الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ التَّاسِع: اللّقطة واللّقيط
اللقطة لغة: بسكون القاف أو فتحها: ما وجد بعد طلب أي ما يلتقط، قال تعالى:
{فالتقطه آل فرعون} [القصص:8/ 28] وهي بهذا المعنى اللغوي العام تشمل ما
يلتقطه الإنسان من بني آدم أو الأموال، أو الحيوان. واللقَطة بفتح القاف
أيضاً: الكثير الالتقاط.
إلا أن الحنفية وغيرهم ميزوا في بحوثهم الفقهية بين اللقيط، واللقطة،
والضالة. لذا أذكر معنى اللقيط، وأحكامه، ومعنى اللقطة وأحكامها، وأبين
نوعي اللقطة: لقطة الأموال، ولقطة الحيوان أي الضالة، وأختم البحث بمعرفة
ما يصنع باللقطة. ويكون الكلام في مبحثين:
المبحث الأول ـ حقيقة اللقيط وأحكامه:
اللقيط لغة: هو ما يلقط أي يرفع من الأرض، وعرفاً: هو الطفل المفقود
المطروح على الأرض عادة، خوفاً من مسؤولية إعالته، أو فراراً من تهمة
الريبة أو الزنا فلا يعرف أبوه ولا أمه، أو لسبب آخر.
أحكامه: الالتقاط عند الحنفية مندوب
إليه وهو من أفضل الأعمال؛ لأنه يترتب عليه إحياء النفس، ويكون فرض كفاية
إن غلب على الظن هلاك الولد لو لم يأخذه، كأن وجد في مغارة ونحوها من
المهالك، لحصول المقصود بالبعض وهو صيانته.
(6/4851)
وقال باقي الأئمة: التقاط الولد فرض كفاية
إلا إذا خاف هلاكه ففرض عين.
وهناك أحكام فرعية أخرى تتعلق باللقيط منها (1):
1 - إن الملتقط أولى بإمساك اللقيط من غيره:
فإن شاء تبرع بتربيته والإنفاق عليه، وإن شاء رفع الأمر إلى الحاكم، ليأمر
أحداً بتربيته على نفقة بيت المال؛ لأن بيت المال معدّ لحوائج جميع
المسلمين .. هذا إذا لم يكن للقيط مال، فإن كان له مال، بأن وجد الملتقط
معه مالاً، فتكون النفقة من مال اللقيط؛ لأنه غير محتاج إليه، فلا يثبت حقه
في بيت المال، وهذا الحكم مجمع عليه بين العلماء (2).
ولو أنفق عليه الملتقط من مال نفسه: فإن أنفق بإذن القاضي، فله أن يرجع على
اللقيط بعد بلوغه، وإن أنفق بغير إذن القاضي يكون متبرعاً، ولا يرجع على
اللقيط بما أنفق عليه بعد استكماله البلوغ.
واللقيط كاللقطة أمانة في يد الملتقط.
2 - إن الولاية على اللقيط في نفسه وماله
للقاضي: أي بالنسبة للحفظ والتعليم والتربية والتزويج والتصرف من
ماله، لقوله عليه الصلاة والسلام: «السلطان ولي من لا ولي له» (3) وليس
للملتقط ولاية التزويج أو التصرف في المال.
_________
(1) راجع المبسوط: 209/ 10 ومابعدها، البدائع: 197/ 6 وما بعدها، فتح
القدير: 417/ 4، تبيين الحقائق: 297/ 3، الدر المختار: 343/ 3 وما بعدها،
مختصر الطحاوي: ص 141، مجمع الضمانات: ص 211 وما بعدها.
(2) المغني: 683/ 5، بداية المجتهد: 305/ 2، مغني المحتاج: 421/ 2.
(3) رواه خمسة من الصحابة: عائشة، وابن عباس، وعلي، وعبد الله بن عمرو،
وجابر، فحديث عائشة أخرجه أصحاب الكتب الستة والشافعي وأحمد بلفظ: «لا نكاح
إلا بولي، وأيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، باطل، باطل، فإن
لم يكن لها ولي، فالسلطان ولي من لا ولي له» وحديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه
بلفظ: «لا نكاح إلا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له» وهكذا .. (راجع تخريج
وتحقيق أحاديث تحفة الفقهاء للمؤلف مع الأستاذ الكتاني: 510/ 3، نصب
الراية: 167/ 3).
(6/4852)
وإذا زوج الحاكم اللقيط فالمهر يدفع من بيت
المال، إلا إذا كان للقيط مال، فيكون في ماله. كذلك يدفع للقيط من بيت
المال ما يحتاج إليه من نفقة وكسوة ودواء ونحوها، وهو مروي عن عمر وعلي رضي
الله عنهما، ولأن بيت المال معد للصرف إلى مثله من المحتاجين، كالمقعد الذي
لا مال له، ولأن ميراثه لبيت المال، والخراج بالضمان أي لبيت المال غنمه أي
(ميراثه) وديته، وعليه غرمه.
3 - إن اللقيط حر مسلم: لأن الأصل في
الإنسان إنما هو الحرية، والأصل بقاء ما كان حتى يوجد ما يغيره، ولأن الدار
دار إسلام ودار حرية، فمن كان فيها يكون حراً بمقتضى الأصل العام، إذ هو
الحكم الغالب والأمر الظاهر، ويكون أيضاً مسلماً تبعاً لدار الإسلام.
وبناء عليه، إذا وجد اللقيط مسلم في بلد إسلامي يكون مسلماً، حتى لو مات
يغسل ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، أما إذا وجده ذمي أو مسلم في
بِيعة (معبد) النصارى أو كنيسة اليهود أو في قرية ليس فيها مسلم يكون ذمياً
تحكيماً للظاهر. ولو وجده ذمي في بلد إسلامي يكون مسلماً، أي أن العبرة
للمكان.
وفي رواية النوادر عند ابن سماعة: ينظر إلى حال الواجد من كونه مسلماً أو
ذمياً ولا يلتفت إلى المكان؛ لأن اليد (أي الحيازة) أقوى من المكان، بدليل
أن تبعة الأبوين فوق تبعة الدار.
