الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثَّالث: أحكام المعادن والحِمى والإقطاع فيه مبحثان:
الأول ـ الحمى.
الثاني ـ الإقطاع، ويتضمن أحكام المعادن

المبحث الأول ـ الحمى:
معناه وأصله، مشروعيته، ما حماه النبي صلّى الله عليه وسلم أو إمام غيره.

أولاً ـ أصل الحمى ومعناه: أصل الحمى عند العرب في الجاهلية: أن الرئيس منهم كان إذا نزل بأرض مخصبة، استعوى كلباً، على مكان عال، فحيث انتهى إليه صوته من كل جانب، حماه لنفسه، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره. وهذا لا يجوز شرعاً، فقد نهى عنه النبي صلّى الله عليه وسلم لما فيه من التضييق على الناس، ومنعهم من الانتفاع بشيء لهم فيه حق.
والحمى بمعنى المحمي، مصدر يراد به اسم المفعول، أو المراد به الحماية والتحجير. ومعناه شرعاً. أن يحمي الإمام أرضاً من الموات، فيمنع الناس من رعي ما فيها من الكلأ، ليختص بها دونهم، لمصلحة المسلمين، لا لنفسه. وعرف

(6/4638)


المالكية الحمى الشرعي بقولهم: أن يحمي الإمام مكاناً خاصاً لحاجة غيره (1).

ثانياً ـ مشروعيته: لا يجوز لأحد أن يحمي مواتاً ليمنع إحياء الموات، ورعي ما فيه من الكلأ، لما روى الصعب بن جَثَّامة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله» (2).
ويجوز باتفاق المذاهب في الصحيح عند الشافعية للإمام أن يحمي لخيل المجاهدين ونَعَم (3) الجزية، وإبل الصدقة، والماشية الضعيفة، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع (4) للخيل ـ خيل المسلمين (5). ويؤيده ما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه، قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضي الله عنه، وجعل ينفخ، ويفتِل شاربه، وكان إذا كرِه أمراً، فتل شاربه ونفخ، فلما رأى الأعرابي مابه، جعل يردد ذلك، فقال عمر: «المال مال الله، والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله (أي لخيل الجهاد) ماحميت من الأرض شبراً في شبر» (6).
_________
(1) نيل الأوطار: 308/ 5، المغني: 528/ 5 ومابعدها، الدردير في الشرح الكبير: 68/ 4 ومابعدها، وفي الصغير: 92/ 4، المهذب: 427/ 1، كشاف القناع: 223/ 4 ومابعدها.
(2) رواه أحمد والبخاري وأبو داود (نيل الأوطار: 308/ 5).
(3) النَّعَم: الإبل والبقر والغنم.
(4) النقيع: موضع معروف، على بعد عشرين فرسخاً من المدينة، وقدره ميل في ثمانية أميال. وأصل النقيع: كل موضع ينتقع فيه الماء، فيكثر فيه الخصب، بسبب وجود الماء. والفرسخ 5544 م، والميل 1848 م.
(5) رواه أحمد عن ابن عمر (نيل الأوطار: 308/ 5) ورواه البخاري وأبو داود عن الصعب بن جثامة (جامع الأصول: 331/ 3).
(6) رواه أبو عبيد بإسناده عن عامر بن عبد الله بن الزبير. ورواه البخاري والموطأ عن أسلم مولى عمر (جامع الأصول: 328/ 3 وما بعدها).

(6/4639)


