الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

البَابُ الثَّاني: توابِعُ الملكيَّة
ويشمل اثني عشر فصلاً:

(6/4593)


الفَصْلُ الأوَّل: أحكامُ الأراضِي
الأراضي الخاضعة للسلطة الإسلامية إما جديدة آلت إلى المسلمين بالاستيلاء أو الفتح، وإما قديمة استقر بها المسلمون. وأبحث هذين النوعين على النحو التالي:

أولاً ـ أحكام الأراضي المستولى عليها بالفتح.
ثانياً ـ أحكام الأراضي المستقرة في داخل الدولة.
وأبدأ بالنوع الأول.
أولاً ـ أحكام الأراضي المستولى عليها بالفتح:
الأراضي التي استولى عليها المسلمون تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أرض ملكت عَنْوة وقهراً، وأرض ملكت عفواً لجلاء أهلها عنها، وأرض استولي عليها صلحاً.

1 - الأراضي التي فتحت عنوة:
تنتقل ملكية الأراضي إلى الفاتحين بمجرد الاستيلاء عليها عند المالكية على المشهور، والحنابلة والشيعة الإمامية والزيدية؛ لأنها مال زال عنه ملك المحاربين بالاستيلاء عليه، فصار كالمباح تسبق إليه اليد، فيتم تملكه بإحرازه.

(6/4595)


وعند الشافعية: تملك الأراضي والمنقولات بالاستيلاء والقسمة بالتراضي أو اختيار تملكها.
وعند الحنفية: لاتنتقل ملكية الأراضي إلا بالضم إلى دار الإسلام أو حيازتها فعلاً، وجعلها جزءاً من دار الإسلام.
وموات الأرض التي فتحت عنوة أو صلحاً لايملك إلا بالإحياء بالاتفاق (1).
واختلف الفقهاء في حكم مالك هذه الأرض بعد الاستيلاء عليها:
فذهب جمهور الصحابة والشافعية والظاهرية (2): إلى أنه تنتقل ملكية هذه الأراضي من أصحابها إلى المسلمين، كالغنائم، الخمس لمن ذكرتهم آية الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول .. } [الأنفال:41/ 8] والغنائم: ماأخذ من أموال أهل الحرب عنوة بطريق القهر والغلبة.
والأربعة الأخماس الباقية للغانمين. فإن طابت بتركها نفوس الغانمين بعوض أو غيره، وقفها ولي الأمر على مصالح المسلمين.
وقال المالكية في المشهور عندهم، والإمامية (3): تصبح هذه الأراضي وقفاً على المسلمين، بمجرد الحيازة، دون أن تحتاج إلى وقف الإمام، ولا تكون ملكاً
_________
(1) الخرشي، الطبعة الثانية: 128/ 3، تأسيس النظر للدبوسي: ص 57، مغني المحتاج: 234/ 4، المهذب: 241/ 2، القواعد لابن رجب: ص 189، 411 ومابعدها، المغني: 422/ 8، مفتاح الكرامة: 7/ 7، البحر الزخار: 215/ 2.
(2) الأم: 103/ 4، 192، مخطوط الروضة للنووي: 2 ق /24ب، المحلى: 241/ 7.
(3) الخرشي: 128/ 3، ط ثانية، المدونة: 27/ 3، الحطاب: 366/ 3، القوانين الفقهية: ص 148، ط. تونس، الكافي للكليني: 626/ 1، مفتاح الكرامة: 239/ 4 ومابعدها، الشرح الرضوي: ص310، الروضة البهية: 222/ 1، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 138.

(6/4596)


لأحد، ويصرف خراجها (1) في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة، وبناء القناطر والمساجد، وغيرها من سبل الخير، إلا أن يرى ولي الأمر في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة.
وقال الحنابلة في أظهر الروايات عن أحمد (2): إن الإمام يفعل ما يراه الأصلح من قسمتها ووقفها، نظير خراج دائم يقرر عليها كالأجرة، وتكون أرضاً عشرية خراجية، العشر على المستغل، والخراج على رقبة الأرض.
وقال الحنفية والزيدية (3): الإمام بالخيار، إن شاء قسمها بين المسلمين، كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخيبر، وإن شاء أقر أهلها عليها، ووضع على رؤوسهم الجزية، وعلى أراضيهم الخراج، فتكون أرض خراج، وأهلها أهل ذمة. قال ابن عابدين: القسمة بين الغانمين أولى عند حاجتهم، وتركها بيد أهلها أولى عند عدم الحاجة لتكون عدة للمسلمين في المستقبل.

