الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ السّابع: الغَصْبُ والإتلاف قال الكاساني (1): الجناية في الأصل نوعان: جناية على البهائم والجمادات، وجناية على الآدمي. أما الجناية على البهائم والجمادات فنوعان أيضاً: غصب وإتلاف.
وهذان النوعان أو ما يدل عليهما: وهو وضع اليد عدواناً أحد أسباب الضمان أو التعويض المالي عن الاعتداء على مال الغير أو حقه. ويلحق بهما بحث دفع الصائل لما يترتب على الصيال من إتلاف وضمان. فيكون الكلام في مبحثين: الأول ـ في الغصب وأحكامه، والثاني ـ في الإتلاف وأحكامه.

المبحث الأول ـ الغصب وأحكامه:
وفيه مطلبان
المطلب الأول: تحريم الغصب، وتعريفه، وأثر اختلاف الفقهاء في ضابطه.
المطلب الثاني: أحكام الغصب الأخروية والدنيوية.
الأول: التأثيم والمؤاخذة.
الثاني ـ رد المغصوب ما دام موجوداً.
_________
(1) البدائع: 233/ 7.

(6/4785)


الثالث ـ ضمان المغصوب حال هلاكه. وفيه الموضوعات التالية:
1 - كيفية الضمان.
2 - وقت وجوب الضمان.
3 - ما يخرج به الغاصب عن عهدة الضمان.
4 - تغير العين المغصوبة أو خلطها بغيرها.
5 - نقصان المغصوب.
6 - زيادة المغصوب، وحكم البناء والغرس والزرع في الأرض المغصوبة.
7 - منافع المغصوب أو غلته.
8 - اختلاف الغاصب والمغصوب منه.
9 - غاصب الغاصب.

المطلب الأول ـ تحريم الغصب، وتعريفه، وأثر اختلاف الفقهاء في ضابطه:
أولاً ـ تحريم الغصب: ثبت تحريم الغصب في القرآن والسنة والإجماع (1). أما القرآن: فقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكام، لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم، وأنتم تعلمون} [البقرة:188/ 2].
_________
(1) المغني: 220/ 5، كشاف القناع: 83/ 4.

(6/4786)


وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (1) وقوله: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» (2) «من أخذ شبراً من الأرض ظلماً، فإنه يطّوقه يوم القيامة من سبع أرضين» (3) «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (4) ونحوها من الأحاديث.
وأجمع المسلمون على تحريم الغصب. وهو معصية كبيرة وإن لم يبلغ المغصوب نصاب سرقة.

ثانياً ـ تعريف الغصب: الغصب لغة: أخذ الشيء ظلماً، أو قهراً جهاراً. وشرعاً: له عند الفقهاء في الجملة حقيقتان تختلفان جذرياً عند الحنفية وغيرهم.
1 - عند الحنفية (5): الغصب: هو أخذ مال متقوم محترم بغير إذن المالك، على وجه يزيل يده.
أخذ المال: يشمل المغصوب وغيره، وقولهم (متقوم) لإخراج غير المتقوم كالخمر والخنزير، وقولهم (محترم) احتراز عن مال الحربي فإنه غير محترم.
والمراد بغير إذن المالك: لإخراج المأذون فيه كالموهوب وغيره مما يتم المبادلة عليه بعقد من العقود. والقيد الأخير: (إزالة يد المالك) لا بد منها لتصور معنى الغصب عند الحنفية، فلا تعتبر زوائد المغصوب كالولد والثمرة مضمونة عندهم.
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه، ورواه مسلم عن جابر، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى (سبل السلام: 73/ 3).
(2) رواه أبو إسحاق الجوزجاني، ورواه الدارقطني عن أنس، وعن عمرو بن يثربي (نيل الأوطار: 316/ 5، نصب الراية: 169/ 4).
(3) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن سعيد بن زيد (نيل الأوطار: 317/ 5).
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وصححه الحاكم عن سمرة بن جندب (سبل السلام: 67/ 3).
(5) تكملة فتح القدير مع العناية: 361/ 7 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 188/ 2.

(6/4787)


وبناء عليه يعتبر الاستخدام والتحميل غصباً؛ لأنه تصرف بالمال، ولا يعتبر الجلوس على البساط مثلاً غصباً؛ لأن البسط فعل المالك، والجلوس استعمال لم يزل يد المالك عنه.
ولا بد من زيادة قيدين آخرين على التعريف: وهما أولاً: «على سبيل المجاهرة» لإخراج السرقة التي تكون على سبيل الخفية. وثانياً: «أو يقصر يده إن لم يكن في يده» فيصبح التعريف: «أخذ مال متقوم محترم على سبيل المجاهرة بغير إذن المالك على وجه يزيل يد المالك إن كان في يده، أو يقصر يده إن لم يكن في يده» ليشمل الأخذ من المستأجر أو من المرتهن أو من الوديع؛ لأن الأخذ من هؤلاء، وإن لم يكن في يد المالك؛ إلا أنه يترتب عليه أن الغاصب قصر يد المالك عن ماله، أي أنه قيد يده في التصرف بماله، فلم يعد قادراً على التصرف.

2 - وعرف المالكية (1) الغصب بأنه «أخذ مال قهراً تعدياً بلا حرابة» فكلمة: «أخذ المال» أي الاستيلاء عليه جنس يشمل الغصب وغيره كأخذ إنسان ماله من وديع أو مدين أو غيرهما. وكلمة «المال» يراد بها الذوات أي الأعيان المادية، فخرج بها «التعدي»: وهو الاستيلاء على المنافع كسكنى الدار وركوب الدابة مثلاً. و «قهراً» لإخراج السرقة ونحوها إذ لا قهر فيها حال الأخذ، وإن أعقبها القهر بعدها، كما أنها أيضاً لإخراج المأخوذ اختياراً كالمستعار والموهوب، و «تعدياً» خرج به المأخوذ قهراً بحق كالدين المأخوذ من مدين مماطل أو من غاصب، وأخذ الزكاة كرهاً من ممتنع عن أدائها، ونحوه، والمقصود بقوله «بلا حرابة» أي بدون مقاتلة، لإخراج المأخوذ بالحرابة؛ لأن حقيقتها غير حقيقة الغصب.
من هذا التعريف يتبين أن الغصب عند المالكية أخص، والتعدي أعم؛ لأن
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 442/ 3، 459.

(6/4788)


التعدي يكون في الأموال والفروج والنفوس والأبدان، والتعدي في النفوس والأبدان يدخل تحت باب الجنايات أو الدماء والقصاص. فالغصب: هو أخذ ذات الشيء، والتعدي: أخذ المنفعة (1).
والتعدي في الأموال أربعة أنواع (2):
الأول ـ أخذ الرقبة أي ذات الشيء وهو الغصب.
والثاني ـ أخذ المنفعة، دون الرقبة، وهو نوع من الغصب، يجب فيه الكراء مطلقاً.
والثالث ـ الاستهلاك بإتلاف الشيء كقتل الحيوان، أو تحريق الثوب كله أو تخريقه، وقطع الشجر، وكسر الزجاج، وإتلاف الطعام والدنانير والدراهم، وشبه ذلك.
والرابع ـ التسبب في التلف، من فتح حانوتاً لرجل، وتركه مفتوحاً، فسرق، أو فتح قفص طائر فطار، أو حل رباط دابة فهربت، أو أوقد ناراً في يوم ريح، فأحرقت شيئاً، أو حفر بئر تعدياً، فسقط فيه إنسان أو بهيمة، أو مزق وثيقة، فضاع ما فيها من الحقوق.
فمن فعل شيئاً مما ذكر فهو ضامن لما استهلكه، أو أتلفه، أو تسبب في إتلافه، سواء تم الفعل عمداً أو خطأ.
_________
(1) وهناك فروق أخرى بينهما منها أن الفساد اليسير من الغاصب يوجب للمالك أخذ قيمة المغصوب إن شاء، والفساد اليسير من المتعدي لا يوجب إلا أخذ أرش النقص الحاصل به. ومنها: أن المتعدي لا يضمن الآفة السماوية، والغاصب يضمنها. ومنها أن المتعدي يضمن غلة ما عطل كدار أغلقها وأرض بورها، ودابة حبسها بخلاف الغاصب إنما يضمن غلة ما استعمل (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 459/ 3 وما بعدها).
(2) القوانين الفقهية: ص 331 وما بعدها.

(6/4789)


3 - وعرف الشافعية والحنابلة (1) الغصب بأنه: الاستيلاء على حق الغير (من مال أو اختصاص) عدواناً، أي على وجه التعدي أو القهر بغير حق.
وهذا التعريف يشمل أخذ الأموال المتقومة والمنافع وسائر الاختصاصات كحق التحجر (أي إحياء الأرض الموات بوضع الأحجار على حدودها)، والأموال غير المتقومة كخمر الذمي، وما ليس بمال، كالكلب والسرجين وجلد الميتة، وأما أخذ مال الحربي فهو أخذ بحق.

ثالثاً ـ أثر اختلاف الفقهاء في ضابط الغصب: اختلف الفقهاء في ضابط الغصب الذي يتحقق به على رأيين:
1 - فقال أبو حنيفة وأبو يوسف (2): الغصب: هو إزالة يد المالك عن ماله المتقوم على سبيل المجاهرة والمغالبة، بفعل في المال، أي أن الغصب لا يتحقق إلا بأمرين هما: إثبات يد الغاصب (وهوأخذ المال) وإزالة يد المالك أي بالنقل والتحويل. وعبارتهم فيه: الغصب يتحقق بوصفين:
إثبات اليد العادِيَة، وإزالة اليد المحقة (3).

2 - وقال جمهور الفقهاء ومنهم المذاهب الثلاثة، ومحمد وزفر من الحنفية (4): يتحقق الغصب بمجرد الاستيلاء، أي إثبات اليد على مال الغير بغير
_________
(1) مغني المحتاج: 275/ 2، كشاف القناع: 83/ 4، المغني: 220/ 5.
(2) البدائع: 143/ 7، تكملة الفتح: 368/ 7، تبيين الحقائق: 224/ 5.
(3) المراد باليد: هو القدرة على التصرف. وعدم اليد: عدم القدرة على التصرف (تبيين الحقائق، المكان السابق). والعادية: بتخفيف الياء لا بتشديدها، وهي الضامنة لا المتعدية.
(4) الشرح الكبير: 442/ 3، مغني المحتاج: 275/ 2، كشاف القناع: 83/ 4. ويفتى برأي محمد وزفر في الوقف، وبرأي الشيخين في غير الوقف.

(6/4790)


إذنه، ولا يشترط إزالة يد المالك. وليس المقصود من الاستيلاء أو أخذ مال الغير: هو الأخذ أو الاستيلاء الحسي بالفعل، وإنما يكفي الحيلولة بين المال وصاحبه، ولو أبقاه بموضعه الذي وضعه فيه.

ويظهر أثر الاختلاف بين الرأيين في غصب العقار وفي زوائد المغصوب وفي منافعه. كما يظهر أثر الاختلاف بين الحنفية وغيرهم باشتراط تقوم المال في غصب المال غير المتقوم.
1ً ـ غصب العقار: لا يتصور الغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلا في غصب المنقول فقط (1)؛ لأن إزالة يد المالك بالنقل والتحويل التي يتحقق بها معنى الغصب عندهما، لا تتحقق إلا في المنقولات. وأما العقار كالأرض والدار، فلايتصور وجود الغصب فيه، لعدم إمكان نقله وتحويله، فمن غصب عقاراً فهلك في يده بآفة سماوية كغلبة سيل، لم يضمنه عندهما، لعدم تحقق الغصب بإزالة اليد؛ لأن العقار في محله لم ينقل، فصار كما لو حال بين المالك وبين متاعه، فتلف المتاع. أما لو كان الهلاك بفعل الغاصب كأن هدمه، فيضمنه؛ لأن الغصب إذا لم يتحقق في العقار، فيعتبر الإتلاف.
وقال محمد وزفر من الحنفية وأئمة المذاهب الثلاثة (2): يتصور غصب العقار من الأراضي والدور، ويجب ضمانها على غاصبها؛ لأنه يكفي ـ عند غير الحنفية ـ لتوافر معنى الغصب: إثبات يد الغاصب على الشيء بالسكنى ووضع الأمتعة وغيرها، ويترتب عليه ضمناً بالضرورة إزالة يد المالك، لاستحالة اجتماع اليدين
_________
(1) البدائع: 45/ 7 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 189/ 2، تكملة الفتح وتبيين الحقائق، المكان السابق.
(2) الشرح الكبير: 443/ 3، بداية المجتهد: 311/ 2، مغني المحتاج: 275/ 2 وما بعدها، المغني: 223/ 5، كشاف القناع: 83/ 4 وما بعدها.

