الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّالث: حَدّ السَّرقة
خطة الموضوع:
بيان حد السرقة في المباحث الأربعة الآتية:
المبحث الأول: تعريف السرقة وحكمها وصفة حدها.
المبحث الثاني: شروط السرقة الموجبة للحد.
المبحث الثالث: إثبات السرقة، وإقامة الدعوى بها.
المبحث الرابع: ما يسقط الحد بعد وجوبه.
المبحث الأول ـ تعريف السرقة وحكمها وصفة حدها:
تعريف السرقة: السرقة: هي أخذ مال الغير
من حرز المثل على الخفية والاستتار. ومنه استراق السمع ومسارقة النظر إذا
كان يستخفي بذلك.
ووقت الخفية: هو عند ابتداء وانتهاء أخذ
المسروق إذا كانت السرقة نهاراً، ويمتد النهار إلى وقت العشاء، وعند ابتداء
الأخذ فقط إذا كانت السرقة ليلاً، حتى لو دخل السارق البيت ليلاً خفية، ثم
أخذ المال مجاهرة ولو بعد مقاتلة ممن في يده، قطع استحساناً، إذ لو اعتبروا
الخفية في الليل في نهاية الأخذ أيضاً لامتنع الحد في أكثر السرقات في
الليالي؛ لأن أكثرها يصير مغالبة عند انتهاء الأخذ، لأنه وقت لايلحق فيه
الغوث.
(7/5422)
وهل العبرة في الخفية لزعم السارق أن رب
الدار لم يعلم به أم لزعم أحدهما وإن كان رب الدار؟ فيه خلاف عند الحنفية.
ويظهر الخلاف فيما لو ظن السارق أن رب الدار علم به، مع أنه لم يعلم،
فالخفية هنا في زعم رب الدار، لا في زعم السارق، فعند الزيلعي: لا يقطع؛
لأن شرط السرقة أن تكون خفية على زعم السارق. وفي الخلاصة والمحيط
والذخيرة: يقطع اكتفاء بكونها خفية في زعم أحدهما. أما لو زعم اللص أن
المالك لم يعلم به مع أنه عالم، يقطع، اكتفاء بزعمه الخفية. وكذا لو يعلما
معاً، وأما لو علما
بالأخذ معاً فلا قطع (1).
واتفق العلماء على أنه ليس في الاختطاف أو الخيانة فيما ائتمن عليه أو
الاختلاس أو النهب أو الغصب حد، لقوله
عليه الصلاة والسلام:
«ليس على الخائن ولا المختلس قطع» (2)
وقوله أيضاً: «ليس على المنتهب قطع» (3).
والاختلاس: أن يستغل صاحب المال فيخطفه ويذهب بسرعة جهراً، فهو من يتعمد
الهرب.
والخائن: هو الذي يضمر ما لا يظهره في نفسه. والمراد به: هو الذي يأخذ
المال خفية من مالكه، مع إظهاره له النصيحة والحفظ.
_________
(1) راجع الدر المختار ورد المحتار: 212/ 3، العناية وفتح القدير: 219/ 4،
تبيين الحقائق: 212/ 3.
(2) حديث قوي رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي وابن حبان،
وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي عن جابر بن عبد الله بلفظ: «ليس على خائن،
ولا منتهب، ولامختلس قطع» وفي لفظ: «ليس على المختلس ولا على الخائن قطع»
وفي رواية أبي داود: «ليس على المنتهب قطع، ومن انتهب نهبة مشهورة فليس
منا» ورواه الطبراني في معجمه الوسط عن أنس بن مالك بلفظ: «ليس على منتهب،
ولا مختلس، ولا خائن قطع» (راجع جامع الأصول: 321/ 4، نصب الراية: 363/ 3،
التلخيص الحبير: ص 356، نيل الأوطار: 130/ 7، سبل السلام: 33/ 4).
(3) هذه هي رواية أبي داود عن جابر، كما ذكر في الحديث السابق.
(7/5423)
والمنتهب: هو المغير، مأخوذ من النهبة: وهي
الغارة والسلب، والمراد به: الذي يأخذ المال على جهة الغلبة والقهر (1).
ورأى الحنابلة أن جاحد عارية قيمتها نصاب يقطع، ولا يقطع جاحد وديعة، أي أن
خائن الوديعة لا يقطع عندهم. وقال الجمهور: لا يقطع جاحد المستعار، ولا
جاحد الوديعة.
والفرق بين السارق الذي تقطع يده، والمختلس والمنتهب والغاصب الذين لا تقطع
أيديهم هو ما يأتي (2):
إن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل،
ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر مما قام به، فلو لم يشرع قطعه، لسرق
الناس بعضهم بعضاً، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بسبب السراق، بخلاف
المنتهب والمختلس.
فإن المنتهب: هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا
على يديه، ويخلصوا حق المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم.
وأما المختلس: فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره، فلا يخلو
من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ،
لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه. وأيضاً فالمختلس
إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالباً، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في
حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً، فهو
كالمنتهب.
_________
(1) المبسوط: 133/ 9، البدائع: 65/ 7، فتح القدير: 233/ 4، حاشية ابن
عابدين: 208/ 3، حاشية الدسوقي: 355/ 4، المهذب: 289/ 2، الميزان: 172/ 2،
المغني: 327/ 8، مغني المحتاج: 171/ 4، القوانين الفقهية: ص 360، غاية
المنتهى: 336/ 3.
(2) أعلام الموقعين: 61/ 2 وما بعدها.
(7/5424)
وأما الغاصب، فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى
بعدم القطع من المنتهب. وإذا لم تقطع يد هؤلاء، يكف عدوانهم بالضرب والنكال
والسجن الطويل، والعقوبة بأخذ المال.
حكم السرقة: الأصل في مشروعية حد السرقة
قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5] وقال صلّى
الله عليه وسلم: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا
إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه» (1). وفي رواية:
«أقاموا عليه الحد» وإذا ثبتت السرقة فالواجب فيها القطع من حيث هي جناية،
والغرم إذا لم يجب القطع.
واختلفوا: هل يجمع بين الضمان والقطع؟
لا خلاف بين العلماء في أنه إذا قطع السارق، والعين قائمة، ردت على صاحبها،
لبقائها على ملكه. فإن كانت تالفة اختلفوا في ضمانها، فقال الحنفية: إذا
هلك المسروق، فلا يجتمع على السارق وجوب الغرم (أي الضمان) مع القطع. فإن
اختار المسروق منه الغرم لم يقطع السارق، أي قبل وصول الأمر إلى الحاكم.
وإن اختار القطع، واستوفي منه لم يغرم السارق؛ لأن الشارع سكت عن الغرم،
فلا يجب مع القطع شيء. قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما،
جزاء بما كسبا} [المائدة:38/ 5] فالله سبحانه جعل القطع كل الجزاء، فلو
أوجبنا الضمان، لصار القطع بعض الجزاء، فيكون نسخاً لنص القرآن (2).
_________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن عائشة، ورواه
الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات عن أم سلمة (راجع جامع الأصول: 314/ 4،
مجمع الزوائد: 259/ 6، نيل الأوطار: 131/ 7، 136).
(2) البدائع: 84/ 7، فتح القدير: 261/ 4، المبسوط: 156/ 9، تبيين الحقائق:
231/ 3، مجمع الضمانات: ص 203.
(7/5425)
وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا قطع السارق
فلا غرم عليه» (1).
وقال المالكية: إن كان السارق موسراً عند القطع، وجب عليه القطع والغرم،
تغليظاً عليه، وإن كان معسراً لم يتبع بقيمته، ويجب القطع فقط، ويسقط الغرم
تخفيفاً عنه، بسبب عذره بالفاقة والحاجة (2).
وقال الشافعية والحنابلة: يجتمع قطع وضمان، فيرد ما سرق لمالكه، وإن تلف
فيرد بدله، فإذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله: برد مثله إن كان
مثلياً، وقيمته إن كان قيمياً، سواء أكان موسراً أم معسراً، قطع أم لم
يقطع، فلا يمنع القطع وجوب الضمان، لاختلاف سبب وجوب كل منهما، فالضمان يجب
لحق الآدمي، والقطع يجب لحق الله تعالى، فلا يمنع أحدهما الآخر، كالدية
والكفارة، والجزاء والقيمة في قتل الصيد الحرمي المملوك (3).
ويلاحظ أن منشأ الخلاف بين الحنفية وغيرهم: هو قاعدة تملك المضمون عند
الحنفية، وهي «أن المضمونات تملك بالضمان، ويستند الملك فيها إلى وقت وجوب
الضمان» فلا يجتمع عندهم القطع والضمان؛ لأنه لو ضمن لملك المسروق، واستند
ملكه إلى وقت الأخذ، فيحصل القطع في ملك نفسه، وهو لا يجوز.
