الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثَّاني: حَدّ القَذف خطة الموضوع:
توضيح حد القذف في المباحث الستة الآتية:

المبحث الأول: مشروعية حد القذف وسبب وجوبه ومقداره.
المبحث الثاني: تعريف القذف لغة، وتفسيره شرعاً.
المبحث الثالث: شرائط وجوب حد القذف.
المبحث الرابع: صفة حد القذف.
المبحث الخامس: إثبات القذف.
المبحث السادس: صلاحيات القاضي في إثبات القذف.

المبحث الأول ـ مشروعية حد القذف وسبب وجوبه ومقداره:
مشروعيته: القذف محرم من الكبائر، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، ما هن؟ قال: الشرك بالله عز وجل، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل

(7/5396)


الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (1).
وحد القذف مشروع بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون} [النور:4/ 24].
سبب وجوبه: يجب الحد بسبب القذف بالزنا؛ لأنه نسبة إلى الزنا، تتضمن إلحاق العار بالمقذوف، فيجب الحد دفعاً للعار عنه، وصيانة لسمعته (2).
مقداره: حد القذف مقدر بثمانين جلدة بنص الآية السابقة، ويضم إليه عقوبة أدبية أخرى هي رد الشهادة والتفسيق، فلا تقبل شهادته بعدئذ إلا إذا تاب في رأي غير الحنفية.

المبحث الثاني ـ تعريف القذف لغة وتفسيره شرعا ً:
القذف لغة: هو الرمي بالحجارة ونحوها، ثم استعمل في الرمي بالمكاره لعلاقة المشابهة بين الحجارة والمكاره في تأثير الرمي بكل منهما؛ لأن في كل منهما أذى، فالقذف إذاية بالقول. ويسمى فرية ـ بكسر الفاء ـ كأنه من الافتراء والكذب (3).
وأما في الاصطلاح الشرعي: فهو نسبة آدمي غيره لزنا، أو قطع نسب
_________
(1) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه (راجع التلخيص الحبير: ص 355، الإلمام لابن دقيق العيد: ص 518، نيل الأوطار: 252/ 7).
(2) البدائع: 40/ 7.
(3) فتح القدير: 190/ 4، حاشية الدسوقي: 324/ 4، مغني المحتاج: 155/ 4، المغني: 215/ 8.

(7/5397)


مسلم. وبعبارة أخرى تُخصص المراد هنا: هو نسبة آدمي مكلف غيره، حراً، عفيفاً، مسلماً، بالغاً عاقلاً أو مطيقاً، للزنا، أو قطع نسب مسلم. وهذا التعريف عند المالكية (1).
وقد فسره الحنفية بقولهم: القذف نوعان:
ـ أن يقذفه بصريح الزنا، وما يجري مجرى الصريح، وهو نفي النسب (2).
فالأول: أن يقذفه بصريح الزنا الخالي عن الشبهة، الذي لو أقام القاذف عليه أربعة من الشهود، أو أقر به المقذوف، لزمه حد الزنا.
والثاني: أن ينفي نسب إنسان من أبيه المعروف، فيقول: (لست بابن فلان) أو (هو ليس بأبيك) فيكون قاذفاً، كأنه قال: (أمك زانية).
وبيانه: إذا قال رجل لآخر: يا زاني، أو زنيت، أو أنت زانٍ، يحد؛ لأنه قذفه بصريح الزنا، وكذلك لو قال له: (يا ابن الزاني) أو (يا ابن الزانية) فهو قاذف لأبيه أو أمه.
أما لو قال له: (لست لأمك) فلا يكون قذفاً، إذ أنه كذب محض؛ لأنه نفي النسب من الأم، ونفي النسب من الأم لا يتصور؛ لأن أمه ولدته حقيقة. وكذا لو قال له: (لست لأبويك) لأنه نفي نسبه عنهما، ولا ينتفي عن الأم؛ لأنها ولدته، فيكون كذباً.
_________
(1) انظر حاشية الدسوقي: 324/ 4 وعرفه ابن جزي في القوانين الفقهية: ص 342 بتعريف أوجز: وهو الرمي بوطء حرام من قبل أو دبر أو نفي من النسب للأب (خلاف النفي من الأم) أو تعريض بذلك.
(2) انظر التفصيل في البدائع: 42/ 7 وما بعدها، المبسوط: 119/ 9 وما بعدها، فتح القدير والعناية: 190/ 4، 202، تبيين الحقائق للزيلعي: 199/ 3 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 185/ 3 وما بعدها.

(7/5398)


هذا بخلاف ما لو قال: (لست لأبيك) فهو قاذف لأمه؛ لأن ذلك ليس بنفي لولادة الأم، بل هو نفي النسب عن الأب، ونفي النسب عن الأب يكون قذفاً للأم. ولو قال: (أنت ابن فلان) لعمه أو لخاله، أو لزوج أمه، في غير حال الغضب، لا يكون قذفاً عند الحنفية؛ لأن العم يسمى أباً، وكذلك الخال، وزوج الأم، قال الله سبحانه: {قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل} [البقرة:133/ 2] وإسماعيل كان عم يعقوب عليه السلام، وقد سماه أباً.
وقال جل وعلا عن يوسف عليه السلام: {ورفع أبويه على العرش} [يوسف:100/ 12] قيل: إنهما أبوه وخالته، وإذا كانت الخالة أماً كان الخال أباً، وقال الله تعالى: {إن ابني من أهلي} [هود:45/ 11] قيل في التفسير: إنه كان ابن امرأته من غيره.
فإن كان ذلك في حال الغضب على سبيل الشتم يكون قذفاً.
ولو قال: (لست بابن فلان) لجده، لم يكن قاذفاً؛ لأنه صادق في كلامه حقيقة؛ لأن الجد لا يسمى أباً حقيقة بل مجازاً.
ولو قال لرجل: (يا زانية) لا يجب الحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، خلافاً لمحمد والشافعي. دليل محمد والشافعي: أن الهاء قد تدخل صلة زائدة في الكلام مثل: {ما أغنى عني ماليهْ، هلك عني سلطانيهْ} [الحاقة:28/ 69 - 29] ومعناه مالي وسلطاني، والهاء زائدة، فيحذف الزائد فيبقى قوله: (يا زاني) وقد تدخل الهاء في الكلام للمبالغة في الصفة مثل: علاَّمة ونسابة ونحوهما، فلا يختل به معنى القذف، كما لو قال لامرأة: «يا زاني» يجب الحد بالاتفاق.