قال مالك: بلغني أنه كان يحمل في كل عام على أربعين من الظهر، وقال مرة: من الخيل.
وقال البخاري: بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى شرَف والرّبذة (1).
وعن أسلم مولى عمر: أن عمر استعمل مولى له، يدعى «هُنيّاً» على الحمى، وقال له: يا هُنَي، اضمم جَنَاحك على المسلمين (2)، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصُّرَيمة (3)، ورب الغُنَيمة، وإياك ونَعمَ ابن عوف، ونعم ابن عفان (4)، فإنهما إن تهلك ماشيتهما، يرجعان إلى نخل وزرع.
ورب الصريمة ورب الغنيمة، إن تهلك ماشيتهما، يأتيني ببينة يقول: يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا، لا أبالك (5)، فالماء والكلأ أيسر عليَّ من الذهب والورِق.
وأيم الله، إنهم ليَروْن أني قد ظلمتهم، إنها لبلادُهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام.
والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله، ما حميت عليهم من بلادهم شيئاً (6).
_________
(1) رواه البخاري عن الصعب بن جثامة (نيل الأوطار، المكان السابق) والشرف: موضع بقرب مكة، والربذة: موضع معروف بين مكة والمدينة.
(2) في كتب الفقه: اضمم جناحك عن الناس، أي أمسك يدك ولا تمدها إلى ضرر مسلم، أي تواضع لهما، أو اتق الله فيهم.
(3) الصريمة: تصغير صرمة: وهي القطعة من الإبل نحو الثلاثين، فهي ما بين العشرين إلى الثلاثين من الإبل، أو من العشر إلى الأربعين منها، والغنيمة: ما بين الأربعين والمئة من الشاء.
(4) أي لا تدخلها الحمى، فإنهما غنيان لا يضرهما هلاك نعمهما.
(5) ظاهره الذم، والقصد: التحريض على الشيء.
(6) رواه البخاري (نيل الأوطار، المكان السابق).

(6/4640)


قال ابن قدامة (1): وهذا إجماع من الصحابة، ولأن ماكان لمصالح المسلمين، قامت الأئمة فيه مقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال.
«ما أطعم الله لنبي طُعْمة، إلا جعلها طعمة لمن بعده» رواه أحمد.
وأجاز المالكية (2) الحمى الشرعي بشروط أربعة، هي:
1 - حاجة المسلمين إليه: فلا يحمي الإمام أو نائبه لنفسه، ولا لغيره عند عدم الحاجة.
2 - أن يكون المحمي قليلاً، لا كثيراً. والقليل: ما لا يضيق فيه على الناس والكثير: ما ضيق فيه على الناس.
3 - أن يكون المحمي في مكان عفا، أي خالياً من البناء والغرس.
4 - أن يكون الغرض من الحمى تحقيق مصلحة عامة الناس، مثل الجهاد ونحوه، أي لترعى فيه دواب الحرب أو الصدقة أو ضعفة المسلمين.
ونائب الإمام مثل الإمام، وإن لم يأذن له الإمام، بخلاف الإقطاع، فليس لنائب السلطان إقطاع إلا بإذن؛ لأن الإقطاع يحصل به التمليك، فلا بد فيه من الإذن، بخلاف الحمى.

ثالثاً ـ حكم ما حماه النبي صلّى الله عليه وسلم أو إمام غيره (3):
ليس لأحد نقضه، ولا تغييره، مع بقاء الحاجة إليه، لأنه كالمنصوص عليه، ومن أحيا منه شيئاً لم يملكه.
_________
(1) المغني: 530/ 5.
(2) الشرح الكبير: 69/ 4، الشرح الصغير: 92/ 4.
(3) راجع المهذب: 427/ 1، المغني: 530/ 5، كشاف القناع: 224/ 4.

(6/4641)


وإن زالت الحاجة إليه، ففيه عند الشافعية والحنابلة وجهان:
أحدهما ـ يجوز لأنه زال السبب.
والثاني ـ لا يجوز، لأن ما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم نص، فلا يجوز نقضه بالاجتهاد.
وإن حمى إمام آخر بعد النبي، فغيّره هو، أو غيره من الأئمة: جاز.
وإن أحياه إنسان بعد الإمام ففيه قولان عند الشافعية والحنابلة:
أحدهما ـ لا يملكه، كما لا يملك ما حماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولأن اجتهاد الإمام لايجوز نقضه.
والثاني ـ يملك؛ لأن حمى الإمام اجتهاد، وملك الأرض بالإحياء نص، والنص يقدم على الاجتهاد.

المبحث الثاني ـ الإقطاع:
تعريفه، مشروعيته، أنواعه وحكم كل نوع.

أولاً ـ تعريف الإقطاع: هو جعل بعض الأراضي الموات مختصة ببعض الأشخاص ـ سواء أكان ذلك معدناً، أم أرضاً، فيصير ذلك البعض أولى به من غيره، بشرط أن يكون من الموات الذي لا يختص به أحد.
أو هو تسويغ الإمام من مال الله شيئاً لمن يراه أهلاً له. وأكثر ما يستعمل في الأرض: وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يحوزه، إما بأن يملكه، فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته مدة (1).
_________
(1) نيل الأوطار: 311/ 5.

