الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثَّامن: دَفع الصَّائِل وحكم ضمان الفعل الدفاعي ـ الدفاع الشرعي
وفيه مباحث أربعة: في مشروعية الدفاع ومراحله وحكمه، وشروطه، وهل هو حق أو واجب، وضمان الفعل.

المبحث الأول ـ مشروعية الدفاع ومراحله وحكمه:
إذا اعتدى إنسان على غيره في نفس أو مال أو عرض، أوصال عليه يريد ماله أو نفسه ظلماً، أو يريد امرأة ليزني بها أو صالت عليه بهيمة، فللمعتدى عليه، أو المصول عليه، ولغيره: أن يرد العدوان بالقدر اللازم لدفع الاعتداء بحسب تقديره في غالب ظنه، وللغير أن يعاونه في الدفاع، ولو عرض اللصوص لقافلة، جاز لغير أهل القافلة الدفع عنهم.
ويبتدئ المدافع بالأخف فالأخف إن أمكن، فإن أمكن دفع المعتدي بكلام واستغاثة بالناس، حرم عليه الضرب، وإن أمكن الدفع بضرب اليد، حرم استخدام السوط، وإن أمكن الدفع بالسوط، حرم استعمال العصا، وإن أمكن الدفع بقطع عضو، حرم القتل، وإن لم يمكن الدفع إلا بالقتل أبيح للمدافع القتل؛ لأنه من ضرورات الدفع. فإن شهر عليه سيفاً أبيح للمدافع أن يقتله؛ لأنه لا يقدر

(6/4837)


على الدفع إلا بالقتل، إذ لو استغاث بالناس لقتله، قبل أن يلحقه الغوث، إذ تأثير السلاح فوري.
والخلاصة: أن المدافع إن كان يعلم أن المهاجم ينزجر بصياح أو ضرب بما دون السلاح، فعل، وإلا جاز له استعمال السلاح، فالقتل أو السلاح جوز للضرورة استثناء من قاعدة «الضرر لا يزال بالضرر» ولا ضرورة في الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل. ومن المعلوم أن (الضرورة تقدر بقدرها) حتى إن تمكن المعتدى عليه أو المصول عليه من الهرب أو الالتجاء لحصن أو جماعة، فيجب عليه ذلك، كما أوضح الشافعية والمالكية، وفي وجه عند الحنابلة، ويحرم قتال المعتدي أو الصائل حينئذ؛ لأن المعتدى عليه مأمور بتخليص نفسه بالأهون، وبما أن الهرب ونحوه أسهل من غيره، فلا يلجأ إلى الأشد (1)، قال العز بن عبد السلام: «إذا انكف الصوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم» (2).
وأدلة مشروعية الدفاع كثيرة في القرآن والسنة والمعقول:
أما من القرآن فقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله، واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة:194/ 2] فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة التزام مبدأ المماثلة أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف.
ومن السنة: أحاديث منها «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» (3) فهذا
_________
(1) البدائع: 93/ 7، الدر المختار ورد المحتار: 197/ 3، الشرح الكبير: 357/ 4، بداية المجتهد: 319/ 2، مغني المحتاج: 196/ 4 - 197، المغني: 329/ 8 - 331.
(2) قواعد الأحكام: 195/ 1.
(3) رواه أصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن سعيد بن زيد (سبل السلام: 40/ 4).

(6/4838)


دليل على جواز الدفاع عن الدين والنفس والمال والعرض، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لما جعل المدافع شهيداً، دل على أن له القتل والقتال.

