.
(4) المغني: 455/ 4، كشاف القناع: 405/ 3 ومابعدها.

(6/4513)


الدين لا يحل إلا بعد عودته من سفره. لكنهم قالوا: إن كان سفره لجهاد، فله منعه إلا بضمين (كفيل) أو رهن؛ لأنه سفر يتعرض فيه للشهادة، وذهاب النفس، فلا يأمن فوات الحق.
والخلاصة: أن الرأي الأول للحنفية والشافعية: ليس للدائن المنع من السفر ولا المطالبة بكفيل إذا كان الدين مؤجلاً بحال، سواء أكان الدين يحل قبل العودة من السفر أم بعده، وسواء أكان السفر إلى الجهاد أم إلى غيره؛ لأنه لا يملك المطالبة بالدين، فلم يملك منعه من السفر، ولا المطالبة بكفيل كالسفر الآمن القصير. فإن كان الدين حالاً منع المدين من السفر.
والرأي الثاني للمالكية والحنابلة أكثر تشدداً في حفظ حق الدائن، فله المنع من السفر إذا كان الدين يحل قبل العودة من السفر؛ لأنه سفر يمنع استيفاء الدين في أجله، فملك منعه من السفر إن لم يوثق بكفيل أو رهن كالسفر بعد حلول الحق.

خامساً ـ أثر الحجر على المفلس أو أحكام الحجر: يترتب على الحجر آثار أو أحكام:
1ً - تعلق حق الغرماء بعين ماله، ومنعه من التصرف بماله (1):
يستحب أن يشهد القاضي على حجر المفلس، ليعلم الناس حاله، ويحذروا معاملته، فلا يعاملوه، إلا على بصيرة (2). فإذا حجر عليه تعلقت ديون الغرماء
_________
(1) رد المحتار: 105/ 5، تكملة الفتح: 328/ 7، الشرح الكبير: 265/ 3، الشرح الصغير: 352/ 3، 355، القوانين الفقهية: ص 318 ومابعدها، مغني المحتاج: 147/ 2، المهذب: 321/ 1، كشاف القناع: 411/ 3، المغني: 409/ 4، 471، كشاف القناع: 411/ 3.
(2) المهذب: 321/ 1، مغني المحتاج: 148/ 2، المغني: 440/ 4، كشاف القناع: 411/ 3.

(6/4514)


بماله كالرهن، فلا ينفذ تصرفه فيه بما يضرهم؛ لأنه لا ضرر على الغرماء، فتبطل تبرعاته كالهبة والصدقة، ولا يقبل إقراره أصلاً بعد التفليس على ماله باتفاق الفقهاء، لكن قال المالكية: يقبل إقرار المفلس لغير متهم عليه أي أجنبي، ولا يقبل لمتهم عليه كابن وأخ وزوجة، وقبول إقراره يكون في المجلس الذي فلس فيه، أو قام عليه الغرماء أو قريباً منه. ويبطل بيعه وشراؤه ونحوهما من المعاوضات المالية عند الحنابلة، والشافعية في الأظهر، لتعلق حق الغرماء بعين ماله كالمرهون، ولأنه محجور عليه بحكم الحاكم، فلا يصح تصرفه في ماله ببيع أو غيره مما يناقض مقصود الحجر.
وقال الحنفية: يصح بيعه بثمن المثل أو بمثل القيمة، وأما إن كان بغبن فيصح البيع موقوفاً على إجازة الدائنين، وبه يكون قصدهم من منعه من التصرف عندهم هو البيع بأقل من ثمن المثل.
وقال المالكية: إن وقع التصرف المالي لم يبطل، بل يوقف على نظر الحاكم والغرماء.
وتصح من المفلس المحجور عليه التصرفات المتعلقة بذمته كالبيع على أساس السلم أو بيع شيء موصوف في الذمة، إذ لا ضرر على الغرماء في ذلك. وتصح منه التصرفات التي لا تتعلق بأمواله كالنكاح والطلاق والخلع والقصاص وإسقاط حق القصاص بمقابل الدية أو العفو مجاناً.
ويصح إقراره بحق أو مال وجب عليه قبل الحجر عليه، ولا يصح إقراره بحقوق تعلقت بماله بعد الحجر عليه بمعاملة أو مطلقاً بأن لم يقيده بمعاملة ولا غيرها (1).
_________
(1) مغني المحتاج: 148/ 2 ومابعدها.

(6/4515)


2ً - حلول الديون المؤجلة، كما تحل الديون بالموت عند الحنفية وفي المشهور عند المالكية (1)، لخراب الذمة في الحالتين، وهو عند المالكية ما لم يشترط المدين عدم حلوله بهما، وما لم يقتل الدائن المدين عمداً، فلا يحل.
وقال الشافعية في الأظهر، والحنابلة في أرجح الروايتين (2): لا يحل الدين المؤجل بفلس من هو عليه؛ لأن الأجل حق مقصود للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه، ويفترق الفلس عن الموت في أن الميت خربت ذمته وبطلت. وعليه: لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة غرماء الديون الحالة، بل يقسم المال الموجود بين أصحاب الديون الحالة، ويبقى المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله. فإن لم يقتسم الغرماء حتى حل الدين، شارك الغرماء، كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته.

3ً - الملازمة والحبس الاحتياطي للمدين:
اختلف الفقهاء في جواز ملازمة المدين، واتفقوا على جواز حبسه بحكم القاضي بشروط معينة.
الملازمة: قال أبو حنيفة وصاحباه (3): للدائنين أن يلازموا المدين، فيذهبوا معه حيثما ذهب، فإذا رجع إلى بيته، فأذن لهم في الدخول، دخلوا معه، وإلا انتظروه على الباب ليلازموه بعد الخروج، ولكن لا يمنعونه من التصرف والكسب والسفر حال الملازمة، ولا يحبسونه في مكان خاص؛ لأنه حبس، بل يدورون
_________
(1) الشرح الصغير: 352/ 3، القوانين الفقهية: ص 318، بداية المجتهد: 282/ 2، الشرح الكبير: 265/ 3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 147/ 2، المغني: 435/ 4.
(3) تبيين الحقائق: 200/ 5، تكملة الفتح: 329/ 7 ومابعدها، البدائع: 173/ 7.

