الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّاني: إحياء الموَات (استصلاح
الأراضي والبناء فيها) خطة البحث:
الكلام في هذا الموضوع يشمل ما يأتي:
المبحث الأول ـ تعريف إحياء الموات ومشروعيته والترغيب فيه.
المبحث الثاني ـ ما يقبل الإحياء من الموات.
المبحث الثالث ـ كيفية الإحياء وطرقه ـ التحجير.
المبحث الرابع ـ شروطه.
المبحث الخامس ـ أحكامه ـ تملك الأرض ومقدار ما يملك (الحريم).
المبحث الأول ـ تعريف إحياء الموات ومشروعيته
والترغيب فيه شرعا ً:
تعريف إحياء الموات: الإحياء لغة: جعل
الشيء حياً، أي ذا قوة حساسة أو نامية. والموات: ما لا روح فيه، أو الأرض
التي لا مالك لها، أو الأرض الخراب الدارسة غير العامرة، وبإيجاز: هو الأرض
التي لم تعمر، والمراد بإحياء الموات:
(6/4614)
التسبب للحياة النامية، شبهت العمارة
بالحياة، وتعطيلها بعدم الحياة، وإحياؤها: عمارتها.
وشرعاً: الإحياء: إصلاح الأرض الموات بالبناء أو الغرس أو الكِرَاب (1)، أو
غير ذلك. والموات: الأرض التي لا عمارة ولا ماء فيها، ولا يملكها ولا ينتفع
بها أحد (2). أو هو عند الحنفية الأرض التي تعذر زرعها لانقطاع الماء عنها،
أو لغلبته عليها، غير مملوكة، بعيدة من العامر. أو هو ما سلم عن اختصاص
بإحياء أي بسبب إحياء (3).
وحد الموات عند الشافعية: ما لم يكن عامراً، ولا حريماً لعامر، قرب من
العامر أو بعد (4).
ومضمون التعاريف: هو أن إحياء الموات في الغالب: يعني استصلاح الأراضي
الزراعية أو جعلها صالحة للزراعة، برفع عوائق الزراعة من أحجار وأعشاب
منها، واستخراج الماء، وتوفير التربة الصالحة للزراعة، وإقامة الأسوار
عليها أو تشييد البناء فيها.
والإحياء ورد عن الشارع مطلقاً، وما كان كذلك وجب الرجوع فيه إلى العرف؛
لأنه قد يبين مطلقات الشارع، والذي يحصل به الإحياء في العرف أحد خمسة
أسباب: تبييض الأرض، وتنقيتها للزرع، وبناء الحائط على الأرض، وحفر الخندق
القعير الذي لا يطلع من نزله إلا بمطلع، واستخراج الماء (5).
_________
(1) كرب الأرض: قلبها للحرث.
(2) القوانين الفقهية: ص 339، الشرح الكبير: 66/ 4، مغني المحتاج: 361/ 2،
كشاف القناع: 205/ 4.
(3) الكنز للنسفي مع تبيين الحقائق: 34/ 6، اللباب مع الكتاب: 218/ 1 وما
بعدها.
(4) مغني المحتاج: المكان السابق.
(5) سبل السلام: 82/ 3.
(6/4615)
مشروعيته:
ثبتت شرعية إحياء الموات بالسنة النبوية في أحاديث كثيرة منها:
«من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (1)، «من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق
ظالم حق» (2) «من عمر أرضاً ليست لأحد، فهو أحق بها» (3) «من سبق إلى ما لم
يسبق إليه مسلم فهو له، قال: فخرج الناس يتعادَوْن يتخاطُون» (4).
دلت هذه الأحاديث على إباحة إحياء الأرض الميتة التي لا مالك لها، ولم
ينتفع بها أحد، فيحييها الشخص بالسقي، أو الزرع أو الغرس، أو البناء، أو
بالتحويط على الأرض بمقدار ما يسمى حائطاً في اللغة. قال عروة: قضى عمر بن
الخطاب رضي الله عنه في خلافته وعامة فقهاء الأمصار على أن الموات يملك
بالإحياء، وإن اختلفوا في شروطه.
وتدل الأحاديث أيضاً على أن الشرع رغب في الإحىاء، لحاجة الناس إلى موارد
الزراعة، وتعمير الكون، مما يحقق لهم رفاهاً اقتصادياً، ويوفر ثروة عامة
كبرى.
_________
(1) رواه أحمد والترمذي وصححه عن جابر بن عبد الله، قال الترمذي: هذا حديث
حسن صحيح. وقد رواه ثمانية من الصحابة.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن.
(3) رواه مالك في موطئه، وأحمد والبخاري وأبو داود عن عائشة. قال ابن عبد
البر: وهو مسند صحيح متلقى بالقبول عند فقهاء المدينة وغيرهم. وروى عبيد في
الأموال عن عائشة: «من أحيا أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها».
(4) رواه أبو داود عن سمرة بن مضرِّس. ومعنى يتعادون يتخاطون: المعاداة:
الإسراع بالسير، ويتخاطون: يعملون على الأرض علامات بالخطوط، وهي تسمى
الخطط، جمع خطة بكسر الخاء (راجع الأحاديث كلها في نيل الأوطاو: 302/ 5،
نصب الراية: 288/ 4 وما بعدها).
(6/4616)
المبحث الثاني ـ
الموات القابل للإحياء:
لا تصلح كل أرض للإحياء، وإنما منها ما يقبل الإحياء، ومنها ما لا يقبل.
وقد اتفق الفقهاء على أن الأرض التي لم يملكها أحد، ولم يوجد فيها أثر
عمارة وانتفاع، تملك بالإحياء.
كما اتفقوا على أن الأراضي التي لها مالك معروف بشراء أو عطية، لم ينقطع
ملكه، لا يجوز إحياؤها لأحد، غير أصحابها.
