الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الخامِس: عقود استثمار الأرض: المزارعة والمساقاة والمغارسَة العقد الأول ـ المزارعة أو المخابرة تعريفها، ومشروعيتها، وركنها وصفة العقد، وشرائطها، وأنواعها أو أحوالها، وحكمها وانتهاؤها وحالات فسخها، وفيها مباحث خمسة:
المبحث الأول ـ تعريف المزارعة ومشروعيتها وركنها وصفة العقد:
أولاً ـ تعريف المزارعة: المزارعة لغة: مفاعلة من الزرع: وهو الإنبات. وشرعاً: عقد على الزرع ببعض الخارج (1). وعرفها المالكية: بأنها الشركة في الزرع (2). وعرفها الحنابلة بأنها: دفع الأرض إلى من يزرعها أو يعمل عليها، والزرع بينهما (3).
وتسمى أيضاً المخابرة (من الخَبار: وهي الأرض اللينة)، والمحاقلة،
_________
(1) البدائع: 175/ 6، تبيين الحقائق: 278/ 5، الدر المختار: 193/ 5، تكملة الفتح: 32/ 8.
(2) الشرح الكبير: 372/ 3، القوانين الفقهية: ص 280.
(3) المغني: 382/ 5، كشاف القناع: 523/ 3.

(6/4683)


ويسميها أهل العراق: القَراح. ووصف الشافعية (1) المخابرة بأنها: عمل الأرض ببعض ما يخرج منها، والبذر من العامل. والمزارعة: هي المخابرة، ولكن البذر فيها يكون من المالك.
والخلاصة: المزارعة عقد استثمار أرض زراعية بين صاحب الأرض، وآخر يعمل في استثمارها، على أن يكون المحصول مشتركاً بينهما بالحصص التي يتفقان عليها.

ثانياً ـ مشروعيتها: لم يجز أبو حنيفة وزفر المزارعة، وقالا: هي فاسدة، وبعبارة أخرى: المزارعة بالثلث والربع في رأيهما باطلة (2). وكذلك لم يجز الشافعي المزارعة، وإنما تجوز عند الشافعية فقط تبعاً للمساقاة للحاجة، فلو كان بين النخل بياض صحت المزارعة عليه مع المساقاة على النخل بشرط اتحاد العامل، وعسر إفراد النخل بالسقي، والبياض بالعمارة: وهي الزراعة لانتفاع النخل بسقي الأرض وتقليبها. والأصح أنه يشترط: ألا يفصل العاقدان بين العقدين وإنما يؤتى بهما على الاتصال، وألا يقدم المزارعة على المساقاة، لأنها تابعة، والتابع لا يقدم على متبوعه. ولا تجوز المخابرة عند الشافعية تبعاً للمساقاة، لعدم ورود مشروعيتها (3). ودليل أبي حنيفة وزفر والشافعي على عدم مشروعية المزارعة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة (4): وهي المزارعة. ولأن أجر المزارع: وهو مما تخرجه
_________
(1) مغني المحتاج: 323/ 2 وما بعدها.
(2) العناية بهامش تكملة الفتح: 32/ 8، وتقييدهم بالثلث والربع باعتبار العادة في ذلك، ولتقرير محل النزاع، إذ لو لم يعين المقدار فسدت اتفاقاً.
(3) مغني المحتاج: 324/ 2، المهذب: 349/ 1.
(4) أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله، وأخرجه أيضاً عن ابن عمر: أن رافع بن خديج روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عنه (نصب الراية: 180/ 4) وروى مسلم أيضاً عن ثابت بن الضحاك: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة» وروى أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري حديث رافع بالنهي عن كراء الأرض (نيل الأوطار: 275/ 6، 280).

(6/4684)


الأرض إما معدوم لعدم وجوده عند العقد، أو مجهول لجهالة مقدار ما تخرجه الأرض، وقد لا تخرج شيئاً، وكل من الجهالة وانعدام محل العقد مفسد عقد الإجارة.
وأما معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر ـ كما سيأتي ـ فكان خراج مقاسمة (1) كثلث أو ربع غلة الأرض، بطريق المن والصلح، وهو جائز.
ومع هذا قال كثير من فقهاء الشافعية بمشروعية المزارعة استقلالاً، بدليل معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر، واعتبروا المخابرة في معنى المزارعة.
وقال صاحبا أبي حنيفة (أبو يوسف ومحمد)، ومالك وأحمد وداود الظاهري، وهو رأي جمهور الفقهاء: المزارعة جائزة، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع (2). ولأنها عقد شركة بين المال والعمل، فتجوز كالمضاربة، لدفع الحاجة، فصاحب المال قد لا يحسن الزراعة، والعامل يتقنها، فيتحقق بتعاونهما الخير والإنتاج والاستثمار. والعمل والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين، لحاجة الناس إليهم ولتعاملهم. وهذا هو الراجح. وهي تشبه الشركة والإجارة، فهي مشاركة في الناتج بين صاحب الأرض والمزارع بنسبة متفق عليها كالنصف أو الثلث للمزارع. وهي كالإجارة عن طريق المشاركة في استغلال الأرض، والأجرة فيها حصة معينة من المحصول. لكنها تتميز عن الشركة بأن نصيب المالك فيها حصة من نفس المحصول الناتج من الأرض، وليس من صافي الأرباح.
_________
(1) الخراج نوعان: خراج وظيفة: وهو فرض جزء مقطوع معلوم سنوياً على جزء معلوم من مساحة الأرض المفتوحة. وخراج مقاسمة: وهو فرض مقدار نسبة محددة من غلة الأرض كالنصف مثلاً (تبيين الحقائق: 278/ 5).
(2) رواه الجماعة (أحمد والأئمة الستة) عن ابن عمر، وروي أيضاً عن ابن عباس وجابر بن عبد الله (نيل الأوطار: 272/ 5).

(6/4685)


وتتميز عن إيجار الأرض الزراعية بأن تكون الأجرة جزءاً من محصول الأرض المؤجرة كالربع أو الثلث أو النصف، فإن كانت الأجرة مقداراً معيناً من المحصول كطن قمح أو أرز، فلا يكون العقد مزارعة، ولكنه إيجار عادي للأرض.

ثالثاً ـ ركن المزارعة وصفة العقد: ركن المزارعة عند الحنفية: الإيجاب والقبول، وهو أن يقول صاحب الأرض للعامل: دفعت إليك هذه الأرض مزارعة بكذا، ويقول العامل: قبلت، أو رضيت، أو ما يدل على قبوله ورضاه، فإذا وجدا تم العقد بينهما (1).
أطرافها ثلاثة: صاحب الأرض أو المالك، والعامل أو المزارع، ومحل العقد، المتردد بين أن يكون منفعة الأرض أو عمل العامل. وهي عند الحنفية: عقد إجارة ابتداء، شركة انتهاء، فإن كان البذر من العامل فالمعقود عليه منفعة الأرض، وإن كان من صاحب الأرض فالمعقود عليه منفعة العامل.
وقال الحنابلة (2): ولا تفتقر المزارعة والمساقاة إلى القبول لفظاً، بل يكفي الشروع في العمل قبولاً، كالوكيل.
وأما صفة المزارعة: فهي عند الحنفية كبقية الشركات عقد غير لازم. وقال المالكية (3): وتلزم بالبذر ونحوه أي بإلقاء الحب على الأرض لينبت، أو بوضع الزريعة في الأرض مما لا بذر لحبه كالبصل ونحوه. والمعتمد عند المالكية أن شركات الأموال تلزم بالصيغة.
_________
(1) البدائع: 176/ 6.
(2) كشاف القناع: 528/ 3 وما بعدها.
(3) تبيين الحقائق: 278/ 5، الشرح الصغير: 492/ 3 وما بعدها.

(6/4686)


وقال الحنابلة (1): المزارعة والمساقاة عقدان غير لازمين، لكل طرف فسخهما، ويبطل العقد بموت أحد المتعاقدين.

المبحث الثاني ـ شرائط المزارعة:
اشترط الصاحبان من الحنفية (2) في المزارعة شرائط: في العاقد، وفي الزرع والمزروع، وفي الخارج من الزرع، وفي الأرض المزروعة، وفي محل العقد، وفي آلة الزراعة، وفي مدة المزارعة.

شروط العاقد: يشترط شرطان عامان في العقود.
أـ أن يكون العاقد عاقلاً (مميزاً): فلا تصح مزارعة المجنون والصبي غير المميز؛ لأن العقل شرط أهلية التصرفات.
وأما البلوغ فليس بشرط لجواز المزارعة عند الحنفية، فتجوز مزارعة الصبي المأذون، كالإجارة. والمزارعة استئجار ببعض الناتج. واشترط الشافعية والحنابلة البلوغ لصحة المزارعة كغيرها من العقود.
2 - ألا يكون مرتداً ـ في رأي أبي حنيفة ـ لأن تصرفات المرتد موقوفة عنده، فلا تصح للحال. ولا يشترط هذا الشرط عند الصاحبين، فتعتبر مزارعة المرتد نافذة للحال.
أما المرتدة فتصح مزارعتها باتفاق الحنفية.
_________
(1) غاية المنتهى: 154/ 2.
(2) البدائع: 176/ 6 - 180، تكملة الفتح مع العناية: 34/ 8 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 230/ 2، تبيين الحقائق: 279/ 5، الدر المختار: 193/ 5.

(6/4687)


شرط الزرع: أن يكون معلوماً، بأن يبين ما يزرع؛ لأن حال المزروع يختلف باختلاف الزرع، بالزيادة والنقصان، فرب زرع يزيد في الأرض، وآخر ينقصها. ومقتضى الاستحسان: أن بيان ما يزرع في الأرض ليس بشرط، إذ نص على المزارعة، فإن ما يزرع مفوض للعامل.
شرط المزروع: أن يكون قابلاً لعمل الزراعة: وهو أن يؤثر فيه العمل بالزيادة بحسب العادة.
شروط الخارج الناتج من الزرع: تشترط شروط إذا لم تتحقق فسد العقد وهي:
1 - أن يكون معلوماً في العقد؛ لأنه بمثابة الأجرة وجهالتها تفسد الإجارة.
2 - أن يكون مشتركاً بين العاقدين: فلو شرط تخصصه بأحدهما فسد العقد.
3 - أن يكون الناتج معلوم القدر كالنصف والثلث والربع ونحوه؛ لأن ترك التقدير يؤدي إلى الجهالة المفضية إلى المنازعة.
4 - أن يكون الناتج جزءاً مشاعاً بين العاقدين، فلو شرط لأحدهما مقدار معلوم كأربعة أمداد أو بقدر البذر، لم يصح العقد، لجواز ألا ينتج إلا ذلك القدر.
ولا يصح أيضاً اشتراط كون الناتج على السواقي أو الجداول لأحدهما، لاحتمال ألا ينبت الزرع إلا في ذلك الموضع.
ولا يصح أيضاً اشتراط كون التبن لأحدهما، وللآخر الحب؛ لأن الزرع قد تصيبه آفة، فلا ينعقد الحب، ولا يخرج إلا التبن.

(6/4688)


واشترط المالكية تساوي العاقدين في قسمة الناتج، وأجاز الشافعية والحنابلة كالحنفية تفاوت العاقدين في الخارج الناتج.

شروط الأرض المزروعة: يشترط في الأرض المزروعة ما يأتي:
1 - أن تكون صالحة للزراعة: فلو كانت سبخة أو نزة، لا يجوز العقد؛ لأن المزارعة عقد استئجار ببعض الناتج، والسبخة والنزة لا تجوز إجارتها، فلا تجوز مزارعتها.
2 - أن تكون معلومة: فإن كانت مجهولة لا تصح المزارعة؛ لأنها تؤدي إلى المنازعة.
3 - التخلية بين الأرض والعامل، فتسلم إلى العامل مخلاة: وهو أن يوجد من صاحب الأرض التخلية بين الأرض وبين العامل، فلو شرط العمل على رب الأرض أو عليهما معاً، لا تصح المزارعة، لانعدام التخلية.