وفي رواية أخرى يكون اللقيط مسلماً بحسب حال الواجد، أو المكان.
قال الكاساني: والصحيح هذه الرواية، فإذا وجده مسلم في بلد إسلامي
(6/4853)
كان مسلماً تبعاً للدار، وإذا وجده كافر في
دار الإسلام كان مسلماً، أو وجده ذمي أو مسلم في كنيسة كان ذمياً (1).
فتكون الأقوال ثلاثة: العبرة للمكان، أو العبرة للواجد، أو العبرة للمكان
أو الواجد، والقول الثالث هو الأصح عند الحنفية.
وقال الشافعية والحنابلة: إذا وجد لقيط بدار الإسلام فهو مسلم، وإن وجد
بدار الكفار فكافر إن لم يسكنها مسلم كأسير وتاجر، فإن سكنها مسلم فهو مسلم
في الأصح (2) تغليباً للإسلام، بدليل ما روى أحمد والدارقطني: «الإسلام
يعلو ولا يعلى عليه».
4 - حكم النسب: يعتبر اللقيط مجهول
النسب، حتى لو ادعى إنسان نسبة اللقيط تصح دعوته،،ويثبت النسب منه. وبناء
عليه: لو ادعى الملتقط أو غيره أن اللقيط ابنه تسمع دعواه من غير بينة،
والقياس ألا تسمع إلا ببينة.
وجه القياس ظاهر، وهو أنه يدعي أمراً يحتمل الوجود وعدمه، فلا بد من ترجيح
أحد الجانبين على الآخر بمرجح، وذلك بالبينة، ولم توجد.
ووجه الاستحسان: أن هذا الادعاء إقرار بما ينفع اللقيط؛ لأنه يتشرف بالنسب
ويعير بفقده، وتصديق المدعي في مثل هذا لا يتطلب البينة. لكن لو ادعى نسبه
ذمي تقبل دعواه، ويثبت نسبه منه، لكنه يكون مسلماً؛ لأن ادعاء النسب يقبل
فيما ينفع اللقيط لا فيما يضره، ولا يلزم من كونه ابناً له أن يكون كافراً،
كما لو أسلمت أمه مثلاً، فيلحق الولد خير الأبوين ديناً، كما هو معروف.
_________
(1) البدائع: 198/ 6.
(2) مغني المحتاج: 422/ 2، المغني: 681/ 5.
(6/4854)
ولو ادعاه رجلان أنه ابنهما، ولا بينة
لهما، فإن كان أحدهما مسلماً، والآخر ذمياً، فالمسلم أولى بثبوت نسبه منه؛
لأنه أنفع للقيط.
وإن كان المدعيان مسلمين حرين: فإن وصف أحدهما علامة في جسد الولد، فهو أحق
به عند الحنفية؛ لأن ذكر العلامة يدل على أنه كان في يده، فالظاهر أنه له،
فيترجح بها، بدليل قوله تعالى مخبراً عن أهل امرأة عزيز مصر: {إن كان قميصه
قدّ من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قدّ من دُبُر، فكذبت
وهو من الصادقين} [يوسف:26/ 12 - 27].
وإن لم يصف أحدهما علامة، أو أقام كل منهما البينة، يحكم بكونه ابناً لهما،
إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر، وقد روي عن سيدنا عمر في مثل هذا أنه قال:
إنه ابنهما يرثهما ويرثاه.
وإن ذكر أحدهما بينة، والآخر علامة، فصاحب البينة أولى؛ لأنه ترجح جانبه
بمرجح.
وقال الشافعية: إن ادعى اللقيط اثنان ولم يكن لأحدهما بينة، عرض اللقيط على
القائف (1) فيلحق من ألحق به؛ لأن في إلحاقه أثراً في الانتساب عند
الاشتباه (2).
وإن ادعت امرأة أن اللقيط ابنها: فإن لم يكن لها زوج، لا يصح ادعاؤها؛ لأن
فيه حمل نسب شخص على الغير وهو الزوج، وهو لا يجوز. وإن كان لها
_________
(1) القائف جمعه قافة: وهم قوم يعرفون الأنساب بالشبه، والقائف: من عرفت
منه معرفة الأنساب بالشبه، وتكررت منه الإصابة. والأصل في القائف: هو الذي
يتبع الآثار والأشباه ويقفوها، أي يتبعها، فهو المتبع للشيء.
(2) مغني المحتاج: 428/ 2.
(6/4855)
زوج فصدقها في ادعائها أو شهدت لها
القابلة، أو شهد لها شاهدان، ثبت النسب منها.
ولو ادعته امرأتان، وأقامت إحداهما البينة فهي أولى به، وإن أقامت كل منهما
البينة، فهو ابنهما عند أبي حنيفة. وعند أبي يوسف: لا يكون لواحدة منهما.
وعن محمد روايتان: في رواية يجعل ابنهما، وفي رواية: لا يجعل ابن واحدة
منهما.
المبحث الثاني ـ اللقطة وأحكامها
ونوعاها وما يصنع بها:
ينقسم هذا المبحث إلى مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ معنى اللقطة وأحكامها:
اللقطة ـ بضم اللام وفتح القاف أو سكونها، وحكى ابن مالك فيها أربع لغات:
وهي لقاطة، ولقطة بضم اللام وسكون القاف، وبضم اللام وفتح القاف، ولقط بفتح
اللام والقاف بلا تاء مربوطة. وقال الخليل بن أحمد: هي بفتح القاف وصف
مبالغة لاسم الفاعل: وهو الملتقط، مثل هُمَزة ولُمَزة، وبسكون القاف وصف
مبالغة لاسم المفعول: مثل ضُحْكة للذي يضحك منه، وهُزْأة للذي يهزأ به،
وإنما قيل للمال الملتقط لقطة؛ لأن طباع النفوس في الغالب تبادر إلى
التقاطه؛ لأنه مال.