الأدلة:
يتضح مما سبق أن الفقهاء متفقون على جواز قسمة الغنائم بين الغانمين، لعموم قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء، فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .. } [الأنفال:41/ 8] أي أن خمس الغنيمة لمن ذكرتهم الآية، أو للدولة، والأربعة الأخماس الباقية ملك للغانمين من
_________
(1) الخراج لغة: هو ما حصل عليه من ريع أرض أو كرائها أو أجرة غلام ونحوه، ثم سمي ما يأخذه السلطان خراجاً، فيقع على الضريبة والجزية ومال الفيء، ويختص في الغالب بضريبة الأرض.
(2) زاد المعاد: 173/ 2، الشرح الكبير للمقدسي: 538/ 1، المحرر: 178/ 2، أحكام أهل الذمة لابن القيم: ص 102.
(3) المبسوط: 15/ 10، 37، درر الحكام: 285/ 1، فتح القدير: 303/ 4، حاشية ابن عابدين: 316/ 3، 353، البحر الزخار: 912/ 2.

(6/4597)


غير خلاف بين الأئمة، بدليل إسناد الحق في الغنيمة للغانمين في قوله تعالى: {غنمتم} [الأنفال:41/ 8] أسنده إليهم إسناد الملك إلى مالكه.
وبدليل ما بينته السنة بقوله صلّى الله عليه وسلم وفعله، أما قوله فمثل: «أيما قرية أتيتموها وأقمتم بها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ورسوله، ثم هي لكم» (1)، فالمراد بالقرية الأولى: الفيء، ويصرف مصارفه، والمراد بالقرية الثانية: ما أخذ عنوة، فيكون غنيمة يخرج منه الخمس، وباقيه للغانمين، وهو معنى قوله: «ثم هي لكم» أي باقيها.
وأما ما فعله عليه الصلاة والسلام: فالثابت عنه أنه قسم خيبر بين الغانمين بعد أن فتحت عنوة أي قهراً لا صلحاً، وقسم أيضاً أموال بني قريظة وبني النضير (2) كما ذكر ابن القيم في زاد المعاد.
وأما المدينة ففتحت بالقرآن وأسلم عليها أهلها فأقرت بحالها. وأما مكة ففتحها الرسول صلّى الله عليه وسلم عنوة، ولم يقسمها.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس ببّاناً (3)، ليس لهم شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم، يقتسمونها» (4)، فكان رأي عمر أن يترك الأرض ولا يقسمها.
_________
(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود (شرح مسلم للنووي: 69/ 1، الأموال لأبي عبيد: ص 57).
(2) انظر شرح مسلم: 91/ 12، 164، عيني بخاري: 46/ 15، سنن أبي داود: 217/ 3، زاد المعاد: 68/ 2، نيل الأوطار: 12/ 8.
(3) الببَّان: المعدم الذي لا شيء له. والمعنى: لولا أني أتركهم فقراء معدمين لا شيء لهم، أي متساوين في الفقر، لأنه إذا قسم البلاد المفتوحة على الغانمين بقي من لم يحضر الغنيمة، ومن يجيء بعد من المسلمين بغير شيء منها، فلذلك تركها لتكون بينهم جميعاً (فتح الباري: 395/ 7، النهاية لابن الأثير: 69/ 1).
(4) صحيح البخاري: 86/ 4.

(6/4598)


هل القسمة ملزمة للإمام أو له الخيار في أمور أخرى؟ أـ قال الشافعية والظاهرية: يجب قسمة الأراضي بين الغانمين، كسائر الأموال، عملاً بمقتضى القرآن والسنة، إذ لا فرق بين العقار والمنقول، وعموم آية الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم ... } [الأنفال:41/ 8] بوجوب القسمة يتفق مع فعله صلّى الله عليه وسلم الذي يجري مجرى البيان للمجمل، فضلاً عن العام (1).
وأما آية الحشر: {وما أفاء الله على رسوله منهم .. } [الحشر:6/ 59] فهي في الفيء (أي الأموال الآيلة للمسلمين بدون قتال) على ما هو الظاهر منها.
وإذا لم يقسم الإمام الأرض، فعليه أن يستطيب الغانمين، كما استطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنفس الغانمين يوم حنين ممن صار في يديه سبي هوازن، وكما فعل في خيبر وبني قريظة (2)، وكما استطاب عمر بن الخطاب الغانمين بعد فتح سواد العراق بعوض أو بغيره، فصارت الأرض وقفاً أي فيئاً للمصالح العامة بعد أن كانت غنيمة، فقد أعطى عمر جريراً البَجَلي عوضاً من سهمه، وأعطى امرأة بجلية عوضاً من سهم أبيها؛ لأن حق الغانمين قد ثبت في الغنيمة بعد الفتح بالاستيلاء، فلا يملك الإمام إبطال هذا الحق بترك الأرض في أيدي أهلها كالمنقول، ومن لم يطب نفساً منهم فهو أحق بحقه (3).
ب ـ وقال المالكية في المشهور عندهم والإمامية (4): تصبح الأرض وقفاً بمجرد الاستيلاء عليها، أي كأثر طبيعي لازم دون حاجة لصيغة الإمام، ولا لتطيب
_________
(1) بداية المجتهد: 388/ 1، مجمع الزوائد: 340/ 5.
(2) رواه البخاري والبيهقي وغيرهما (سنن البيهقي: 64/ 9، 136، البداية والنهاية: 352/ 4).
(3) مغني المحتاج: 234/ 4، شرح المجموع: 274/ 1.
(4) الحطاب: 366/ 3، منح الجليل: 735/ 1، بداية المجتهد: 387/ 1، القوانين الفقهية: ص 148، مفتاح الكرامة: 6/ 7.