(6/4516)


معه، ويدور هو حيث شاء؛ لأنه بذلك يتمكن الدائن من حمل المدين على قضاء الدين، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لصاحب الحق: اليد، واللسان» (1) أراد باليد: الملازمة، وباللسان: التقاضي. ولا تلازم المرأة منعاً من الخلوة بالأجنبية.
وقال زفر والمالكية والشافعية والحنابلة (2): إذا ثبت إعسار المدين عند الحاكم، لم يكن لأحد مطالبته وملازمته، بل يمهل إلى أن يوسر لأنه إذا ثبتت العسرة استحق النَّظِرة إلى الميسرة، كما لو كان الدين مؤجلاً، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة، فنَظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2]. وحديث «لصاحب الحق ... » فيه مقال، كما قال ابن المنذر، أو أنه يحمل على الموسر، فقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها، فكثر دينه: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» (3). وهذا القول هو الأرجح.

حبس المدين: المقرر شرعاً أنه يجب على المدين إيفاء ديونه إذا كان موسراً، فإن كان معسراً فيمهل إلى وقت اليسار عملاً بنظرة الميسرة. وإن كان مماطلاً في الوفاء، وله مال يفي بدينه للحال، حبسه الحاكم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لَيُّ الواجد ظلم، يحل عرضه وعقوبته» (4). واللي: المطل، والواجد: الغني من الوُجد بمعنى
_________
(1) رواه بهذا اللفظ ابن عدي في الكامل عن أبي عتبة الخولاني، ورواه الدارقطني عن مكحول بلفظ «إن لصاحب الحق اليد واللسان» وهو حديث مرسل. وأخرج البخاري عن أبي هريرة، قال: «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم رجل يتقاضاه، فأغلظ له، فهمَّ به أصحابه، فقال: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً» (نصب الراية: 166/ 4).
(2) مغني المحتاج: 156/ 2، المغني: 449/ 4 ومابعدها، كشاف القناع: 406/ 3، 430، الشرح الصغير: 370/ 3، القوانين الفقهية: ص 317، بداية المجتهد: 280/ 2 ومابعدها.
(3) رواه مسلم والترمذي.
(4) رواه الخمسة إلا الترمذي، وأخرجه أيضاً البيهقي وابن حبان وصححه عن عمرو بن الشَّريد عن أبيه (نيل الأوطار: 240/ 5).

(6/4517)


القدرة. وعرضه: شِكايته، وعقوبته: حبسه. وبناء عليه يجوز الحبس، ولكن بشروط أوضحها الفقهاء.

قال الحنفية (1): للقاضي أن يحبس المدين رجلاً أو امرأة بدينه في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة إذا كان غنياً، أو اشتبه على القاضي حال يساره وإعساره، ولم يقم عنده حجة على أحدهما، فإذا حبسه شهرين أو ثلاثة أشهر، ولم يظهر له مال في تلك المدة، فإنه يطلق سراحه، وإن أقام البينة على أن لا مال له أي أنه فقير، خلى سبيله، للآية السابقة {فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2] ولا يضرب المحبوس بالدين ولا يخوَّف، ولا يغل بقيد، ولا يجرد، ولا يوقف أمام صاحب الدين إهانة له، ولا يؤجر.
ويشترط للحبس شروط ثلاثة: في الدين، والمدين، والدائن:
أولهما ـ أن يكون الدين حالا ً، فلا يحبس في الدين المؤجل؛ لأن الحبس لدفع الظلم المتحقق بتأخير قضاء الدين، ولم يوجد ممن دينه مؤجل.
ثانيهما ـ يشترط في المدين شروط ثلاثة: هي القدرة على وفاء الدين: فلو كان معسراً لا يحبس، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة، فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2].
والمطل: وهو تأخير قضاء الدين، للحديث السابق «مطل الغني ظلم» (2) فيحبس دفعاً للظلم، وحديث «ليّ الواجد ... » والحبس عقوبة، وما لم يظهر منه المطل، لا يحبس لانعدام المطل واللي منه.
_________
(1) البدائع: 173/ 7، تكملة الفتح: 329/ 7 - 330، تبيين الحقائق: 199/ 5.
(2) رواه الجماعة: عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 236/ 5).

(6/4518)


وأن يكون المدين غير الوالدين، فلا يحبس الوالدون وإن علوا، بدين المولودين، وإن سفلوا، لقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/ 31] {وبالوالدين إحساناً} [الإسراء:23/ 17]، وليس من المصاحبة بالمعروف والإحسان: حبسهما بالدين، لكن يحبس الوالد تعزيراً
بالامتناع عن نفقة ولده الذي عليه نفقته (1)، ويحبس ولي الصغير إذا كان هو المتسبب في تأخير قضاء الدين.

ثالثها ـ أن يطلب الدائن (صاحب الدين) من القاضي حبس المدين، فما لم يطلب لا يحبس؛ لأن الدين حقه، والحبس وسيلة إلى حقه، وممارسة الحق بطلبه.
والذي يمنع عنه المحبوس: هو الخروج إلى أشغاله ومهماته الدينية والدنيوية، كحضور الجمع والجماعات والأعياد وتشييع الجنائز وعيادة المرضى والزيارة والضيافة، ليكون المنع باعثاً له على قضاء الدين. ولا يمنع من زيارة أقاربه له، ولا من التصرفات الشرعية كالبيع والشراء والهبة والصدقة والإقرار لغيرهم من الغرماء. ولا يمكن المحبوس من الاشتغال بعمله على الصحيح ليضجر قلبه، فينبعث على قضاء دينه.

وقال المالكية (2): يسجن المدين استبراء لأمره إن جهل حاله، أو ظهرت ملاءته (غناه) بحسب ظاهر حاله، بلبسه فاخر الثياب، وركوبه جيد المواصلات، وكان له خدم من غير أن يعلم حقيقة حاله، حتى يثبت عسره، أو يأتي بكفيل يكفله، فيطلق سراحه.
_________
(1) أما الولد فيحبس بدين الوالد، وكذا سائر الأقارب يحبس المديون بدين قريبه.
(2) الشرح الصغير: 368/ 3 - 371، الشرح الكبير: 278/ 3 - 282، القوانين الفقهية: ص 318.