وأما جواز الدفاع عن الغير: فأساسه الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، فلولا التعاون، لذهبت أموال الناس وأنفسهم؛ لأن قطاع الطرق مثلاً إذا انفردوا بأخذ مال إنسان لم يُعنه غيره، فإنهم يأخذون أموال الكل واحداً واحداً، وكذلك غيرهم. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره» (1) وقال أيضاً: «من أذل عنده مؤمن، فلم ينصره، وهو يقدر على أن ينصره، أذله الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة» (2) وفي حديث «إن المؤمنين يتعاونون على الفُتّان» (3).
وحكم الدفاع الشرعي: هو الإباحة، فتكون أفعال الدفاع مباحة باتفاق الفقهاء (4)، فلا مسؤولية على المدافع من الناحيتين المدنية والجنائية، إلا إذا تجاوز حدود المشروع، فيصبح عمله جريمة يسأل عنها مدنياً وجزائياً، وعليه القصاص. ولا يجوز للمدافع القتل إلا إذا ثبت ببينة أن الصائل لم يندفع إلا به، كأن يرى الشهود أن الصائل أقبل بسلاح مشهور على المدافع، فضربه هذا. ولا يقبل القول بمجرد ادعاء المدافع أنه قد هاجم منزله، فلم يمكنه دفعه إلا بالقتل، كما لا يقبل قول الشهود بأنهم رأوا الصائل داخلاً الدار ولم يذكروا سلاحاً. فإن لم يحضر أحد من الناس يقبل عند المالكية قول المدافع بيمينه (5).
_________
(1) رواه أحمد في مسنده والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك.
(2) رواه أحمد في مسنده عن سهل بن حنيف (نيل الأوطار: 327/ 5).
(3) رواه أبو داود ولفظه «المؤمن أخو المؤمن يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتان» أي الشيطان. وبضم الفاء: جمع.
(4) المراجع السابقة في بدء هذا المطلب، نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف: ص 140 - 142.
(5) الشرح الكبير للدردير: 357/ 4، المغني: 333/ 8.

(6/4839)


المبحث الثاني ـ شروط دفع الصائل:
يشترط لجواز دفع الصائل أربعة شروط وهي (1):
1 - أن يكون هناك اعتداء في رأي جمهور الفقهاء، وعند الحنفية: أن يكون الاعتداء جريمة معاقباً عليها. وعلى هذا فممارسة حق التأديب من الأب أو الزوج أو المعلم، وفعل الجلاد لا يوصف بكونه اعتداء. وفعل الصبي والمجنون وصيال الحيوان لا يوصف بكونه جريمة عند الحنفية.
فإذا قتل الإنسان الجمل الصؤول ونحوه، ضمن قيمته على كل حال عند الحنفية؛ لأن الأموال تضمن حال الضرورة إلى إتلافها، والقاعدة عندهم أن «الاضطرار لا يبطل حق الغير» وأن جناية (العجماء جُبَار) أي هدر.
وقال الجمهور عند الحنفية: لا غرم ولا ضمان على المدافع إذا لم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه وقتله، لأنه قتله أثناء الدفاع الجائز، ولدفع شره، وقياساً على قتل الإنسان الصائل، وحرمة النفس أعظم من حرمة المال. وقياساً أيضاً على إهدار دم الصيد الحرمي إذا صال. ويختلف هذا عن حالة المضطر إلى طعام الغير، بأن الطعام لم يلجئ المضطر إلى إتلافه، ولم يصدر منه ما يزيل عصمته (2). ومذهب غير الحنفية في صيال الحيوان والصبي والمجنون هو المعقول.
2 - أن يكون الاعتداء حالاً: أي واقعاً بالفعل، لا مؤجلاً ولا مهدداً به فقط.
_________
(1) راجع التفصيل في التشريع الجنائي الإسلامي للمرحوم عبد القادر عودة: 278/ 1 وما بعدها.
(2) البدائع: 273/ 7، بداية المجتهد: 319/ 2، المغني: 328/ 8 وما بعدها، المهذب: 225/ 2، كشاف القناع: 143/ 4، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 357/ 4.

(6/4840)


3 - ألا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر، فإذا أمكنه ذلك بوسيلة أخرى كالاستغاثة أو الاستعانة بالناس أو برجال الأمن، ولم يفعل، فهو معتد.
4 - أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة: أي بالقدر اللازم لرد الاعتداء بحسب ظنه. بالأيسر فالأيسر، كما بينت في المطلب الأول.

المبحث الثالث ـ هل دفع الصائل حق مباح أو واجب؟ الكلام على هذا المطلب يقتضي التفصيل في كل حالة من حالات الدفاع الشرعي على حدة.
حكم الدفاع عن النفس:
إذا هوجم إنسان بقصد الاعتداء على نفسه، أو عضو من أعضائه، سواء أكان الهجوم من إنسان آخر أم من بهيمة، فيجب على المعتدى عليه أن يدافع عن نفسه في رأي أبي حنيفة والمالكية، والشافعية (1)، إلا أن الشافعية قيدوا وجوب دفع الصائل في هذه الحالة بما إذا كان الصائل كافراً أو بهيمة؛ لأن الاستسلام للكافر ذل في الدين، والبهيمة تذبح لاستبقاء نفس الإنسان.
وأما إذا كان الصائل مسلماً فالأظهر عند الشافعية أنه يجوز الاستسلام له، بل يسن لخبر أبي داود: «كن خير ابني آدم» يعني قابيل وهابيل، واشتهر ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم ينكر عليه أحد، وأضاف الشافعية بأن الدفع عن نفس غيره في الإيجاب وعدمه كالدفع عن نفسه.
_________
(1) تبيين الحقائق: 110/ 6، البدائع: 93/ 7، تكملة فتح القدير: 269/ 8، الدر المختار ورد المحتار: 197/ 2، 387/ 5، الفتاوى الهندية: 7/ 6، 51، مواهب الجليل للحطاب: 323/ 6، الشرح الكبير والدسوقي: 357/ 4، المنتفى على الموطأ: 61/ 6، تنوير الحوالك شرح الموطأ: 220/ 2، الفروق: 185/ 4، مغني المحتاج: 21/ 4، 195، المهذب: 225/ 2.