(6/4791)


على محل واحد في حالة واحدة، ويتحقق أيضاً عند محمد وزفر مبدؤهما: وهو إزالة يد المالك وإثبات يد الغاصب، وتحقق هذين الوصفين هو معنى الغصب، فصار العقار كالمنقول في تحقيق الوصفين المطلوبين لتصور الغصب.
ولأن ما يضمن في الإتلاف يجب أن يضمن في الغصب، فالعقار والمنقول مضمونان على السواء؛ وما يضمن في البيع يضمن أيضاً في الغصب؛ ولأن الغاية المطلوبة من الغصب وهي الانتفاع على وجه التعدي توجد في العقار، كما توجد في المنقول.
ويؤكدما سبق كله قوله صلّى الله عليه وسلم: «من ظلم شبراً من الأرض طوقه الله من سبع أرضين» (1) وفي لفظ «من غصب شبراً من الأرض» فإنه يدل على تحقق الغصب في العقار؛ لأنه سماه غصباً.
وهذا الرأي هو الأرجح.

2ً ـ زوائد المغصوب أو النماء السماوي: لا تضمن زوائد المغصوب إذا هلكت بلا تعدّ، وإنما هي أمانة في يد الغاصب في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (2)، سواء أكانت منفصلة كالولد واللبن والثمرة، أم متصلة كالسمن والجمال؛ لأن الغصب عندهما هو إثبات يد الغاصب على مال الغير على وجه يزيل يد المالك كما تقدم، ويد المالك لم تكن ثابتة على هذه الزيادة حتى يزيلها الغاصب، أي أن عنصر (إزالة يد المالك) لم يتحقق هنا، كما لم يتحقق في غصب العقار.
فإن تعدّى الغاصب على الزيادة، لأن أتلفها أو أكلها أو باعها، أو طلبها مالكها فمنعها عنه، ضمنها؛ لأنه بالتعدي أو المنع صار غاصباً.
_________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين من رواية عائشة رضي الله عنها.
(2) البدائع: 143/ 7، 160، الدر المختار: 143/ 5، تكملة الفتح: 388/ 7، اللباب شرح الكتاب: 194/ 2.

(6/4792)


وقال المالكية في الأرجح عندهم (1): إذا كانت الزيادة التي بفعل الله متصلة كالسمن والكبر فلا تكون مضمونة على الغاصب. وأما إذا كانت الزيادة منفصلة ولو نشأت من غير استعمال الغاصب كاللبن والصوف وثمر الشجر، فهي مضمونة على الغاصب إن تلفت أو استهلكت، ويجب ردها مع المغصوب الأصلي على صاحبها.
وقال محمد من الحنفية، والشافعية والحنابلة (2): تضمن زوائد المغصوب في يد الغاصب، سواء أكانت متصلة كالسمن ونحوه، أم منفصلة كثمرة الشجرة وولد الحيوان، متى تلف شيء منه في يد الغاصب، لتحقق إثبات اليد العادِيَة (الضامنة)، لأنه بإمساك الأصل تسبب في إثبات يده على هذه الزوائد، وإثبات يده على الأصل محظور.

3ً ـ منافع المغصوب وغلته: لا يضمن الغاصب عند الحنفية (3) منافع ما غصبه من ركوب الدابة، وسكنى الدار، سواء استوفاها أم عطلها؛ لأن المنفعة ليست بمال عندهم؛ ولأن المنفعة الحادثة على يد الغاصب لم تكن موجودة في يد المالك، فلم يتحقق فيها معنى الغصب، لعدم إزالة يد المالك عنها.
وهذا فيما عدا ثلاثة مواضع يجب فيها أجر المثل، في اختيار متأخري
_________
(1) بداية المجتهد: 313/ 2، الشرح الصغير للدردير: 596/ 3، الشرح الكبير للدردير: 448/ 3، شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: 220/ 2.
(2) البدائع: 145/ 7، الدر المختار: 144/ 5 - 145، تكملة الفتح: 394/ 7، اللباب شرح الكتاب: 195/ 2، المهذب: 370/ 1، المغني والشرح الكبير: 399/ 5 وما بعدها.
(3) الشرح الكبير: 448/ 3، الشرح الصغير: 595/ 3 وما بعدها، بداية المجتهد: 315/ 2 شرح الرسالة: 240/ 2.

(6/4793)


الحنفية، وعليه الفتوى، وهي أن يكون المغصوب وقفاً، أو ليتيم، أو معداً للاستغلال بأن بناه صاحبه أو اشتراه لذلك الغرض.
وإن نقص المغصوب أي ذاته باستعمال الغاصب غرم النقصان، لاستهلاكه بعض أجزاء العين المغصوبة، كما سأبين.
وأما غلة المغصوب كما سيأتي بيانه: فلا تطيب في رأي أبي حنيفة ومحمد للغاصب؛ لأنه لا يحل له الانتفاع بملك الغير. وقال أبو يوسف وزفر: تطيب له.
وقال المالكية في المشهور (1): يضمن الغاصب غلة مغصوب مستعمل، أي أنه يضمن غلة المغصوب ذاته الذي استعمله الغاصب، سواء كان المغصوب عقاراً من دور أو أرض سكنها أو زرعها أو كراها، أم منقولاً: حيواناً أو غيره، كراه أو استعمله، ولا يضمن ما نشأ من غير استعمال، ولو عطّله على صاحبه.
هذا في حالة غصب الذات، أما إن قصد الغاصب غصب المنفعة (وهي حالة التعدي عندهم كما تبين) فيلزمه كراء المثل.
والخلاصة: أن الغاصب يضمن فقط غلة ما استعمل، والمتعدي يضمن غلة ما عطل كدار أغلقها، وأرض بورها، ودابة حبسها، كما بان سابقاً.
وقال الشافعية والحنابلة (2): يضمن الغاصب منفعة المغصوب، وعليه أجر المثل، سواء استوفى المنافع، أم تركها تذهب، وسواء أكان المغصوب عقاراً كالدار، أم منقولاً كالكتاب والدابة ونحوهما؛ لأن المنفعة مال متقوم، فوجب
_________
(1) الشرح الكبير: 448/ 3، الشرح الصغير: 595/ 3 وما بعدها، بداية المجتهد: 315/ 2 شرح الرسالة: 240/ 2.
(2) مغني المحتاج: 486/ 2، المهذب: 367/ 1، فتح العزيز: 262/ 11، المغني: 270/ 5 القواعد لابن رجب: ص 213.

(6/4794)


ضمانه كالعين المغصوبة ذاتها. وهذا الرأي هو المتفق مع العدالة، ومع ظروف العصر الحاضر المتجه إلى المادية، وتقويم كل الأشياء، حتى النواحي الأدبية أو الذهنية.

4ً ـ غصب غير المتقوم: قال الحنفية (1): لا يضمن الغاصب خمر المسلم أو خنزيره إذا غصبه وهلك في يده أو استهلكه أو خلل الخمر، سواء أكان الغاصب مسلماً أم ذمياً؛ لأن الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم ويجب إراقتها، وكذا الخنزير غير متقوم، لكن لو قام الغاصب بتخليل خمر المسلم ثم استهلكها يضمن خلاً مثلاً لا خمراً؛ لأن الغصب حين وجوده لم ينعقد سبباً لوجوب الضمان، فإن استهلكه فقد وجد منه سبب الضمان، وهو إتلاف خلّ مملوك للمغصوب منه، فيضمن. وكذلك يضمن الغاصب جلد الميتة إذا دبغه، ويجب عليه فقط ما زاد الدباغ فيه؛ لأنه بالدبغ صار مالاً متقوماً.
ويضمن المسلم أو الذمي خمر الذمي أو خنزيره إذا استهلكه؛ لأن كلاً منهما مال عند أهل الذمة، فالخمر عندهم كالخل عندنا، والخنزير عندهم كالشاة عندنا؛ لأن لهم ماللمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون (2)، وبه يقرون على بيعها. لكن تجب على المسلم قيمة الخمر، وإن كان من
_________
(1) البدائع: 147/ 7 وما بعدها، 162 وما بعدها، الدر المختار: 147/ 5 - 149، تكملة فتح القدير: 396/ 7 - 405، اللباب: 195/ 2، تبيين الحقائق: 222/ 5.
(2) هذا مروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حيث قال: «إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا». «وأمرنا بتركهم وما يدينون» (نصب الراية: 369/ 4، تكملة فتح القدير: 398/ 7).

(6/4795)


المثليات؛ لأن المسلم ممنوع من تملكه، وغير المسلم يجوز له تسليم المثل؛ لأنه يجوز له تملك الخمر وتمليكها بالبيع وغيره.
أما الميتة والدم ولو لذمي فلا يضمنان بالغصب؛ لأنهما ليسا بمال، ولا يدين أحد من أهل الأديان تمولهما. كما لا يضمن متروك التسمية عمداً ولو كان مملوكاً لمن يبيحه.
وكذلك يضمن المسلم قيمة صليب غصبه من نصراني فهلك في يده؛ لأنه مقر على ذلك.
وقال أبو حنيفة: ومن كسر لمسلم آلة من آلات اللهو والطرب كالطبل والمزمار والدف ونحوها، فهو ضامن؛ لأنها أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع لغير اللهو، وإن استعملت فيما لا يحل، كالمغنية إذا اعتدي عليها، وتضمن قيمة هذه الآلات خشباً منحوتاً صالحاً لغير اللهو، أي تضمن قيمتها قبل التصنيع.
أما الصاحبان فقالا: لا تضمن آلات الملاهي؛ لأن هذه الأشياء أعدت للمعصية، فبطل تقومها كالخمر، ولأنه يجب شرعاً إتلافها، وقد فعل المتلف ما أمر به الشرع، فلا ضمان عليه، كما إذا فعل أمراً بإذن الإمام.
وقال المالكية (1) مثلما قال الحنفية: لا تضمن خمر المسلم أو خنزيره، ولا آلات الملاهي والأصنام، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» (2)، ولأنه لا قيمة لها، وما لا قيمة له لا يضمن.
لكن يضمن الغاصب خمر الذمي لتعديه عليه، ولأنها مال محترم عند غير
_________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 204/ 2، 447/ 3، الشرح الصغير: 592/ 3 ومابعدها.
(2) أخرجه البخاري ومسلم من حديث جابر يوم الفتح.

(6/4796)


المسلمين يتمولونها. وإذا تخللت الخمر، وكانت لمسلم خير صاحبها بين أخذها خلاً، أو مثل عصيرها إن علم قدرها، وإلا فقيمتها. أما خمر غير المسلم فيخير صاحبها بين أخذ قيمتها يوم الغصب، أوأخذ الخل، على المفتى به عند المالكية.
وإن كان المغصوب جلد ميتة لم يدبغ أو دبغ، أو كلباً مأذوناً في اتخاذه، مثل كلب صيد أو ماشية أو حراسة، فأتلفه الغاصب، فإنه يغرم القيمة، ولو لم يجز بيع الجلد أو الكلب.
وقال الشافعية والحنابلة (1): لا تضمن الخمر والخنزيز، سواء أكان متلفها مسلماً أم ذمياً، وسواء أكانت لمسلم أم لذمي، إذ لا قيمة لها كالدم والميتة وسائر الأعيان النجسة، وما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل عنه؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم حرم بيعها، وأمر بإراقتها، فما لايحل بيعه ولا تملكه، لا ضمان فيه.
كذلك لا ضمان عندهم بإتلاف الأصنام وآلات الملاهي، إلا أن الشافعية أجازوا ضمانها خشباً منحوتاً فقط (2) كما قال أبو حنيفة، إذا كانت صالحة لمنفعة مباحة، فإن لم تصلح لذاك لم يلزم المتلف شيء، لأنه لم يتلف ما له قيمة.
لكن إذا كانت خمر الذمي ما زالت باقية عند الغاصب، فيجب ردها عليه؛ لأنه يقر على شربها. فإن غصبها من مسلم لم يلزم عند الحنابلة ردها، يجب إراقتها؛ لأنه لا يقر على اقتنائها، ويحرم ردها إلى المسلم إذا لم يكن صانع خل (خلالاً) لأنه إعانة له على ما يحرم عليه.
_________
(1) مغني المحتاج: 285/ 2، 291، فتح العزيز شرح الوجيز: 258/ 11، المغني: 256/ 5، 276، المهذب: 374/ 1، كشاف القناع: 84/ 4 وما بعدها، الميزان: 90/ 2.
(2) عبارة الشافعية في هذا: أن المتلف يلزمه الفرق ما بين قيمة الآلة مفككة (مفصلة) ومكسورة.

(6/4797)


وفصل الشافعية فقالوا: ترد الخمر المحترمة (1) المغصوبة من مسلم إليه، ولا ترد الخمر غير المحترمة بل تراق.
ولو غصب غاصب عصيراً، فتخمر، ثم تخلل، فالأصح عند الشافعية أن الخل للمالك، وعلى الغاصب أرش ما نقص من قيمة العصير، إن كان الخل أنقص قيمة من العصير، لحصوله في يده. وقال الحنابلة: إنه يجب عليه مثل العصير.
ولو غصب جلد ميتة فدبغه، فالأصح عند الشافعية أيضاً أن الجلد للمغصوب منه كالخمر التي تخللت، فإذا تلفا في يده ضمنهما. وقال الحنابلة: إن غصب جلد ميتة نجسة لم يلزم الغاصب رده ولو دبغه؛ لأنه لا يطهر بدبغه عندهم، ولا قيمة له؛ لأنه لا يصح بيعه.