(7/5399)


ودليل الشيخين: أنه قذفه بما لا يتصور، فيلغو، ودليل عدم التصور أنه قذفه بفعل المرأة وهو التمكين؛ لأن الهاء في الزانية هاء التأنيث كالضاربة والقاتلة والسارقة ونحوها، وهو لا يتصور من الرجل، بخلاف ما إذا قال لامرأة: (يا زاني)؛ لأنه أتى بمعنى الاسم، وحذف الهاء في نعت المرأة لا يخل بمعنى القذف، وهاء التأنيث قد تحذف في الجملة كالحائض والطالق والحامل ونحوها.
فيفهم منه حكم ما لو قال لامرأته: (يا زاني) فإنه يحد بالاتفاق بين الحنفية والشافعية. ولو قال: (يا زانئ) بالهمزة وعنى به الصعود، يحد؛ لأن العامة لا تفرق بين المهموز والملين، وبعض العرب يهمز الملين، فيبقى مجرد النية، فلا يعتبر.
ولو قال: (زنأت في الجبل) وعنى به الصعود، فلا يصدق، ويحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: يصدق ولا يحد.
دليل محمد: أن الزنا الذي هو فاحشة ملين، والزنأ الذي هو صعود مهموز. فإذا قال: عنيت به الصعود، فقد عنى به ماهو موجب اللفظ لغة، فلزم اعتباره.
ودليل الشيخين: أن اسم الزنا يستعمل في الفجور عرفاً وعادة، والعامة لا تفصل بين المهموز والملين، فلا يصدق في الصرف عن المتعارف.
وقال الشافعية (1): إن قال: زنأت في الجبل، فليس بقذف من غير نية؛ لأن الزنأ هو الصعود في الجبل، بدليل قول الشاعر:
وارق إلى الخيرات زنأً في الجبل
_________
(1) المهذب: 273/ 2.

(7/5400)


وإذا قال: (زنأت على الجبل) فيحد بالاتفاق؛ لأنه لا تستعمل كلمة (على) في الصعود، فلا يقال: صعد على الجبل، وإنما يقال: صعد في الجبل.
ولو قال: (يا ابن القحبة) لم يكن قاذفاً؛ لأن هذا الاسم كما يطلق على الزانية، يستعمل في المهيأة المستعدة للزنا وإن لم تزن، فلا يجعل قذفاً مع الاحتمال.
وكذلك لو قال: (يا ابن الدعية) لا يحد؛ لأن الدعية هي المرأة المنسوبة إلى قبيلة لا نسب لها منهم، فلا يدل على كونها زانية، لجواز ثبوت نسبها من غيرهم.
ولكن إذا تغير العرف، وأصبح استعمال اللفظين الأخيرين مقصوداً به القذف في عرف الناس وعاداتهم، وجب الحد.
هذا كله في القذف بصريح الزنا، أو بما جرى مجرى الصريح، وفيما ليس قذفاً بالزنا، فما حكم القذف بطريق الكناية والتعريض؟ وجوابه فيما يأتي:

هل التعريض بالقذف يوجب الحد؟
اتفق الفقهاء على أن القذف إذا كان بلفظ صريح بالزنا، وجب الحد. واختلفوا إذا كان بتعريض مثل: أن يقول لمن يخاصمه: (ما أنت بزان)، (ما يعرفك الناس بالزنا)، (يا حلال ابن الحلال). أو يقول: (ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، ولا أبي بزان).
فقال الحنفية: إن التعريض لا يوجب الحد، وإن نوى به القذف؛ لأن التعريض أمر خفيف في الأذى عادة، وهو بمنزلة الكناية المحتملة للقذف ونحوه، ولا يحد الشخص بالاحتمال، لقوله عليه الصلاة وسلام: (ادرؤوا الحدود بالشبهات).

(7/5401)


كذلك لا يحد بالألفاظ المشتركة بين الزنا وغيره، أو بما يدل صراحة على وطء غير الزنا.
مثال الأول: أن يقول لامرأة: (وطئك فلان وطأً حراماً) أو (فجر بك فلان) أو يقول لرجل: (وطئت فلانة حراماً) أو (جامعتها حراماً) فلا يحد، إذ قد يكون الوطء حراماً ولا يكون زنا، فكان قذفه محتملاً، ولا يجب الحد مع الاحتمال.
ومثال الثاني: أن يقول لرجل: (يا لوطي) أو (تعمل عمل قوم لوط) فلا يحد؛ لأنه في الأول نسبه إلى قوم لوط فقط، وفي الثاني قذفه باللواط، وهو ليس زنا عند أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه، كما سبق بيانه بالتفصيل (1).
وقال المالكية: التعريض بالقذف يوجب الحد إن أفهم تعريضه القذف بالزنا بالقرائن، كالخصام، كأن يقول: (أما أنا فلست بزان) أو (أنا معروف) لأنه ثقيل على غالب الناس، والكناية قد تقوم في العادة والاستعمال مقام الصريح، وإن كان اللفظ فيها مستعملاً في غير موضعه أي مقولاً بالاستعارة، وهذا معنى قول الأدباء: الكناية أبلغ من الصريح. وقد وقعت هذه القضية في زمان عمر، فشاور فيها الصحابة، فاختلفوا فيها عليه، فرأى عمر فيها الحد، فجلد القاذف (2).
وقال الشافعية: التعريض إن نوى به القذف، وفسره به وجب الحد، فهو بمنزلة الكناية، والكناية توجب الحد؛ لأن ما لا تعتبر فيه الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلاق والعتاق. وإن لم ينو به القذف لم يجب الحد، سواء أكان التعريض في حال الخصومة أم غيرها؛ لأنه يحتمل القذف وغيره،
_________
(1) انظر المبسوط: 120/ 9، فتح القدير: 191/ 4، البدائع: 42/ 7 - 44، تبيين الحقائق: 200/ 3.
(2) بداية المجتهد: 432/ 2، حاشية الدسوقي: 327/ 4، المنتقى على الموطأ: 150/ 7، القوانين الفقهية: ص 357.