شرط محل العقد: أن يكون المعقود عليه في المزارعة مقصوداً بحسب العرف والشرع: أي من الأعمال الزراعية عرفاً وشرعاً، من حيث إنها إجارة أحد أمرين: إما منفعة عمل العامل: بأن كان البذر من صاحب الأرض. وإما منفعة الأرض: بأن كان البذر من العامل.
وإذا اجتمع الأمران في الاستئجار، فسدت المزارعة، وتفسد إذا كان العمل غير زراعي كقطع الأحجار ونقلها ورصف جوانب الطرقات مثلاً بالحجارة؛ لأنها ليست من أعمال المزارعة.

شرط آلة الزراعة: أن تكون الآلة من دابة أو آلة حديثة أمراً تابعاً في العقد، لا مقصوداً، فإن جعلت أمراً مقصوداً، فسدت المزارعة.

(6/4689)


شرط مدة المزارعة: أن تكون المدة معلومة، فلا تصح المز ارعة إلا بعد بيان المدة؛ لأنها استئجار ببعض الناتج، ولا تصح الإجارة مع جهالة المدة، والمدة متعارفة، فتفسد بما لا يتمكن العامل فيها، وبما لا يعيش إليها أحد العاقدين. والمفتى به أن
المزارع تصح بلا بيان مدة، وتقع على أول زرع واحد (1).
وفي الجملة: تصح المزارعة عند الصاحبين بشروط ثمانية:
1 - أهلية العاقدين 2 - وتعيين مدة العقد، والمفتى به أنه لا يشترط ذلك. 3 - وصلاحية الأرض للزراعة 4 - والتخلية بين الأرض والعامل 5 - وأن يكون الناتج مشتركاً مشاعاً بين العاقدين تحقيقاً لمعنى الشركة 6 - وبيان من عليه البذر منعاً للمنازعة، وإعلاماً للمعقود عليه: وهو منافع الأرض أو منافع العامل 7 - وبيان نصيب كل من العاقدين (2) سواء من قدم البذر أو من لم يقدمه 8 - وبيان جنس البِذْر ليصير الأجر معلوماً؛ لأن الأجر جزء من الناتج، فلا بد من بيانه، ليعلم أن الناتج من أي نوع؛ لأنه ربما يعطي بذاراً لا يحصل الناتج به إلا بعمل كثير. والاستحسان: أن بيان ما يزرع في الأرض ليس بشرط.
والخلاصة: لا يشترط تقدير المدة في المفتى به عند الحنفية وظاهر كلام أحمد، ويشترط كون المدة معلومة غير مجهولة في رأي المالكية والشافعية.
_________
(1) الدر المختار: 193/ 5.
(2) المذكور في الهداية: بيان نصيب من لا بذر من قبله، لأنه يستحق عوضاً بالشرط، فلا بد من أن يكون معلوماً، وما لا يعلم لا يستحق شرطاً بالعقد. لكن قال قاضي زاده معلقاً عليه: لا شك أن بيان نصيب كل من المتعاقدين مما لا بد منه في عقد المزارعة، فعدُّ بيان نصيب من لا بذر من قبله، من الشرائط دون بيان نصيب الآخر، مما لا يجدي كبير طائل. فتأمل (تكملة الفتح: 34/ 8).

(6/4690)


شروط المزارعة عند المالكية (1):
اشترط المالكية ثلاثة شروط للمزارعة:
1 - السلامة من كراء الأرض بأجر ممنوع كراؤها به، بألا تقع الأرض أو بعضها في مقابلة بذر، أو طعام ولو لم تنبته الأرض كعسل، أو ما تنبته ولو غير طعام كقطن وكتان، إلا الخشب، أي إنه لا بد لصحة المزارعة من كرائها بذهب أو فضة أو عرض تجاري أو حيوان. ولا بد من كون البذر من صاحب الأرض والعامل معاً، فلو كان البذر من أحدهما والأرض للآخر، فسدت المزارعة.
وسبب اشتراط هذا الشرط: ورود النهي في السنة عن كراء الأرض بما يخرج منها (2). فلا تصح في مقابل جزء من الخارج.
2 - تكافؤ الشريكين أو تساويهما فيما يخرجان أو يقدمان: بأن يقابل أجرَ الأرض مساوٍ غير بذر كعمل حيوان ونحوه، وعلى قدر الربح الواقع بينهما، كأن تكون أجرة الأرض مئة، وما يقابلها من تقديم حيوان وعمل سوى البذر مئة، والربح بينهما مناصفة، فتصح وإلا فسدت. ويجوز لأحدهما التبرع للآخر بالزيادة من عمل أو ربح، بعد لزوم الشركة.
3 - تماثل البذرين المقدمين من كليهما نوعاً كقمح أو شعير أو فول. فإن اختلف بذر أحدهما عن الآخر، كأن أخرج أحدهما من البذر غير ما أخرجه الآخر، فسدت المزارعة، ولكل ما أنبته بذره.
_________
(1) الشرح الكبير: 372/ 3 وما بعدها، الشرح الصغير: 494/ 3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص280.
(2) رواه أحمد والبخاري والنسائي من حديث رافع بن خديج (نيل الأوطار: 275/ 5).

(6/4691)


ومذهب مالك وابن القاسم، وهو الراجح الذي به الفتوى: أنه لا يشترط -كما في شركة الأموال- خلط البذرين حقيقة ولا حكماً، بل إذا خرج كل منهما ببذره وكان بذر كل منهما مستقلاً عن الآخر، فالشركة صحيحة.
وبه يتبين أن المالكية يشترطون تقديم البذر من كلا العاقدين، وتساويهما فيه نوعاً، وتماثلهما في الربح وفيما يقدم كل منهما من شيء عيني كالأرض، وما يقابلها من منفعة حيوان وعمل، وألا تكون المزارعة بجزء ناتج من الأرض، وإنما بعوض آخر غير محصول الأرض. ويلاحظ أن هذه الشروط شديدة لا تنطبق مع واقع المزارعة القائم.

أما الشافعية (1): فلم يشترطوا في المزارعة التي تصح تبعاً للمساقاة أن يتساوى العاقدان في الجزء المشروط من الثمر والزرع، فيصح أن يشرط للعامل نصف الثمر، وربع الزرع مثلاً. كذلك حددوا محل منع كراء الأرض بما يخرج منها بما إذا كان المشروط من خصوص بقعة معينة. وقالوا: إن المزارعة: هي عمل الأرض بما يخرج منها، والبذر من المالك.
وأما الحنابلة (2): فأجازوا المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، ولم يشترطوا تساوي العاقدين في الناتج. واشترطوا كالشافعية في ظاهر المذهب كون البذر من المالك رب الأرض، وروي عن أحمد ما يدل على أن البذر يجوز أن يكون من العامل. واشترطوا بيان نصيب كل واحد من العاقدين، فإن جهل النصيب فسدت المزارعة، كما اشترطوا أيضاً معرفة جنس البذر وقدره؛ لأن المزارعة معاقدة على عمل، فلم تجز على غير معلوم الجنس والقدر، كالإجارة.
_________
(1) مغني المحتاج: 323/ 2 - 325.
(2) المغني: 382/ 5، 388، 392، كشاف القناع: 533/ 3.

(6/4692)


والخلاصة: يجوز تقديم البذر من أحد العاقدين عند الحنفية، ويشترط تقديمه من كلا العاقدين عند المالكية، ويكون البذر من صاحب الأرض والعمل من العامل في رأي الشافعية والحنابلة.

المبحث الثالث ـ أحوال المزارعة:
للمزارعة عند الصاحبين أربعة أحوال، تصح في ثلاثة، وتبطل في واحد (1).
الأولى: أن تكون الأرض والبذر من واحد، والعمل والحيوان واسطة الزراعة من آخر: تجوز المزارعة، وصار صاحب الأرض والبذر مستأجراً للعامل، والحيوان المستخدم للحراثة تبعاً له؛ لأن الحيوان آلة العمل.
الثانية: أن تكون الأرض لواحد، والحيوان والبذر والعمل لواحد: جازت المزارعة أيضاً، وصار العامل مستأجراً للأرض ببعض الخارج الناتج.
الثالثة: أن تكون الأرض والحيوان والبذر لواحد، والعمل لواحد: جازت أيضاً، وصار رب الأرض مستأجراً للعامل ببعض الخارج (2).
الرابعة: إذا كانت الأرض والحيوان لواحد، والبذر والعمل لآخر: فهي فاسدة، في ظاهر الرواية، لأنه لو قدر العقد إجارة للأرض، فاشتراط الحيوان على صاحبها، مفسد للإجارة؛ إذ لا يمكن جعل الحيوان تبعاً للأرض، لاختلاف
_________
(1) البدائع: 179/ 6 ومابعدها، تكملة الفتح: 35/ 8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 281/ 5 ومابعدها، الدر المختار: 195/ 5 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 229/ 2 وما بعدها.
(2) قد نظم بعضهم الصور الثلاث الجائزة في بيت، فقال:
أرض وبذر، كذا أرض، كذا عمل ..... من واحد، ذي ثلاث كلها قبلت

(6/4693)


المنفعة، أي إن منفعة الحيوان ليست من جنس منفعة الأرض؛ لأن الأرض للنماء والإنبات، والحيوان للعمل وشق الأرض.
ولوقدر العقد إجارة للعامل، فاشتراط البذر عليه مفسد؛ لأنه ليس تبعاً له.
وعليه تفسد المزارعة إذا اشترطت الآلة أو الحيوان أو العمل على صاحب الأرض، كما تفسد إذا اشترط الخارج كله لأحد العاقدين، أو اشترط الحصاد والدياس أو الحمل والحفظ على العامل المزارع؛ لأنه لا يتعلق به صلاح الزرع.

المبحث الرابع ـ حكم المزارعة الصحيحة والفاسدة:
أولاً ـ حكم المزارعة الصحيحة عند الحنفية: للمزارعة الصحيحة عند الحنفية (1) أحكام هي ما يأتي:
1 - كل ما كان من عمل المزارعة مما يحتاج الزرع إليه لإصلاحه، كنفقة البذر ومؤنة الحفظ، فعلى المزارع، لأن العقد تناوله.
2 - كل ما كان نفقة على الزرع، كالسماد وقلع الأعشاب والحصاد والدياس، فعلى العاقدين على قدر نصيبهما من الناتج.
وقال المالكية: على العامل بعد الحرث والزرع ما يحتاج الزرع إليه من خدمة وسقي وتنقية وحصاد ونقله إلى الأندر (البيدر) ودراسته فيه، وتصفيته إلى أن يصير حباً مصفى، فيقسمانه على الكيل (2).
_________
(1) البدائع: 181/ 6 وما بعدها، تكملة الفتح: 39/ 8، تبيين الحقائق: 282/ 5، الكتاب مع اللباب: 231/ 2 وما بعدها، الدر المختار: 199/ 5.
(2) التاج والإكليل: 177/ 3.