المطلب الثاني ـ أحكام الغصب:
للغصب أحكام ثلاثة: الإثم لمن علم أنه مال الغير، ورد العين المغصوبة مادامت قائمة، وضمانها إذا هلكت (2).

الحكم الأول ـ الإثم: وهو استحقاق المؤاخذة في الآخرة، إذا فعل الغصب عالماً أن المغصوب مال الغير؛ لأن ذلك معصية، وارتكاب المعصية عمداً موجب
_________
(1) الخمر المحترمة: هي التي عصرت من غير قصد الخمرية، سواء عصرت بقصد الخلية أو عصرت بغير قصد شيء.
(2) الدر المختار: 126/ 5، القوانين الفقهية: ص 330، مغني المحتاج: 277/ 2، المغني: 259/ 5 وما بعدها.

(6/4798)


للمؤاخذة (1)، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من غصب شبراً من أرض، طوقه الله تعالى من سبع أرضين يوم القيامة».
ويؤدب بالضرب والسجن عند الحنفية والمالكية (2) غاصب مميز صغير أو كبير لحق الله تعالى، ولو عفا عنه المغصوب منه، باجتهاد الحاكم لدفع الفساد، وإصلاح حاله، وزجره هو وأمثاله. أما غير المميز من صغير ومجنون فلا يعزر. كذلك نص الشافعية (3) على أنه يعزر الغاصب لحق الله تعالى، واستيفاؤه للإمام.
فإن حدث الغصب لا عن علم بأن ظن أن الشيء ملكه، فلا إثم ولا مؤاخذة عليه؛ لأنه خطأ، والخطأ لا مؤاخذة عليه شرعاً لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286/ 2] وقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (4).
ولكن في هذه الحالة يبقى الحكمان الأخيران وهما: رد العين ما دامت قائمة، والغرم إذا صارت هالكة.

الحكم الثاني ـ رد العين المغصوبة ما دامت قائمة: والكلام فيه في مواضع:
_________
(1) إن أخذ أموال الناس بالباطل له عشرة أنواع كلها حرام، والحكم فيها مختلف: الأول ـ الحرابة، والثاني ـ الغصب، والثالث ـ السرقة، والرابع ـ الاختلاس، والخامس ـ الخيانة، والسادس ـ الإذلال، والسابع ـ الفجور في الخصام بإنكار الحق أو دعوى الباطل، والثامن ـ القمار، كالشطرنج والنرد، والتاسع ـ الرشوة، فلا يحل أخذها ولا عطاؤها، والعاشر ـ الغش والخلابة في البيوع (القوانين الفقهية: ص 329) والحرام: لا يجوز قبوله ولا الأكل منه ولا السكنى فيه، لكن يجوز أخذ العوض عن التالف عند الغاصب؛ لأن دفع العوض واجب مستقل.
(2) الشرح الكبير: 442/ 3؛ القوانين الفقهية: ص 330.
(3) مغني المحتاج: 277/ 4.
(4) رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس بلفظ: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ ... » الحديث.

(6/4799)


هي سبب وجوب الرد، وشرط الرد ومكانه ومؤنته، وما يصير به المالك مسترداً (1).
اتفق الفقهاء على أنه يجب رد العين المغصوبة إلى صاحبها حال قيامها ووجودها بذاتها لقوله صلّى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جاداً، ولا لاعباً، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه، فليردها عليه» (2) وترد إلى مكان الغصب لتفاوت القيم باختلاف الأماكن.
ومؤنة الرد (نفقته) على الغاصب؛ لأنها من ضرورات الرد، فإذا وجب عليه الرد، وجب عليه ما هو من ضروراته كما في رد العارية.
ويصير المالك مسترداً للمغصوب: بإثبات يده عليه، لأنه صار مغصوباً بتفويت يده عنه. فإذا أثبت يده عليه، فقد أعاده إلى يده، وزالت يد الغاصب عنه، إلا أن يغصبه مرة أخرى.
ويبرأ الغاصب من الضمان بالرد، سواء علم المالك بحدوث الرد أم لم يعلم؛ لأن إثبات اليد على الشيء أمر حسي لا يختلف بالعلم أو الجهل بحدوثه.

الحكم الثالث ـ ضمان المغصوب إذا هلك: والكلام فيه يتناول عدة مواضع هي مايأتي:
1 - كيفية الضمان:
إذا هلك المغصوب أو تلف أو أتلف عند الغاصب، وكان من المنقولات عند
_________
(1) البدائع: 148/ 7، الدر المختار: 128/ 5، تكملة الفتح: 367/ 7، الميزان: 88/ 2.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن السائب بن يزيد عن أبيه (نيل الأوطار: 316/ 5).

(6/4800)


الحنفية (1)، أو من العقارات أو المنقولات عند غير الحنفية (2)، بفعله أو بغير فعله، فعليه ضمانه، أي غرامته أو تعويضه. لكن إن كان الهلاك بتعد من غيره، لا بآفة سماوية، رجع الغاصب عليه بما ضمن؛ لأنه يستقر عليه ضمان الشيء الذي يمكنه أن يتخلص منه برده إلى من كان في يده. وعبارتهم فيه: «الغاصب ضامن لما غصبه، سواء تلف بأمر الله، أو من مخلوق» (3).
وكيفية الضمان أو قاعدته: أنه يجب ضمان المثل باتفاق العلماء إذا كان المال مثلياً، وقيمته إذا كان قيمياً، فإن تعذر وجود المثل وجبت القيمة للضرورة.
أما ضمان المثل فلقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم، فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/ 2] {وإ ن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/ 16] {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40/ 42] ولأن المثل تماماً أقرب إلى الأصل التالف، فكان الإلزام به أعدل وأتم لجبران الضرر، والواجب في الضمان الاقتراب من الأصل بقدر الإمكان تعويضاً للضرر.
وأما ضمان القيمة فلأنه تعذر الوفاء بالمثل تماماً صورة ومعنى، فيجب المثل المعنوي وهو القيمة؛ لأنها تقوم مقامه، ويحصل بها مثله، واسمها ينبئ عنه.
والمال المثلي: هو مايوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتد به. أو هو ما تماثلت آحاده أو أجزاؤه بحيث يمكن أن يقوم بعضها مقام بعض دون فرق يعتد به.
_________
(1) المبسوط: 50/ 11، البدائع: 150/ 7، 168، الدر المختار: 128/ 5، تبيين الحقائق: 223/ 5، 234، تكملة الفتح: 363/ 7، اللباب والكتاب: 188/ 4 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 443/ 3، القوانين الفقهية: ص 330 وما بعدها، بداية المجتهد: 312/ 2، مغني المحتاج: 281/ 2، 284، فتح العزيز شرح الوجيز: 242/ 11 بهامش المجموع، المغني: 221/ 5، 254، 258، كشاف القناع: 116/ 4 وما بعدها.
(3) القوانين الفقهية: ص 331.

(6/4801)


والأموال المثلية أربعة: هي المكيلات والموزونات، والعدديات المتقاربة، وبعض أنواع الذرعيات.
والمكيلات: هي التي تباع بالكيل كالقمح والشعير، وكبعض السوائل التي تباع اليوم بالليتر كالبترول والبنزين.
والموزونات: هي التي تباع بالوزن كالسمن والزيت والسكر.
والذرعيات: هي التي تباع بالذراع ونحوه كالقطع الكبرى من المنسوجات الصوفية أو القطنية أو الحريرية.
والعدديات المتقاربة: هي التي لاتتفاوت آحادها إلا تفاوتاً بسيطاً كالبيض والجوز. وكالمصنوعات المتماثلة من صنع المعامل كالكؤوس وصحون الخزف والبلور ونحوها من الدفاتر والأقلام والمطبوعات.
والقيمي: هو ما ليس له مثل في الأسواق، أويوجد لكن مع التفاوت المعتد به في القيمة. أو هو ما تفاوتت أفراده، فلا يقوم بعضها مقام بعض بلا فرق كالدور والأراضي المختلفة المواقع أو المبنية والأشجار والحيوان والمفروشات والمخطوطات ونحوها (1).
وتجب القيمة في ثلاث حالات (2):
1 - إذا كان الشيء غير مثلي كالحيوانات والدور والمصوغات، فلكل واحد منها قيمة تختلف عن الأخرى باختلاف الصفات المميزة لكل واحد.
_________
(1) الدر المختار وحاشيته: 130/ 5، 173/ 4، اللباب والكتاب: 188/ 2، تكملة الفتح: 363/ 7، تبيين الحقائق: 223/ 5، بداية المجتهد: 312/ 2، شرح الرسالة: 217/ 2، القوانين الفقهية: ص 330، مغني المحتاج: 281/ 2، 284، كشاف القناع: 116/ 4 ومابعدها، المدخل لنظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي للأستاذ مصطفى الزرقا: ص50.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 129/ 5.

(6/4802)


2 - إذا كان الشيء خليطاً مما هو مثلي بغير جنسه، كالحنطة مع الشعير.
3 - إذا كان الشيء مثلياً تعذر وجود مثله، والتعذر إما حقيقي حسي كانقطاع وجود المثل في السوق بعد البحث عنه، وإن وجد في البيوت، أو حكمي: كأن لم يوجد إلا بأكثر من ثمن المثل، أو شرعي: بالنسبة للضامن كالخمر بالنسبة للمسلم يجب عليه للذمي عند أئمة المذاهب كما أبنت ضمان القيمة، وإن كانت الخمر من المثليات؛ لأنه يحرم على المسلم تملكها بالشراء.
وبه يتبين أن الواجب الأصلي في الضمان (أو التعويض أو الغرامة): هو إزالة الضرر عيناً كإصلاح الحائط، ورد عين المغصوب مادام قائماً، ورد الخمر المغصوبة مادامت باقية بالنسبة للمسلم، إذ له عند الحنفية إمساكها لتصير خلاً، وجبر التلف وإعادته صحيحاً كما كان، عند الإمكان، كإعادة المكسور صحيحاً. فإن تعذرت الإعادة وجب التعويض: المثلي في المثليات، والنقدي أو القيمة في القيميات.

2 - وقت وجوب الضمان أو وقت تقدير التعويض:
للفقهاء آراء متقاربة في وقت الضمان أو تقدير قيمة التعويض، فقال الحنفية على المختار عندهم (1) والمالكية (2): تقدر قيمة المغصوب يوم الغصب؛ لأن الضمان يجب بالغصب، فتقدر قيمة المغصوب يوم الغصب، فلا يتغير التقدير
_________
(1) هذا هو رأي أبي يوسف وهو الذي أخذت به المجلة م/921، وقال أبو حنيفة: تجب القيمة وقت الخصومة أي المحاكمة، وقال محمد: تجب القيمة يوم انقطاع المثل من الأسواق.
(2) البدائع: 151/ 7، الدر المختار: 128/ 5، تكملة الفتح: 363/ 7، المبسوط: 50/ 11، تبيين الحقائق: 223/ 5، اللباب مع الكتاب: 188/ 2، الشرح الكبير للدردير: 443/ 3، 448، بداية المجتهد: 312/ 2، القوانين الفقهية: ص 330.

(6/4803)


بتغير الأسعار؛ لأن سبب الضمان لم يتغير كما لم يتغير محل الضمان، لكن فرق المالكية بين ضمان الذات وضمان الغلة، فتضمن الأولى يوم الاستيلاء عليها، وتضمن الغلة من يوم استغلالها، وأما المتعدي: وهو غاصب المنفعة فيضمن المنفعة بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها.
وقال الشافعية (1): الأصح أن المعتبر في الضمان هو أقصى قيمة للمغصوب من وقت الغصب في بلد الغصب إلى وقت تعذر وجود المثل. وإذا كان المثل مفقوداً عند التلف، فالأصح وجوب الأكثر قيمة من الغصب إلى التلف، سواء أكان ذلك بتغير الأسعار، أم بتغير المغصوب في نفسه.
وأما المال القيمي: فيضمن بأقصى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم التلف.
وقال الحنابلة (2): إن كان المغصوب من المثليات، وفقد المثل، وجبت قيمته يوم انقطاع المثل؛ لأن القيمة وجبت في الذمة حين انقطاع المثل، فقُدِّرَت القيمة حينئذ كتلف المتقوم.
وإن كان المغصوب من القيميات وتلف، فالواجب القيمة أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين الرد، إذا كان التغير في المغصوب نفسه من كبر وصغر، وسمن وهزال، ونحوها من المعاني التي تزيد بها القيمة وتنقص؛ لأن هذه المعاني مغصوبة في الحال التي زادت فيها، والزياد ة لمالكها مضمونة على الغاصب.
وإن كانت زيادة القيمة لتغير الأسعار، لم تضمن الزيادة؛ لأن نقصان القيمة لهذا السبب لا يضمن إذا ردت العين المغصوبة بذاتها، فلا يضمن عند تلفها.
_________
(1) مغني المحتاج: 283/ 2، المهذب: 368/ 1، بجيرمي الخطيب: 136/ 3، نهاية المحتاج: 119/ 4 - 121.
(2) المغني: 257/ 5 وما بعدها، كشاف القناع: 117/ 4.