(6/4519)


فإن وعد غريمه بوفاء الدين، وطلب تأخيره نحو اليومين، أجيب لطلبه، ولا يحبس إن كفله كفيل.
كذلك يؤجل المدين المعلوم الملاءة (الغنى) أو ظاهر الملاءة، إن وعد بالوفاء، وطلب التأخير لبيع أمواله وعروضه التجارية، إن قدم كفيلاً بالمال، وإلا سجن، وليس للحاكم بيع تلك العروض، بخلاف المفلس؛ لأن المفلس منع من التصرف في ماله، وتحبس المرأة عند امرأة أمينة، ويحبس الجد لولد ابنه، ويحبس الولد لأبيه في دين أو غيره، ولا العكس: أي لا يحبس والد بولده.
فإن أثبت المدين المجهول الحال، أو ظاهر الملاءة عُسْره بشهادة بيِّنة تشهد أنه لا يعرف له مال ظاهر ولا باطن، وحلف كذلك أنه لا مال له، أُنظر لميسرة، فلا يسجن ولا يطالب قبلها، ولا يلزم بتكسب ولا اقتراض لوفاء ما بقي عليه من الدين، ولو كان قادراً عليه؛ لأن الدين إنما تعلق بذمته، فلا يطلب به إلا عند اليسار. ويخرج المجهول الحال من الحبس إن طال حبسه باجتهاد الحاكم بحيث يغلب على الظن أنه لو كان عنده مال، ما صبر على الحبس هذه المدة. وأما ظاهر الملاءة فلا يخرج من الحبس إلا ببينة بعدمه. وأما معلوم الملاءة فيخلد في السجن حتى يؤدي ما عليه أو يأتي بكفيل غارم.

وقال الشافعية والحنابلة (1): على الموسر إن طولب أداء دينه فوراً بحسب الإمكان، فإن امتنع وله مال ظاهر، وهو من جنس الدين، وُفي منه، فإن كان من غير جنس الدين، باع الحاكم جبراً عليه ماله، وإن كان المال في غير محل ولايته، أو أكرهه مع التعزير بحبس أو غيره على البيع، فإن أخفى المدين ماله، وهو
_________
(1) مغني المحتاج: 154/ 2، 157، كشاف القناع: 406/ 3 - 409، المغني: 447/ 4 ومابعدها، و450 ومابعدها، المهذب: 320/ 1.

(6/4520)


معلوم، وطلب غريمه حبسه، حبس، وحجر عليه أولاً حتى يظهره. فإن لم ينزجر بالحبس، ورأى الحاكم ضربه أو غيره، فعل ذلك، وإن زاد مجموعه على الحد.
ومن ادعى الإعسار ولم يصدقه الدائن، حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بعسرته. فإن ثبت إعساره، وجب إنظاره ولم تجز ملازمته للآية السابقة: {وإن كان ذو عسرة، فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2].
وإن ثبتت قدرته على الوفاء، ولم يؤد ديونه، حبسه الحاكم (1)، للحديث السابق: «ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته»، وليس للحاكم إخراج المدين من الحبس حتى يتبين له أمره أنه معسر، فيجب حينئذ إطلاقه، أويبرأ المدين من غريمه بوفاء أو إبراء، أو حوالة، فيطلق سراحه لسقوط الحق عنه، أو يرضى غريمه بإخراجه من الحبس. فإن أصر المدين المليء على الحبس، ولم يوف الدين، باع الحاكم ماله، وقضى دينه.
ولا يجبر كما قال المالكية على الكسب، للحديث السابق: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» كما لا يجبر على قبول الهدية أو الصدقة أو القرض.

4ً - بيع مال المدين المحجور عليه وقسمة ثمنه بين الغرماء: اتفق الفقهاء (2) على أنه يباع مال المدين المحجور عليه بسبب الفلس، ويقسم ثمنه بين الدائنين الغرماء بالمحاصة أي بنسبة ديونهم، ويندب أن يكون البيع فوراً
_________
(1) قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: لا يجب حبسه في مكان معين، بل المقصود: منعه من التصرف حتى يؤدي الحق، فيحبس ولو في دار نفسه بحيث لا يمكن من الخروج (كشاف القناع: 408/ 3).
(2) تكملة الفتح: 328/ 7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 199/ 5 ومابعدها، الشرح الصغير: 357/ 3 ومابعدها، 366، الشرح الكبير: 269/ 3 - 271، القوانين الفقهية: ص 319، مغني المحتاج: 150/ 2 وما بعدها، المهذب: 322/ 1، كشاف القناع: 420/ 3 ومابعدها، المغني: 441/ 4 - 446، بداية المجتهد: 287/ 2.

(6/4521)


بعد الحجر، لئلا يطول زمن الحجر عليه، ومبادرة لبراءة ذمته، وإيصال الحق إلى ذويه، ولأنه صلّى الله عليه وسلم لما حجر على معاذ، باع ماله في دينه، وقسم ثمنه بين غرمائه.
فإن كانت الديون من جنس مال المدين، قضاها القاضي بغير أمر المدين، وإن كانت من غير جنس مال المدين، وجب على القاضي بيع المال، وقسمة الثمن بين الدائنين.
ويستحب للحاكم وقت البيع أن يحضر أو وكيله، لفوائد، منها ضبط متاعه، والتعريف بالجيد منه، وتطييب نفسه وإسكان قلبه، وتكثير الرغبة في شرائه، كما يستحب إحضار الغرماء؛ لأن البيع لهم، وربما رغبوا في شيء، فزادوا في ثمنه، ولتطييب قلوبهم، والبعد عن التهمة، وربما وجد أحدهم عين ماله، فأخذه.
ويباع الشيء في عصرنا بالمزاد العلني، ويباع ندباً كل شيء في سوقه، بشرط كون البيع بثمن المثل، حالاً، من نقد البلد.
ويقدم في البيع مايخاف فساده كالفواكه والبقول، ثم ما يتعلق به حق كالمرهون، ثم الحيوان لحاجته إلى النفقة، ولأنه معرض للتلف، ثم المنقول؛ لأنه يخشى ضياعه بسرقة ونحوها، ويقدم الملبوس على النحاس ونحوه، ثم العقار، ويقدم البناء على الأرض. وإنما أخر العقار؛ لأنه يؤمن عليه من الهلاك والسرقة؛ ولأن العقار يعد للاقتناء، فيلحقه ضرر ببيعه، فلا يبيعه إلا عند الضرورة، ويستأنى عند المالكية في بيع العقار نحو شهرين.
ويلاحظ أن أبا حنيفة خلافاً لصاحبيه لم يجز للحاكم بيع عروض المدين وعقاره.
ويترك للمفلس مجموعة كاملة عادية (دَسْت) (1) من ثيابه المحتاج إليها عادة،
_________
(1) الدَّسْت: ما قابل ثياب الزينة.