(6/4642)


ثانياً ـ مشروعيته: يجوز للإمام أن يقطع موات الأرض لمن يملكه بالإحياء، لما روى وائل بن حُجر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً بحضرموت، وبعث معاوية ليقطعها إياه» (1)، وروى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطع الزبير حُضْر فرسه (2)، وأجرى الفرس حتى قام، ثم رمى بسوطه، فقال: أقطعوه، حيث بلغ السوط» (3). وروى عمرو بن شعيب أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطع ناساً من جهينة أو مزينة أرضاً (4).
وروي أن أبا بكر أقطع الزبير: وأقطع عمر علياً، وأقطع عثمان رضي الله عنهم خمسة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الزبير، وسعد، وابن مسعود، وخباباً، وأسامة بن زيد، رضي الله عنهم. ويروى عن نافع أبي عبد الله: أنه قال لعمر: إن قَبلنا أرضاً بالبصرة، ليست من أرض الخراج، ولا تضر بأحد من المسلمين، فإن رأيت أن تقطعنيها، أتخذ فيها قصيلا (5) لخيلي فافعل. قال: فكتب عمر إلى أبي موسى: إن كانت كما يقول، فاقطعها إياه (6). ويجوز أيضاً إقطاع المعادن للاستغلال، لا ملك الرقبة (عين الشيء)، لما روى ابن عباس قال: «أقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المزني معادن القَبَليّة (7)، جَلْسيها وغَوْريّها وحيث يصلح الزرع من قُدْس (8)، ولم يعطه حق مسلم (9)».
_________
(1) رواه الترمذي وصححه (نيل الأوطار: 312/ 5).
(2) حضر فرسه: مقدار عدوه.
(3) رواه أحمد وأبو داود لكن في إسناده رجل فيه مقال، وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (نيل الأوطار: 312/ 5).
(4) رواه سعيد بن منصور في سننه.
(5) القصيل: الشعير يجز أخضر لعلف الدواب.
(6) روى هذه الآثار كلها أبو عبيد في الأموال.
(7) القبلية: ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام.
(8) الجلس: كل مرتفع من الأرض، ويطلق على أرض نجد. وغوريها: نسبة إلى غور، قال في القاموس: إن الغور يطلق على ما بين ذات عرق إلى البحر، وكل ما انحدر مغرباً عن تهامة، وموضع منخفض بين القدس وحوران مسيرة ثلاثة أيام في عرض فرسخين، وموضع في ديار بني سليم، وماء لبني العدوية. اهـ. والمراد هنا المواضع المرتفعة والمنخفضة من معادن القبلية. وقدس: هو جبل عظيم بنجد، كما في القاموس، وقيل: الموضع المرتفع الذي يصلح للزرع.
(9) رواه أحمد وأبو داود، وروياه أيضاً من حديث عمرو بن عوف المزني (نيل الأوطار: 309/ 5).

(6/4643)


ثالثاً ـ أنواع الإقطاع: الإقطاع ثلاثة أقسام: إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال، وإقطاع إرفاق. وإقطاع التمليك ينقسم إلى موات، وعامر، ومعادن. وإقطاع الاستغلال نوعان: عشر، وخراج.
1 - حكم إقطاع الموات: أما إقطاع الموات: فيجوز باتفاق المذاهب للإمام إقطاع موات لمن يحييه، فيؤدي إلى عمارة البلاد، لأنه صلّى الله عليه وسلم ـ كما تقدم ـ أقطع بلال ابن الحارث العقيق، وأقطع وائل بن حجر أرضاً، وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان جمعاً من الصحابة.
فإن أقطع الإمام أرضاً لشخص، ملكها عند المالكية (1) وإن لم يعمرها بشيء، فله بيعها وهبتها، وتورث عنه. وليس هو من الإحياء، بل هو تمليك مجرد.
ولا يملك الموات بالإقطاع عند الجمهور (2) (غير المالكية)، لأنه لو ملكه ما جاز استرجاعه، بل يصير المقطع كالمتحجر الشارع في الإحياء، فيكون أحق به إذا أحياه في خلال مدة، أقصاها عند الحنفية ثلاث سنين، لقول عمر: «ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق».
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 183، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 212، كشاف القناع: 216/ 4، الشرح الصغير: 90/ 4.
(2) البدائع: 194/ 6، المهذب:426/ 1، المغني: 526/ 5 - 527، كشاف القناع: 216/ 4 ومابعدها.