وقال الشافعي وغيره: لا تملك المضمونات بالضمان، فيجتمع القطع والضمان
لتعدد السبب، وعدم إسناد الضمان إلى وقت الأخذ (4).
_________
(1) قال الزيلعي عن حديث «لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه»: غريب بهذا
اللفظ ومثله اللفظ الوارد هنا، وبمعناه ما أخرجه النسائي في سننه عن عبد
الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يغرم السارق إذا
أقيم عليه الحد» قال النسائي: هذا مرسل وليس بثابت، وأخرجه البيهقي أيضاً،
وذكر له علة أخرى، وأخرجه الدارقطني في سننه بلفظ: «لا غرم على السارق بعد
قطع يمينه» (راجع جامع الأصول: 327/ 4، نصب الراية: 375/ 3، سبل السلام:
24/ 4).
(2) بداية المجتهد: 442/ 2، حاشية الدسوقي: 346 وما بعدها، القوانين
الفقهية: ص360.
(3) المهذب: 284/ 2، المغني: 270/ 8، غاية المنتهى: 344/ 3.
(4) تخريج الفروع على الأصول للزنجاني: ص 107.
(7/5426)
والراجح الواضح هو قول الشافعية والحنابلة،
لاختلاف سبب كل من الضمان والقطع، ولضعف الحديث الذي استند إليه الحنفية.
حالة تكرار السرقة: اتفق العلماء على أن
السارق تقطع يده اليمنى في السرقة الأولى، فإذا سرق ثانية تقطع رجله
اليسرى. واختلفوا في قطع اليد اليسرى في السرقة الثالثة، والرجل اليمنى في
السرقة الرابعة.
قال الحنفية والحنابلة: لا يقطع السارق أصلاً بعد اليد اليمنى والرجل
اليسرى، ولكنه يضمن المسروق، ويعزر، ويحبس حتى يتوب، بدليل ما روي عن سيدنا
علي رضي الله عنه أنه أتي بسارق، فقطع يده، ثم أتي به ثانية وقد سرق، فقطع
رجله، ثم أتي به ثالثة، فقال: «لا أقطعه، إن قطعت يده فبأي شيء يأكل، بأي
شيء يتمسح، وإن قطعت رجله فبأي شيء يمشي، إني لأستحي من الله» فضربه بخشبة
وحبسه (1). وروي مثل ذلك عن سيدنا عمر رضي الله عنه (2). وهذا استحسان.
وقال المالكية والشافعية: إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق رابعة
قطعت رجله اليمنى، ثم يعزر (3)؛ لأن فعله معصية ليس فيها حد ولا كفارة،
فعزر فيها، والدليل لقطع اليد والرجل الأخرى: ما روى أبو هريرة رضي الله
عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في السارق: إن سرق فاقطعوا
يده، ثم إن سرق
_________
(1) رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن علي بن أبي طالب، ومن طريق محمد
رواه الدارقطني بسنده ومتنه، ورواه عبد الرزاق في مصنفه، واللفظ الوارد هنا
أخرجه البيهقي عن علي (راجع نصب الراية: 374/ 3).
(2) البدائع: 86/ 7، فتح القدير: 248/ 4، المغني: 264/ 8، غاية المنتهى:
343/ 3.
(3) الشرح الكبير: 332/ 4، بداية المجتهد: 443/ 2، مغني المحتاج: 178/ 4،
المهذب: 283/ 2، القوانين الفقهية: ص 360.
(7/5427)
فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم
إن سرق فاقطعوا رجله» (1) وهو فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (2).
وبما أنه لم يثبت حديث صحيح في هذا الأمر، فلا بأس في عصرنا بالأخذ برأي
الحنفية والحنابلة.
والحكمة في قطع اليد والرجل: أن اعتماد السارق في السرقة على البطش والمشي،
فإنه يأخذ بيده وينتقل برجله، فتعلق القطع بهما، وإنما قطع من خلاف، لئلا
يفوت جنس المنفعة عليه فتضعف حركته (3).
الفرق بين اعتبار اليد في السرقة وبين اعتبارها
في الدية:
إن قطع اليد في ربع دينار، وجعل ديتها عند الاعتداء عليها بالبتر أو القطع
خمسمئة دينار (أي نصف دية في الشرع) هو من أعظم المصالح والحكمة البالغة،
فإن الشرع احتاط في الموضعين للأموال والأطراف، فقرر قطعها في سرقة ربع
دينار فصاعداً، حفظاً لأموال الناس، وإهانة لها حال كونها خسيسة، وجعل
ديتها بالعدوان عليها خمسمئة دينار، حفظاً لها وصيانة، وتقديراً لأهميتها
حال كونها شريفة (4). وقد تساءل بعضهم، قيل: إنه أبو العلاء المعري (5)،
فقال:
_________
(1) أخرجه الدارقطني في سننه عن أبي هريرة، وفي إسناده الواقدي، وفيه مقال.
ورواه الشافعي عن بعض أصحابه عن أبي هريرة مرفوعاً. وفي موضوعه عن عصمة بن
مالك رواه الطبراني والدارقطني، وإسناد ضعيف (راجع نصب الراية: 368/ 3،
التلخيص الحبير: ص 357).
(2) أخرج أحمد والترمذي عن حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
«اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر».
(3) مغني المحتاج، المرجع السابق.
(4) أعلام الموقعين: 63/ 2.
(5) يظهر أن التساؤل من بعض الزنادقة، بدليل رد الشافعي الآتي، إذ من
المعلوم أن المعري متأخر عن الشافعي، ويظهر أن الاعتراض تكرر من بعض
الزنادقة، ومن المعري أيضاً في عصرين مختلفين بدليل رد شمس الدين الكردي
على المعري في قوله:
قل للمعري عار أيما عار ..... جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار
لا تقدحن زناد الفكر في حكم ..... شعائر الشرع لم تقدح بأشعار
فقيمة اليد نصف الألف من ذهب ..... فإن تعدت فلا تسوى بدينار
(7/5428)
يد بخمس مئين عسجد وُدِيَت ..... ما باله
قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له ..... ونستجير بمولانا من العار
فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت،
وضمنه الناظم قوله:
يد بخمس مئين عسجد وديت ..... لكنها قطعت في ربع دينار
عز الأمانة أغلاها، وأر خَصَها ..... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري
وروي أن الشافعي رحمه الله أجاب بقوله:
هناك مظلومة غالت بقيمتها ..... وههنا ظلمت، هانت على الباري
مكان القطع: قال جمهور العلماء: مكان
القطع في اليد هو من الكوع أو مفصل الزند (الرسغ)، لما روي أنه عليه السلام
قطع يد السارق من مفصل الزند (1) وقال قوم: الأصابع فقط.
ومكان القطع في الرجل عند الجمهور من مَفْصِل القدم، بدليل ما روى ابن
المنذر عن عمر رضي الله عنه أنه قطع الرجل من المفصل. وروى البيهقي عن علي
_________
(1) فيه أحاديث: منها ما أخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
في قصة سارق رداء صفوان بن أمية وفيه «ثم أمر بقطعه من المفصل» ومنها ما
روى ابن عدي عن عبد الله بن عمرو قال: قطع النبي صلّى الله عليه وسلم
سارقاً من المفصل. ومنها ما روى ابن أبي شيبة عن رجاء بن حيوة أن النبي
صلّى الله عليه وسلم قطع رجلاً من المفصل وهو مرسل (راجع نصب الراية: 37/
3). والكوع: طرف الزند الذي يلي الإبهام في اليد. ويقابله الكرسوع في
القدم، والذي يقابل الخنصر: هو البوع.
(7/5429)
رضي الله عنه أنه يقطع من خنصر القدم (1)
ويبقى له الكعب ليعتمد عليه. وبه قال أبو ثور، والراجح المشهور عملاً هو
كون القطع من مفصل الزند ومن مفصل القدم.
وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو في عنقه ساعة، لما روى فضالة بن عبيد، قال:
«أتي النبي صلّى الله عليه وسلم بسارق، فأمر به فقطعت يده، ثم أمر فعلقت في
رقبته» ولأن في ذلك ردعاً للناس. ويحسم موضع القطع، لما روى أبو هريرة رضي
الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي بسارق، فقال: اذهبوا به
فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به، فأتي به، فقال: تب إلى الله تعالى،
فقال: تبت إلى الله تعالى، فقال: تاب الله عليك. والحسم: هو أن يغلى الزيت
غلياً جيداً، ثم يغمس فيه موضع القطع لتنحسم العروق، وينقطع الدم (2) وعلى
المحدود أجرة قاطع، وثمن زيت حسم.