(6/4522)


كما يترك له قوت يوم القسمة عند الشافعية لمن تلزمه نفقته، من زوجة وخادم وقريب، وعند الحنفية: ينفق على هؤلاء من مال المدين قبل التفليس ولو بعد الحجر، وعند المالكية: يترك له ما يأكله أياماً، وعند الحنابلة: إلى أن يفرغ من قسمة المال بين الغرماء. فالحنابلة كالشافعية. وتترك له آلة صنعته التي لا بد منها، كما يترك للعالم كتبه التي يحتاج لمراجعتها ومطالعتها. وأجاز المالكية بيع الكتب وثياب الجمعة إن كثرت قيمتها؛ لأن شأن العلم ـ على حد تعبيرهم ـ أن يحفظ في القلب، لكن قال العلامة العدوي: إن الحفظ قد ذهب الآن، فلذا أجراها بعضهم على آلة الصانع.
ويترك له مسكنه الذي لا غنى له عن سكناه فيه، وخادمه الذي يحتاج إليه، مما يكون كلاهما صالحين لمثله؛ لأن ذلك مما لا غنى له عنه، فلم يبع في دينه كلباسه وقوته.
لكن الأصح عند الشافعية: أنه يباع مسكنه ومركوبه، ولا يترك له خادمه القابل للبيع في الماضي، لزمانته ومنصبه؛ لأنه يسهل تحصيل المقصود بالكراء.
وقال المالكية: أوجر على المفلس خادمه الذي لا يباع عليه، ويباع ما يباع عليه.

5ً - استرداد الدائن عين ماله الذي وجده في مال المفلس: هذا هو الحكم أو الأثر الخامس من أحكام أو آثار الحجر على المفلس عند الجمهور غير الحنفية.
قال الحنفية (1): من أفلس (أي حكم الحاكم بتفليسه) وعنده متاع لرجل
_________
(1) الدر المختار: 106/ 5، تكملة الفتح والعناية: 330/ 7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 201/ 5 ومابعدها.

(6/4523)


بعينه، ابتاعه منه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء، أي أنه لا يكون أحق به من سائر الغرماء، فإن أفلس قبل قبض المتاع، أو بعد القبض بغير إذن بائعه، كان له استرداده، وحبسه بالثمن في حالة ما قبل القبض.
ودليلهم على عدم استحقاق صاحب المتاع عين ماله: أن الإفلاس يوجب في عقد المعاوضة لا في غيره العجز عن تسليم العين، والعقد غير مستحق الفسخ، فلا يثبت حق الفسخ، وإنما المستحق هو الثمن أو الدين الذي هو وصف في الذمة، وبقبض المشتري عين المبيع، تتحقق المبادلة ما بين الدين والعين.
وقال الجمهور غير الحنفية (1): إذا فلس الحاكم رجلاً، فأصاب أحد الغرماء عين ماله (أو
سلعته التي باعها إياه بعينها)، كان له حق فسخ البيع وأخذ سلعته؛ لأنه عجز المشتري عن إيفاء الثمن، فيوجب ذلك حق الفسخ، كعجز البائع عن تسليم المبيع، ولأنه يجوز فسخ العقد لتعذر العوض كالمسلم فيه إذا تعذر، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال فيما يرويه أبو هريرة: «من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس، أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره» (2).
وقال الحنفية: إنه معارض بما روى الخصاف بإسناده: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده متاعه، فهو أسوة غرمائه» وتأويل حديث أبي هريرة: أن المشتري كان قبضه بشرط الخيار للبائع.
والحقيقة أن رأي الجمهور أقوى لصحة حديث أبي هريرة الذي لا يعارضه
_________
(1) بداية المجتهد: 283/ 2 ومابعدها، الشرح الصغير: 373/ 3، الشرح الكبير: 282/ 3، المهذب: 322/ 1، مغني المحتاج: 157/ 2 ومابعدها، المغني: 409/ 4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 319.
(2) حديث صحيح رواه الجماعة عن أبي هريرة، وله مؤيدات أخرى عن سمرة، وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (نيل الأوطار: 242/ 5).

(6/4524)


غيره، ولبعد تأويل الحنفية السابق، إ ذ لا حاجة للحديث في حالة وجود الخيار للبائع بفسخ البيع، فهذا أمر مقرر عام يشمل المفلس وغيره. وأبعد منه تأويلهم الحديث على ما إذا كان المتاع وديعة أو عارية أو لقطة؛ لأن نص الحديث مقيد بحالة الإفلاس.

وهناك أمور تتعلق برجوع صاحب المتاع أو المال على المفلس أهمها ما يأتي:
أولاً - هل خيار الرجوع على الفور أو على التراخي؟ للشافعية والحنابلة رأيان (1): أصحهما أن خيار الرجوع على الفور، كخيار العيب بجامع دفع الضرر، فتأخير الخيار يفضي إلى الضرر بالغرماء، لإفضائه إلى تأخير حقوقهم.
ثانياً ـ حق الرجوع في كل المعاوضات: قال الشافعية (2): لصاحب المال الرجوع في سائر المعاوضات المحضة كالبيع والإجارة والقرض والسلم، لعموم حديث أبي هريرة السابق، فإذا أجره داراً بأجرة حالَّة، لم يقبضها حتى حجر عليه، فله الرجوع في الدار بالفسخ، تنزيلاً للمنفعة منزلة العين في البيع، ولو سلمه دراهم قرضاً، أو رأس مال سلم حالَّ أو مؤجل، فحل أجل تسليم المسلم فيه، ثم حجر عليه، والدراهم باقية بالشروط الآتية، فله الرجوع فيها بالفسخ.
أما غير المعاوضات كالهبة، والمعاوضات غير المحضة كالنكاح والصلح عن دم العمد، فلا يجوز الرجوع فيها.