(6/4804)


3 - ما يخرج به الغاصب عن عهدة الضمان:
يخرج الغاصب عن عهدة الضمان بأحد أربعة أمور:
الأول ـ رد العين المغصوبة إلى صاحبها ما دامت باقية بذاتها، ولم تشغل بشيء آخر.
الثاني ـ أداء الضمان إلى المالك أو من يقوم مقامه؛ لأنه المطلوب أصالة.
الثالث ـ الإبراء عن الضمان، إما صراحة مثل: أبرأتك عن الضمان أو أسقطته عنك أو وهبته منك ونحوه، أو يجري مجرى الصريح: وهو أن يختار المالك تضمين أحد الغاصبين، فيبرأ الآخر؛ لأن اختيار تضمين أحدهما إبراء للآخر ضمناً (دلالة).
الرابع ـ إطعام الغاصب المغصوب لمالكه أو لدابته، وهو يعلم أنه طعامه، أو تسلم الغاصب الشيء المغصوب على سبيل الأمانة كالإيداع أو الهبة أو الإجارة أو الاستئجار على قصارته (تبييضه) أو خياطته، وعلم المالك أنه ماله المغصوب منه، أو على وجه ثبوت بدله في ذمته، كالقرض، وعلم أنه ماله، فإن لم يعلم بذلك لم يبرأ الغاصب حتى تتغير صفة الغصب (1).

وهل يملك الغاصب الشيء المغصوب بالضمان؟ قال الحنفية (2): يملك الغاصب الشيء المغصوب بعد ضمانه من وقت وجود الغصب، حتى لا يجتمع البدل والمبدل في ملك المالك. وينتج عن التملك أن
_________
(1) البدائع: 151/ 7، الشرح الصغير: 600/ 3 ومابعدها، السراج الوهاج شرح المنهاج: ص 268، المغني والشرح الكبير: 437/ 5، كشاف القناع: 103/ 4 ط بيروت.
(2) المبسوط: 15/ 16، البدائع: 152/ 7 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 193/ 2.

(6/4805)


الغاصب لو تصرف في المغصوب بالبيع أو الهبة أو الصدقة قبل أداء الضمان، ينفذ تصرفه، كما تنفذ تصرفات المشتري في المشترى شراء فاسداً، وكما لو غصب شخص عيناً فغيبها (أخفاها) فضمنه المالك قيمتها، ملكها الغاصب؛ لأن المالك ملك البدل كله، والمبدل قابل للنقل، فيملكه الغاصب لئلا يجتمع البدلان في ملك شخص واحد.
ولكن في رأي أبي حنيفة ومحمد (1): لا يحل للغاصب الانتفاع بالمغصوب بأن يأكله بنفسه أو يطعمه غيره قبل أداء الضمان. وإذا حصل فيه فضل (أي نماء وزيادة) يتصدق بالفضل استحساناً، وعليه، إن غلة المغصوب المستفادة من إركاب سيارة مثلاً لا تطيب له؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبح الانتفاع بالمغصوب قبل إرضاء المالك، روى أبو حنيفة بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان في ضيافة قوم من الأنصار، فقدَّموا إليه شاة مصلية (مشوية)، فأخذ منها لقمة، فجعل يمضغها ولا يسيغها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هذه الشاة لتخبرني أنها ذبحت بغير حق، قالوا: هذه الشاة لجار لنا، ذبحناها لنرضيه بثمنها، فقال صلّى الله عليه وسلم: أطعموها الأسارى (2)» فقد حرم عليهم الانتفاع بها، مع حاجتهم، ولو كانت حلالاً لأطلق لهم إباحة الانتفاع بها.
وقال المالكية (3): يمنع الغاصب من التصرف في المغصوب برهن أو كفالة خشية ضياع حق المالك، ولا يجوز لمن وهب له منه شيء قبوله ولا الأكل منه مثلاً
_________
(1) وقال أبو يوسف وزفر: يحل له الانتفاع ولا يلزمه التصدق بالفعل إن كان فيه فضل، لأن المغصوب مملوك للغاصب من وقت الغصب: «المضمونات تملك بأداء الضمان مستنداً إلى وقت الغصب» أي بأثر رجعي، وعلى هذا فإن غلة المغصوب تطيب للغاصب.
(2) رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار، وأبو داود وأحمد في مسنده والدارقطني في سننه من حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار (نصب الراية: 168/ 4).
(3) الشرح الكبير: 445/ 3 وما بعدها، الشرح الصغير: 586/ 3.

(6/4806)


ولا السكنى فيه مثل أي شيء حرام، لكن لو تلف المغصوب عند الغاصب أو استهلكه (أي فات عنده بتعبيرهم)، فالأرجح عندهم أنه يجوز للغاصب الانتفاع به؛ لأنه وجبت عليه قيمته في ذمته، فقد أفتى بعض المحققين بجواز الشراء من لحم الأغنام المغصوبة إذا باعها الغاصب للجزارين، فذبحوها؛ لأنه بذبحها ترتبت القيمة في ذمة الغاصب، إلا أنهم قالوا: ومن اتقاه فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومعناه أن الغاصب يتملك بالضمان الشيء المغصوب من يوم التلف.
وقال الشافعية والحنابلة (1): لا يملك الغاصب العين المغصوبة بدفع القيمة؛ لأنه لا يصح أن يتملكه بالبيع لغيره لعدم القدرة على التسليم، فلا يصح أن يتملكه بالتضمين، كالشيء التالف لا يملكه بالإتلاف.
وبناء عليه تحرم عندهم تصرفات الغاصب بعقد أو غيره، ولا تصح (2)، لحديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (3) أي مردود، فلا يجوز له بيعه أو إجارته، كما لا يجوز له إتلافه واستعماله كأكل ولبس وركوب وحمل عليه وسكنى العقار، لحديث «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم».

4 - تغير العين المغصوبة عند الغاصب:
قال الحنفية: قد يتغير المغصوب عند الغاصب بنفسه أوبفعل الغاصب، وهذا
_________
(1) المهذب: 368/ 1، مغني المحتاج: 277/ 2، 279، كشاف القناع: 120/ 4، 123 وما بعدها، المغني: 251/ 5 - 253.
(2) وكذلك قال الحنابلة خلافاً للجمهور: يحرم الحج ولا يصح من المال المغصوب وسائر العبادات كالصلاة بثوب مغصوب، أو في مكان مغصوب، والوضوء من ماء مغصوب، وإخراج زكاته بخلاف عبادة لا يحتاج فيهاإلى المغصوب كالصوم والذكر والاعتقاد (كشاف القناع: 123/ 4 وما بعدها، وراجع للمؤلف أصول الفقه: 82/ 1، ط دار الفكر، طبعة ثانية).
(3) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها.

(6/4807)


الأخير قد يكون تغيراً في الوصف أو تغيراً في الاسم والذات (1). وكل حالات التغير يكون المغصوب فيها موجوداً.
أـ فإذا تغير المغصوب بنفسه كما لو كان عنباً فأصبح زبيباً، أو رطباً فأصبح تمراً، فيتخير المالك بين استرداد عين المغصوب، وبين تضمين الغاصب قيمته.
ب ـ وأما تغير وصف المغصوب بفعل الغاصب من طريق الإضافة أو الزيادة، كما لو صبغ الثوب، أو خلط الدقيق (السويق) بسمن، أواختلط المغصوب بملك الغاصب بحيث يمتنع تمييزه كخلط البر بالبر أو يمكن بحرج كخلط البر بالشعير، فيجب إعطاء الخيار للمالك: إن شاء ضمّن الغاصب قيمة المغصوب قبل تغييره، وإن شاء أخذه وأعطى الغاصب قيمة الزيادة مثل ما زاد الصبغ في الثوب؛ لأن في التخيير رعاية للجانبين.
وهذا مذهب المالكية أيضاً (2).
وقال الشافعية (3): إن أمكن فصل الزيادة من الصباغة أو السمن، أجبر الغاصب عليه في الأصح، وإن لم يمكن: فإن لم تزد قيمة المغصوب فلا شيء للغاصب فيه، وإن نقصت قيمته لزم الغاصب أرش النقص؛ لأن النقص حصل بفعله، وإن زادت قيمة المغصوب اشترك الغاصب والمالك فيه أثلاثاً: ثلثاه للمغصوب منه، وثلثه للغاصب. فإن حدث في ملك أحدهما نقص لانخفاض سعره أوزيادة لارتفاع سعره عمل به.
_________
(1) تكملة فتح القدير: 375/ 7، 384، اللباب مع الكتاب: 191/ 2، 193، تبيين الحقائق: 226/ 5، 229، الدر المختار: 134/ 5 - 138، البدائع: 160/ 7 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير: 454/ 3.
(3) مغني المحتاج: 291/ 2 وما بعدها.

(6/4808)


وقال الحنابلة (1) كالشافعية إجمالاً: إلا أنهم قالوا: لا يجبر الغاصب على قلع الصبغ من الثوب؛ لأن فيه إتلافاً لملكه وهو الصبغ. وإن حدث نقص ضمن الغاصب النقص؛ لأنه حصل بتعديه، فضمنه، وإن حصلت زيادة، فالمالك والغاصب شريكان بقدر ملكيهما، فيباع الشيء، ويوزع الثمن على قدر القيمتين. وبه يظهر أن الفقهاء متفقون على ضمان النقص، وعلى حق الغاصب في الزيادة.
جـ ـ وأما تغير ذات المغصوب واسمه بفعل الغاصب بحيث زال أكثر منافعه المقصودة: كما لو غصب شاة فذبحها وشواها، أو طبخها، أو غصب حنطة فطحنها دقيقاً، أو حديداً فاتخذه سيفاً، أونحاساً فاتخذه آنية، فإنه يزول ملك المغصوب منه عن المغصوب، ويملكه الغاصب، ويضمن بدله: المثل في المثلي، والقيمة في القيمي. ولكن لا يحل له الانتفاع به حتى يؤدي بدله استحساناً؛ لأن في إباحة الانتفاع قبل أداء البدل فتح باب الغصب، فيحرم الانتفاع قبل إرضاء المالك بأداء البدل أو إبرائه، حسماً لمادة الفساد.
وكذلك قال المالكية كما بان في فرع (3) السابق.
وقال الشافعية والحنابلة (2): لا ينقطع حق المالك في ملكه، وله أن يأخذه، وأرش نقصه إن نقص، ولا شيء للغاصب في زيادته في الصحيح من مذهب الحنابلة.
وقال أبو حنيفة (3) مثل الشافعية والحنابلة فيمن غصب فضة أو ذهباً، فصكها (ضربها) دراهم أو دنانير، أو صنعها آنية، لا يزول ملك مالكها عنها، ولا شيء
_________
(1) كشاف القناع: 86/ 4، 103 وما بعدها، المغني: 266/ 5 وما بعدها.
(2) المهذب: 369/ 1، المغني: 243/ 5.
(3) تكملة الفتح مع العناية: 379/ 7، الكتاب مع اللباب: 192/ 2.

(6/4809)


للغاصب؛ لأن العين باقية من كل وجه، فاسمها باق، وأحكامها الأربعة المتعلقة بالذهب والفضة باقية، وهي (الثمنية، وكونها موزونة، وجريان الربا فيها، ووجوب الزكاة عليها) فلم ينقطع حق المالك بها.
وظل الصاحبان في ذلك على أصلهما السابق (1): وهو أنه يملكها الغاصب، وعليه مثلها؛ لأنه أحدث فيها صنعة معتبرة، صيَّر بها حق المالك في حكم الهالك (التالف)، وتغاير الأصل مع الحادث المصنوع في الاسم والمعنى، فكان قبل الصنع يسمى تبراً، وبعده سمي دراهم ودنانير أو آنية.

5 - نقصان المغصوب:
نقص المغصوب في يد الغاصب قد يكون معنوياً أو حسياً مادياً، وهو يشمل عند الحنفية صوراً أربعاً هي ما يأتي (2):
أـ أن يحدث النقص بسبب هبوط الأسعار في الأسواق: وهذا لا يكون مضموناً إذا رد العين في مكان الغصب؛ لأن نقصان السعر ليس نقصاً مادياً في المغصوب بفوات جزء من العين، وإنما يحدث بسبب فتور الرغبات التي تتأثر بإرادة الله تعالى، ولا صنع للعبد فيها.
ب ـ أن يكون النقص بسبب فوات وصف مرغوب فيه، كضعف الحيوان، وزوال سمعه أو بصره، أوطروء الشلل أو العرج أو العور أوسقوط عضو من الأعضاء، فيجب على الغاصب ضمان النقص في غيرمال الربا، ويأخذ المالك العين المغصوبة، لبقاء العين على حالها.
_________
(1) وإطلاق نص المجلة (م 899) يتمشى مع عموم مذهب الصاحبين.
(2) البدائع: 155/ 7، تكملة الفتح: 382/ 7، تبيين الحقائق: 288/ 5 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 190/ 2، رد المحتار: 132/ 5.