صفة حد السرقة: حد السرقة بالاتفاق حق
خالص لله تعالى، فلا يحتمل العفو والصلح والإبراء بعد ثبوته، فلو أمر
الحاكم بقطع السارق، فعفا عنه المسروق منه، كان عفوه باطلاً؛ لأن صحة العفو
تعتمد كون العفو عنه حقاً للعافي، والقطع حق خالص لله سبحانه وتعالى. ومن
هنا قرر الحنفية هذه القاعدة: «الصلح عن الحدود باطل» (3).
ويترتب عليه (4): أنه يجري التداخل في حد السرقة، فلو سرق شخص سرقات، فرفع
الأمر فيها كلها أو بعضها إلى الحاكم، فيقام حد واحد هو القطع
_________
(1) المبسوط: 133/ 9، البدائع: 98/ 7، بداية المجتهد: 443/ 2، حاشية
الدسوقي: 332/ 4، مغني المحتاج: 178/ 4، المغني: 259/ 8.
(2) المهذب: 283/ 2، غاية المنتهى: 343/ 3.
(3) الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 147.
(4) البدائع: 55/ 7، 86، المبسوط: 185/ 9، المهذب: 263/ 2، 283.
(7/5430)
لكل السرقات؛ لأن الجرائم التي هي من جنس
واحد يكتفى فيها بحد واحد، كما في الزنا، إذ المقصود من إقامة الحد هو
الزجر والردع، وهو يحصل بإقامة حد واحد.
وإذا ثبت الحد عندالسلطان، لم يجز العفو عنه، ولا تجوز الشفاعة فيه؛ لأن
الحد لله، فلا يجوز فيه العفو والشفاعة، ولما روت عائشة رضي الله عنها
قالت: «أتي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بسارق قد سرق، فأمر به فقطع،
فقيل: يا رسول الله، ما كنا نراك تبلغ به هذا، قال: لو كانت فاطمة بنت
محمد، لأقمت عليها الحد» (1). وقال الزبير: «إذا بلغ ـ أي الحد ـ السلطان
فلعن الله الشافع والمشفع» (2).
المبحث الثاني ـ شروط السرقة الموجبة للحد:
يشترط لإقامة حد السرقة شروط، بعضها في السارق، وبعضها في المسروق، وبعضها
في المسروق منه، وبعضها في المسروق فيه، وهو المكان.
شروط السارق: يشترط في السارق توافر
أهلية وجوب القطع: وهي العقل والبلوغ والاختيار والعلم بالتحريم، فلا يقطع
الصبي والمجنون، لقوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى
يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ». ولأن القطع عقوبة،
فيستدعي جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بأنه جناية. ولا يحد المكرَه
لرفع القلم عنه، ولا يحد من أخذ شيئاً جاهلاً بتحريمه لقرب عهده بالإسلام.
وإذا اشترك الصبي أو المجنون مع جماعة في سرقة، فلا قطع على الجميع عند أبي
حنيفة وزفر رحمهما الله تعالى.
_________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 135/ 7 وما بعدها).
(2) رواه مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن (نيل الأوطار، المرجع
السابق).
(7/5431)
وقال أبو يوسف رحمه الله: العبرة بمباشرة
إخراج المتاع، فإن أخرجه الصبي أو المجنون، درئ الحد عن الجميع، وإن باشر
الإخراج غيرهما قطع، ولا يقطع الصبي أو المجنون؛ لأن الإخراج من الحرز هو
الأصل في السرقة، والإعانة كالتابع.
ودليل أبي حنيفة وزفر: أن السرقة واحدة، وقد حصلت ممن يجب عليه القطع وممن
لا يجب عليه القطع، فلا يجب القطع على أحد، كالعامد مع الخاطئ إذا اشتركا
في جريمة، وإخراج السرقة حصل من الكل من ناحية المعنى (1).
واشتراط البلوغ والعقل في السارق لإقامة الحد متفق عليه، وأضاف الشافعية
والحنابلة شرط كونه مختاراً، التزم أحكام الإسلام، فلا يجب الحد على مكره،
لحديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولا تجب على
الحربي؛ لأنه لم يلتزم حكم الإسلام. وفي وجوب الحد على المستأمن والمهادن
قولان عندهم: أحدهما ـ أنه لا يجب عليه حد السرقة؛ لأنه حق خالص لله تعالى،
فلم يجب عليه كحد الشرب والزنا. والثاني ـ أنه يجب عليه؛ لأنه حد يجب
لصيانة حق الآدمي، فوجب عليه كحد القذف.
وأضاف المالكية ألا يكون للسارق على المسروق منه ولادة، فلا يقطع الأب في
سرقة مال ابنه لقوة الشبهة الآتية من حديث جابر عند ابن ماجه: «أنت ومالك
لأبيك». وزاد الشافعي وأحمد ومالك الجد، فلا يقطع في مال حفيده، وزاد أبو
حنيفة كل ذي رحم محرم، واختلفوا في الزوج والزوجة إذا سرق كل واحد منهما من
مال صاحبه، كما سأوضح. وأضاف المالكية أيضاً ألا يضطر السارق إلى
_________
(1) البدائع: 67/ 7، تبيين الحقائق للزيلعي: 211/ 3، فتح القدير: 220/ 4،
المهذب: 277/ 2، القوانين الفقهية: ص 359.
(7/5432)
السرقة من جوع. وأضاف الحنابلة شرط كون
السارق عالماً بمسروق وبتحريمه اعتباراً بما في ظن المكلف (البالغ العاقل).
أما إذا سرق الولد من مال أحد أبويه فيقطع عند المالكية، ولايقطع عند بقية
المذاهب، لأن الولد يتبسط في مال والديه عادة، فتكون هناك شبهة في إسقاط
الحد.
شروط المسروق: يشترط في المسروق عدة
شروط:
1 - أن يكون المسروق مالاً متقوما (1): والمراد بالمال: ما يتموله الناس
ويعدونه مالاً؛ لأن ذلك يشعر بعزته وخطره عندهم، وما لا يتمولونه فهو تافه
حقير، ولا تقطع اليد في الشيء التافه، كما كان عليه عهد رسول الله صلّى
الله عليه وسلم. والمراد بالمتقوم: ما كان له قيمة يضمنها متلفه عند
اعتدائه عليه.
وبناء على هذا: لو سرق إنسان صبياً حراً، لا تقطع يده، لأن الحر ليس بمال
(2)، وإنما يعزر. ولو سرق شخص خمراً أو خنزيراً أو جلد ميتة لا تقطع يده
أيضاً؛ لأنه لا قيمة للخمر والخنزير في حق المسلم، ولا مالية في جلد
الميتة، وهذا شرط متفق عليه. ولا قطع بسرقة أدوات الملاهي كالعدد والمزمار،
والأصنام والصلبان؛ لأنها غير متقومة فلا يباح استعمالها، وإزالة المعصية
أمر مندوب إليه.
2 - أن يكون المال المسروق مقدرا ً: أي
له نصاب، فلا يقطع السارق في الشيء التافه. واختلف الفقهاء في مقدار
النصاب: فقال الحنفية: نصاب السرقة دينار أو عشرة دراهم، أو قيمة أحدهما
(3)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا قطع فيما دون
_________
(1) البدائع: 67/ 7، المهذب: 280/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 359،
غاية المنتهى: 336/ 3.
(2) فتح القدير: 230/ 4.
(3) المبسوط: 137/ 9، البدائع: 77/ 7، فتح القدير: 220/ 4.
(7/5433)
عشرة دراهم» (1) وقوله أيضاً: «لا تقطع
اليد إلا في دينار، أو في عشرة دراهم» (2). وعنه عليه الصلاة والسلام أنه
قال: «لا يقطع السارق إلا في ثمن المِجَنَّ، وكان يقوَّم يومئذ بعشرة
دراهم» (3).وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: نصا ب السرقة
ربع دينار شرعي من الذهب أو ثلاثة دراهم شرعية خالصة من الفضة (4). أو قيمة
ذلك من العروض والتجارات والحيوان، إلا أن التقويم عند المالكية والحنابلة
في سائر الأشياء المسروقة عدا الذهب والفضة يكون بالدراهم. وعند الشافعية
بالربع دينار. ودليلهم: قوله عليه الصلاة والسلام: «تقطع اليد في ربع دينار
فصاعداً» (5) وأنه
_________
(1) رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» وفيه نصر بن باب، ضعفه الجمهور. وقال
أحمد: لا بأس به. ورواه الطبراني عن ابن مسعود بلفظ: «لا قطع إلا في عشرة
دراهم» (راجع جمع الزوائد: 273/ 6، نصب الراية: 359/ 3).