ثالثاً ـ شروط الرجوع: يشترط للرجوع في البيع عند الشافعية شروط (3):
_________
(1) مغني المحتاج: 158/ 2، المغني: 410/ 4.
(2) مغني المحتاج: 158/ 2.
(3) المرجع والمكان السابق.

(6/4525)


(1) ـ كون الثمن حالاً عند الرجوع، لا مؤجلاً؛ لأن المؤجل لايطالب به.
(2) ـ أن يتعذر حصول الثمن بالإفلاس. فلو انتفى الإفلاس، وامتنع المدين من دفع الثمن مع يساره، أو هرب، أو مات مليئاً وامتنع الوارث من التسليم، فلا فسخ في الأصح؛ لأن التوصل إلى أخذه بالحكم ممكن.
ولو عرض الغرماء فداء المال بدفع ثمنه له، لم يلزمه قبوله، وله الفسخ عند الشافعية والحنابلة لما في الفداء من المنة، ولتعلق حقه بعين ماله. وقال المالكية: ليس له حينئذ حق الرجوع؛ لأن الرجوع لتلافي النقص في الثمن، فإذا بذل له الثمن كاملاً، لم يكن له الرجوع، كما لو زال العيب من المعيب (1).
(3) ـ كون المبيع باقياً في ملك المشتري: فلو زال (فات) ملكه حساً كالموت أو حكماً كالوقف والبيع والهبة، فلا رجوع، لخروجه عن ملكه بالفوات.
تبين من هذه الشروط وما ذكر قبلها أن شروط الرجوع عند الشافعية تسعة (2):
الأول ـ كونه في المعاوضة المحضة كالبيع.
الثاني ـ أن يرجع عقب العلم بالحجر.
الثالث ـ أن يكون رجوعه بقوله: فسخت البيع ونحوه، بدون حاجة لحكم حاكم.
الرابع ـ أن يكون عوضه غير مقبوض، فإن قبض شيئاً منه ثبت الرجوع فيما يقابل الباقي.
_________
(1) الشرح الكبير: 283/ 3، الشرح الصغير: 373/ 3 ومابعدها، مغني المحتاج: 159/ 2، المغني: 411/ 4.
(2) مغني المحتاج: 160/ 2.

(6/4526)


الخامس ـ أن يكون عدم استيفاء العوض لأجل الإفلاس.
السادس ـ كون العوض ديناً، فإن كان عيناً قدم بها على الغرماء.
السابع ـ حلول الدين.
الثامن ـ كون المال المبيع باقياً في ملك المفلس.
التاسع ـ ألا يتعلق بالمال حق لازم، كرهن صادر من المشتري للشيء.

وقال الحنابلة (1): إنما يستحق البائع الرجوع في السلعة بخمس شرائط، وزاد في كشاف القناع شرطين آخرين:
أحدها ـ أن تكون السلعة باقية بعينها، لم يتلف بعضها، فإن تلف جزء منها كتلف ثمرة الشجر المثمر، لم يكن للبائع الرجوع، وكان أسوة الغرماء. وقال المالكية والشافعية: يجوز الرجوع في الباقي، ويساهم مع الغرماء بحصة التالف. وهذا هو الشرط الثامن عند الشافعية.
ثانيها ـ ألا يكون المبيع زاد زيادة متصلة كالسمن والكبر. وقال المالكية والشافعية: إنها لا تمنع.
ثالثها ـ ألا يكون البائع قبض من ثمنها شيئاً، فإن كان قد قبض بعض ثمنها سقط الرجوع، وهذا هو الشرط الرابع عند الشافعية، فالمذهبان متفقان عليه. وقال المالكية: صاحب السلعة مخير: إن شاء رد ما قبضه ورجع في جميع العين، وإن شاء ساهم مع الغرماء ولم يرجع.
رابعها ـ ألا يكون تعلق بها حق الغير، فإن رهنها المشتري، أو وهبها، لم
_________
(1) المغني:413/ 4، 419، 430، 431، 434، 453، كشاف القناع: 414/ 3 - 417.

(6/4527)


يملك البائع الرجوع، كما لو باعها. وهذا هو الشرط التاسع عند الشافعية، ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنابلة والمالكية.
خامسها ـ أن يكون المفلس حياً، فإن مات، فالبائع أسوة الغرماء، سواء علم بفلسه قبل الموت، فحجر عليه، ثم مات، أو مات، فتبين فلسه. وهذا رأي المالكية أيضاً، لحديث أبي بكر بن عبد
الرحمن: «فإن مات المشتري، فصاحب المتاع أسوة الغرماء» (1) وقال الشافعية: له الفسخ، واسترجاع العين، عملاً بحديث أبي هريرة السابق.
سادسها ـ كون السلعة لم يزل ملك المشتري عنها ببيع أو هبة أو وقف ونحوه.
سابعها ـ أن يكون البائع حياً إلى وقت الرجوع.

وأما شروط رجوع البائع على المفلس في عين ماله عند المالكية فهي ثلاثة (2):
أولها ـ ألا يفديه غرماؤه بثمنه الذي على المفلس، فإن فدوه بمالهم أو بمال المفلس، أو ضمنوا له الثمن وهم ثقات، أو أعطوه كفيلاً ثقة، لم يأخذه.
ثانيها ـ أن يمكن أخذه واستيفاؤه، فإن لم يمكن أخذه كبضع الزوجة (الاستمتاع بها) فلا يرجع، فالزوجة إذا أفلس زوجها وطلبت صداقها، ساهمت مع الغرماء؛ إذ لا يمكن رجوعها في البضع، ولها الفسخ قبل الدخول إذا أفلس حينئذ (3).
_________
(1) رواه مالك في الموطأ، وأبو داود، وهو مرسل، وقد أسنده أبو داود من وجه ضعيف (نيل الأوطار: 242/ 5).
(2) الشرح الكبير: 283/ 3، الشرح الصغير: 374/ 3 ومابعدها.
(3) هذه مسألة استطرادية، لأن الكلام فيما قبض وحيز قبل الفلس. والزوج وهو المبتاع لم يحصل منه قبض للبضع قبل الفلس.