(6/4694)


3 - الناتج من الأرض يقسم بين العاقدين بحسب الشرط المتفق عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» (1). فإن لم تخرج الأرض شيئاً، فلا شيء لواحد من العاقدين على الآخر، أما إنه لا شيء للعامل، فلأنه مستأجر ببعض الخارج الناتج، ولم يوجد. هذا بخلاف المزارعة الفاسدة: يجب للعامل أجر المثل إن لم تخرج الأرض شيئاً. والفرق أن الواجب في العقد الصحيح هو المسمى وهو بعض الخارج، فإذا لم يوجد لم يجب شيء. وأما الواجب في المزارعة الفاسدة فهو أجر مثل العمل في الذمة لا في الخارج، فعدم الخارج لا يمنع وجوبه في الذمة.
4 - عقد المزارعة كما تقدم في صفته غير لازم عند الحنابلة، ويلزم بالبذر عند المالكية، وقال الحنفية: هو عقد غير لازم في جانب صاحب البذر لازم في جانب العاقد الآخر. ولا يجوز له فسخ المزارعة إلا بعذر كما سيأتي. فإذا امتنع صاحب البذر من العمل، لم يجبر عليه. وإن امتنع الذي ليس من قبله البذر، أجبره الحاكم على العمل؛ لأنه لا يلحقه بالعقد ضرر، والعقد لازم بمنزلة الإجارة إلا إذا كان هناك عذر تفسخ به الإجارة، فتفسخ به المزارعة. وسبب التفرقة بين العاقدين: أن صاحب البذر لا يمكنه تنفيذ العقد إلا بإتلاف ملكه وهو البذر، في التراب، فلا يكون الشروع فيه ملزماً في حقه، إذ لا يجبر الإنسان على إتلاف ملكه، أما العاقد الآخر فليس من قبله إتلاف ملكه، فكان الشروع في حقه ملزماً.
5 - الكراب (الحراثة) والسقي: إن تم الإتفاق عليه أو الاشتراط يجب الوفاء به على من شرط عليه. وإن لم يتفق عليه يجبر عليه العاقد بحسب الزراعة المعتادة. فإن كانت الأرض تسقى بماء السماء لا يجبر أحد على السقي، وإلا فعلى
_________
(1) رواه الحاكم عن أنس وعائشة، وهو حديث صحيح. ورواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة بلفظ: «المسلمون على شروطهم» وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن عوف باللفظ الأخير (نصب الراية: 112/ 4، الجامع الصغير).

(6/4695)


النحو المعتاد. فإذا قصر المزارع في عقد المزارعة الصحيحة في سقي الأرض حتى هلك الزرع بهذا السبب يضمن لوجوب العمل عليه فيها، ويضمن ضمان الأمانات بالتقصير؛ لأن الأرض في يده أمانة. ولا يضمن في المزارعة الفاسدة.
6 - تجوز الزيادة على الشرط المذكور من الخارج الناتج، والحط عنه، والقاعدة فيه: هي أنه كلما احتمل إنشاء العقد عليه، احتمل الزيادة، وما لا فلا، والحط جائز في الحالتين جميعاً، كالزيادة في الثمن في عقد البيع.
فلو زاد العامل المزارع في حصة صاحب الأرض بعد الحصاد، وكان البذر منه أي من العامل، لم يجز؛ لأن الزيادة على الأجرة تمت بعد انتهاء عمل المزارعة واستيفاء المعقود عليه وهو المنفعة، وهو لا يجوز، إذ لو أنشأ العقد بعد الحصاد، لايجوز، فلا تجوز الزيادة.
وإن كانت الزيادة للمزارع في هذه الحالة من صاحب الأرض، جازت؛ لأنها حط من الأجرة المستحقة له، وهو لا يتطلب قيام المعقود عليه.
فإن كان البذر من صاحب الأرض، فزاد في حصة المزارع بعد الحصاد، فالحكم أنه لا تجوز الزيادة من المالك؛ لأنها تمت بعد استيفاء المعقود عليه، وتجوز الزيادة من المزارع؛ لأنها حط من الأجرة المستحقة له.
أما إن حدثت الزيادة من كل واحد من العاقدين، قبل الحصاد، فيجوز.
7 - لو مات أحد المتعاقدين قبل إدراك الزرع، ترك إلى الإدراك، ولا شيء على المزارع لبقاء عقد الإجارة ههنا ببقاء المدة.
والخلاصة: يلتزم صاحب الأرض بالتزامين: تسليم الأرض مع حقوقها الارتفاقية، وإصلاح الأدوات الزراعية، ويلتزم العامل المزارع بالتزامين آخرين في

(6/4696)


مواجهة التزامي المالك، وهما العناية بالزراعة وتحمل نفقاتها المعتادة وأعمالها المعروفة، من حراثة وعزق وسقي ونحو ذلك، والمحافظة على الأرض، وصيانة الزرع.

حكم المزارعة عند الشافعية: عرفنا أنه لا تجوز المزارعة (البذر من المالك) عند الشافعية إلا تبعاً للمساقاة. ولا يجوز أن يخابر الشخص (البذر من العامل) تبعاً للمساقاة.
فإن أفردت أرض بالمزارعة، فالغلة للمالك، لأنها نماء ملكه، وعليه للعامل أجرة مثل عمله ودوابه وآلاته.
وطريق جعل الغلة للطرفين العاقدين، ولا أجرة لأحدهما على الآخر، يحصل بصورتين إذا كان البذر من المالك:
إحداهما: أن يستأجر المالك العامل بنصف البذر شائعاً كنصفه أو ربعه مثلاً، أي استئجاراً على الشيوع ليزرع له النصف الآخر في الأرض، ويعيره في الوقت نفسه نصف الأرض شائعاً، فيقوم العامل بالعمل في الأرض، ويقسم الحاصل أو الناتج بينهما بنسبة ما ملك كل منهما من البذر. وهذه إجارة وإعارة.
الثانية: أن يستأجر المالك العامل بنصف البذر شائعاً، ونصف منفعة الأرض شائعاً أيضاً، ليزرع له النصف الآخر من البذر، في النصف الآخر من الأرض.
فيكون الطرفان شريكين في الزرع على المناصفة، ولا أجرة لأحدهما على الآخر؛ لأن العامل يستحق في منفعة الأرض بقدر نصيبه من الزرع، والمالك يستحق من منفعة الأرض بقدر نصيبه من الزرع (1). وهذه إجارة.
_________
(1) مغني المحتاج: 325/ 2.

(6/4697)


فإن كان البذر من العامل: استأجر من المالك جزءاً شائعاً معيناً من الأرض كالنصف بنصف شائع من البذر وبعمله في النصف الآخر منها، أو يستأجر نصف الأرض بنصف البذر، ويتبرع بالعمل في النصف الآخر. فيملك كل منهما من الغلة بنسبة ما ملك من البذر ومنفعة الأرض.

ثانياً ـ حكم المزارعة الفاسدة عند الحنفية: للمزارعة الفاسدة أيضاً أحكام (1).
1 - لا يجب على المزارع شيء من أعمال المزارعة؛ لأن إيجابه بالعقد، وهو لم يصح.
2 - الخارج الناتج كله لصاحب البذر، سواء أكان رب الأرض أم المزارع؛ لأن الخارج استحقه بسبب كونه نماء ملكه، لا بالشرط. ويتفق المالكية والحنابلة (2) مع الحنفية في هذا الحكم، وهو أن العقد إذا فسد لزم كون الزرع لصاحب البذر.
3 - إذا كان البذر من صاحب الأرض، استحق المزارع بسبب فساد المزارعة أجر مثل عمله. وإذا كان البذر من العامل، كان عليه لصاحب الأرض أجر مثل أرضه؛ لأن العقد في الحالتين يكون استئجاراً.
وفي الحالة الأولى يطيب الخارج كله لصاحب الأرض؛ لأنه نماء ملكه، وهو البذر في ملكه وهو الأرض. وفي الحالة الثانية: لا يطيب كل الخارج للمز ارع، وإنما يأخذ منه قدر بذره وقدر أجر مثل الأرض، ويتصدق بالفضل الزائد.
_________
(1) البدائع: 182/ 6 وما بعدها، تكملة الفتح: 39/ 8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 282/ 5، الدر المختار: 196/ 5، الكتاب مع اللباب: 231/ 2.
(2) الشرح الصغير: 498/ 3، المغني: 392/ 5.

(6/4698)


4 - يجب أجر المثل في المزارعة الفاسدة، وإن لم تخرج الأرض شيئاً، بعد أن استعملها المزارع؛ لأن المزارعة عقد إجارة، والأجرة في الإجارة الفاسدة لاتجب إلا بحقيقة الاستعمال، أما في المزارعة الصحيحة فلا يجب شيء على أحدهما إذا لم تخرج الأرض شيئاً. وقد بينت الفرق في أحكام المزارعة الصحيحة رقم (3).
5 - يجب أجر المثل في المزارعة الفاسدة مقدراً بالمسمى عند أبي حنيفة وأبي يوسف، عملاً برضا الطرفين ورعاية للجانبين بالقدر الممكن، وقد رضي العامل سلفاً بسقوط الزيادة.
وعند محمد: يجب أجر المثل تاماً مهما بلغ، إذ هو قدر قيمة المنافع المستوفاة، وقد استوفى منافعه بعقد فاسد، فيجب عليه قيمتها، إذ لا مثل لها.
حكم المزارعة الفاسدة عند المالكية: إذا وقع عقد المزارعة فاسداً، وعرف فساده قبل الشروع في العمل، وجب فسخه، فإن عرف بعد الشروع فيه، فلا يفسخ، ويكون الزرع بين الشريكين بحسب ما لكل من الأرض والعمل والبذر، إلا أن ينفرد أحدهما باثنين منها، فله جميع الزرع، وللآخر أجرة ما انفرد به إن كان أرضاً أو عملاً، ومثله إن كان بذراً (1).

المبحث الخامس ـ انتهاء المزارعة وحالات فسخها:
قد تنقضي المزارعة بتحقق المقصود منها، وقد تنتهي بإنهائها قبل تحقق المقصود منها، وذلك في الأحوال التالية عند الحنفية:
_________
(1) شرح مجموع الأمير: 178/ 2، التقنين المالكي (م 464) القوانين الفقهية: ص 281.

(6/4699)


1 - انقضاء مدة المزارعة: تنتهي المزارعة بانقضاء مدة العقد، فإذا انقضت المدة، فقد انتهى العقد، وهو معنى انفساخ العقد (1).
لكن إذا انتهت المدة، وأدرك الزرع، وقسم المتعاقدان الناتج بحسب الاتفاق أو الاشتراط بينهما، لم يحدث إشكال، وينتهي العقد حينئذ.
أما إذا انتهت المدة المقررة في العقد أو انقضت مدة المزارعة، والزرع لم يدرك بعد، استمر المزارع في عمله، حتى يدرك الزرع ويستحصد، رعاية لمصلحة الجانبين، بقدر الإمكان، كما في الإجارة.
وعلى العامل في هذه الحالة أجر مثل نصيبه من الأرض، إلى أن يستحصد الزرع، كما في الإجارة، لأنه استوفى منفعة بعض الأرض لتربية حصته فيها إلى وقت الحصاد.
وتكون نفقة الزرع ومؤنة الحفظ وكري الأنهار حينئذ، على المتعاقدين بمقدار حصصهما، لانتهاء العقد بانقضاء المدة، وكانت هذه الأمور على العامل أثناء بقاء مدة العقد، فإذا انتهى العقد، وجبت هذه النفقات عليهما؛ لأن الزرع مال مشترك بينهما.
وهذا بخلاف ما لو مات أحد العاقدين قبل إدراك الزرع، يترك الزرع في مكانه إلى أن يدرك ويكون العمل ونفقاته على العامل؛ لأن الحنفية قرروا حينئذ بقاء عقد الإجارة استحساناً، لبقاء مدة الإجارة، فيستمر العامل أو وارثه على ما كان عليه من العمل. أما في حال انقضاء المدة فلا يمكن إبقاء العقد لانقضاء المدة.
_________
(1) البدائع: 184/ 6، تكملة الفتح: 43/ 8، الكتاب مع اللباب: 232/ 2، الدر المختار ورد المحتار: 197/ 5.

(6/4700)


2 - موت أحد العاقدين: تنتهى المزارعة أو تنفسخ بموت أحد العاقدين (1)، كما تنفسخ الإجارة به، سواء حدث الموت قبل الزراعة أم بعدها، وسواء أدرك الزرع أم لم يدرك بأن كان بقلاً أي طرياً. وهذا رأي الحنفية والحنابلة، وقال المالكية والشافعية: لا تنقضي المزارعة كالإجارة بموت أحد العاقدين.
لكن لو مات رب الأرض، والزرع لم يدرك، فإن العامل أو وارثه يظل ملزماً بالعمل؛ لأن العقد يوجب على العامل عملاً يحتاج إليه الزرع إلى انتهاء أو نضوج الزرع، ويبقى العقد كما تقدم للضرورة استحساناً لانتهاء الزرع إذا مات أحد العاقدين، وقد نبت الزرع، ويبقى الزرع إلى الحصاد، ولا يلزم العامل بأجر للأرض، ثم ينتقض العقد فيما بقي من السنين في مدة العقد، لعدم الضرورة؛ لأن في بقاء العقد حتى يستحصد الزرع مراعاة لمصلحة طرفي العقد، فيعمل العامل أو ورثته على النحو المتفق عليه.