(6/4599)


أنفس المجاهدين، محتجين بفعل عمر، حيث وقف الأراضي التي افتتحها كمصر والشام والعراق. جـ ـ وقال الحنفية والحنابلة: إن الأصل المقرر أن يكون للإمام الخيار في الأراضي، فله أن يقسمها، وله أن يتركها وقفاً، وعمر رضي الله عنه قد استعمل حقه، فقرر أن تكون وقفاً، أي ملكاً للجماعة الإسلامية بأن تكون ملكية الرقبة للدولة، وملكية المنفعة فقط لأهلها القائمين عليها.

أدلة القائلين بإعطاء الخيار للإمام في وقف الأرض:
استدل هؤلاء، وهي في الواقع أدلة لعمر بما يأتي:
1 - إن آية الأنفال: {واعلموا أنما غنمتم .. } [الأنفال:41/ 8] وآيات الحشر: {وما أفاء الله على رسوله منهم .. } [الحشر:6/ 59] واردة في موضوع واحد، ولكن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال، أي أنه بعد أن كانت الثانية شاملة للأرض والمنقول، خصصتها آية الحشر بما عدا الأرض. أما الأرض فقد أعطت آية الحشر الحق للإمام في أن يتصرف بما يجده من المصلحة: إما أن يقف الأرض، أو يقرها في أيدي أهلها ويضع عليها الخراج؛ لأن آية الأنفال توجب التخميس وآية الحشر توجب القسمة بين المسلمين جميعاً دون التخميس، وبذلك يجمع بين الآيتين (1)، والجمع بين الأدلة عند كثير من الأصوليين مقدم على القول بالنسخ، أي بنسخ آية الحشر لآية الأنفال، كما قال بعضهم (2).
_________
(1) الفيء: ما أخذ بغير قتال، مصروفاً لمصالح المسلمين يفعل ولي الأمر في ذلك ما يراه مصلحة، ولا يخمس الفيء عند الجمهور خلافاً للشافعية والزيدية. (بداية المجتهد: 321/ 1، القوانين الفقهية: ص 147، 150، نهاية المحتاج: 106/ 5، البحر الزخار: 443/ 5).
(2) المقدمات الممهدات لابن رشد: 271/ 1 ومابعدها.

(6/4600)


والرسول عليه الصلاة والسلام قد عمل بآية الأنفال، وعمر قد عمل بآية الفيء، وليس فعل النبي صلّى الله عليه وسلم براد لفعل عمر؛ لأن فعل الرسول إما على سبيل الإباحة لجهالة صفة الفعل منه، وإما على سبيل الوجوب فهو واجب مخير، بدليل الآية التي استنبط منها عمر خصلة الواجب الأخرى (1)، قال عمر: فاستوعبت هذه الآية (آية الحشر) الناس إلى يوم القيامة (2)، وقال أيضاً: «والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أعطي منه أو منع، حتى راعٍ بعدن» (3).
وبناء عليه شملت آية الحشر جميع المؤمنين، وشَّركت آخرهم بأولهم في الاستحقاق. ولا سبيل إليه إلا بعدم قسمة الأرض، وهو معنى وقفها عند المالكية. وليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة، بل يجوز بيع هذه الأرض، كما هو عمل الأمة، وقد أجمع العلماء على أنها تورث، والوقف لا يورث، إلى آخر ما هنالك من فروق (4).
2 - ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرى لم يقسمها، وقد ظهر على مكة عنوة (5)، وفيها أموال، فلم يقسمها، وظهر على قريظة والنضير، وعلى غير دار من دور العرب، فلم يقسم شيئاً من الأرض غير خيبر. فكان الإمام بالخيار: إن قسم كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحسن، وإن ترك كما ترك رسول الله غير خيبر فحسن (6).
_________
(1) مخطوط الدرة اليتيمة في الغنيمة للشيخ الفزاري: ق 102.
(2) رواه أبو داود (سنن أبي داود: 195/ 3، القسطلاني: 201/ 5).
(3) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي (سنن البيهقي: 351/ 6).
(4) المنتقى على الموطأ: 223/ 3 ومابعدها، زاد المعاد: 69/ 2.
(5) كما خرَّج مسلم في صحيحه، وهو الأصح عند العلماء (بداية المجتهد: 388/ 1).
(6) القسطلاني شرح البخاري: 202/ 5، زاد المعاد: 69/ 2، الخراج لابي يوسف: ص 68، القياس لابن تيمية: ص 40.

