الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ السّادس: اتّفاق القسمة وفيه نوعان: الأول ـ في قسمة الأعيان، والثاني ـ في قسمة المنافع (المهايأة) وكل منهما يرد على الأموال المشتركة.
النَّوع الأوَّل: قسمة الأعيان أو الرّقاب تسمى قسمة الأعيان أي الذوات قسمة رقاب أيضاً.
وفيه ستة مباحث:

المبحث الأول ـ تعريف القسمة ومشروعيتها وركنها وصفتها.
المبحث الثاني ـ أنواع القسمة.
المبحث الثالث ـ شروط القسمة.
المبحث الرابع ـ كيفية القسمة.
المبحث الخامس ـ القاسم.
المبحث السادس ـ أحكام القسمة.

(6/4731)


المبحث الأول ـ تعريف القسمة ومشروعيتها وركنها وصفتها:

أولاً ـ تعريف القسمة: القسمة لغة: هي إفراز النصيب، أو التفريق. وشرعاً لها تعاريف متقاربة عند الفقهاء، فقال الحنفية: القسمة: جمع نصيب شائع في مكان معيّن، أو مخصوص (1)، وعرفتها المادة (1114) مجلة بقولها: «القسمة: هي تعيين الحصة الشائعة، يعني إفراز الحصص بعضها من بعض بمقياس ما كالذرع والوزن والكيل» أو هي عبارة عن إفراز بعض الأنصباء عن بعض، ومبادلة بعض ببعض؛ لأن نصيب كل شريك أو ملكه منتشر في جميع أجزاء الشيء المقسوم، فإذا حدثت القسمة، وقع في حصته جزء مملوك له، وجزء مملوك لصاحبه شائعاً في كل الأجزاء، فتتم المبادلة بين الشريكين بتنازل كل واحد منهما عن نصف نصيبه بعوض: وهو نصف نصيب صاحبه (2).
ومعنى المبادلة أي (أخذ عوض حقه) واضح في القسمة الرضائية، أما القسمة الجبرية فتحدث بناء على طلب الشريكين للقاضي، يتضمن رضاهما بالمبادلة. فالقسمة تتضمن معنى المبادلة؛ لأن ما يؤول لأحدهما، بعضه كان له، وبعضه كان لصاحبه، فهو يأخذه عوضاً عما يبقى من حقه في نصيب صاحبه، فكان ذلك مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه، والإفراز هو الظاهر في المكيلات والموزونات لعدم التفاوت، والمبادلة هي الظاهر في غير المكيل والموزون للتفاوت، ويجوز الإجبار على المبادلة كما في بيع مال المدين.
وعرف المالكية القسمة بما يقارب تعريف الحنفية، فقالوا: هي تعيين نصيب
_________
(1) تبيين الحقائق: 264/ 5، الدر المختار: 178/ 5، تكملة الفتح: 2/ 8، اللباب: 91/ 4.
(2) البدائع: 17/ 7.

(6/4732)


كل شريك في مشاع (عقار أو غيره)، ولو كان التعيين باختصاص تصرف فيما عين له، مع بقاءالشركة في الذات، وهذا التعريف يشمل عندهم أنواع القسمة الثلاثة: قسمة المهايأة، وقسمة المراضاة، وقسمة القرعة (1).
وعرفها الشافعية والحنابلة (2) بأوضح تعريف في تقديري، فقالوا: القسمة: تمييز بعض الأنصباء عن بعض، وإفرازها عنها، بتجزئة الأنصباء بالكيل أو غيره.

ثانياً ـ مشروعية القسمة: أجمع العلماء على جواز القسمة لثبوت شرعيتها في القرآن والسنة:
أما القرآن فقوله تعالى: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم، كل شرب محتضر} [القمر:28/ 54] يدل على جواز قسمة المهايأة، وقوله سبحانه: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} [النساء:8/ 4] الوارد في قسمة التركة، وقوله سبحانه في قسمة الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول .. } [الأنفال:41/ 8] ولا يعلم هذا الخمس عن الأربعة الأخماس المستحقة للغانمين إلا بالقسمة.
وأما السنة: فقد قسم النبي صلّى الله عليه وسلم غنائم خيبر وحنين بين الغانمين، وقسم المواريث (3)، مما يدل على الإباحة.
ويؤيده حاجة الناس إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء من التصرف المستقل في حصته، وليتخلص من سوء المشاركة، وكثرة الأيدي (4).
_________
(1) الشرح الصغير: 359/ 3 ومابعدها.
(2) حاشية الباجوري على ابن قاسم: 351/ 2، المغني: 114/ 9، كشاف القناع: 364/ 6.
(3) راجع الأحاديث في نصب الراية: 178/ 4.
(4) المغني: 112/ 9.

(6/4733)


ثالثاً ـ ركن القسمة وسببها وشرط لزومها: ركن القسمة: هو الفعل الذي يحصل به الإفراز والتمييز بين الأنصباء، ككيل وذرع، وسببها: طلب الشركاء أو بعضهم الانتفاع بملكه على وجه الخصوص، فلو لم يطلبوا لا تصح القسمة. وشرط لزومها بطلب أحد الشركاء: عدم فوت المنفعة بالقسمة، أي عدم إبطال فائدة الشيء
المتعارفة، فلا يقسم مثلاً الحائط والحمام والبيت الصغير (1).

رابعاً ـ صفة القسمة: تتردد صفة القسمة عند الفقهاء بين وصفين: الإفراز أو التمييز، والبيع أو المبادلة.
فقال الحنفية (2): تشتمل القسمة مطلقاً (في المثليات أو القيميات) على وصفين: هما الإفراز: وهو أخذ عين حقه، والمبادلة: وهو أخذ عوض حقه. والسبب في اشتمالها على معنى المبادلة: أن ما يأخذه كل شريك، بعضه كان له، وبعضه كان لصاحبه، فهو يأخذه عوضاً عما يبقى من حقه في حصة صاحبه، فتكون القسمة مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه.
والإفراز: هو الظاهر الغالب في المثليات، أي المكيلات والموزونات وما في حكمها: وهي الذرعيات والعدديات المتقاربة كالجوز والبيض، لعدم التفاوت بين أجزائها، حتى كان لأحد الشريكين أن يأخذ نصيبه حال غيبة صاحبه.
والمبادلة: هي الظاهر الغالب في غير المثليات أي القيميات كالحيوانات
_________
(1) الدر المختار: 178/ 5.
(2) الدر المختار: 178/ 5، اللباب: 91/ 4، تكملة الفتح: 2/ 8، البدائع: 26/ 7.

(6/4734)


والدور وأصناف العروض التجارية، للتفاوت بين أفرادها، حتى لا يكون لأحد الشريكين أخذ نصيبه عند غيبة صاحبه (1).
إلا أنه إذا كانت الأشياء المشتركة متحدة الجنس، جازت القسمة الجبرية، أي يجبر القاضي على القسمة عند طلب أحد الشركاء؛ لأن فيها معنى الإفراز، ويصح الجبر في المبادلة، كما هو المقرر في حالة بيع ملك المدين، لوفاء دينه.
وإن كانت الأشياء المشتركة أجناساً مختلفة، لم تجز القسمة الجبرية، فلا يجبر القاضي على القسمة، لتعذر المعادلة. وتجوز القسمة الرضائية حينئذ؛ لأن الحق للشركاء.
وقال المالكية (2): قسمة المراضاة: وهي التي تتم بلا قرعة كالبيع، وقسمة القرعة: تمييز حق في مشاع بين الشركاء، لا بيع، وقسمة المهايأة في المنافع كالإجارة.
وقال الشافعية (3): القسمة إفراز النصيبين وتمييز الحقين إلا إذا كان في القسمة رد، أي
تعويض (أورد مال أجنبي عن المقسوم)، فهي بيع، كأن يكون في أحد جانبي الأرض المشتركة بئر أو شجر مثلاً، لا يمكن قسمته، فيرد من يأخذه بالقسمة بالقرعة قسط قيمة البئر أو الشجر، في المثال المذكور.
وكذلك تكون القسمة بيعاً إذا كانت بالتعديل للسهام (وهي الأنصباء)
_________
(1) نصت المادة (1116) مجلة عن ذلك، فقالت: «والقسمة من جهة إفراز، ومن جهة مبادلة .. »، كما نصت المادة (1117) على أن «جهة الإفراز في المثليات راجحة .. » والمادة (1118) على أن «جهة المبادلة في القيميات راجحة .. » ونصت المادة (1119) على المثليات.
(2) الشرح الصغير: 660/ 3، 662، 664.
(3) حاشية الباجوري: 352/ 2 - 354، المهذب: 306/ 2.

(6/4735)


بالقيمة، كأرض تختلف قيمة أجزائها بقوة إنبات أو قرب ماء، وتكون الأرض بينهما نصفين، ويساوي ثلث الأرض مثلاً لجودته ثلثيها، فيجعل الثلث سهماً، والثلثان سهماً. وهذا الرأي أدق ما عرفته من المذاهب.
وقال
الحنابلة (1): القسمة: إفراز حق وتمييز أحد النصيبين من الآخر، وليست بيعاً؛ لأنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك، ولا تجب فيها الشفعة، ويدخلها الإجبار، وتلزم بإخراج القرعة، ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر، والبيع لا يجوز فيه شيء من ذلك، ولأنها تنفرد عن البيع باسمها وأحكامها، فلم تكن بيعاً كسائر العقود.
وفائدة الخلاف: أنها إذا لم تكن بيعاً، جازت قسمة الثمار خرصاً، والمكيل وزناً، والموزون كيلاً، والتفرق قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض في البيع، وإن قلنا: هي بيع، انعكست هذه الأحكام.
لكن إذا كانت القسمة رداً، أي رد عوض عما حصل لشريك من حق شريكه، فتكون بيعاً فيما يقابل الرد (أي العوض الذي رد من أحدهما على الآخر)، وإفرازاً في الباقي. والخلاصة أن القسمة عند الحنابلة إفراز، إلا إذا كانت قسمة رد، فتكون بيعاً فيما يقبل الرد.

المبحث الثاني ـ أنواع القسمة:
للقسمة أنواع في المذاهب الفقهية، إذ كل مذهب ينظر إلى القسمة من جانب فقال الحنفية (2): القسمة نوعان:
_________
(1) المغني: 114/ 5، 129، كشاف القناع: 365/ 6.
(2) البدائع: 19/ 7 - 22.

(6/4736)


1 - قسمة جبرية: وهي التي يتولاها القاضي، بطلب أحد الشركاء. ولو قسم القاضي أو نائبه بالقرعة، فليس لبعض الشركاء الإباء بعد خروج بعض السهام (1).
2 - قسمة رضائية: وهي التي يفعلها الشركاء بالتراضي، وهي تعتبر عقداً من العقود، ركنها ككل عقد: هو الإيجاب والقبول، ومحلها: العين المشتركة التي يجوز الاتفاق على قسمتها (2).
وكل واحد منهما على نوعين:
1 - قسمة تفريق أو فرد: وهي تخصيص كل شريك بحصة جزئية معينة من المال المشترك، كقسمة دار كبيرة بين شريكين أو ثلاثة، يختص كل واحد منهم بنصف أو بثلث. وهي تحدث في كل ما لا ضرر في تبعيضه بالشريكين كالمكيل والموزون والعددي المتقارب، سواء قسمة رضا أو قسمة جبر.
2 - وقسمة جمع: وهي أن يجمع نصيب كل شريك في عين على حدة (3)، كأن يكون الشيء المشترك أقطاناً بين شريكين، فيتقاسمان، على أن يختص أحدهما بكمية منها والآخر بالباقي. وهي جائزة في جنس واحد، ولا تجوز في
_________
(1) رد المحتار: 184/ 5.
(2) قسمة الرضى في المادة (1121) مجلة هي «القسمة التي تجري بين المتقاسمين في الملك بالتراضي أو برضا الكل عند القاضي» وقسمة القضاء في المادة (1122) هي «تقسيم القاضي الملك المشترك جبراً وحكماً بطلب بعض المقسوم لهم».
(3) عرفت المادة (1115) من المجلة هذين النوعين، فقالت: قسمة التفريق: هي تعيين الحصص الشائعة في العين الواحدة المشتركة في أقسامها، مثل قسمة عرصة - أي ساحة -بين اثنين. وقسمة الجمع: هي جمع الحصص الشائعة في كل فرد من أفراد الأعيان في أقسامها، مثل قسمة ثلاثين شاة مشتركة بين ثلاثة: عشرة لكل واحد منهم.