3 - فسخ العقد بالعذر:
إذا حدث فسخ العقد قبل اللزوم، انتهت المزارعة. ومن المقرر عند الحنفية: أن الملتزم بالبذر لا يلتزم بالمزارعة بمجرد العقد. وعند المالكية: لا تلزم المزارعة إلا بشروع العامل في العمل، فما لم يشرع في عمل المزارعة، له فسخ العقد.
ويجوز عند الحنفية فسخ المزارعة بعد لزومها لعذر من الأعذار، سواء من قبل صاحب الأرض، أم من قبل العامل، ومن الأعذار ما يأتي (2):
_________
(1) البدائع: 184/ 6 وما بعدها، تكملة الفتح: 42/ 8، الكتاب: 232/ 2، الدر المختار ورد المحتار: 198/ 5، تبيين الحقائق: 282/ 5، المغني والشرح الكبير: 568/ 5، 572.
(2) البدائع: 183/ 6 وما بعدها، تكملة الفتح والعناية: 42/ 8، الدر المختار ورد المحتار: 196/ 5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 282/ 5، الكتاب مع اللباب: 232/ 2.

(6/4701)


1) ـ لحوق دين فادح لصاحب الأرض، فيحتاج لبيع الأرض التي تم الاتفاق على مزارعتها، ولا مال له سواها، فيجوز بيعها بسبب هذا الدين الفادح، ويفسخ العقد بهذا العذر، كما في عقد الإجارة؛ لأنه لا يمكن المضي في العقد إلا بضرر يلحقه، فلا يلزمه تحمل الضرر، فيبيع القاضي الأرض بدين صاحبها أولاً، ثم يفسخ المزارعة. ولا تنفسخ بنفس العذر.
هذا .. إن أمكن الفسخ بأن كان قبل الزراعة، أو بعدها إذا أدرك الزرع، وبلغ مبلغ الحصاد. فإن لم يمكن الفسخ، بأن كان الزرع لم يدرك، ولم يبلغ مبلغ الحصاد، لا تباع الأرض في الدين، ولا يفسخ إلى أن يدرك الزرع؛ لأن في البيع إبطال حق العامل، وفي الانتظار إلى وقت إدراك الزرع تأخير حق صاحب الدين، فيؤخر البيع، رعاية لمصلحة الجانبين، لأنه الطريق الأولى.
ثم هناك عند الحنفية ـ من أجل التعويض على العامل قضاءً ـ صور ثلاث للفسخ بعد عقد المزارعة وعمل العامل:
الأولى ـ إذا فسخ العقد، بعدما كَرَب (حرث) المزارع الأرض، وحفر الأنهار، فليس للعامل شيء مقابل عمله؛ لأن أعماله منافع لا تتقوم على صاحب الأرض إلا بالعقد، والعقد إنما قوم بالخارج الناتج، ولم يخرج، لكن يجب استرضاء العامل ديانة فيما بينه وبين الله تعالى.
الثانية ـ إذا كان الزرع قد نبت، ولم يستحصد بعد، لم تبع الأرض بالدين، حتى يحصد الزرع؛ لأن في البيع إبطال حق المزارع، وتأخير تسديد الدين أهون من الإبطال، فيؤخر كما تقدم.
الثالثة ـ إذا أريد فسخ عقد المزارعة، بعد ما زرع العامل الأرض، إلا أنه لم ينبت الزرع، حتى لحق صاحب الأرض دين فادح، فهل له أن يبيع الأرض؟ فيه

(6/4702)


اختلاف عند مشايخ الحنفية: قال بعضهم: له البيع، لأنه ليس لصاحب البذر في الأرض عين مال قائم، لأن البذر استهلاك والمستهلك ليس بمال، فتباع الأرض في الحال. وقال بعضهم: ليس له البيع، لأن البذر استنماء مال، وليس باستهلاك، فكان للمزارع عين مال قائم، فلا تباع الأرض حتى الحصاد، كما لا تباع بعد نبات الزرع، ولعل هذا اختيار صاحب الهداية.
2) ـ طروء أعذار للمزارع، مثل المرض؛ لأنه معجز عن العمل، والسفر، لأنه يحتاج إليه، وترك حرفة إلى حرفة، طلباً للكسب الذي يوفر المعيشة، والمانع الذي يمنع من العمل كالتطوع للجهاد في سبيل الله، كما في الإجارة، والخيانة بالسرقة ونحوها.
وهل يحتاج الفسخ لقضاء القاضي، أو أنه يصح بالتراضي؟ هناك روايتان عند الحنفية: في رواية: لا بد لصحة الفسخ من القضاء أو الرضا، لأن المزارعة كالإجارة، ولا بد فيها لصحة الفسخ من القضاء أو الرضا. والرواية الراجحة: يجوز فسخ المزارعة، ولو بلا قضاء ورضا.

العقد الثاني ـ المساقاة أو المعاملة:
تعريفها ومشروعيتها وركنها، وموردها، والفرق بينها وبين المزارعة، وشرائطها، وحكم المساقاة الصحيحة والفاسدة، وانتهاء المساقاة.

المبحث الأول ـ تعريف المساقاة ومشروعيتها وركنها وموردها، والفرق بينها وبين المزارعة

(6/4703)


: أولاً ـ تعريف المساقاة: المساقاة لغة: مفاعلة من السقي. وتسمى عند أهل المدينة المعاملة: مفاعلة من العمل. ويفضل اسم المساقاة لما فيها من السقي غالباً. وشرعاً: هي معاقدة دفع الأشجار إلى من يعمل فيها على أن الثمرة بينهما. أو هي عبارة عن العقد على العمل ببعض الخارج. وبعبارة أخرى: هي دفع الشجر إلى من يصلحه بجزء معلوم من ثمره. وهي عند الشافعية: أن يعامل غيره على نخل أو شجر عنب فقط، ليتعهده بالسقي والتربية على أن الثمرة لهما (1).
ثانياً ـ مشروعيتها: المساقاة عند الحنفية كالمزارعة حكماً وخلافاً وشروطاً ممكنة فيها، فلا تجوز عند أبي حنيفة وزفر، فالمساقاة بجزء من الثمر باطلة عندهما، لأنها استئجار ببعض الخارج، وهو منهي عنه. قال عليه الصلاة والسلام: «من كانت له أرض، فليزرعها، ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى» (2).
وقال الصاحبان وجمهور العلماء (منهم مالك والشافعي وأحمد): تجوز المساقاة بشروط، استدلالاً بمعاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر، روي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع» رواه الجماعة، ولحاجة الناس إليها؛ لأن مالك الأشجار قد لا يحسن تعهدها، أو لا يتفرغ له، ومن يحسن ويتفرغ قد لا يملك الأشجار، فيحتاج الأول للعامل، ويحتاج العامل للعمل.
والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين، لعمل النبي صلّى الله عليه وسلم وأزواجه والخلفاء
_________
(1) تبيين الحقائق: 284/ 5، البدائع: 185/ 6، الدر المختار: 200/ 5، اللباب: 233/ 2، القوانين الفقهية: ص 279، مغني المحتاج: 322/ 2، كشاف القناع: 523/ 3.
(2) متفق عليه من حديث رافع بن خديج لكنه حديث مضطرب جداً (المغني: 383/ 5، 385).

(6/4704)


الراشدين وأهل المدينة، وإجماع الصحابة على إباحة المساقاة (1). قال ابن جُزَي المالكي: وهي جائزة مستثناة من أصلين ممنوعين، وهما الإجارة المجهولة، وبيع ما لم يخلق (2).

ثالثاً ـ ركنها: ركن المساقاة عند الحنفية: الإيجاب والقبول، كالمزارعة. الإيجاب من صاحب الشجر، والقبول من العامل أو المزارع. والمعقود عليه: هو عمل العامل فقط دون تردد، بخلاف المزارعة. وتلزم عند المالكية باللفظ لا بالعمل. وذكر الحنابلة أنها كالمزارعة لا تفتقر إلى القبول لفظاً، بل يكفي الشروع في العمل قبولاً، كالوكيل. وقال الشافعية: يشترط فيها القبول لفظاً دون تفصيل الأعمال، ويحمل المطلق في كل ناحية على العرف الغالب (3).
وهي عند الجمهور غير الحنابلة من العقود اللازمة، فليس لأحد العاقدين فسخها بعد العقد، دون الآخر، ما لم يتراضيا عليه (4).

رابعاً ـ موردها: مورد المساقاة عند الحنفية (5): الشجر المثمر، فتصح المساقاة في النخل والشجر والكرم والرطاب (الفصة أو البرسيم) وأصول الباذنجان؛ لأن الجواز للحاجة وهي تعم الجميع، وأجاز متأخرو الحنفية المعاملة على الشجر غير المثمر، كشجر الحور والصفصاف، والشجر المتخذ للحطب، لاحتياجه إلى السقي والحفظ، فلو لم يحتج لا تجوز المساقاة.
_________
(1) المغني: 384/ 5، تكملة الفتح: 45/ 8 وما بعدها، مغني المحتاج: 322/ 2 وما بعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 279، بداية المجتهد: 242/ 2.
(3) البدائع: 185/ 6، كشاف القناع: 528/ 3، بداية المجتهد: 247/ 1، الشرح الصغير: 712/ 3، مغني المحتاج: /328.
(4) الشرح الصغير: وحاشية الصاوي عليه: 713/ 3، تبيين الحقائق: 284/ 5، مغني المحتاج: 328/ 2، المغني: 372/ 5 وما بعدها.
(5) البدائع: 186/ 6، تكملة الفتح: 47/ 8، الدر المختار ورد المحتار: 200/ 5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 284/ 5، اللباب: 234/ 2.

(6/4705)


ومورد المساقاة عند المالكية (1): على الزروع كالحمص والفاصولياء، وعلى الأشجار المثمرة ذات الأصول الثابتة، مثل كرم العنب والنخيل والتفاح والرمان ونحوها بشرطين: أحدهما ـ أن تعقد المساقاة قبل بدو صلاح الثمرة، وجواز بيعها، وبشرط ألا يخلف، فإن كان يخلف كالموز والتين، فلا تصح فيه مساقاة إلا تبعاً لغيره.
الثاني ـ أن تعقد إلى أجل معلوم، ولو لسنين، وتكره فيما طال من السنين. ولا تجوز المساقاة لمدة من السنين كثيرة جداً، وهي المدة التي تتغير فيها الأصول عادة بحسب اختلاف الأشجار والأمكنة، لما في ذلك من الضرر قياساً على الإجارة، كما لا تجوز إذا اختلف الجزء المساقى به المجعول للعامل في السنين، بأن كان في سنة يخالف غيره في أخرى.
ويشترط لصحتها عند ابن القاسم أن تكون بلفظ المساقاة، ولا تنعقد بلفظ الإجارة، وتجوز عنده فيما ليس له أصل ثابت كالمقاثي من نحو قثاء وبطيخ، والزرع، بأربعة شروط: (الشرطان المذكوران).
والثالث ـ أن تعقد بعد ظهوره من الأرض.
والرابع ـ أن يعجز عنه صاحبه.
ويشترط في الجزء المساقى به من الثمر: شيوعه في ثمر البستان، فلا يصح بشجر معين ولا بكيل، كما يشترط علمه كربع أو ثلث أو أقل أو أكثر.
والمساقاة عند الحنابلة (2): ترد على الأشجار المثمرة المأكولة فقط، فلا تصح في الشجر غير المثمر، كالصفصاف والحور والعفص ونحوه، والورد ونحوه.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 279، الشرح الصغير: 713/ 3 - 718، بداية المجتهد: 243/ 2 - 246.
(2) كشاف القناع: 523/ 3.