(7/5402)


والحدود تدرأ بالشبهات (1). ومن الكناية عندهم أن يقول: يا فاجر، يا خبيث، ياحلال ابن الحلال، فإن نوى به القذف، وجب به الحد، وإن لم ينو به القذف، لم يجب به الحد، سواء أكان القول في حال الخصومة أم في غيرها؛ لأنه يحتمل القذف وغيره.
وقال الحنابلة: اختلفت الرواية عن أحمد في التعريض بالقذف: في رواية لا حد عليه، وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر. وفي رواية: عليه الحد بدليل فعل عمر السابق ذكره (2).

القذف باللواط: قال الشافعية (3): إن قال شخص لغيره: لطت أو لاط بك فلان باختيارك، فهو قذف؛ لأنه قذفه بوطء يوجب الحد، فأشبه القذف بالزنا، وإن قال: يا لوطي، وأراد أنه على دين قوم لوط لا يحد؛ لأنه يحتمل ذلك. وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد. والقذف باللواط موجب للحد عند الجمهور غير الحنفية.
قذف الجماعة: قال الحنفية والمالكية: إذا قذف الشخص جماعة يحد حداً واحداً، كأن يقول: «كلكم زان» أو يقول لكل واحد منهم في مجلس، أو متفرقين: «يا زاني» أو «فلان زان، وفلان زان». ودليلهم أن هلال بن أمية قذف أمرأته بشريك بن سحماء، فرفع الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلاعن بينهما، ولم يحد هلالاً لقذفه شريك بن سحماء (4)؛ لأن القذف جناية توجب
_________
(1) المهذب: 273/ 2.
(2) المغني: 222/ 8.
(3) المهذب: 273/ 2.
(4) أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات من حديث أنس بن مالك، قال: «أول لعان كان في الإسلام أن شريك ابن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: البينة وإلا فحد في ظهرك، فقال: يا رسول الله، إن الله يعلم أني لصادق ولينزلن الله عليك ما يبرئ ظهري من الحد، فأنزل الله عز وجل آية اللعان، ولاعن النبي صلّى الله عليه وسلم وفرق بينهما» والحديث أخرجه البخاري عن ابن عباس (راجع نصب الراية: 306/ 3، سبل السلام: 16/ 4).

(7/5403)


حداً، فإذا تكرر كفى حد واحد، كما لو سرق من جماعة، أو زنى بنساء (1).
وقال الشافعي، وزفر من الحنفية: إذا قذف شخص جماعة، فيجب لكل واحد منهم حد، سواء أكان القذف لكل واحد على انفراد أم بكلمة واحدة؛ لأنه ألحق العار بقذف كل واحد منهم، فلزمه لكل واحد منهم حد، كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف (2).

وقال الحنابلة: إن قذف الجماعة بكلمة واحد، فيحد حداً واحداً، إذا طالبوا جميعاً، أو طالب واحد منهم؛ لأن مطلق الآية: {والذين يرمون المحصنات} [النور:4/ 24] لم يفرق فيها بين قذف واحد أو جماعة، ولأنه قذف واحد، فلم يجب إلا حد واحد. فإن قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد؛ لأن القذف حق للآدمي، وحقوق الآدميين لا تتداخل كالديون والقصاص (3)، أي لا يجزئ بعضها عن بعض.

تكرار القذف: قال الشافعية (4): إن كرر القاذف القذف بنفس الزنا السابق الذي حد عليه، يعزر للأذى، ولم يحد؛ كما فعل عمر مع أبي بكرة الذي كرر قذف المغيرة. وإن قذفه بزنا آخر قبل أن يقام عليه الحد، يلزمه في الصحيح حد واحد؛ لأنهما حدان من جنس واحد، لمستحق واحد، فتداخلا كما لو زنى، ثم زنى.
_________
(1) المبسوط: 111/ 9، البدائع: 42/ 7، 56، حاشية الدسوقي: 327/ 4، القوانين الفقهية: ص358، بداية المجتهد: 433/ 2، الشرح الكبير: 327/ 4.
(2) المهذب: 275/ 2، الميزان: 160/ 2.
(3) المغني: 233/ 8 وما بعدها.
(4) المهذب: 275/ 2.

(7/5404)


وقال المالكية (1): من قذف شخصاً واحداً مراراً كثيرة، فعليه حد واحد إذا لم يحد لواحد منها، اتفاقاً، فإن قذفه فحد، ثم قذفه مرة أخرى، حد مرة أخرى اتفاقاً.
وأيد الحنابلة (2) ذلك فقالوا: إن اجتمعت حدود الله في جنس، بأن زنى أو سرق أو شرب مراراً، تداخلت، فلا يحد سوى مرة، فإن كانت من أجناس وفيها قتل، استوفي وحده، وإلا وجب أن يبدأ بالأخف فالأخف.

المبحث الثالث ـ شرائط وجوب حد القذف:
اشترط الحنفية لوجوب حد القذف ستة أنواع من الشرائط، يتعلق بعضها بالقاذف، وبعضها بالمقذوف، وبعضها بهما جميعاً، وبعضها بالمقذوف به، وبعضها بالمقذوف فيه، وبعضها بنفس القذف.

أولاً ـ شروط القاذف: يشترط في القاذف ستة شروط متفق عليها:
1 - العقل: فلا عبرة بكلام المجنون.
2 - البلوغ: فلا يحد القاذف إذا كان صبياً كالمجنون، والسبب في عدم العقاب أن الحد عقوبة، فتستدعي كون القذف جناية، وفعل الصبي والمجنون، لايوصف بكونه جناية. ولافرق بين كون القاذف مسلماً أو كافراً التزم حقوق المسلمين من مرتد أو ذمي أو معاهد. واشترط الشافعية كون القاذف مختاراً غير مكره.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 357 وما بعدها، الشرح الكبير: 327/ 4.
(2) غاية المنتهى: 315/ 3.