(6/4528)


ثالثها ـ أن يبقى عين المال على حاله، دون أن يتغير أو ينتقل عما كان عليه حين البيع، فإن تغير، ساهم صاحب المال مع الغرماء، فلا يرجع إن طحنت الحنطة أو بذرت أو قليت أو عجنت أو خبزت، أو جعل الزُّبْد سمناً، أو فصل القماش ثوباً، أو قطع الجلد نعالاً أو ذبح الحيوان، أو تتمر الرطب (جعله تمراً)، أو خلط الشيء بغير مثله، ولم يتيسر تمييزه، كخلط عسل بسمن أو زيت، أو قمح جيد بعفن أو مسوس، أو زيت بنوع آخر من الزيوت.
فإن خلط الشيء بمثله، أو دبغ الجلد، أو صبغ الثوب، أو نسج الغزل، أو تعيب الشيء بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو بفعل أجنبي وعاد لهيئته الأولى، فلصاحبه حق الرجوع وأخذ الشيء.
فإن استمر العيب، ولم يعد الشيء لهيئته الأولى، فله أخذه ومشاركة الغرماء بنسبة النقص، أو تركه ومشاركة الغرماء بجميع الثمن.

رابعاً ـ زيادة المبيع عند المشتري المفلس: إذا زاد المبيع في يد المفلس فهل لصاحبه حق الرجوع؟
للزيادة حالات:

الحالة الأولى ـ الزيادة المتصلة: كالسمن والكبر، وتعلم الصناعة أو الكتابة أو القرآن ونحوها، لا تمنع الرجوع عند المالكية إلا أن يعطيه الغرماء ثمن المبيع، وعند الشافعية، وفي رواية عن أحمد. وتمنع الرجوع في رأي الخرقي الحنبلي، ويظهر أنه الرأي الراجح عند الحنابلة لاتفاق كتبهم عليه (1).
_________
(1) الشرح الكبير: 283/ 3، مغني المحتاج: 161/ 2، المهذب: 324/ 1، المغني: 419/ 4، كشاف القناع: 416/ 3، القوانين الفقهية: ص 320.

(6/4529)


الحالة الثانية ـ الزيادة المنفصلة: كالثمرة والولد الحادثين بعد البيع في يد المشتري، لا تمنع الرجوع باتفاق المذاهب الثلاثة، ويرجع البائع في الأصل، دون الزيادة، فإنها تكون للمشتري؛ لأن الشارع إنما أثبت لصاحب المال الرجوع في المبيع ذاته، فيقتصر عليه (1).
الحالة الثالثة ـ الزيادة بسبب الصبغ: إذا اشترى رجل من آخر قماشاً فصبغه بصباغ ما، ثم أفلس، لم يمنع الصبغ باتفاق المذاهب الثلاثة من رجوع البائع بأصل القماش؛ لأن له حق الرجوع بعين ماله. ويكون المفلس شريكاً لصاحب القماش بما زاد في قيمته، وتكون الزيادة له (2).
وفي احتمال آخر عند الحنابلة: ألا يكون له الرجوع إذا زادت القيمة، لأنه اتصل بالمبيع زيادة للمفلس، فمنعت الرجوع كالسمن.

الحالة الرابعة ـ الزيادة بالبناء أو الغرس أو الزراعة:
قال المالكية (3): من وجد ماله بعينه عند المفلس، وقد أحدث زيادة، مثل أن تكون أرضاً فبناها أو غرسها، امتنع عليه الرجوع، ويساهم مع الغرماء في ماله.
وقال الشافعية والحنابلة (4): لو اختار البائع الرجوع في الأرض بعد بناء المشتري أو غرس أشجار فيها، فإن اتفق الغرماء والمفلس على تفريغها من البناء
_________
(1) المراجع السابقة، كشاف القناع: 418/ 3.
(2) الشرح الكبير: 283/ 3، مغني المحتاج: 164/ 2، المهذب: 325/ 1، المغني: 417/ 4، كشاف القناع: 418/ 3.
(3) بداية المجتهد: 285/ 2.
(4) مغني المحتاج: 162/ 2 ومابعدها، المهذب: 325/ 1، المغني: 426/ 4 ومابعدها، كشاف القناع: 427/ 3.

(6/4530)


والغرس، فلهم ذلك؛ لأن الحق لهم لا يعدوهم، فإذا تم التفريغ فللبائع الرجوع في أرضه؛ لأنه وجد متاعه بعينه، ويجب تسوية الحفر وغرامة أرش النقص من مال المفلس إن نقصت بالقلع، وإن امتنعوا عن التفريغ، لم يجبروا، قيل: وللبائع الرجوع في الأرض، ويتملك البناء والغراس بقيمته، وله أن يقلع ويضمن أرش النقص؛ لأن مال المفلس مبيع كله، والضرر يندفع بكل واحد من الأمرين، كالزيادة بالصبغ.
والأرجح عند الشافعية والحنابلة: أنه ليس للبائع الرجوع في الأرض، ويبقى البناء والغراس للمفلس، لما في الرجوع من ضرر بالمفلس المشتري والغرماء، والضرر لا يزال بالضرر، فالرجوع إنما شرع لدفع الضرر، فلا يزال ضرر البائع بضرر المفلس والغرماء. وحينئذ يساهم البائع مع الغرماء بالثمن. وبه اتفقت المذاهب الثلاثة على عدم الرجوع في هذه الحالة.
فإن زرع المشتري الأرض، ثم أفلس، فيجوز للبائع عند الشافعية (1) الرجوع في الأرض؛ لأنه وجد عين ماله مشغولاً بما ينقل، كما لو كان المبيع داراً، وفيها متاع للمشتري. وحينئذ إن استحصد الزرع، وجب نقله، وإن لم يستحصد، جاز تركه إلى أوان الحصاد، من غير أجرة؛ لأن المشتري زرع في أرضه، فإذا زال الملك، جاز ترك الزرع إلى أوان الحصاد، من غير أجرة، كما لو زرع أرضه، ثم باع الأرض.

خامساً ـ تغيير المبيع بطحن الحنطة أو غزل الصوف ونحوهما: إن اشترى شخص حنطة فطحنها، أو زرعها، أو دقيقاً فخبزه، أو زيتاً فعمله صابوناً، أو ثوباً قماشاً فقطعه قميصاً، أو غزلاً فنسجه ثوباً، أو خشباً فنجّره أبواباً،
_________
(1) المهذب: 326/ 1.