(6/4706)


وقال الشافعية في المذهب الجديد (1): مورد المساقاة النخل والعنب فقط، أما النخل فلخبر الصحيحين السابق: «أنه صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر» وفي رواية: «دفع إلى يهود خيبر نخلها وأرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» والعنب مثل النخل، لأنه في معناه، بجامع وجوب الزكاة فيهما. وجوزها الشافعي في المذهب القديم في سائر الأشجار المثمرة.

خامساً ـ الفرق بين المساقاة والمزارعة: قال الحنفية: المساقاة كالمزارعة إلا في أربعة أمور (2):
1 - إذا امتنع أحد العاقدين في المساقاة عن تنفيذ العقد، يجبر عليه، إذ لا ضرر عليه في بقاء العقد، بخلاف المزارعة، فإن رب البذر إذا امتنع قبل الإلقاء، لا يجبر عليه، للضرر اللاحق به في الاستمرار، ولأن المساقاة عقد لازم عند الجمهور غير الحنابلة. وأما المزارعة فلا تلزم المتعاقدين إلا بإلقاء البذر. وقال الحنابلة (3): الوكالة والمضاربة والمساقاة والمزارعة والوديعة والجعالة: عقود جائزة من الطرفين، لكل فسخها.
2 - إذا انقضت مدة المساقاة تترك، أي يستمر العقد بلا أجر، ويعمل العامل بلا أجر عليه لصاحب الشجر، فللعامل البقاء في عمله إلى انتهاء الثمرة، لكن بلا أجر عليه؛ لأن الشجر لا يجوز استئجاره عند الحنفية، ولأن العمل كله على العامل. أما في المزارعة فيستمر العامل بأجر مثل نصيبه من الأرض؛ لأن الأرض
_________
(1) مغني المحتاج: 323/ 2، المهذب: 390/ 1.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 201/ 5، تبيين الحقائق: 284/ 5.
(3) غاية المنتهى لابن يوسف الحنبلي: 154/ 3، كشاف القناع: 528/ 3 وما بعدها، المغني: 372/ 5 وما بعدها.

(6/4707)


يجوز استئجارها، والعمل عليها، بحسب الملك في الزرع، فيكون العمل على العامل وعلى صاحب الأرض، وإذا وجب الأجر لرب الأرض على العامل، لم يجب على العامل العمل في نصيب صاحب الأرض بعد انتهاء المدة.
3 - إذا استحق النخيل المثمر لغير رب الأرض، يرجع العامل بأجر مثله؛ لأن أجرته صارت عيناً أي تمثلت بجزء من الشجر، ومتى صارت عيناً واستحقت، رجع بقيمة المنافع. ولا يرجع بشيء إذا لم تخرج النخيل ثمراً. أما في المزارعة: لو استحقت الأرض بعد الزراعة، فيرجع العامل بقيمة حصته من الزرع نابتاً، ولو استحقت الأرض بعد العمل قبل الزراعة لا شيء للمزارع.
4 - ليس بيان المدة في المساقاة بشرط استحساناً، اكتفاء بعلم وقتها عادة؛ لأن لإدراك الثمرة وقتاً معلوماً قلما يتفاوت، بخلاف الزرع، قد يتقدم الحصاد، وقد يتأخر بحسب التبكير أو التأخر في إلقاء البذر.
أما في المزارعة فيشترط تعيين المدة في أصل المذهب، لكن المفتى به ـ كما تقدم ـ أنه لا يشترط.
وتعتبر المساقاة والمزارعة عند الحنفية والشافعية إجارة ابتداء، شركة انتهاء. وألحق الحنابلة المساقاة بالمضاربة (1).

المبحث الثاني ـ شروط المساقاة:
يشترط في المساقاة ما يمكن من شروط المزارعة، فلا يشترط في المساقاة بيان جنس البذر، وبيان صاحبه، وصلاحية الأرض للزراعة، وبيان المدة.
_________
(1) كشاف القناع: 529/ 3.

(6/4708)


وبقي من شروط المزارعة الثمانية الممكنة في المساقاة: أهلية العاقدين، وبيان حصة العامل، والتخلية بينه وبين الأشجار، والشركة في الخارج الناتج، ويدخل في الأخير: كون الجزء المشروط للعامل جزءاً مشاعاً (1).
ويمكن توضيح شروط المساقاة فيما يأتي (2):
1 - أهلية العاقدين: بأن يكونا عاقلين، فلا يجوز عقد من لا يعقل، وهو غير المميز. أما البلوغ فليس بشرط عند الحنفية، وشرط عند بقية الأئمة.
2 - محل العقد: أن يكون من الشجر الذي فيه ثمرة. وقد بينت في بحث مورد المساقاة الخلاف فيه. وأن يكون محل العمل وهو الشجر معلوماً.
3 - التسليم إلى العامل: وهو التخلية بين العامل وبين الشجر المعقود عليه. فلو شرط العمل على العاقدين، فسدت المساقاة، لعدم التخلية.
4 - أن يكون الناتج شركة بين الاثنين، وأن تكون حصة كل واحد منهما جزءاً مشاعاً معلوم القدر، فلو شرط أن يكون الناتج لأحدهما فسدت المساقاة، ولو شرط جزء معين لأحدهما، أو جهل مقدار الحصص فسدت المساقاة أيضاً.
ولا يشترط عند الحنفية بيان مدة المساقاة استحساناً، عملاً بالمتعارف المتعامل به، وتقع المساقاة على أول ثمر يخرج في أول السنة. وفي الرِّطاب (الفصة أو البرسيم) عند الحنفية تقع المساقاة على الجزة الأولى، كما في الشجرة المثمرة، فإن لم يخرج في تلك السنة ثمرة، فسدت المساقاة.
ولو ذكرت مدة لا تخرج الثمرة فيها عادة، فسدت المساقاة أيضاً، لفوات
_________
(1) رد المحتار: 201/ 5.
(2) البدائع: 185/ 6 ومابعدها، تكملة الفتح: 47/ 8، تبيين الحقائق: 284/ 5.

(6/4709)


المقصود منها وهو الشركة في الثمار، أما إن كان العقد صحيحاً، ولم تثمر الشجرة أصلاً في المدة المتفق عليها، فلا شيء لأحد العاقدين على صاحبه، ويبقى العقد صحيحاً.
ولو ذكرت مدة يحتمل فيها بلوغ الثمرة وعدمه، صح العقد، لعدم التيقن بفوات المقصود. فلو ظهرت الثمرة في الوقت المتفق عليه، قسمت بحسب الشرط المتفق عليه في العقد، وإن لم تظهر في الوقت المسمى، فسدت المساقاة، وللعامل أجر المثل لفساد العقد؛ لأنه تبين الخطأ في المدة المسماة.
أما شروط المساقاة عند المالكية فقد ذكرت في بحث مورد المساقاة المتقدم، والمفهوم منها أنه يشترط عندهم كون المساقاة لمدة معلومة كالإجارة.

أركان المساقاة عند الجمهور:
ذكر الشافعية ومثلهم الحنابلة والمالكية للمساقاة أركاناً خمسة: وهي العاقدان ومورد العمل، والثمار، والعمل، والصيغة (1).

أما الركن الأول (العاقدان): فيصح من جائز التصرف لنفسه (عاقل بالغ)؛ لأن المساقاة عقد معاوضة أو معاملة على مال، كالمضاربة، فيطلب فيها الأهلية كالبيع. ويمارس الولي عن الصبي والمجنون والسفيه هذا العقد، بالولاية عليهم، عند المصلحة، للاحتياج إليه.
والركن الثاني ـ مورد المساقاة: أي ما ترد صيغة عقد المساقاة عليه. هو عند الشافعية: النخل والعنب، وعند الحنابلة: ما له ثمر مأكول من الشجر، المغروس
_________
(1) مغني المحتاج: 323/ 2 - 328، المهذب: 390/ 1 - 392، كشاف القناع: 523/ 3 - 529، غاية المنتهى: 183/ 2 - 185، المغني: 368/ 5، 372 ومابعدها، 375، 380.

(6/4710)


المعلوم بالمشاهدة لمن يعمل عليه، ويقوم بمصلحته بجزء مشاع معلوم من ثمرته، كما تبين في بحث موردها. ولا تجوز المساقاة إلا على شجر معلوم، فإن كان مجهولاً، لم يصح العقد.

والركن الثالث ـ وهو الثمار: يشترط فيه تخصيص الثمر بالعاقدين (المالك والعامل)، فلا يجوز شرط بعضه لغيرهما. ويشترط اشتراكهما فيه، فلا يجوز شرط كل الثمرة لأحدهما، ويشترط العلم بالنصيبين (الحصص) بالجزئية، وإن قل، أي كون الحصة مشاعة كالمضاربة.
والأظهر عند الشافعية، وهو مذهب الحنابلة: صحة المساقاة بعد ظهور الثمر، لكن قبل بدو الصلاح، فإن ساقاه على صغار النخل مثلاً ليغرسها، ويكون الشجر لهما، لم يجز، إذ لم ترد المساقاة إلا على أصل ثابت، ولأن الغرس ليس من أعمال المساقاة.
فلو كان الشجر مغروساً، وشرط المالك للعامل جزءاً من الثمر على العمل، فإن قدر له مدة يثمر فيها غالباً كخمس سنين، صح العقد، ولايضر كون أكثر المدة لا ثمر فيها، كما لو ساقاه خمس سنين، والثمرة يغلب وجودها في الخامسة خاصة. فإن لم يثمر الشجر في تلك المدة، لم يستحق العامل شيئاً، كما لو ساقاه على أشجار النخيل المثمرة، فلم تثمر.
وإن قدر مدة لا يثمر فيه الشجر غالباً لم تصح المساقاة لخلوها عن العوض، كالمساقاة على شجر لا يثمر. وهذا باتفاق المذاهب.

والركن الرابع ـ العمل: يشترط فيه أن ينفرد العامل بالعمل، وباليد أي التخلية والتسليم للعامل، ليتمكن العامل من العمل متى شاء، فلو شرط عمل

(6/4711)


المالك مع العامل، أو كون البستان في يد المالك أو في يدهما معاً، لم يصح العقد، وفسدت المساقاة. ويشترط ألا يشرط على العامل ما ليس من جنس أعمال المساقاة التي اعتادها الناس، كحفر بئر مثلاً، فإن شرطه، لم يصح العقد؛ لأنه استئجار بعوض مجهول، واشتراط عقد في عقد.
ويشترط أيضاً عند الشافعية معرفة العمل بتقدير المدة كسنة أو أكثر، وأقلها مدة تبقى فيها الأشجار غالباً للاستغلال، فلا تصح على مدة مطلقة ولا مؤبدة ولا مدة لا يثمر فيها الشجر غالباً؛ لأن المساقاة عند الشافعية عقد لازم، فيطلب فيها تحديد المدة كالإجارة. فإن كانت المدة لا يثمر فيها الشجر غالباً لم تصح لخلوها عن العوض، كالمساقاة على شجرة لا تثمر. ولا يجوز في الأصح التوقيت بإدراك الثمر، لجهالته بالتقدم تارة، والتأخر أخرى.
ولا يطلب عند الحنابلة تحديد مدة في المساقاة والمزارعة، لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يحدد لأهل خيبر مدة، ومشى خلفاؤه على منهجه من بعده، ولأن المساقاة ومثلها المزارعة عندهم عقد جائز غير لازم كما تقدم، فلكل واحد من العاقدين فسخها متى شاء. واختار ابن قدامة الحنبلي أن المساقاة عقد لازم، فوجب تقديره بمدة كالإجارة. ولا يقدر أكثر المدة، بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها، وإن طالت، وأقل المدة: ما تكمل الثمرة فيها فلا يجوز على أقل منها؛ لأن المقصود الاشتراك في الثمرة، ولا توجد في أقل من هذه المدة.