وهي شرعاً كما قال ابن قدامة الحنبلي: المال الضائع من ربه يلتقطه غيره.
وبنحوه في التتارخانية من كتب الحنفية: هي مال يوجد، ولا يعرف مالكه، وليس
بمباح كمال الحربي.
(6/4856)
أحكامها: للقطة أحكام من حيث الندب ومن حيث
الضمان وغيرهما:
1 - أما حكمها من حيث الندب وغيره: فهو
مختلف فيه عند الفقهاء، فقال الحنفية والشافعية: الأفضل الالتقاط؛ لأن من
واجب المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم، لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر
والتقوى} [المائدة:2/ 5] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد
ما كان العبد في عون أخيه» (1) فيكون الالتقاط سبيلاً لحفظ المال، ثم رده
على صاحبه، لأنه ربما وقع في يد إنسان غير مؤتمن، فيأخذه، أما الأمين
فيساعد في رد المال لصاحبه، وكف الأيدي الآثمة عنه. فإن لم يثق بأمانة نفسه
وخشي استباحته، كره له الالتقاط، وإن علم من نفسه الخيانة، دون الرد على
صاحبه، حرم الالتقاط، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد عن جرير
بن عبد الله: «لا يأوي الضالة إلا ضال، مالم يعرّفها».
وقال المالكية والحنبلية بكراهية الالتقاط، لقول ابن عمر وابن عباس، ولأنه
تعريض لنفسه لأكل الحرام، ولما يخاف أيضاً من التقصير فيما يجب لها من
تعريفها وردها لصاحبها وترك التعدي عليها (2).
هذا هو الحكم العام، ثم فصل علماء كل مذهب تفصيلات مذهبية، المهم منها
الإشارة إلى مذهب الحنفية، ومثلهم الشافعية، فإنهم قالوا: يستحب الالتقاط
لواثق بأمانة نفسه إذا خاف ضياع اللقطة لئلا يأخذها فاسق، فإن لم يخف
ضياعها فالتقاطها مباح، وإن علم من نفسه الخيانة بأن يأخذ اللقطة لنفسه، لا
لصاحبها
_________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة (شرح مسلم: 21/ 17).
(2) راجع البدائع: 200/ 6، فتح القدير: 423/ 4، الدر المختار: 406/ 3،
بداية المجتهد: 299/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 406/ 2، المغني: 630/ 5.
(6/4857)
فيحرم الالتقاط، لما روي عن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم أنه قال: «لا يأوي الضالة إلا ضال» (1).
2 - وأما حكمها من حيث الضمان وعدمه:
فقال الحنفية: اللقطة أمانة في يد الملتقط لا يضمنها إلا بالتعدي عليها، أو
بمنع تسليمها لصاحبها عند الطلب، وذلك إذا أشهد الملتقط على أنه يأخذها
ليحفظها ويردها إلى صاحبها؛ لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعاً، قال
صلّى الله عليه وسلم: «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل» (2). وهو أمر يقتضي
الوجوب، ولأنه إذا لم يشهد كان الظاهر أنه أخذها لنفسه، ويكفيه للإشهاد أن
يقول: من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي.
وكذلك تكون أمانة إذا تصادق صاحب اللقطة والملتقط أنه التقطها ليحفظها
للمالك.
فإن لم يشهد الملتقط ولم يتصادقا، وإنما قال الآخذ: أخذتها للمالك وكذبه
المالك يضمن اللقطة عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الظاهر أنه أخذ اللقطة لنفسه،
لا للمالك.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: اللقطة أمانة، ولكن لا يشترط الإشهاد
على اللقطة وإنما يستحب فقط، وإذا لم يشهد الآخذ فلا يضمن عندهم وعند أبي
يوسف أيضاً؛ لأن اللقطة وديعة، فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى
الضمان،
_________
(1) رواه مسلم وأحمد عن زيد بن خالد بلفظ: «لا يأوي الضالة إلا ضال ما لم
يعرِّفها» ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه بلفظ «لا يأوي الضالة إلا ضال»
(نيل الأوطار: 338/ 5، 344، سبل السلام: 94/ 3).
(2) رواه أحمد وابن ماجه عن عياض بن حمار، ورواه أيضاً أبو داود والنسائي
والبيهقي والطبراني وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان (نيل الأوطار:
338/ 5، نصب الراية: 466/ 3، سبل السلام: 96/ 3، الالمام: ص 370).
(6/4858)
بدليل ما جاء من حديث سليمان بن بلال وغيره
أنه قال: «إن جاء صاحبها، وإلا فلتكن وديعة عندك» (1).
وأما عدم اشتراط الإشهاد، فلأن الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر زيد بن خالد
وأبي بن كعب بتعريف اللقطة فقط دون الإشهاد (2)، ومن المعلوم أنه لا يجوز
تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلو كان الإشهاد واجباً لبينه النبي صلّى الله
عليه وسلم حينما سئل عن حكم اللقطة، وحينئذ تعين حمل الأمر بالإشهاد في
حديث عياض الذي استدل به الحنفية على الندب والاستحباب فقط (3).
أـ وبناء على رأي أبي حنيفة ومحمد: لو أخذ الشخص اللقطة ثم ردها إلى مكانها
الذي أخذها منه، لا ضمان عليه في ظاهر الرواية؛ لأنه أخذها محتسباً متبرعاً
ليحفظها على صاحبها، فإذا ردها إلى مكانها فقد فسخ التبرع. فصار كأنه لم
يأخذها أصلاً. هذا إذا كان المالك قد صدق الملتقط أنه أخذها ليحفظها، أو
كان الملتقط قد أشهد على ذلك ثم ضاعت. فإن كان لم يشهد يجب عليه الضمان عند
أبي حنيفة ومحمد.
وعند أبي يوسف: لا يجب الضمان، سواء أشهد أم لم يشهد، ويكون القول قول
الملتقط بيمينه أنه أخذها ليحفظها لصاحبها.