(6/4601)


3 - إجماع الصحابة رضي الله عنهم، على ما ارتآه عمر، حينما فتح سواد العراق، فقد ترك الأراضي في أيدي أهلها، وضرب على رؤوسهم الجزية، وعلى أراضيهم الخراج، بمحضر من الصحابة محتجاً بآيات الحشر السابق ذكرها، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر، فكان ذلك إجماعاً منهم. ومن خالف منهم في مبدأ الأمر كبلال وسلمان، عاد فوافق بعدئذ (1).
4 - المعقول: إذا قسمت بين الغانمين الأرض المفتوحة التي كادت تشمل معظم العالم في أوج الفتوحات الإسلامية، فماذا يبقى لمن يأتي بعدهم؟
ومن أين تجد خزانة الدولة نفقاتها لإنفاقها في المصالح العامة للمسلمين؟
لهذا قال عمر، بعد أن تلا آيات الفيء في سورة الحشر: «قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء، ولئن بقيتُ ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء، ودمه في وجهه».
وقال أيضاً: «أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلتزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر، لا بد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟» فقالوا جميعاً: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت (2).
وإذا قسمت الأرض بين الغانمين واشتغلوا بالزراعة، وتركوا الجهاد، فسرعان ما تضعف الأمة الإسلامية، وتصبح نهبة للطامعين؛ بل إن في ذلك أمراً مهماً
_________
(1) انظر الخراج لأبي يوسف: ص 27، 35، شرح السير الكبير: 254/ 3، القسطلاني: 200/ 5، الأموال: ص 58.
(2) شرح السير الكبير: 254/ 3، الخراج لأبي يوسف: ص 24 ومابعدها، الأموال لأبي عبيد: ص57، فتوح البلدان: ص 275.

(6/4602)


بالنسبة للاقتصاد العام، حيث يحافظ على الإنتاج، لو تركت الأرض في أيدي أهلها لطول خبرتهم بها، وتمرنهم على شؤون الزراعة، بخلاف العرب الذين لم يكونوا يألفون حياة الزراعة والاستقرار في المدينة.
يتلخص من هذه الأدلة: أنه قد حصل بدلالة الآية وإجماع السلف والسنة تخيير الإمام في قسمة الأرضين، أو تركها ملكاً لأهلها، ووضع الخراج عليها.
وأرجح اعتبار الفيء والغنيمة بمعنى واحد: وهو كل ما جاء من العدو، كما تقضي اللغة، فيخير الإمام بكل منهما على حدة بين القسمة وعدمها على وفق مقتضيات المصلحة العامة كما رأى عمر رضي الله عنه.

2 - الأرض التي جلا عنها أهلها خوفا ً:
هذا النوع الثاني من الأرضين هو المعروف لدى الفقهاء بالفيء: وهو المال الذي حصل من الحربيين بلا قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كالجزية والعشور التجارية (1).
وحكمها: أنها تنتقل ملكيتها إلى بيت المال بالاستيلاء عليها، وتصير أملاك دولة، وعبر عنها الفقهاء بأنها تصير وقفاً، أي ملكاً للأمة الإسلامية بمجرد الاستيلاء عليها، ويضع الإمام عليها خراجاً يؤخذ كأجرة ممن يعامل عليها من مسلم أو معاهد. وصيرورتها وقفاً لأنها ليست غنيمة، فكان حكمها حكم الفيء يكون للمسلمين كلهم. ولم يختلف في هذا فقهاؤنا بالنسبة للعقار، إلا أن
_________
(1) بداية المجتهد: 389/ 1، المهذب: 247/ 2، نهاية المحتاج: 105/ 5، أحكام أهل الذمة لابن القيم: ص 106.

(6/4603)


الشافعية والحنابلة في قول عندهم ذكروا أن وقفها يحتاج إلى صيغة من الإمام، لتصبح هذه الأرض وقفاً، والراجح خلافه (1).
أما المنقول في الفيء: فيوقف أيضاً عند الجمهور، ويصرف لمصالح المسلمين، أي الأمر فيه للإمام يفعل ما يراه مصلحة. ويخمس عند الشافعية المنقول كالغنيمة؛ لأن آية الفيء؛ {ما أفاء الله على رسوله .. } [الحشر:6/ 59] مطلقة، وآية الغنيمة: {واعلموا أنما غنمتم من شيء ... } [الأنفال:41/ 8] مقيدة، فحمل المطلق على المقيد، جمعاً بينهما لاتحاد الحكم، فإن الحكم واحد، وهو رجوع المال من الحربيين للمسلمين، وإن اختلف السبب بالقتال وعدمه (2).
غير أن مذهب الجمهور في هذا أصح، ودليلهم ما روى أنس بن مالك عن عمر، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلّى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكُراع (الخيول) والسلاح عُدَّة في سبيل الله (3).
فقوله: «كانت للنبي صلّى الله عليه وسلم خاصة» يؤيد مذهب الجمهور في أنه لا يخمس الفيء، إذ من المعروف أن فدَك والعوالي (أموال بني النضير في المدينة) (4) كانت للرسول صلّى الله عليه وسلم خاصة، ولمن بعده من الأئمة، لقوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم .. } [الحشر:6/ 59] {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله
_________
(1) فتح القدير: 353/ 4، الخراج: ص 23، الشرح الكبير للدردير: 175/ 2، القوانين الفقهية: ص 66، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 133، ولأبي يعلى: ص 132، مغني المحتاج: 99/ 3، الشرح الكبير للمقدسي: 542/ 10، كشاف القناع: 75/ 3، ط أنصار السنة، المحرر: 179/ 2.
(2) زاد المعاد: 220/ 3، القوانين الفقهية: ص 148، ط تونس، مغني المحتاج: 93/ 3.
(3) شرح مسلم: 70/ 12، قال النووي: كانت أموال بني النضير أي معظمها.
(4) سيرة ابن هشام: 337/ 2.