(6/4737)


جنسين مختلفين، فتصح في المثليات وهي المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة كأصناف الحنطة، ولا تصح في جنسين من المكيل والموزون والمذروع والعددي كالحنطة والشعير، والقطن والحديد، والجوز واللوز، واللآلئ واليواقيت. وتصح بين أفراد الإبل، أو أفراد البقر، أو أفراد الغنم، أي في ضمن الجنس الواحد، والتفاوت القليل ملحق بالعدم.
ولا تصح بين خيل وإبل، أو بين بقر وغنم، لاختلاف الجنس، فيتضرر أحدهما.
ولا تقسم الدور والأراضي المتعددة عند أبي حنيفة قسمة جمع منعاً للضرر، لوجود التفاوت الفاحش بين دار ودار، وأرض وأرض، بسبب اختلاف البناء والبقاع، فتعتبر في حكم جنسين مختلفين.
وعند الصاحبين: تجوز قسمة الدور والأراضي قسمة جمع، ويعدل ما فيها من التفاوت بالقيمة. ولا تقسم الدار والضيعة (الأرض)، أو الدار والحانوت المشتركتان قسمة جمع باتفاق الحنفية، بل يقسم كل واحد على حدة، لاختلاف الجنس.

وقال المالكية (1): قسمة الرقاب أو الأعيان نوعان: قسمة مراضاة وقسمة قرعة.
أما قسمة المراضاة: فهي أن يتراضيا على أن كل واحد يأخذ شيئاً مما هو مشترك بين الشريكين، يرضى به بلا قرعة. وهي كالبيع، فمن رضي بشيء منه،
_________
(1) الشرح الصغير: 662/ 3 - 664، القوانين الفقهية: ص 284 وما بعدها.

(6/4738)


ملك ذاته، وليس له رده إلا بتراضيهما كالإقالة، ولا رد فيها بالغبن إلا إذا أدخلا بينهما مقوماً. وتصح في متحد الجنس كالثياب، أو في مختلف الجنس كثوب ودابة.

وأما قسمة القرعة: فهي تمييز حق مشاع بين الشركاء، لا بيع. فيرد فيها بالغبن، ولا بد فيها من مقوم، ويجبر عليها من أباها، ولا تكون إلا فيما تماثل أو تجانس، ولا يجوز فيها الجمع بين حظ اثنين.
وقال الشافعية (1): القسمة ثلاثة أنواع؛ لأن المقسوم إن تساوت الأنصباء منه صورة وقيمة فهو الأول، وإلا، فإن لم يحتج إلى رد شيء فالثاني، وإلا فالثالث.
1 - قسمة الإفراز (أو قسمة الأجزاء أو قسمة المتشابهات): وهي إفراز حق كل من الشركاء، فهي تمييز للحق لا بيع. وتحدث فيما لا ضرر فيه، كالمثليات من حبوب ودراهم وأدهان، ودور متفقة الأبنية، وأرض مستوية الأجزاء. ويجري فيها الإجبار، فيلزم الشريك بالقسمة بطلب شريكه، إذ لا ضرر عليه فيها، فيجزأ ما يقسم كيلاً في المكيل، ووزناً في الموزون، وذرعاً في المذروع، وعدّاً في المعدود بعدد الأنصباء إن استوت. ثم بعدئذ يقرع بين الأنصباء لتعيين كل نصيب منها لأحد الشركاء.
2 - قسمة التعديل للسهام: وهي أن تعدل الأنصباء المختلفة بالقيمة، لتحقيق المساواة بين الشركاء، كأرض تختلف قيمة أجزائها بسبب قوة إنبات، أو قرب ماء ونحوهما، أو يختلف جنس ما فيها، كبستان بعضه نخل، وبعضه عنب. فإذا كانت الأرض مناصفة بين شريكين، وكانت قيمة ثلثها المشتمل على ما ذكر كقيمة الثلثين الباقيين، فيجعل الثلث سهماً، والثلثان سهماً، ويقرع بينهما كما سبق.
_________
(1) حاشية الباجوري: 352/ 2 - 354، بجيرمي الخطيب: 341/ 4 - 344.

(6/4739)


ويجري فيها الإجبار، فيلزم الشريك بالقسمة بطلب شريكه، كما في النوع الأول، فإن أمكن قسم الجيد وحده، والرديء وحده، لم يجبر الشريك على التعديل.
ويجبر الشريكان على هذه القسمة في منقولات متحدة القيمة، مختلفة الصفة، كثياب من نوع واحد، كما يجبران عليها في نحو دكاكين صغيرة متلاصقة، متماثلة الأعيان أو الذوات، للحاجة إلى القسمة، بخلاف نحو الدكاكين الكبيرة، أو الصغيرة غير المتلاصقة لشدة اختلاف الأغراض، أو المقاصد باختلاف المحالّ والأبنية.

3 - قسمة الرد: وهي التي تحتاج إلى رد مال أجنبي عن ذات المقسوم، كأن يكون بأحد جانبي الأرض المشتركة بئر أو شجر مثلاً، لا يمكن قسمته، فيردّ من يأخذه بالقسمة الناتجة عن القرعة قسط قيمة البئر أو الشجر. فلو كانت قيمة البئر أو الشجر ألفاً، وحصته النصف، رد الآخذ خمس مئة. ولا يجري فيها الإجبار.
ويعتبر النوع الأول إفرازاً للحق، لا بيعاً، والنوعان الآخران بيعاً.
وبه يتبين أن القسمة عند الشافعية كغيرهم نوعان رئيسيان: قسمة إجبار، وقسمة تراض.

وقال الحنابلة (1) كما قال الحنفية: القسمة نوعان:
1 - قسمة تراض: لا تجوز إلا برضا الشركاء كلهم: وهي التي فيها ضرر، ورد عوض من أحدهما على الآخر، كالدور الصغيرة، والحمام والطاحون الصغيرين، والدكاكين اللطاف الضيقة. ولا إجبار فيها، فإن طلب أحد الشريكين
_________
(1) كشاف القناع: 364/ 6، 369.

(6/4740)


قسمة بعضها في مقابلة بعض، لم يجبر الآخر؛ لأن كل عين منها تختص باسم وصورة. وهي تشبه قسمة الرد عند الشافعية، بدليل أن الحنابلة قالوا: كل ما لا يمكن قَسْمه بالأجزاء، أو التعديل، لا يقسم بغير رضا الشركاء كلهم. وحكم قسمة التراضي كالبيع، أي كما قال الشافعية؛ لأن صاحب الزائد بذل المال عوضاً عما حصل له من حق شريكه، وهذا هو البيع، والبيع محصور فيما يقابل الرد (أي العوض الذي رد من أحدهما على الآخر) وإفراز في الباقي، كما تبين في صفة القسمة. وإذا كانت هذه القسمة بيعاً، فلا يجوز فيها ما لا يجوز في البيع، ولا يجبر عليها الممتنع منها، لحديث ابن عباس مرفوعاً: «لا ضرر ولا ضرار» (1).

2 - وقسمة الإجبار: ما لا ضرر فيها على الشريكين، ولا على أحدهما، ولا رد عوض، كأرض واسعة وقريبة، وبستان ودار كبيرة، ودكان واسع ونحوها، سواء أكانت متساوية الأجزاء أم لا.
وتحدث إن أمكن قسمتها بتعديل السهام من غير شيء يجعل معها، فإن لم يمكن تعديل السهام إلا بجعل شيء معها، فلا إجبار، لأنه معاوضة، فلا يجبر عليها من امتنع منها، كسائر المعاوضات.
ومن أمثلتها: قسمة مكيل أو موزون من جنس واحد، كدهن من زيت وسيرج وغيرهما، ولبن ودبس وخل وتمر وعنب ونحوهما، وسائر الحبوب والثمار المكيلة. وإذا طلب أحد الشركاء القسمة في المذكورات وأبى الشريك الآخر، أجبر الممتنع، ولو كان ولياً على صاحب الحصة؛ لأنه يتضمن إزالة الضرر
_________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني، قال النووي: حديث حسن، وله طرق يقوي بعضها بعضاً.

(6/4741)


الحاصل بالشركة، وحصول النفع للشريكين، فيمكنهما التصرف بالحصص، أو الاستثمار بأي طريق يختاره الشريك.

المبحث الثالث ـ شروط القسمة:
فيه مطلبان: الأول ـ في شروط قسمة التراضي، والثاني ـ في شروط قسمة الإجبار.

المطلب الأول ـ شروط قسمة التراضي:
اشترط الحنفية شروطاً في قسمة التراضي هي ما يأتي (1):

1 - أهلية المتقاسمين: وهي العقل فقط، فلا يجوز قسمة المجنون والصبي الذي لا يعقل (غير المميز)؛ لأن القسمة عقد متردد بين الضرر والنفع وفيها معنى البيع، فيشترط فيها ما يشترط في البيع.
ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، فتجوز قسمة الصبي العاقل (المميز) بإذن وليه، كما لا يشترط الإسلام والذكورة والحرية لجواز القسمة، فتجوز قسمة الذمي والمرأة والعبد المكاتب والمأذون، لجواز البيع منهم.

2 - الملك أو الولاية: فلا تجوز القسمة بدونهما.
أما الملك: فهو أن يكون القاسم مالكاً عين ما يقسمه وقت القسمة، فيقسمه الشركاء بالتراضي، فإن لم يكن المقسوم مملوكاً للقاسم، لا تجوز القسمة؛ لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء، ومبادلة البعض، وكل ذلك لا يصح إلا في الشيء
_________
(1) البدائع: 18/ 7، 19، 22.

(6/4742)


المملوك (1). وبناء عليه: لا تصح عند الحنفية قسمة الديون المشتركة قبل القبض؛ لأنها لا تملك إلا بالقبض؛ لأن الدين في حكم المعدوم، ووجوده اعتباري، والمقسوم يشترط فيه كونه عيناً. ويترتب عليه أيضاً أن قسمة الفضولي موقوفة على الإجازة قولاً أو فعلاً.
وأما الولاية: فهي ولاية القرابة المالية، بأن يكون القاسم ذا ولاية مالية على الصغير والمجنون والمعتوه، وهو الأب ووصيه، والجد ووصيّه. والقاعدة في هذه الولاية: أن كل من له ولاية البيع، فله ولاية القسمة، ومن لا فلا، ولهؤلاء ولاية البيع، فلهم ولاية القسمة.
وأما وصي الأم، ووصي الأخ والعم، فيقسم المنقول، دون العقار؛ لأن له ولاية بيع المنقول، دون العقار.
ولا يقسم وصي الميت على الموصى له، لانعدام ولايته عليه، وكذا لا يقسم الورثة عليه، لانعدام ولايتهم عليهم؛ لأن الموصى له كواحد من الورثة. وكذا لا يقسم بعض الورثة على بعض، لانعدام الولاية فيما بينهم.

3 - حضور الشركاء أو نوابهم: فلا تصح القسمة على غائب، وتنقض القسمة، لو اقتسم الشركاء، وأحدهم غائب. هذا في قسمة التراضي. أما في قسمة القاضي، فتنفذ القسمة ولا تنقض.
4 - رضا الشركاء فيما يقسمونه بأنفسهم: إذا كانوا من أهل الرضا أو رضا من يقوم مقامهم. فإن لم يوجد الرضا لا تصح القسمة، فلو كان في الورثة صغير لا وصي له، أو كبير غائب، فاقتسموا فالقسمة باطلة؛ لأن القسمة فيها معنى
_________
(1) البدائع: 24/ 7، م (1123، 1125، 1126) مجلة.

(6/4743)


البيع، كما تقدم، وقسمة الرضا ـ عند الحنفية ـ أشبه بالبيع، وكما لا يصح البيع إلا بالتراضي، لا تصح القسمة إلا به.
وإذا لم يكن شريك من أهل الرضا، كالصبي والمجنون، قام وليه أو وصيه مقامه. وإذا لم يكن للصغير ونحوه ولي ولا وصي، كان موقوفاً على أمر الحاكم، فينصب وصي من طرف الحاكم ليقسم بمعرفته (1).
وكذلك قال الشافعية (2): يشترط في قسمة التراضي بأنواعها من رد وغيره رضا الشركاء حتى بعد خروج القرعة، ولو ثبت بحجة غلط أو حيف في قسمة الإجبار أو قسمة التراضي التي تكون بالإفراز، نقضت القسمة بنوعيها، فإن كانت بالتعديل أو بالرد، لم تنقض، لأنها بيع.

المطلب الثاني ـ شروط قسمة الإجبار أو التقاضي:
يشترط لقسمة القضاء أو القسمة الجبرية ما يأتي:

الشرط الأول ـ طلب أحد الشركاء أو كلهم من القاضي قسمة المشترك: فلا تجوز القسمة من غير طلب أصلاً؛ لأنها تصرف في ملك الآخرين، وهو أمر محظور شرعاً (3). وإذا طلب شريك وأبى الآخر، يقسم الشيء المشترك جبراً بين الشركاء إذا كان قابلاً للقسمة (4) دفعاً للضرر، كالتملك بالشفعة دفعاً لضرر الشفيع.
_________
(1) الدر المختار: 180/ 5، م (1128) مجلة.
(2) بجيرمي الخطيب: 344/ 4.
(3) الدر المختار: 179/ 5، البدائع: 18/ 7، 22، 28، م (1129، 1130) مجلة.
(4) قابل القسمة: هو المال المشترك الصالح للتقسيم، بحيث لا تفوت المنفعة المقصودة من ذلك المال بالقسمة (م 1131) مجلة.