واختلفوا في أنواع أخرى من الأرض (1):
النوع الأول: ما ملك بالإحياء، ثم ترك حتى دثر (درس) وعاد مواتاً:
قال الشافعية والحنابلة (2): لا يملك بالإحياء؛ لأن الأحاديث التي أجازت
الإحياء مقيدة بغير المملوك: «من أحيا أرضاً ميتة ليست لأحد» «ليس لعرق
ظالم حق»، ولأن سائر الأموال لا يزول الملك عنها بالترك.
وقال أبو يوسف من الحنفية (3). يملك بالإحياء، ما لا يعرف له مالك بعينه
إذا كان بعيداً من القرية، بحيث إذا وقف إنسان جهوري الصوت في أقصى العمران
من دور القرية، فصاح بأعلى صوته، لم يسمع الصوت فيه. وعند محمد: إن ملكت في
الإسلام لا تكون مواتاً، وإذا لم يعرف مالكها تكون لجماعة المسلمين. وظاهر
الرواية المفتى به: عدم ارتفاق البلدة به كما سيذكر.
وقال المالكية (4): يملك بالإحياء ما اندرس من عمارة الأرض، لعموم
_________
(1) المغني: 513/ 5 ومابعدها، كشاف القناع: 206/ 4.
(2) مغني المحتاج: 362/ 2، المهذب: 423/ 1، المغني: 514/ 5، كشاف القناع:
206/ 4.
(3) الكتاب مع اللباب: 219/ 2، تبيين الحقائق: 35/ 6، الدر المختار: 307/
5.
(4) الشرح الكبير: 66/ 4، 68، الشرح الصغير: 87/ 4.
(6/4617)
الحديث: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»، ولأن
أصل هذه الأرض مباح، فإذا تركت حتى تصير مواتاً، عادت إلى الإباحة.
النوع الثاني: ما يوجد فيه آثار ملك قديم من الجاهلية كآثار الروم ومساكن
ثمود ونحوها يملك بالإحياء في المذاهب الأربعة (1)، وهو الأظهر عند
الشافعية، إذ لا حرمة لملك الجاهلية، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «عادِيّ
الأرض لله ولرسوله ثم هو بعد لكم» (2) أي قديم الخراب بحيث لم يملك في
الإسلام.
والرأي الثاني للشافعي: أنه لا يملك بالإحياء، لأنه ليس بموات.
النوع الثالث: ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معين، أي لم
يعرف مالكه: يملك بالإحياء عند الحنفية والمالكية، وفي رواية عن أحمد،
لعموم الأخبار الواردة في مشروعية الإحياء، ولأنه أرض موات لا حق فيها لقوم
بأعيانهم، فأشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك.
وقال الشافعية: هو مال ضائع، أمره إلى الإمام الحاكم في حفظه إلى ظهور
مالكه، أو بيعه وحفظ ثمنه واستقراضه على بيت المال، أي لا يملك بالإحياء.
والصحيح عند الحنابلة: أنه لا يملك بالإحياء، فلا أثر لإحيائه ويكون فيئاً
بمنزلة ما جلا عنه الأعداء خوفاً منا، أي يوزع في سبيل المصالح العامة (3).
والخلاصة: إن الشافعية والحنابلة متفقون على أنه لا يملك بالإحياء،
والحنفية والمالكية يقولون بجواز إحيائه.
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) رواه عن طاوس سعيد بن منصور في سننه وأبو عبيد في الأموال (المغني،
المكان السابق).
(3) المراجع السابقة.
(6/4618)
توضيح آراء
المذاهب في الموات القابل للإحياء:
يحسن بيان رأي كل مذهب على حدة فيما يقبل الإحياء.
1 - مذهب الحنفية (1): الأرض الموات: هي
أرض خارج البلد، لم تكن ملكاً لأحد، ولا حقاً له خاصاً. ففي داخل البلد لا
يكون موات أصلاً، وكذا ما كان خارج البلدة من مرافقها، محتطباً لأهلها، أو
مرعى لهم. فلا يجوز إحياء ماقرب من العامر؛ لأنه من مرافقه التابعة له
ويترك مرعى لأهل القرية، ومطرحاً لحصائدهم، لتحقق حاجتهم إليها، فلا يكون
مواتاً كالطريق والنهر.
فالمهم في الأرض غير المملوكة: عدم الارتفاق من أهل البلد، سواء قربت من
العامر أم بعدت. وهذا هو ظاهر الرواية وهو قول الأئمة الثلاثة، وهو المفتى
به عند الحنفية.
2 - مذهب المالكية (2): موات الأرض: ما
سلم عن اختصاص بإحياء (أي بسبب إحياء لها بشيء) أو بسبب كونه حريم عمارة
كمحتطب أو مرعى لبلد. فإذا اندرست عمارتها من بناء أو غرس أو تفجير ماء
ونحوها، لا يزول ملكها عمن أحياها، إلا بإحياء جديد من غيره بعد اندراسها
بمدة طويلة يقدرها عرف الناس، فتصبح حينئذ ملكاً للمحيي الثاني.
وذلك سواء أكانت الأرض قريبة من العمران أم بعيدة من العمران، إلا أن
الأولى يفتقر إحياؤها إلى إذن الحاكم.
_________
(1) اللباب شرح الكتاب: 219/ 2 وما بعدها، البدائع: 194/ 6، تبيين الحقائق:
34/ 6، الدر المختار ورد المحتار: 307/ 5، تكملة الفتح: 136/ 8.
(2) الشرح الكبير: 66/ 4، الشرح الصغير: 87/ 4 ومابعدها، القوانين الفقهية:
ص 339.
(6/4619)
3 - مذهب الشافعية
(1): حد الموات: ما لم يكون عامراً، ولا حريماً لعامر قرب من العامر أو
بعد. أو هو الأرض التي لم تعمرّ قط في بلاد الإسلام. ولا يملك بالإحياء
حريم معمور: وهو ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع، مثل مرتكض الخيل ومناخ
الإبل ومطرح الرماد ونحوها.
4 - مذهب الحنابلة (2): الموات: هو
الأرض التي ليس لها مالك، ولا بها ماء، ولا عمارة، ولا ينتفع بها. أو هي
الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم: مسلم كان أو كافر. لكن لا يجوز
إحياء ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه من طرقه ومسيل مائه ومطرح قمامته
وملقى ترابه وآلاته، والمتعلق بمصالح القرية كفنائها ومرعى ماشيتها
ومحتطبها وطرقها ومسيل مائها، والحد الفاصل بين القريب والبعيد يتحدد
بالعرف.