_________
(1) حديث سليمان رواه مسلم (نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 341، الإلمام
بأحاديث الأحكام: ص 371، شرح مسلم: 25/ 12).
(2) حديث زيد رواه البخاري ومسلم وأحمد كما ذكرت سابقاً، وحديث أبي بن كعب
رواه مسلم وأحمد والترمذي (نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 338 وما بعدها).
(3) المبسوط: 12/ 11، فتح القدير، المرجع السابق، البدائع: 201/ 6، تبيين
الحقائق: 301/ 2، مجمع الضمانات: ص 209 وما بعدها، بداية المجتهد: 303/ 2
وما بعدها، الشرح الكبير: 121/ 4، القوانين الفقهية: ص 342، مغني المحتاج:
407/ 2، المغني: 644/ 5، 647، القواعد لابن رجب: ص53.
(6/4859)
وقال مالك: لا ضمان على من رد اللقطة إلى
موضعها، لما روي عن عمر أنه قال لرجل وجد بعيراً: «أرسله حيث وجدته». ولكن
المشهور في مذهب المالكية أن الملتقط يضمن اللقطة إذا ردها لموضعها أو
لغيره بعد أخذها للحفظ.
ورأى الشافعية والحنابلة: أنه إذا أخذ اللقطة إنسان، ثم ردها إلى موضعها
ضمنها؛ لأنها أمانة صارت في يده، فلزمه حفظها، فإذا ضيعها لزمه ضمانها كما
لو ضيع الوديعة.
فصار رأي الجمهور هو وجوب الضمان برد اللقطة إلى مكانها.
ب ـ ويضمن الملتقط اللقطة إذا دفعها إلى غيره بغير إذن القاضي؛ لأنه يجب
عليه حفظها بنفسه، بالتزامه الحفظ بالالتقاط.
جـ ـ فإن هلكت اللقطة في يد الملتقط: فإن أشهد على اللقطة، بأن قال للناس:
(إني وجدت لقطة، فمن طلبها فدلوه علي): فإنه لا يضمن. وإن لم يشهد فعند أبي
حنيفة ومحمد: يضمن. وعند أبي يوسف: لا يضمن إذا كان قد أخذ اللقطة ليردها
إلى صاحبها، ويحلف على فعله إن لم يصدقه صاحبها، كما ذكرت قريباً.
د ـ ولو أقر الملتقط أنه كان قد أخذ اللقطة ليمتلكها لنفسه، لا يبرأ عن
الضمان إلا بالرد على المالك؛ لأنه ظهر أنه أخذها غصباً، فكان الواجب عليه
الرد إلى المالك (1) لقوله صلّى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى
تؤديه» (2).
_________
(1) راجع البدائع: 201/ 6، المبسوط: 11/ 11، 13، بداية المجتهد: 304/ 2،
المغني: 694/ 5، مغني المحتاج: 411/ 2.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن الحسن بن سمرة، وصححه الحاكم (نيل
الأوطار: 298/ 5، نصب الراية: 167/ 4).
(6/4860)
المطلب الثاني ـ نوع
اللقطة وما يصنع بها:
اللقطة نوعان: لقطة غير الحيوان: وهو المال الساقط الذي لا يعرف مالكه،
ولقطة الحيوان: وهو الضالة من الإبل والبقر والغنم من البهائم.
وحكم لقطة الحيوان: أنه يجوز التقاطها عند الحنفية والشافعية في الأصح
عندهم، لحفظها لصاحبها صيانة لأموال الناس ومنعاً من ضياعها ووقوعها في يد
خائنة.
وقال مالك وأحمد: يكره التقاط ضالة الحيوان، ولقطة المال أيضاً (1)، لما
رواه أصحاب الكتب الستة عن زيد بن خالد الجهني، قال: «سئل رسول الله صلّى
الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق (2)، فقال اعرف وكاءها، وعفاصها (3)،
ثم عرِّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها (4)، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء
طالبها يوماً من الدهر، فأدّها إليه». وسأله رجل عن ضالة الإبل، فقال:
«مالك ولها، دعها، فإن معها حذاءها وسقاءها (5) ترد الماء، وتأكل الشجر حتى
يجدها ربها. وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب»
(6) أي أن لقطة الإبل غير جائزة، ولقطة الأموال الأخرى جائزة.
_________
(1) المبسوط: 11/ 11، البدائع: 200/ 6، فتح القدير: 428/ 4، تبيين الحقائق:
305/ 3، بداية المجتهد: 299/ 2 ومابعدها، مغني المحتاج: 409/ 2، المغني:
630/ 5 وما بعدها.
(2) الورق ـ بفتح الواو وكسر الراء هو الفضة.
(3) الوكاء: الخيط الذي يشد به الوعاء الذي تكون فيه النفقة، والعفاص بكسر
العين وتخفيف الفاء: هو الوعاء الذي تكون فيه النفقة من جلد أو غيره.
(4) أي إما أن تستهلكها وتغرم بدلها، وأما أن تتركها عندك على سبيل الوديعة
حتى يجيء صاحبها فتعطيها إياه.
(5) الحذاء: أي الخف، والسقاء أي الجوف، وقيل: العنق، والمراد أنها تستغني
عن الحفظ.
(6) راجع نصب الراية: 468/ 4، نيل الأوطار: 338/ 5، شرح مسلم: 20/ 12.
(6/4861)
وروى أبو داود وأحمد وابن ماجه عن جرير بن
عبد الله أنه أمر بطرد بقرة لحقت ببقرة حتى توارت، فقال: سمعت رسول الله
صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يأوي الضالة إلا ضال» (1) وقال صلّى الله
عليه وسلم: «إن ضالة المسلم حرق النار» (2) أي تؤدي به إلى النار إذا
تملكها.
وأخرج مسلم وأحمد والترمذي عن أبي بن كعب في حديث اللقطة أن النبي صلّى
الله عليه وسلم قال: «عرفها فإن جاء أحد يخبرك بعدَّتها ووعائها ووكائها،
فأعطها إياه، وإلا فاستمتع بها» (3).