(7/5405)


3 - عدم إثباته ما قذف به بأربعة شهود، فإن أتى بهم وشهدوا على المقذوف بالزنا، لم يحد حد القذف، لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4/ 24] (1) واشترط أبو حنيفة أن يأتي الشهود جماعة؛ لأن الشاهد الواحد إذا شهد بانفراده صار قاذفاً، فوجب عليه الحد، وخرج عن كونه شاهداً، فلا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع. ولم يشترط الجمهور هذا الشرط، إذ الآية مطلقة، بل تفريقهم أولى؛ لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ. وأجاز الحنفية كون الزوج أحد الشهود الأربعة. وقال الجمهور: يلاعن الزوج، ويحد الشهود الثلاثة؛ لأن الشهادة بالزنى قذف.
4 - أن يكون القاذف ملتزماً بأحكام الشريعة، لا الحربي، وعالماً بالتحريم.
5 - الاختيار أو الطواعية، فلا يحد المكره بالقذف.
6 - ألا يأذن المقذوف للقاذف بالقذف بالزنا، فإن أذن له بالقذف لم يحد للشبهة.

ثانياً ـ شروط المقذوف: يشترط في المقذوف بالاتفاق شرطان (2):
1 - أن يكون المقذوف محصناً: رجلاً كان أو امرأة. وشرائط إحصان
_________
(1) البدائع: 40/ 7.
(2) انظر البدائع، المرجع السابق، فتح القدير: 191/ 4، المبسوط: 116/ 9، تبيين الحقائق للزيلعي: 200/ 3، حاشية ابن عابدين: 184/ 3، المهذب: 272/ 2، 276، الدرديرمع الدسوقي: 325/ 4 وما بعدها، المغني: 215/ 8، 227 وما بعدها.

(7/5406)


القذف خمسة: العقل، والبلوغ، والحرية، والإسلام، والعفة عن الزنا. وبناء عليه لا يجب الحد بقذف الصبي والمجنون والرقيق والكافر، ومن لاعفة له من الزنا.
أما اشتراط العقل والبلوغ: فلأن الزنا لا يتصور من الصبي والمجنون، فكان قذفهما بالزنا كذباً محضاً، فيوجب التعزير، لا الحد.
وأما الحرية: فلأن الله سبحانه وتعالى شرط الإحصان في آية القذف، وهي قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} [النور:4/ 24] والمراد من المحصنات هنا: الحرائر لا العفائف عن الزنا. فلو أريد من المحصنات: العفائف، لكان تكراراً مع ما بعده من الأوصاف الآتية.
وأما الإسلام والعفة عن الزنا، فلقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} [النور:23/ 24] والغافلات: العفائف عن الزنا.
وتفسير العفة عن الزنا: هو ألا يكون المقذوف قد وطئ في عمره وطأً حراماً، في غير ملك، ولا نكاح أصلاً، ولا في نكاح فاسد فساداً مجمعاً عليه في عهد السلف، مثل وطء المرأة بشبهة: بأن زفت إليه غير امرأته فوطئها.
ومن لا يجب عليه الحد، لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض بالقذف، على الخلاف السابق فيه، عزر؛ لأنه آذى من لا يجوز إيذاؤه.
2 - أن يكون المقذوف معلوماً: فإن كان مجهولاً لا يجب الحد، كما إذا قذف جماعة على النحو الذي سبق بيانه، أو قال لجماعة: (ليس فيكم زان إلا واحد) أو قال لرجلين: (أحدكما زان) فإنه في هذه الصور الثلاث لا يجب الحد لكل واحد من الجماعة؛ لأن المقذوف مجهول.

(7/5407)


والمذهب لدى الشافعية (1): أنه إذا قذف الوالد ولده، أو قذف الجد ولد ولده، لم يجب عليه الحد؛ لأن الحد عقوبة تجب لحق الآدمي، فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص. وإن قذف زوجته، فماتت، وله منها ولد، سقط الحد؛ لأن المطالبة حق للولد، ولم يثبت له هذا الحق على والده. وإن كان لها ابن آخر من غيره، وجب له الحد، لثبوت حقه فيه.

ثالثاً ـ ما يشترط في القاذف والمقذوف معاً: يشترط بالاتفاق ألا يكون القاذف أباً للمقذوف، ولا جده وإن علا، ولا أمه ولا جدته وإن علت. فإن كان كذلك، فلا حد عليه، للأوامر التي تطالب بالإحسان إلى هؤلاء، وفي إقامة الحد ترك للتعظيم والاحترام الواجب شرعاً (2).
رابعاً ـ مايشترط في المقذوف به: يشترط أن يكون القذف بصريح الزنا، أو بما يجري مجرى الصريح. وقد سبق تفصيله في مطلب تفسير القذف شرعاً.
خامساً ـ شرط المقذوف فيه أي المكان: يشترط أن يكون القذف حاصلاً في دار العدل، فإن حصل في دار الحرب أو في دار البغي، فلا يجب الحد؛ لأن الإمام هو الذي يقيم الحد، ولا ولاية له على دار الحرب، ولا على دار البغي (3) في رأي الجمهور، وقال الشافعية: يستحق الباغي الحد.
_________
(1) المهذب: 272/ 2.
(2) البدائع: 42/ 7، المهذب: 272/ 2، الدردير مع الدسوقي: 327/ 4، 331، المغني: 219/ 6.
(3) البدائع: 45/ 7.