والخلاصة: إن المذاهب متقاربة في أصلها ومختلفة في بعض الشروط والقيود.
المبحث الثالث ـ كيفية الإحياء وطرقه:
إحياء الأرض الموات: يكون باستصلاحها للزراعة بحسب عرف الناس وعاداتهم، كما
قرر الشافعية، لكن للمذاهب آراء في الموضوع.
قال الحنفية (3): إصلاح الأرض الموات
يكون بالبناء أو الغرس أو الكراب (قلبها للحرث)، أو إقامة المسنّاة (السد:
وهو ما يبنى ليرد ماء السيل، والمراد هنا
_________
(1) مغني المحتاج: 361/ 4، 363، المهذب: 423/ 1.
(2) كشاف القناع: 205/ 4، المغني: 513/ 5 ومابعدها، 516.
(3) تبيين الحقائق: 36/ 6، الهداية مع تكملة الفتح: 139/ 8، اللباب مع
الكتاب: 218/ 2.
(6/4620)
الجسر)، أو شق النهر، أو إلقاء البذور، أو
السقاية مع حفر الأنهار، أو التحويط والتسنيم بحيث يعصم الماء؛ لأنه من
جملة البناء.
وعن محمد: أن المحيي لو حفر النهر، ولم يسق الأرض أو فعل العكس، يكون فعله
تحجيراً لا إحياء.
وقال المالكية (1): الإحياء يكون
بالبناء والغرس والزراعة والحرث وإجراء المياه فيها وغيرها من أحد أمور
سبعة هي:
الأول: بتفجير ماء لبئر أو عين، فيملك به، وكذا تملك الأرض التي تزرع به.
والثاني: بإزالة الماء منها حيث كانت الأرض غامرة بالماء.
والثالث: ببناء أرض.
والرابع: بسبب غرس الشجر فيها.
والخامس: بسبب تحريك أرض بحرثها ونحوه (الحراثة).
والسادس: يكون بسبب قطع شجر بها بنية وضع يده عليها.
والسابع: بسب كسر حجرها مع تسوية الأرض.
وقال الشافعية (2): الإحياء الذي يملك
به: يختلف بحسب الغرض المقصود من الأرض، ويرجع فيه إلى العرف، والعرف يمثل
المصلحة عادة؛ لأن الشرع أطلقه، ولا حد له في اللغة، فيرجع فيه إلى العرف
كالقبض في المبيع والموهوب، والحرز في السرقة: وهو في كل شيء بحسبه،
والضابط: التهيئة للمقصود.
_________
(1) الشرح الصغير: 93/ 4، الشرح الكبير: 69/ 4 وما بعدها، القوانين
الفقهية: ص 339.
(2) مغني المحتاج: 365/ 4 وما بعدها، المهذب: 424/ 1.
(6/4621)
فإن أراد إحياء الموات مسكناً، اشترط فيه
تحويط البقعة بآجر أو لبن أو قصب بحسب عادة ذلك المكان. والمعتمد أنه لا
يكتفى بالتحويط من غير بناء، بل لا بد من البناء، ويشترط سقف بعض الأرض
ليتهيأ للسكنى، وتعليق (نصب) باب؛ لأن العادة في المنازل أن يكون لها
أبواب، ولا تصلح الأرض للسكنى بما دون ذلك (أي بالبناء والسقف وتركيب باب).
وإن أراد إحياء الموات زريبة دواب أو نحوها، كحظيرة لجمع ثماروغلات وغيرها،
فيكتفى بالتحويط بالبناء بحسب العادة، ولا يشترط سقف شيء؛ لأن العادة فيها
عدمه. ولا بد فيه من تركيب باب على الأرجح مع البناء أو التحويط بالبناء.
وإن أراد إحياء الموات مزرعة، فيطلب جمع التراب حولها، وتسوية الأرض،
وترتيب ماء لها بشق ساقية من نهر، أو بحفر بئر أو قناة أو نحوها، إن لم
يكفها المطر المعتاد. ولا تشترط الزراعة فعلاً في الأصح، لأنه استيفاء
منفعة الأرض، وهو خارج عن الإحياء، كما لا يعتبر في إحياء الدار سكناها.
والخلاصة: أنه بالتحويط وتسوية الأرض وإيجاد الماء.
وإن أراد إحياء الموات بستاناً، فيشترط جمع التراب حول الأر ض كالمزرعة،
والتحويط حيث جرت العادة به عملاً بها، وتهيئة ماء كما تقرر في المزرعة.
ويشترط أيضاً في البستان غرس البعض على المذهب. فهذا الإحياء يكون بالتحويط
وتسوية الأرض وإيجاد الماء والغرس.
وقال الحنابلة (1): إحياء الأرض: أن
يحوط عليها حائطاً منيعاً، سواء أرادها
_________
(1) المغني: 538/ 5، كشاف القناع: 212/ 4.
(6/4622)
للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو الخشب
أو غيرها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أحاط حائطاً على أرض، فهي له»
(1)، ولأن الحائط حاجز منيع، فكان إحياء.
وكالحائط: إجراء ماء للأرض من نهر أو بئر إن كانت لا تزرع إلا به، أو حفر
بئر فيها ينبع منها الماء، فإن لم يخرج الماء فهو كالمحتجر الشارع في
الإحياء.
ومثل الحائط: أن يغرس فيها شجراً، أو أن يمنع عن الموات ما لا يمكن زرعها
إلا بحبسه عنها كأرض البطائح (2).
وفي الجملة: الإحياء يكون إما بالتحويط المنيع أو إيجاد الماء أو غرس
الشجر.
ولا يحصل الإحياء بمجرد الحرث والزرع؛ لأنه لا يراد للبقاء بخلاف الغرس،
كما لا يحصل الإحياء أيضاً بخندق يجعله حول الأرض التي يريد إحياءها ولا
بشوك وشبهه يحوطها به، ويكون تحجراً.