وأجاب الفريق الأول عن الأحاديث بأن حكمها كان في الماضي حين غلبة أهل
الصلاح والأمانة، فلا تصل إليها يد خائنة، أما في زماننا فنظراً لكثرة
الخيانة يكون في أخذها حفظها على صاحبها.
وهذا كله ما عدا لقطة الحج، فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها
لنهيه عليه السلام عن ذلك (4)، ولا يجوز لقطة مكة أيضاً، لقوله صلّى الله
عليه وسلم في بلد مكة
_________
(1) في رواية: «لا يأوي» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (راجع نيل الأوطار،
المرجع السابق: ص344، سبل السلام: 94/ 3).
(2) رواه الطبراني في كبيره عن عصمة، وفيه أحمد بن راشد وهو ضعيف، وأخرجه
أحمد وابن ماجه والطحاوي وابن حبان وغيرهم عن عبد الله بن الشخِّير (مجمع
الزوائد: 167/ 4، سبل السلام: 94/ 3).
(3) نصب الراية: 467/ 3، نيل الأوطار: 339/ 5، الوعاء: ما يجعل فيه المتاع،
والوكاء: الخيط الذي يشد به الصرة والكيس ونحوهما.
(4) رواه أحمد ومسلم عن عبد الرحمن بن عثمان قال: نهى رسول الله صلّى الله
عليه وسلم عن لقطة الحج (شرح مسلم: 28/ 12، سبل السلام: 96/ 3).
(6/4862)
يوم الفتح: «ولا تحل لقطتها إلا لمعرِّف»
وفي لفظ: «ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد» (1).
وأما ما يصنع باللقطة: فهو أن الملتقط
يعرفها، لما روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني، قال: «سأل رجل رسول
الله صلّى الله عليه وسلم عن اللقطة، فقال: عرفها سنة» وقال عليه الصلاة
والسلام أيضاً: «لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئاً فليعرِّف سنة» الحديث (2).
والكلام عن تعريف اللقطة يستتبع بحث كيفية التعريف، ومدة التعريف، ومكان
التعريف، ونفقات التعريف، وما تحتاجه الضالة، وشرط ردِّ اللقطة إلى صاحبها،
وحكم تملكها:
1 - كيفية تعريف اللقطة وحكم بيان المعرِّف: المراد بتعريف اللقطة: هو
المناداة عليها، أو الإعلان عنها حيث وجدها، وفي المجتمعات العامة كالأسواق
وأبواب المساجد، والمقاهي، ونحوها. وتعريفها: يكون بذكر بعض أوصافها كأن
يذكر جنسها، فيقول:
(من ضاع له نقود، أو ثياب) ونحوه، وأن يبين وعاءها أو وكاءها الذي يربط به
كيسها، ولا يصف أوصافها التفصيلية لأنه لو وصفها، لعلم صفتها من يسمعها،
فلا تبقى صفتها دليلاً على ملكها.
_________
(1) أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ: «ولا تلتقط لقطة إلا من عرفها»
وفي لفظ «إلا لمعرف» وأخرجها أيضاً عن أبي هريرة بلفظ: «ولا تحل ساقطتها
إلا لمنشد» (راجع نصب الراية: 467/ 3، نيل الأوطار: 24/ 5).
(2) أخرجه البزار في مسنده والدارقطني في سننه عن أبي هريرة (راجع في هذا
وما قبله الذي سبق تخريجه: نصب الراية: 466/ 3، نيل الأوطار: 338/ 5، سبل
السلام: 94/ 3، شرح مسلم: 26/ 12).
(6/4863)
ويجب على الملتقط عند الجمهور تعريف
اللقطة؛ لأن ظاهر أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم لزيد بن خالد في قوله:
«عرفها سنة» يقتضي الوجوب، إذ ظاهر الأمر للوجوب، كما هو معروف عند علماء
الأصول.
وقال أكثر الشافعية: لا يجب تعريفها لمن أراد حفظها لصاحبها؛ لأن الشرع
إنما أوجب التعريف إذا كان بقصد التملك، لكن المعتمد عندهم وجوب التعريف.
وبه اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب الإعلان عن اللقطة أو تعريفها.
وللملتقط أن يتولى تعريفها بنفسه، أو يستنيب عنه أحداً يقوم بالتعريف (1).
2 - مدة التعريف: اتفق العلماء على أن
لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد عن العمران أن يأكلها، لقوله صلّى
الله عليه وسلم في الشاة: «هي لك أو لأخيك أو للذئب». واختلفوا هل يضمن
قيمتها لصاحبها أو لا؟.
قال جمهور العلماء: إنه يضمن قيمتها، إذ لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب
نفس منه (2).
وقال مالك في أشهر أقواله: إنه لا يضمن أخذاً بظاهر هذا الحديث.
وأما غير ضالة الغنم: فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له أهمية وشأن
مدة سنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بتعريف اللقطة سنة واحدة كما
عرفنا.
_________
(1) الدر المختار: 350/ 3، فتح القدير: 426/ 4، الشرح الكبير للدردير: 120/
4، مغني المحتاج: 411/ 2، 413، المهذب: 429/ 1، المغني: 631/ 5، 633
ومابعدها، نيل الأوطار: 340/ 5، نهاية المحتاج للرملي: 362/ 4.
(2) هذا حديث رواه الحاكم وابن حبان في صحيحه وأحمد والبزار بلفظ مقارب عن
أبي حميد الساعدي، ورواه أحمد أيضاً بهذا اللفظ عن عمرو بن يثربي، وفي
معناه أحاديث كثيرة (سبل السلام: 60/ 3 وما بعدها، مجمع الزوائد: 171/ 4).
(6/4864)
وما رواه البخاري ومسلم في حديث أبي من
تعريف اللقطة ثلاثة أحوال (أعوام) أو أربعة أو عشرة، هو غلط من بعض الرواة
كما حقق ابن الجوزي، أو هو محمول على مريد الورع عن التصرف في اللقطة (1).