(7/5408)


سادساً ـ ما يشترط في القذف نفسه: يشترط أن يكون القذف مطلقاً عن الشرط والإضافة إلى وقت في المستقبل. فإن كان معلقاً بشرط أو مضافاً إلى وقت، لا يجب الحد؛ لأن ذكر الشرط أو الوقت يمنع وقوعه قذفاً للحال، وعند وجود الشرط أو الوقت يجعل كأنه نجز القذف، فكان قاذفاً تقديراً مع انعدام القذف حقيقة، فلا يجب الحد. فإذا قال رجل لآخر: (إن دخلت هذه الدار فأنت زان) فدخل، فلا حد عليه. وكذلك إذا قال لغيره: (أنت زان غداً) أو (أنت زان رأس شهر كذا) فجاء الغد والشهر، لا حد عليه (1).
والخلاصة: قال القرطبي: للقذف عند العلماء شروط تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ؛ لأنهما أصلا التكليف؛ إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في المقذوف به: وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنا واللواطة، أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة في المقذوف: وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها، كان عفيفاً من غيرها، أم لا.

المبحث الرابع ـ صفة حد القذف:
اختلف الفقهاء في تكييف حد القذف، هل هو حق لله تعالى أو حق للعباد (2).
_________
(1) البدائع: المرجع السابق.
(2) المراد بحق العبد: هو أنه لو أسقطه لسقط كالديون والأثمان. والمراد بحق الله: هو أنه ليس للعبد إسقاطه (الفروق: 141/ 1).

(7/5409)


قال الحنفية: إن حد القذف فيه حقان: حق للعبد، وحق لله تعالى، إلا أن حق الله تعالى فيه غالب؛ لأن القذف جريمة تمس الأعراض، وفي إقامة الحد على القاذف تتحقق مصلحة عامة: وهي صيانة مصالح العباد، وصيانة الأعراض، ودفع الفساد عن الناس (1).
وقال الشافعية والحنابلة: إن حد القذف حق خالص للآدمي المقذوف؛ لأن القذف جناية على عرض المقذوف، وعرضه حقه، فكان البدل (وهو العقاب) حقه، كالقصاص (2).
ويترتب على هذا الخلاف: أنه بناء على القول الأول، وهو مذهب الحنفية: لا يصح للمقذوف إسقاط الحد ولا الإبراء منه والعفو عنه، ولا الصلح والاعتياض عنه (أي بعد أن يرفع الأمر إلى الحاكم، أما قبل ذلك فيسقط بالعفو) ولا يجري فيه الإرث، ولكن يسقط بموت المقذوف؛ لأن الإرث إنما يجري في المتروك من ملك أو حق للمورث، لقوله عليه السلام: «من ترك مالاً أو حقاً فهو لورثته» (3) وحد القذف ليس حقاً للمورث عندهم، وإنما هو حق لله تعالى في غالبه، فلا يرثه
_________
(1) فتح القدير: 194/ 4، البدائع: 56/ 7، حاشية ابن عابدين: 189/ 4، المبسوط: 113/ 9.
(2) المهذب: 274/ 2 وما بعدها، الميزان: 160/ 2 وما بعدها، المغني: 217/ 8، 219، 230، 233، 236.
(3) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته: «من خلّف مالاً أو حقاً فلورثته، ومن خلف كلاً أو ديناً، فكله إلي، ودينه علي» وفي لفظ: «من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاًّ فإلينا» وعن سلمان عند الطبراني بنحو حديث أبي هريرة وزاد: «وعلى الولاة من بعدي من بيت مال المسلمين» وفي إسناده عبد الله بن سعيد الأنصاري متروك، وعن أبي أمامة عند ابن حبان في ثقاته. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من ترك كلاً فإلي، ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل منه، وأرثه، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه». (راجع نصب الراية: 58/ 4، التلخيص الحبير: ص 251، نيل الأوطار: 238/ 5).

(7/5410)


ورثته، ويجري فيه التداخل كما في قذف الجماعة، فيجب حد واحد إذا تكرر القذف كما سبق بيانه.
وإذا طلب المقذوف من القاضي أن يستحلف القاذف، فلا يحلفه كما في حد الزنا. ومثل حد القذف: حد الزنا والشرب والسكر والسرقة.
وبناء على القول الثاني، وهو مذهب الشافعية والحنابلة: يصح للمقذوف ولو بعد رفع الأمر للحاكم إسقاط الحد والإبراء منه، والعفو عنه، والصلح، والاعتياض عنه، ويورث حق المطالبة بحد القذف؛ لأنه من حقوق العباد. أما حديث صفوان الآتي فهو في حد السرقة الذي هو حق لله تعالى. ودليلهم ما رواه ابن السني أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان يقول: تصدقت بعرضي» أي بنفسي، والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له.
وأما التداخل: فلا يجري فيه عندهم، حتى لو قذف جماعةً، كل واحد منهم على انفراد، وجب لكل واحد منهم حد كما سبق بيانه وتفصيله.
وإذا ادعى شخص على رجل أنه قذفه فيستحلف؛ لأنه حق لآدمي كالدين.
وأما مذهب المالكية فمختلف فيه؛ لأن قول مالك اختلف: فمرة قال بقول الشافعي: وهو أن حد القذف حق للآدمي، فيجوز فيه العفو وهو الأظهر عند ابن رشد، ومرة قال: فيه حقان: حق لله وحق للعبد، إلا أنه يغلب فيه حق الإمام إذا وصل إليه أمر الحد، فإذا رفع أمر الحد إلى الإمام لا يملك المقذوف العفو عن الحد، إلا إذا أراد المقذوف الستر على نفسه، تغليباً لحق ولي الأمر إذا وصل إليه الحد، قياساً على الأثر الوارد في السرقة (1)، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال
_________
(1) انظر بداية المجتهد: 433/ 2 وما بعدها، المنتقى على الموطأ: 148/ 7، حاشية الدسوقي: 331/ 4، الفروق للقرافي: 141/ 1، القوانين الفقهية: ص 358، تهذيب الفروق: 157/ 1، الفروق: 141/ 1، 175/ 4.

(7/5411)


في حادثة سارق رداء صفوان: «فهلا ـ أي عفوت عنه ـ قبل أن تأتيني به» فلم يعمل
الرسول بقول صفوان: «إني لم أرد هذا ـ أي قطع يده ـ هوـ أي الرداء ـ عليه صدقة» (1).
والرأي الأول هو المشهور عن مالك والراجح في مذهبه، فيجوز عنده للمقذوف العفو عن قاذفه قبل بلوغ الإمام أو نائبه، أو بعد بلوغه إليه إن أراد المقذوف ستراً على نفسه، كأن يخشى أنه إن ظهر أمره قامت عليه بينة بما رماه به. أما إن لم يرد المقذوف الستر، فلا يجوز له العفو عن القاذف بعد بلوغ الإمام أو نائبه، لصيرورته حقاً لله تعالى.