(6/4644)


ولا ينبغي للإمام أن يقطع من الموات إلا ما قدر المقطع على إحيائه؛ لأن في إقطاعه أكثر من هذا القدر تضييقاً على الناس في حق مشترك بينهم، مما لا فائدة فيه، فيدخل به الضرر على المسلمين.
فإن أقطع الإمام أحداً أكثر من القدر الذي يمكن إحياؤه، ثم تبين عجزه عن عمارته أو إحيائه استرجعه الإمام منه، كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ماعجز عن عمارته، من العقيق الذي أقطعه إياه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهذا هو المراد بالمصلحة التي يجوز الإقطاع لأجلها؛ لأن الحكم يدور مع علته.
وللإمام عند الحنابلة إقطاع غير موات تمليكاً، وانتفاعاً للمصلحة (1). ويجوز الإقطاع من مال الخراج، كما يجوز من مال الجزية (2).
وقال المالكية (3): لا يقطع الإمام معمور أرض العنوة كأرض مصر والشام والعراق، أي الصالحة لزرع الحب ملكاً؛ لأنها وقف عندهم، بل يقطعها إمتاعاً وانتفاعاً. وأما ما لا يصلح لزرع الحب، وإن صلح لغرس الشجر، وليس من العقار، فإنه من الموات، يقطعه ملكاً وانتفاعاً.
وأما أرض الصلح فلا يقطعها الإمام لأحد مطلقاً؛ لأنها مملوكة لأربابها.

2 - حكم إقطاع العامر وهو إقطاع الإرفاق: قال الشافعية والحنابلة (4): يجوز إقطاع ما بين العامر من الرحاب للمساجد ونحوها، ومقاعد الأسواق، والطرق الواسعة، إقطاع انتفاع، ولا يملكه المقطع وإنما ينتفع به ما لم يضيق على
_________
(1) كشاف القناع: 217/ 4.
(2) المرجع السابق.
(3) الشرح الصغير: 91/ 4 ومابعدها، الشرح الكبير: 68/ 4.
(4) المهذب: 427/ 1، المغني: 526/ 5، كشاف القناع: 217/ 4، الأحكام السلطانية للماوردي: ص184، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 213.

(6/4645)


الناس أو يضر بالمارة، فمن أقطع شيئاً مما ذكر صار أحق بالجلوس في الموضع؛ لأن للإمام النظر والاجتهاد، فإذا أقطعه ثبتت يده عليه بالإقطاع، فلم يكن لغيره أن يقعد فيه، بمنزلة السابق إليه من غير إقطاع، إلا في فارق واحد: وهو أن السابق لشيء إذا انتقل عنه بنقل متاعه منه، زال استحقاقه، لزوال المعنى الذي استحق به. وفي الإقطاع لا يزول استحقاقه سواء نقل متاعه إليه أو لم ينقل، جلس فيه أو تركه؛ لأنه استحق بإقطاع الإمام، فلا يزول حقه بترك الجلوس فيه.
وللجالس في الرحاب أو الطرق أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من حصير وكساء للحاجة إليه، وليس له بناء شيء في الطريق، ولا في رحبة المسجد، لما فيه من التضييق.
وليس للجالس بطريق واسع الجلوس بحيث يمنع جاره رؤية المتعاملين معه، أو يضيق على جاره في كيل أو وزن أو أخذ أو عطاء، لحديث «لا ضرر ولا ضرار».

3 - حكم إقطاع المعادن وملكيتها:
تعريف المعادن، والفرق بينها وبين الرّكاز أو الكنز، وأنواعها، وحكم ملكيتها وإقطاعها في المذاهب.
المستخرج من الأرض بالبحث والتنقيب: إما معدن، أو ركاز أو كنز.
تعريف المعادن: المعادن أو الفلزات: هي ما يوجد في باطن الأرض من أصل الخلقة، كالذهب والفضة، والنحاس والحديد والرصاص.
والرّكاز أو الكنز: هو المال المدفون في الأرض بفعل صاحبه، أو بأثر حادث إلهي، كزلزال أو رياح عاتية، أدى إلى طمر بلد مع ما فيها من ثروات.