(6/4604)


وللرسول} [الحشر:59/ 7] أراد أن الفيء لا يقسم كالغنائم، بدليل قوله تعالى: {كيلا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:6/ 59].
وإذا أراد الإمام تفريق الفيء بين المسلمين اتخذ ديواناً يحفظهم ويرتبهم، ويجعل العطاء على حسب ما يتيسر له شهرياً أو غيره (1).

3 - الأرض التي فتحت صلحا ً:
يتحدد حكم هذا النوع من الأراضي بموجب عقد الصلح، فهو إما أن يقع الصلح على أن تكون الأرض للمسلمين، وإما أن يقع على أن تكون الأرض لأصحابها كأرض اليمن والحيرة.
ففي الحالة الأولى: تصبح الأرض وقفاً للمسلمين، كأرض العنوة، وتعتبر من بلاد الإسلام، كالأرض التي جلا عنها أهلها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فتح خيبر، وصالح أهلها على أن يعمروا أرضها، ولهم نصف ثمرتها، فكانت للمسلمين دونهم. قال ابن عمر رضي الله عنهما: «عامل النبي صلّى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» (2)، وصالح النبي بني النضير على أن يجليهم من المدينة، ولهم ما أقلت الإبل من المتعة والأموال إلا الحلقة (السلاح) وكانت مما أفاء الله على رسوله (3).
ويوضع على هذه الأرض الخراج، ويكون تابعاً لها، فإذا اشترى مسلم
_________
(1) البحر الزخار: 442/ 5، المهذب: 248/ 2.
(2) رواه البخاري والبيهقي وأبو داود (صحيح البخاري: 105/ 3، 140/ 5، سنن البيهقي: 113/ 6، سنن أبي داود: 357/ 3).
(3) الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي: 542/ 10.

(6/4605)


بعضاً منها، ظل ملتزماً بضريبة الخراج؛ لأنه يعتبر أجرة في نظير الانتفاع بالأرض، وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء (1).
وفي الحالة الثانية: تكون الأرض ملكاً لأهلها بموجب الصلح، باتفاق الفقهاء، ويلتزم المسلمون بتنفيذ شروط الصلح كاملة، ما دام هؤلاء قائمين على الصلح، ولكن يوضع الخراج على الأرض يؤدونه عنها، ويكون لبيت المال (2)، وهذا الخراج يعتبر في حكم الجزية، فمتى أسلموا سقط عنهم عند الجمهور والشيعة الإمامية (3)، بدليل ما كتب عمر بن عبد العزيز لعماله: ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض.
أما عند الحنفية والشيعة الزيدية: فلا يسقط؛ لأن الخراج عندهم فيه معنى المؤنة ومعنى العقوبة، ولذا يبقى على المسلم ولا يبتدأ به (4).
وتعبر دار هؤلاء المصالحين دار عهد أو صلح عند الشافعية وبعض الحنابلة (5)، وعند الجمهور: تعتبر الدار بالصلح دار إسلام، ويصير أهلها أهل ذمة تؤخذ منهم الجزية.
_________
(1) المدونة: 26/ 3، المنتقى على الموطأ 219/ 3، الخرشي: 149/ 3، ط ثانية، كشاف القناع: 75/ 3، المحرر: 179/ 2، أحكام أهل الذمة: ص 106، مفتاح الكرامة: 249/ 4، المختصر النافع: ص14.
(2) الخراج: ص 63، تبيين الحقا ئق: 274/ 3، حاشية ابن عابدين: 53/ 2، حاشية الدسوقي: 175/ 2، القوانين الفقهية: ص 148، الأم: 103/ 4، 193، الشرح الكبير للمقدسي: 543/ 10، أحكام أهل الذمة: ص 105، غاية المنتهى: 467/ 1، ويلاحظ أن هذه المصادر عند الحنابلة تقرر وجوب الخراج لنا، لكن ورد في كشاف القناع: 686/ 3 باب حكم الأرضين المغنومة: لا خراج على أرض صولح أهلها على أن الأرض لهم، كأرض اليمن والحيرة، كما لا خراج على ما أحياه المسلمون كأرض البصرة.
(3) لباب اللباب: ص 73، سنن البيهقي: 141/ 9، المحرر في الفقه الحنبلي: 179/ 2، مفتاح الكرامة: 239/ 4، المختصر النافع: ص 114.
(4) التلويح على التوضيح: 152/ 2، المنتزع المختار: 575/ 1.
(5) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 133، ولأبي يعلى: ص 133، كشاف القناع: 75/ 3.