والركن الخامس ـ الصيغة: مثل ساقيتك على هذا النخل بثلث أو ربع ثمره، أو سلمته إليك لتتعهده، أو اعمل في نخيلي أو تعهد نخيلي بكذا من ثمره. ولو ساقاه عند الشافعية بلفظ الإجارة لم يصح في الأصح؛ لأن لفظ الإجارة صريح في عقد آخر. وتصح عند الحنابلة بلفظ المساقاة والمعاملة والمفالحة، وبلفظ

(6/4712)


الإجارة، كما تصح المزارعة بلفظ الإجارة، أي بإجارة أرض بجزء شائع معلوم، مما يخرج منها، لأن القصد المعنى، فإذا أتى به بأي لفظ دل عليه، صح العقد، كالبيع. وتصح أيضاً بالمعاطاة.
ويشترط عند الشافعية القبول لفظاً من الناطق، للزومها كإجارة وغيرها، وتصح بإشارة الأخرس المفهمة، ككتابته، دون تفصيل الأعمال فيها، فلا يشترط التعرض له في العقد، ويحمل المطلق في كل ناحية على العرف الغالب فيها في العمل، إذ المرجع في مثله إلى العرف.
وقال الحنابلة: لا تفتقر المساقاة (ومثلها المزارعة) إلى القبول لفظاً، بل يكفي الشروع في العمل قبولاً كالوكالة، كما تقدم في بحث صيغة المزارعة.

المبحث الثالث ـ حكم المساقاة الصحيحة والفاسدة: إذا استكملت المساقاة شرائطها، كانت صحيحة، وإذا اختل شرط منها كانت فاسدة.
المطلب الأول ـ حكم المساقاة الصحيحة:
للمساقاة الصحيحة عند الفقهاء أحكام، وأحكامها عند الحنفية ما يأتي (1):
1 - كل ما كان من أعمال المساقاة التي يحتاج إليها الشجر وحقل العنب والرِّطاب وأصول الباذنجان، من السقي وإصلاح النهر، والحفظ والتلقيح، فعلى العامل، لأنها من توابع المعقود عليه.
وكل ما يحتاجه الشجر ونحوه من النفقة كالسرقين وتقليب الأرض، والجذاذ والقطاف، فعلى العاقدين على قدر نصيبهما، لأن العقد لم يشمله.
_________
(1) البدائع: 187/ 6.

(6/4713)


2 - أن يكون الخارج بين الطرفين على الشرط المتفق عليه.
3 - إذا لم يخرج الشجر شيئاً، فلا شيء لواحد منهما على الآخر.
4 - العقد لازم للجانبين، فلا يملك أحدهما الامتناع عن التنفيذ، أو الفسخ من غير رضا صاحبه، إلا لعذر، بخلاف المزارعة، فإنها غير لازمة في جانب صاحب البذر عند الحنفية.
5 - لصاحب الأرض إجبار العامل على العمل إلا لعذر.
6 - تجوز الزيادة على الشرط والحط منه، على وفق القاعدة المقررة في المزارعة وهي: كل موضع احتمل إنشاء العقد، احتمل الزيادة، وإلا فلا، والحط جائز في الموضعين. فما لم يتناه عظم الثمرة في النخيل مثلاً، تجوز الزيادة من كلا الطرفين، لأن إنشاء العقد في هذه الحالة جائز. ولو تناهى عظم الثمرة، جازت الزيادة من العامل لصاحب الأرض، ولا تجوز الزيادة من صاحب الأرض للعامل؛ لأن زيادة العامل حط من الأجرة، ولا يشترط فيه احتمال إنشاء العقد، وأما زيادة صاحب الأرض فهي زيادة في الأجرة، والمحل لا يحتمل الزيادة.
7 - لا يملك العامل مساقاة غيره، إلا إذا فوض له صاحب الأرض فقال له: (اعمل فيه برأيك). فلو خالف العامل، فعامل غيره على الشجر، كانت الثمرة لصاحب الشجر، ولا أجر للعامل الأول، وللعامل الثاني أجر مثل عمله على العامل الأول.

وأحكام المساقاة الصحيحة عند المالكية: تتفق في الغالب مع مذهب الحنفية، فقالوا (1): العمل في الحائط (بستان الشجر) ثلاثة أقسام:
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 279، الشرح الصغير: 717/ 3 وما بعدها، بداية المجتهد: 244/ 2 وما بعدها.

(6/4714)


أحدها ـ ما لا يتعلق بالثمرة: فلا يلزم العامل به بالعقد، ولا يجوز أن يشترط عليه.
الثاني ـ ما يتعلق بالثمرة، ويبقى بعدها: كحفر بئر أو عين أو ساقية، أو بناء بيت لتخزين الثمر، أوغرس شجر، فلا يلزم العامل به أيضاً، ولا يجوز أن يشترط عليه.
الثالث ـ ما يتعلق بالثمرة، ولا يبقى: فهو على العامل بالعقد، كالتقليم والجذاذ والسقي، وعليه أيضاً جميع المؤن من الآلات والأجراء والدواب ونفقتهم من كل ما يلزم الشجر عرفاً، وليس على العامل تحصين الجدران، وإصلاح مجاري المياه إلى الأرض، ويجوز اشتراطها عليه، لأن المذكور يسير.
وأما حق العامل: فله جزء من الثمرة كالثلث أو النصف أو غيرهما حسبما يتفقان عليه. ويجوز أن تكون له كلها، وإذا لم يثمر الشجر، فلا شيء لأحد العاقدين على الآخر، لأن انعدام الثمر بسبب آفة سماوية، لا بسبب فساد العقد.
ولا يجوز أن يشترط أحدهما لنفسه منفعة زائدة كدنانير أو دراهم.

ويتفق الشافعية والحنابلة مع المالكية في تحديد الملزم بالعمل، وحق العامل، فقالوا في العمل: كل مايتكرر كل عام فهو على العامل، وما لا يتكرر فهو على رب المال (1).
فعلى العامل ما يحتاج إليه لصلاح الثمر، واستزادته، مما يتكرر كل سنة في العمل، ولا يقصد به حفظ الأصل، كسقي، وتنقية نهر وبئر، أي مجرى الماء من
_________
(1) مغني المحتاج: 328/ 2 وما بعدها، المهذب: 392/ 1، المغني: 369/ 5 وما بعدها، كشاف القناع: 528/ 3 وما بعدها، 531.

(6/4715)


الطين ونحوه، وإصلاح حُفر الأشجار التي يجتمع فيها الماء للشرب، وتلقيح النخل (1) وإزالة الحشائش والقضبان والأعشاب الضارة وتعريش الدوالي (2)، وحفظ الثمر وجذاذه (أي قطعه)، وتجفيفه في الأصح عند الشافعية، لأنه من مصالحه.
وأما ما قصد به حفظ الأصل (أصل الثمر: وهو الشجر)، ولا يتكرر كل سنة، كبناء حيطان البستان، وحفر نهر جديد له، وإصلاح ما انهار من النهر، وإصلاح الدولاب والأبواب فعلى المالك، عملاً بالعرف، وعليه أيضاً خراج الأرض الخراجية.

وبه يتبين أن الجذاذ (القطاف) على العامل عند المالكية والشافعية والحنابلة، وعلى المالك والعامل بقدر نصيبهما عند الحنفية.
والمساقاة عقد لازم من الجانبين، كالإجارة عند الشافعية والحنفية، والمالكية (أي الجمهور) وغير لازمة عند الحنابلة (3)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في قصة خيبر ـ فيما رواه مسلم عن ابن عباس - قال: «نقركم على ذلك ما شئنا». أما المزارعة فهي غير لازمة عند الحنفية والحنابلة، وتلزم بالبذر عند المالكية.
وبناء على كونها لازمة، والمزارعة تبعاً لها عند الشافعية: لو هرب العامل قبل الفراغ من العمل، وأتمه المالك متبرعاً بالعمل، بقي استحقاق العامل، كتبرع الأجنبي بأداء الدين. ولو لم يتبرع المالك بالعمل استأجر الحاكم بعد رفع الأمر إليه، على العامل، من يتم العمل من مال العامل. فإن لم يقدر المالك على مراجعة
_________
(1) وهو وضع شيء من طلع الذكور في طلع الإناث.
(2) وهو أن ينصب أعواداً لكروم العنب ويظللها ويرفع العنب عليها.
(3) الشرح الصغير: 713/ 3، المغني: 372/ 5، 376، كشاف القناع: 528/ 3، بداية المجتهد: 247/ 2.

(6/4716)


الحاكم لبعد مسافة، أو لعدم تلبية طلب المالك، فليشهد المالك على العمل بنفسه، أو الإنفاق إن أراد الرجوع بما يعمله أو ينفقه؛ لأن الإشهاد حال العذر كالحكم ويصرح في الإشهاد بضرورة الرجوع.
وقال الحنابلة: إن هرب العامل، فلرب المال الفسخ؛ لأن المساقاة عقد جائز غير لازم.
صفة يد العامل: يد العامل في المساقاة والمزارعة والمغارسة يد أمانة، فإذا ادعى هلاك شيء من الثمر أو الزرع أو الشجر، بغير تقصير ولا تعد، كان القول قوله، فيصدق بيمينه، كذلك يصدق بيمينه إن اتهمه المالك بخيانة وأنكر هو؛ لأنه أمين، والقول قول الأمين بيمينه.

المطلب الثاني ـ حكم المساقاة الفاسدة:
تفسد المساقاة باختلال شرط من شرائطها المطلوبة شرعاً، فإذا لم يتوافر شرط صحة مثلاً فسد العقد. وأهم حالات الفساد عند الحنفية (1) ما يأتي:
1 - اشتراط كون الناتج (الخارج) كله لأحد العاقدين، لعدم توافر معنى الشركة به.
2 - شرط كون جزء معين من الثمرة لأحد العاقدين، كنصف قنطار عنب أو تمر، أو شرط جزء محدد من غير الثمرة، كمبلغ نقدي؛ لأن المساقاة شركة في الثمرة فقط.
3 - شرط مشاركة المالك في العمل، إذ لا بد من التخلية بين العامل والعمل في الشجر، ومهمة العامل الأصلية في هذا العقد هي العمل.
_________
(1) البدائع: 186/ 6، تكملة الفتح: 47/ 8 ومابعدها، تبيين الحقائق: 285/ 5، الدر المختار ورد المحتار: 202/ 5، 205، اللباب شرح الكتاب: 234/ 2.

(6/4717)


4 - اشتراط الجذاذ أو القطاف على العامل؛ لأنه ليس من المساقاة في شيء عندهم، ولعدم التعامل به بين الناس؛ لأن الأصل: كل ما كان من عمل قبل الإدراك كسقي وتلقيح وحفظ فعلى العامل، وما بعده كجذاذ وحفظ، فعلى العاقدين.
5 - شرط كون الحمل والحفظ بعد القسمة على العامل؛ لأنه ليس من أعمال المساقاة.
6 - اشتراط عمل تبقى منفعته على العامل بعد انقضاء مدة المساقاة، كغرس الأشجار، وتقليب الأرض، ونصب العرايش، ونحوه؛ لأنه لا يقتضيه العقد، ولا من أعمال المساقاة.
7 - الاتفاق على مدة لا يحصل فيها الإثمار عادة، لإضرار العامل، ولفوات المقصود وهو الشركة في الخارج. كما أن المساقاة تفسد، إذا كانت الثمرة قد انتهت ونضجت؛ لأن العامل إنما يستحق بالعمل، ولا أثر للعمل بعد الإدراك والتناهي.
8 - المساقاة مع الشريك، كأن يكون بستان مشترك بين اثنين مناصفة، فيدفعه أحدهما للآخر مساقاة، على أن له الثلثين، وللشريك المساقي الثلث؛ لأن في المساقاة معنى الإجارة، ولا يجوز كون الشخص أجيراً وشريكاً، أي مستأجراً من شريكه، وشريك المستأجر؛ لأن استئجار الشريك على العمل في المشترك لا يصح، إذ يجب أن يكون عمل الأجير في خالص ملك المستأجر.
فإذا عمل لا يستحق الأجر على شريكه، ويقع عمل العامل لنفسه. وهذا، أي الحكم بالفساد اختاره الحنابلة من بين وجهين، إذا لم يجعل للعامل شيء في مقابل العمل.