(6/4744)


فإن لم يكن قابلاً للقسمة، تناوب الشركاء في الانتفاع بطريق المهايأة.
والخلاصة: أنه تجب القسمة عند الطلب، إلا إذا كان الطالب قاصداً الضرر، فلا تجب، كما سيبين في الشرط الثاني.

الشرط الثاني ـ ألا يترتب على القسمة ضرر: وهذه في قسمة التفريق، لأنه إذا كان في القسمة ضرر لم تتحقق المنفعة المطلوبة من المال.
ويتضح هذا الشرط في معرفة طبيعة المال، والمال في هذا الشأن نوعان (1):
أـ إن كان المال مما لا ضرر في تبعيضه أو تجزئته، بل فيه منفعة للشريكين، كالمكيل والموزون والعددي المتقارب، فتجوز قسمة التفريق قسمة جبر، ويجبر القاضي من أبى من الشركاء على قبولها تحقيقاً لمصلحة الطرفين.
ب ـ وإن كان في القسمة ضرر: فإن أضرّت بكل واحد من الشريكين لم تجز قسمة الجبر في المال المشترك كاللؤلؤ والياقوت والثوب الواحد والسرج والقوس والمصحف الكريم، والخيمة والحائط، والحمام والبيت، أو الحانوت الصغير، والفرس والجمل والشاة والبقرة؛ لأن الضرر يلحق بالشريكين معاً، والقاضي لا يملك الجبر على الإضرار.
وأما إن أضرّت القسمة بأحد الشريكين دون الآخر، كالأرض المشتركة بين شريكين ولأحدهما حصة قليلة، وللآخر الأكثر، فتجب القسمة إن طلبها صاحب الأكثر، إزالة للشيوع ومنعاً من الضرر، فهو ينتفع بنصيبه، فيجاب طلبه؛ لأن الحق لا يبطل بتضرر الغير. وإن طلبها صاحب الحصة القليلة: ففيه رأيان:
_________
(1) البدائع: 19/ 7 - 21، تبيين الحقائق: 268/ 5 وما بعدها.

(6/4745)


رأي الحاكم الشهيد في مختصره الكافي: إنه يقسم المال المشترك، إذ لا ضرر على صاحب الكثير، بل له فيه منفعة، وصاحب القليل قد رضي بالضرر، حيث طلب القسمة، فيجبر على القسمة.
ورأى القدوري في الكتاب: لا يقسم؛ لأن صاحب القليل متعنِّت في طلب القسمة، لكون القسمة ضرراً محضاً في حقه، فلا يعتبر طلبه، وقسمة الجبر لاتشرع بدون الطلب. وهذا هو الأصح.
وإن كانت حصة كل من الشريكين قليلة، لم يقسم القاضي بينهما، إلا بتراضيهما؛ لأن الجبر على القسمة لتكميل المنفعة، وفي هذا تفويتها، وإنما تجوز القسمة بتراضيهما؛ لأن الحق لهما وهما أعرف بشأنهما (1).
ومذهب الشافعية في قسمة الضرر والجبر قريب من مذهب الحنفية، قالوا (2): إن ما عظم ضرر قسمته: إن بطل نفعه الحالي المقصود منه بالكلية كجوهرة وثوب نفيسين، منعهم الحاكم منها، وانتفعوابه مهايأة.
وإن لم يبطل نفعه بالكلية، كأن ينقص نفعه كسيف يكسر، أو أبطل نفعه المقصود، كحمام وطاحونة صغيرين، لم يمنعهم ولم يجبهم إلى القسمة، لما فيه من إضاعة المال.
ولو كان هناك مال مشترك بين اثنين، لأحدهما حصة قليلة، كعشر دار أو حمام، أو أرض، وللآخر الأكثر وهو الباقي، أجبر صاحب الأقل على القسمة، بطلب الآخر لا عكسه.
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 94/ 4 وما بعدها، البدائع: 28/ 7.
(2) بجيرمي الخطيب: 340/ 4 وما بعدها.

(6/4746)


وكذلك قال الحنابلة (1): يجبر الحاكم على القسمة إذا كان المال قابلاً للقسمة، وأمكن انتفاع الشريكين به مقسوماً، أي إنه يشترط لصحة القسمة عندهم ألا يكون فيها ضرر، فإن كان فيها ضرر، لم يجبر الممتنع لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».
والضرر المانع من القسمة عند الشافعي وأحمد: هو أن تنقص قيمة نصيب كل شريك بالقسمة عن حال الشركة، سواء انتفعوا به مقسوماً أم لم ينتفعوا؛ لأن نقص قيمته ضرر، والضرر منفي شرعاً.
وقال المالكية (2): إن كان الشيء المشترك مما يحتمل القسمة بلا ضرر كالأرضين وغيرها، أجبر على القسمة من أباها، وإما إذا كان المال المشترك غير قابل للقسمة كحانوت وبيت صغير وسيف، فيباع ويوزع ثمنه بين الشريكين بحسب الحصة، ويجبر على البيع من أباه من الشركاء، بشروط أربعة وهي:
1 - أن تنقص حصة مريد البيع لو باعها مفردة عن حصة شريكه، فإن لم تنقص لو بيعت مفردة لم يجبر له الآبي عن البيع، لعدم الضرر، كما لا يجبر فيما يقبل القسمة، أي في المال المثلي.
2 - ألا يلتزم رافض البيع لشريكه بتحمل فرق النقصان.
3 - ألا يملك مريد البيع حصته مفردة: فإن ملكها مفردة، وأراد بيعها، وأبى صاحبه من البيع معه، لم يجبر على البيع معه، وعلى هذا فإن تملك الشريكان المال المشترك معاً بإرث أو شراء أو غيرهما، جاز إجبار الممتنع على البيع.
_________
(1) المغني: 115/ 5 ومابعدها.
(2) الشرح الصغير: 678/ 3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 285.

(6/4747)


4 - ألا يكون المال المشترك متخذاً للاستغلال أي الكراء، أو مشترىً للتجارة فإن كان متخذاً للغلة، أو اشتروه للانتفاع في غير غلة ولو للتجارة على المعتمد، لم يجبر الآبي على البيع، مع من أراد البيع.

الشرط الثالث ـ أن تكون القسمة عادلة، غير جائرة، لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء، ومبادلة البعض بالبعض، ومبنى المبادلات على المراضاة، فإذا وقعت جائرة لم يوجد التراضي، ولا إفراز النصيب على نحو كامل، لبقاء الشركة في جزء ما، فتعاد (1).
وبناء عليه لو ظهر في القسمة غلط أو غبن فاحش، بطلت القسمة.

الشرط الرابع ـ أن يكون المال المشترك في قسمة الجمع (2) من جنس واحد، كالمثلي من حنطة أو قطن أو جوز. فإن كان من أجناس مختلفة كالحنطة والشعير، والقطن والحديد، والجوز واللوز، واللآلئ واليواقيت، وأنواع الحيوان كالخيل مع الإبل، لم تجز القسمة؛ لأن قسمة الجمع عند اتحاد الجنس تقع وسيلةإلى تحقيق المقصود منها، وهو تكميل منافع الملك. وعند اختلاف الجنس تقع تفويتاً للمنفعة، لا تكميلاً لها.
وكذا الدور والأراضي والكروم (حقول العنب) لا تقسم قسمة جمع عند أبي حنيفة للتفاوت الفاحش بين دار ودار وأرض، بسبب اختلاف الدور والأراضي في بنائها وموقعها، فتعتبر في حكم جنسين مختلفين؛ لأن المعتبر والمقصود في الدور والأراضي هو المعنى، فتقسم قسمة تفريق (3) عنده.
_________
(1) البدائع: 26/ 7، م (1127) مجلة.
(2) قسمة الجمع كما تقدم: هي أن يجمع نصيب كل واحد من الشريكين في عين على حدة.
(3) قسمة التفريق: أن يقسم كل فرد من أفراد المال المشترك على حدة، ويعين نصيب المتقاسمين فيه.

(6/4748)


وقال الصاحبان: تقسم الدور ونحوها قسمة جمع، لأنها من جنس واحد من حيث الصورة وأصل السكنى، وإن كانت أجناساً متعددة من حيث اختلاف المقاصد، ويمكن تعديل التفاوت فيها بالقيمة، وينظر القاضي في الأمر بما يحقق المصلحة.
واتفق أئمة الحنفية على أنه يقسم البيتان (الغرفتان) قسمة جمع، سواء أكانا متصلين أم منفصلين (1).
هذا ما يقوله متقدمو الحنفية، وأما في زماننا فإن المنازل والبيوت كالدور تتفاوت تفاوتاً فاحشاً، فلا تقسم قسمة جمع، وإنما تقسم قسمة تفريق.

المبحث الرابع ـ كيفية القسمة:
أبان الحنفية كيفية القسمة وإجراءاتها التي يتبعها القاسم على النحو التالي (2)، وهو في تقديري مجرد اجتهاد يتغير بحسب العصور.
1 - يمسح القاسم الأرض، لحفظ الخريطة، ورفعها للقاضي، ويقوّم البناء ليعرف كل شريك قيمة نصيبه.
2 - يفرز كل نصيب عن غيره مع ارتفاقاته من طريق ونحوه على حدة، ليتحقق معنى التمييز والإفراز تمام التحقيق، ويمنع تعلق نصيب كل شريك بنصيب الآخر.
_________
(1) البدائع: 21/ 7 وما بعدها، تبيين الحقائق: 270/ 5، م (1132 - 1142) من المجلة.
(2) تكملة الفتح: 14/ 8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 270/ 5، اللباب شرح الكتاب: 100/ 4 وما بعدها، م (1151) مجلة. وانظر تلك الإجراءات في المذاهب الأخرى في المهذب: 308/ 2 وما بعدها، المغني: 123/ 9، الشرح الصغير: 675/ 3 وما بعدها.

(6/4749)


3 - تحدد الأنصباء بالأرقام المتوالية، ويطلق على كل نصيب اسم «السهم».
4 - تسجل أسماء المتقاسمين في أوراق متساوية مستقلة، وتوضع في وعاء أو نحوه، ثم يقرع بينهم على سبيل الندب والاستحسان، تطييباً للقلوب، وبعداً عن تهمة الميل والتحيز لأحد الشركاء، فمن خرج اسمه أولاً، فله السهم الملقب بالأول، ويعطى من خرج اسمه ثانياً السهم الثاني، وهكذا ... إذا اتحدت مقادير السهام.
فلو اختلفت السهام ـ بأن كانت بين ثلاثة مثلاً، لأحدهم عشرة أسهم، ولآخر خمسة أسهم، ولآخر سهم ـ جعلها القاسم ستة عشر سهماً، وكتب أسماء الثلاثة، فإن خرج أولاً اسم صاحب العشرة، أعطاه السهم الأول، وتسعة متصلة به، لتكون سهامه متصلة مع بعضها، وهكذا حتى يتم التوزيع.
والقرعة مندوبة عند الحنفية، فلو عين القاسم لكل شريك نصيبه، من غير اقتراع، جاز؛ لأن عمله في معنى القضاء، فيملك إلزام كل شريك بنصيبه.
5 - آلة القسمة: نصت المادة (1147) مجلة على ذلك، فقالت: المال المشترك: إن كان من المكيلات، فبالكيل، أو من الموزونات فبالوزن، أو من العدديات فبالعدد، أو من الذرعيات فبالذراع يصير تقسيمه. ونصت المادة (1148) مجلة على أنه: حيث كانت العرصة والأراضي من الذرعيات، فتقسم بالذرع، أما ما عليها من الأشجار والأبنية، فيقسم بتقدير القيمة.

تعديل القسمة بالنقود:
أجاز الشافعية والحنابلة كما تقدم تعديل القسمة بالقيمة والنقود في غير الأموال المثلية، مما لا يقبل الإفراز، كأرض تختلف قيمة أجزائها (1)، وهذا مذهب المالكية أيضاً كما سيأتي بيانه.
_________
(1) بجيرمي الخطيب: 343/ 4، كشاف القناع: 373/ 6.

(6/4750)


أما الحنفية فلم يجيزوا في قسمة التقاضي قسمة تفريق إدخال النقود (الدراهم والدنانير) في القسمة، إلا بتراضي الشركاء فيما بينهم؛ لأن القسمة تجري في المشترك والمشترك بينهما العقار، لا النقود، فلو كان بين اثنين دار، وأراد قسمتها، وكان في أحد الجانبين فضل بناء، فأراد أحدهما أن يكون عوض البناء دراهم، وأراد الآخر أن يكون عوضه عن الأرض، فإنه يجعل عوضه من الأرض، ولا يكلف الذي وقع البناء في نصيبه أن يرد دراهم بدلاً عن الزيادة، إلا بالتراضي، لما في القسمة من معنى المبادلة، فيجوز دخول الدراهم فيها بالتراضي دون جبر القاضي، إلا إذا تعذر، فحينئذ للقاضي التعديل بالدراهم، للضرورة (1).