(6/4841)


وقيد المالكية وجوب الدفاع بأن يكون بعد الإنذار ندباً كالمحارب إن أمكن: بأن يقول له: ناشدتك الله إلا ما تركتني ونحوه، فإن لم ينكف أو لم يمكن، جاز له دفعه بالقتل وغيره.
ودليل القائلين بإيجاب الدفاع عن النفس قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2] وقوله سبحانه {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:9/ 49] {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/ 2] {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها} [الشورى:40/ 42] وبما أن الإنسان يجب عليه صيانة نفسه بأكل ما يجده حال الجوع، فيجب عليه الدفاع عن نفسه.
وقال الحنابلة (1)، ورأيهم هو المتفق مع السنة: إن دفع الصائل على النفس جائز لا واجب، سواء أكان الصائل صغيراً أم كبيراً أم مجنوناً، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حال الفتنة: «اجلس في بيتك، فإن خفت أن يَبهرك شعاع الشمس، فغطِّ وجهك» وفي لفظ «تكون فتن، فكن فيها عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل» (2) وقد صح أن عثمان رضي الله عنه منع عبيده أن يدافعوا عنه، وكانوا أربع مئة، وقال: «من ألقى سلاحه فهو حر». قالوا: وهذا مخالف لحال المضطر إلى الطعام: يلزمه الأكل منه؛ لأن في القتل شهادة، وإحياء نفس غيره، وفي الأكل إحياء نفسه من غير مساس بنفس أحد غيره.
_________
(1) المغني: 329/ 8 وما بعدها، كشاف القناع: 143/ 4.
(2) أخرجه ابن أبي خيثمة والدارقطني عن عبد الله بن خباب بن الأرت، وأخرجه أحمد نحوه عن خالد ابن عرفطة.

(6/4842)


المبحث الرابع ـ ضمان الفعل:
اتفق الفقهاء (1) على أن المعتدى عليه (المدافع) إذا قتل الصائل، فلا مسؤولية عليه من الناحيتين المدنية والجنائية، فلا دية ولا قصاص، لقوله عليه السلام: «من شهر سيفه ثم وضعه ـ ضرب به ـ فدمه هَدَر» (2)، ولأن الصائل باغ، والمصول عليه كان يؤدي واجبه في الدفاع عن نفسه، ودفع الشر (3).
إلا أن الحنفية استثنوا مما ذكر: ما إذا كان الصائل صبياً أو مجنوناً أو دابة، فقتله المصول عليه، فيسأل مدنياً فقط لا جنائياً، فلا قصاص عليه، وإنما يدفع الدية عن الصبي والمجنون، ويضمن قيمة الدابة كما بينت في المبحث الثاني.
وروي عن أبي يوسف: أنه يكون مسؤولاً مدنياً فقط عن قيمة الحيوان، ولاتجب الدية عليه في قتل الصبي والمجنون.
ودليل الحنفية بالنسبة للدابة قوله صلّى الله عليه وسلم: «العجماء جُرْحها جُبَار» (4) أي
هَدر. وأما فعل الصبي والمجنون فلا يوصف بكونه جريمة أو بغياً، فلا تسقط به عصمة النفس، ولا يتوافر بالتالي شرط جواز الدفاع عن النفس؛ لأن من شرائطه أن يكون هناك اعتداء أو عدوان عندهم، كما تقدم، ولأن الدفاع شرع لدفع الجرائم، ولا جريمة ههنا.
وقال أبو يوسف: يعد فعل الصبي والمجنون جريمة، بدليل أنه يجب عليهما
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) أخرجه النسائي وإسحاق بن راهويه والطبراني عن عبد الله بن الزبير (نصب الراية: 347/ 4).
(3) قال الحنفية: «من شهر على رجل سلاحاً ليلاً أو نهاراً، أو شهر عصا ليلاً في مصر، أو نهاراً في طريق غير مصر، فقتله المشهور عليه عمداً، فلا شيء عليه» (مجمع الضمانات: ص166).
(4) رواه الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه (نيل الأوطار: 234/ 5).