وأما الشيء الحقير: فقال الشافعية:
الأصح أن الشيء الحقير، أي القليل المتمول وهو بقدر الدينار أو الدرهم لا
يعرَّف سنة، لقول عائشة: «لا بأس بما دون الدرهم أن يستنفع به» وقدر بما لا
تقطع به يد السارق وهو ربع دينار عند الجمهور، وعشرة دراهم عند الحنفية، بل
يعرف زمناً يظن أن فاقده يعرض عنه غالباً، وهذا هو الراجح عند المالكية.
وفي رواية عن أبي حنيفة: مضمونها إن كانت قيمة الشيء أقل من عشرة دراهم (أي
دينار) يعرّفه أياماً بحسب ما يرى، وإن كانت عشرة دراهم فصاعداً عرّفها
حولاً، إلا أن هذه الرواية ليست هي ظاهر الرواية عند الحنفية فقد قال
الطحاوي: وإذا التقط لقطة فإنه يعرفها سنة، سواء أكان الشيء نفيساً أم
خسيساً في ظاهر الرواية.
وظاهر الرواية عند الحنفية هو ظاهر المذهب عند الحنابلة (2).
وأما الشيء التافه فقد قال الفقهاء: لا
خلاف في إباحة أخذ اليسير من الأشياء والانتفاع به من غير تعريف كالتمرة
والكسرة والخرقة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم ينكر على واجد التمرة
حيث أكلها بل قال له: «لو لم تأتها لأتتك» ورأى النبي صلّى الله عليه وسلم
تمرة فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» (3) ويلاحظ أن الأمر
_________
(1) راجع نصب الراية: 467/ 3، نيل الأوطار: 340/ 5 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 2 ص 301، 303، الشرح الكبير: 120/ 4، المغني: 632/ 5،
634، المهذب: 430/ 1، مغني المحتاج: 415/ 2، البدائع: 202/ 6، تبيين
الحقائق: 302/ 3 وما بعدها، فتح القدير: 424/ 4 وما بعدها، مختصر الطحاوي:
ص 139.
(3) ذكر ابن قدامة الحنبلي هذين الحديثين (راجع المغني: 634/ 5) روى الثاني
منهما البخاري ومسلم عن أنس (سبل السلام: 93/ 3، الإلمام: ص 373).
(6/4865)
بإكمال مدة التعريف إذا كانت اللقطة مما لا
يتسارع إليها الفساد، فإن كانت مما يتسارع بها تصدق بها أو أنفقها على نفسه
عند الحنفية.
وعند الشافعية: يتخير الملتقط بين أن يبيعها ليمتلك ثمنها بعد التعريف، أو
يتملكها في الحال ويأكلها ويغرم قيمتها.
3 - مكان التعريف: تعرّف اللقطة في
الأسواق وأبواب المساجد ومجامع الناس؛ لأن المقصود إشاعة خبرها وإظهارها
ليعلم بها صاحبها، ولا ينشدها في المسجد؛ لأن المسجد لم يبن لهذا، قال
النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا
ردَّها الله إليه، فإن المساجد لم تبن لهذا» (1). وأمر سيدنا عمر واجد
اللقطة بتعريفها على باب المسجد. وأجاز الشافعية استثناء مما سبق المسجد
الحرام، فإنه يجوز فيه الإعلان عن فقد الأشياء الضائعة، لأن تعريفها لمصلحة
مالكها؛ لأن الملتقط ليس له تملكها. أما من ينشد اللقطة في غير المسجد
الحرام، فهو متهم أنه يفعل ذلك ليتملك اللقطة بعد تعريفها. وأرى أن
الاستعانة بمكبرات الصوت على المآذن للإعلان عن اللقطة أمر لا بأس به في
غير أوقات الصلاة، منعاً من التشويش على المصلين، ولأن الحاجة داعية لذلك
بسبب ازدحام المدن واتساع مناطق السكان، والأولى كتابة إعلانات وإلصاقها
على أبواب المساجد وغيرها، فتتحقق الغاية المطلوبة من التعريف، وقد أصبح
هذا مألوفاً في عصرنا. كما يمكن التعريف بالجرائد والصحف اليومية.
وأبان الشافعية طريق التعريف في أثناء السنة، فقالوا: يعرّف اللقطة، في
_________
(1) رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة ورواه البزار عن سعد بن أبي وقاص
وأنس بن مالك وابن مسعود (راجع مجمع الزوائد: 170/ 4، التاج: 215/ 1).
(6/4866)
أول السنة كل يوم مرتين في طرفي النهار، ثم
يعرف في كل يوم مرة، ثم كل أسبوع مرة أو مرتين، ثم كل شهر مرة تقريباً (1).
4 - نفقات التعريف وما تحتاجه الضالة:
إذا احتاج تعريف اللقطة إلى نفقة كأجور الإعلان في الصحف في عصرنا الحاضر
مثلاً، فقد قال الحنفية والحنابلة: تكون تلك النفقة على الملتقط؛ لأن هذا
أجر واجب على المعرف نفسه، فكان عليه كما لو قصد تملك اللقطة، ولأنه لو
تولى الملتقط تعريف اللقطة بنفسه لم يكن له أجر على صاحبها، فكذلك إذا
استأجر على التعريف لا يلزم صاحبها بشيء.
وقال المالكية: إن أنفق الملتقط على اللقطة شيئاً من عنده، فيخير صاحبها
بين أن يفتديها من الملتقط بدفع نفقتها، أو يسلم اللقطة لملتقطها مقابل
نفقتها (2).
وقال الشافعية: بما أن تعريف اللقطةواجب على الملتقط، على ما هو المعتمد،
فإن الملتقط لا يلزم بمؤنة التعريف إن أخذ اللقطة بقصد حفظها لمالكها،
وإنما يرتبها القاضي من بيت المال (3)، أو يقترض على المالك.
أما إن أخذ اللقطة لتملكها، فيلزمه مؤنة التعريف، سواء أتملكها أم لا. وهذا
هو الرأي المعقول.
