الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ السّادس: طبيعة الملكيّة أو هل الملكيّة الخاصّة في تشريع الإسلام مطلقة أو مقيّدة؟ البيع كما هو معروف بمثابة قانون منظم لمعاملات الأفراد وحقوق التملك، وللشرع أهداف فيما فرضه من قيود على التعامل، ومن أهم أسباب تقييد البيع بقيود أو شروط هو الحفاظ على حقوق الناس الطبيعية فيما يمتلكونه من أموال، فلا تنتقل ملكية أحد إلى آخر إلا في دائرة الحق والعدل، دون أن يكون هناك غش أو غبن أو تغرير أو استغلال أو جهالة تؤدي إلى المنازعة واضطراب المعاملات، أو أكل أموال الناس بالباطل. وهذه هي أهم الأسباب التي تؤثر على العقد فتجعله فاسداً أو باطلاً، وهو مناط تحريم العقد في شرعة الإسلام.
لذا كان جديراً أن نتساءل: هل حرية الشخص في تصرفاته ونشاطه في العمل والإنتاج والتملك مطلقة، أو أن هناك قيوداً من الشرع على حق التملك؟

(6/4573)


تمهيد:
يسود عالم اليوم نظامان متعارضان في الاقتصاد: وهما النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي:
النظام الرأسمالي: يعترف بحق الفرد في تملك الأموال ملكية خاصة، سواء أكانت هذه الأموال من أموال الاستهلاك، أم من أموال الإنتاج، على أنه لا يشترط أن تكون جميع الأموال مملوكة للأفراد، بل يجوز للدولة أو أحد فروعها أن تمتلك جانباً من هذه الأموال، كما لا يشترط أن يكون حق الملكية الخاصة مطلقاً، بل يجوز أن ترد عليه بعض القيود للمنفعة العامة.
ويقوم النظام الرأسمالي على أساس الحرية الاقتصادية للأفراد، دون تدخل الدول لتقييد نشاطهم في الميدان الاقتصادي، ويكون السعي للحصول على أكبر كسب نقدي هو الدافع المحرك للنشاط الاقتصاد ي في ظل النظام الرأسمالي.
وقد انتقد هذا النظام لأنه يؤدي إلى اختلال التوازن في توزيع الثروة بين الأفراد، وانقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة الرأسمالية الإقطاعية، وطبقة ذوي الدخل المحدود من عمال وفلاحين ونحوهم، كما يؤدي إلى تركز الثروة في أيدي فئة قليلة وانتشار البطالة والاحتكارات الطبيعية والصناعية. وكان من نتيجة ذلك فشل النظام الرأسمالي في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وضمان الحياة الرغدة للبشرية.
وأدى هذا الفشل إلى رد فعل معاكس، فازداد تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي من ناحية، وانتشرت المبادئ الاشتراكية من ناحية أخرى (1).
_________
(1) راجع أصول الاقتصاد لأستاذنا الدكتور محمد حلمي مراد: ص 151 - 183.

(6/4574)


والنظام الاشتراكي: يقوم على أساس امتلاك الدولة لمختلف وسائل الإنتاج (1) من صناعة وزراعة وثروة طبيعية وخدمات عامة، ويكون بالتالي لاوجود للملكية الفردية القائمة على أساس الاستغلال والاستعباد، ولا حرية اقتصادية مطلقة للفرد إلا بمقدار ما يمنحه المجتمع إياه وينظمه له.
فالملكية الخاصة لم تلغ إلغاء تاماً؛ لأن ملكية الأموال الاستهلاكية من أدوات منزلية ونقود وسلع معترف بها، ويجوز أن تنتقل هذه الملكية لأموال الاستهلاك إلى الغير بطريق الميراث (2).
وأما ملكية أموال الإنتاج: فهي ملكية اشتراكية تظهر بشكل ملكية للدولة، أو بشكل ملكية تعاونية، ومع ذلك فلم تلغ الملكية الخاصة لأموال الإنتاج إلغاءً كاملاً في روسيا، فيسمح القانون الروسي بالمشاريع الاقتصادية الصغيرة الخاصة بالفلاحين القرويين وبالحرفيين على أن يقوموا بعملهم شخصياً، وبشرط ألا يستغلوا فيه جهد الآخرين (3)، مما أوجد نوعاً ثالثاً من أنواع المشروعات الزراعية هو المشروعات الفردية بجانب المزارع الحكومية والمزارع المشتركة. وعلى هذا فليست الملكية الشخصية حقاً مطلقاً ثابتاً، وإنما هي متطورة في محورها نحو الملكية الجماعية؛ لأن الملكية في ذاتها وظيفة اجتماعية تخدم مصالح الجماعة.
وغاية النظام الاشتراكي تحقيق العدالة الاجتماعية، لذا فإنه يهتم بالدرجة
_________
(1) وهي الأرض ورأس المال والعمل.
(2) هذا هو صريح المادة العاشرة من الدستور السوفييتي.
(3) هذا هو نص المادة التاسعة من الدستور السوفييتي، وقريب منها نص المادة السابعة: «لكل عائلة من عوائل المزرعة التعاونية بالإضافة إلى دخلها الذي يأتيها من اقتصاد المزرعة التعاونية المشترك قطعة من الأرض خاصة بها، وملحقة بمحل السكن. ولها في الأرض اقتصاد إضافي ومنزل للسكنى وماشية منتجة وطيور وأدوات زراعية بسيطة كملكية خاصة».