(6/4843)


ضمان المتلفات، إلا أنه رفع العقاب عنهما لعدم الإدراك. أما فعل الدابة، فليس جريمة، ولا يجب الضمان على ما تتلفه؛ لأن العجماء جبار والشرط أن يكون الاعتداء جريمة.
والخلاصة: أن أبا حنيفة لا يرى وجوداً لحالة الدفاع في صيال الصبي والمجنون والحيوان، وإنما يحق الدفاع على أساس الضرورة، أي فيجب الضمان أو التعويض. وأما أبو يوسف فيرى وجود حالة الدفاع إذا صال الصبي أو المجنون، كما هو رأي غير الحنفية. أما إذا صال الحيوان فيدفع على أساس الضرورة، فتجب قيمته بإتلافه.
وأما جمهور الفقهاء فيرون توافر حالة الدفاع في كل الحالات المذكورة؛ لأن من واجب الإنسان أن يدافع عن النفس والمال عند كل اعتداء، وإن فعل الاعتداء بذاته لا يحل دم الصائل، ولكنه يوجب أو يجيز منع الاعتداء، على الخلاف السابق بينهم على رأيين، فالمطالبة بمنع الاعتداء هو الذي أحل دم الصائل، وليس الاعتداء ذاته، فلايشترط إذن أن يكون الاعتداء ذاته جريمة معاقباً عليها.
ورأي الحنابلة (1): أن من دفع صائلاً عن نفسه أو عن ولده ونسائه ومحارمه كأخته وعمته بالقتل لم يضمنه، ولو دفعه عن غيره بالقتل ضمنه.

حكم العاض: وأما من عض يد إنسان، فانتزعها منه، فسقطت أسنانه، فلاضمان عليه، أي لا يسأل مدنياً بدفع الدية عند غير المالكية، بدليل حديث عمران بن حصين «أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده من فيه، فوقعت ثنيتاه (2)، فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يَعضُّ أحدكم يد أخيه، كما يعض الفَحْل (3)، لا
_________
(1) كشاف القناع: 143/ 4.
(2) الثنية: واحدة الثنايا أي أسنان مقدم الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل.
(3) الفحل: الذكر من كل حيوان.

(6/4844)


دية لك» (1) وحديث يعلى بن أمية قال: «كان لي أجير، فقاتل إنساناً، فعض أحدهما صاحبه، فانتزع أصبعه، فأنذر ثنيته (أي أزالها)، فسقطت، فانطلق إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأهدر ثنيته، وقال: أيدع يده في فيك، تقضَمها كما يَقْضَم الفحل» (2).
وقال المالكية: إنه يجب الضمان في مثل ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «في السن خمس من الإبل» (3) ولكن قال يحيى بن يعمر وابن بطال: لو بلغ مالكاً هذا الحديث ـ حديث ابن الحصين ويعلى ـ لم يخالفه (4).

حكم الدفاع عن العرض:
إذا أراد فاسق الاعتداء على شرف امرأة، فيجب عليها باتفاق الفقهاء (5) أن تدافع عن نفسها إن أمكنها الدفع؛ لأن التمكين منها للرجل حرام، وفي ترك الدفاع تمكين منها للمعتدي، ولها قتل الرجل المكره، ولو قتلته كان دمه هَدراً، إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل.
وكذلك يجب على الرجل إذا رأى غيره يحاول الاعتداء على امرأة أن
_________
(1) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة ماعدا أبا داود.
(2) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) إلا الترمذي.
(3) رواه أبو داود في المراسيل والنسائي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان وأحمد.
(4) المغني: 333/ 8 ومابعدها، مغني المحتاج: 197/ 4، نيل الأوطار: 25/ 7، الميزان للشعراني: 173/ 2، والمهذب: 225/ 2. واشترط الشافعية لعدم ضمان رمي الناظر إلى البيوت: عدم وجود محرم وزوجة للناظر، فإن كان له شيء من ذلك حرم رميه لأن له في النظر شبهة.
(5) الدر المختار: 197/ 3، 397/ 5، البدائع: 93/ 7، بداية المجتهد: 319/ 2، مجمع الضمانات: ص203، مغني المحتاج: 194/ 4 ومابعدها، المهذب: 225/ 2، المغني: 331/ 8 ومابعدها، كشف الأسرار: 1520/ 4، الشرح الكبير للدردير: 357/ 4.