(6/4606)


ثانياً ـ أحكام الأراضي في داخل الدولة: الأراضي نوعان: أرض مملوكة وأرض مباحة. والمملوكة نوعان: عامرة وخراب، والمباحة نوعان أيضاً: نوع هو من مرافق البلد للاحتطاب ورعي المواشي، ونوع ليس من مرافقها وهو الأرض الموات أو ما يسمى الآن أملاك الدولة العامة، والمقصود بالأرض العامرة: هي التي ينتفع بها من سكنى أو زراعة أو غيرها. وأما الأرض الخراب: فهي المعروفة بالأرض المملوكة الغامرة: وهي التي انقطع ماؤها أو لم تستغل بسكنى أو استثمار أو غيرهما. وسنعطي هنا فكرة إجمالية عن حكم كل أرض.
1 ً - حكم الأرض المملوكة العامرة: هو أنه لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها من غير إذن صاحبها.
2 ً - حكم الأرض الخراب التي انقطع ماؤها: هذه الأرض ملك لصاحبها، وإن طال الزمان على خرابها، حتى إنه يجوز له بيعها وهبتها وإجارتها وتورث عنه إذا مات .... هذا إذا عرف صاحبها، فإن لم يعرف، فحكمها حكم اللقطة.
وأما الكلأ (1) الذي ينبت في أرض مملوكة فهو مباح للناس غير مملوك لأحد، إلا إذا قطعه صاحب الأ رض، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» (2) فإذا قطع الكلأ صاحب الأرض وأحرزه صار مملوكاً له؛ لأنه استولى على مال مباح غير مملوك فيملكه كالماء المحرز في الأواني
_________
(1) الكلأ: الحشيش أو العشب الذي ينبت في الأرض من غير صنع أحد.
(2) رواه أحمد وأبو داود عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم بلفظ «المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلأ والنار» وبلفظ «الناس شركاء .. » ورواه ابن ماجه عن ابن عباس، وزاد «وثمنه حرام» ورواه الطبراني في معجمه عن ابن عمر، ورواه غيرهم (راجع تحقيق وتخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 430/ 3 ومابعدها، نصب الراية: 294/ 4، سبل السلام: 86/ 3).

(6/4607)


والظروف وسائر المباحات، قال صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له» (1).
والمروج غير المملوكة، والآجام (2) غير المملوكة، والسمك وسائر المباحات كالطير، تعتبر في حكم الكلأ.
وأما الحطب والقصب في الأجمة المملوكة: فليس لأحد أن يقطعها إلا بإذن المالك؛ لأن ذلك مملوك لصاحب الأجمة ينبت على ملكه، وإن لم يوجد منه الإنبات أصلاً؛ لأن ملك القصب والحطب مقصود من ملك الأجمة، فيملك بملكها، بخلاف الكلأ، فإنه غير مقصود، وإنما المقصود زراعة الأرض (3).
وإذا كان الكلأ مستنبتاً في أرض مملوكة، بفعل صاحبها وسقيه، كان ملكاً خاصاً له.

3 ً - حكم الأرض الموات: الأرض الموات كما عرفنا نوعان: أحدهما: ما كان من مرافق أهل بلدة تستعمل مرعى للمواشي ومحتطباً لهم أو مقبرة لموتاهم أو ملعباً لصغارهم، سواء أكانت داخل البلدة أم خارجها، فيكون حقاً لهم لا مواتاً، فلا يجوز للإمام أن يقطعه لأحد، لما يترتب عليه من الإضرار بأهل البلدة، ولكن ينتفع بالحطب والقصب الذي في هذه الأرض من قبل أهل البلدة وغيرهم، وليس لهم أن يمنعوها عن غيرهم؛ لأنها ليست مملوكة لهم.
والحد الفاصل فيما يعتبر قريباً من البلدة: هو المكان الذي يسمع فيه الرجل
_________
(1) رواه أبو داود عن سمرة بن مضرِّس، وصححه الضياء في المختارة، وقال البغوي: لا أعلم بها الإسناد غير هذا الحديث (نيل الأوطار: 302/ 5 ومابعدها).
(2) الأجمة بالتحريك: الشجر الكثير الملتف جمع ْجم، وأجم، وأجمات، وجمع الجمع آجام.
(3) البدائع: 192/ 6 ومابعدها.