أما ما تحتاجه الضالة أو اللقطة من نفقة: فقال المالكية: للملتقط الرجوع
بالنفقة على صاحب اللقطة، وقال الشافعية والحنابلة: ملتقط اللقطة متطوع
بحفظها، فلا يرجع بشيء من النفقة على صاحب اللقطة، إلا أن الشافعية قالوا:
فإن أراد الرجوع استأذن الحاكم، فإن لم يجده أشهد على النفقة.
_________
(1) البدائع: 202/ 6، رد المحتار على الدر المختار: 350/ 3، مغني المحتاج:
413/ 2، المغني: 633/ 5، الشرح الكبير للدردير: 120/ 4، نيل الأوطار: 340/
5.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 123/ 4.
(3) مغني المحتاج: 413/ 2 ومابعدها.
(6/4867)
وكذلك قال الحنفية: إن أنفق الملتقط على
اللقطة بغير إذن الحاكم فهو متبرع، لأنه لا ولاية له على ذمة المالك في أن
يشغلها بالدين بدون أمره، وإن أنفق عليها بإذن الحاكم، كان ما ينفقه ديناً
على المالك؛ لأن للقاضي ولاية في مال الغائب رعاية لمصالحه، فإذا رفع الأمر
إلى القاضي ينظر في الأمر: فإن كان للبهيمة منفعة، وهناك من يستأجرها
أجَرَها وأنفق عليها من أجرتها؛ لأن في إجارتها رعاية لمصلحة المالك، وإن
كانت البهيمة لا منفعة لها بطريق الإجارة وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها،
أمر القاضي الملتقط ببيعها وحفظ ثمنها.
وإن رأى الأصلح ألا يبيعها، بل ينفق عليها، أذن له في النفقة وجعل النفقة
ديناً على مالكها، فإذا حضر المالك فللملتقط أن يحبس اللقطة عنده حتى يحضر
النفقة، وإن أبى أن يؤدي النفقة باعها القاضي، ودفع للملتقط قدر النفقات
التي أنفقها (1).
5 - شرط رد اللقطة إلى صاحبها: يشترط
لرد اللقطة إلى صاحبها أن يذكر علامة يميزها عن غيرها، أو يثبت أنها له
بالبينة، أي بشهادة شاهدين، فإذا أثبت كونها له أو ذكر علامة تميزها، كأن
يصف عفاصها (وعاءها) ووكاءها (ما تربط به من الخيول وغيرها) ووزنها وعددها،
فيحل حينئذ للملتقط أن يدفعها إليه، وإن شاء أخذ منه كفيلاً؛ لأن ردها إليه
بالعلامة مما قد ورد به الشرع. وهذا باتفاق العلماء، لكن هل يجبر الملتقط
قضاء على رد اللقطة بمجرد وصف العلامة المميزة لها، أو لابد من البينة؟
خلاف بين العلماء (2).
_________
(1) بداية المجتهد: 304/ 2، مغني المحتاج: 410/ 2، البدائع: 203/ 6، فتح
القدير: 428/ 4 وما بعدها، تبيين الحقائق: 305/ 3، المهذب: 432/ 1،
المبسوط: 9/ 11، المغني: 633/ 5 وما بعدها.
(2) فتح القدير: 431/ 4، المبسوط: 8/ 11، البدائع: 202/ 6، تبيين الحقائق:
306/ 3، الدر المختار: 353/ 3، بداية المجتهد: 302/ 2، مغني المحتاج: 416/
2، المهذب: 431/ 1، المغني: 644/ 5 وما بعدها.
(6/4868)
قال الحنفية، والشافعية على المذهب عندهم:
لا يجبر الملتقط على تسليم اللقطة إلى من يدعيها بلا بينة، لأنه مدع،
فيحتاج إلى بينة كغيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم
لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من
أنكر» (1). ولأن اللقطة مال للغير، فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة، لكن
يحل للملتقط دفع اللقطة لمن يدعيها عند إصابة العلامة عند الحنفية، أو إذا
غلب على ظن الملتقط صدق المدعي عند الشافعية، عملاً بقول الرسول صلّى الله
عليه وسلم: «فإن جاء صاحبها، وعرَّف عفاصها، ووكاءها، وعددها فأعطها إياه،
وإلا فهي لك».
وقال المالكية والحنابلة: يجبر الملتقط على تسليم اللقطة لصاحبها إذا وصفها
بصفاتها المذكورة، سواء غلب على ظنه صدقه أم لم يغلب، ولا يحتاج إلى بينة،
عملاً بظاهر قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإن جاء أحد يخبرك بعددها،
ووعائها، ووكائها، فادفعها إليه».
وفي حديث زيد السابق: «اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة فإن لم تعرف،
فاستنفقها، وإن جاء طالبها يوماً من الدهر، فأدِّها إليه» يعني إذا ذكر
صفاتها؛ لأن هذا هو المذكور في صدر الحديث، ولم يذكر البينة في شيء من
الحديث، ولو كانت شرطاً للدفع لم يجز الإخلال به، ولا أمر بالدفع بدونه،
ولأن إقامة البينة على اللقطة متعذر؛ لأنها ضاعت حال الغفلة والسهو. وقول
النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي» يعني إذا كان هناك منكر،
ولا منكر ههنا. وهذا هو الرأي الأرجح حقاً.
_________
(1) حديث حسن رواه البيهقي وأحمد هكذا، وهو في الصحيحين بلفظ آخر من حديث
ابن عباس (نصب الراية: 95/ 4، نيل الأوطار: 305/ 8، سبل السلام: 132/ 4،
الإلمام: ص 521، شرح مسلم: 2/ 12).
(6/4869)
6 - حكم تملك اللقطة:
اختلف فقهاؤنا في حكم اللقطة بعد تعريفها سنة على رأيين: رأي يجيز تملكها
للفقير دون الغني، ورأي يجيز تملكها مطلقاً.