(6/4845)


يدفعه، ولو بالقتل إن أمكنه الدفاع، ولم يخف على نفسه؛ لأن الأعراض حرمات الله في الأرض، لا سبيل إلى إباحتها بأي حال، سواء عرض الرجل أو عرض غيره.
ولا يسأل المدافع جنائياً ولا مدنياً، فلا قصاص ولا دية عليه، لظاهرالحديث: «من قتل دون أهله فهو شهيد» (1) ولما ذكره الإمام أحمد من حديث الزهري بسنده عن عبيد بن عمير: «أن رجلاً أضاف ناساً من هذيل، فأراد امرأة على نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر: والله لا يودى أبداً»، ولأنه إذا جاز الدفاع عن المال الذي يجوز بذله وإباحته، فدفاع المرأة أو الرجل عن أنفسهم، وصيانتهم عن الفاحشة التي لاتباح بحال: أولى.

الزاني بامرأته: كذلك لاقصاص ولا دية في المذاهب الأربعة (2) على من وجد رجلاً يزني بامرأته، فقتله، لما روي: «أن عمر رضي الله عنه بينما هو يتغدى يوماً، إذ أقبل رجل يعدو، ومعه سيف مجرد ملطخ بالدم، فجاء حتى قعد مع عمر، فجعل يأكل، وأقبل جماعة من الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته، فقال عمر: ما يقول هؤلاء؟ قال: ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف، فإن كان بينهما أحد، فقد قتله، فقال لهم عمر: مايقول؟ قالوا: ضرب بسيفه فقطع فخذي امرأته، فأصاب وسط الرجل، فقطعه باثنين، فقال عمر: إن عادوا فعد» (3).
وإذا كانت المرأة مطاوعة فلا ضمان عليه فيها. وإن كانت مكرهة فعليه القصاص.
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) المراجع السابقة، المغني: 332/ 8.
(3) رواه هشيم عن مغيرة عن إبراهيم، وأخرجه سعيد بن منصور.

(6/4846)


ولا بد من البينة كما تقدم في حكم الدفاع. وفي البينة روايتان عند الحنابلة: في رواية: أنها أربعة شهداء، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن رجل دخل بيته، فإذا مع امرأته رجل، فقتلها وقتله، قال علي: إن جاء بأربعة شهداء، وإلا فليعط برمته أي تضمين ديته. ولما روى أبو هريرة: «أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله، حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم» (1).
وفي رواية أخرى: إنه يكفي شاهدان، لأنه البينة تشهد على وجوده على المرأة، وهذا يثبت بشاهدين، وإنما الذي يحتاج إلى أربعة هو الزنا، وهذا لا يحتاج إلى إثبات الزنا.
فإن لم تكن بينة فادعى الزوج علم ولي المرأة بالزنا، فالقول قول الولي بيمينه، عند الحنابلة.

الاطلاع على داخل البيوت:
لو اطلع إنسان بدون إذن على بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه، فرماه صاحب البيت بحصاة أو طعنه بعود، فقلع عينه، فلا مسؤولية عليه جنائياً ولا مدنياً، أي لا قصاص ولا دية عند الشافعية والحنابلة (2)،لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن، فخذفته (3) بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك جناح» (4). وقوله عليه الصلاة والسلام: «من اطَّلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد
_________
(1) أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت (فتح الباري: 154/ 12).
(2) مغني المحتاج: 197/ 4 ومابعدها، المهذب: 225/ 2، أعلام الموقعين: 336/ 2، المغني: 335/ 8.
(3) الخذف: الرمي بالحصاة، والحذف: الرمي بالعصا، لا بالحصا.
(4) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة.