(6/4608)


صوت الشخص الذي يناديه من آخر أرض مملوكة، فإذا لم يسمع الصوت، فهو موات لا يتبع تلك البلدة. ومثل أرض القرية: أرض الملح والقار (1) والنفط ونحوها مما لا يستغني عنه المسلمون، فهي لا تعد أرض موات، فلا يجوز إقطاعها لأحد، وإنما تكون حقاً لجماعة المسلمين.
والثاني: ما لا يكون تبعاً لقرية من القرى أو مدينة وهو الموات في اصطلاح الفقهاء.
والموات: هو ما لا يملكه أحد ولا ينتفع به من الأراضي لانقطاع الماء عنه أو لغلبة الماء عليه وما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة: بأن غلبت عليه الرمال مثلاً، ولا يكون مملوكاً لمسلم أو ذمي، وأن يكون في رأي أبي يوسف بعيداً عن القرية بحيث إذا وقف إنسان في طرف الدور، فصاح، لا يسمع الصوت من كان فيه.
إلا أن هذا الشرط الأخير لا يعتبر في ظاهر الرواية، وإنما يكفي عدم ارتفاق أهل القرية به، وإن كان قريباً منهم وهو المفتى به عند الحنفية. فإذا كانت الأرض مملوكة لأحد لم تكن مواتاً، وإذا لم يعرف مالكها فهي لقطة يتصرف بها الإمام.
وإحياء الأرض. معناه إصلاحها ببناء أو غرس أو سقي أو تفجير ماء أو حرث بحيث تصبح الأرض منتفعاً بها (2).
أما لو وضع حول الأرض أحجاراً أو تراباً أو حاطها بحائط صغير، وجعل ذلك حداً، فإنه لا يملكها؛ لأن هذا ليس
_________
(1) القار: مادة سوداء تطلى بها السفن، وقيل: هو الزفت.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 194، تكملة فتح القدير: 8 ص 136 ومابعدها، الدر المختار: 5 ص 306.

(6/4609)


بإحياء للأرض، وإنما يصير متحجراً، ويكون أحق بها من غيره باتفاق الأئمة (1)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به». وقوله عليه الصلاة والسلام أيضاً «منى مُناخٌ لمن سبق» (2).
ومن حجر أرضاً ولم يعمرها ثلاث سنين أخذها الإمام ودفعها إلى غيره؛ لأن التحجير كما قلنا ليس بإحياء، وإنما هو إعلام بوضع الأحجار حول الأرض. وإعطاء المحتجر الحق في ترك الأرض له مدة ثلاث سنين مأخوذ من قول عمر رضي الله عنه: «ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق» (3)، ولأن هذه المدة يحتاج إليها لتهيئة الأمور والاستعداد لإتمام الأحياء.

هل يحتاج إحياء الموات إلى إذن الحاكم؟: اختلف العلماء في ذلك، فقال أبو حنيفة والمالكية (4): يحتاج إحياء الموات إلى إذن الإمام أو نائبه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه» (5) فإذا لم يأذن لم تطب نفسه به، فلا يتملكه.
_________
(1) تكملة فتح القدير: ص 138، البدائع: ص 195، الدر المختار: ص 307، المراجع السابقة، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 70، مغني المحتاج: 2 ص 366، المغني: 5 ص 518، 538، المهذب: 1ص 425.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن: أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي عن السيدة عائشة رضي الله عنها، قال الترمذي: حديث حسن. والمناخ: مبرك الإبل، ومحل الإقامة (راجع تحقيق وتخريج أحاديث تحفة الفقهاء للمؤلف مع الأستاذ المنتصر الكتاني: 3 ص 442، نيل الأوطار: 8 ص 22).
(3) رواه أبو يوسف في كتاب الخراج عن سعيد بن المسيب (راجع نصب الراية: 4 ص 290، الخراج لأبي يوسف: ص 65).
(4) البدائع: 6 ص 194، تكملة فتح القدير: 8 ص 136، الدر المختار: 5 ص 309، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 69.
(5) رواه الطبراني من حديث معاذ بن جبل، وفيه ضعف (نصب الراية: 3 ص 430، 4 ص 290).

(6/4610)


وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة (1): يجوز تملك الأرض بالإحياء، وإن لم يأذن الإمام فيه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق» (2) فهذا الحديث أثبت الملك للمحيي من غير اشتراط إذن الإمام، ولأن إحياء الأرض مباح استولى عليه المحيي، فيملكه بدون إذن الإمام، كما لو أخذ إنسان صيداً أو حشَّ كلأ.