هل يحصل الإحياء بالتحجير؟ التحجير أو
التحويط: هو الإعلام بوضع الأحجار حول الأرض، أي وضع سور من الأحجار
والأشواك ونحوها على جوانب الأرض، وقد اتفق الفقهاء على عدم صلاحيته
للإحياء، لكن المتحجر يكون أحق بها من غيره.
قال الحنفية (3): إن حجر شخص الأرض، لا يملكها بالتحجير؟ لأنه ليس بإحياء
في الصحيح؛ لأن الإحياء جعلها صالحة للزراعة، والتحجير للإعلام مشتق
_________
(1) رواه أحمد وأبو داود عن جابر، ولهما مثله عن سمرة بن جندب.
(2) البطحاء والأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى.
(3) تبيين الحقائق: 35/ 6، تكملة الفتح: 138/ 8، الدر المختار: 307/ 5.
(6/4623)
من الحجر: وهو المنع للغير بوضع علامة من
حجر، أو بحصاد ما فيها من الحشيش والشوك ونفيه عنها وجعله حولها، أو بإحراق
ما فيها من الشوك وغيره، وكل ذلك لا يفيد الملك، فبقيت مباحة على حالها.
لكن المتحجر أولى بها من غيره، ولا تؤخذ منه إلى ثلاث سنين، فإذا لم يعمرها
فيها، أخذها الحاكم منه، ودفعها إلى غيرها. والتقدير بثلاث سنين مأخوذ من
قول عمر رضي الله عنه: «ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق» (1) لكن هذا حكم
ديانة، أما قضاء: فإذا أحياها غيره قبل مضيها، ملكها لتحقق سبب الملك منه،
دون الأول أي المتحجر.
وقال المالكية (2): لا يكون الإحياء بتحويط (تحجير) للأرض بنحو خط عليها،
ولا رعي كلأ بها، ولا حفر بئر ماشية أو شرب بها، إلا أن يبين الملكية حين
حفر البئر، فإن بينها فإحياء.
وقرر الشافعية والحنابلة (3) أنه: إن تحجر مواتاً، وهو أن يشرع في إحيائه،
ولم يتمه، أو أعلم على بقعة بنصب أحجار، أو غرز خشباً فيها، أو نصب أسلاكاً
شائكة، أو حاطها بحائط صغير لم يملكها بما ذكر؛ لأن الملك بالإحياء، وليس
هذا إحياء.
لكن يصير أحق الناس به لحديث أبي داود: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم،
فهو أحق به».
_________
(1) رواه أبو يوسف في كتاب الخراج عن سعيد بن المسيب بلفظ: «من أحيا أرضاً
ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين» لكن في سنده الحسن بن عمارة
ضعيف، وسعيد عن عمر فيه كلام (نصب الراية: 290/ 4).
(2) الشرح الكبير: 70/ 4، الشرح الصغير: 93/ 4.
(3) مغني المحتاج: 366/ 4، المهذب: 425/ 1، المغني: 518/ 5، 543 وما بعدها،
كشاف القناع: 214/ 4.
(6/4624)
فلو أحياه آخر ملكه. فإن لم يتم إحياء
المتحجر، وطالت المدة عرفاً، كنحو ثلاث سنين، قيل له: إما أن تحييه فتملكه،
أو تتركه لمن يحييه، إن حصل متشوف للإحياء؛ لأنه ضيق على الناس في حق مشترك
بينهم، فلم يمكّن من الإحياء، فإن طلب المتحجر المهلة لعذر، أمهل شهرين أو
ثلاثة أو أقل، على ما يراه الحاكم لأنه يسير. وإن لم يكن له عذر، فلا يمهل،
فهم تقريباً كالحنفية.
المبحث الرابع ـ شروط الإحياء:
هناك شروط في المحيي، والأرض المحياة، وإجراء الإحياء.
المطلب الأول ـ شروط المحيي:
المحيي: هو الذي يباشر الإحياء الذي هو من أسباب الاختصاص أو التملك، ويجوز
إحياء كل من يملك المال؛ لأنه فعل بملك به كالاصطياد.
ولا يشترط عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (1) كون المحيي
مسلماً، فلا فرق بين المسلم والذمي في الإحياء، لعموم قول النبي صلّى الله
عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة، فهي له»، ولأن الإحياء أحد أسباب التمليك،
فاشترك فيه المسلم والذمي، كسائر أسباب الملكية.
واشترط الشافعية (2) في المحيي أن يكون مسلماً، ولا يملك الذمي إحياء الأرض
الموات، وإن أذن له فيه الإمام؛ لأن الإحياء استعلاء، وهو ممتنع عليهم بدار
الإسلام. فلو أحيا ذمي أرضاً، نزعت منه ولا أجرة عليه، فلو نزعها منه مسلم
وأحياها، ملكها، وإن لم يأذن له الإمام، إذ لا أثر لفعل الذمي.
_________
(1) الهداية مع تكملة الفتح: 138/ 8، الشرح الكبير: 69/ 4، المغني: 517/ 5.
(2) مغني المحتاج: 361/ 4 - 362، المهذب: 423/ 1 وما بعدها.
(6/4625)
المطلب الثاني ـ
شروط الأرض المحياة:
يشترط في الأرض المحياة شروط تتعلق بملكيتها والارتفاق بها ومكانها، وهي ما
يأتي:
1 - ألا تكون ملكاً لأحد، مسلم أو ذمي، وليست من اختصاص أحد. وهذا معنى قول
الفقهاء: أن تكون الأرض عادياً (أي قديم الخراب بحيث لم يملك في الإسلام،
لا مالك لها في الإسلام، فكأنها خربت من عهد عاد). وهذا الشرط متفق عليه
فقهاً (1).
2 - ألا تكون مرتفقاً بها أي مستعمله ارتفاقاً لأهل البلدة، قريباً أو
بعيداً، كمحتطب ومرعى، وناد (مجلس يجتمعون فيه للتحدث)، ومرتكض خيل، ومُناخ
إبل، ومطرح رماد، وحريم بئر، وشوارع وطرقات، ونحوها. وهو شرط متفق عليه
أيضاً بين المذاهب في الأرجح عند بعضها كالحنفية (2).