المبحث الخامس ـ إثبات القذف:
تثبت جرائم الحدود كلها عند القاضي بالبينة أو بالإقرار، بشرط توافر شروط معينة، بعضها في وسيلة الإثبات نفسها، أي في البينة أو الإقرار، وبعضها يتوقف عليها النظر في إثبات الحد بالوسائل المذكورة، وهو شرط الخصومة (2)، أي رفع الدعوى.
الخصومة: الخصومة معناها: رفع الدعوى، وهي ليست بشرط في حد الزنا والشرب، ولكنها شرط في ثبوت حد السرقة كما سأبين، وشرط في ثبوت حد
_________
(1) أخرجه الموطأ وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه ابن الجارود والحاكم عن صفوان بن أمية. ورواية الموطأ: أن صفوان بن أمية قيل له: إنه إن لم يهاجر هلك، فقدم صفوان بن أمية المدينة، فنام في المسجد وتوسد رداءه، فجاء سارق، فأخذ رداءه. فأخذ صفوان السارق، فجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تقطع يده، فقال له صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فهلا قبل أن تأتيني به. (راجع تنوير الحوالك شرح موطأ مالك: 49/ 3، جامع الأصول: 342/ 4، مجمع الزوائد: 276/ 6، نصب الراية: 368/ 3، سبل السلام: 26/ 4).
(2) البدائع: 46/ 7، 52.

(7/5412)


القذف بالشهادة والإقرار. أما على أصل الشافعي فلأن حد القذف حق خالص للعبد، فيشترط فيه الدعوى، كما في سائر حقوق العباد، ويسقط إذا عفا عنه، بدليل ما روى ابن السني: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ كان يقول: تصدقت بعرضي» والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له.
وأما عند الحنفية: فحد القذف وإن كان المغلب فيه حق الله عز وجل، ولكن للشخص فيه حق؛ لأنه ينتفع به بصيانة عرضه عن الهتك، فيشترط فيه رفع الدعوى عن جهة حق الشخص؛ لأن حق الشخص الخاص لا يثبت إلا بمطالبته وخصومته (1). وسأتكلم عن الخصومة في موضعين: حكم الخصومة، ومن يملك الخصومة.

حكم الخصومة أو الدعوى: الأفضل للمقذوف أن يترك الخصومة؛ لأن فيها إشاعة الفاحشة، وهو مندوب إلى تركها، وكذا العفو عن الخصومة أفضل لقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237/ 2] ويستحسن للقاضي إذا رفع الأمر إليه أن يرغب المدعي بترك الدعوى (2).
من يملك الخصومة ومن لا يملكها:
المقذوف: إما أن يكون حياً وقت القذف، وإما أن يكون ميتاً. فإن كان حياً فلا خصومة لأحد سواه، ولو كان ولداً أو والداً له، سواء أكان حاضراً أم غائباً؛ لأنه إذا كان حياً وقت القذف، كان هو المقذوف صورة ومعنى بإلحاق العار به، فكان حق الخصومة له.
_________
(1) البدائع: المرجع السابق: ص 52، المهذب: 274/ 2.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 52.

(7/5413)


وتجوز الإنابة في هذه الخصومة وهو التوكيل بالإثبات بالبينة عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: لا تجوز، إذ لا تصح وكالة في حد ولاقصاص عنده. دليله: أنه كما لا يجوز التوكيل في استيفاء حد القذف، فلا يجوز ذلك في إثباته؛ لأن الإثبات وسيلة إلى الاستيفاء.
ودليل الطرفين: أنه يفرق بين الإثبات والاستيفاء، وهو أن امتناع التوكيل في الاستيفاء بسبب الشبهة، وهي منعدمة في التوكيل بالإثبات (1).
وأما إذا كان المقذوف ميتاً: فإن حق الخصومة للوالد وإن علا، وللولد وإن سفل؛ لأن معنى القذف وهو إلحاق العار عائد إلى الأصل والفرع، لوجود الجزئية بالنسبة للفرع والبعضية بالنسبة للأصل، وقذف الإنسان يكون قذفاً لأجزائه، فكان القذف لاحقاً بهم من حيث المعنى، أما الميت فلا يرجع إليه معنى القذف؛ لأنه ليس بمحل لإلحاق العار به (2). فإذا كان المقذوف حياً ثم مات، فليس لأحد من هؤلاء حق الخصومة؛ لأنه حد لا يورث كما عرفنا.
ولا حق في الخصومةأصلاً للإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات؛ لأنه وإن كان يؤلمهم نسبة الزنا إلى قريبهم، ولكنهم لا يلحقهم القذف لا صورة ولا معنى، لعدم انتسابهم إلى المقذوف لا بجزئية ولا بأصل.
وأما أولاد البنات فمختلف فيهم: فعند محمد: لا يملكون الخصومة؛ لأن ولد البنت ينسب إلى أبيه، لا إلى جده، فلم يكن مقذوفاً معنى بقذف جده.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: يملكون الخصومة؛ لأن النسبة الحقيقية بين المقذوف وأولاد بناته ثابتة بوساطة أمهاتهم، فصاروا مقذوفين معنى (3).
_________
(1) البدائع: 21/ 6، فتح القدير: 197/ 4، المبسوط: 113/ 9.
(2) البدائع: المرجع السابق: 55/ 7، حاشية ابن عابدين: 187/ 4، فتح القدير: 195/ 4.
(3) البدائع، المرجع السابق نفسه، المبسوط: 112/ 9.