(6/4575)


الأولى في إشباع كل حاجات الأفراد، ولكن بحسب ضرورتها وأهميتها (1) من أجل تحقيق مستوى مادي ومعنوي لائق بكرامة الإنسان، ثم السعي لرفع ذلك المستوى بشكل مستمر، مما جعل الجماهير الكادحة تتجه أنظارها إلى النظام الاشتراكي باعتباره المنقذ من أدران الرأسمالية.
ويقول منتقدو هذا النظام بأنه يهدر الحق الطبيعي المقدس للفرد: وهو حق الملكية، كما أنه يعطي الجماعة ممثلة بالدولة سلطات واسعة على حساب الأفراد، ويقيد الحرية الاقتصادية. وقد انهار هذا النظام في عام 1989م في روسيا، والاتجاه الحالي نحو النظام الغربي والحرية.

وأما نظام الإسلام الاقتصادي والاجتماعي: فهو العدل الوسط بين النظامين السابقين، أو بتعبير أدق: هو نظام قائم بذاته، له فكره الاجتماعي الخاص به، فهو يعترف بقيمة الإنسان، كما يعترف بحقوق المجتمع، فيقيم توازناً بينهما، بل إنه جعل الفرد للجماعة، والجماعة للفرد من طريق التضامن العام بين الأفراد، فهو إذن ليس فردياً فقط يؤدي إلى الرأسمالية، وليس جماعياً يؤدي إلى الماركسية، وإنما يمنح الفرد قدراً من الحرية بحيث لا يطغى على كيان الآخرين، ويمنح المجتمع أو الدولة التي تمثله سلطة واسعة في تنظيم الروابط الاجتماعية والاقتصادية على أساس من الحب المتبادل بين الفرد والجماعة، لا على أساس الحقد وإيجاد العداوات بين الناس.
وبناء عليه فهو يعترف بحق الإنسان في التملك الفردي، ويمنحه حق الانتفاع والاستثمار لماله، والتصرف فيه طوال حياته وبعد مماته، في حدود معينة تعتبر
_________
(1) هدف الرأسمالية إشباع حاجات الأفراد بحسب القدرة الشرائية مما يؤدي إلى عجز بعض الأفراد عن سد حاجاتهم الضرورية، بينما يشبع فريق آخر حاجاته الترفيهية المتعددة.

(6/4576)


أوسع بكثير من القدر الذي تسمح به الشيوعية، ولكنه لا يعطي المالك السلطان المطلق فيما يملك بغير أي قيد عليه كما تفعل الرأسمالية، فهو لا يسمح بالربا والاحتكار، ولا أن تكون الملكية سبيلاً للاستغلال الحرام والطغيان، وبذلك يجمع الإسلام بين مزايا كل من الاشتراكية والرأسمالية ويتجنب أوجه
الانحراف والمبالغة في كل منهما (1).
ولا يمكن القول بأن نظام الإسلام الاقتصادي نظام رأسمالي أو اشتراكي؛ لأن للرأسمالية أو الاشتراكية في الوقت الحاضر معنى محدداً مفهوماً، له خصائص معينة في معالجة الحياة الاقتصادية.
وإنما الإسلام نظام قائم بنفسه لا ينسب إلى مذهب جديد أو قديم، مهمته الربط بين قوى الحياة ومواهب الفطرة في كيان المرء وبين ثمار الطبيعة الظاهرة والباطنة؛ فيحدث التفاعل بين الجانبين، وتتكون الحضارة الصالحة بما في الإنسان من مواهب العقل والروح وما في الكون من أسرار الحقائق وكنوز المال والثروة، وبما في الإسلام من حلول جذرية لمشكلات الحياة، وقواعد للفرد والمجتمع في الحقوق والواجبات. وإذا كان في الاشتراكية بعض المعاني الإنسانية التي جاء بها الإسلام من ضرورة التكافل الاجتماعي، فلا يعني ذلك أن نظام الإسلام هو النظام الاشتراكي الماركسي.

المال والملكية في تقدير الإسلام:
المال عند الحنفية كما عرفنا: هو ما يميل إليه الإنسان طبعاً، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. وعند الجمهور: هو كل ما له قيمة يباع بها ويلزم متلفه وإن قلّت،
_________
(1) الفكر الإسلامي الحديث للدكتور محمد البهي: ص 387، شبهات حول الإسلام للأستاذ محمد قطب: ص 27، نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 57.