هل للبئر أو النهر في أرض الموات حريم (3)؟ إذا حفر الرجل بئراً في برية أو حفر نهراً في أرض موات، فيعتبر الحفر إحياء للأرض، ولكن هل للبئر أو للنهر حريم؟
اتفق الفقهاء على أن للبئر والنهر حريماً لا يجوز للآخرين التعدي عليه بإحياء الأرض مثلاً فيه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام جعل للبئر حريماً كما سيبين، إلا أنهم اختلفوا في مقدار حريم البئر. واتفق الحنفية على أن حريم العين خمس مئة ذراع من كل جانب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «العين خمس مئة ذراع، وحريم بئر العطن أربعون ذراعاً» (4).
وأما حريم البئر والنهر ففيه خلاف: قال الحنفية: حريم بئر العطَن (5):
_________
(1) مراجع الحنفية السابقة، مغني المحتاج: 2 ص 361، المغني: 5 ص 513 وما بعدها.
(2) روي عن ثمانية: وهم عائشة وسعيد بن زيد، وجابر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وفضالة بن عبيد، ومروان بن الحكم، وعمرو بن عوف، وابن عباس، وحديث عائشة رواه البخاري وغيره (راجع نصب الراية: 4 ص 288، سبل السلام: 3 ص 83) قال هشام بن عروة في تفسير: «وليس لعرق ظالم حق»: الظالم: أن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره، فيغرس فيها.
(3) الحريم: الموضع المجاور حول النهر أو البئر الذي تجب حمايته.
(4) قال الزيلعي عن هذا الحديث: غريب. ثم بين أول الحديث من زيادة الزهري (راجع نصب الراية: 4ص 292).
(5) بئر العطن بتحريك العين والطاء: هي التي ينزح منها الماء باليد. والعطن: موطن الإبل ومبركها، أو مناخها حول الماء.

(6/4611)


أربعون ذراعاً لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حفر بئراً فله مما حولها أربعون ذراعاً عطناً (1) لماشيته (2)».

وأما حريم بئر الناضح (3): فعند أبي حنيفة: أربعون ذراعاً، عملاً بإطلاق الحديث السابق، ولأن حاجة الناضح تتحقق بأربعين ذراعاً من كل جانب كحاجة بئر العطن.
وعند الصاحبين: حريم بئر الناضح ستون ذر اعاً عملاً بالحديث السابق: «حريم العين خمس مئة ذراع، وحريم بئر العطن أربعون ذراعاً، وحريم بئر الناضح ستون ذراعاً» ولأنه قد يحتاج لهذه المسافة لتسيير الدابة للاستقاء.

وأما حريم النهر: فاختلف في تقديره أبو يوسف ومحمد. وقال أبو يوسف، ورأيه هو المفتى به: يقدر بنصف أرض النهر من كل جانب. وقال محمد: يقدر بقدر عرض النهر من كل جانب (4).
وفائدة تملك الحريم: هي أن من أراد أن يحفر فيه بئراً أو ينتفع به بشيء، فإنه يمنع منه، ولمالك الحريم ردم البئر التي تحفر، أو تضمين الحافر النقصان، ثم يردمه بنفسه.
_________
(1) أي مبركاً للماشية.
(2) رواه ابن ماجه والطبراني عن عبد الله بن مغفل. قال ابن حجر: وإسناده ضعيف، لأن فيه إسماعيل ابن أسلم، ورواه أيضاً أحمد في مسنده عن أبي هريرة بلفظ: «حريم البئر أربعون ذراعاً من جوانبها كلها لأعطان الإبل، والغنم، وابن السبيل أو الشارب، ولا يمنع فضل ماء، ليمنع به الكلأ» (نصب الرابة: 4 ص 291 وما بعدها، سبل السلام: 3 ص 85).
(3) بئر الناضح: هي التي ينزح منها الماء بالبعير. والناضح: البعير.
(4) البدائع: 6 ص 195، تكملة فتح القدير: 8 ص 139 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار عليه: 5 ص 308 وما بعدها.

(6/4612)


وقال المالكية: إن ما يضر بالماء حريم لكل بئر، ويزاد عليه بالنسبة لبئر الماشية والشِّرب: ما لا يضايق الوارد الذي يشرب من هذه البئر (1).
وقال الشافعية: حريم البئر المحفورة في أرض الموات: هو بقدر ما يقف فيه النازح منها على رأس البئر ليستقي إن كانت البئر للشرب، وقدر ما يمر فيه الثيران إن كانت للسقي.
وحريم النهر عند الشافعية: هو ملقى الطين وما يخرج منه من الرواسب، ويرجع فيه إلى أهل العرف في الموضع (2). واستدلوا بالحديث السابق: «من حفر بئراً فله مما حولها أربعون ذراعاً .. » وبحديث مرسل عن سعيد بن المسيب: «حريم البئر البديء ـ أي المستحدث ـ خمسة وعشرون ذراعاً، وحريم البئر العادية ـ أي القديمة ـ خمسون ذراعاً، وحريم بئر الزرع ثلاث مئة ذراع» (3).

وقال الحنابلة: حريم البئر المستحدث خمسة وعشرون ذراعاً حواليها، وحريم البئر القديم خمسون ذراعاً، بدليل حديث ابن المسيب السابق (4). وسيأتي في بحث إحياء الموات تفصيل الكلام في الحريم.
_________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 4 ص 67.
(2) المهذب: 1 ص 424، مغني المحتاج: 2 ص 363.
(3) رواه أبو داود في مراسيله عن الزهري عن سعيد بن المسيب. وأخرجه الدارقطني والخلال بإسنادهما عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وفيه ابن أبي جعفر ضعيف وهو عند أحمد عن أبي هريرة (نصب الراية: 4 ص 292 ومابعدها، تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 3 ص 439).
(4) المغني: 5 ص 540.

(6/4613)