3 - أن تكون الأرض عند الشافعية في بلاد الإسلام: فإن كانت في دار الحرب
فللمسلم إحياؤها إن كانت مما لا يمنعها أهلها عن المسلمين، فإذا منعوها أو
دفعوا المسلمين عنها، فلا يملكها المسلم بالاستيلاء (3).
ولا فرق عند الجمهور غير الشافعية بين دار الحرب ودار الإسلام لعموم
الأخيار، ولأن عامر دار الحرب إنما يملك بالقهر والغلبة كسائر أموالهم (4).
_________
(1) الدر المختار: 306/ 5، اللباب شرح الكتاب: 219/ 2، الشرح الكبير: 66/
4، مغني المحتاج: 361/ 4، المهذب: 423/ 1، كشاف القناع: 205/ 4.
(2) الهداية مع التكملة: 136/ 8، البدائع: 194/ 6، الدر المختار: 306/ 5
ومابعدها، اللباب: المكان السابق، الشرح الكبير: 67/ 4، مغني المحتاج: 363/
4، المغني: 516/ 5، 525، كشاف القناع: 208/ 4.
(3) مغني المحتاج: 362/ 4.
(4) المغني: 515/ 5، المراجع السابقة.
(6/4626)
المطلب الثالث ـ
شروط الإحياء الذي يثبت به الملك:
يشترط في الإحياء الذي يثبت به الملك شرطان في بعض الآراء:
1 - أن يكون الإحياء عند أبي حنيفة (1) بإذن الحاكم، لحديث: «ليس للمرء إلا
ما طابت به نفس إمامه» (2)، فإذا لم يأذن لم تطب نفسه به، ولأن هذه الأراضي
كانت في أيدي الكفرة، ثم صارت في أيدي المسلمين، فهي فيء، والإمام هو
المختص بتوزيع الفيء، كالغنائم، ومثل إعطاء السَّلَب للقاتل في قوله عليه
الصلاة والسلام: «من قتل قتيلاً فله سَلَبه» (3) فهذا تصرف من الرسول صلّى
الله عليه وسلم بطريق الإمامة والسياسة، لا بطريق الشرع والنبوة.
وقال المالكية (4): إذا كانت الأرض قريبة من العمران، افتقر إحياؤها إلى
إذن الإمام، بخلاف البعيدة من العمران، وأن يكون فيها الإذن لمسلم، فلا
يأذن الإمام لذمي على المشهور في إحياء الأرض القريبة من العمران، ولا يجوز
للذمي إحياء الأرض في جزيرة العرب: مكة والمدينة وما والاها.
وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة (5): من أحيا أرضاً مواتاً، تملكها، وإن
لم يأذن له فيها الإمام، اكتفاء بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من
أحيا أرضاً ميتة فهي له» الصادر بطريق الشرع والنبوة، ولأنه مال مباح
كالاحتطاب والاصطياد، سبقت
_________
(1) البدائع: 194/ 6 ومابعدها، الهداية مع التكملة: 136/ 8، تبيين الحقائق:
35/ 6، الدر المختار: 307/ 5، الخراج لأبي يوسف: ص 64.
(2) رواه الطبراني، وفيه ضعف من حديث معاذ (نصب الراية: 430/ 3، 290/ 4).
(3) أخرجه الجماعة إلا النسائي عن أبي قتادة الأنصاري (نصب الراية: 428/
3). والسلب: ما يكون مع القتيل من سلاح وآلات وثياب ونقود وخيل ونحوها.
(4) القوانين الفقهية: ص 339، الشرح الصغير: 94/ 4.
(5) مغني المحتاج: 361/ 4، تكملة فتح القدير، المكان السابق، المهذب: 423/
1، المحرر في الفقه الحنبلي: 367/ 1، المغني: 543/ 5، كشاف القناع: 206/ 4.
(6/4627)
إليه يد المحيي، فيملكه. ويؤيده حديث
البخاري عن عائشة: «من عَمَر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها» فظاهره أنه لا
يشترط إذن الإمام.
لكن يستحب استئذانه. خروجاً من الخلاف.
2 - يشترط عند الحنفية في حالة التحجير: أن يتم الإحياء خلال مدة أقصاها
ثلاث سنين. فإذا لم يعمرها فيها أخذها الحاكم منه، ودفعها إلى غيره؛ لأن
البدء أو الشروع في استصلاحها يتطلب تعميرها، فيحصل النفع للمسلمين بدفع
العشر أو الخراج، فإذا لم يحصل المقصود، فلا فائدة في
تركها في يده (1).
والتقدير بثلاث سنين مأخوذ ـ كما عرفنا ـ من قول عمررضي الله عنه: «ليس
لمتحجر بعد ثلاث سنين حق» (2). وهذه مدة معقولة لاستصلاح الأراضي وتدبير
مصالحها. لكن هذا الحكم من طريق الديانة، أما من طريق القضاء، فلو أحياها
غيره قبل مضي تلك المدة، ملكها لتحقق سبب الملك منه، دون الأول.
ومذهب الشافعية والحنابلة كالحنفية تقريباً.
المبحث الخامس ـ أحكام إحياء الموات:
يترتب على إحياء الأرض تملكها، وفرض ضريبة العشر أو الخراج عليها، وعدم
تملك حريم المعمور، وتملك حريم الموات.
_________
(1) تبيين الحقائق: 35/ 6.
(2) عرفنا أن في سنده ضعفاً. وروى حميد بن زنجويه النسائي في كتاب الأموال
عن عمرو بن شعيب أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطع ناساً من جهينة أرضاً،
فعطلوها وتركوها، فأخذها قوم آخرون، فأحيوها، فخاصم فيها الأولون إلى عمر
بن الخطاب، فقال: لو كانت مني أو من أبي بكر لم أرددها، ولكنها من رسول
الله صلّى الله عليه وسلم، وقال: من كانت له أرض، فعطلها ثلاث سنين، لا
يعمرها، فعمرها غيره، فهو أحق بها (نصب الراية: 290/ 4).