(6/4718)


وأجاز الشافعية العقد إذا شرط للعامل زيادة على حصته، أي أن الشافعية والحنابلة يجيزون هذه الصورة، وهي حالة الاتفاق على زيادة حصة العامل مقابل عمله (1)، كأن يكون الشجر بينهما نصفين، فيشترط له ثلثا الثمرة، ليكون السدس عوض عمله، فإن شرط له مقدار نصيبه أو دونه، لم يصح، لاستحقاقه نصيبه بالملك. ويكون الاتفاق بأن يقول الشريك لشريكه: ساقيتك على نصيبي، أو أطلق. فإذا قال: ساقيتك على كل الشجر، لم يصح.
ويترتب على فساد المساقاة عند الحنفية الأحكام التالية (2):
1 - لا يجبر العامل على العمل؛ لأن الجبر على العمل بحكم العقد، وهو لم يصح.
2 - الخارج كله لصاحب الشجر، لكونه نماء ملكه، وأما العامل فلا يأخذ منه شيئاً؛ لأن استحقاقه بالشرط في العقد، ولم يصح.
3 - وإذا فسدت المساقاة، فللعامل أجر مثله، كالإجارة الفاسدة.
4 - يجب أجر المثل عند أبي يوسف في حال الفساد مقدراً بالمسمى، لايتجاوز عنه. وعند محمد: يجب أجر المثل تاماً بالغاً ما بلغ.
أثر فساد العقد في المذاهب الأخرى: قال المالكية (3): إذا وقعت المساقاة فاسدة، فإن عثر عليها قبل العمل، فسخت. وإن عثر عليها بعد العمل، فسخت في أثنائه، ووجب فيها أجرة المثل إن خرج المتعاقدان عن المساقاة إلى إجارة فاسدة
_________
(1) مغني المحتاج: 327/ 2، المحلي على المنهاج: 63/ 3، الشرح الكبير مع المغني: 580/ 5، كشاف القناع: 533/ 3.
(2) البدائع: 188/ 6.
(3) القوانين الفقهية: ص 280، الشرح الصغير: 722/ 3 وما بعدها، بداية المجتهد: 248/ 2.

(6/4719)


أو بيع فاسد؛ لأن للعامل فيها أجر ما عمل، قلّ أو كثر، فلا ضرر عليه في الفسخ. ومثال التحول إلى الإجارة الفاسدة: اشتراط زيادة شيء معين أو عرض تجاري من صاحب البستان للعامل؛ لأنه يصبح المالك كأنه استأجر العامل على أن يعمل له في بستان بهذه الزيادة وبجزء من ثمرة البستان، وهي إجارة فاسدة توجب الرد لأجرة مثل أجر العامل ويحسب منها تلك الزيادة، ولا شيء للعامل من الثمرة، ولو بعد تمام العمل. فإن كانت الزيادة من العامل للمالك، فقد خرج العاقدان إلى بيع فاسد: هو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، إذ كأن العامل اشترى الجزء المسمى بما دفعه للمالك من الزيادة، وبأجرة عمله، فوجب له أجرة مثله، وأخذ ما دفعه، ولا شيء له من الثمرة.
وإن لم يخرج المتعاقدان عن المساقاة لعقد آخر، بأن كان الفساد لضرر، أو لفقد شرط غير الزيادة المتقدمة، أو لوجود مانع، أو بسبب الغرر كالمساقاة على حوائط (بساتين) مختلفة، استمرت المساقاة بمساقاة المثل، كالمساقاة على ثمر بدا صلاحه وآخر لم يبد صلاحه، لاحتواء العقد على بيع ثمر مجهول (وهو الجزء المسمى للعامل) بشيء مجهول (وهو العمل)، وكاشتراط عمل المالك مع العامل بجزء من الثمرة أو مجاناً، وكاشتراط آلة أو دابة للمالك في بستان صغير، لأنه ربما كفاه ذلك، فيصير كأن العامل اشترط جميع العمل على المالك. ويجوز اشتراط الدابة على المالك في بستان كبير. وهذا التفصيل لابن القاسم. وقال ابن الماجشون: ترد إلى إجارة المثل في كل نوع من أنواع الفساد.
وقال الشافعية والحنابلة (1): إذا خرج الثمر بعد العمل مستحقاً لغير المساقي المالك، كأن أوصى بثمر الشجر المساقى عليه، أو خرج الشجر مستحقاً، فللعامل
_________
(1) مغني المحتاج: 326/ 2 - 327، 331، المهذب: 393/ 1، المغني: 381/ 5، 392، كشاف القناع: 532/ 3، 502.

(6/4720)


على من ساقاه أجرة المثل لعمله، لأنه ضيّع عليه منافعه بعوض فاسد، فيرجع ببدلها على المالك، وإذا فسدت المساقاة، فللعامل أجرة مثله مقابل عمله، والثمر كله لصاحب الشجر، لأنه نماء ملكه. وتفسد المساقاة بجهالة نصيب كل واحد من العاقدين، أو اشتراط نصيب مجهول، أو دراهم معلومة، أو كمية معينة من الثمرة، أو شرط اشتراك المالك في العمل، أو عمل العامل في شيء آخر غير الشجر الذي ساقاه عليه.
والخلاصة: أنه يجب باتفاق الفقهاء فسخ المساقاة الفاسدة إذا عرف الفساد قبل العمل. فإن شرع العامل بالعمل ثم اطلع على الفساد، يجب له عند الجمهور أجر المثل. كما يجب له الأجر عند المالكية إذا خرج المتعاقدان إلى عقد آخر، وإن لم يخرجا لعقد آخر، استمرت المساقاة بمساقاة المثل.

المبحث الرابع ـ انتهاء المساقاة:
تنقضي المساقاة عند الحنفية كالمزارعة بأحد أمور ثلاثة: انتهاء المدة المتفق عليها، موت أحد المتعاقدين، فسخ العقد إما بالإقالة صراحة أو بالأعذار، كما تفسخ الإجارة (1).
ومن الأعذار: أن يكون العامل سارقاً معروفاً بالسرقة يخاف منه سرقة الثمر أو الأغصان قبل الإدراك؛ لأنه يلزم صاحب الأرض ضرر لم يلتزمه، فيفسخ به.
ومن الأعذار أيضاً: مرض العامل إذا كان يضعفه عن العمل؛ لأن في إلزامه استئجار أجراء، زيادة ضرر عليه، ولم يلتزمه فيجعل عذراً. وفي اعتبار سفر
_________
(1) البدائع: 188/ 6، تكملة الفتح: 48/ 8، تبيين الحقائق: 268/ 5، الدر المختار: 204/ 5، اللباب: 234/ 2.

(6/4721)


العامل عذراً للفسخ روايتان، الصحيح أنه يوفق بينهما، كما في مرض العامل، فهو عذر إذا شرط عليه عمل نفسه، وغير عذر إذا أطلق العقد عن الشرط.
وإذا مات العامل، كان لورثته تعهد الثمر حتى يدرك، وإن كره صاحب الشجر رعاية لمصلحة الجانبين. وإن مات المالك استمر العامل بعمله كما كان، وإن كره ورثة المالك. وإن مات العاقدان، كان الخيار في الاستمرار لورثة العامل، فإن أبى ورثة العامل الاستمرار في العمل، كان الخيار فيه لورثة صاحب الأرض.
وإذا انقضت مدة المساقاة ولم ينضج الثمر، بأن كان فجاً، بقيت المساقاة استحساناً لوقت النضوج، ويخير العامل، إن شاء ترك وإن شاء عمل كما في المزارعة، ولكن بدون أجر، أي لا يجب على العامل أن يدفع للمالك أجر حصته إلى أن يدرك الثمر؛ لأن الشجر لا يجوز استئجاره، بخلاف المزارعة، حيث يجب على العامل أجر مثل الأرض؛ لأن الأرض يجوز استئجارها. ويكون العمل كله في المساقاة على العامل، وفي المزارعة على العاقدين، لأنه لما وجب أجر المثل للأرض في المزارعة بعد انتهاء المدة، لم يستحق العمل على العامل، كما كان يستحق عليه قبل انتهائها.
وإن أبى العامل العمل، خير المالك أو ورثته بين أمور ثلاثة: إما أن يقتسم الثمر على حسب الشرط، وإما أن يعطي العامل قيمة نصيبه من الثمر، وإما أن ينفق على الثمر حتى يبلغ أو ينضج، ثم يرجع بالنفقة بقدر حصة العامل من الثمر؛ لأنه ليس للعامل إلحاق الضرر بغيره.
لكن قال الزيلعي: الرجوع على العامل بالنفقة بنسبة حصته فقط: فيه إشكال، وكان ينبغي أن يرجع عليه بجميع النفقة؛ لأن العامل إنما يستحق بالعمل، وكان العمل كله عليه، فلو رجع عليه بحصته فقط، أدى الرجوع إلى استحقاق العامل بلا عمل في بعض المدة.

(6/4722)


وقال المالكية (1): المساقاة عقد موروث، ولورثة المساقي أن يأتوا بأمين يعمل إن لم يكونوا أمناء، وعلى المالك العمل إن أبى ورثة العامل من العمل من تركته. ولا تنفسخ المساقاة إذا كان العامل لصاً أو ظالماً أو عجز عن العمل، وعلى العامل استئجار من يعمل، أو يستأجر من حظه من الثمر إن لم يكن له شيء؛ لأن المساقاة عندهم عقد لازم، لا يفسخ بالأعذار، فليس لعاقد فسخها بعد العقد، دون الآخر ما لم يتراضيا عليه.
وقال الشافعية (2): لاتنفسخ المساقاة بالأعذار، فلو ثبتت خيانة عامل مثلاً، ضم إليه مشرف إلى أن يتم العمل؛ لأن العمل واجب عليه. فإن لم يتحفظ عن الخيانة بالمشرف، أزيلت يده بالكلية، واستؤجر عليه من مال العامل من يتم العمل، لتعذر استيفاء العمل الواجب عليه منه.
وتنتهي المساقاة عند الشافعية بانقضاء المدة، فإذا انقضت المدة كعشر سنين مثلاً، ثم ظهرت ثمرة السنة العاشرة لم يكن للعامل فيها حق؛ لأنها ثمرة حدثت بعد انقضاء العقد.
وإذا ظهرت الثمرة، ولم تكتمل، قبل انقضاء المدة كأن صارت طَلْعاً (3) أو بلحاً، تعلق بها حق العامل؛ لأنها حدثت قبل انقضاء المدة، ويجب على العامل تمام العمل.
وتنفسخ المساقاة بموت العامل إذا كانت على عين (ذات) العامل كالأجير المعين، ولا تنفسخ بموت المالك في أثناء المدة، بل يتم العامل العمل ويأخذ نصيبه،
_________
(1) بداية المجتهد: 247/ 2، الشرح الصغير: 713/ 3.
(2) مغني المحتاج: 331/ 2، المهذب: 391/ 1 وما بعدها.
(3) هو بدء الحمل بأن يظهر الحمل في النخيل بين غلافين.

(6/4723)


لكن إذا ساقى المورث من يرثه ثم مات المورث، فإن المساقاة تنفسخ؛ لأنه أي الوارث لا يكون عاملاً لنفسه.
وإذا التزم العامل المساقاة في ذمته، ثم مات قبل تمام العمل، وخلّف تركة، أتم الوارث العمل منها، لأنه حق وجب على مورثه، فيؤدَّى من تركته كغيره من الحقوق. وللوارث أن يتم العمل بنفسه أو بماله، وعلى المالك تمكينه من العمل إن كان الوارث عارفاً بعمل المساقاة أميناً، وإلا استأجر الحاكم من التركة عاملاً كفئاً. فإن لم يخلف العامل تركة، لم يقترض عليه؛ لأن ذمته خربت بالموت.
وبه يتبين أن المساقاة في الذمة لا تنتهي عند الشافعية بموت أحد العاقدين، فإذا مات المالك أو العامل، استمر العامل بعمله. ولا تنتهي المساقاة بخيانة العامل ولا بهربه أو حبسه أو مرضه قبل تمام العمل، لكن في حال الخيانة يضم إليه مشرف آخر يراقبه، وفي حال الحبس ونحوه يستأجر عليه الحاكم من يتم العمل على حسابه. وإذا اختلف المالك والعامل في مقدار الثمرة المشروطة لكل منهما، حلف كل منهما يميناً على إثبا ت دعواه ونفي دعوى خصمه، لأن كلاً منهما منكر لدعوى الآخر، فإذا تحالفا انفسخ عقد المساقاة، وكان الثمر كله للمالك، وللعامل أجرة مثله.
وقال الحنابلة (1): المساقاة كالمزارعة عقد جائز غير لازم، فيجوز لكل طرف فيها فسخها. فإن فسخت المساقاة بعد ظهور الثمرة، كانت الثمرة بينهما (أي بين المالك والعامل) على حسب الشرط المتفق عليه في العقد. لأنها (أي الثمرة) حدثت على ملكهما.
_________
(1) المغني: 372/ 5 - 377، كشاف القناع: 528/ 3 - 530.