(6/4531)


أو شريطاً فعمله إبراً، أو شيئاً عمل به ما أزال اسمه، ثم أفلس، سقط حق الرجوع للبائع باتفاق المذاهب الثلاثة على الأظهر عند الشافعية إن زادت القيمة. فإن لم تزد القيمة رجع البائع، ولا شيء للمفلس (1).

سادساً ـ خلط المبيع بغيره: إذا اشترى شخص زيتاً فخلطه بزيت آخر، أو قمحاً فخلطه بما لا يمكن تمييزه منه، سقط حق الرجوع باتفاق المذاهب الثلاثة. لكن قال المالكية: إن خلط الشيء بمثله، فله حق الرجوع، وقال الشافعية: إن خلط المبيع بمثله أو دونه، فللبائع أخذ قدر المبيع من المخلوط، وإن خلطه بأجود منه، فلا رجوع في المخلوط في الأظهر، بل يضارب مع الغرماء بالثمن (2).
سابعاً ـ نقص المبيع: إذا نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه، أو لعيب، كهزال، أو مرض، أو بلى ثوب، لم يمنع الرجوع باتفاق المذاهب الثلاثة؛ لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين ماله، لكن البائع عند الشافعية والحنابلة يتخير بين أخذه ناقصاً بجميع حقه، وبين أن يساهم مع الغرماء بجميع الثمن؛ لأن الثمن لا يتقسط على صفة السلعة من هزال أو غيره، فيصير كنقصه بسبب تغير الأسعار.
ويتخير البائع عند المالكية بين أخذه ومشاركة الغرماء بنسبة النقص، أو تركه
_________
(1) الشرح الكبير: 283/ 3، الشرح الصغير: 374/ 3، مغني المحتاج: 163/ 2، المهذب: 325/ 1، المغني: 416/ 4.
(2) الشرح الكبير، والصغير، ومغني المحتاج: المكان السابق، المغني: 415/ 4، المهذب: 326/ 1.

(6/4532)


ومشاركة الغرماء بجميع الثمن. وهو مذهب الشافعية أيضاً فيما إذا كان إتلاف بعض الشيء من أجنبي (1).

المبحث الثالث ـ رفع الحجر عن المحجورين:
من المقرر شرعاً أن الحكم يدور مع سببه أو علته وجوداً أو عدماً، وبما أن الحجر كان لسبب، فإذا زال سبب الحجر، زال مسببه الذي بني عليه، وهو الحجر، وقد بينت الحكم في بحث أثر الحجر في المحجورين وأوجزه هنا.

يرتفع الحجر عن السفيه إذا ظهر رشده وأمارات حرصه على ماله، ولكن لا بد في الراجح عند الفقهاء، خلافاً لمحمد بن الحسن وابن القاسم كما تبين في السفه، من قرار القاضي برفع الحجر؛ لأن ما ثبت بحكم القاضي لا يزول إلا بحكم آخر. كذلك يرفع الحجر عن المغفل إذا ظهرت خبرته، واهتدى إلى حسن التصرف، عن طريق حكم القاضي، على الخلاف السابق في السفيه.
ويرفع الحجر عن المجنون بدون حكم القاضي باتفاق إذا شفي وعاد إليه عقله. ومثله المعتوه إذا اكتملت قواه العقلية وزال تخبطه في الكلام.
وأما الصغير: فإن كان غير مميز فيرفع الحجر عن بعض تصرفاته عند الحنفية والمالكية بإتمام سن السابعة. وإن كان مميزاً فيرفع الحجر عنه شيئان (2):
أحدهما ـ عند الجمهور غير الشافعية: وهو إذن الولي إياه بالتجارة، والإذن بالتجارة يزيل الحجر عن التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع. وعند الشافعية: لايزول الحجر عن المميز ولو بالإذن بالتجارة.
_________
(1) الشرح الكبير والصغير، المكان السابق، المهذب: 324/ 1، المغني: 414/ 4، القوانين الفقهية: ص320.
(2) البدائع: 171/ 7، المغني: 457/ 4.

(6/4533)


الثاني ـ بلوغه عاقلاً رشيداً من غير حاجة إلى ترشيد ولي أو حكم من القاضي عند الجمهور غير المالكية.
وقال المالكية: الصغير ذو الأب: يزول الحجر عنه ببلوغه رشيداً بغير حكم الحاكم. فإن كان عليه وصي من الأب، فيزول حجره بترشيد منه من غير إذن الحاكم، وإن كان وصيه من القاضي، فيزول حجره بترشيده، بإذن القاضي في رأي ابن جزي المالكي، وأما ما ذكره الدردير في الشرح الكبير والصغير فلا يحتاج الوصي مطلقاً في ترشيده إلى إذن القاضي، وما ذكره الدردير أرجح. والترشيد: أن يقول الوصي أمام العدول: اشهدوا أني فككت الحجر عن فلان، وأطلقت له التصرف، لما قام عندي من رشده وحسن تصرفه.
وللقاضي ترشيد المحجور إذا ثبت عنده رشده، سواء كان بوصي أو بغير وصي.
والأنثى تظل في ولاية أبيها في مشهور المذهب حتى تتزوج ويدخل بها زوجها، ويؤنس رشدها، أو يشهد العدول بحفظ مالها، أو يرشدها أبوها قبل الدخول أو بعده، أو وصيها المختار بعد الدخول. وليس لوصي القاضي ترشيدها مطلقاً إلا بشهادة البينة برشدها، كما ذكر في بحث حجر الصغير.

وأما المفلس إذا قسم ماله بين الغرماء، فهل ينفك عنه الحجر بالقسمة، أو يحتاج إلى حكم القاضي بفك الحجر؟
ذكر الشافعية والحنابلة (1) فيه وجهين:
أحدهما ـ يزول الحجر، بقسمة مال المفلس؟ لأن المعنى الذي لأجله حجر عليه قد زال، فزال الحجر تبعاً له، كزوال حجر المجنون لزوال جنونه.
_________
(1) المهذب: /327، المغني: 449/ 4.