(6/4628)
المطلب الأول ـ تملك
الأرض المحياة:
هل يثبت بإحياء الموات ملك الاستغلال (حق الانتفاع)، أو ملك الرقبة (ذات
الأرض) ملكية مطلقة تشمل حق التصرف والاستعمال والاستغلال؟
قال الفقيه أبو القاسم أحمد البلخي رحمه الله: إن الذي يثبت بإحياء الموات
هو حق الاستغلال لا حق الملكية، قياساً على من جلس في موضع مباح، فإن له
الانتفاع، فإذا قام عنه، وأعرض، بطل حقه (1).
وقال عامة الفقهاء: الثابت بالإحياء هو حق الملكية المطلقة، استدلالاً بنص
الحديث: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» فإنه أضاف الحق للمحيي بلام التمليك
في قوله «فهي له» وملكه لا يزول بالترك (2). وهذا هو الحق العيني للمحيي.
وبناء عليه نص الحنفية: أنه لو ترك المحيي الأرض بعد الإحياء، وزرعها غيره،
فالأول أحق بها في الأصح (3).
المطلب الثاني ـ وظيفة الأرض المحياة:
الحق الثاني في الأرض المحياة هو للدولة، لكن هل الواجب المفروض على تلك
الأرض أو الوظيفة: هو العشر أو الخراج؟
قال أبو يوسف: إن أحياها مسلم، فإن كانت تلك الأرض من الأراضي العشرية
فالواجب فيها العشر، وإن كانت من حيّز الأراضي الخراجية فالواجب فيها
الخراج.
_________
(1) العناية بهامش تكملة فتح القدير: 137/ 8.
(2) المرجع السابق، تبيين الحقائق: 35/ 6، البدائع: 194/ 6، الشرح الصغير:
87/ 4، المهذب: 423/ 1 وما بعدها، مغني المحتاج: 361/ 4، المغني: 513/ 5،
كشاف القناع: 206/ 4.
(3) الدر المختار: 307/ 5، الهداية مع تكملة الفتح: 137/ 8، تبيين الحقائق:
35/ 6.
(6/4629)
وقال محمد: إن أحياها بماء العشر كماء
المطر أو الأنهار الكبيرة فهي عشرية، وإن أحياها بماء الخراج، كالماء
المأخوذ من نهر حفره غير المسلمين فهي خراجية. وهذا الرأي هو ما مشى عليه
صاحب الهداية.
والأراضي العشرية خمسة أنواع:
1 - أرض العرب.
2 - كل أرض أسلم أهلها عليها طوعاً.
3 - الأراضي التي فتحت عنوة وقهراً وقسمت بين الغانمين.
4 - المسلم إذا اتخذ داره بستاناً أو كرماً.
5 - المسلم إذا أحيا الأراضي الميتة بإذن الإمام وهي من توابع الأراضي
العشرية، أو تسقى بماء العشر، وهو ماء السماء وماء العيون المستنبط من
الأراضي العشرية.
والأراضي الخراجية:
1 - سواد العراق كلها، وكل أرض فتحت عنوة وقهر اً وتركت على أيدي أربابها،
ومنَّ عليهم الإمام، فإنه يضع الجزية على أعناقهم إذا لم يسلموا، والخراج
على أراضيهم إذا أسلموا أو لم يسلموا. وهذا عند الحنفية.
2 - وكذلك إذا جلاهم الإمام ونقل إليها آخرين.
3 - والمسلم أو الذمي إذا أحيا أرضاً ميتة، وهي تسقى بماء الخراج، والذمي
إذا اتخذ داره بستاناً (1).
_________
(1) تحفة الفقهاء: 492/ 1 - 495.
(6/4630)
وقال الحنابلة: لا خراج على من أحيا موات
الأرض المفتوحة عنوة، كأرض مصر والشام والعراق. أما إن أحياها ذمي فهي
خراجية مطلقاً بالاتفاق (1).
المطلب الثالث ـ القيد الوارد على ملكية المحيي
والملكية الإضافية ـ الحريم:
الحريم: هو ما تمس الحاجة إليه لتمام
الانتفاع بالمعمور، أو ما يحتاج إليه لمصلحة العامر من المرافق، كحريم
البئر، وفناء الدار، والطريق، ومسيل الماء ومرافق القرية مثل ناد (مجلس
الاجتماع) ومحتطب ومرعى ومرتكض الخيل ومناخ الإبل، ومطرح الرماد، ونحوها.
ولا يجوز باتفاق الفقهاء (2) إحياء حريم الأر اضي العامرة قبل الإحياء؛
لأنه تابع للعامر، فلا يملك؛ لأنّا لو جوزنا إحياءها أبطلنا الملك في
العامر على أهله.
ولا يجوز أيضاً بالإحياء تملك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد
الأسواق؛ لأن المذكور ليس من الموات، وإنما من جملة العامر، ولأنّا لو
جوزنا التملك ضيقنا على الناس في أملاكهم وطرقهم.
والخلاصة: أن كل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه.
ومن جهة أخرى للمحيي ملكية إضافية قررها الشارع: وهو حريم الأرض التي
أحياها، فله بالإحياء ما يحتاج إليه من المرافق كفناء الدار (الساحة أمام
الدار وما امتد من جوانبها) ومسيل وحريم البئر، وله أن يمنع غيره منه.
_________
(1) البدائع: 195/ 6، الهداية مع التكملة: 37/ 8، كشاف القناع: 207/ 4.
(2) البدائع: 195/ 6، تبيين الحقائق: 36/ 6، الشرح الكبير: 67/ 4، الشرح
الصغير: 88/ 4، مغني المحتاج: 363/ 4، المهذب: 423/ 1، المغني: 525/ 5،
كشاف القناع: 208/ 4.
(6/4631)
والكلام عن الحريم في أصل مشروعيته،
ومقداره.