(6/4646)


والفرق بين المعدن والركاز: أن المعدن
جزء من الأرض، وأن الركاز ليس جزءاً من الأرض، وإنما هو دفين مودع فيها، بفعل الإنسان (1).

أنواع المعادن: المعادن عند الحنفية أنواع (2):
1) ـ ما يقبل الطرق والسحب، فيعمل منه الصفائح والحلي والأسلاك، أو ما يذوب بالإذابة وينطبع بالحلية ـ بتعبير الفقهاء، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص ونحوها.
2) ـ مالا يقبل الطرق والسحب أو ما لا يذوب بالإذابة، كالماس والياقوت والبلور والعقيق والفيروز والكحل والزرنيخ، ونحوها.
3) ـ المعادن السائلة أو المائعة، كالنفط والقار ونحوها من الزيوت المعدنية.
وقسم الشافعية والحنابلة (3) المعادن قسمين: ظاهرة وباطنة.
أـ فالظاهرة: هي البارزة غير المختلطة بالأرض، التي لا تحتاج إلى مشقة في استخراجها أو الوصول إليها، كالنفط والقار (الزفت) والملح والكحل والكبريت.
ب ـ والباطنة: هي التي تحتاج إلى جهد وعمل لاستخراجها، كالذهب والحديد والنحاس والرصاص.
حكم المعادن عند الحنفية (4):
لا تكون أرض المعادن، كأرض الملح والقار والنفط ونحوها مما لا يستغني
_________
(1) تبيين الحقائق: 287/ 1 ومابعدها، مختصر المعاملات الشرعية للأستاذ الشيخ علي الخفيف: ص 29، الأموال ونظرية العقد، للدكتور محمد يوسف موسى: ص 194.
(2) البدائع: 67/ 2، 68.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 189 وما بعدها، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 219 وما بعدها.
(4) البدائع: 65/ 2 - 68،تبيين الحقائق: 288/ 1 ومابعدها، الدر المختار: 59/ 2 ومابعدها.

(6/4647)


عنها المسلمون أو الأمة، أرض موات. فلا يجوز للإمام أن يقطعها لأحد؛ لأنها حق لعامة المسلمين، وفي الإقطاع إبطال حقهم، وهو لا يجوز (1).

وحكم ملكيتها وزكاتها فيما يأتي: لا يقول الحنفية بالتفرقة في مقدار الزكاة بين المعدن والكنز، والركاز يشمل الاثنين وكلاهما من البّر، وهناك معادن البحر.
أولاً ـ المعدن: أـ إن كان في أرض غير مملوكةفي دار الإسلام، وكان مما يقبل الطرق والسحب، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، قليلاً أو كثيراً: يكون فيه الخمس لبيت المال كالواجب في الغنيمة، والباقي وهو الأربعة الأخماس لمن عثر عليه، كائناً من كان إلا الحربي المستأمن، فإنه يسترد منه الكل.
ودليلهم: قوله صلّى الله عليه وسلم: «وفي الركاز الخمس» (2) والركاز: اسم للمعدن حقيقة، ويطلق على الكنز مجازاً؛ لأن العرب تقول: أركز الرجل: إذا أصاب ركازاً، وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن (3). وروى أبو يوسف عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «في الركاز الخمس، قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت» (4) فدل النص عندهم على أن الركاز يطلق على المعدن، فالمعدن ركاز، وعلى المال المدفون.
ب ـ وإن كان المعدن مما لا يقبل الطرق والسحب، كالماس والياقوت وسائر الأحجار الكريمة، فلا خمس فيه، ويكون كله للواجد؛ لأنه من جنس الأرض، كالتراب والأحجار العادية، إلا أنها مضيئة، ولا خمس في الحجر.
_________
(1) البدائع: 164/ 6، الدر المختار: 308/ 5.
(2) رواه الجماعة (أحمد والأئمة الستة) عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 147/ 4، نصب الراية: 380/ 3).
(3) خالفهم الجمهور في الحكم، فقالوا: لا يقال للمعدن ركاز، لحديث: «والمعدن جبار - أي هدر - وفي الركاز الخمس» فقد فرق بينهما بالعطف، فدل ذلك على المغايرة.
(4) نصب الراية: 380/ 2.