نماذج من القسمة: أبان الفقهاء أهم حالات القسمة، وهي كيفية قسمة الدور، والأرض والبناء، والدار والضيعة (الأرض العرصة غير المبنية)، والدار والحانوت والسفل والعلو، والطريق.
المطلب الأول ـ قسمة الدور:
اتفق الحنفية (2): على أنه إذا كانت الدور المشتركة في بلدين، فلا تجتمع في القسمة، وتقسم دار كل بلد على حدة.
أما إذا كانت الدور المشتركة في بلد واحد، فتقسم أيضاً عند أبي حنيفة كل دار على حدة؛ لأن الدور أجناس مختلفة، لاختلاف المقاصد باختلاف المحالّ (المواقع) والجيران، والقرب من المسجد والماء والسوق مثلاً، فلا يمكن التعديل في
_________
(1) تكملة الفتح: 15/ 8، تبيين الحقائق: 271/ 5، اللباب: 101/ 4، البدائع: 19/ 7، م (1149) مجلة.
(2) تكملة الفتح: 13/ 8، تبيين الحقائق: 270/ 5، البدائع: 22/ 7، اللباب: 98/ 4 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 184/ 5.

(6/4751)


القسمة وإنما تقسم قسمة تفريق، ولا يضم بعض الأنصبة إلى بعض، إلا إذا تراضوا. وهذا هو الصحيح عند الحنفية.
وقال الصاحبان: الرأي في هذه القسمة (وهي قسمة التقاضي) إلى القاضي، يفعل ما يراه الأصلح، فإن وجد الأصلح للشركاء في قسمة جمع، بأن يجمع حصة كل شريك في دار، فعل، وإن وجد الأصلح في قسمة التفريق بأن يقسم كل دار على حدة، فعل؛ لأن الدور ـ في رأيهما ـ من جنس واحد من حيث الاسم والصورة، وأصل السكن، فيفوض الأمر إلى القاضي لاختيار الأصلح من القسمة: إما قسمة الجمع أو قسمة التفريق.
وهذا الخلاف بين الإمام وصاحبيه جارٍ في قسمة الدار الواحدة. فعند الإمام: لا تقسم قسمة جمع إلا بالتراضي. وعند الصاحبين: يفوض الأمر إلى القاضي، ليحقق المصلحة والعدل في اختيار نوع القسمة.
وأما البيوت (الغرف) فتقسم باتفاق الحنفية قسمة جمع، سواء أكانت متباينة أم متلاصقة، لتقاربها في معنى السكنى (1).
والشافعية يرون أن الدار المختلفة الأبنية تقسم قسمة تعديل بالقيمة، لاختلاف الأغراض باختلاف المحالّ والأبنية (2).
_________
(1) يتلخص مذهب الحنفية فيما يلي: قال في الدرر: ههنا أمور ثلاثة: الدور، والبيوت، والمنازل، فالدور متلازمة كانت أو متفرقة: لا تقسم قسمة واحدة إلا بالتراضي. والبيوت تقسم مطلقاً لتقاربها في معنى السكنى، والمنازل: إن كانت مجتمعة في دار واحدة، متلاصقاً بعضها ببعض، قسمت قسمة واحدة، أي قسمة جمع، وإلا فلا، لأن المنزل أصغر من الدار، وأ كبر من البيت، ففيه بيتان أو ثلاثة، والبيت مسقف واحد له دهليز، فألحقت المنازل بالبيوت إذا كانت متلاصقة، وبالدور إذا كانت متباينة. وقال الصاحبان في كل ما ذكر: ينظر القاضي إلى أعدل الوجوه، ويمضي على ذلك. هذا رأي متقدمي الحنفية. وقال متأخرو الحنفية: لعل هذا في زمانهم، وإلا فالمنازل والبيوت، ولو من دار واحدة تتفاوت تفاوتاً فاحشاً في زماننا (رد المحتار: 184/ 5، اللباب: 99/ 4).
(2) بجيرمي الخطيب: 344/ 4.

(6/4752)


وكذلك قال المالكية: تقسم الدور بالتراضي، أو بالسهام على أن تعدل بالقيمة (1).
ولا تقسم الحمام والبئر والرحى والحائط المشترك إلا بتراضي الشركاء، باتفاق الحنفية منعاً للضرر بكل شريك.

المطلب الثاني ـ الأرض والبناء:
إذا كان المال المشترك أرضاً عليها بناء، ففي كيفية قسمتها أقوال ثلاثة عند الحنفية (2).
1 - قال أبو حنيفة: تقسم الأرض بالمساحة، لأنه هو الأصل في الممسوحات، ثم يردّ من وقع البناء في نصيبه، أو من كان نصيبه أجود، دراهم، على الآخر، حتى يساويه، فتدخل الدراهم في القسمة ضرورة؛ لأن قسمة التقاضي جبراً لا يدخل فيها النقود في أصل مذهب الحنفية، وهنا دخلت للضرورة، كما في ولاية الأخ على أخيه الصغير، ليست له عليه ولاية مالية، ولكن إذا زوجه، ملك تسمية الصداق، لضرورة التزويج. وهذا الرأي يتفق مع قسمة الرد عند الشافعية.
2 - وقال أبو يوسف: تقسم الأرض والبناء، باعتبار القيمة، لأنه لا يمكن اعتبار المعادلة إلا بالتقويم. وهذا يتفق مع رأي الشافعية في قسمة التعديل.
3 - وقال محمد: يرد الشريك على شريكه بمقابلة البناء ما يساويه من العرصة (الأرض) (3) وإذا بقي فضل، ولم يمكن تحقيق التسوية، بأن كانت العرصة
_________
(1) بداية المجتهد: 262/ 2.
(2) تكملة الفتح: 15/ 8.
(3) العرصة: بسكون الراء: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، أو ساحة الدار، والجمع عَرَصات.

(6/4753)


لا تفي بقيمة البناء، فيرد على شريكه دراهم بمقدار الفضل (الزيادة)؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها، وهي هنا في هذا المقدار، فلا يترك الأصل (وهو التقسيم باعتبار المساحة) إلا بمقدار الضرورة الحاصلة.

المطلب الثالث ـ الدار والضيعة، والدار والحانوت:
الضيعة: أرض غير مبنية، والحانوت: الدكان.
قال الحنفية: إذا كان المال المشترك داراً مع ضيعة، أو داراً مع حانوت، قسم القاضي كلاً منها على حدة، قسمة تفريق، لا قسمة جمع؛ لأنها أجناس مختلفة، أو في حكم الأجناس المختلفة. ومثل الدور: الأقرحة جمع قَراح: وهي قطعة من الأرض على حيالها، لا شجر فيها ولا بناء، أي إنها أرض مخلاة للزرع وليس عليها بناء.
وتقسم الأرض (العرصة) بالذراع ونحوه، وتقسم الدار بالقيمة (1).

المطلب الرابع ـ السُفْل والعُلْو: إذا كان الذي يراد قسمته، بعضه سفل ليس فوقه علو، أو فوقه علو للغير، وبعضه علو لا سفل له، بأن كان السفل للغير، وبعضه سفل له علو، وكل ذلك في دار واحدة، أو في دارين، قوّم كل واحد من السفل والعلو على حدة، وقسم بواسطة القاضي بالقيمة، ولا يعتبر غير ذلك؛ لأن كلاً منهما يصلح لما لا يصلح له الآخر، فصارا بمثابة جنسين مختلفين، وهذا يقتضي القسمة بالقيمة، ليتحقق التعديل.
_________
(1) تكملة الفتح: 13/ 8، تبيين الحقائق: 270/ 5، الدر المختار ورد المحتار: 184/ 5، اللباب: 99/ 4، البدائع: 22/ 7، م (1148) مجلة.

(6/4754)


وهذا رأي محمد، وهو الذي اختاره المشايخ، وعليه الفتوى.
وقال الشيخان (أبو حنيفة وأبو يوسف): يقسم ذلك بالذَّرْع؛ لأن السفل والعلو من المذروعات. ثم اختلفا في كيفية تلك القسمة، فقال أبو حنيفة: ذراع من السفل بذراعين من العلو. وقال أبو يوسف: ذراع بذراع. ثم قيل: كل منهما على عادة أهل عصره (1).
وقال الحنابلة (2): إن كان بين الشريكين دار لها علو وسفل، فطلب أحدهما قسمها، لأحدهما العلو وللآخر السفل، فلا إجبار. أو طلب أحد الشريكين قسمة السفل دون العلو أو عكسه، فلا إجبار أيضاً؛ لأن كل واحد منهما مسكن منفرد، ولأن أحدهما قد يتضرر بالقسمة.
ولو طلب أحدهما قسمة كل من االعلو والسفل على حدة، فلا إجبار أيضاً، لما فيه من الضرر.
ولو طلب أحدهما قسمة العلو والسفل معاً، ولا ضرر، ولا رد عوض، وجب قبول القسمة، وأجبر الممتنع، وعدل بالقيمة؛ لأنه أحوط؛ أي كما هو المفتى به عند الحنفية.
ولا يجعل ذراع أسفل بذراعي علو، ولا عكسه، ولا ذراع بذراع، إلا أن يتراضى الشريكان على القسمة.

المطلب الخامس ـ قسمة الطريق:
قد تثور عدة مشكلات في شأن قسمة الطريق منها:
_________
(1) تكملة الفتح: 17/ 8، تبيين الحقائق: 272/ 5، اللباب: 102/ 4، الدر المختار: 185/ 5.
(2) كشاف القناع: 267/ 6.

(6/4755)


أولاً ـ مصير الطريق ونحوه من الارتفاقات: لو قسم القسّام الدار المشتركة بين الشريكين، ولأحدهما مسيل ماء في ملك الآخر، أو طريق أو نحوه، ولم يتفق على الارتفاق في القسمة (1):
أـ فإن أمكن صرف الطريق والمسيل عن نصيب شريكه، أي الاستغناء عنه بوسيلةأخرى، وجب التحويل والصرف، فليس له بعدئذ أن يستطرق، ويسيل في نصيب الشريك الآخر، لأنه أمكن تحقيق القسمة من غير ضرر.
ب ـ وإن لم يمكن الصرف فسخت القسمة؛ لأنها مختلفة، لبقاء الاختلاط بين الحصص، فتستأنف القسمة.

ثانياً ـ اختلاف الشركاء في إلغاء الطريق: لو اختلف الشركاء حول إلغاء الطريق بينهم في القسمة، نظر الحاكم في أمره.
أـ فإن كان يستقيم أن يفتح كل واحد منهم طريقاً في نصيبه، قسم الحاكم بينهم من غير طريق مشترك بينهما، ويلغى الطريق، تكميلاً للمنفعة، وتحقيقاً للإفراز من كل وجه.
ب ـ وإن كان لا يستقيم الفتح، شق طريقاً مشتركاً بينهم، ليتحقق تكميل المنفعة فيما وراء الطريق (2).
_________
(1) تبيين الحقائق: 271/ 5 وما بعدها، تكملة الفتح: 15/ 8 وما بعدها، اللباب: 102/ 4، الدر المختار: 185/ 5، م (1143 - 1144، 1167) مجلة.
(2) تكملة الفتح: 16/ 8، تبيين الحقائق: 272/ 5.

(6/4756)


ثالثاً ـ اختلاف الشركاء في مقدار الطريق: إذا اختلف الشركاء في مقدار عرض الطريق:
أـ ففي طريق الدار: يجعل عرض الطريق، بمقدار عرض باب الدار وارتفاعه، حتى يتمكن كل واحد منهم من إخراج جناح أو إقامة شُرْفة في نصيبه، إن كان فوق الباب، لا فيما دونه؛ لأن في ذلك القدر كفاية في الدخول، وفي السلوك، أي المرور.
ب ـ وفي الطريق إلى الأرض: يترك بقدر ما يمر فيه حيوان، لتحقق الكفاية به في المرور (1).

رابعاً ـ تبعية الطريق للحصص: الحق في الطريق بمقدار سهام المقتسمين، كما كان عليه الحال قبل القسمة؛ لأن القسمة تمت في غير الطريق، فبقي الطريق مشتركاً كما كان قبل القسمة (2).
خامساً ـ التفاوت في مقدار حصة الطريق: يجوز الاتفاق بين الشركاء على أن تتفاوت حصص الشركاء في الطريق، وإن كانت سهامهم في الدار أو في الأرض متساوية، كأن تكون النسبة في الطريق أثلاثاً، وفي الدار ونحوها متناصفة؛ لأن القسمة مع التفاوت أو التفاضل جائزة بالتراضي، في غير الأموال الربوية (3).
_________
(1) المرجعان السابقان، الدر المختار: 185/ 5، البدائع: 29/ 7.
(2) المراجع السابقة.
(3) المراجع السابقة.