(6/4810)


فإن كان المغصوب من أموال الربا كتعفن الحنطة، وكسر إناء الفضة، فليس للمالك إلا أخذ المغصوب بذاته، ولا شيء له غيره بسبب النقصان؛ لأن الربويات لا يمكنهم فيها ضمان النقصان، مع استرداد الأصل؛ لأنه يؤدي إلى الربا.
جـ ـ أن يكون النقص بسبب فوات معنى مرغوب فيه في العين، مثل الشيخوخة بعد الشباب، والهرب، ونسيان الحرفة، فيجب ضمان النقص في كل الأحوال.
د ـ أن يكون النقص بفوات (زوال) جزء من العين المغصوبة، كخرق الثوب، فيجب الضمان في جميع الأحوال.
لكن إن كان النقص يسيراً كالخرق اليسير في الثوب، فليس للمالك سوى تضمين الغاصب مقدار النقصان لبقاء العين بذاتها.
وإن كان النقص فاحشاً كالخرق الكبير في الثوب بحيث يبطل عامة منافعه، فالمالك بالخيار بين أخذه وتضمينه النقصان، لتعيبه، وبين تركه للغاصب وأخذ جميع قيمته؛ لأنه أصبح مستهلكاً له من وجه. والصحيح في ضابط الفرق بين اليسير والفاحش هو مايأتي (1):
اليسير: ما لا يفوت به شيء من المنفعة، وإنما يدخل فيه نقصان في المنفعة.
والفاحش: هو ما يفوت به بعض العين وجنس المنفعة، ويبقى بعض العين وبعض المنفعة.
وقدرت المجلة (م 900): اليسير بما لم يكن بالغاً ربع قيمة المغصوب. والفاحش: بما ساوى ربع قيمة المغصوب أوأزيد.
_________
(1) رد المحتار: 136/ 5، تبيين الحقائق: 229/ 5، تكملة فتح القدير: 383/ 7.

(6/4811)


وإذا وجب ضمان النقصان قوّمت العين صحيحة يوم غصبها، ثم تقوّم ناقصة، فيغرم الغاصب الفرق بينهما.
وإذا كان العقار مغصوباً، فإنه وإن لم تضمن عينه بهلاكه بآفة سماوية عند الحنفية، فإن النقص الطارئ عليه بفعل الغاصب أو بسكناه أو بسبب زراعة الأرض مضمون، كما ذكرت سابقاً؛
لأنه إتلاف وتعد منه (1).
وقال غير الحنفية (2): لا يضمن نقص المغصوب ولا زيادته بسبب هبوط الأسعار، أي كما قال الحنفية؛ لأن النقص كان بسبب فتور رغبات الناس، وهي لاتقابل بشيء، والمغصوب لم تنقص عينه ولا صفته (3)، لكن الشافعية وأبو ثور قالوا: إذا نقصت القيمة بسبب تغير الأسعار، يلزم الغاصب بضمان النقصان.
وأما النقص الحاصل في ذات المغصوب أو في صفته، فيكون مضموناً، سواء حصل النقص بآفة سماوية أو بفعل الغاصب.
إلا أن المالكية قالوا في المشهور عندهم: إذا كان النقص بأمر من السماء، فليس للمغصوب منه إلا أن يأخذ المغصوب ناقصاً كما هو، أو يُضمن الغاصب قيمة المغصوب كله يوم الغصب، ولا يأخذ قيمة النقص وحدها. وإن كان النقص بجناية الغاصب، فالمالك مخير في المذهب بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم
_________
(1) تكملة فتح القدير: 369/ 7، تبيين الحقائق: 229/ 5، م 905 من المجلة.
(2) بداية المجتهد: 312/ 2 وما بعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: 452/ 3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 331، مغني المحتاج: 286/ 2، 288، المهذب: 369/ 1، كشاف القناع: 99/ 4 ومابعدها، المغني: 228/ 5، 232، 241.
(3) لا اعتبار بتغير السعر في السوق في غصب الذوات. أما التعدي: وهو غصب المنفعة عند المالكية فيتأثر بذلك، فللمالك إلزام الغاصب قيمة الشيء إن تغير سوقها، عما كان يوم التعدي، وله أن يأخذ عين شيئه، ولا شيء له على المتعدي.

(6/4812)


الغصب، أو يأخذه، مع ما نقصته الجناية (أي يأخذ قيمة النقص) يوم الجناية عند ابن القاسم، ويوم الغصب عند سحنون. ولم يفرق أشهب بين نقص السماء وجناية الغاصب.

6 - زيادة المغصوب:
عرفنا أن زيادة المغصوب المتصلة أوا لمنفصلة لاتضمن عند شيخي الحنفية (أبي حنيفة وأبي يوسف) لعدم إزالة يد المالك عنها.
وتضمن الزوائد مطلقاً عند محمد والشافعية والحنابلة لتولدها من عين مملوكة، وتضمن الزوائد المنفصلة فقط دون المتصلة عند المالكية. ومما يتصل بزيادة المغصوب ما يأتي وهو:

البناء على الأرض المغصوبة أو زرعها أو غرسها:
اتفق أئمة المذاهب الأربعة ـ من حيث المبدأ ـ على أن الغاصب يلزم برد المغصوب إلى صاحبه، وإزالة ما أحدثه فيه من بناء أو زرع أو غرس، لقوله صلّى الله عليه وسلم «ليس لعرق
ظالم حق» (1).
وتفصيل آراء المذاهب ما يأتي:

1 - قال الحنفية (2): من غصب ساجة (خشبة عظيمة تستعمل في أبواب الدور وبنائها) فبنى عليها أو حولها، وكانت قيمة البناء أكثر من قيمتها، زال ملك
_________
(1) رواه أبو داود والدارقطني عن عروة بن الزبير بلفظ: «من أحيا أرضاً فهي له، وليس لعرق ظالم حق» (نيل الأوطار: 319/ 5).
(2) تكملة فتح القدير: 379/ 7، 383، الدر المختار: 135/ 5 - 137، تبيين الحقائق: 228/ 5 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 192/ 2.

(6/4813)


مالكها عنها، ولزم الغاصب قيمتها، لصيرورتها شيئاً آخر، وفي القلع ضرر ظاهر لصاحب البناء (الغاصب) من غير فائدة تعود للمالك، وضرر المالك ينجبر بالضمان، ولا ضرر في الإسلام. أما إذا كانت قيمة الساجة أكثر من البناء، فلم يزل ملك مالكها، لأنه يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، كما هو القاعدة.
وعقب القاضي زاده في تكملة الفتح على هذه التفرقة، فقال: لا فرق في المعنى بين أن تكون قيمة البناء أكثر من قيمة الساجة وبين العكس؛ لأن ضرر المالك مجبور بالقيمة، وضرر الغاصب ضرر محض، ولا ريب أن الضرر المجبور دون الضرر المحض، فلا يرتكب الضرر الأعلى عند إمكان العمل بالضرر الأدنى. وهذه مسألة الساجة يعمل فيها بقاعدة «الضرر الأشد يزال بالأخف» (1).
وأما مسألة الساحة فهي: لو غصب غاصب أرضاً، فغرس فيها، أو بنى فيها، وكانت قيمة الأرض (الساحة) أكثر، أجبر الغاصب على قلع الغرس، وهدم البناء، ورد الأرض فارغة إلى صاحبها كما كانت؛ لأن الأرض لا تغصب حقيقة عندهم، فيبقى فيهاحق المالك كما كان، والغاصب جعلها مشغولة فيؤمر بتفريغها، إذ ليس لعرق ظالم حق. فإن كانت قيمة البناء أكثر، فللغاصب أن يضمن للمالك قيمة الأرض ويأخذها.
وإذا كانت الأرض تنقص بقلع الغرس منها أو هدم البناء، فللمالك أن
_________
(1) وطبقوا هذه القاعدة أيضاً على فروع كثيرة منها: لو ابتلعت دجاجة لؤلؤة أو أدخل البقر رأسه في قدر، أو أودع فصيلاً (ولد الناقة إذا فصل عن أمه) فكبر في بيت الوديع ولم يمكن إخراجه إلا بهدم الجدار، أو سقط دينار في محبرة ولم يمكن إخراجه إلا بكسرها ونحو ذلك، يضمن صاحب الأكثر قيمة الأقل. ولو ابتلع إنسان لؤلؤة فمات، لا يشق بطنه لأن حرمة الآدمي أعظم من حرمة المال، وتكون قيمتها في تركته، وهو مذهب الحنابلة أيضاً، أي في اللؤلؤة. وجوزه الشافعي قياساً على الشق لإخراج الولد (الدر المختار: 135/ 5).

(6/4814)


يضمن للغاصب قيمة البناء والغرس مقلوعاً (أنقاضاً) رعاية لمصلحة الطرفين ودفعاً للضرر عنهما، فتقوم الأرض بدون الشجر والبناء، وتقوم وبها شجر وبناء مستحق القلع والهدم، فيضمن الفرق بينهما.
وإذا زرع الغاصب الأرض، فإن كانت الأرض ملكاً: فإن أعدها صاحبها للزراعة، فيكون الأمر مزارعة بين المالك والغاصب، ويحتكم إلى العرف في حصة كل منهما، النصف أو الربع مثلاً، وإن كانت معدة للإيجار فالناتج للزارع، وعليه أجر مثل الأرض. وإن لم يكن شيء مما ذكر فعلى الغاصب نقصان ما نقص الزرع، وأما إذا كانت الأرض وقفاً أو مال يتيم، اعتبر العرف إذا كان أنفع، وإن لم يكن العرف أنفع وجب أجر المثل لقولهم: يفتى بما هو أنفع للوقف.

2 - وقال المالكية (1):
أـ البناء: من غصب أرضاً أو عموداً أو خشباً، فبنى فيها أو بها، فيخير المالك بين المطالبة بهدم البناء على المغصوب، وبين إبقائه على أن يعطي الغاصب قيمة الأنقاض، بعد طرح أجرة القلع أو الهدم، ولا يعطيه قيمة التجصيص والتزويق وشبههما مما لا قيمة له، أي أنهم يرجحون مصلحة المالك؛ لأنه صاحب الحق.
ومن غصب سارية أو خشبة فبنى عليها، فلصاحبها أخذها، وإن هدم البنيان وهو قول الشافعية.
ب ـ الغرس:
ومن غصب أرضاً، فغرس فيها أشجاراً لا يؤمر بقلعها، وللمغصوب منه أن يعطيه قيمتها بعد طرح أجرة القلع كالبنيان. فإن غصب أشجاراً، فغرسها في أرضه أمر بقلعها.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 331، الشرح الكبير: 448/ 3، بداية المجتهد: 319/ 2.

(6/4815)


جـ ـ الزرع:
وإن زرع في الأرض المغصوبة زرعاً: فإن أخذها صاحبها في إبان الزراعة، فهو مخيّر بين أن يقلع الزرع أو يتركه للزارع ويأخذ الكراء. وإن أخذها بعد إبان الزراعة، فقيل: هو مخيّر كما ذكر، وقيل: ليس له قلعه وله الكراء، والزرع لزارعه.

3 - وقال الشافعية (1): يكلف الغاصب بهدم البناء وقلع الغراس على الأرض المغصوبة، وأرش النقص إن حدث، وإعادة الأرض كما كانت، وأجرة المثل في مدة الغصب إن كان لمثلها أجرة إذ ليس لعرق ظالم حق، ولو أراد المالك تملكها بالقيمة، أو إبقاءها بأجرة، لم يلزم الغاصب إجابته في الأصح، لإمكان القلع بلا أرش، ولو بذر الغاصب بذراً في الأرض، فللمالك تكليفه إخراج البذر منها وأرش النقص، وإن رضي المالك ببقاء البذر في الأرض لم يكن للغاصب إخراجه. كما لا يجوز للغاصب قلع تزويق الدار المغصوبة إن رضي المالك ببقائه، والخلاصة: أن للمالك الحق في إزالة آثار الغصب بلا ضرر عليه.
4 - وقال الحنابلة (2): مثل الشافعية تماماً في البناء والغرس على الأرض المغصوبة عملاً بحديث «ليس لعرق ظالم حق». أما في حالة زرع الأرض فقالوا: يخير المالك بين إبقاء الزرع إلى الحصاد، وأخذ أجر الأرض وأرش النقص من الغاصب وبين أخذ الزرع له ودفع النفقة للغاصب عملاً بحديث «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وعليه نفقته» (3) وفي حديث آخر:
_________
(1) مغني المحتاج: 289/ 2، 291، الميزان: 89/ 2 وما بعدها، المهذب: 371/ 1.
(2) المغني: 223/ 5 - 225، 234، 245، كشاف القناع: 87/ 4 - 94.
(3) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن رافع بن خديج، وقال البخاري: هو حديث حسن (نيل الأوطار: 319/ 5 وما بعدها).