(6/4534)


والثاني ـ لا يزول إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل إلا بالحاكم، كالحجر على المبذر. ويختلف حكمه عن المجنون؛ لأن حجره ثبت بنفسه فزال بزواله.
وفي تقديري: أنه ينبغي أن يتضمن حكم القاضي بحجر المفلس تحديد غاية معينة للحجر، وهي أن يتم تصفية أموال المفلس، فإذا تحقق الهدف، زال أثر الحجر تلقائياً بدون حاجة لحكم القاضي.

المبحث الرابع ـ تعلق الدين بالتركة:
ههنا أمور ثلاثة:

1ً - هل تحل الديون المؤجلة بالموت؟ يرى جمهور العلماء ومنهم أئمة المذاهب في رواية عن أحمد (1) أن الديون المؤجلة تحل بالموت، كما تحل عند الحنفية والمالكية خلافاً لغيرهم بالتفليس. قال الزهري: مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات (2). وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين. وفي رواية أخرى عن أحمد: لايحل الدين المؤجل بالموت أو الجنون إن وثق الورثة الدين برهن يحرز أو كفيل مليء.
وإذا لم يحل الدين بالموت، فلا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت، أو الورثة، أو يتعلق بالمال: لا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها، ولا في ذمة الورثة؛ لأنهم لم يلتزموا الدين، ولا رضي صاحب الدين بذممهم، وهي مختلفة متباينة، ولا يجوز تعلق بأعيان أموال التركة، أو تأجيله؛ لأنه ضرر بالميت، وصاحب الدين، ولا نفع للورثة فيه. أما إضرار الميت فلأن ذمته تظل
_________
(1) بداية المجتهد: 282/ 2، المغني: 435/ 4، المهذب: 327/ 1، منار السبيل: 354/ 1.
(2) يدل له ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الرجل وله دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل، فالذي عليه حالٌّ، والذي له إلى أجله» (المهذب: 327/ 1).

(6/4535)


مشغولة بالدين حتى يوفى عنه لحديث: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» (1). وأما إضرار صاحب الدين (الدائن) فيتأخر حقه، وقد تتلف العين، فيسقط حقه، وأما إضرار الوراثة فإنهم لا ينتفعون بأعيان التركة ولا يتصرفون فيها.
ولأن الموت ما جعل مبطلاً للحقوق، وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من ترك حقاً أو مالاً فلورثته» (2).

2ً - كيفية تعلق الدين بالتركة: يرى أغلب العلماء (3) أن الدين يبقى في ذمة الميت كما كان، ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه، أو كتعلق الدين بالمرهون؛ لأنه أحوط للميت، إذ يمتنع على الورثة تصرفهم بأموال التركة قبل قضاء الديون. والأصح عند الشافعية أن يستوي الدين المستغرق وغيره في رهن التركة، فلا ينفذ تصرف الوارث في شيء منها.
وبناء عليه لو باع رجل سلعة ثم مات المشتري قبل أداء الثمن، يكون البائع أحق بسلعته عند الشافعية، كما في حال الإفلاس. ودليلهم رواية ابن أبي ذئب بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أيما رجل مات، أو أفلس، فصاحب المتاع أحق به».
وقال الحنابلة والحنفية والمالكية (4): صاحب المتاع أسوة الغرماء بدليل رواية
_________
(1) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة، وهو حديث صحيح.
(2) رواه أحمد وابن ماجه عن أبي كريمة (الجامع الكبير: 178/ 3).
(3) شرح السراجية: ص 4 ومابعدها، بداية المجتهد: 284/ 2، القوانين الفقهية: ص 319 ومابعدها، مغني المحتاج: 144/ 2 ومابعدها، المغني: 436/ 4، المهذب: 327/ 1.
(4) هذا ما ذكره ابن رشد في بداية المجتهد: إذ فرق بين الإفلاس والموت، ففي الأول: صاحب المتاع أحق وفي الثاني: هو أسوة الغرماء. وأما صاحب القوانين فقد سوى بينهما في حالة كون السلعة باقية، فإن تلفت فصاحب المتاع أسوة الغرماء.

(6/4536)


أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ومعناها «أيما رجل مات أو أفلس، فوجد بعض غرمائه ماله بعينه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء».

3ً - هل يمنع الدين نقل التركة إلى الورثة؟ هناك رأيان عند الشافعية والحنابلة (1)، الصحيح منهما: أن تعلق الدين بالتركة لا يمنع الإرث؛ لأن تعلقه بها لا يزيد على تعلق حق المرتهن بالمرهون، وحق الدائن بمال المفلس، وحق المجني عليه بمال الجاني، وهو كله لا يزيل الملك في حق الراهن والمفلس والجاني، فلا يمنع تعلق الدين بالتركة من نقل الملك إلى الورثة.
فلو تصرف الورثة بالتركة ببيع أو غيره، صح تصرفهم، ولزمهم أداء الدين، فإن تعذر وفاؤه فسخ تصرفهم. وتكون زوائد التركة كالنتاج أو الولد أو الولد من حق الورثة؛ لأنها حدثت في ملكهم. ولو تصرف الوارث ولم يكن هناك دين، ثم طرأ دين برد مبيع معيب، فيظل التصرف في الأصح نافذاً، لكن إن لم يقض الدين، فسخ تصرفه، ليصل المستحق إلى حقه.
ولا خلاف في أن للوارث إمساك عين التركةوقضاء الدين من ماله؛ لأنه خليفة المورث، والمورث كان له ما ذكر.
وإذا قسم مال الميت أو مال المفلس بين الغرماء، ثم ظهر غريم آخر، رجع على الغرماء، وشاركهم فيما أخذوه على قدر دينه؛ لأن القسمة كانت بحكم الظاهر أنه لا غريم له غيرهم، فإذا بان خلاف الظاهر، وجب نقض القسمة.
_________
(1) مغني المحتاج: 145/ 2 ومابعدها، المهذب: 327/ 1، المغني: 437/ 4.

(6/4537)


والرأي الثاني المرجوح: أن الدين يمنع نقل التركة إلى الورثة لقوله تعالى: {من بعد وصية يوصِي بها أو دين} [النساء:11/ 4] أي من بعد إعطاء وصية أو إيفاء دين إن وجد، فجعل التركة للوارث من بعد الدين والوصية، فلا يثبت لهم الملك قبلهما. فلو تصرف الورثة لم يصح تصرفهم؛ لأنهم تصرفوا في غير ملكهم إلا أن يأذن الغرماء لهم.

(6/4538)