(6/4757)


المبحث الخامس ـ القاسم تعيينه، وشروطه، وأجرته، وتعدد القسام.
أولاً ـ تعيين القاسم: القاسم: هو الذي يمارس القسمة. وقد يتولى الشركاء أنفسهم بالتراضي إجراء القسمة إلا إذا كان فيهم صغير فيحتاج إلى أمر القاضي، لأنه لا ولاية لهم عليه، وقد يعينون وكيلاً عنهم، وهو الغالب، وقد يعينه القاضي. ويندب للإمام أو للقاضي تعيين قاسم دائم، يُرزق من بيت المال، ليقسم بلا أخذ أجر، وهو أحب وأولى؛ لأنه أرفق بالناس وأبعد عن التهمة، ولأن القسمة من جنس عمل القضاء، لأن به يتم فصل الخصومة وقطع المنازعة، ونفعه يعم الناس، فتكون كفايته في مالهم، غرماً بالغنم.
فإن لم يعين قاسم دائم، عين القاضي قاسماً يقسم بأجر المثل على حساب المتقاسمين؛ لأن النفع عائد لهم على الخصوص، وبقدر أجر مثله، كيلا يتحكم بطلب الزيادة عن المثل، كما أنه لا يجبر القاضي الناس على قاسم واحد، لأنه لو تعين لتحكم أيضاً بالزيادة على أجر مثله. ولا يترك القاضي القسّام يشتركون (تكوين شركة مثلاً) كيلا يتواضعوا على مغالاة الأجر، فيتضرر الناس (1)، فإن كونوا نقابة على النحو الحديث بإشراف الحاكم جاز؛ لأن الحاكم يوافق على نظام النقابة، ويمنع المغالاة.

ثانياً - شروط القاسم: اشترط الحنفية استحباباً وندباً في القاسم شروطاً هي مايأتي (2):
_________
(1) تكملة الفتح: 5/ 8، الدر المختار: 179/ 5، تبيين الحقائق: 265/ 5، اللباب: 91/ 4 وما بعدها.
(2) المراجع السابق. البدائع: 19/ 7، 26.

(6/4758)


1 - أن يكون عدلاً أميناً عالماً بالقسمة، لأنه لو كان غير عدل، خائناً أو جاهلاً بأمور القسمة يخاف منه الجور في القسمة لا يجوز.
2 - أن يكون معيناً من القاضي، لأن قسمة غيره لا تنفذ على الصغير والغائب، ولأنه أجمع لشرائط الأمانة.
3 - المبالغة في تعديل الأنصباء، والتسوية بين السهام، بأقصى الإمكان لئلا يدخل القصور في سهم.
وينبغي ألا يدع القاسم حقاً بين شريكين غير مقسوم من الطريق والمسيل والشِّرب إلا إذا لم يمكن.
وينبغي ألا يضم القاسم نصيب بعض الشركاء إلى بعض، إلا إذا رضوا بالضم، لأنه يحتاج إلى القسمة ثانياً.
4 - أن يقرع بين الشركاء بعد الفراغ من القسمة، تطييباً للنفوس ولورود السنة بها (1)، ولأن القرعة أنفى للتهمة.
واشترط الشافعية والحنابلة في القاسم المعين من قبل القاضي سبعة شروط وهي (2):
الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والعدالة، وعلم المساحة والحساب؛ لأن علمهما آلة القسمة. وأضاف الشافعية اشتراط السمع والبصر
_________
(1) روى أحمد والشيخان عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه» (نيل الأوطار: 217/ 6).
(2) بجيرمي الخطيب: 338/ 4 وما بعدها، حاشية الباجوري: 351/ 2، كشاف القناع: 372/ 6، المغني: 126/ 9.

(6/4759)


والنطق والضبط، إذ لابد مما ذكر؛ لأن للقاسم ولاية على من يقسم لهم بسبب كون قسمته ملزمة، ومن لم تتوافر فيه هذه الشروط، فليس من أهل الولاية.
فإن كان القاسم كافراً أو فاسقاً أو جاهلاً بالقسمة، لم تلزم القسمة إلا بتراضي الشركاء بها، كما لو اقتسموا بأنفسهم.
هذا إذا كان القاسم معيناً من قبل القاضي، فإن تراضى الشركاء بمن يقسم بينهم لم تشترط الشروط السابقة، إلا التكليف، لأنه وكيل عنهم.

ثالثاً ـ تعدد القسّام: يصح إجراء القسمة بقاسم واحد أو أكثر، وقال المالكية: يكفي في قسمة القرعة قاسم واحد؛ لأن مهمته الإخبار عن نتيجة الاقتراع، كالقائف (العالم بالأنساب) والطبيب والمفتي.
ويكتفى بقاسم واحد عند المالكية والشافعية والحنابلة إن لم يكن في القسمة تقويم؛ لأنه في قسمه كالحاكم في حكمه.
فإن كان في القسمة تقويم: أي تقدير قيمة السلع المشتركة، فلا بد فيها من التعدد عند هؤلاء الفقهاء، فلا تجوز بأقل من اثنين؛ لأن التقويم شهادة بالقيمة، ولابد في الشهادة من اثنين (1).

رابعاً ـ أجرة القاسم: اتفق الفقهاء على أنه إذا كان القاسم معيناً من قبل القاضي، فأجره (أو رزقه)
_________
(1) الشرح الكبير: 500/ 3، الشرح الصغير: 665/ 3، بجيرمي الخطيب: 339/ 4، كشاف القناع: 373/ 6 وما بعدها.

(6/4760)


من بيت مال المسلمين، إذا كان فيه سعة، لأن القسمة من جنس عمل القاضي، ولأن منفعته تعم الناس كما بان سابقاً.
وأما إن كان القاسم باختيار الشركاء في مقابل أجر، فالأجر على الشركاء.
ويتم توزيع الأجرة عند أبي حنيفة ومالك على الشركاء بحسب العدد، أو الرؤوس؛ لأن الأجرة في مقابل العمل، وهو تمييز الحصص، والتمييز عمل واحد؛ لأن تمييز القليل من الكثير هو بعينه تمييز الكثير من القليل، فيتعلق الحكم بأصل التمييز، وتعب القاسم في تمييز النصيب اليسير كتعبه في تمييزه الكبير، وإذا لم يتفاوت العمل، لا تتفاوت الأجرة. وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة: يتم توزيع الأجرة بقدر الحصص أو الأنصباء؛ لأن العمل في الكثير أكثر منه في القليل، ولأن الأجرة كالنفقة التي يحتاجها الملك، فتقدر بقدر الملك، ويؤيده أن أجرة الكيال والوزّان بقدر الأنصباء إجماعاً، وكذا سائر المؤن كأجرة الراعي والحمل والحفظ وغيرها (1). وهذا في تقديري هو الأولى والأصح؛ لأنه أعدل وأرفق بالناس.

المبحث السادس ـ أحكام القسمة للقسمة أحكام عامة، وأحكام خاصة في الإثبات.
المطلب الأول ـ أحكام القسمة العامة:
لقسمة الأعيان أحكام عامة، أهمها ما يأتي:
_________
(1) البدائع: 19/ 7، تكملة الفتح: 5/ 8، تبيين الحقائق: 265/ 5، الدر المختار: 179/ 5 وما بعدها، اللباب: 92/ 4، الشرح الكبير: 500/ 3، القوانين الفقهية: ص 286، بجيرمي الخطيب: 340/ 4، كشاف القناع: 372/ 6، المغني: 126/ 9.

(6/4761)


أولاً ـ لزوم القسمة: القسمة من العقود اللازمة باتفاق الفقهاء (1)، لا يجوز نقضها، ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ كما سأبين في حكم نقض القسمة. ولكن لبعض المذاهب تفصيل في مبدأ اللزوم:
قال الحنفية (2): تلزم قسمة التراضي وقسمة التقاضي بعد تمامها، فلا يجوز الرجوع عنها إذا تمت.
أما قبل التمام، فكذلك تلزم قسمة التقاضي، فلو قسم القاضي المال المشترك بين قوم، فخرجت السهام كلها بالقرعة، لا يجوز لهم الرجوع، وكذا لا رجوع إذا لم تتم القسمة، كأن خرج بعض السهام دون بعض.
وأما قسمة التراضي: فيجوز للشركاء الرجوع عنها قبل تمامها؛ لأن قسمة التراضي لا تتم إلا بعد خروج السهام كلها، كما هو الشأن في كل عقد كالبيع مثلاً، يجوز الرجوع عنه قبل تمامه.
إلا أنه إذا خرج جميع السهام إلا واحداً، لم يجز الرجوع في قسمة التراضي، لصيرورة السهم متعيناً لمن بقي من الشركاء أو لتعيين نصيب ذلك الواحد.
وأطلق المالكية القول باللزوم فقالوا: ولزم ما خرج بالقسمة، فليس لأحدهم نقضها، وكذا يلزم الشريك في قسمة التراضي، فمن أراد الفسخ لم يكن منه (3).
_________
(1) البدائع: 28/ 7، بداية المجتهد: 267/ 2، المهذب: 309/ 2، المغني: 125/ 9، الشرح الصغير: 676/ 3، رد المحتار: 184/ 5، م (1157) مجلة.
(2) البدائع، رد المحتار، المكان السابق، م (1158) مجلة.
(3) الشرح الصغير، المكان السابق.

(6/4762)


وقال الشافعية (1): تلزم قسمة الإجبار من غير تراضٍ، ومن المعلوم أن قسمة الإفراز والتعديل فيهما الإجبار، وأما قسمة التراضي قسمة رد دون غيرها، فالأرجح عندهم أنه لا بد من الرضا بها بعد خروج القرعة، ولا يلزم حكم القاسم إلا برضا الشركاء؛ لأنه لما اعتبر الرضا بالقسمة ابتداء، اعتبر بعد خروج القرعة.
والحنابلة (2) قالوا: تلزم عندهم قسمة الإجبار، فهم كالشافعية، وفي قسمة التراضي عندهم وجهان كالشافعية، لكن الأرجح عندهم أنه إذا خرجت القرعة لزمت القسمة؛ لأن القاسم كالحاكم، وقرعته كالحاكم، لأنه مجتهد في تعديل السهام كاجتهاد الحاكم في طلب الحق، فوجب أن تلزم قرعته.

ثانياً ـ ثبوت حق الخيار في القسمة: قال الحنفية (3): القسمة ثلاثة أنواع: قسمة لا يجبر الآبي، كقسمة الأجناس المختلفة، وقسمة يجبر الآبي، في ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات، وقسمة يجبر الآبي، في غير المثليات المتحدة الجنس، كالثياب من نوع واحد، والبقر والغنم.
والخيارات ثلاثة: خيار شرط، وخيار عيب، وخيار رؤية.
1 - ففي قسمة الأجناس المختلفة، حيث لا يجبر الآبي بها: تثبت الخيارات كلها؛ لأنها مبادلة من كل وجه، فهي كالبيع.
2 - وفي قسمة ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات، حيب يجبر الآبي
_________
(1) بجيرمي الخطيب: 344/ 4، المهذب: المكان السابق.
(2) المغني، المكان السابق، كشاف القناع: 373/ 6.
(3) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 265/ 5، انظر البدائع: 28/ 7، م (1153 - 1155) مجلة.

(6/4763)


عليها، يثبت خيار العيب، دفعاً للضرر والجور، دون خيار الشرط والرؤية، إذ لا فائدة في إثباتهما، لعدم الضرر.
3 - وفي قسمة القيميات، غير المثليات، كالثياب من نوع واحد، وكالبقروالغنم، حيث يجبر الآبي في متحد الجنس، ولا يجبر في غير متحد الجنس، كالغنم مع الإبل: يثبت خيار العيب دفعاً للضرر.
أما خيار الشرط والرؤية، ففي ثبوتهما روايتان، والصحيح منهما والذي عليه الفتوى: أنه يثبت.
والخلاصة: تثبت هذه الخيارات الثلاثة في تقسيم الأجناس المختلفة، وفي قسمة القيميات المتحدة الجنس أو المختلفة الجنس، ويثبت خيار العيب دون خيار الشرط والرؤية في قسمة المثليات المتحدة الجنس.
وقال المالكية في الأرجح (1): يثبت خيار العيب في قسمة المراضاة: (بأن يتراضيا على أن كل واحد يأخذ شيئاً مما هو مشترك بينهم، يرضى به بلا قرعة) لأنها كالبيع.
وقال الحنابلة (2): إذا ظهر في نصيب أحد الشريكين عيب لم يعلمه قبل القسمة، فله فسخ القسمة، أو الرجوع بأرش العيب؛ لأنه نقص في نصيبه، فملكه كالمشتري.
واكتفى الشافعية بالنص على أن قسمة الإفراز تنقض في حال الحيف أو الغلط. وأما قسمة الرد أو التعديل فهي بيع (3)، أي يثبت فيها خيار العيب.
_________
(1) الشرح الصغير: 662/ 3 وما بعدها، بداية المجتهد: 267/ 2.
(2) المغني: 128/ 9 وما بعدها، كشاف القناع: 376/ 6.
(3) بجيرمي الخطيب: 344/ 4.