(6/4648)


جـ ـ وإن كان المعدن مائعاً كالنفط والقير: فلا شيء فيه لبيت المال، وكله لمن وجده؛ لأنه كالماء، ولا يقصد بالاستيلاء، فلا يعتبر كالغنائم، التي يجب فيها الخمس.
أما الزئبق: ففيه الخمس؛ لأنه ينطبع مع غيره، وإن كان مما لا ينطبع بنفسه، فأشبه الفضة.
د ـ وإن وجد المعدن في أرض مملوكة لبعض الناس، أو دار أو منزل أو حانوت، فلا خوف عند الحنفية في أن الأربعة الأخماس لصاحب الملك، وإن وجده غيره في أرضه؛ لأن المعدن من توابع الأرض، لأنه من أجزائها التي خلق فيها.
وأما الخمس فهو لبيت المال إذا كان الموجود مما يقبل الطرق والسحب عند الصاحبين، للحديث المتقدم: «وفي الركاز الخمس» من غير تفصيل بين الأرض المملوكة وغيرها.
وعند أبي حنيفة: لا خمس فيه، على من وجده في أرضه أو داره.

ثانياً ـ الكنز:
أـ إن كان إسلامياً، بأن وجد عليه علامة الإسلام، كالمصحف والدراهم المكتوب عليها: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ووجد في أرض غير مملوكة، كالجبال والمغاور ونحوها، كان بمنزلة اللقطة، فيجب على واجده التعريف به، ثم الانتفاع به إن كان فقيراً، والتصدق به إن كان غنياً.
ب ـ وإن كان غير إسلامي، بأن وجد عليه علامة الجاهلية أو الرومان أو الفرس، كان لبيت المال الخمس، والباقي وهو الأربعة الأخماس للواجد، بلا خلاف عندهم.

(6/4649)


جـ ـ وإن كان الكنز في أرض مملوكة: وجب فيه الخمس بلا خلاف، للحديث السابق: «وفي الركاز الخمس». والباقي للمالك ثم لورثته عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: هو للواجد؛ لأنه غنيمة وصل إليها قبل غيره.
د ـ وإن وجد الكنز في دار الحرب: فإن وجد في أرض غير مملوكة لأحد، فهو للواجد، ولا خمس فيه، لأنه مال أخذه، لا بطريق القهر والغلبة. وإن وجد في أرض مملوكة، ففيه الخمس لبيت المال، والباقي للمالك عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: للواجد؛ لأنه مباح سبقت يده إليه، أي كما هو المقرر في دار الإسلام.

ثالثاً ـ المستخرج من البحر: كاللؤلؤ والمرجان والعنبر، وكل حلية تستخرج من البحر، لا شيء فيه لبيت المال عند أبي حنيفة ومحمد، وجميعه للواجد، بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن العنبر، فقال: هو شيء دسره البحر، لا خمس فيه، ولأن يد الكفرة لم تثبت على باطن البحار التي يستخرج منها اللؤلؤ والعنبر، فلم يكن الخارج منها مأخوذاً بطريق القهر لهم، فلا يكون غنيمة، فلا خمس فيه. والعنبر: هو الطيب المعروف.
وعند أبي يوسف: في كل ما خرج من البحر من الحلي والجواهر: الخمس لبيت المال، والباقي لواجده أو مستخرجه، بدليل أن عمر رضي الله عنه كتب لعامل له وجد لؤلؤة بأن فيها الخمس، وبأن الكفار كانوا يملكون الأرض كلها براً وبحراً، فيكون كل ما يصير من أموالهم إلينا غنيمة، وفي الغنائم الخمس بنص القرآن (1). وهذا الرأي هو الأولى بالاتباع في الظروف الدولية الحاضرة.
_________
(1) البدائع: 68/ 2.

(6/4650)


وذكر أبو عبيد أقوالاً مختلفة، منها كما قال أبو حنيفة ومحمد، ومنها قول لعمر وعمر بن عبد العزيز: أن معادن البحر كمعادن البر، فيها الزكاة إذا بلغت نصاباً (1).

المعادن عند المالكية (2):
المعدن غير الركاز، والركاز هو الكنز، والمعدن: هو ما يخرج من الأرض من ذهب أو فضة بعمل وتصفية. ومذهب المالكية يتفق مع النظرة الحديثة للدول في ملكية المعادن.