مشروعية الحريم: الأصل في مشروعية
الحريم: أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل للبئر حريماً (1). وللعين حريم
بالإجماع، لأنه عليه الصلاة والسلام جعل لكل أرض حريماً (2).
مقدار الحريم: للفقهاء تقديرات متقاربة للحريم.
مذهب الحنفية (3):
1 ـ حريم العين الجارية: الأصح أن
حريمها خمس مئة ذراع من كل جانب والذراع ست قبضات، كل قبضة أربع أصابع، وهو
من المرفق إلى الأنامل. لقول الزهري: «وحريم العين خمس مئة ذراع، من كل
ناحية» وبناء عليه يمنع غير صاحب الحريم من الحفر ونحوه في مسافة الحريم،
لأنه ملك له، فله تضمين المعتدي أو ردم الحفرة.
2 ـ وحريم البئر: يختلف بين بئر العطَن
(العطن: مُناخ الإبل حول البئر)، وبئر العطن (هي التي ينزح منها الماء
باليد) وبين بئر الناضح: (وهي التي ينزح منها الماء بالبعير ونحوه).
_________
(1) قال عليه السلام: «من حفر بئراً، فله مما حولها أربعون ذراعاً، عطنا
لماشيته» أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن مغفل، ورواه أحمد من حديث أبي
هريرة (نصب الراية: 291/ 4).
(2) أخرج أبو داود في مراسيله عن الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم «حريم البئر العادية خمسون ذراعاً، وحريم بئر
البديء خمسة وعشرون ذراعاً» وأخرج الحاكم عن عبادة بن الصامت أن النبي صلّى
الله عليه وسلم قضى في النخلة أن حريمها مبلغ جريدها (نصب الراية: 292/ 4
وما بعدها) وزاد الزهري: «وحريم العين خمس مئة ذراع من كل ناحية».
(3) الدر المختار: 308/ 5 - 310، الهداية مع تكملة الفتح: 139/ 8 وما
بعدها، تبيين الحقائق: 36/ 6 - 38، الكتاب مع شرحه اللباب: 221/ 2 وما
بعدها، البدائع: 195/ 6.
(6/4632)
وحريم بئر العطن: أربعون ذراعاً من كل جانب
باتفاق الحنفية، كما دلت بعض الروايات لكنها غريبة أي لم تثبت، كما قال
الزيلعي (1).
وحريم بئر الناضح أربعون ذراعاً كبئر العطن عند أبي حنيفة، عملاً بحاجة
الناس. وعند الصاحبين: ستون ذراعاً لما روي: «وحريم بئر الناضح ستون
ذراعاً» والصحيح: أن حريمها على قدر الحاجة من كل الجوانب. بشرط أن يحفرها
في موات بإذن الإمام أو في ملكه، فلو حفر في ملك الغير لا يستحق الحريم.
3 ـ حريم القناة: وهي مجرى الماء تحت
الأرض. ولم يقدر حريمها بشيء يمكن ضبطه، فحريمها بقدر ما يصلحها لإلقاء
الطين ونحوه. وعن محمد: أنها بمنزلة البئر في استحقاق الحريم، وقيل بآراء
أخرى، أولاها عندي: أن لها حريماً مفوضاً إلى رأي الإمام؛ لأنه لا نص في
الشرع.
4 ـ حريم النهر: اختلف فيه الحنفية. فعن
أبي حنيفة: لا حريم للنهر في ملك الغير. وقال الصاحبان: له حريم من
الجانبين؛ لأن استحقاق الحريم للحاجة، وصاحب النهر يحتاج إليه كصاحب البئر
والعين، إذ أنه يحتاج إلى المشي على حافتي النهر، كما يحتاج إلى موضع
لإلقاء الطين عليه عند كري النهر. ثم اختلف الصاحبان في تقديره.
فقال أبو يوسف: قدر نصف بطن النهر من كل جانب، أي نصف العرض.
وقال محمد: قدر جميع بطن النهر من كل جانب، أي عرض النهر. واتفق الحنفية أن
للنهر حريماً بقدر ما يحتاج إليه لإلقاء الطين ونحوه، فيما لو أحياه في أرض
موات. وعليه من كان له نهر في أرض غيره، فليس له حريمه عند أبي حنيفة
_________
(1) نصب الراية: 292/ 4.
(6/4633)
بمجرد دعواه أنه له؛ لأن الظاهر لا يشهد
له، بل لصاحب الأرض؛ لأنه من جنس أرضه، والقول لمن يشهد له الظاهر، إلا أن
يقيم البينة على ذلك؛ لأنها لإثبات خلاف الظاهر.
وقال الصاحبان: له مسنّاة (1) يمشي عليها، ويلقي عليها طينه؛ لأن النهر
لابد له من ذلك. فكان الظاهر أنه له.
وثمرة الخلاف: أن ولاية الغرس لصاحب الأرض عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين:
لصاحب النهر.
قال الزيلعي: والصحيح أن هذا الحريم لصاحب النهر، ما لم يفحش.
5 ـ حريم الشجر: حريم الشجر الذي يغرس
في الأرض الموات: خمسة أذرع من كل جانب، حتى لا يملك غيره أن يغرس شجراً في
حريمه؛ لأنه يحتاج إلى الحريم لجذاذ ثمره، وللوضع فيه. وقد جعل النبي صلّى
الله عليه وسلم حريم الشجرة خمسة أذرع (2).
ومقدار الحريم عند المالكية (3): ما
يأتي:
حريم البئر: ما يتصل بها من الأرض التي
حولها، فهو يختلف بقدر كبر البئر وصغرها وشدة الأرض ورخاوتها. ويشمل باطن
الأرض. فلا يحق لآخر حفر بئر ينشف ماءها أو يذهبه، أو يغيره بطرح نجاسة يصل
إليها وسخها، كما يشمل ظاهر الأرض كالبناء والغرس.
_________
(1) المسناة: ما يبنى في وجه السيل لحبس الماء. ويراد بها هنا: ما يكون
كالجسر للنهر، للمشي وإلقاء الطين عند الكري (أي الحفر).