(6/4764)


ثالثاً ـ آثار القسمة: يترتب على القسمة الأحكام التالية (1):
1 - يتعين نصيب كل شريك مستقلاً عن نصيب غيره، فيملك حصته مستقلاً بعد القسمة.
2 - يملك الشريك المقسوم له جميع التصرفات الثابتة لصاحب الملكية المطلقة، من بيع وإيجار ورهن، وبناء وهدم، ونحوها.
3 - لا تثبت الشفعة في القسمة؛ لأن حق الشفعة في المبادلة المحضة، والقسمة مبادلة من وجه واحد، فلا تحتمل الشفعة.
والظاهر أن هذا الحكم متفق عليه في المذاهب (2).

رابعاً ـ نقض القسمة: تنقض القسمة بالإقالة أو بالتراضي على فسخها.
ويجب نقض القسمة بعد وجودها، وبالرغم من لزومها في حالات هي عند الحنفية ما يأتي:

1 - ظهور دين على الميت: إذا وقعت القسمة، ثم ظهر دين على الميت يحيط بالتركة المقسومة، تفسخ القسمة، إذا لم يكن للميت مال سواه، إلا إذا قضى الورثة الدين، أو أبرأ الغرماء الدائنون ذمم الورثة، أو بقي من التركة ما يفي بالدين لزوال المانع من لزوم القسمة، فتمضي القسمة على ما هي عليه.
_________
(1) البدائع: 28/ 7، مادة (1162) مجلة.
(2) المهذب: 306/ 2، المغني: 121/ 9.

(6/4765)


والدليل على مسوغ الفسخ لهذا السبب: قوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء:11/ 4]، ولأن الدين إذا كان محيطاً بالتركة (مستغرقاً)، تبين أنه لا ملك للورثة فيها، بل هي ملك للميت يتعلق بها حق الغرماء، وقيام ملك الغير في المحل المقسوم، يمنع صحة القسمة.
وإذا لم يكن الدين محيطاً بالتركة، بقي للغرماء حق الاستيفاء ثابتاً في قدر الدين من التركة، على الشيوع، فيمنع نفاذ القسمة (1).
وهذا الرأي عندي هو الأرجح، رعاية لحقوق الدائنين.
وقال الحنابلة (2): لا تبطل القسمة بظهور دين على الميت؛ لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها، لأنه تعلق بها بغير رضا الورثة.
وقال الشافعية (3): إذا ظهر دين على الميت، فإن قالوا: القسمة: تمييز الحقين لم تنقض القسمة، وإن قالوا: إنها بيع: ففي نقضها وجهان: في وجه إنها تنقض لتعلق حق الغير بالمال. وفي وجه: لا تنقض إذا قضى الوارث الدين.

2 - ظهور وارث آخر أو موصى له في قسمة التراضي: إذا تمت القسمة، ثم ظهر وارث آخر، أو موصى له بالثلث أو الربع مثلاً، نقضت القسمة؛ لأن الوارث، والموصى له شريك الورثة.
ولا تنقض قسمة التقاضي في الأصح؛ لأن القسمة حينئذ محل اجتهاد، وقضاء القاضي إذا صادف محل الاجتهاد ينفذ ولا ينقض (4).
_________
(1) البدائع: 30/ 7، الدر المختار: 187/ 5، تكملة الفتح: 26/ 8، م (1161) مجلة.
(2) المغني: 129/ 9.
(3) المهذب: 310/ 2، وانظر: 327/ 1.
(4) البدائع: 30/ 7، رد المحتار: 187/ 5.

(6/4766)


3 - ظهور غبن فاحش:
إذا حدثت القسمة، ثم تبين فيها غبن فاحش: وهو الذي لا يدخل تحت تقويم المقومين، كأن قوّم المال بألف وهو لا يساوي خمس مئة، فسخت قسمة التقاضي باتفاق الحنفية؛ لأن تصرف القاضي مقيد بالعدل ولم يوجد، والغبن حصل بغير رضا المالك فصار كبيع الأب والوصي، ينقض بالغبن الفاحش. وتفسخ أيضاً قسمة التراضي في الأصح؛ لأن شرط جوازها المعادلة، ولم توجد، فوجب نقضها. وهذا هو الصحيح المعتمد المفتى به عند الحنفية كما ذكر ابن عابدين، أي أن قسمة التراضي تفسخ بالغبن الفاحش كقسمة التقاضي.
وتسمع دعوى الغبن الفاحش إن لم يقر المدعي باستيفاء حقه، فإن أقر باستيفاء حقه لا تسمع دعوى الغبن، أو الغلط للتناقض بين الإقرار والادعاء.
ولا تسمع دعوى الغبن اليسير الذي يدخل تحت المقومين، ولا تقبل بينته (1).
ونقض القسمة بالغبن الفاحش أو الجور متفق عليه بين الفقهاء (2)، إلا أن الشافعية فصلوا في الأمر، كما سيذكر في حالة الغلط.

4 - وقوع غلط في المال المقسوم:
إذا ادعى أحد الشركاء بعد القسمة أن شيئاً من نصيبه وقع في يد صاحبه غلطاً، وكان قد أقر أو أشهد على نفسه باستيفاء حقه (3)، لم يصدق على الذي يدعيه، إلا ببينة (إقرار الخصم أو نكوله)؛ لأنه يدعي فسخ القسمة بعد وقوعها،
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 187/ 5، تبيين الحقائق: 273/ 5 وما بعدها، م (1160) مجلة.
(2) الشرح الصغير: 677/ 3، بجيرمي الخطيب: 344//4، المغني: 127/ 9.
(3) الاستيفاء: عبارة عن قبض الحق بكامله.

(6/4767)


فلا يصدق إلا بحجة، ولا يكون متناقضاً لأنه اعتمد على فعل الأمين، ثم ظهر غلطه.
فإن لم يكن له بينة، استحلف الشركاء، فمن نكل منهم، جمع بين نصيبه ونصيب المدعي، فيقسم بينهما على قدر أنصبائهما، لأن النكول حجة في حقه خاصة، فيعاملان على زعمهما.
وإن لم يكن قد أقر بالاستيفاء، تحالف الشركاء (حلف كل منهم يميناً) وفسخت القسمة؛ لأن الاختلاف في مقدار ما حصل له بالقسمة، فصار كالاختلاف في مقدار المبيع.
وإن قال: (أصابني إلى موضع كذا، فلم تسلم إلي) ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء، وكذبه شريكه، تحالفا، وفسخت القسمة، لاختلافهما في نفس القسمة، فإنهما اختلفا في قدر ما حصل بالقسمة، فأشبه الاختلاف في قدر المبيع.
وإن قال (استوفيت حقي). ثم قال (أخذت بعضه) فالقول قول خصمه مع يمينه، لأنه يدعي عليه الغصب، وهو منكر، فالقول قول المنكر (1).
والقول بنقض القسمة في حال ادعاء الغلط، وإثباته بالبينة، محل اتفاق أيضاً بين الفقهاء (2). إلا أن الشافعية قالوا:
لو ثبت بحجة (شاهدي عدل أو رجل وامرأتين، أو شاهد ويمين) غلط أو حيف في قسمة إجبار أو قسمة تراض، وهي بالإفراز (أو الأجزاء)، نقضت القسمة بنوعيها.
_________
(1) تكملة الفتح: 20/ 8 وما بعدها، الدر المختار: 186/ 5، تبيين الحقائق: 273/ 5، اللباب: 103/ 4 ومابعدها، البدائع: 26/ 7.
(2) المراجع السابقة.

(6/4768)


فإن لم تكن بالأجزاء بأن كانت بالتعديل أو الرد، لم تنقض؛ لأنها بيع، وإن لم يثبت ذلك، فللمدعي تحليف شريكه.

5 - استحقاق بعض المال المقسوم:
إذا ظهر مستحق في المال المقسوم، أي تبين وجود شريك آخر في المال، فله صور ثلاث عند الحنفية (1) علماً بأن الاستحقاق: هو أن يدعي شخص ملكية شيء أو بعضه، ويثبت دعواه، ويقضي له القاضي بملكيته وانتزاعه من يد آخر كالمشتري أو المقسوم له.
أـ لو كان المستحق بعضاً شائعاً في كل المقسوم، كالخمس أو الربع، فسخت القسمة باتفاق الحنفية، لعدم تحقق معنى الإفراز والتمييز.
ب ـ ولو كان المستحق بعضاً معيناً من نصيب أحد الشركاء، لم تفسخ القسمة باتفاق الحنفية؛ لأن الاستحقاق، لما ورد على جزء معين، لم يظهر أن المستحق كان شريكاً في المال، فلا تبطل القسمة، لكن يرجع المستحق منه على صاحبه بقدر ما يخصه من الجزء المستحق، إذ تبين أنه لم يكن ملكه، فيرده.
جـ ـ ولو كان المستحق بعضاً شائعاً في أحد النصيبين، لم تفسخ القسمة جبراً على المستحق منه عند أبي حنيفة ومحمد، وإنما يخير المستحق منه، بين أن يرجع بحصة البعض في نصيب صاحبه، وبين أن يفسخ؛ لأنه بالاستحقاق ظهر أن القسمة لم تصح في القدر المستحق فقط.
وقال أبو يوسف: تفسخ القسمة؛ لأنه بالاستحقاق تبين أن للشركاء شريكاً
_________
(1) تكملة الفتح: 23/ 8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 274/ 5، الدر المختار: 186/ 5 وما بعدها، اللباب: 106/ 4، م (1145) مجلة.

(6/4769)


آخر، ولو كان هناك شريك، لم تصح القسمة، كما في استحقاق بعض شائع في النصيبين.
أما الشافعية والحنابلة، فقالوا (1): إن استحق من حصة أحد الشريكين شيء معين لغيرهما، بأن اختص به أحدهما، أو أصابه منه أكثر من نصيب الآخر، بطلت القسمة، لاحتياج أحدهما إلى الرجوع على الآخر بسبب عدم تحقق التعديل بين الأنصباء.
وإن كان البعض المستحق مقسوماً بين الشريكين بالسوية، كأن اقتسما أرضاً، فاستحق من حصتهما معاً قطعة معينة على السواء في الحصتين، لم تبطل القسمة فيما بقي من الأرض؛ لأن القسمة إفراز حق كل واحد منهما، وقد أفرز.
وإن استحق بعض المال المقسوم شائعاً في الحصتين أو إحداهما، بطلت القسمة فيه، لا في الباقي عند الشافعية في الأصح، عملاً بمبدأ تفريق الصفقة.
وبطلت القسمة في الجميع عند الحنابلة؛ لأن المستحق شريك ثالث، وقد اقتسم المال من غير حضوره، ولا إذنه، وذلك سواء في قسمة التراضي أوالإجبار، ولأن القصد من القسمة تمييز الحقين، ولم يحصل. وهذا رأي أبي يوسف كما تقدم.

المطلب الثاني ـ الأحكام الخاصة بالإثبات:
هناك أحكام خاصة بالقسمة متعلقة بكيفية فض النزاع بين المتقاسمين إذا اختلفوا في بعض الأمور، مثل الاختلاف حول الحدود، أو تقويم الغبن، أو بقاء بعض الحق في يد الشريك الآخر، حيث تعارضت أدلة الإثبات.
_________
(1) المهذب: 309/ 2، بجيرمي الخطيب: 344/ 4، المغني: 128/ 9، كشاف القناع:376/ 6.

(6/4770)


أولاً ـ الاختلاف في الحدود: إذا اختلف المتقاسمان في الحدود، فادعى كل واحد منهما بيتاً في يد صاحبه لدخوله في حده، بعد القسمة، وأقام كل منهما البينة على دعواه، قضي لكل واحد بالجزء الذي في يد صاحبه؛ لأنه خارج، وبينة الخارج ترجح على بينة ذي اليد.
وإن أقام أحدهما بينة على أن بيتاً له في يد صاحبه أصابه بالقسمة وأنكر الآخر قضي له بالبينة. وإن لم تقم لأحدهما بينة، تحالفا، وترادا كما في البيع (1). وتفسخ القسمة (2).

ثانياً ـ الاختلاف في تقويم الغبن: إذا اختلف المتقاسمان في تقويم الغبن، فإما أن يكون يسيراً أو فاحشاً.
أـ فإن كان الغبن يسيراً: وهو الذي يدخل تحت تقويم المقومين، لم يلتفت للادعاء، سواء أكانت القسمة بالتراضي، أم بقضاء القاضي، لأن الاحتراز عن مثله عسير جداً. ومثلا الغبن اليسير: أن يكون ثمن السلعة عشرة، فيقدره أهل الخبرة بعضهم بعشرة وبعضهم بتسعة، فالواحد يعتبر غبناً يسيراً.
ب ـ وإن كان الغبن فاحشاً: وهو الذي لا يدخل تحت تقويم المقومين (3)، كأن يقدر أهل الخبرة سعر السلعة ذات العشرة بثمانية أو سبعة، ولا يقدرها أحد
_________
(1) روى عبد الله بن أحمد في زيادات المسند من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن جده حديثاً بلفظ «إذا اختلف المبتبايعان، والسلعة قائمة، ولا بينة لأحدهما، تحالفا» (نيل الأوطار: 224/ 5).
(2) البدائع: 26/ 7، تكملة الفتح: 22/ 8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 274/ 5، الدر المختار: 186/ 5.
(3) حدد متأخرو الحنفية الغبن الفاحش بما يعادل نصف عشر القيمة في المنقولات (أي 5%) والعشر (10%) في الحيوان، والخمس (20%) في العقارات.