(2) هذا من الآثار عن ابن مسعود: رواه عبد الرزاق في مصنفه، ومن طريقه رواه
الطبراني في معجمه، وهو موقوف كما قال الهيثمي. وفيه القاسم أبو عبد الرحمن
ضعيف، وقد وثق (راجع مجمع الزوائد، المرجع السابق، نصب الراية: 360/ 3)
«وروى أبو داود في سننه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قطع يد
رجل في مجنّ قيمته دينار أو عشرة دراهم، وهو حديث مرفوع (راجع نصب الراية:
358/ 3).
(3) رواه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو بلفظ: «لا تقطع يد السارق فيما
دون ثمن المجن، قال عبد الله: وكان ثمن المجن عشرة دراهم» «وروى النسائي عن
أيمن بن أم أيمن الحبشية رضي الله عنهما قال: ولم يقطع النبي صلّى الله
عليه وسلم السارق إلا في ثمن المجن، وثمن المجن يومئذ دينار» وفي رواية
«عشرة دراهم» قال النسائي: وأيمن ما أحسب أن لحديثه صحة (راجع جامع الأصول:
113/ 4، نصب الراية: 359/ 3).
(4) من المعروف عند هؤلاء أن الدينار اثنا عشر درهماً. والدرهم 975،2 غم.
وعند الحنفية: الدينار عشرة دراهم. وبما أن المثقال أو الدينار يساوي 1 و
7/ 3 درهم، فيساوي الدينار 45،4 غم.
(5) رواه أحمد والموطأ وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها بألفاظ
متعددة منها لفظ البخاري: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» ومنها لفظ
مسلم: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» (راجع جامع الأصول:
310/ 4، سبل السلام: 18/ 4، نيل الأوطار: 124/ 7، التلخيص الحبير: ص 355).
(7/5434)
عليه الصلاة والسلام: «قطع في مجن قيمته
ثلاثة دراهم» (1) وهي قيمة ربع الدينار (2).
وبه يظهر أن منشأ الخلاف: هو تقدير ثمن المجن الذي قطع السارق به في عهد
الرسول صلّى الله عليه وسلم. فالحنفية يقولون: كان ثمنه ديناراً. والآخرون
يقولون: كان ثمنه ربع دينار. والأحاديث الصحيحة تؤيد وترجح رأي الجمهور.
صفات النصاب:
قال الحنفية: يشترط أن تكون الدراهم جياداً، فلو سرق زيوفاً، أو سرق
غيرالدراهم، لا يقطع ما لم تبلغ قيمة المسروق عشرة دراهم جياد.
وأن تكون الدراهم، وزن سبعة مثاقيل (3)؛ لأن اسم الدرهم عند الإطلاق يقع
على ذلك، ولأن هذا أوسط المقادير بين الدراهم الكبار والصغار التي كانت على
عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم.
وهل ينبغي أن تكون الدراهم مضروبة؟ قال
أبو حنيفة: إذا سرق عشرة دراهم ولو كانت تبراً مما يروج بين الناس في
معاملاتهم تقطع يده؛ لأن المهم هو الرواج في التعامل بين الناس، ودليله:
إطلاق حديث القطع في عشرة دراهم، ورد عليه بأن المطلق يقيد بالعرف والعادة.
_________
(1) أخرجه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله
بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة
دراهم (المراجع السابقة، جامع الأصول: 311/ 4، نصب الراية: 355/ 3).
(2) المنتقى على الموطأ: 156/ 7، بداية المجتهد: 437/ 2، حاشية الدسوقي:
333/ 4، المهذب: 277/ 2، مغني المحتاج: 158/ 4، المغني: 240/ 8، القوانين
الفقهية: ص 359، غاية المنتهى: 337/ 3.
(3) المثقال: درهم وثلاثة أسباع الدرهم، قال في شرح الدميري: إن كل درهم:
ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، والمثقال لم يتغير في جاهلية ولا
في إسلام (راجع سبل السلام: 128/ 2، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 159).
(7/5435)
وقال الصاحبان والكرخي: ينبغي أن تكون
الدراهم مضروبة؛ لأن اسم الدراهم في الحديث يطلق على المضروبة عرفاً، وهو
ظاهر الرواية، وهو الأصح، وهو قول الجمهور. فلو سرق تبراً (أي فضة غير
مضروبة صكاً) أو نُقْره (هي القطعة المذابة من الذهب والفضة أي السبيكة)
قيمتها أقل من عشرة دراهم مضروبة لا يقطع، فإذا ساوت قيمتها عشرة دراهم
مسكوكة فأكثر، يقطع سارقها (1).
وقت اعتبار قيمة المسروق:
قال جمهور الحنفية: يجب أن تكون قيمة المسروق عشرة دراهم، من وقت السرقة،
إلى وقت القطع، فإن نقص المسروق: فإما أن يكون نقصان العين أو نقصان السعر.
فإذا نقصت قيمة المسروق بانتقاص عينه: بأن دخله عيب أو ذهب بعضه، فيقام
الحد؛ لأن نقصان العين هو هلاك بعض المسروق، وهلاك جميع المسروق لا يسقط
الحد، فهلاك بعضه لا يسقطه من باب أولى.
وإن كان نقصان السعر: بأن صار يساوي ثمانية دراهم مثلاً، بعد أن كان يساوي
عشرة، فهناك روايتان:
ظاهر الرواية: أنه لا يقطع؛ لأن نقصان السعر يورث شبهة نقصان في المسروق
وقت السرقة؛ لأن العين بحالها لم تتغير، فيحصل النقصان الطارئ كالموجود عند
السرقة، بخلاف نقصان العين؛ لأنه يوجب تغير العين، بهلاك بعضها، والهلاك
مضمون على السارق، فلا يمكن افتراض وجوده عند السرقة.
وروي عن محمد وهو قول مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى: أنه
_________
(1) فتح القدير: 222/ 4، حاشية ابن عابدين: 211/ 3، البدائع: 78/ 7،
المبسوط: 138/ 9، مغني المحتاج: 158/ 4.
(7/5436)
تعتبر قيمة العين وقت الإخراج من الحرز،
ولا يعتبر نقصان السعر بعد أخذ المسروق، قياساً على نقصان العين (1)، وهذا
في تقديري أولى، لاكتمال الجريمة وقت السرقة.
ويجري هذا الخلاف فيما لو سرق الشخص في بلد، وقبض عليه في بلد آخر: لا يقطع
في ظاهر الرواية، ما لم تكن قيمة المسروق في البلدين عشرة دراهم.
كون النصاب من حرز واحد:
النصاب الموجب لحد القطع يجب أن يكون مأخوذاً من حرز واحد، سواء أكان
المسروق لواحد أم لجماعة؛ لأنها سرقة واحدة. وبناء على هذا، لو سرق خمسة
دراهم من دار لرجل، وخمسة من دار أخرى، لا يجب القطع؛ لأنهما سرقتان
مختلفتان من حرزين مختلفين، فلا محل للقطع فيهما. وكذلك لو سرق عشرة دراهم
على مرتين، لا يقطع؛ لأن المسروق في كل مرة أقل من نصاب (2).
اشتراك جماعة في السرقة:
اتفق العلماء على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة، فحصل لكل واحد منهم نصاب،
فعلى كل واحد منهم القطع.
أما إذا كان المسروق كله نصاباً، واشترك جماعة في سرقته:
فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقطع كل واحد منهم (3)؛ لأن كل واحد منهم
_________
(1) البدائع: 79/ 7، المنتقى على الموطأ: 158/ 7.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 78، حاشية ابن عابدين: 212/ 3.
(3) البدائع، المرجع السابق: ص 78، فتح القدير: 225/ 4، مغني المحتاج: 160/
4، المهذب: 277/ 2.
(7/5437)
لم يسرق نصاباً، فلم تستوجب جنايته عقوبة
كاملة، كما لو انفرد بسرقة مادون النصاب، والرسول صلّى الله عليه وسلم
يقول: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» وهذا دليل الشافعي.
ولكن هذا الحكم يخالف حكم جريمة الاشتراك في القتل؛ لأنه لو لم يجب القصاص
على كل واحد منهم، لكان الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القصاص، بخلاف الأمر في
السرقة، فإنه إذا لم يجب القطع على الشركاء في سرقة نصاب، لم يصر الاشتراك
طريقاً إلى إسقاط القطع، لقلة ما يصيب كل واحد منهم، فإذا سرقوا أكثر من
نصاب بحيث يصيب كل واحد منهم مقدار نصاب، فإنه يجب القطع. ويقدر المسروق في
الحكم عند الحنفية يوم الحكم بالقطع.