(6/4816)


«خذوا زرعكم وردوا عليه نفقته» (1) أي للغاصب. وهذا أعدل الآراء وأكثرها قابلية للتطبيق.

7 - ضمان غلة المغصوب ومنافعه:
تبين سابقاً في بحث منافع المغصوب وغلته: أن غلة المغصوب كالأجرة المستفادة من إيجار الأعيان المغصوبة لا تطيب في رأي أبي حنيفة ومحمد للغاصب، لأن الربح حصل بسبب خبيث: وهو التصرف في ملك الغير، وسبيله التصدق به.
وقال أبو يوسف وزفر: يطيب الربح للغاصب إذا دفع ضمانه، لأن المغصوب صار مملوكاً له بالضمان عملاً بالقاعدة المقررة عند الحنفية: «المضمونات تملك بأداء الضمان مستنداً إلى وقت الغصب».
وأما منافع المغصوب من سكنى العقار وركوب السيارة أو الدابة، ولبس الثوب، واستعمال الشيء وزراعة الأرض، فلا تضمن كما ذكر عند الحنفية، إلا في ثلاث حالات:
أن يكون المغصوب وقفاً، أو مال يتيم، أو مالاً معداً للاستغلال، أي الاستثمار لأن المنفعة ليست بمال متقوم عندهم، ولا تتقوم إلا بورود عقد الإجارة عليها، ولأن المغصوب لو هلك يضمنه الغاصب عملاً بحديث «الخراج
_________
(1) هذا حديث أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وغيرهم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى زرعاً في أرض ظهير، فأعجبه، فقال: ما أحسن زرع ظهير! قالوا: إنه ليس لظهير، ولكنه لفلان، قال: فخذوا زرعكم، وردوا عليه نفقته» (نيل الأوطار: 320/ 5).

(6/4817)


بالضمان» (1) أي الغنم بالغرم. وحينئذ ليس للقاضي إلا الحكم برد المغصوب لصاحبه ما دام قائماً، ورد مثله أو قيمته إذا هلك.
وقال غير الحنفية كما تقدم: تضمن منافع المغصوب؛ لأن المنافع أموال متقومة كالأعيان ولأن «الغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها» كما قال العز بن عبد السلام (2).
إلا أن المالكية قالوا: تضمن منافع الأموال من دور وأرض بالاستعمال فقط. ولا تضمن حالة الترك، أي تضمن بالتفويت دون الفوات. وهذا إذا غصب ذات الشيء. أما إذا غصب المنفعة فقط كأن يغلق الدار ويحبس الدابة ونحوهما، فيضمنها بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها.
أما الشافعية والحنابلة فقالوا: تضمن منافع الأموال التي يستأجر المال من أجلها بالغصب أو التعدي، سواء استوفى الغاصب المنافع، أم تركها حتى ذهبت، أي تضمن بالتفويت أو بالفوات في يد عادية، أي ضامنة معتدية (3).

8 - اختلاف الغاصب والمغصوب منه:
هناك مظاهر كثيرة لاختلاف الغاصب والمالك المغصوب منه، لها أثر في تحمل تبعة الضمان، فإن صدقنا كلام الغاصب برئ من الضمان، وإن صدقنا كلام
_________
(1) رواه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان، وضعفه البخاري، والخراج: هو الغلة والكراء (سبل السلام: 30/ 3).
(2) قواعد الأحكام: 152/ 1 وما بعدها.
(3) المقصود بالتفويت: استيفاء المنفعة كمطالعة الكتاب وركوب الدابة وشم المسك ولبس الثوب. والمقصود بالفوات في يد عادية: هو ترك المنافع تضيع سدى بدون استيفاء كإغلاق الدار دون إسكان أحد فيها (مغني المحتاج: 286/ 2).

(6/4818)


المالك تحمل الغاصب الضمان. وللفقهاء كلام مطول في هذا الشأن نلخصه فيما يأتي:

أـ قال الحنفية (1): إذا قال الغاصب: هلك المغصوب في يدي (أي قضاء وقدراً) ولم يصدقه المغصوب منه، ولا بينة للغاصب، فالقاضي يحبس الغاصب مدة يظهر فيها عادة لو كان قائماً، ثم يقضي عليه بالضمان؛ لأن الحكم الأصلي للغصب هو ـ كما تقدم ـ وجوب رد عين المغصوب؛ وأما القيمة فهي بدل (أو خلف) عنه، وإذا لم يثبت العجز عن الأصل، لا يُقضى بالقيمة التي هي خلَف.
ولو اختلف الغاصب والمالك في أصل الغصب، أو في جنس المغصوب ونوعه، أو قدره، أو صفته، أو قيمته وقت الغصب، فالقول قول الغاصب بيمينه في ذلك كله؛ لأن المالك يدعي عليه الضمان، وهو ينكر، فكان القول قوله؛ لأن اليمين في الشرع على من أنكر.
ولو ادعى الغاصب رد المغصوب إلى المالك، أو ادعى أن المالك هو الذي أحدث العيب في المغصوب، فلا يصدق الغاصب إلا ببينة؛ لأن البينة في الشرع على المدعي.
ولو تعارضت البينتان، فأقام المالك البينة على أن الدابة أو السيارة مثلاً تلفت عند الغاصب من ركوبه، وأقام الغاصب البينة على أنه ردها إلى المالك، فتقبل بينة المالك، وعلى الغاصب قيمة المغصوب؛ لأن بينة الغاصب لا تَدْفع بينة المغصوب منه؛ لأنها قامت على رد المغصوب، ومن الجائز أنه ردها، ثم غصبها ثانياً وركبها، فتلفت في يده.
_________
(1) البدائع: 163/ 7 وما بعدها، تكملة الفتح: 387/ 7، اللباب مع الكتاب: 194/ 2.

(6/4819)


ب ـ والمالكية (1) قالوا مثل الحنفية: إن اختلف الغاصب والمغصوب منه في دعوى تلف المغصوب، أو في جنسه، أو صفته، أو قدره، ولم يكن لأحدهما بينة، فالقول قول الغاصب مع يمينه.
جـ ـ وقال الشافعية والحنابلة (2): إن اختلف الغاصب والمغصوب منه في قيمة المغصوب، بأن قال الغاصب: قيمته عشرة، وقال المالك: اثنا عشر، صدق الغاصب بيمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة، وعلى المالك البينة.
وإن اختلفا في تلف المغصوب، فقال المغصوب منه: هو باق، وقال الغاصب: تلف، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يتعذر إقامة البينة على التلف.
وكذلك لو اختلفا في قدر المغصوب أو في صناعة فيه، ولا بينة لأحدهما، فالقول قول الغاصب بيمينه؛ لأنه منكر لما يدعيه المالك عليه من الزيادة.
وإن اختلفا في رد المغصوب، فقال الغاصب: رددته، وأنكره المالك، فالقول للمالك؛ لأن الأصل معه وهو عدم الرد، وكذا لو اختلفا في عيب في المغصوب بعد تلفه؛ بأن قال الغاصب: كان مريضاً أو أعمى مثلاً، وأنكره المالك، فالقول للمالك بيمينه؛ لأن الأصل السلامة من العيوب، وهذا موافق لرأي الحنفية.
والخلاصة: يصدق الغاصب بيمينه حال الاختلاف بتلف المغصوب وبقائه، والاختلاف في تقدير قيمة المغصوب، وفي صفة المغصوب أو قدره. ويصدق المالك بيمينه في ادعاء رد العين المغصوبة على المغصوب منه.
_________
(1) الشرح الكبير: 456/ 3، القوانين الفقهية: ص 331.
(2) مغني المحتاج: 287/ 2، المهذب: 376/ 1، المغني: 272/ 5، كشاف القناع: 125/ 4.

(6/4820)


وهكذا يلاحظ أن المذاهب الأربعة متفقة في دعاوى اختلاف الغاصب والمالك.

9 - غاصب الغاصب ومن في حكمه:
لو غصب شخص من آخر شيئاً، فجاء آخر وغصبه منه، فهلك في يده، فالمالك باتفاق المذاهب الأربعة (1) بالخيار: إن شاء ضمن الغاصب الأول، لوجود فعل الغصب منه: وهو إزالة يد المالك عنه، وإن شاء ضمن الغاصب الثاني، أو المتلف، سواء علم بالغصب أم لم يعلم؛ لأن الغاصب الثاني أزال يد الغاصب الأول الذي هو بحكم المالك في أنه يحفظ ماله، ويتمكن من رده عليه (أي على المالك)، ولأنه أثبت يده على مال الغير بغير إذنه، والجهل غير مسقط للضمان، ولأن المتلف أتلف الشيء. وهذا بمقتضى ما يعرف قانوناً بالحق العيني للمالك المغصوب منه الذي من خواصه إثبات حق تتبع العين المغصوبة في أي يد وجدت فيها العين.
فإن اختار المالك تضمين الأول، وكان هلاك المغصوب في يد الغاصب الثاني، رجع الغاصب الأول بالضمان على الثاني؛ لأنه بدفعه قيمة الضمان، ملك ـ عند الحنفية ـ الشيء المضمون (أي المغصوب) من وقت غصبه، فكان الثاني غاصباً الملك الأول. وسبب رجوع الغاصب الأول على الثاني عند غير الحنفية هو أنه غرم المال بدون تسبب منه في هلاكه.
وإن اختار المالك تضمين الثاني أو المتلف، لا يرجع هذا بالضمان على أحد،
_________
(1) البدائع: 144/ 7، 146، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 96/ 2 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 126/ 5 وما بعدها، 139، الشرح الكبير للدردير: 457/ 3، مغني المحتاج: 279/ 2، فتح العزيز شرح الوجيز: 252/ 11، المغني: 252/ 5، م/910 من المجلة.

(6/4821)


ويستقر الضمان في ذمته؛ لأنه ضمن فعل نفسه: وهو إزالة يد المالك، أو استهلاكه، وإتلافه.
وللمالك أن يأخذ بعض الضمان من شخص، وبعضه الآخر من الشخص الآخر إلا أن الحنفية استثنوا من مبدأ تخيير المالك في هذه الحالة: الموقوف المغصوب إذا غصب، وكان الغاصب الثاني أملأ من الأول، فإن متولي الوقف يضمن الثاني وحده.
والراجح عند الحنفية أن المالك متى اختار تضمين أحدهما (الغاصب الأول، أو الثاني) يبرأ الآخر عن الضمان، بمجرد الاختيار، فلو أراد تضمينه بعدئذ، لم يكن له ذلك.
وإذا رد الغاصب الثاني المغصوب على الأول، برئ من الضمان، وإذا رده إلى المالك برئ الاثنان (1).
الغاصب الأول ومن تصرف معه بالرهن ونحوه:
وكذلك للمالك عند الحنفية (2) تضمين الغاصب الأول أو المرتهن أو المستأجر أو المستعير أو المشتري من الغاصب الأول، أو الوديع الذي أودعه الغاصب الأول الشيء المغصوب، فهلك في يده، فإن ضمن الغاصب الأول استقر الضمان عليه، ولم يرجع بشيء على أحد. وإن ضمن المرتهن أو المستأجر أو الوديع أو المشتري، رجعوا على الغاصب بالضمان، لأنهم عملوا له والمشتري إذا ضمن القيمة يرجع بالثمن على الغاصب البائع؛ لأن البائع ضامن استحقاق المبيع، ورد القيمة كرد العين.
_________
(1) راجع المجلة: م/911، الدر المختار: 138/ 5.
(2) رد المحتار: 139/ 5.

(6/4822)


وأما المستعير من الغاصب أو الموهوب له، أو المتصدق عليه منه، فيستقر الضمان عليه وإن كان جاهلاً الغصب؛ لأنه يعمل في القبض لنفسه.
أما الشافعية (1) فقالوا: الأيدي المترتبة على يد الغاصب أيدي ضمان وإن جهل صاحبها
الغصب؛ لأنه (أي الواضع) وضع يده على ملك غيره بغير إذنه، والجهل ليس مسقطاً للضمان بل يسقط الإثم فقط، فيطالب المالك من شاء منهما. لكن لايستقر الضمان على الآخذ من الغاصب إلا بعلمه بالغصب، حتى يصدق عليه معنى الغصب، أو إن جهل به وكانت يد الواضع في أصلها يد ضمان، كالمستعير والمشتري والمقترض والسائم؛ لأنه تعامل مع الغاصب على الضمان، فلم يغرّه.
أما إن جهل الواضع يده على المغصوب بالغصب، وكانت يده يد أمانة بلا اتهاب، كوديع ومضارب، فيستقر الضمان على الغاصب دون الآخذ، لأنه تعامل مع الغاصب على أن يده نائبة عن يد الغاصب. وأما الموهوب له فقرار الضمان عليه في الأظهر؛ لأنه وإن كانت يده ليست يد ضمان، إلا أن أخذه الشيء للتملك.
وعلى هذا، في حالة الجهل بالغصب: يستقر الضمان عند الحنفية والشافعية على المستعير والموهوب له، والمتصدق عليه فقط. وأما الوديع والمضارب المعتبر كل منهما أميناً، فيستقر الضمان الذي دفعه على الغاصب عند كل من الحنفية والشافعية. ولا خلاف بين الحنفية والشافعية في تضمين الغاصب أو الآخذ منه في كل الأحوال.
_________
(1) مغني المحتاج: 279/ 2.