(6/4771)


بعشرة. فإن كانت القسمة بقضاء القاضي، فسخت؛ لأن الرضا لم يوجد بين المتخاصمين، وتصرف القاضي مقيد بالعدل، ولم يوجد. وإن كانت القسمة بالتراضي، لم يلتفت للادعاء عند بعض الحنفية؛ لأن القسمة في معنى البيع، ودعوى الغبن فيه من المالك لا توجب نقضه (1).
أما البيع من غير المالك كبيع الأب والوصي، فإنه ينقض بالغبن الفاحش (2).
والأصح كما تقدم أنه تسمع دعواه وتفسخ قسمة التراضي كقسمة التقاضي بالغبن الفاحش؛ لأن شرط جواز القسمة المعادلة، ولم توجد، فوجب نقضها.

ثالثاً ـ الاختلاف في استيفاء النصيب: إذا اختلف المتقاسمان بعد القسمة، فأنكر بعض الشركاء استيفاء نصيبه، وادعى أن بعضه في يد صاحبه، وأنكر الآخر.
أـ فإن شهد قاسمان أو أكثر باستيفاء المدعي حقه، تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنهما شهدا على فعل غيرهما، وهو القبض، لا على فعل أنفسهما؛ لأن فعلهما هو التمييز، ولا حاجة للشهادة عليه.
وقال محمد: لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما؛ لأن فعلهما التمييز.
ب ـ وإن شهد قاسم واحد باستيفاء الحق، لا تقبل شهادته؛ لأن شهادة الفرد الواحد لا تقبل على غيره (3).
_________
(1) الغبن الفاحش وحده لا يعيب في معظم الاجتهادات الرضا ما لم يصاحبه شيء من الخلابة أو التدليس أي أن يخدع أحد العاقدين الآخر بوسيلة موهمة قولية أو فعلية تحمله على الرضا بالعقد، ومنه كتمان عيب المبيع، ودليلهم حديث «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض».
(2) تكملة الفتح والعناية: 22/ 8، تبيين الحقائق: 273/ 5 وما بعدها.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 185/ 5 وما بعدها.

(6/4772)


النَّوع الثَّاني: قسمة المنافع أو المهايأة وفيه مباحث خمسة:
المبحث الأول ـ تعريف قسمة المهايأة، ومشروعيتها.
المبحث الثاني ـ محل المهايأة.
المبحث الثالث ـ صفة المهايأة.
المبحث الرابع ـ أنواع المهايأة.
المبحث الخامس ـ ما يملكه كل شريك من التصرف بعد اتفاق المهايأة.

المبحث الأول ـ تعريف المهايأة ومشروعيتها:
أولاً ـ تعريف المهايأة: المهايأة في اللغة: مفاعلة من الهيئة، وهي الحالة الظاهرة للمتهيء للشيء، فكل من الشريكين يرضى بهيئة واحدة، ويختارها. أو أن الشريك الثاني ينتفع بالعين على الهيئة التي ينتفع بها الشريك الأول، فهي لغة: أن يتواضع الشريكان على أمر، ويتراضيا به. والمهايأة فقهاً: هي عبارة عن قسمة المنافع (1).
_________
(1) العناية على شرح الهداية بهامش تكملة الفتح: 27/ 8، رد المحتار: 189/ 5، م (1174) مجلة.

(6/4773)


وعرفها المالكية (1): بأنها اختصاص كل شريك عن شريكه في شيء متحد كدار، أو متعدد كدارين، بمنفعة شيء متحد أو متعدد في زمن معلوم. وبناء عليه: تعين الزمن شرط، إذ به يعرف قدر الانتفاع، وإلا فسدت المهايأة.

ثانياً ـ مشروعيتها: المهايأة جائزة استحساناً للحاجة إليها، إذ قد يتعذر الاجتماع على الانتفاع. ومحلها: منافع الأعيان المشتركة التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها. ولا تبطل بموت الشريكين ولا بموت أحدهما. ولو طلب أحدهما القسمة أعياناً بطلت (2).
وقسمة الأعيان أقوى من المهايأة؛ لأن الأولى جمع المنافع في زمان واحد على الدوام، والتهايؤ جمع المنافع على التعاقب بصفة وقتية (3). فإذا طلب أحد الشريكين القسمة، والآخر المهايأة، يجيب القاضي الأول ويقسم. واستدلوا على مشروعية المهايأة بالقرآن والسنة.
أما القرآن: فقوله تعالى حكاية عن قسمة مهايأة ناقة صالح عليه السلام: {هذه ناقة لها شِرْب، ولكم شِرْب يوم معلوم} [الشعراء:155/ 26] وهو المهايأة بعينها.
وأما السنة: فوقائع منها: أنه صلّى الله عليه وسلم قسم في غزوة بدر كل بعير من الأبعرة السبعين بين ثلاثة نفر، وكانوا يتعاقبون على ركوبه (4).
_________
(1) الشرح الصغير: 660/ 3.
(2) رد االمحتار، المكان السابق، اللباب: 106/ 4.
(3) الهداية مع تكملة الفتح: 27/ 8.
(4) سيرة ابن هشام: 613/ 1.

(6/4774)


المبحث الثاني ـ محل المهايأة:
محل المهايأة: المنافع دون الأعيان، لأنها قسمة المنفعة دون العين، فكان محلها المنفعة دون العين.
وعلى هذا: لو اتفق اثنان على أن يسكن أحدهما في قسم من دار، والآخر في القسم الباقي، أو على أن يسكن أحدهما العلو، والآخر السفل، صح، وله إجارته وأخذ غلته. وكذا تجوز المهايأة في الأراضي المشتركة.
أما لو تهايآ في نخل أو شجر بين شريكين، على أن يأخذ كل واحد منهما جزءاً يستثمره، لا يجوز؛ أو تهايآ في الغنم المشتركة على أن يأخذ كل واحد منهما عدداً معيناً منهما، وينتفع بألبانها، لا يجوز؛ لأن المهايأة عقد يرد على قسمة المنافع، والثمر واللبن عين، فلا يصلح محلاً للمهايأة، وهذا متفق عليه بين الفقهاء (1).
وقال الشافعية: ولا تصح قسمة الديون في الذمم ولو بالتراضي، وكل من أخذ منها شيئاً لا يختص به. ونصت المادة (1175) من المجلة على أن «المهايأة لا تجري في المثليات، بل في القيميات، ليكون الانقطاع بها ممكناً حال بقاء عينها».

المبحث الثالث ـ صفة المهايأة:
للفقهاء رأيان في لزوم المهايأة، رأي للجمهور غيرالمالكية بأنها غير لازمة، ورأي للمالكية بأنها لازمة. وعباراتهم ما يأتي:
_________
(1) البدائع: 32/ 7، تبيين الحقائق: 277/ 5، القوانين الفقهية: ص 285، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 498/ 3، الشرح الصغير: 660/ 3 وما بعدها، بجيرمي الخطيب: 345/ 4، المغني: 130/ 9، كشاف القناع: 367/ 6.

(6/4775)


قال الحنفية (1): المهايأة بالتراضي زماناً أو مكاناً عقد غير لازم، فلو طلب أحد الشريكين من الحاكم المهايأة، والآخر القسمة، يجاب الثاني؛ لأن قسمة العين أقوى من قسمة المنفعة؛ لأن في الأولى تجتمع المنافع في وقت واحد على الدوام، وفي الأخرى تجتمع على التعاقب (2).
وبناء عليه تكون المهايأة عقداً جائزاً محتملاً للفسخ، كسائر العقود الجائزة، تفسخ ولو بغير عذر، ولا تبطل المهايأة بموت أحد الشريكين أو بموتهما، بخلاف الإجارة، لأنها لو بطلت أي المهايأة أعادها القاضي للحال أي استأنفها حالاً، ولا فائدة من الاستئناف، كما لا فائدة في الانقضاء والإبطال، لأنه يجوز لكل واحد فسخها، بغير رضا الآخر.
أما المهايأة بالتقاضي: فهي عقد لازم، كما أوضح ابن عابدين، فلا يجوز لكل من الشريكين نقضها بلا عذر، ما لم يصطلحا.
وقال الشافعية (3): المهايأة عقد غير لازم، لكل من الشريكين الرجوع عنها متى شاء، ولا إجبار فيها من القاضي.
وكذلك قال الحنابلة (4): لا تلزم المهايأة، فمتى رجع أحد الشريكين عنها، انقضت المهايأة، والمهايأة معاوضة لا يجبر عليها كالبيع كما قال الشافعية. ولو طلب أحدهما القسمة كان له ذلك، وانتقضت المهايأة، أي كما قال الحنفية.
أما المالكية فقالوا (5): وتلزم المهايأة كالإجارة، فهي من العقود اللازمة،
_________
(1) البدائع: 32/ 7، الدر المختار ورد المحتار: 184/ 5، 189، تبيين الحقائق: 276/ 5.
(2) انظر المادة (1182) مجلة الآتي نصها في الحاشية التالية.
(3) بجيرمي الخطيب: 345/ 4.
(4) المغني: 130/ 9.
(5) بداية المجتهد: 266/ 2، القوانين الفقهية: ص 285.

(6/4776)


فليس لأحدهما فسخها، فإذا تراضيا على شيء وقعت صحيحة، لا تفسخ إلا برضاهما أو برضاهم إن كانوا جماعة.

المبحث الرابع ـ أنواع المهايأة:
للمهايأة تقسيمان ـ الأول من حيث التراضي والجبر، والثاني ـ من حيث الزمان والمكان.

التقسيم الأول ـ المهايأة من حيث الرضا والجبر:
تقسم المهايأة بهذا الاعتبار إلى نوعين: مهايأة بالتراضي، ومهايأة بالتقاضي.

1 - المهايأة بالتراضي: هي أن يتفق شخصان على كيفية الانتفاع بالشيء المشترك بينهما، على طريق التعاقب أو التناوب زماناً أو مكاناً. وهي جائزة باتفاق الفقهاء.
2 - المهايأة بالتقاضي: هي التي تتم بواسطة القاضي جبراً بناء على طلب أحد الشريكين. فيهايئ القاضي بينهما جبراً إما بالمناوبة الزمانية مدة معينة بنسبة حصة كل منهما، وإما بالمهايأة المكانية بالاختصاص بمنفعة بعض المال المشترك بنسبة الحصص.
وهي جائزة عند الحنفية (1)، تحقيقاً للعدل بين الشركاء، وتوفيراً لمصلحتهم (2)، فللقاضي جبرهم في الأصح، لاحتياج الناس إلى ما هو أعدل وهو القسمة بالقضاء. وقد نصت المادة (1181) مجلة على ما يأتي لبيان أحوال المهايأة الجبرية:
_________
(1) بداية المجتهد: المكان السابق، المادة (1176) من المجلة.
(2) تبيين الحقائق: 276/ 5.

(6/4777)


«إذا طلب المهايأة أحد أصحاب الأشياء المشتركة المتعددة، وامتنع الآخر: فإن كانت الأعيان المشتركة متفقة المنفعة، فالمهايأة جبرية. وإن كانت مختلفة المنفعة فلا جبر.
مثلاً: داران مشتركتان طلب أحد الشريكين المهايأة على أن يسكن إحداهما، والأخرى للآخر. أو حيوانان على أن يستعمل أحدهما واحداً، والآخر الآخر، وامتنع شريكه، فالمهايأة جبرية.
أما لو طلب أحدهما المهايأة على سكنى الدار، وللآخر إيجار الحمام، أو على سكنى أحدهما في الدار وزراعة آخر الأراضي، فالمهايأة بالتراضي، وإن لم تكن جائزة، إلا أنه إذا امتنع الآخر لا يجبر عليها (1)».
ولا يجبر على المهايأة من أباها عند المالكية والشافعية والحنابلة (2) (الجمهور)، لأنها معاوضة، فلا يجبر عليها كالبيع، ولأن حق كل واحد في المنفعة شيء عاجل، فلا يجوز تأخيره بغير رضاه، كالدين، أي فلا تجوز المهايأة بالتقاضي عند الجمهور.
وقال المالكية: لا تجوز قسمة المنافع بالقرعة. وقال الشافعية: إذا اتفقوا عليها، وتنازعوا في البداءة (بدء المناوبة) أقرع بينهم.