(7/5414)


ويلاحظ أن حق الخصومة يثبت لأقارب المقذوف هؤلاء على السواء، دون مراعاة الترتيب في القرابة، فالأقرب والأبعد في هذا الحق سواء؛ لأنه ثابت لهم ابتداء، وليس من طريق الإرث عن الميت وانتقاله لهم.
وقال زفر: يراعى الترتيب في القرابة؛ لأن عار الأقرب يزيد على الأبعد (1).
ونص المالكية والشافعية والحنابلة (2): على أن حق القذف يثبت للورثة، فإن كان هناك وارثان، فعفا أحدهما ثبت للآخر جميع الحد، تحقيقاً للردع الذي شرع الحد من أجله. فإن لم يكن وارث، ثبت الحق فيه للمسلمين، ويستوفيه السلطان.

التوكيل في استيفاء الحد:
عرفنا خلاف الحنفية في التوكيل في إثبات الحد، فهل تصح الوكالة في استيفاء الحد؟
اتفق الحنفية على أنه لا تصح الوكالة في استيفاء الحدود والقصاص، فلا بد من وجود المقذوف، ووجود ولي القصاص حين الاستيفاء؛ لأن الاستيفاء عند غيبة الموكل استيفاء مع الشبهة، فقد يجوز فيما لو حضر المقذوف أن يصدِّق القاذف، والحدود لا تستوفى مع الشبهات (3).
وإذا حضر المقذوف يقوم ولي الأمر أو نائبه باستيفاء حد القذف، لتطلبه معرفة معينة. وأما القصاص فيستوفيه ولي الدم، أو من يوكله بسبب عجزه وضعف قلبه بإشراف الحاكم.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق نفسه.
(2) تكملة المجموع: 201/ 8، المهذب: 275/ 2، الشرح الكبير: 331/ 4.
(3) البدائع: 55/ 7.

(7/5415)


وإذا طلب المقذوف إقامة الحد على القاذف، وخاصم بين يدي القاضي، وحكم القاضي بالحد، ثم مات المقذوف، أو مات قبل المطالبة، أو مات بعد ما ضرب بعض الحد، فيبطل الحد ويبطل ما بقي منه، وإن كان سوطاً واحداً. وليس لأحد الحق في متابعة الخصومة أو الاستيفاء، وحينئذ فلا تبطل شهادة القاذف عند الحنفية؛ لأن المغلب في حد القذف هو حق الله تعالى، فلا يورث كما
عرفنا (1).وقال الشافعي وأحمد: يقوم الوارث مقام المقذوف في إثبات الحد واستيفائه؛ لأن حد القذف حق خالص للإنسان عنده، فيورث كل ما ترتب على القذف من حق الخصومة، ومتابعتها، واستيفاء الحد، وما تبقى منه (2).

شرائط البينة لإثبات القذف:
لا يشترط في بينة المقذوف لإثبات القذف سوى الشروط التي تعم الحدود التي سبق ذكرها، وهي الذكورة والأصالة، فلا تقبل شهادة النساء ولا الشهادة على الشهادة ولا كتاب القاضي (3).
ولا يشترط عدم التقادم في حد القذف، فلو تأخر الشهود زمناً طويلاً عن أداء الشهادة، ثم شهدوا على القذف، تقبل شهادتهم، بخلاف بقية الحدود كما عرفنا. والسبب في التفرقة بين حد القذف وغيره: هو أن التأخير فيه لا يدل على الضغينة والتهمة؛ لأنه يشترط رفع الدعوى في القذف، فاحتمل أن يكون التأخر في أداء الشهادة لتأخر المدعي في رفع الدعوى (4).
_________
(1) البدائع، المرجع السابق نفسه، فتح القدير: 197/ 4، المبسوط: 114/ 9.
(2) المهذب: 275/ 2.
(3) المبسوط: 111/ 9.
(4) البدائع: 46/ 7.

(7/5416)


شرائط الإقرار بالقذف:
كذلك لا يشترط في الإقرار بالقذف سوى الشروط العامة في الإقرارات في كل الحدود: وهي البلوغ والنطق، فلا يصح إقرار الصبي في الحدود، ولا إقرار الأخرس، سواء بالكتابة أم بالإشارة، كما ذكر في حد الزنا.
ولا يشترط تعدد الإقرار بالقذف بالاتفاق، ولا عدم التقادم أيضاً (1).

إثبات القذف بعلم القاضي:
اتفق الحنفية على أن حد القذف يثبت بعلم القاضي في زمان القضاء ومكانه. واختلفوا في إثباته في غير زمان القضاء ومكانه (2). فقال متقدموهم: له أن يقضي بعلمه في الواقعة، وقال متأخروهم: لا يجوز له أن يقضي بعلمه مطلقاً في الحوادث المتنازع فيها بسبب غلبة الفساد والسوء في القضاة!.

تحليف القاذف ونكوله:
إذا لم يكن للمدعي بينة على القذف، وطلب من القاضي أن يستحلف القاذف بالله تعالى ما قذفه، فلا يحلف عند الحنفية؛ لأن المقصود من الاستحلاف القضاء بالنكول عند عدم الحلف، والنكول يكون قائماً مقام الإقرار، ولكن الحد لا يقام بما هو قائم مقام غيره (3).
وقال مالك والشافعي: يحلف، وإذا نكل لا ترد اليمين على المدعي في الحدود. وقال أحمد: يحلف ولا ترد اليمين على المدعي، وإنما يقضي القاضي على المدعى عليه بالنكول عن اليمين، بإلزامه بادعاء المدعي (4).
_________
(1) البدائع: 49/ 7 - 50.
(2) البدائع، المرجع نفسه: 54/ 7، المبسوط: 108/ 9.
(3) المبسوط للسرخسي: 105/ 9، البدائع: 52/ 7.
(4) القوانين الفقهية: ص 358.

(7/5417)


ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور: هل حد القذف خالص للإنسان، فيجري فيه الاستحلاف كما في سائر حقوق العباد، أو أن فيه حقين، وحق الله غالب، فلا يحلف، وقد سبق بيانه في صفة حد القذف.