(6/4577)


وما لا يطرحه الناس مثل الفَلس وما أشبه ذلك. وهذا التعريف مأخوذ عن الإمام الشافعي رضي الله عنه (1).
وبناء على التعريف الأول لا تكون المنافع والحقوق المجردة مالاً ما عدا منفعة العين المؤجرة، وعلى التعريف الثاني تكون المنافع أموالاً متقومة في ذاتها يمكن أن تورث.
والملك: هو اختصاص حاجز شرعاً يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع (2).
والمال في الحقيقة لله سبحانه: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن} [المائدة:120/ 5] (3).
وتملك الإنسان للمال مجاز، أي أنه مؤتمن على المال ومستخلف عليه: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد:7/ 57].
قال عروة رضي الله عنه: «أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضى: أن الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، ومن أحيا مواتاً فهوأحق به». ويترتب عليه أن الإنسان ملزم بالتقيد بأوامر الله سبحانه في التملك بحسب ما يريد صاحب الملك. والناس على السواء، لهم حق في تملك خيرات الأرض. والملكية الفردية حق ممنوح من الله تعالى، والمال ليس غاية مقصودة لذاتها، وإنما هو وسيلة للانتفاع بالمنافع وتأمين الحاجيات (4).
_________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 258.
(2) المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء، المجلد الأول: جـ 1 ص 220، والمراد من كلمة «حاجز» أنه الذي يخول صاحبه منع غيره، وهو قريب المعنى من المفهوم اللغوي للملكية الذي يدل على معنى الاستئثار والاستبداد مما يتعلق به من الأشياء. والمراد من جملة «يسوغ صاحبه التصرف» أن الملك قدرة مبتدأة لا مستمدة من شخص آخر.
(3) المائدة: 120.
(4) انظر اشتراكية الإسلام للمرحوم الدكتور مصطفى السباعي: ص77 ومابعدها، التكافل الاجتماعي في الإسلام لأستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة: ص14 ومابعدها.

(6/4578)


ومن الجدير بالذكر أنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن أخذ مال غني بغير رضاه وأعطي لفقير، مهما اشتدت الحاجة وبلغت الفاقة، وإنما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يحض المسلمين على البذل، ويرغبهم في العطاء من غير أمر ولا عزيمة، فجاء أبو بكر مرة بماله كله، وجاء عمر بنصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة بجميع ما يلزمه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» (1).

تقييد الملكية:
يقول بعض الكاتبين: لما كان المال مال الله، والناس جميعاً عباد الله، وكانت الحياة التي يعملون فيها ويعمرونها بمال الله هي أيضاً لله، كان من الضروري أن يكون المال ـ وإن ربط باسم شخص معين ـ لجميع عباد الله، وينتفع به الجميع، قال الله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] وبهذا يكون للمال وظيفة اجتماعية هدفها إسعاد المجتمع وقضاء حاجياته ومصالحه، وتكون الملكية الشخصية إذن في نظر الإسلام وظيفة اجتماعية (2).
ويرى أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة أنه لا مانع من وصف الملكية بكونها وظيفة اجتماعية، ولكن يجب أن يعرف أنها بتوظيف الله تعالى، لا بتوظيف الحكام؛ لأن الحكام ليسوا دائماً عادلين (3).
وفي تقديري أن الإسلام منهج واضح لا غبار عليه، واستعمال هذا التعبير
_________
(1) انظر بحث الملكية الفردية في الإسلام للأستاذ محمد عبد الله كنون المنشور مع بحوث المؤتمر الأول لمجمع البحوث في الأزهر: ص186، وانظر حديث عثمان في التلخيص الحبير: ص278.
(2) انظر مقال شيخ الأزهر السابق: أستاذنا الشيخ محمود شلتوت في جريدة الجمهورية 22 كانون الأول (ديسمبر) 1961م، اشتراكية الإسلام للسباعي: ص80.
(3) التكافل الاجتماعي في الإسلام، المصدر السابق: ص23.

(6/4579)