قال الحنفية (1): إذا كان الملتقط غنياً لم يجز له أن ينتفع باللقطة، وإنما
يتصدق بها على الفقراء، سواء أكانوا أجانب أم أقارب، ولو أبوين أو زوجة أو
ولداً، لأنه مال الغير، فلا يجوز الانتفاع به بدون رضاه، لإطلاق النصوص من
قرآن وسنة، مثل قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}
[البقرة:188/ 2]، وقوله: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}
[البقرة:190/ 2] وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا
بطيب نفس منه».
ولقوله صلّى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: «لا تحل اللقطة، فمن التقط
شيئاً فليعرِّف سنة، فإن جاء صاحبها، فليردها عليه، وإن لم يأت فليتصدق»
(2).
وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي: «من وجد لقطة فليشهد عليها ذا عدل أو ذوي
عدل، ولا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها إليه، وإلا فهي مال الله
يؤتيه من يشاء».
وأما إذا كان الملتقط فقيراً فيجوز له الانتفاع باللقطة بطريق التصدق،
لقوله عليه الصلاة والسلام: «فليتصدق بها».
فإن عرف صاحبها بعد التصدق بها أو الانتفاع بها، فهو بالخيار: إن شاء
_________
(1) المبسوط: 4/ 11 وما بعدها، فتح القدير: 432/ 4 ومابعدها، تبيين
الحقائق: 307/ 3، البدائع: 202/ 6، الدر المختار: 351/ 3.
(2) أخرجه البزار والدارقطني عن أبي هريرة (نصب الراية: 466/ 3) ورواه
الطبراني من حديث يعلى بن مرة مرفوعاً، وفيه ضعيف، بلفظ: «فإن جاء صاحبها،
وإلا فليتصدق بها» (نيل الأوطار: 337/ 5).
(6/4870)
أمضى الصدقة، وله ثوابها، وإن شاء ضمن
الملتقط، وإن شاء أخذها من الفقير المتصدق عليه بها إن وجده، وأيهما ضمن لم
يرجع على صاحبه.
وقال جمهور الفقهاء: يجوز للملتقط أن يتملك اللقطة، وتكون كسائر أمواله
سواء أكان غنياً أم فقيراً؛ لأنه مروي عن جماعة من الصحابة كعمر وابن مسعود
وعائشة وابن عمر، وهو ثابت بقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد:
«فإن لم تعْرَف فاستنفقها» وفي لفظ «فشأنك بها» وفي حديث أبي بن كعب:
«فاستنفقها»، وفي لفظ «فاستمتع بها» وهو حديث صحيح.
وحديث الحنفية عن أبي هريرة لم يثبت، ولا نقل في كتاب يوثق به، ودعواهم في
حديث عياض أن ما يضاف إلى الله لا يتملكه إلا من يستحق الصدقة، لا برهان
لها ولا دليل عليها، وبطلانها ظاهر، فإن الأشياء كلها تضاف إلى الله تعالى
خلقاً وملكاً، قال الله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/
24].
أما طريق التملك عند الجمهور فمختلف فيه: قال الحنابلة: تدخل اللقطة في ملك
الملتقط عند تمام التعريف حكماً كالميراث، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«فإذا جاء صاحبها، وإلا فهي كسبيل مالك» ولقوله: «فاستنفقها» ولو توقف
ملكها على تملكها لبين الرسول صلّى الله عليه وسلم له المطلوب.
وقال المالكية: يملكها الملتقط بأن ينوي تملكها، أي تجديد قصد التملك، لعدم
الإيجاب من الغير.
وقال الشافعية: يملكها الملتقط باختياره بلفظ من ناطق يدل عليه مثل: تملكت
ما التقطته؛ لأن تملكها تمليك ببدل، فافتقر إلى اختيار التملك، كما يتملك
الشفيع بالشفعة.
(6/4871)
واتفق العلماء إلا أهل الظاهر على أن
الملتقط إذا أكل اللقطة، ضمنها لصاحبها (1).
لقطة الحل والحرم: ذهب جمهور الفقهاء
إلى أن الأحكام المذكورة في تعريف اللقطة تنطبق على ما إذا كانت اللقطة في
مكة وغيرها من البلدان؛ لأن اللقطة أمانة، فلم يختلف حكمها بالحل والحرم
كالوديعة، ولأن الأحاديث الواردة في اللقطة لم تفرق بين الحل والحرم، مثل
قوله عليه الصلاة والسلام: «اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرِّفها سنة» وغيره.
وأما الحديث الوارد بتخصيص تعريف لقطة مكة، فالمقصود به دفع توهم بعض الناس
أنه لا حاجة لتعريف لقطة مكة، لعدم الفائدة باعتبارها مكان الغرباء (2).
وقال الشافعية على الصحيح المنصوص عندهم: يجب تعريف لقطة الحرم أبداً، إذ
لا تحل لقطة الحرم للتملك، بل للحفظ أبداً، لخبر الصحيحين: «إن هذا البلد
حرمه الله، لا يلتقط لقطته إلا من عرفها».
وفي رواية للبخاري «لا تحل لقطة الحرم إلا لمنشد» قال الشافعي رضي الله
عنه: أي لمعرِّف، ففرق صلّى الله عليه وسلم بينها وبين غيرها، وأخبر أنها
لا تحل إلا للتعريف ولم يؤقت التعريف بسنة كغيرها، فدل على أنه أراد
التعريف على الدوام، وإلا فلا فائدة من التخصيص، والمعنى فيه: أن حرم مكة
شرفه الله تعالى مثابة للناس يعودون إليه، المرة بعد الأخرى، فربما يعود
مالكها من أجلها، أو يبعث في طلبها، فكأنه جعل ماله به محفوظاً عليه، كما
غلظت الدية فيه.
_________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 121/ 4، بداية المجتهد:
301/ 2، مغني المحتاج: 415/ 2، المهذب: 430/ 1، المغني: 636/ 5 ومابعدها.
(2) فتح القدير: 430/ 4، تبيين الحقائق: 301/ 3، البدائع: 202/ 6، الشرح
الكبير للدردير: 121/ 4، الغني لابن قدامة: 642/ 5.
(6/4872)
|