(6/4823)


10 - نفقة المغصوب:
تكون نفقة المغصوب أثناء غصبه على الغاصب بسبب ظلمه وتعديه، جاء في كتب المالكية (1): وما أنفق الغاصب على المغصوب، كعلف الدابة، وسقي الأرض وعلاجها وخدمة شجر ونحو ذلك مما لا بد للمغصوب منه، يكون في نظير الغلة التي استغلها الغاصب من يد المغصوب؛ لأنه وإن ظَلَم لا يُظْلَم، فإن تساوت النفقة مع الغلة فواضح، وإن زادت النفقة على الغلة، فلا رجوع للغاصب بالزائد، كما أنه إذا كان لا غلة للمغصوب، فلا رجوع له بالنفقة لظلمه، وإن زادت الغلة على النفقة، فللمالك الرجوع على الغاصب بزائدها.
وانفرد الحنابلة (2) بالقول كما تقدم بأن للغاصب النفقة في حال غصب أرض وزراعتها، واختيار المالك أن يكون الزرع له، وأن يدفع للغاصب نفقته، عملاً بالحديث المتقدم: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وعليه نفقته (3)» والخيار الثاني: أن يقر المالك الزرع في الأرض إلى الحصاد، ويأخذ من الغاصب أجر الأرض وأرش نقصها.

المبحث الثاني ـ إتلاف المال وحكمه وفيه مطالب ثلاثة، وملحق به، ويبحث الإتلاف المالي عادة بعد الغصب أو معه؛ لأنه يأخذ حكمه من حيث التضمين.
المطلب الأول ـ تعريف الإتلاف وكونه سبب الضمان.
_________
(1) الشرح الصغير: 598/ 3.
(2) المغني والشرح الكبير: 392/ 5.
(3) أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.

(6/4824)


المطلب الثاني ـ شروط إيجاب الضمان بالإتلاف.
المطلب الثالث ـ كيفية الضمان أو ماهيته.
وأبدأ ببحث كل منها فيما يأتي:
المطلب الأول ـ تعريف الإتلاف وكونه سبب الضمان:
الإتلاف (1): هو إخراج الشيء من أن يكون منتفعاً به منفعة مطلوبة منه عادة (2) وهو سبب موجب للضمان؛ لأنه اعتداء وإضرار، والله تعالى يقول: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/ 2] وقال عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وإذا وجب الضمان بالغصب فبالإتلاف أولى؛ لأنه اعتداء وإضرار محض.
ولا فرق بين أن يقع الإتلاف مباشرة: وهو إلحاق الضرر من غير واسطة بمحل التلف، أو تسبباً: وهو ارتكاب فِعلٍ في محل يفضي إلى تلف غيره.
كما لا فرق في ضمان الإتلاف بين العمد والخطأ، ولا بين وجود البلوغ أو التمييز أو عدمه، فالمتلف عمداً أو خطأ ضامن باتفاق المذاهب الأربعة، والكبير أو الصغير أو المجنون أوالنائم المتلف ضامن أيضاً عند جمهور الفقهاء. وفرق المالكية بين الصبي المميز وغيره، فيغرم المميز ما أتلفه إن كان له مال، فإن لم يكن له مال
_________
(1) الإتلاف والإفساد والاستهلاك لها معان متقاربة في اصطلاح الفقهاء. وهي تدخل تحت مدلول أعم وهو الضرر: وهو إلحاق مفسدة بالآخرين، أو كل نقص يدخل على الأعيان.
(2) البدائع: 164/ 7. اتبع به.

(6/4825)


أما غير المميز فلا شيء عليه فيما أتلفه من نفس أو مال كالعجماء، ومثله المجنون (1). والمعتمد لدى المالكية إطلاق الضمان من المميز وغير المميز، جبراً للضرر.
إلا أن الفقهاء اختلفوا في تقدير وجود السبب في بعض الحالات. منها ما يأتي:

أولاً ـ فتح الباب أو حل الرباط: من فتح باب حانوت، ثم تركه مفتوحاً، فسرق، أو دل لصاً أو ظالماً على شيء فأخذه أو فتح قفص طائر، فطار، أو حل رباط دابة فهربت، أو فتح باب الإصطبل فخرجت، أو حل رباط سفينة، فغرقت أو ذهبت بها الريح.
لا يضمن المتسبب في هذه الأمثلة عند أبي حنيفة وأبي يوسف (2)؛ لأن مجرد الفتح ونحوه ليس بإتلاف مباشرة ولا تسبباً، لتدخل عنصر آخر من التلف، وهو السرقة أو الطيران أوا لهرب أو الغرق ونحوها، والسارق هو المباشر، والطير أو الدابة هو الذي اختار الهرب، والماء أو الريح كان السبب في الإغراق أو الضياع، فلم يكن مجرد فتح الباب أو حل الرباط سبباً محضاً، فلا حكم له.
ويضمن هذا المتسبب عند المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن (3)؛ لأنه تسبب في الإتلاف، وحدوث الضرر أمر متوقع في الطبع أو العادة. وهو الرأي المنطقي العادل في تقديري، وقد أخذت به المجلة: م (922).
_________
(1) تبيين الحقائق: 139/ 6، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 77/ 1، الدر المختار وحاشيته: 378/ 5، 415، بداية المجتهد: 404/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 332، 333، مغني المحتاج: 277/ 2، كشاف القناع: 128/ 4.
(2) البدائع: 166/ 7، جامع الفصولين: 115/ 2 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 148.
(3) الشرح الكبير للدردير: 451/ 3، القوانين الفقهية: ص 332، كشاف القناع: 128/ 4 ومابعدها، المغني: 280/ 5، 282، القواعد لابن رجب: ص 285.

(6/4826)


وفصل الشافعية في الأمر (1) فقالوا: من فتح قفصاً عن طائر، وهيجه، فصار في الحال، ضمنه، لأنه ألجأه إلى الفرار، وإن اقتصر على الفتح، فالأظهر أنه إن طار في الحال: ضمن؛ لأن طيرانه في الحال يشعر بتنفيره، وإن وقف ثم طار، فلا يضمنه؛ لأن طيرانه بعد الوقوف يشعر باختياره.
وهذا التفصيل ينطبق على حل رباط بهيمة، أو فتح باب إصطبل ونحوه.
وكذلك لو حلّ رباطاً عن علف في وعاء، فأكلته بهيمة في الحال، ضمنه، أما من فتح باب حانوت فسرقه إنسان، أو دلّ سارقاً، فسرق، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يوجد منه سبب يمكن تعليق الضمان عليه به.
وإن حلّ رباط سفينة، فغرقت، فإن غرقت في الحال ضمن؛ لأنها تلفت بفعله. وإن وقفت، ثم غرقت: فإن كان بسبب حادث كريح هبت، لم يضمن لأنها غرقت بغير فعله. وإن غرقت من غير سبب حادث ففيه رأيان:
أحدهما ـ لا يضمن كالزِّق إذا ثبت بعد فتحه، ثم سقط.
والثاني ـ يضمن لأن الماء أحد المتلفات.

ثانياً ـ فتح وعاء السمن (الزق): لو فتح إنسان زقاً (ظرفاً) فيه زيت أو سمن ونحوهما، فخرج ما فيه:
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف (2): إن كان الزيت ذائباً، فسال منه، ضمن. وإن كان السمن جامداً، فذاب بالشمس، وزال، لم يضمن؛ لأن المائع يسيل
_________
(1) فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 245/ 11 وما بعدها، مغني المحتاج: 278/ 2، المهذب: 374/ 1 وما بعدها.
(2) البدائع: 166/ 7، مجمع الضمانات: ص 148، 153.

(6/4827)


بطبعه إن وجد منفذاً بحيث يستحيل استمساكه عادة، فكان حل الرباط إتلافاً له تسْبيباً، أما الجامد فلا يسيل بطبعه، فإن سال بحرارة الشمس، فلا يعد فاتح الظرف سبباً في إتلافه، ولا مباشراً له.
وقال المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن (1): يضمن من شق زق إنسان فيه دهن مائع، فسال، وهلك. أو حل وكاء زق جامد، فأذابته الشمس، فاندفق. أو بقي الزق بعد حله قاعداً، فألقته ريح، أو زلزلة، فاندفق، فخرج ما فيه كله في الحال، أو خرج قليلاً قليلاً، أو خرج منه شيء بلَّ أسفله فسقط فاندفق؛ لأن المتسبب متعد في جميع ذلك، سواء حدث الضرر عقب فعله أو تراخى عنه. وهذا الرأي هو المعقول.
وفصل الشافعية فقالوا (2): إذا كان الزِّق مطروحاً على الأرض، فخرج ما فيه بالفتح وتلف، يضمن، حتى ولو كان التقاطر بإذابة شمس، أو حرارة، أو ريح، مع مرور الزمن؛ لأن الإتلاف ناشئ عن فعله، سواء حضر المالك، وأمكنه تدارك الأمر، فلم يفعل، أم لا. وهذا كما قال المالكية ومن معهم.
أما إذا كان الزق منصوباً على شيء، ففتحه: فإن سقط بالفتح وخرج ما فيه أو بابتلال أسفله منه، ضمن، وإن سقط بسبب ريح، أو نحوها كزلزلة، ووقوع طائر، أو جهل الحال، فلم يعلم سبب سقوطه، لم يضمن؛ لأن التلف لم يحصل بفعله.

ثالثاً ـ الترويع: إذا بعث الحاكم إلى امرأة يستدعيها إلى مجلس القضاء، فأجهضت جنينها فزعاً، أو زال عقلها:
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 332، كشاف القناع: 129/ 4، البدائع: 166/ 7.
(2) مغني المحتاج: 278/ 2، المهذب: 375/ 1، نهاية المحتاج: 111/ 4 وما بعدها.

(6/4828)


فقال أبو حنيفة وابن حزم (1): لا ضمان في شيء من ذلك على أحد، إذ ليس السبب متصلاً بالنتيجة قطعاً.
وقال جمهور الفقهاء (2): يضمن الحاكم الدية، لحادثة عمر الذي استدعى امرأة فأجهضت، وقد سبق الكلام عنها في الجنايات.

رابعاً ـ الحيلولة والحبس: من حبس المالك عن ماله حتى تلف المال، أو عن ماشيته حتى تلفت، فقال جمهور الحنفية (3): إن كان المال منقولاً ضمن، وإن كان عقاراً لم يضمن. وهذا هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف اللذين يريان إمكان تحقق الغصب في المنقول دون العقار. وقال محمد: يجري الغصب فيهما.
وقال المالكية والحنابلة (4): على من فعل ذلك ضمان ما تلف به؛ لأنه سبب هلاكه.
وقال الشافعية (5): إن قصد المتسبب منع المالك عن ملكه، ضمن، وهو مبدأ الحيلولة: وهي أن يحول بين الشخص وبين ملكه حائل حتى تلف. وإن لم يقصد منعه عن ملكه، ولم يضمن لأنه لم يتصرف في المال، وإنما تصرف في المالك.
وبه يظهر أن الحيلولة بين المالك وملكه سبب رابع من أسباب الضمان بعد
_________
(1) الدر المختار: 397/ 5، مجمع الضمانات: ص 172، اللآلئ الدرية في الفوائد الخيرية بهامش جامع الفصولين: 112/ 2، ط الأولى بالأزهرية: المحلى: 29/ 11 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير: 244/ 4، المهذب: 192/ 2، المغني: 832/ 7 وما بعدها.
(3) جامع الفصولين: 117/ 2، اللباب شرح الكتاب: 189/ 2.
(4) الشرح الكبير للدردير: 242/ 4، المغني: 223/ 5، 834/ 7.
(5) فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 247/ 11، نهاية المحتاج: 112/ 4، مغني المحتاج: 283/ 2.

(6/4829)


(العقد، واليد، والإتلاف) عند جمهور الفقهاء، وعند الحنفية في المنقول دون غيره.