المأخوذ من تعاليم الشيوعية أو الاشتراكية الماركسية يزج الإسلام في حمأة المبادئ الماركسية، ويناقض حرية الإنسان الطبيعية الفطرية في التملك، ويضلل الأفكار في فهم حقيقة نظرة الإسلام للملكية، فالملكية الخاصة حق مصون في الإسلام، اللهم إلا في حدود حق الغير ومصلحة المجتمع. فحق الملكية ليس وظيفة اجتماعية تجعل المالك مجرد موظف لصالح الجماعة، وإنما هو ذو وظيفة اجتماعية، كما أنه ذو صفة فردية، إذ لو اعتبر الحق وظيفة اجتماعية، لكان صاحب الحق موظفاً أو مجرد وكيل يعمل لصالح الجماعة، دون نظر إلى مصلحته الخاصة، وهذا في الحقيقة إلغاء لفكرة الحق، ويعتبر إلغاء الملكية مناقضاً للفطرة الإنسانية ومصادماً لمشاعر الإنسان وحبه التملك، وسبباً واضحاً في كبت الطاقات البشرية ونزعة الإبداع والتقدم الذاتي.
وبعبارة أخرى: إن الإسلام لايمنع الملكية الخاصة مطلقاً، ولايطلقها بلا حدود. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4]، {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات:19/ 51]، {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/ 16]، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة:54/ 5] ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (1) «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» (2)، «لايحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» (3).
_________
(1) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه (راجع الترغيب والترهيب: 3ص609 ومابعدها).
(2) رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله (جمع الفوائد لابن سليمان الروداني:474/ 1).
(3) أخرجه الدارقطني في سننه بلفظ: «لايحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا ماطابت به نفسه» وله ألفاظ وروايات كثيرة منها: مارواه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما عن أبي حميد الساعدي بلفظ: «لايحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيبة نفس منه» (انظر مجمع الزوائد: 4ص171، نصب الراية: 4ص169، سبل السلام: 3ص60، نيل الأوطار: 152/ 8).

(6/4580)


وبناء عليه يحرم التعدي على ملكيات الأفراد مادامت مشروعة، قال صلّى الله عليه وسلم: «من ظلم شبراً من الأرض طوقه الله من سبع أرضين» (1).
وقرر الإسلام عقوبات على السرقة والغصب والسلب والغش، والجباية الظالمة ونحوها، وطالب بضمان الأموال المتلفة. وأما الملكية غير المشروعة فيجوز للدولة التدخل في شأنها لرد الأموال إلى صاحبها، بل إن لها الحق في مصادرتها، سواء أكانت منقولة أم غير منقولة، كما فعل سيدنا عمر في مشاطرة بعض ولاته الذين وردوا عليه من ولايتهم بأموال لم تكن لهم، استجابة لمصلحة عامة: وهو البعد بها عن الشبهات وعن اتخاذها وسيلة للثراء (2)؛ لأن الملكية مقيدة بالطيبات والمباحات، أما المحرمات التي تجيء عن طريق الرشوة أو الغش أو الربا أو التطفيف في الكيل والميزان أو الاحتكار أو استغلال النفوذ والسلطة، فلا تصلح سبباً مشروعاً للتملك.
وكذلك يحق للدولة التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل والمصلحة العامة، سواء في أصل حق الملكية، أو في منع المباح وتملك المباحات قبل الإسلام وبعده إذا أدى استعماله إلى ضرر عام، كما يتضح من مساوئ الملكية الإقطاعية، ومن هنا يحق لولي الأمر العادل أن يفرض قيوداً على الملكية في بداية إنشائها في حال إحياء الموات، فيحددها بمقدار معين، أو ينتزعها من أصحابها مع دفع تعويض عادل عنها (3) إذا كان ذلك في سبيل المصلحة العامة للمسلمين (4).
_________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد عن عائشة (نيل الأوطار: 317/ 5).
(2) انظر التلخيص الحبير: ص254.
(3) ولا تعويض وإنما يصادر المال إذا كان مكتسباً بطريق غير مشروع كالاغتصاب والاختلاس أو كان سبب اكتسابه مشتبهاً فيه، ولقد صادر النبي صلّى الله عليه وسلم وصحابته وبخاصة سيدنا عمر أموال الولاة الذين ذكروا سبباً غير مشروع لملكياتهم كالإهداء أو لم يبينوا من أين ملكوا المال.
(4) انظر بحث الأستاذ الشيخ علي الخفيف «الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام» ص 113، 128 ومابعدها من كتاب المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية.

(6/4581)


ومن المقرر عند الفقهاء أن لولي الأمر أن ينهي إباحة الملكية بحظر يصدر منه لمصلحة تقتضيه، فيصبح ما تجاوزه أمراً محظوراً، فإن طاعة ولي الأمر واجبة بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4] وأولو الأمر في السياسة والحكم: الأمراء والولاة كما روى ابن عباس وأبو هريرة، وقال الطبري: إنه أولى الأقوال بالصواب.
ومن أمثلة تدخل ولي الأمر في الملكية: ما روي محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين أنه قال: «كان لسمرة بن جندب نخل في حائط (أي بستان) رجل من الأنصار، وكان يدخل هو وأهله فيؤذيه، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله لصاحب النخل: بعه، فأبى، فقال الرسول: فاقطعه، فأبى، فقال: فهبه ولك مثله في الجنة، فأبى، فالتفت الرسول إليه وقال: أنت مضار، ثم التفت إلى الأنصاري، وقال: اذهب فاقلع نخله» (1) ففي هذه الحادثة ما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يحترم الملكية المعتدية، وهو القائل في القضاء في حقوق الارتفاق: «لا ضرر ولا ضرار» (2)، وروى أبو هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» (3). وشرع الإسلام حق الشفعة على الملكية، دفعاً للضرر وإقراراً لقاعدة المصلحة.
ومن الأمثلة أيضاً: ما روى الإمام مالك في الموطأ: وهو أن رجلاً اسمه
_________
(1) انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى، مطبعة البابي الحلبي: ص 285.
(2) رواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه، ورواه أحمد في مسنده وابن ماجه والدارقطني في سننيهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري. وله طرق يقوي بعضها بعضاً. والضرر: إلحاق مفسدة بالغير، والضرار: مقابلة الضرر بالضرر.
(3) رواه مسلم ومالك وأحمد وابن ماجه (شرح مسلم: 47/ 11) بل رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(6/4582)