(6/4724)


ويملك العامل كالمالك حصته من الثمرة بالظهور. ويلزم العامل تمام العمل في المساقاة، كما يلزم المضارب بيع العروض التجارية إذا فسخت المضاربة. وهذا موافق لما قال الشافعية.
ولا تنفسخ المساقاة بموت العامل، فإن مات العامل قام وارثه مقامه في الملك والعمل؛ لأنه حق ثبت للمورث وعليه، فكان لوارثه.
فإن أبى الوارث أن يأخذ ويعمل، لم يجبر، ويستأجر الحاكم من التركة من يعمل، فإن لم تكن له تركة، أو تعذر الاستئجار منها، بيع من نصيب العامل مايحتاج إليه لتكميل العمل واستؤجر من يعمله.
وإن فسخ العامل، أو هرب قبل ظهور الثمرة، فلا شيء له، لأنه قد رضي بإسقاط حقه، مثل عامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح، وعامل الجعالة إذا فسخ قبل تمام عمله.
لكن إن فسخ المالك المساقاة قبل ظهور الثمرة وبعد شروع العامل في العمل، فعليه للعامل أجر مثل عمله، بخلاف المضاربة؛ لأن الربح في المضاربة لا يتولد من المال بنفسه وإنما يتولد من العمل، ولم يحصل بعمله ربح، والثمر في المساقاة متولد من عين الشجرة، وقد عمل العامل على الشجر عملاً مؤثراً في الثمر فكان لعمله تأثير في حصول الثمر وظهوره بعد الفسخ.
وإن مات العامل والمساقاة على عينه (ذاته)، أو جنّ، أو حجر عليه لسفه انفسخت المساقاة، كما قال الشافعية.
أما لو مات المالك أو جنّ، أو حجر عليه لسفه، فتفسخ المساقاة، خلافاً للشافعية.

(6/4725)


وفي حالة العذر عند الحنابلة مع عدم الفسخ: إن عجز العامل عن العمل لضعفه مع أمانته، ضم إليه غيره، ولا ينزع من يده، كما قرر الشافعية؛ لأن العمل مستحق عليه، ولا ضرر في بقاء يده عليه، وإن عجز بالكلية، أقام المالك مقامه من يعمل، والأجرة عليه في الحالتين لأن عليه توفية العمل.
وتنتهي المساقاة بمضي المدة المتفق عليها إن قدرت مدة عند الحنابلة أي كما قرر باقي المذاهب، لكن إن ساقى المالك إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالباً، فلم تحمل الثمرة تلك السنة، فلا شيء للعامل، كالمضاربة.

العقد الثالث ـ المغارسة أو المناصبة:
تعريفها، وحكمها عند الفقهاء:

أولا ـ تعريف المغارسة: هي أن يدفع الرجل أرضه لمن يغرس فيها شجراً (1) وعرفها الشافعية: بأن يسلم إليه أرضاً ليغرسها من عنده، والشجر بينهما (2). وتسمى عند أهل الشام المناصبة، أو المشاطرة؛ لأن الشجيرة الغرسة تسمى عند العامة نصباً، أي منصوباً، ولأن الناتج يقسم بينهما مناصفة لكل واحد منهما الشطر.
ثانياً ـ حكم المغارسة عند الفقهاء: المغارسة المختلف فيها بين الفقهاء، هي التي يقسم فيها الشجر والأرض نصفين بين المالك والعامل، فمنعها الجمهور وأجازها المالكية بشروط. فإن كان
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 281.
(2) مغني المحتاج: 324/ 2.

(6/4726)


الاشتراك فيها في الشجر فقط، فهي جائزة عند الحنفية والحنابلة، ولا تجوز عند المالكية، وممنوعة في الحالتين عند الشافعية، لعدم الحاجة إليها.
قال الحنفية (1): من دفع أر ضاً بيضاء (أي لا شجر ولازرع فيها) سنين معلومة، يغرس فيها شجراً، على أن تكون الأرض والشجر بين رب الأرض والغارس نصفين، لم يجز، لثلاثة أوجه: أولها: لاشتراط الشركة فيما كان موجوداً قبل الشركة، وهو الأرض، لا بعمل العامل، فكان ذلك في معنى قفيز الطحان (2) المنهي عنه (3). وقال صاحب الهداية عن هذا الوجه: إنه أصحها، لأنه ـ كما قال صاحب العناية ـ نظير من استأجر صباغاً ليصبغ ثوبه، على أن يكون نصف المصبوغ للصباغ، وهو مفسد للعقد، فهو شركة فاسدة.
وثاني الأوجه التي عللوا بها الفساد: أن المالك جعل نصف الأرض عوضاً عن جميع الأغراس، ونصف الخسارة عوضاً لعمل العامل، فصار العامل مشترياً نصف الأرض بالغراس المجهول المعدوم عند العقد، فيفسد العقد. وهذا الوجه رجحه ابن عابدين؛ لأن كون المغارسة في معنى (قفيز الطحان) لا يضر، إذ هو جار في معظم مسائل المزارعة والمعاملة (المساقاة)، ولهذا قال الإمام بفسادهما، وترك صاحباه القياس استدلالاً بمعاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر، وهذا هو الأولى، فهو شراء فاسد.
_________
(1) تكملة الفتح: 49/ 8، تبيين الحقائق: 286/ 5، اللباب: 234/ 2، الدر المختار ورد المحتار: 203/ 5 ومابعدها.
(2) إذ هو استئجار ببعض ما يخرج من عمل العامل، وهو نصف البستان.
(3) روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال: «نهي عن عسب الفحل، وعن قفيز الطحان» وعسب الفحل: أجرة ضرابه، وقد استدل بهذا الحديث أبو حنيفة والشافعي ومالك على أنه لا يجوز أن تكون الأجرة بعض المعمول بعد العمل (نيل الأوطار: 292/ 5 وما بعدها).

(6/4727)


وثالث الأوجه: أن المالك استأجر أجيراً ليجعل أرضه بستاناً مشجراً بآلات الأجير، على أن يكون له نصف البستان الذي يظهر بعمله، وهو مفسد للعقد؛ لأنها إجارة بأجر مجهول وغرر، فهي إجارة فاسدة.
وإذا فسدت المغارسة، كان جميع الثمر والغرس لصاحب الأرض، وللغارس قيمة غرسه يوم الغرس، وأجرة مثله فيما عمل.
وحيلة جواز المغارسة عند الحنفية: أن يبيع المالك نصف الأرض بنصف الغراس، ويستأجر رب الأرض العامل ثلاث سنين مثلاً، بشيء قليل، ليعمل في نصيبه.
وصحح الحنفية أيضاً ـ كما في الفتاوى الخانية ـ كون المغارسة على الاشتراك في الشجر والثمر فقط، دون الأرض.

وعبارة الشافعية (1) في حكم المغارسة: لا تصح المغارسة، إذ لا يجوز العمل في الأرض ببعض ما يخرج منها، ولأن الغرس ليس من عمل المساقاة، فضمه إليها يفسده، ويمكن تحقيق المقصود بالإجارة.
أما المساقاة في الشجر، فلا يمكن عقد الإجارة عليه، فجوزت المساقاة للحاجة.
والغرس الحاصل يكون للعامل، ويكون لرب الأرض أجرة مثلها على العامل، كما أن من زارع على أرض بجزء من الغلة، فعطل بعض الأرض، يلزمه أجرة ما عطل منها.
_________
(1) مغني المحتاج: 324/ 2، بجيرمي الخطيب: 167/ 3 وما بعدها.

(6/4728)


وعبارة الحنابلة (1): إن دفع المالك للعامل على أن الأرض والشجر بينهما، فالمعاملة فاسدة وجهاً واحداً، لأنه شرط اشتراكهما في الأصل (الأرض والشجر) ففسد، كما لو دفع إليه الشجر أو النخل، ليكون الأصل والثمرة بينهما، أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما، وحينئذ يكون للعامل أجر المثل.
لكن إن ساقاه على شجر يغرسه، ويعمل فيه حتى يحمل، ويكون للعامل جزء من الثمرة معلوم، صح؛ لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر، ونصيبه يقل.
هذه أقوال الجمهور (المذاهب الثلاثة) المانعة من صحة المغارسة، حفاظاً على حقوق العاقدين، ولكثرة الجهالة الناجمة عن انتظار نمو الشجر، وللاشتراك في الأصل، كاشتراك الشريكين في رأس المال في شركة المضاربة، ولأن الغرس ليس من أعمال المساقاة، على النحو المشروع في السنة النبوية، كما لا تصح المساقاة على صغار الشجر إلى مدة لا يحمل فيها غالباً.

وقال المالكية (2): العمل لإنماء الشجر يتم إما بالإجارة: وهو أن يغرس العامل للمالك بأجرة معلومة، وإما بالجعالة: وهو أن يغرس له شجراً على أن يكون له نصيب فيما ينبت، وإما بالمغارسة.
وتصح المغارسة (وهو أن يغرس العامل على أن يكون له نصيب من الشجر والثمر ومن الأرض) بخمسة شروط، وهي:
1 - أن يغرس العامل في الأرض أشجاراً ثابتة الأصول، دون الزرع والمقاثي والبقول.
_________
(1) المغني: 380/ 5 وما بعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 281.

(6/4729)


2 - أن تتفق أصناف الشجر، أو تتقارب، في مدة إطعامها (إثمارها) فإن اختلفت اختلافاً بيناً، لم يجز.
3 - ألا يكون أجلها إلى سنين كثيرة، فإن حدد لها أجل إلى ما فوق الإطعام (إنتاج الثمرة)، لم يجز، وإن كان دون الإطعام، جاز، وإن كان إلى الإطعام، فقولان.
4 - أن يكون للعامل حظه من الأرض والشجر، فإن كان له حظه من أحدهما خاصة، لم يجز، إلا إن جعل له مع الشجر مواضعها على الأرض، دون سائر الأرض.
5 - ألا تكون المغارسة في أرض محبسة (موقوفة) لأن المغارسة كالبيع.
ويلاحظ أنه يمنع في المغارسة والمساقاة والمزارعة عند المالكية شيئان:
الأول ـ أن يشترط أحدهما لنفسه شيئاً دون الآخر، إلا اليسير.
الثاني ـ اشتراط السلف أو السلَم، كأن يقول له: أسلفت إليك في مئة دينار أن تغرس الغرس أو يأمره بقلعه.
والخلاصة: أن المغارسة تصح إذا كان للعامل جزء معين من الثمرة فقط، كالمساقاة، كما ذكر الحنابلة، وتصح المغارسة أيضاً إذا غرس العامل غرساً على أن تكون الأغراس والثمار بينهما كما أبان الحنفية، ويمكن تصحيح المغارسة على الاشتراك في الأرض والشجر معاً، بواسطة عقدي البيع والإجارة، كأن يبيع المالك نصف الأرض بنصف الغراس، ويستأجر المالك العامل مدة كثلاث سنين مثلاً، بشيء يسير ليعمل في نصيبه، كما ذكر الحنفية.
وصحح المالكية المغارسة بشروط، وأبطلها الشافعية لعدم الحاجة إليها.

(6/4730)