التقسيم الثاني ـ المهايأة من حيث الزمان والمكان:
تنقسم المهايأة بهذا الاعتبار إلى نوعين: مهايأة زمانية، ومهايأة مكانية.
فالأولى ترجع للزمان، والثانية ترجع للمكان. والمهايأة عند المالكية (3)
_________
(1) وانظر تبيين الحقائق: 276/ 5، تكملة الفتح: 30/ 8.
(2) القوانين الفقهية: ص 285، بجيرمي الخطيب: 345/ 4، المغني: 130/ 9.
(3) بداية المجتهد: 266/ 3، القوانين الفقهية: ص 285.

(6/4778)


قسمان: المهايأة بالأزمان، والمهايأة بالأعيان. والأولى: هي أن ينتفع كل واحد من الشريكين بالعين (الشيء المشترك كله) مدة مساوية لمدة انتفاع صاحبه كأن يسكن أحدهما الدار شهراً، ويسكنها الآخر شهراً آخر، مثل أن يسكن أحدهما الدار شهراً ويسكنها الآخر شهراً أخر. والثانية: هي أن يقسما الرقاب على أن ينتفع كل واحد منهما بما حصل له مدة محدودة، كأن يسكن أحدهما داراً، ويسكن الآخر داراً أخرى مدة من الزمان، أو يركب أحدهما فرساً والآخر فرساً أخرى مدة معينة.

1 - المهايأة الزمانية:
أولاً ـ تعريفها: هي أن ينتفع كل واحد من الشريكين على التعاقب بجميع العين المشتركة مدة مساوية لمدة انتفاع صاحبه، أو بنسبة حصته (1). كأن يتهايأ اثنان على أن يزرعا الأرض المشتركة بينهما، هذا سنة، والآخر سنة أخرى. أو على سكنى الدار بالمناوبة، هذا سنة، والآخر سنة. أو على استعمال كتاب، هذا أسبوعاً، والآخر مثله. وقد نصت المادة (1187) مجلة على أنه لا تجوز المهايأة على الأعيان، فلا تصلح المهايأة على ثمرة الأشجار المشتركة، ولا على لبن الحيوانات وصوفها على أن يكون لأحد الشريكين ثمرة مقدار من هذه الأشجار، ولآخر ثمرة مقدار منها، أو على لبن قطيع من الغنم المشترك أو صوفه لواحد، ولبن قطيع ثان، وصوفه للآخر.
ثانياً ـ مشروعيتها: وهي جائزة لقوله تعالى حكاية عن مهايأة ناقة صالح عليه السلام في الشِّرب: {هذه ناقة لها شرب، ولكم شرب يوم معلوم} [الشعراء:155/ 26] {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم، كل شرب محتضر} [القمر:28/ 54] ولحاجة الناس إليها.
_________
(1) بداية المجتهد، المكان السابق، المادة (1176) من المجلة.

(6/4779)


ثالثاً ـ تكييفها أو تأصيلها الفقهي: المهايأة الزمانية عند الحنفية كقسمة الأعيان: إفراز من وجه، مبادلة من وجه؛ لأن المهايئ كالمستقرض لنصيب شريكه، فكان فيها معنى المبادلة من وجه (1)، فتكون منفعة أحد أصحاب الحصص في نوبته مبادلة بمنفعة حصة الآخر في نوبته، وبناء على ذلك يكون ذكر المدة وتعيينها في المهايأة مثلاً كذا يوماً أو كذا شهراً، لازماً.
وقال الحنابلة: المهايأة معاوضة، فلا يجبر عليها كالبيع (2).
وصرح الشافعية: أن من استوفى زائداً على حقه، لزمه أجرة ما زاد على قدر حصته من الزائد (3). ويفهم منه أن المهايأة مبادلة.
ونصت المادة (1178) من المجلة على أن «المهايأة زماناً نوع مبادلة، فتكون منفعة أحد أصحاب الحصص في نوبته مبادلة بمنفعة حصة الآخر في نوبته .. ».

رابعاً ـ تعيين المدة: يشترط في المهايأة الزمانية تعيين المدة، بخلاف المهايأة المكانية؛ لأن تعيين الزمان يعرف به قدر الانتفاع، فتصير به المنافع معلومة، ولا تصير معلومة إلا ببيان زمان معلوم، ولأن هذه المهايأة مقدرة بالزمان، أما المهايأة المكانية فمقدرة مجموعة بالمكان، ومكان المنفعة معلوم (4). وقد رتبت المادة السابقة (1178) من المجلة على كون هذه المهايأة نوع مبادلة، فقررت: «وبناء على ذلك ذكر المدة وتعيينها في المهايأة، مثلاً كذا يوماً، أو كذا شهراً: لازم».
_________
(1) تبيين الحقائق: 276/ 5.
(2) المغني: 130/ 9.
(3) بجيرمي الخطيب: 345/ 4.
(4) البدائع: 32/ 7.

(6/4780)


وفصل المالكية (1) في مقدار المدة بعد اشتراطهم تعيين الزمن، وانتفاء الغرر، فقالوا: تجوز المهايأة في المنقولات في المدة اليسيرة، ولا تجوز في المدة الكثيرة، فلا تصح لزمن طويل في الحيوان ونحوه كالثوب. وتجوز المهايأة في العقارات كالدار والأرض المأمونة (بأن كانت ملكاً) لمدة بعيدة، فيسكن أحدهما في الدار مدة معينة، ويسكن الآخر مدة أخرى، ويزرع أحدهما الأرض عاماً، والآخر عاماً مثله. أما الأرض غير المأمونة (غير المملوكة) كالمعارة، فلا يجوز قسمها مهايأة، وإن قلت المدة، إذ قد يرجع المستعير في إعارته، فيفوت على الآخر الذي لم تأت نوبته حقه من الانتفاع.

خامساً ـ انتهاؤها: لا تبطل المهايأة بموت أحد العاقدين، ولا بموتهما؛ لأنها ـ كما ذكرت سابقاً ـ لو بطلت لاستأنفها الحاكم، ولا فائدة في الاستئناف. وإنما تنقضي باتفاق الطرفين على إنهائها، ببيع المال المشترك (2).
2 - المهايأة المكانية:
أولاً ـ تعريفها: هي أن يخصص كل واحد من الشريكين ببعض المال المشترك بنسبة حصته (3)، فيتم الانتفاع معاً في وقت واحد. ففي المهايأة في دار تجمع منفعة أحدهما في جزء من الدار، ومنفعة الآخر في جزء آخر.
ثانياً ـ مشروعيتها: المهايأة المكانية جائزة؛ لأنها نوع من القسمة، مثل قسمة الأعيان، فلو تهايآ على أن يأخذ أحد الشريكين في الأبنية الطابقية السفل، والآخر العلو، جاز، فتكون قسمة المنفعة بالمهايأة المكانية جائزة أيضاً (4).
_________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 499/ 3، الشرح الصغير: 661/ 3، بداية المجتهد: 266/ 2.
(2) الدر المختار: 189/ 5، تبيين الحقائق: 276/ 5، تكملة الفتح: 27/ 8.
(3) انظر المادة (1179) من المجلة.
(4) تبيين الحقائق: 276/ 5، البدائع 31/ 7، تكملة الفتح: 27/ 8.

(6/4781)


وبما أن المهايأة الزمانية جائزة للحاجة عند تعذر اجتماع الشريكين على الانتفاع بالعين الواحدة، فكذلك المكانية.

ثالثاً ـ محلها: تجري المهايأة المكانية في المال المشترك الذي يقبل القسمة كالدار الكبيرة. أما ما لا يقبل القسمة كالسيارة والحيوان والكتاب والبيت الصغير، فلا تمكن فيه المهايأة المكانية، وإنما تتعين فيه المهايأة الزمانية.
المهايأة في الدور:
وبناء عليه تجوز في ظاهر الرواية المهايأة في الدور، سواء أكانت زمانية أم مكانية، للاستعمال الشخصي أو للاستغلال (الانتفاع بواسطة الغير بالأجرة ونحوها)؛ لأن الظاهر عدم التغير في العقار، ولأن المهايأة المكانية إفراز لجميع الأنصباء، والمهايأة الزمانية تتم بالمناوبة أو التعاقب في الانتفاع، فكانت كالقرض، ويعتبر كل واحد في نوبته وكيلاً عن الآخر (1).

المهايأة في الحيوان:
وأما المهايأة في الحيوان كدابتين مثلاً، يركب أحدهما إحداهما مدة، والآخر مدة أخرى، لا تجوز عند أبي حنيفة لا استعمالاً ولا استغلالاً؛ لأن الظاهر التغير في الحيوان، ولأن الاستعمال يتفاوت بتفاوت الراكبين حذقاً وخرقاً.
وتجوز المهايأة استعمالاً عند الصاحبين في الحيوان والحيوانين، كما تجوز للاستغلال في الحيوانين، ولا تجوز في الحيوان الواحد؛ لأن المعادلة تمكن بين الحيوانين، لاتحاد وقتهما، ولا تمكن المعادلة في الحيوان الواحد؛ لأن الظاهر التغير
_________
(1) تبيين الحقائق: 276/ 5 وما بعدها، تكملة الفتح: 30/ 8، الدر المختار: 189/ 5، م (1176) مجلة.

(6/4782)


في الحيوان، لتوالي أسباب التغير عليه، إذ يكون جهد الحيوان في الزمان الثاني أقل منه في الزمان الأول (1).
وقد نصت المادة (1177) مجلة: على جواز المهايأة الاستعمالية في الحيوان المشترك لاستعماله بالمناوبة، وكذلك تجوز في الحيوانين المشتركين، على أن يستعمل أحدهما هذا والآخر الآخر، وهو رأي الصاحبين، وهذا يتفق مع رأي المالكية في قسمة المنافع بالأعيان.

رابعاً ـ تكييفها أو تأصيلها الفقهي: المهايأة المكانية: إفراز لجميع الأنصبة، وليست مبادلة، إذ لو كانت مبادلة لما صحت؛ لأن المبادلة في الجنس الواحد نسيئة، لا تجوز لتوافر ربا النسيئة فيها، باعتبار أن اتحاد الجنس وحده كاف عند الحنفية في وجود هذا النوع من الربا (2).
خامساً ـ مدتها: لا يشترط في المهايأة المكانية ذكر المدة وتعيينها، بخلاف المهايأة الزمانية؛ لأن الزمانية تحتاج إلى بيان الوقت لتصير المنافع معلومة، وأما المكانية فلا تحتاج لبيان الوقت؛ لأن مكان المنفعة معلوم، فصارت المنافع معلومة بمكانها (3). ولكن المالكية قالوا: في قسمة المنافع بالأعيان يشترط أن تكون المدة محدودة.
سادساً ـ انقضاؤها: لا تنقضي المهايأة المكانية كالزمانية بموت أحد الشريكين، ولاتنقضي بموتها،
_________
(1) تبيين الحقائق: 277/ 5، تكملة الفتح: 30/ 8 وما بعدها، البدائع: 32/ 7، الدر المختار: 190/ 5.
(2) تبيين الحقائق: 276/ 5، المادة (1179) مجلة.
(3) البدائع: 32/ 7، المادة (1179) مجلة.

(6/4783)


إذ لو بطلت لاستؤنفت ولا فائدة في الاستئناف؛ لأن لكل شريك فسخها متى شاء، إنما تنقضي بالتراضي على إنهائها، ببيع المال المشترك (1).

المبحث الخامس ـ ما يملكه كل شريك من التصرف بعد المهايأة:
إذا تم الاتفاق على المهايأة، ملك كل واحد من المتهايئين استعمال الشيء كما يريد، سواء أكانت المهايأة مكانية أم زمانية. ففي الزمانية: يجوز السكنى والركوب ونحوهما، وفي المكانية: يجوز السكنى ونحوها.
ويملك كل متهايئ في المهايأة المكانية حق استغلال (استثمار) الشيء المتهايأ فيه، بالإجارة والإعارة ونحوهما، سواء أكان ذلك مشروطاً في العقد، أم غير مشروط، وسواء تهايآ في دار واحدة أو دارين؛ لأن كل متهايئ ملك المنفعة، فيملك التصرف فيها بالتمليك وغيره؛ لأن المهايأة المكانية ليست إعارة.
وأما في المهايأة الزمانية: فلا يملك كل من المتهايئين في نوبته استغلال حصته، باتفاق الحنفية، إذ لم يشترطا ذلك. فإن شرطا في المهايأة حق الاستغلال، ففيه اختلاف عند الحنفية:
أـ قال القدوري: لا يملك، لأن المهايأة الزمانية في معنى الإعارة، والعارية لاتؤجر. وهذا هوالراجح.
ب ـ وقال محمد في الأصل: يجوز التهايؤ في الدار الواحدة على السكنى والغلة، فلكل متهايئ إيجار غيره ما في يده. وتأول الحنفية هذا المنقول في (الأصل) وهو الغلة بأنه غير الاستغلال؛ لأن الغلة أي الناتج عين، والتهايؤ: قسمة المنافع دون الأعيان (2).
_________
(1) نصت المادة 1191 مجلة على أنه: «بموت أحد أصحاب الحصص أو كلهم، لا تبطل المهايأة».
(2) البدائع: 32/ 7 وما بعدها.

(6/4784)