وقال المالكية: إن اشترك السارقان أو أكثر في سرقة نصاب: فإن كان لكل واحد
قدرة على حمله بانفراده، فلا يقطع أحد، وإلا بأن كانوا يحتاجون في إخراجه
إلى تعاون بعضهم، فيقطعون جميعاً، ويصيرون كأنهم حملوه على دابة، فإنهم
يقطعون إذا تعاونوا على رفعه عليها، ويقدر المسروق عندهم وعند الشافعية
والحنابلة بقيمته يوم السرقة (1).
وقال الحنابلة: إذا اشترك الجماعة في سرقة، قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا،
لضرورة حفظ المال، فإن الواحد والجماعة يستوون في هتك الحرز، وسرقة النصاب
فعل يوجب القطع، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص.
قال ابن قدامة في المغني: وقول أبي حنيفة والشافعي أحب إلي؛ لأن القطع ههنا
لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص والمجمع عليه فلا يجب، والاحتياط
بإسقاطه أولى من الاحتياط بإيجابه؛ لأنه مما يدرأ بالشبهات (2).
_________
(1) حاشية الدسوقي: 335/ 3، بداية المجتهد: 439/ 2، المنتقى على الموطأ:
178/ 7، القوانين الفقهية: ص 359.
(2) المغني: 282/ 8، غاية المنتهى: 337/ 3 وما بعدها.
(7/5438)
3 - أن يكون المسروق محرزاً مطلقاً،
مقصوداً ب الحرز: الأصل في اشتراط هذا الشرط المتفق عليه قوله عليه السلام:
«لا قطع في ثَمَر ولا كَثر حتى يؤويه الجرين، فإذا أواه الجرين، ففيه
القطع» وفي رواية: «فإذا أواه المُراح أو الجرين» (1).
والحرز لغة: الموضع الذي يحرز فيه الشيء. وشرعاً: هو ما نصب عادة لحفظ
أموال الناس كالدار والحانوت والخيمة والشخص (2). وهو نوعان:
1 - حرز بنفسه: وهو كل بقعة معدة
للإحراز، ممنوعة الدخول فيها، إلا بالإذن، كالدور والحوانيت والخيام،
والخزائن والصناديق.
_________
(1) المراح: حرز الإبل والبقر والغنم الذي تأوي إليه ليلاً. والجرين: حرز
التمر الذي يجفف فيه، مثل البيدر للحنطة. والكثر: هو جمار النخل أي الجزء
الأبيض الغصن من قلب النخل أو ما يحيط بالبرعمة الرئيسية الكبيرة وهي حلوة
المذاق تخلو من الألياف، وقد يبلغ بعضها وزن كيلو غرام أو أكثر حسب حجم رأس
النخلة، قال الزيلعي عن هذا الحديث: غريب بهذا اللفظ، وبمعناه ما أخرجه أبو
داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو
أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق (أي الذي بعد في شجره)
فقال: «من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة (هو ما تحمله في حضنك) فلا
شيء عليه، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه
القطع» وروى مالك في الموطأ وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن
أبي حسين المكي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا قطع في ثمر
معلق، ولا في حريسة جبل (أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع) فإذا أواه
المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» وهو معضل، وقد روى حديث «لا
قطع في ثمر ولا كثر» الترمذي عن الليث بن سعد والنسائي، وابن ماجه عن سفيان
بن عيينة من حديث رافع بن خديج، رواه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه الطبراني
في معجمه، وأخرجه أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي (راجع جامع الأصول:
318/ 4 وما بعدها، نصب الراية: 362/ 3، سبل السلام: 23/ 4، التلخيص الحبير:
ص 356، نيل الأوطار: 127/ 7).
(2) هذا ويلاحظ أن المذاهب الأربعة متفقة على أن تحديد
الحرز مرجعه إلى العرف والعادة (بداية
المجتهد: 440/ 2، الأم: 135/ 6 وما بعدها، المغني: 249/ 8، غاية المنتهى:
339/ 3، فتح القدير: 238/ 4، المهذب: 280/ 2، القوانين الفقهية: ص 360).
(7/5439)
2 - حرز بغيره:
وهو كل مكان غير معد للإحراز، يدخل إليه بلا إذن، ولا يمنع منه، كالمساجد
والطرق والمفاوز.
فالنوع الأول: يكون حرزاً بنفسه، سواء وجد حافظ، أو لا، وسواء أكان الباب
مغلقاً، أم مفتوحاً؛ لأن البناء يقصد به الإحراز، وهو معتبر بنفسه بدون
صاحبه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علق القطع بإيواء الجرين والمراح من غير
شرط وجود الحافظ، لصيرورته حرزاً.
وأما النوع الثاني: فحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ، فإن كان هناك
حافظ قريب
من المال يمكنه حفظه، فهو حرز، سواء أكان نائماً، أم يقظان، لأنه عليه
الصلاة والسلام قطع سارق رداء صفوان، وصفوان كان نائماً (1).
والأخذ من الحرز شرط متفق عليه، ولا يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع
الحرز.
وبناء عليه يعرف حكم الصور الآتية:
أـ لو سرق إنسان عِدلاً موجوداً على ظهر دابة تسير ضمن مجموعة من الدواب
مقطورة ببعضها، لم يقطع؛ لأنه أخذ نفس الحرز، ونفس الحرز ليس في الحرز،
وكون العدل على ظهر الدابة لا يكفي اعتباره محرزاً؛ لأنه ليس بحرز مقصود؛
لأن قصد قائد الدواب هو قطع المسافة دون الحفظ، وإنما القائد حافظ للدابة
التي زمامها بيده فقط، هذا مذهب الحنفية. ويظهر أن هذا الرأي متأثر بالعرف،
وعرفنا اليوم أن قائد القافلة مطالب بحفظ المتاع المحمول.
وقال الأئمة الثلاثة: القائد حافظ لكل الدواب التي يقودها إذا كان بحيث
يراها إذا التفت إليها، وهو وإن كان يقصد قطع المسافة يقصد أيضاً الحفظ.
_________
(1) المبسوط: 150/ 9 وما بعدها، تبيين الحقائق للزيلعي: 221/ 3، فتح
القدير: 240/ 4، البدائع: 73/ 7، وقد سبق تخريج هذا الحديث في حد القذف.
(7/5440)
فإن شق العدل الموجود على الدابة، وأخرج
المتاع: قطع؛ لأن العدل حرز لما فيه (1).
ب ـ إذا علم صاحب الشيء المسروق بالسرقة قبل
إخراج المسروق من الحرز، فأخذه منه، لا يقطع، لأنه لم يوجد منه
الإخراج من الحرز. أما إن علم به ولم يأخذه منه خوفاً من الاصطدام معه، أو
عجز عن أخذه بعد مقاتلته بسلاح ونحوه، فإن كانت السرقة نهاراً لا تقطع يد
السارق؛ إذ لا بد من الخفية عند ابتداء وانتهاء الأخذ كما تقدم، أما إن
كانت السرقة ليلاً فتقطع يد السارق في هذه الحالة استحساناً عند الحنفية؛
لأنه يكفي في الليل توافر الخفية عند بدء الأخذ لا نهايته؛ لأن أغلب سرقات
الليل تصير مغالبة أو مع خوف المالك من المقاومة، لعدم تيسر النجدة والغوث
أثناء الليل.
جـ ـ إذا رمى السارق المسروق إلى خارج، فوجده
مالكه فأخذه، لا يقطع؛ لأنه لم تثبت يده عليه عند الخروج، لثبوت يد
غيره، فإذا رماه من الحرز، ثم خرج وأخذه، يجب القطع، وهذا متفق عليه،
خلافاً لزفر، لأنه ثبتت عليه يده حكماً، والرمي حيلة لإتمام السرقة. ودليل
زفر: أن الإلقاء غير موجب للقطع، كما لو خرج ولم يأخذه (2).
د ـ المناولة من الحرز: إذا اشترك اثنان
في نَقْب جدار، فدخل أحدهما، وأخذ المتاع، وناوله الآخر، هو خارج الحرز، أو
رمى به إليه، فقال أبو حنيفة: لا قطع على كل واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما
لم يستقل بالنقب والإخراج اللذين لا تكمل السرقة إلا بهما جميعاً بحسب
العرف، فالداخل لم تثبت يده على المسروق حين إخراجه، والخارج لم يوجد منه
هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد، وهذا هو الراجح لدى الحنفية.
_________
(1) البدائع: 74/ 7، فتح القدير: 246/ 4، تبيين الحقائق: 224/ 3.
(2) فتح القدير: 244/ 4، مغني المحتاج: 172/ 4.