أولاً ـ المعدن: ملكيته، والواجب فيه: أما ملكيته فأنواع ثلاثة:
1) - إن كان في أرض غير مملوكة لأحد: فهو للإمام أي السلطان أو نائبه، يقطعه لمن شاء من المسلمين، انتفاعاً، لا تمليكاً، أو يجعله في بيت المال للمصلحة أو المنفعة العامة، ولا يختص بشيء منه من وجد في أرضه.
2) ـ أن يكون في أرض مملوكة لمالك معين: هو للإمام في مشهور المذهب، وقيل: لصاحب الأرض.
3) - أن يكون في أرض مملوكة لغير معين، كأرض العنوة والصلح: المعتمد أنه للإمام، وقيل: لمن افتتحها.
والخلاصة: أن المعادن الجامدة والسائلة للدولة عند المالكية في مشهور
_________
(1) الأموال: ص 345 - 347.
(2) القوانين الفقهية: ص 102، الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه: 650/ 1 - 654.

(6/4651)


المذهب؛ لأن المعادن قد يجدها شرار الناس، فلو لم يكن حكمها للإمام، لأدى الأمر إلى الفتن والهرج.
وأما الواجب في المعدن فهو الزكاة: وهي ربع العشر (1) إن كان نصاباً. فإن كان دون النصاب، فلا شيء فيه. ولا حول في زكاة المعدن، بل يزكى لوقته، كالزرع.

ثانياً ـ الركاز: وهو الكنز، يختلف حكمه باختلاف الأرض التي وجد فيها. وهي أربعة أنواع:
الأول ـ أن يوجد في الفيافي، ويكون من دفن (مدفون) الجاهلية، فهو لواجده، وفيه الخمس لبيت المال مطلقاً، ذهباً كان أو غيره، قل أو كثر.
الثاني ـ أن يوجد في أرض مملوكة: قيل: يكون لواجده، وقيل: يكون لمالك الأرض.
الثالث ـ أن يوجد في أرض فتحت عنوة: قيل: لواجده، وقيل للذين افتتحوا الأرض.
الرابع ـ أن يوجد في أرض فتحت صلحاً: قيل: لواجده، وقيل: لأهل الصلح.
وهذا كله ما لم يكن بطابع المسلمين. فإن كان بطابع المسلمين فحكمه حكم اللقطة، يعرّف سنة إذا لم يعلم صاحبه أو وارثه، فإن لم يعرف فمحله هو بيت مال المسلمين.
_________
(1) هذا هو مقدار ز كاة الذهب والفضة، كما ثبت في السنة (نيل الأوطار: 137/ 4).

(6/4652)


والخلاصة: أن في الركاز الخمس لبيت المال، وباقيه لواجده إن لم تكن الأرض مملوكة. فإن كانت مملوكة، فللمالك الأرض الأصلي الذي ملكها بإحياء ثم لوارثه، لا لمالكها الحالي مطلقاً سواء ملكها بشراء أو هبة.
هذا إن علم المالك الأصلي (البائع الأصلي أو الواهب)، وإلا فلقطة.

المعادن عند الشافعية والحنابلة (1):
1) - المعدن غير الركاز عندهم. فالمعدن: هو ما تولد من الأرض، وكان من غير جنسها فهو جزء من الأرض. والركاز: هو دفين الجاهلية أو من تقدم من الكفار. ويفرقون بين نوعين فيها وهي المعادن الظاهرة: وهي ما برزت بلا عمل، ويتوصل إليها بلا مؤنة أي لا تحتاج لعزل عن غيرها، وإنما العمل والجهد في تحصيلها، كالنفط والقار والملح والكبريت.
والمعادن الباطنة: وهي التي تحتاج لاستخراجها إلى عمل ومؤنة كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، أي تحتاج لفصلها عن غيرها لاختلاطها بالتراب.