الضحاك بن خليفة ساق خليجاً (1) من العريض (واد في المدينة)، وأراد أن يمر به في أرض محمد بن مَسْلَمة، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: «لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً، وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك» (2) ففي هذا ما يدل على أنه لا يكفي الامتناع من الضرر، بل يجب على المسلم في ملكه أن يقوم بما ينفع غيره ما دام لا ضرر عليه فيه.
ويمكن أن يعتبر مسوغاً لتنظيم الملكية أو تقييدها ـ بناء على قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وعملاً بقانون المصلحة العامة وبمبدأ سد الذرائع ـ كون صاحبها مانعاً لحقوق الله تعالى أو اتخاذها طريقاً للتسلط والظلم والطغيان، أو التبذير والإسراف وتبديد الأموال والوقوع في حمأة الرذيلة والفساد، أو إشعال نار الفتنة والاضطرابات بين الناس، أو الاحتكارات والتلاعب بأسعار الأشياء، ومحاولة تهريب الأموال إلى خارج البلاد، أو دفع ضرر فقر ألم بفئة من الناس، أو لإهدار الأموال المجموعة من الربا (3)، على شرط أن يكون إجراء استثنائياً مرهوناً بوقت الحاجة لا تشريعاً دائماً، وبشرط ألا يهتدم رأس المال من أصله.

قيود الملكية:
قيود الملكية ثلاثة: أولها ـ أن تكون في دائرة منع الضرر. ثانيها ـ ليس كل
_________
(1) الخليج: نهر يقتطع من النهر الأعظم إلى موضع ينتفع به فيه.
(2) الموطأ: 218/ 2 ومابعدها، وهناك حادثة أخرى في الموطأ تشابه هذه الحادثة قضى فيها عمر.
(3) الربا والاحتكار هما مصيبة الرأسمالية الطاغية، إذ مكناها رويداً رويداً من تجميع الثروات في أيديها وحرمان سائر الناس منها (جاهلية القرن العشرين لمحمد قطب: ص 278).

(6/4583)


شيء قابلاً للتملك الفردي. ثالثها ـ للجماعة أو للدولة حقوق مفروضة على الملكية الخاصة.

القيد الأول ـ منع الإضرار بالآخرين: إن الحقوق المقررة على الملكية أساسها أمران:
1 - منع ضرر الغير؛ لأن كل حق في الإسلام مقيد بمنع الضرر.
2 - نفع الغير إن لم يكن ثمة ضرر لا حق به (1).

والضرر أربعة أقسام عند العلماء (2):
1 - الضرر المؤكد الوقوع: وهو أن يترتب على تصرف المالك في ملكه ضرر مؤكد بغيره عند استعمال حقه المأذون فيه. وحكمه أنه إذا تمكن صاحب الحق من استعمال ملكه دون إضرار بغيره، فيمنع من الضرر؛ لأنه يتحمل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام. وإذا كان الضرر خاصاً بالآحاد، فيكون حق صاحب الحق أولى بالاعتبار.
2 - الضرر الغالب وقوعه: وهو أن يكون الضرر كثير الوقوع عند القيام بالفعل، وهذه الحال تلحق بسابقتها: وهي المقطوع فيها بوقوع الضرر؛ لأن غلبة الظن تقوم مقام اليقين في الأحكام العملية.
3 - الضرر الكثير غير الغالب: وهو أن يكون ترتب المفسدة على الفعل كثيراً في ذاته إذا وقع، ولكن لا يغلب على الظن وقوعه.
_________
(1) التكافل الاجتماعي للأستاذ محمد أبو زهرة: ص 24.
(2) المصدر السابق: ص 64 - 66.

(6/4584)


وفيه اختلف الفقهاء، فالمالكية والحنابلة يرون العمل بقاعدة «دفع المضار مقدم على جلب المصالح» واحتمال وقوع الضرر كاف لمنع الفعل. والحنفية والشافعية يرون أن الفعل مشروع في أصله، واحتمال الضرر لا يصلح دليلاً على الضرر المتوقع، فلا يمنع حق لمجرد احتمال الضرر.