(6/4847)


حل لهم أن يفقؤوا عينه» (1) وفي لفظ «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤوا عينه، فلا دية له ولا قصاص» (2).
هذا إذا رماه بشيء خفيف كحصاة. أما إذا رمى صاحب الدار الناظر بما يقتله عادة كحجر قاتل، أو حديدة ثقيلة، أو نشاب، فيلزم بالقصاص، أو الدية عند العفو عنه؛ لأن له ما يقلع به العين المبصرة التي حصل الأذى منها، دون مايتعدى إلى غيرها.
فإن لم يندفع الناظر بالشيء اليسير، جاز ـ كما في الصيال ـ رميه بأشد منه، حتى القتل، سواء أكان الناظر في الطريق، أم في ملك نفسه، أم في غيرهما. وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلم الحكمة من منع الاطلاع على البيوت فقال: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» (3).
وقال الحنفية والمالكية (4): يسأل جنائياً صاحب الدار في هذه الحالة، فيجب عليه القصاص أو الدية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «في العين نصف الدية» (5)، ولأن مجرد النظر بالعين لايبيح الجناية على الناظر، كما لو نظر من الباب المفتوح، وكما لو دخل منزله، ونظر فيه، أو نال من امرأته ما دون الجماع، لم يجز قلع عينه، فمجرد النظر أولى.
_________
(1) رواه أحمد.
(2) رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن سهل بن سعد.
(3) رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن سهل بن سعد.
(4) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 110/ 6، الفتاوى الهندية: 7/ 6، رد المحتار على الدر: 390/ 5، تكملة فتح القدير: 269/ 8، مجمع الضمانات: ص169، القوانين الفقهية: ص351، رحمة الأمة بهامش الميزان للشعراني: 159/ 2، ط البابي الحلبي.
(5) أخرجه أبو داود في المراسيل والنسائي وابن خزيمة، وابن الجارود وابن حبان وأحمد (سبل السلام: 244/ 3).

(6/4848)


ويلاحظ أن الاختلاف بين الرأيين هو فيمن نظر من خارج الدار، أما لو أدخل شخص رأسه، فرماه صاحب الدار بحجر، ففقأ عينه، فلا يضمن إجماعاً.

حكم الدفاع عن المال:
قرر جمهور الفقهاء أن الدفاع عن المال جائز، لا واجب، سواء أكان المال قليلاً أم كثيراً، إذا كان الأخذ بغير حق، ولا قصاص على المدافع إن التزم الدفع بالأسهل فالأسهل، لما رواه أبو هريرة. قال: «جاء رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك (وفي لفظ: قاتل دون مالك)، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: هو في النار» (1) قال العلماء: فإن قتله فلا ضمان عليه، لعدم التعدي منه عليه، والحديث عام لقليل المال وكثيره.
وسبب التفرقة بين الدفاع عن المال، والدفاع عن النفس أو العرض عند القائلين بوجوب الدفاع عن غير المال: هو أن المال مما يباح بالإباحة والإذن، أما النفس فلا تباح بالإباحة.
وقال بعض المالكية: لا يجوز الدفاع عن المال إذا كان شيئاً يسيراً. ولكن ظاهر الأحاديث السابقة وعمومها يرد على التفرقة بين القليل والكثير كما تقدم.
وقال بعض العلماء: إن المقاتلة عن المال واجبة. وهذا رأي المالكية بعد الإنذار كما أوضحت (2).
_________
(1) رواه مسلم وأحمد (نصب الراية: 348/ 4 وما بعدها) قال ابن تيمية في منتهى الأخبار: فيه من الفقه أنه يدفع بالأسهل فالأسهل (نيل الأوطار: 326/ 5).
(2) الدر المختار وحاشيته: 388/ 5، مواهب الجليل: 323/ 6، الشرح الكبير: 357/ 4، نيل الأوطار: 326/ 5، المغني: 329/ 8 وما بعدها.

(6/4849)


وفرق الشافعية (1) بين أنواع المال فقالوا: لا يجب الدفع عن مال لا روح فيه، لأنه يجوز إباحته للغير. أما ما فيه روح: فيجب الدفع عنه إذا قصد إتلافه، ما لم يخش على نفسه أو عرضه، لحرمة الروح، حتى لو رأى أجنبي شخصاً يتلف حيوان نفسه إتلافاً محرماً، وجب عليه دفعه على الأصح. وكذلك يجب عليه الدفع عن مال متعلق به حق الغير كرهن وإجارة.
لكن أضاف الشافعية: لو سقطت جرة ولم تندفع عنه إلا بكسرها، ضمنها في الأصح، إذ لا قصد لها ولا اختيار، حتى يحال السبب عليها، فصار المدافع عن المال كالمضطر إلى طعام غيره، يأكله ويضمنه.
_________
(1) المهذب: 224/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 195/ 4 وما بعدها.

(6/4850)