2) - والمعادن الظاهرة: لا يجوز إقطاعها لأحد من الناس سواء إقطاع تمليك أو إقطاع إرفاق، بل هي للجميع، ينتفعون بها، ولا تملك بإحياء أرض موات، وجدت فيها، عند الشافعية، وفي الأظهر عند الحنابلة؛ لأن هذه الأمور مشتركة بين الناس، مسلمهم وكافرهم كالماء والكلأ، كما في الحديث «الناس شركاء في
_________
(1) مغني المحتاج: 394/ 1 - 396، المهذب: 157/ 1 ومابعدها، 425، نهاية المحتاج: 253/ 4، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 189 وما بعدها. المغني: 17/ 3 - 27، 520/ 5 - 524، 544، كشاف القناع: 259/ 2 - 265، 208/ 4 وما بعدها، 216 ومابعدها، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 219 وما بعدها.

(6/4653)


ثلاث: في الماء والكلأ والنار» ولأنها ليست من أجزاء الأرض، فلم يملكها من أحيا الأرض بملك الأرض، كالكنز؛ ولأنه صلّى الله عليه وسلم أقطع رجلاً ملح
مأرب، فقال رجل: يا رسول الله، إنه كالماء العدّ (أي الذي لا ينقطع) قال: فلا، إذن (1).
والمعادن الباطنة: لا يملكها بمجرد الحفر والعمل من كشفها وأحياها في الأظهر عند الشافعية، وظاهر المذهب عند الحنابلة، كالمعدن الظاهر؛ لأن إحياء الأرض الذي يملك به هو العمارة التي يتهيأ بها المحيا للانتفاع من غير تكرار عمل. وهذا أي حفر المعدن: حفر وتخريب يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع، فمجرد الاكتشاف لا يكون سبباً لملك المعادن.

3) - ومن أحيا أرضاً مواتاً، فملكها بذلك، فظهر فيها معدن باطن كالذهب أو الفضة، ملكه عند الشافعية؛ لأنه بالإحياء ملك الأرض بجميع أجزائها، ومن أجزائها المعدن، بخلاف الركاز أو الكنز، فإنه مودع فيها للنقل عنها. أما المعدن الظاهر، فلا يملك كما عرفنا بالإحياء عند الشافعية؛ لأنه حق للجميع (2).
وقال الحنابلة (3): من أحيا أرضاً مواتاً، فملكها، فيملك المعادن الجامدة؛ لأنه ملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها، وهذا المعدن منها، فدخل في ملكه على سبيل التبعية. وأما المعادن الجارية كالنفط والقار والماء، فأظهر الروايتين عندهم أن محيي الأرض لا يملكها؛ لأن الناس شركاء فيها، لحديث «الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار» (4).
_________
(1) رواه الترمذي وأبو داود وباقي أصحاب السنن الأربعة، وصححه ابن حبان عن أبيض بن حمال (نيل الأوطار: 310/ 5).
(2) مغني المحتاج:372/ 2 - 373.
(3) المغني: 522/ 5.
(4) والرواية الثانية: يملكها لأنها خارجة من أرضه المملوكة له، فأشبهت الزرع والمعادن الجامدة. وقد مشى القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية (ص 220) على هذه الرواية.

(6/4654)


4) - ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر أو باطن، فهوأحق بما ينال منه دون أن يملكه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو له» رواه أبو داود.
والخلاصة: أن المعادن الظاهرة للدولة في ظاهر المذهب عند الشافعية والحنابلة. وأما المعادن الباطنة فلا يملكها مكتشفها، وتكون للدولة أيضاً. فإن ظهرت المعادن في أرض أحياها شخص، فيملك المحيي المعدن الباطن عند الشافعية. ويملك عند الحنابلة فقط المعدن الجامد دون السائل.

5) - أما الواجب في المعدن: فهو ربع العشر، إن كان ذهباً أو فضة فقط عند الشافعية، وكذلك إن كان من غيرهما وبلغت قيمته نصاباً عند الحنابلة.
6) - وأما الكنز: وهو دفين الجاهلية، فيجب فيه الخمس في بيت المال، والباقي إن وجد بأرض مملوكة، فهو عند الشافعية والحنابلة لمالك الأرض بيمينه إن ادعاه، وإلا فهو لمن ملك منه أي لمن سبقه من المالكين. أما إن وجد في موات أو ملك أحياه، فهو لواجده.
وإن كان الكنز إسلامياً، وعلم مالكه، فهو له، وإلا فهو لقطة. وكذلك إن جهل كونه إسلامياً أم جاهلياً، هو لمالكه إن عرف، وإلا فهو لقطة. وهذا باتفاق الشافعية والحنابلة.

(6/4655)