4 - الضرر القليل: وهو أن يكون الضرر المترتب على استعمال الحق المأذون فيه نادر الوقوع، أو كان في ذاته قليلاً، وهو لا يلتفت إليه لقلته، إذ العبرة بأصل الحق الثابت، فلا يعدل عنه إلا لعارض الضرر الكثير بالغير.
القيد الثاني - منع الملكية الخاصة في بعض الحالات:
ليست كل الأموال قابلة للتملك الفردي، فهناك أنواع ثلاثة من المال لا تقبل الملكية الفردية وإنما هي مملوكة للجماعة (1)، وما عداها من المرافق الخاصة كالمزروعات والمصنوعات، يجوز للأفراد تملكها والتصرف فيها. وتلك الأنواع هي ما يأتي:
النوع الأول: الأموال ذات النفع العام كالمساجد والمدارس والطرقات والأنهار والأوقاف الخيرية ونحوها من المنافع العامة التي لا تؤدي غايتها إلا إذا كانت للجماعة.
النوع الثاني: الأموال الموجودة بخلق الله تعالى، كالمعادن والنفط والأحجار والماء والكلأ والنار، فهذه الأشياء لم يوجدها البشر وإنما هي مخلوقة بخلق الله تعالى. وكون المعادن كلها مملوكة للدولة وتستخدم من أجل المرافق العامة هو الحق
_________
(1) انظر التكافل الاجتماعي للأستاذ أبي زهرة: ص 29 وما بعدها.

(6/4585)


وهو الرأي الراجح عند المالكية، وهو رأي الحنابلة في المعادن الظاهرة أو السائلة: وهي التي يحصل عليها من غير مؤنة ينتابها الناس، كالملح والماء والكبريت والنفط والكحل والياقوت ونحوها. أما المعادن الجامدة فتملك بملك الأرض التي هي
فيها (1).
وأما الحنفية فعندهم تفصيلات تعرف في كتبهم، ولكنهم يقرون أن للدولة فيها حظاً كبيراً. ويظهر رأي الحنابلة في قول ابن قدامة الحنبلي: «وجملة ذلك أن المعادن الظاهرة: وهي التي يوصل ما فيها من غير مؤنة ينتابها الناس وينتفعون بها كالملح والماء والكبريت والقير والمومياء (2) والنفط والكحل والبرام (3) والياقوت ومقاطع الطين وأشباه ذلك لا تملك بالإحياء، ولا يجوز إقطاعها لأحد من الناس ولا احتجازها دون المسلمين؛ لأن فيها ضرراً بالمسلمين وتضييقاً عليهم» (4).
النوع الثالث: الأموال التي تؤول ملكيتها للدولة من الأفراد أو يكون للدولة عليها الولاية.
فالأولى مثل ما يؤول إلى بيت المال كالأموال الضائعة، أو التي لا وارث لها؛ لأن «بيت المال وارث من لا وارث له» والثاني مثل الأراضي الخراجية الزراعية التي آلت إلى المسلمين بالفتح كأراضي الشام ومصر والعراق وفارس وما وراءها تعتبر كالمعادن مملوكة للدولة، وتعتبر اليد القائمة عليها يد اختصاص وانتفاع فقط، لا يد تملك تام أي (للرقبة والمنفعة معاً). وإذا كانت أغلب أراضي المسلمين هي أراضي خراجية، ويد الزراع عليها ليست يد ملك مطلق، فإن لولي الأمر عند الضرورة أن
_________
(1) المغني: 28/ 3، 520/ 5.
(2) نوع من الدواء.
(3) البرام ـ بكسر الباء جمع برمة ـ بضم الباء: وهي القدر من الحجارة.
(4) المغني: 520/ 5.

(6/4586)


ينتزع الأراضي من أيدي واضعي اليد عليها، ويعوضهم عنها إذا اقتضت المصلحة العامة نزعها، وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حمى أرضاً بالمدينة وهو النقيع (موضع معروف بالمدينة) لترعى فيها خيل المسلمين (1) أي أنه جعلها مشاعة لجميع الناس، أي مؤممة للجماعة بتعبير العصر. وحمى عمر رضي الله عنه أرضاً بالرَبذة والشرَف (وهما موضعان بين مكة والمدينة) وجعل كلأهما للمسلمين كافة، فجاءه أهلها يشكون قائلين: «يا أمير المؤمنين، إنها أرضنا، قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها، علام تحميها؟» فأطرق عمر وقال: «المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل في سبيل الله ـ أي إعداد خيول الجهاد ـ ما حميت من الأرض شبراً في شبر» وظاهر هذا الأثر أن حمى عمر كان في أرض لأهلها فيها منافع ومرافق بسبب الجوار، ولم يمنعه من حمايتها على أهلها حين دعت إلى ذلك مصلحة عامة (2)، مثل شركات المياه والكهرباء والنفط وخطوط النقل والبرية والبحرية ونحوها من المرافق الحيوية ذات النفع العام للبلاد.