(7/5441)
وقال محمد: إن أخرج الداخل يده من الحرز،
وناول الخارج، يقطع الداخل دون الخارج، فإن أدخل الخارج يده في الحرز، وأخذ
المسروق فلا قطع عليهما؛ لأن الداخل لم يوجد منه الإخراج، والآخر لم يوجد
منه هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد.
وقال أبو يوسف: إذا أخرج الداخل يده، فالقطع على الداخل، وأما الخارج إذا
أدخل يده وأخذ منه، فيجب القطع عليهما؛ لأنه لا يشترط عنده دخول الحرز (1).
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقطع الداخل وحده، دون الخارج؛ لأنه هو
الذي أخرج المتاع، مع المشاركة في النقب (2).
هـ ـ إخراج المسروق من الحرز (سرقة النقب):
إذا نقب شخصان حرزاً، ودخل أحدهما، وقرب المتاع إلى النقب وتركه، فأدخل
الخارج يده، فأخرجه من الحرز، فقال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع عليهما؛ لأن
الداخل لم يوجد منه الإخراج، والخارج لم يوجد منه هتك الحرز، فلم تتم
السرقة من كل واحد منهما، وفي هذه المسألة قال علي رضي الله عنه: «إذا كان
اللص ظريفاً لا يقطع» (3).
وقال أبو يوسف: يقطع الخارج؛ لأن المقصود أخذ المال، لا دخول الحرز (4).
وقال مالك: يقطع المخرج خاصة، لأنه السارق. وقال الشافعية: لو تعاونا في
النقب وانفرد أحدهما بالإخراج، أو وضعه ناقب بقرب النقب، فأخرجه آخر،
_________
(1) المبسوط: 147/ 9، فتح القدير: 243/ 4، الاختيار: 106/ 4.
(2) حاشية الدسوقي: 343/ 4، المهذب: 279/ 2، المغني: 284/ 8، غاية المنتهى:
338/ 3.
(3) هذا ما نقله الحنفية في كتبهم، ويحتاج ذلك إلى مزيد من التثبت.
(4) المبسوط: 147/ 9، فتح القدير: 245/ 4، تبيين الحقائق للزيلعي: 223/ 3.
(7/5442)
قطع المخرج، لكن لو وضعه بوسط نقبه فأخذه
خارج وهو يساوي نصابين، لم يقطع الاثنان في الأظهر. ولو نقب شخص وأخرج غيره
المسروق فلا قطع على واحد (1).
وقال أحمد: يقطع كل واحد منهما؛ لأنهما اشتركا في هتك الحرز، وإخراج
المتاع، فلزمهما القطع، كما لو حملاه معاً فأخرجاه (2). وهذا لدي أصح
الآراء للاشتراك في السرقة. ويجري هذا الخلاف أيضاً فيمن دخل الحرز، وجمع
المتاع عند النقب، ثم خرج، وأدخل يده، وأخرج المتاع.
وـ الاشتراك في السرقة أو تحميل المسروق على
ظهر واحد من الجماعة: إذا دخل جماعة الدار، فأخذوا متاعاً، وحملوه
على ظهر رجل منهم أو رجلين، وخرج الباقون من غير حمل شيء: فالقياس عند
الحنفية وهو قول زفر والمالكية والشافعية: ألا يقطع غير الحامل؛ لأن فعل
السرقة لا يتم إلا بالإخراج بعد الأخذ (3).
وفي الاستحسان عندالحنفية وهو قول الحنابلة: يقطعون جميعاً؛ لأن إخراج
المسروق تم بمعاونة الجماعة، وهكذا تكون السرقة الجماعية عادة (4).
ويجري هذا الخلاف فيما لو حملوا المسروق على دابة، حتى خرجت من الحرز، فإنه
يجب القطع استحساناً.
ز ـ الطرار والنباش: الطرار: هو النشال
وعرفه الحنابلة بقولهم بأنه من يبط (يشق) جيباً أو كماً ويأخذ منه أو بعد
سقوطه نصاباً. وقد اتفق الفقهاء على أن
_________
(1) حاشية الدسوقي: 343/ 4، بداية المجتهد: 440/ 2، المهذب: 280/ 2، مغني
المحتاج: 171/ 4 وما بعدها.
(2) المغني: 283/ 8 وما بعدها، غاية المنتهى: 338/ 3.
(3) الشرح الكبير: 335/ 4، الأم: 137/ 6، مغني المحتاج: 172/ 4.
(4) فتح القدير: 244/ 4، المغني: 283/ 8.
(7/5443)
الطرار تقطع يده (1). وهو الرأي المتفق مع
المصلحة. ومعنى الطرار: هو الذي يسرق من جيب الرجل، أو كمه (2) أو صُفْنة
(وعاء من أدم يستقى به) سواء بالقطع أو بالشق أو بإدخال اليد في الجيب.
غير أن الحنفية فصلوا في طريقة الطر: فإن كان الطر بالقطع، والدراهم مصرورة
على ظاهر الكم لم يقطع؛ لأن الحرز هو الكم، والدراهم بعد القطع تقع على
ظاهر الكم، فلم يوجد الأخذ من الحرز.
وإن كانت الدراهم مصرورة في داخل الكم، يقطع؛ لأنها بعد القطع، تقع في داخل
الكم، فكان الطر أخذاً من الحرز، وهو الكم، فيقطع.
وإن كان الطر بحل الرباط ينظر: إن كان بحال لو حل الرباط تقع الدراهم على
ظاهر الكم، بأن كانت العقدة مشدودة من داخل الكم، لا يقطع؛ لأنه أخذها من
غير حرز.
وإن كان بحال إذا حل الرباط تقع الدراهم في داخل الكم، وهو يحتاج إلى إدخال
يده في الكم للأخذ، يقطع، لوجود الأخذ من الحرز.
والخلاصة: أن الحنفية يتطلبون وجود معنى الحرز حقيقة واقعة، والأولى الأخذ
برأي الجمهور تفادياً لخطر هؤلاء اللصوص الخطرين.
النباش: هو سارق أكفان الموتى، واختلف
الفقهاء في حكمه، فقال
_________
(1) فتح القدير، المرجع السابق: ص 245، البدائع: 76/ 7، حاشية ابن عابدين:
224/ 3، مختصر الطحاوي: ص 271، بداية المجتهد: 440/ 2، المهذب: 279/ 2،
المغني: 256/ 8، غاية المنتهى: 336/ 3.
(2) الكم ـ بضم الكاف والميم المشددة: مدخل اليد ومخرجها من الثوب، والمراد
به هنا: أنه ما يتخد مكاناً لتخبئة الأشياء فيه. والكم بكسر الكاف: وعاء
الطلع أو الزهر أو الثمر.
(7/5444)
أبو حنيفة ومحمد: لا يقطع ولو كان القبر في
بيت مقفل في الأصح؛ لأن القبر ليس بحرز بنفسه أصلاً، إذ لا تحفظ الأموال
فيه عادة (1).
وقال المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف: تقطع يده؛ لأنه سارق، أو
ملحق بسارق مال الحي، والله تعالى يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما} [المائدة:38/ 5]، وقالت عائشة رضي الله عنها: «سارق أمواتنا كسارق
أحيائنا» (2)، وروى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه
وسلم قال: «من حرَّق حرقناه، ومن غرق غرقناه، ومن نبش قطعناه» (3)، ولأن
القبر حرز للكفن، فإن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر، دون غيره، ويكتفى به
في حرزه (4).
إلا أن الشافعية استثنوا القبر الموجود في برية، فلا قطع في السرقة منه؛
لأنه ليس بحرز للكفن، وإنما يكون الدفن في البرية للضرورة بخلاف المقبرة
التي تلي العمران، والراجح رأي الجمهور، منعاً من هذه الدناءات.
ح ـ الدار المشتركة: إذا كانت الدار
مشتركة بين عدة سكان، كالغرف المؤجرة في المنازل لأكثر من واحد، فسرق
المتاع من غرفة، يقطع عند الحنفية إذا كانت الدار عظيمة بحيث يستغني أهل كل
بيت ببيتهم عن صحن الدار.
_________
(1) المبسوط: 159/ 9، حاشية ابن عابدين: 219/ 3، مختصر الطحاوي: ص 273،
البدائع: 69/ 7، القوانين الفقهية: ص 359، غاية المنتهى: 340/ 3.
(2) أخرجه الدارقطني من حديث عمرة عنها.
(3) رواه البيهقي في المعرفة وقال: في هذا الإسناد بعض من يجهل حاله وروى
الدارقطني عن عائشة قالت: «سارق أمواتنا كسارق أحيائنا» (راجع نصب الراية:
366/ 3، التلخيص: ص: 356، 358).