(2) أخرجه أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري (نصب الراية: 293/ 4).
(3) الشرح الصغير: 89/ 4، القوانين الفقهية: ص 339.
(6/4634)
وحريم الدار:
مدخلها ومخرجها، ومواضع مضابطها، وشبهها، مما يرتفق أهلها به من مطرح تراب،
ومصب ميزاب لدار. وحريم الفدان (1): حواشيه، ومدخله ومخرجه.
وحريم القرية: موضع محتطبها ومرعاها.
وحريم الشجر: ما فيه مصلحة عرفاً،
فلصاحبها منع من أراد إحداث شيء بقربها يضرّ بها، من بناء أو غرس أو حفر
بئر ونحوها.
وعند الشافعية (2): يرجع في تقدير
الحريم إلى العرف، حتى إن المنصوص عليه مراعى فيه العرف والحاجة. والحريم
كما تقدم: هو ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع بالمعمور، وإن حصل أصل
الانتفاع بدونه.
ف حريم القرية المحياة: النادي (وهو
المجلس الذي يجتمعون فيه ويتحدثون)، ومرتكض الخيل، ومناخ الإبل، ومطرح
الرماد ونحوها كمراح غنم ومسيل ماء وملعب صبيان.
وحريم البئر المحفورة في الموات: موقف
النازح منها (وهو القائم على رأس البئر ليستقي) (3) والحوض (وهو ما يصب
النازح فيه ما يخرجه من البئر)، والدولاب، ومجتمع الماء (الذي يطرح فيه من
الحوض لسقي الماشية والزرع)، ومتردد النازح من الدابة إن استقى بها، أو
الآدمي.
وحريم بئر الشرب: موضع المستقي منها.
_________
(1) الفدان: 5760 م2 = 240 قصبة، والدونم: 1000 م2.
(2) مغني المحتاج: 363/ 4 ومابعدها، المهذب: 424/ 1 وما بعدها.
(3) أما المحفورة في ملكه، فيعتبر فيها العرف.
(6/4635)
وحريم النهر:
هو ملقى الطين وما يخرج منه بحسب العرف في الموضع. بدليل حديث عبد الله بن
مغفل السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من احتفر بئراً، فله
أربعون ذراعاً حولها، عطناً لماشيته».
وحريم الدار المبنية في الموات: مطرح
رماد وكناسة وثلج، وممر في صوب الباب (جهته).
وحريم آبار القناة: ما لو حفر فيه (أي
في الحريم) نقص ماؤها، أو خيف عليها الانهيار، والدار المحفوفة بدور لا
حريم لها. ويتصرف كل واحد في ملكه على العادة، فإن تعدى ضمن.
ويجوز إحياء موات الحرم المكي، كما يملك عامره بالبيع وغيره، دون عرفات
ومزدلفة ومنى، لا يجوز إحياؤها لتعلق الوقوف بعرفات، وأداء شعائر الحج فيها
وفي غيرها، كالحقوق العامة من الطرق ومصلى العيد في الصحراء، وموارد الماء.
ومذهب الحنابلة (1) ما يأتي:
البئر العاديّة (بتشديد الياء نسبة إلى عاد) (2): هي القديمة التي انطمت
وذهب ماؤها، فجدد حفرها وعمارتها، أو انقطع ماؤها، فاستخرجه المحيي الذي
يملكها ويملك حريمها. وحريمها: خمسون ذراعاً من كل جانب.
والبئر غير العادية (البئر البديء):
حريمها على النصف من حريم العادية، وهو خمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب.
والدليل ما روى أبو عبيد في الأموال عن سعيد بن المسيب قال: «السنة في
_________
(1) كشاف القناع: 212/ 4 ومابعدها، المغني: 542/ 5.
(2) لم يرد عادا بعينها، لكن لما كانت «عاد» في الزمن الأول، وكانت لها
آثار في الأرض، نسب إليها كل قديم. لذا عرفت بأنها: القديمة .. الخ.
(6/4636)
حريم القليب ـ
البئر العادية: خمسون ذراعاً، وحريم البديء: خمسة وعشرون ذراعاً،
وحريم بئر الزرع ثلاث مئة ذراع».
وحريم عين وقناة من موات حولها: خمس مئة
ذراع، أي ذراع اليد؛ لأنه المتبادر عند الإطلاق.
وحريم نهر من حافتيه: ما يحتاج النهر
إليه، لطرح كرايته (أي ما يلقى منه طلباً لسرعة جريه) وما يضر صاحبه،
بتملكه عليه، وإن كثر، وكذا ما يرتفق بدخوله؛ لأنه من مصالحه.
وحريم شجرة: قدر مد أغصانها. وحريم
النخل: بقدر مد جريدها، لحديث أبي سعيد الخدري المتقدم: «اختصم إلى النبي
صلّى الله عليه وسلم في حريم نخلة، فأمر بجريدة من جرائدها فذرعت، فكانت
سبعة أذرع، أو خمسة أذرع، فقضى بذلك».
وحريم أرض زراعة: قدر ما يحتاجه زارعها
لسقيها، وربط دوابها، وطرح سبخها ونحوه، كمصرف مائها عند الاستغناء عنه،
لأن كل المذكور من مرافقها.
وحريم الدار: مطرح تراب وكناسة وثلج
وماء وميزاب، وممر إلى بابها؛ لأن هذا كله مما يرتفق بها ساكنها.
ولا حريم لدار محفوفة بملك الغير من كل جانب؛ لأن الحريم من المرافق، ولا
يرتفق بملك غيره؛ لأن مالكه أحق به، ويتصرف كل واحد منهم في ملكه وينتفع
بحسب ما جرت به العادة، فإن تعدى العادة، منع التعدي، عملاً بالعادة.
وبناء عليه: لو حفر رجل بئراً في أرضه، فأدى إلى نضوب ماء بئر الجار، وجب
سد ماء البئر، عند الحنابلة.
ولا شيء عليه عند الحنفية؛ لأن الماء الموجود تحت الأرض غير مملوك لأحد،
وهذا منصوص عليه في المجلة (م 1288).
(6/4637)
|