المطلب الثاني ـ شروط إيجاب الضمان بالإتلاف:
يشترط لإيجاب الضمان بسبب الإتلاف ما يأتي (1):
1 - أن يكون الشيء المتلف مالا ً، فلا ضمان بإتلاف الميتة وجلدها، والدم، والتراب العادي، والكلب، والسرجين النجس، ونحوها مما ليس بمال عرفاً وشرعاً.
2 - أن يكون متقوّماً بالنسبة للمتلف عليه، والمتقوم: هو ما يباح الانتفاع به شرعاً في غير حال الاضطرار، فلا ضمان بإتلاف خمر أو خنزير لمسلم، سواء أكان المتلِف مسلماً أم ذمياً، لعدم تقوم الخمر والخنزير في حق المسلم، إذ لايباح له الانتفاع بهما شرعاً، فلا قيمة لهما.
أما خمور وخنازير غير المسلم أي الذمي، فيضمنها المتلف مسلماً أو غيره، ويلزم المسلم بالقيمة، وغير المسلم بالمثل، عند الحنفية والمالكية، لتعديه عليها، ولأنها مال محترم عند غير المسلمين.
ولا تضمن عند الشافعية والحنابلة؛ إذ لا قيمة لها كالدم والميتة وسائر الأعيان النجسة، وما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل عنه، كما بان في غصب غير المتقوم.
_________
(1) البدائع: 167/ 7 وما بعدها، المبسوط: 53/ 11، درر الحكام: 268/ 2، تبيين الحقائق: 233/ 5 - 237، تكملة الفتح: 397/ 7، اللباب شرح الكتاب: 195/ 2، الشرح الكبير: 204/ 2، القوانين الفقهية: ص 333، نهاية المحتاج: 111/ 4، مغني المحتاج: /277، كشاف القناع: 128/ 4، 146 وما بعدها.

(6/4830)


ولا ضمان عند جمهور الفقهاء ومنهم الصاحبان بإتلاف الأصنام وآلات اللهو والفساد كالمزمار والرباب والعود ونحوها من أدوات الموسيقا، لعدم تقوّمها؛ لأن منفعتها محرمة لا تقابل بشيء باعتبارها أدوات لهو، فلا قيمة لها، كما تبين في غصب غير المتقوم.
وقال أبو حنيفة والشافعي: تضمن باعتبارها خشباً منحوتاً فقط؛ لأن هذه الآلات كما تصلح للهو والفساد، تصلح للانتفاع بها من وجه آخر، فكانت مالاً متقوماً من تلك الناحية فقط.
ولا ضمان أيضاً بإتلاف الأموال المباحة التي ليست مملوكة لأحد لعدم تقوّمها؛ لأن التقوم ينبني على كون الشيء عزيز المنال، خطير الأهمية، وهذا المعنى لا يتحقق إلا بالإحراز والاستيلاء.
ولا ضمان كذلك بتحريق كتب الفسق والضلال، لاشتمالها على الكذب ولإلحاقها ضرراً بعقيدة الناس ووحدتهم، فيجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بالإتلاف من إتلاف آلات اللهو والمعازف وإتلاف آنية الخمر الذي أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلم (1)، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها كما لا ضمان في كسرأواني الخمر وشق زقاقها (أي ظروفها وأوعيتها)، وقد حرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة للمصحف الموحد الخط: وهو مصحف عثمان، لما خافوا على الأمة من الاختلاف في التلاوة لاختلاف اللهجات وطرائق النطق (2).

3 - أن يكون التلف (أو الضرر) محققاً بنحو دائم: فإذا أعيد الشيء إلى الحالة التي كان عليها فلا ضمان، كأن عولج المرض أو نبتت سن الحيوان في المدة
_________
(1) انظر نيل الأوطار: 329/ 5 وما بعدها.
(2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم: ص 271 ومابعدها، 275،ط أنصار السنة المحمدية.

(6/4831)


التي بقي فيها الشيء في يد المعتدي؛ لأن النقص الحاصل عندما أزيل أو السن عندما نبتت ثانياً، جعل الضرر كأن لم يكن، ويرد على المعتدي ما أخذ منه بسبب النقصان، لأنه تبين أن النقصان لم يكن موجباً للضمان لعدم تحقق شرط الوجوب وهو العجز عن الانتفاع على طريق الدوام. وهذا رأي أبي حنيفة.
وقال الصاحبان: على الجاني الأرش كاملاً؛ لأن الجناية وقعت موجبة له، والذي نبت نعمة جديدة من الله (1).

4 - أن يكون المتلف أهلاً لوجوب الضمان: فلا يضمن ما تتلفه بهيمته من أموال؛ لأن فعل العجماء جُبَار أي هدر. ولا يشترط التمييز عند بعض المالكية لإيجاب الضمان كما تقدم (2).
5 - أن يكون في إيجاب الضمان فائدة: حتى يتمكن صاحب الحق من الوصول إلى حقه، فإن لم يكن في التضمين فائدة، أي عدم القدرة على تنفيذ الحكم الصادر بالتعويض، فلا ضمان.
وعليه فلا ضمان على المسلم بإتلاف مال الحربي (3)، ولا على الحربي بإتلاف مال المسلم في دار الحرب؛ إذ ليس لحاكم بلد سلطة أو ولاية لتنفيذ الأحكام على رعايا بلد آخر. وليس مال الحربي بالنسبة للمسلم وعكسه محترماً، أي مصوناً يجب الحفاظ عليه، وإنما هو هَدَر. لهذا اشترط الفقهاء في الضمان أن يكون المال محترماً، فمال الحربي في نظر الشرع مباح، فمن أخذه لا يعد غاصباً (4).
_________
(1) البدائع: 155/ 7، 157، تبيين الحقائق: 137/ 6، اللباب شرح الكتاب: 190/ 3.
(2) وعلى هذا نصت المجلة: م/916.
(3) الحربي: هو بيننا وبين بلاده عداوة وحرب.
(4) نهاية المحتاج: 111/ 4.

(6/4832)


ولا ضمان أيضاً على العادل إذا أتلف مال الباغي، ولا على الباغي إذا أتلف مال العادل (1)، لعدم إمكان الوصول إلى الضمان لعدم وجود الولاية والسلطة.
وقيّد غير الحنفية (2) عدم الالتزام بالضمان بين العادلين والبغاة بحال الحرابة (أو الحرب أو الخروج على الإمام) لعذر البغاة بالتأويل.
وأضاف الشافعية (3) على هذه الشروط أن تثبت اليد على المال: فلا يضمن الشخص طائراً فزع من مسيره من غير قصد، فخرج من القفص الذي كان مفتوحاً، ولا يضمن المشتري مبيعاً تلف قبل القبض.

وأما شروط الضمان في الإتلاف تسببا ً فهي ثلاثة كما ذكر الحنفية (4):
1 - التعدي: أن يحدث تعد من فاعل السبب. والتعدي: هو تجاوز الحق، أو ما يسمح به الشرع، كأن يحفر شخص بئراً في الطريق العام من غير إذن الحاكم، أو في غير ملكه عدواناً، أو لا يتخذ الاحتياطات الواقية من وقوع الضرر ولو بإذن، فإذا سقط فيه إنسان أو حيوان، فالحافر ضامن. ومثله أن يؤجج رجل ناراً في يوم ريح عاصف، فيتعدى إلى إتلاف مال الغير؛ أو يحل وكاء وعاء فيه شيء مائع فاندفق؛ أو يمزق وثيقة فضاع ما فيها من الحقوق؛ أو يفتح قفصاً عن طائر،
_________
(1) العادل ضد الباغي، وجمعه بغاة، والبغاة قوم كالخوارج لهم شوكة ومنعة خالفوا جماعة المسلمين في بعض الأحكام الشرعية بتأويل فاسد لبعض النصوص، وظهروا على بلدة من البلاد الإسلامية، ونظموا عسكراً لهم، ونفذوا أحكامهم الخاصة.
(2) الشرح الكبير: 442/ 3، 300/ 4، مغني المحتاج: 277/ 2 وما بعدها، كشاف القناع: 128/ 4.
(3) نهاية المحتاج: 113/ 4.
(4) جامع الفصولين: 116/ 2، 112، 124، مجمع الضمانات: ص 323، شرح المجلة للشيخ خالد الأتاسي: 464/ 3، المادة 924 من المجلة، وانظر القواعد لابن رجب: ص 190 وما بعدها، الفروق للقرافي: 27/ 4، 208/ 2، مغني المحتاج: 278/ 2.

(6/4833)


فطار في رأي غير أبي حنيفة وأبي يوسف، أو يحمل حملاً في الطريق، فيقع على شيء فيتلفه، أو يعثر أحد بالحمل، فيضمن في كل تلك الحالات لأنه أثر فعله الذي هو تعدي.

2 - التعمد: وهو أن يصدر الفعل عن قصد وإرادة، كأن يتلف شِرْب (1) إنسان بأن يسقي أرضه بشرب غيره، أو يسد الماء عن أرض جاره، فتيبس مزروعاته، أو يجذب ثوب إنسان فيسقط منه ما يحمله فيه، فيتلف، فيضمن. أما إذا لم يكن هناك تعمد، كما لو جفلت دابة من رجل، فهربت وضاعت، فلا يضمن، لأنه غير متعمد أو غير متعد في الأدق. والحقيقة أن المراد بالتعمد هو التعدي، سواء أكان هناك قصد أم لا، فلو صاح مجنون بدابة شخص، فجفلت ووقع الراكب أو الحمل، فتلف، كان ضامناً المال. وإن لم يكن عنده قصد الإضرار، لكنه متعد. وتكون القاعدة؛ «المتسبب لا يضمن إلا بالتعدي» و «المباشر ضامن وإن لم يتعد».
3 - أن يؤدي السبب إلى النتيجة قطعاً، دون تدخل سبب آخر بحسب العادة: وبعبارة أخرى: ألا يتخلل بين السبب والمسبب فعل شخص آخر، أو ألا يكون التلف قد نشأ عن فعل آخر مختار مباشر، فإن تدخل عنصر آخر مختار، نسب الفعل إليه مباشرة.
أي إن اشترك المباشر والمتسبب، ضمن المباشر إن كان السبب لا يؤثر في التلف بانفراده عادة، كمن حفر بئراً في مكان عدواناً، فجاء غير الحافر، وأردى فيه
_________
(1) الشرب: النصيب من الماء لإرواء الأراضي. وحق الشفة: هو حق شرب الإنسان والدواب.

(6/4834)


إنساناً أو حيواناً، فالضمان عليه دون الحافر، أما إن تردى فيه بهيمة أو غيرها بنفسها، فالحافر هو الضامن.
وإن كان السبب يؤثر بانفراده، فإن المتسبب والمباشر يشتركان في الضمان، كما لو نخس رجل دابة آخر بإذنه، فوطئت إنساناً، فالضمان عليهما؛ لأن السبب هنا يؤثر بانفراده، كما أوضحت سابقاً في الجنايات.
هذا ... ولا يشترط في الضامن التمييز أو كونه بالغاً عاقلاً عند الفقهاء، فإن الصبي والمجنون يضمنان ما يتلفانه من أموال، كما بان سابقاً في تعريف الإتلاف.

ولا تكون حالة الضرورة سبباً للإعفاء من الضمان، فمن اضطرحال الجوع مثلاً لتناول مال الغير، فإنه يلزمه ضمانه بالرغم من إباحة التناول حفاظاً على النفس من الهلاك؛ لأن القاعدة تقول: «الاضطرار لا يبطل حق الغير».
ولا يصلح الجهل بكون المال المتلف مال الغير سبباً أيضاً للتخلص من الضمان.
فالعلم بكون المتلف مال الغير، ليس بشرط لوجوب الضمان، فمن أتلف مالاً ظاناً أنه ملكه، ثم تبين أنه مملوك لغيره، ضمنه؛ لأن الإتلاف واقعة مادية لا يتوقف وجودها على العلم بكون التلف مال الغير. كل ما في الأمر أن الإتلاف إذا تم مع العلم، فيوجب الضمان والإثم الأخروي، وإذا حدث جهلاً فيوجب الضمان فقط، ويرتفع الإثم؛ لأن الخطأ مرفوع المؤاخذة شرعاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (1).
_________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(6/4835)


المطلب الثالث ـ كيفية الضمان أو ماهيته:
الواجب بالإتلافات المالية هو الواجب بالغصب: وهو ضمان المثل إن كان المتلف مثلياً، وضمان القيمة يوم الإتلاف فيما لا مثل له؛ لأن ضمان الإتلاف ضمان اعتداء، والاعتداء لم يشرع إلا بالمثل. فعند الإمكان يجب العمل بالمثل المطلق (وهو المثل صورة ومعنى)، وعند التعذر يجب المثل معنى، وهو القيمة، كما في الغصب (1).
_________
(1) البدائع: 168/ 7، القوانين الفقهية: ص 332، مغني المحتاج: 284/ 2، غاية المنتهى: 246/ 2.

(6/4836)


لكن إن تلف المغصوب المثلي، وفقد مثله، فتجب قيمته يوم انقطاع المثل عند الحنابلة، لأن القيمة وجبت في الذمة حينئذ (المغني: 258/ 5).