(4) حاشية الدسوقي: 340/ 4، بداية المجتهد: 440/ 2، مغني المحتاج: 169/ 4،
المهذب: 278/ 2، المغني: 272/ 8.
(7/5445)
وكذلك يقطع عند الحنابلة إذا كان الباب
مغلقاً، ويقطع عند مالك والشافعي بإخراج المتاع، ولو لم يخرجه من جميع
الدار (1).
ط ـ الأمتعة في الأسواق: يقطع سارقها
عند الحنفية إذا سرق منها ليلاً، ولا يقطع إن سرق منها نهاراً، لاختلال
الحرز في النهار بسبب وجود الإذن عادة بالدخول. وقال المالكية والشافعية:
يقطع سارق المتاع من حوانيت التجار أو الأسواق إذا كانت الأمتعة قد ضمها
أصحابها إلى بعضها في موضع البيت، أوأحرزت في أوعيتها التي تحرز بها عادة،
عملاً بالعرف الجاري في إحرازها. وبناء عليه، يقطع - في رأيي - سارق
السيارات المتروكة في الشوارع اليوم؛ لأن الشارع هو حرزها، والحرز: هو كل
مكان تحفظ فيه الأموال عادة.
وقال أحمد: يقطع سارقها إذا كان في السوق حارس، أو كان مع الأمتعة حارس
يشاهدها (2).
4 - أن يكون المسروق أعياناً، قابلة للادخار والإمساك، ولا يتسارع إليها
الفساد: قال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع فيما يسرع إليه الفساد، إذا بلغ الحد
الذي يقطع في مثله بالقيمة، كالعنب والتين والسفرجل والرطب والبقول والخبز
ونحوها من الأطعمة الرطبة، والطبائخ، واللحم الطري أو اليابس، والنبيذ
الحلال، والعصير والألبان، سواء أخذت من حرز أم لا، لعدم قابلية الادخار،
ودليلهما قوله عليه الصلاة والسلام: «لا قطع في ثمر ولا كَثَر» (3).
_________
(1) فتح القدير: 243/ 4، الموطأ: 50/ 3، الأم: 136/ 6، 139، المغني: 256/
8، المهذب: 280/ 2.
(2) فتح القدير: 242/ 4، الموطأ: 50/ 3، الأم: 135/ 6،المغني: 249/ 8 -
250.
(3) الثمر: هو ما كان معلقاً في النخل قبل أن يجز ويحرز: وهو اسم جامع
للرطب واليابس من الرطب والعنب وغيرهما. والكثر: هو جمار النخل، وهو شحم
النخل الذي في وسط النخلة (راجع سبل السلام: 23/ 4، المنتقى على الموطأ:
182/ 7).
(7/5446)
ولأن هذه الأشياء لا تعد مالاً عادة، فيقل
خطرها عند الناس، فكانت تافهة، ونظراً لأنها معرضة للهلاك أيضاً تشبه ما لم
يحرز، فإن كان المسروق مما يبقى من سنة إلى سنة، فيدخر، مثل الجوز واللوز
والتمر اليابس والفواكه اليابسة والخل والدبس، فيجب القطع (1).
وقال أبو يوسف: يجب القطع فيما لا يحتمل الادخار؛ لأنها منتفع بها حقيقة،
والانتفاع بها مباح شرعاً على الإطلاق، فكانت مالاً، فيقطع فيها كسائر
الأموال (2). وهذا الرأي يتفق مع عرفنا اليوم، إذ أن الفواكه أصبحت من
الأموال المهمة، وليست تافهة، كما كان عليه عرف الناس في الماضي.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجب القطع في كل الأموال المتمولة التي
يجوز بيعها، وأخذ العوض عنها، سواء أكانت طعاماً أم ثياباً، أم حيواناً، أم
أحجاراً، أم قصباً، أم صيداً، أم زجاجاً، ونحوها، لعموم قوله تعالى:
{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5] ولأن هذا مال يتمول
عادة ويرغب فيه، فيقطع سارقه إذا اجتمعت فيه شروط السرقة (3)، كأن يؤخذ من
حرز مثله.
سرقة الثمر المعلق: اتفق العلماء على
أنه لا يجب القطع في سرقة الثمر المعلق على الشجر أو الحنطة في سنبلها، إذا
لم يكن محرزاً، فإن أحرز وجب فيه القطع. ويرجع في تحديد الحرز إلى ما يعرفه
الناس حرزاً، فما عرفوه حرزاً قطع بالسرقة منه، وما لا يعرفونه حرزاً لم
يقطع بالسرقة منه؛ لأن الشرع دل على اعتبار الحرز،
_________
(1) المبسوط: 153/ 9، فتح القدير: 227/ 4، البدائع: 69/ 7.
(2) المراجع السابقة.
(3) بداية المجتهد: 441/ 2، الميزان: 162/ 2، المهذب: 277/ 2 وما بعدها،
المغني: 246/ 8، نيل الأوطار: 128/ 7، غاية المنتهى: 337/ 3، 341.
(7/5447)
وليس له حد مقرر في الشرع، فوجب الرجوع فيه
إلى العرف. قال الشافعي: إن حديث رافع: «لا قطع في ثمر» خرج على ما كان
عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها (بساتينها) فذلك لعدم الحرز.
فإذا أحرزت الحوائط (أي البساتين) بالجدران أو الأسلاك الشائكة مثلاً، كانت
كغيرها. لكن إذا أخذ الثمر من غير حرز، يجب فيه عند الجمهور دفع قيمته.
وقال الحنابلة: يجب دفع مثلي قيمته، لقوله عليه السلام: «من أصاب بفيه من
ذي حاجة غير متخذ خُبْنة، أي (لا يخبئ شيئاً في ثنيات ثيابه) فلا شيء عليه،
ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن
يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع» (1). فإن استحكم جفاف الثمر أو
الحنطة، وجذَّ وآواه الجرين، ثم سرق، قطع السارق؛ لأنه صار مالاً مطلقاً،
قابلاً للادخار، وإليه أشار الرسول صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «لا قطع
في ثمر ولا كثَر حتى يؤويه الجرين» الحديث (2).
5 - أن يكون المسروق شيئاً ليس أصله مباحاً: إذا كان الشيء في أصله مباحاً،
كالطيور والتبن والخشب والحطب والقصب والصيود والحشيش والسمك والزرنيخ
والطين الأحمر والنُّورة (3) واللَّبِن والفحم
_________
(1) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده، وأخرج الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً: «إذا مر أحدكم بحائط (أي بستان من
النخل) فليأكل ولا يتخذ خبنة» قال الترمذي: غريب، وقال البيهقي: لم يصح،
وجاء من أوجه أخرى غير قوية. قال ابن حجر: والحق أن مجموعها لا يقصر عن
درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما دونها (راجع نصب الراية:
363/ 3، سبل السلام: 97/ 3، جامع الأصول: 318/ 4، 296/ 11، نيل الأوطار:
127/ 7).
(2) راجع جامع الأصول: 318/ 4.
(3) النورة: حجر الكلس ثم غلبت على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره،
ويستعمل لإزالة الشعر (المصباح، والقاموس المحيط).
(7/5448)
والملح والخزف والزجاج لسرعة كسره، فقد
اختلف العلماء في حكم سرقته كما في الشرط السابق.
قال الحنفية: لا قطع فيما كان أصله مباحاً في دار الإسلام، كهذه الأشياء،
واستثنوا منها خشب الساج والأبنوس والصندل والقنا (هو عنقود النخل) والخشب
المصنوع. ودليله: أن الناس لا يتمولون تلك الأشياء، وإنما توجد بكثرة، وهي
مباحة، فيقل خطرها عندهم، فكانت تافهة كالتراب، إلا ما كان غالي القيمة؛
لأنه يتمول عادة فلا يكون تافهاً، وهو ما استثنوه. ولأنها أيضاً من الأمور
التي يشترك فيها الناس جميعاً، فبالنظر للشبهة التي فيها لكل مالك، لا يقطع
سارقها، مراعاة لأصلها (1).
ويلاحظ أن اعتماد أبي حنيفة في هذا الشرط على معنى التفاهة وعدم المالية،
لا على إباحة الجنس؛ لأن ذلك موجود في الذهب والفضة.
وعليه إذا أصبحت هذه الأشياء من جملة الأموال المعتبرة وجب الحد بسرقتها.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة (2): يقطع سارق الأموال، سواء أكانت مما
أصله مباح، كالصيد والماء والحطب والحشيش والمعادن، أم غير مباح لعموم
الآية الموجبة للقطع، وعموم الآثار الواردة في اشتراط النصاب، ولأنها مال
محرز (3)، وهذا هوالأرجح لدي، لتمول الناس هذه الأشياء، وإحرازهم لها.