القيد الثالث ـ حقوق الجماعة في ملكيات الأفراد:
للجماعة أو للدولة حقوق في أموال وملكيات الأفراد يترتب على أدائها
_________
(1) روى أحمد وابن حبان عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل ـ خيل المسلمين. ورواه أحمد وأبو داود عن الصعب بن جثامة أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع، وقال «لا حمى إلا لله ولرسوله» للبخاري منه: «لا حمى إلا لله ولرسوله» وقال: «بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى الشرف والربذة» (انظر جامع الأصول: 331/ 3، مجمع الزوائد: 171/ 4، نيل الأوطار: 308/ 5) ويكون حمى الأرض بجعلها حرماً يمنع غير حاميها من الرعي والإقامة، والحمى كان الغرض منه مجرد انتفاع مقصور على الحامي مدة موقوتة تتحدد بصلاحية المكان للرعي، فإذا انتهت صلاحيته انتهت حمايته.
(2) الأموال لأبي عبيد: ص 294 - 302، بحث الأستاذ علي الخفيف «الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام»: ص 108 من كتاب المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية.

(6/4587)


تفتيت الثروات الضخمة؛ لأن الإسلام يكره تكديس الأموال واكتنازها وتضخيم الملكيات (1)، فيجب إسهام ذوي الحاجات في أموال الأغنياء تحقيقاً للعدالة الاجتماعية في توزيع الثروات، كما يجب على الأغنياء الإسهام في دعم موارد الخزينة العامة للمحافظة على كيان الأمة. وهذه الحقوق العامة للجماعة في أموال الأغنياء أو الموارد المالية للدولة تتلخص فيما يأتي (2):
1 - الزكاة: هي تشريع إلزامي في الإسلام يجب على الأغنياء القيام بتنفيذه، وتقوم الدولة بجباية الزكاة من أصحاب رؤوس الأموال، ولها أن تجبرهم على أدائها، فليست الزكاة صدقة ممتهنة، كما فهم بعض الكاتبين في الصحافة الحديثة، كما أنها ليست إذلالاً للفقير، وإنما هي حق مستقيم واجب ديانة وقانوناً، وهي تؤخذ من الأموال النامية المنتجة، وهي أربعة أقسام في عرف المسلمين في الماضي:
أـ النعَم: وهي الإبل والبقر والغنم التي ترعى أغلب العام في عشب مباح، ومقادير المأخوذ منها معروفة في كتب السنة والفقه.
ب ـ النقدان: الذهب والفضة بنسبة ربع العشر 5،2%، ويمثلها في عصرنا الأوراق النقدية.
_________
(1) هناك آيات قرآنية كثيرة في هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة:34/ 9] {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء} [الشورى:27/ 42] {كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى} [العلق:6/ 96 - 7] {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/ 59] {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:77/ 28].
(2) انظر اشتراكية الإسلام للسباعي: ص 121، 126 ومابعدها، التكافل الاجتماعي في الإسلام للأستاذ محمد أبو زهرة. ص 79 وما بعدها.

(6/4588)


جـ ـ أموال التجارة بنسبة ربع العشر.
د ـ الزروع والثمار بنسبة العشر فيما يسقى بغير آلة، ونصف العشر إن كانت تسقى بآلة.

2 - تأمين حاجيات الدفاع عن البلاد: إذا اقتضت حاجات الدفاع عن الأمة أوا لجهاد في سبيل الله بعض الأموال، ولم يكن في الخزينة العامة ما يكفي لسد تلك الحاجة، فعلى الدولة أن تفرض في أموال الناس من الضرائب بقدر ما يندفع به الخطر عملاً بالمصالح المرسلة، وقد نص على ذلك كثير من علماء الإسلام مثل الغزالي والقرافي والشاطبي وابن حزم والعز بن عبد السلام وابن عابدين (1).
3 - كفاية الفقراء: للدولة أيضاً أن تطالب الأغنياء بإغناء الفقراء، فهي ممثلة لهم، قال عليه الصلاة والسلام ـ فيما يرويه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليما» (2) وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً «أيما أهل عَرْصة (أي بقعة) أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» (3).
_________
(1) انظر أصول الفقه للمؤلف: 765/ 2 ط دار الفكر، الاعتصام: 121/ 2، ط التجارية، الفروق: 141/ 1، ط دار إحياء الكتب، المستصفى 313/ 1، حاشية ابن عابدين: 42/ 2، ط الميمنية، المحلى: 156/ 6 - 159 ط 1349 هـ.
(2) رواه الطبراني في الأوسط والصغير وقال: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد، قال الحافظ ابن حجر: وثابت ثقة صدوق روى عنه البخاري وغيرهم، وبقية رواته لا بأس بهم، وروي موقوفاً على علي رضي الله عنه وهو أشبه (انظر الترغيب والترهيب: 538/ 1، مجمع الزوائد: 62/ 3).
(3) رواه الحاكم وأحمد بلفظ «من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله» وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير من مرة، والأول مختلف فيه، والثاني قال ابن حزم: إنه مجهول، وقال غيره: معروف، ووثقه ابن سعد، وروى عنه جماعة واحتج به النسائي (انظر نيل الأوطار: 221/ 5).وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة والبزار.