المبحث السادس ـ صلاحيات القاضي في إثبات القذف:
إذا رفعت دعوى القذف إلى القاضي، فإما أن ينكر القاذف، أو يقر. فإن أنكر وطلب المقذوف من القاضي التأجيل لإقامة البينة، وادعى أن له بينة في المصر على قذفه، فإنه يؤجله إلى أن يقوم من مجلسه، ويحبس (1) المدعى عليه القذف في تلك الفترة. فإن أحضر البينة قبل قيام الحاكم من مجلسه، تمَّ المقصود، وإلا خلَّى سبيله.
ولا يجوز عند أبي حنيفة في فترة الانتظار إلى آخر مجلس الحاكم أن يأخذ كفيلاً بنفس المدعى عليه؛ لأن المقصود من الكفالة إقامة الكفيل مقام المكفول عنه في إيفاء الحد، وهذا لا يتحقق في الحدود والقصاص، ولأن الكفالة شرعت للاستيثاق، والحدود مبناها على الدرء والإسقاط، قال عليه الصلاة والسلام: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» (2) فلا يناسبها الاستيثاق بالكفالة، بخلاف الحبس، فإن الحبس للتهمة مشروع.
وقال الصاحبان والشافعية: يأخذ القاضي من المدعى عليه كفيلاً بنفسه إلى ثلاثة أيام، ليأتي بالبينة، ولا يحبسه؛ لأنه لا ضرر على المدعى عليه، فتؤخذ منه
_________
(1) المراد من الحبس: الملازمة، أي يقال للمدعي: لازمه إلى هذا الوقت، لأن الحبس عقوبة، وبمجرد الدعوى لا تقام العقوبة على أحد (المبسوط: 106/ 9).
(2) تقدم تخريجه عن عائشة، وأنه ضعيف الإسناد، والأصح أنه موقوف على جماعة من الصحابة مثل عمر وعلي وابن مسعود وعقبة بن عامر ومعاذ.

(7/5418)


الكفالة كما في الأموال، ولأنه إذا كان الحبس جائزاً في الحدود، فالكفالة أولى؛ لأن معنى الوثيقة في الحبس أبلغ منه في الكفالة، فلما جاز الحبس، فالكفالة أحق بالجواز (1)، وأما مدة الثلاثة الأيام فهي وقت قريب، لقوله عز وجل: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} [هود:64/ 11] ثم قال: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} [هود:65/ 11].
وإن قال المقذوف: (لا بينة لي) أو (بينتي غائبة، أو خارج المصر) فإن القاضي يخلي سبيل القاذف، ولا يحبس بالاتفاق لعدم التهمة (2).

موقف القاضي من القاذف بعد ثبوت القذف:
إن أقام المقذوف البينة على صحة القذف، أو أقر القاذف كما ذكر، فإن القاضي يقول للقاذف: «أقم البينة على صحة قولك».
فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا، أو على إقرار المقذوف بالزنا، بين يدي الإمام أربع مرات، سقط الحد عن القاذف، ويقام حد الزنا على المقذوف؛ لأنه ظهر أن القاذف صادق في مقالته (3).
وإن عجز عن إقامة البينة، يقام عليه حد القذف، لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4/ 24].
فإن طلب التأجيل من القاضي، وقال: (شهودي غيَّب) أو (خارج المصر) لم يؤجله.
_________
(1) المبسوط: 106/ 9، البدائع: 53/ 7، المهذب: 273/ 2.
(2) المرجعان السابقان.
(3) البدائع: 53/ 7.

(7/5419)


وإن قال: (شهودي في المصر) أجله إلى آخر المجلس، ولازمه المقذوف، ويقال له: «ابعث أحداً إلى شهودك فأحضرهم» ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه عند أبي حنيفة؛ لأن في التأجيل إلى آخر المجلس الثاني منعاً من استيفاء الحد بعد ظهوره.
وقال الصاحبان: يؤجل (أي القاذف) يومين أو ثلاثة، ويؤخذ منه كفيل؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقاً في إخباره أن له بينة في المصر، وربما لا يمكنه الإحضار في ذلك الوقت، فيحتاج إلى التأخير إلى المجلس الثاني، وأخذ الكفيل لئلا يفوت حقه.
وروي عن محمد رحمه الله أنه قال: إذا ادعى أن له بينة حاضرة في المصر، ولم يجد أحداً يبعثه إلى الشهود، فإن القاضي يبعث معه من الشُّرَط (1) من يحفظه ولا يتركه حتى يفر، فإن عجز، أقيم عليه الحد. فإن ضرب القاذف بعض الحد، ثم حضر الشهود، وشهدوا على صدق مقالته، قبلت بينته، وبطل الحد الباقي، ولا تبطل شهادته، ويقام حد الزنا على المقذوف.
وإن ضرب القاذف الحد بتمامه، ثم شهد الشهود على صدق مقالته، تقبل شهادتهم. ويظهر أثر القبول في استرداد عدالة القاذف وقبول شهادته؛ لأنه تبين أنه لم يكن محدوداً في القذف حقيقة، حيث ظهر أن المقذوف لم يكن محصناً؛ لأن من شرائط الإحصان: العفة عن الزنا، وقد ظهر زناه بشهادة الشهود، فلم يصر القاذف مردود الشهادة (2).
_________
(1) الشرط: هم الطائفة من خيار أعوان الولاة، وفي أيامنا هم رؤساء الضابطة، والواحد: شرطي.
(2) راجع البدائع: 53/ 7 وما بعدها، تبيين الحقائق للزيلعي: 199/ 3.

(7/5420)


اللعان بعد إثبات القذف: قال الشافعية (1): إن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها وأنكر، فشهد شاهدان أنه قذفها، جاز أن يلاعن؛ لأن إنكاره للقذف لايكذب ما يلاعن عليه من الزنا؛ لأنه يقول: إنما أنكرت القذف، وهو الرمي بالكذب، وما كذبت عليها؛ لأني صادق أنها زنت، فجاز أن يلاعن.
ما يسقط حد القذف: يسقط حد القذف بأحد أمور ثلاثة:
1 - إثبات الزنى على المقذوف بالبينة أو بإقراره به.
2 - عفو المقذوف عن القاذف في رأي الشافعية؛ لأنه عندهم حق من حقوق العباد.
3 - اللعان بين الزوجين، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/ 24].
_________
(1) المهذب: 276/ 2.

(7/5421)