(6/4589)


وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «إن في المال حقاً سوى الزكاة» (1)، وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء، فرددتها إلى الفقراء». قال ابن حزم (2) في كتاب المحلى: «فرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنُّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة» (3).

4 - الإنفاق على الأقارب: يجب على الإنسان أن يكفي أقاربه إذ اكانوا محتاجين كالآباء والأجداد والأبناء وفروعهم. وأما الإخوة وفروعهم والأعمام والعمات والأخوال والخالات، فقد اختلفت المذاهب في أمر الإنفاق عليهم، فأوجب الحنفية الإنفاق على كل ذي رحم محرم كالعم والأخ وابن الأخ والعمة والعم والخال، وألزم الحنابلة النفقة لكل قريب وارث بفرض أو تعصيب كالأخ
_________
(1) رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس بلفظ «إن في المال حقاً سوى الزكاة» وتلا قوله تعالى {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة:177/ 2]. وقال: «إسناده ليس بذاك» (انظر التلخيص الحبير: ص 177، أحكام القرآن للجصاص: 153/ 1) وروى ابن حزم عن ابن عمر أنه قال: «في مالك حق سوى الزكاة» ثم قال: وصح عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة، ثم ذكر أنه لا خلاف في هذا إلا عن الضحاك بن مزاحم، وهو ليس بحجة.
(2) يعتبر ابن حزم بعد أبي ذر الغفاري مفكر الاشتراكية الإسلامية، فهو أول من نظر في استنباط الأحكام إلى الحياة الإنسانية التي جاءت الأحكام لتنظيمها، فأحس بمشكلة الفقر في المجتمع، وأهم مظاهر الفقر: الجوع والعري وفقد المأوى، وهذه في الواقع هي الحاجات الأساسية للبشرية، ثم قرر أن الزكاة ليست كل الواجب، وأن الواجب الإسلامي لا يتم إلا بتحقيق وسائل الحياة الكريمة للطبقة الفقيرة، وبذلك يكون للفقراء حق في أموال الأغنياء غير مقيد بالزكاة، وأن للدولة أن تأخذ من الأغنياء ما يمكن أن يسد حاجات الفقراء (انظر بحث الدكتور إبراهيم اللبان وموضوعه «حق الفقراء في أموال الأغنياء» المنشور مع بحوث المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية: ص 249 ومابعدها.
(3) المحلى: 452/ 6 م 725.

(6/4590)


والعم وابن العم، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة.

5 - صدقات الفطر: تجب صدقة الفطر على الرجل بالنسبة لمن تلزمه نفقتهم من زوجة وولد وخادم.
6 - الأضاحي: تجب الأضحية مرة في كل عام عند أبي حنيفة، وهي سنة مؤكدة عند جمهور الأئمة.
7 - النذور والكفارات: يجب على المسلم أن يفي بنذره إذا نذر أن يتبرع لله بمال، كما يجب عليه الكفارة بإطعام الفقراء والمساكين جزاء لبعض الآثام كالحنث في اليمين والظهار، أو بسبب الإخلال ببعض الواجبات الدينية كالإفطار في رمضان بالنسبة للعاجز أو الذي ينتهك حرمة الصيام بالجماع نهاراً، ونحوه كالواجبات التي تجب أثناء الإحرام بالحج.
وهناك أوجه كثيرة للإنفاق في سبيل الله حث عليها الإسلام، كما أن هناك موارد أخرى لبيت المال كالأوقاف والغنائم، وهو ما يحقق معنى التكافل الاجتماعي في الإسلام.
وهناك أيضاً قيود أخلاقية دينية على الأموال، فينبغي على الدولة ملاحظة المكاسب لمنع الاستغلال واختلال توازن الثروات، مثل تحريم الربا والاحتكار والميسر والغش والتغرير والغبن والتدليس وإنقاص المكيال والميزان ونحوه.
والخلاصة: إن هناك قيوداً كثيرة في الإسلام على حق الملكية الشخصية، منها ما هو قانوني إلزامي، ومنها ما هو أخلاقي ديني يتطلب فهما صحيحاً وتطبيقاً شاملاً لدين الإسلام؛ لأن الإسلام منهج عام شامل للحياة، وكل لا يتجزأ، وتشريعاته حتى العبادات منها يكمل بعضها بعضاً، لمعالجة كل متطلبات الحياة الحديثة وضرورات الاقتصاد المعاصر.

(6/4591)