_________
(1) المبسوط: 153/ 9، فتح القدير: 226/ 4، تبيين الحقائق: 219/ 3، البدائع:
68/ 7، حاشية ابن عابدين: 217/ 3.
(2) حاشية الدسوقي: 334/ 4، الميزان: 167/ 2، بداية المجتهد: 441/ 2،
المهذب: 278/ 2، المغني: 246/ 8، المنتقى على الموطأ: 156/ 7، القوانين
الفقهية: ص 359، غاية المنتهى: 337/ 3.
(3) قال الزنجاني الشافعي في تخريج الفروع على الأصول: ص 186: استصحاب حكم
العموم إذا لم يقم دليل الخصوص متعين عند القائلين بالعموم، وعليه بنى
الشافعي رضي الله عنه معظم مسائل السرقة. ويتفرع عليه أن حد القطع يتعلق
بسرق ما أصله على الإباحة عند الشافعي رضي الله عنه، تمسكاً بعموم قوله
تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5] وعموم الآية
يقتضي إيجاب القطع في كل ما يسمى آخذه سارقاً، فكل من يطلق عليه اسم السارق
مقطوع بحكم العموم إلا ما استثناه الدليل.
(7/5449)
6 - أن يكون المال المسروق معصوماً، ليس
للسارق فيه حق الأخذ ولا تأويل الأخذ، ولا شبهة التناول (انتفاء شبهة
الأخذ): السبب في اشتراط هذا الشرط: أن القطع عقوبة محضة، فيستدعي جناية
محضة، وأخذ ما لَه حق أخذه لا يكون جناية أصلاً، فلا يستدعي عقوبة. وكذلك
أخذ ما لأخذه فيه تأويل التناول أو شبهة التناول، لا يكون جناية محضة، فلا
تناسبه العقوبة المحضة (1).
ويتفرع على هذا الشرط أنه لا يقام حد القطع فيما يلي:
أـ سائر الأموال المباحة التي لا مالك لها.
ب ـ مال الحربي المستأمن في دار الإسلام، فإنه لا يقطع استحساناً؛ لأنه مال
فيه شبهة الإباحة، والقياس أن يقطع؛ لأن هذا المال أصبح معصوماً بسبب
الأمان الذي منحه الحربي، ولهذا كان مضموناً بالإتلاف كمال الذمي.
جـ ـ مال المسلم أو الذمي إذا سرقه الحربي المستأمن لاعتقاده إباحته.
د ـ مال الباغي إذا سرقه العادل؛ لأنه ليس بمعصوم في حقه. وكذا مال العادل
إذا سرقه الباغي، لأنه أخذه متأولاً.
هـ ـ المال المسروق من الغريم، أي المدين، على التفصيل الآتي:
_________
(1) العقوبات الشرعية وأسبابها للأستاد علي قراعة: ص 146 وما بعدها،
البدائع: 70/ 7 - 72، فتح القدير: 229/ 4 وما بعدها، المبسوط: 152/ 9، 178،
غاية المنتهى: 341/ 3.
(7/5450)
إن كان المسروق من جنس حقه، كأن كان له
عشرة دراهم، فسرق عشرة دراهم، وكان الدين حالّ الأداء، لم يقطع السارق؛ لأن
الأخذ مباح له، لأنه ظفر بجنس حقه، فله أخذه كما هو مقرر، حتى ولو أخذ أكثر
من مقدار حقه، لا يقطع؛ لأن بعض المأخوذ حقه على الشيوع، ولا قطع في سرقة
حق شائع كما في المال المشترك. فإن كان الدين مؤجلاً لا يقطع استحساناً،
ويقطع قياساً.
وجه القياس: أن الدين إذا كان مؤجلاً لم يكن لآخذه حق الأخذ قبل حلول
الأجل، فصار كما لو سرقه أجنبي، فيقطع فيه.
ووجه الاستحسان: أن حق الأخذ، وإن لم يثبت قبل حلول الأجل، إلا أن سبب ثبوت
حق الأخذ: وهو الدين، قائم، وأما الأجل فتأثيره في تأخير المطالبة، لا في
سقوط الدين، فقيام السسبب المذكور يورث شبهة، والشبهة تمنع إقامة الحد.
فإن كان المسروق خلاف جنس حقه، كأن يكون له عشرة دراهم، فسرق ديناراً أو
عُروضاً، فيقام عليه حد القطع، كما ذكر الكرخي؛ لأنه أخذ مالاً ليس له حق
أخذه. وذكر في كتاب السرقة أنه لا يقطع، وهو قول أبي يوسف والشافعي (1).
قال ابن عابدين: إن عدم جواز أخذ الدائن شيئاً للمدين من خلاف جنسه حقه،
كان في زمانهم ـ أي زمان متقدمي الحنفية ـ لمطاوعتهم في الحقوق، والفتوى
اليوم على جواز الأخذ عند القدرة من أي مال كان، لا سيما في ديارنا
لمداومتهم للعقوق (2).
_________
(1) فتح القدير: 236/ 4، مغني المحتاج: 162/ 4، المهذب: 282/ 2.
(2) رد المحتار: 220/ 3.
(7/5451)
وـ سرقة المصحف الشريف: لا يقطع سارقه؛ لأن
له تأويل الأخذ، وهو أنه أخذه لقراءة القرآن العظيم، وهو مذهب الحنابلة
أيضاً. وقال مالك والشافعي وأبو يوسف: يقطع بسرقة المصحف؛ لأنه مال متقوم.
واستثنى الشافعية في الأصح سرقة المصحف الموقوف على القراءة، فإن سارقه لا
يقطع كالسرقة من بيت المال، لوجود الشبهة فيه (1).
ز ـ الطبل والمزمار، والصليب، والنرد والشطرنج، وجميع آلات اللهو، لا يقطع
بسرقتها؛ لأنه يتأول بأخذها منع المالك عن المعصية ونهيه عن المنكر.
7 - ألا يكون للسارق في المسروق ملك ولا تأويل
الملك، أو شبهته (انتفاء شبهة الملك):
السبب في اشتراط هذا الشرط المتفق عليه: هو ما ذكر في الشرط السابق: وهو أن
الجناية حينئذ لا تكون متكاملة، فلا تستدعي عقوبة متكاملة، ويتفرع عن هذا
أن السارق لا يقطع بسرقة ما أعاره، أو رهنه، أو آجره لغيره؛ لأنه مملوك له،
ولايقطع بسرقة المال المشترك بينه وبين المسروق منه؛ لأن له حقاً فيه، ولا
يقطع بسرقة مال الولد وإن سفل؛ لأن له تأويل الملك، أو شبهة الملك، لقوله
عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك». وكذا لا يقطع بسرقة مال الأصل
كالأب والجد وإن علا، لوجود المباسطة في الدخول في الحرز (2)، أي أنه لا
يقطع بسرقة من عمودي نسبه.
وكذلك لا يقطع السارق من بيت المال؛ لأنه مال العامة، فيكون له فيه ملك
_________
(1) المغني: 247/ 8، غاية المنتهى: 337/ 3، المبسوط: 152/ 9، الدر المختار:
218/ 3، مغني المحتاج: 163/ 4، تكملة المجموع: 337/ 18، القوانين الفقهية:
ص 359.
(2) البدائع: 70/ 7، فتح القدير: 238/ 4.
(7/5452)
وحق. والدليل هو أن عمر رضي الله عنه لم
يقطع من سرق من بيت المال، فقد كتب عامل لعمر يسأله عمن سرق من مال بيت
المال، فقال: «لا تقطعه فما من أحد إلا وله فيه حق» وروى الشعبي أن رجلاً
سرق من بيت المال، فبلغ علياً كرم الله وجهه، فقال: «إن له فيه سهماً» ولم
يقطعه. وإن سرق ذمي من بيت المال، قطع؛ لأنه لا حق له فيه. وإن سرق فقير من
غلة وقف على الفقراء، لم يقطع؛ لأن له فيه حقاً، وإن سرق منها غني، قطع؛
لأنه لا حق له فيها. والخلاصة: لا يقطع فيما له فيه شبهة، لحديث «ادرؤوا
الحدود بالشبهات» وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
وقال مالك: يقطع لعموم الكتاب (1) أي عموم الآية القرآنية الدالة على وجوب
قطع أي سارق.
8 - ألا يكون السارق مأذوناً له بالدخول في الحرز، أو فيه شبهة الإذن: إذا
سرق إنسان من ذوي الرحم المحرم (2)، أو من زوجه، فلا تقطع يده؛ لأنه يدخل
عادة بدون إذن، وجرت العادة بالتبسط بين الزوجين في الأموال، فكان له شبهة
الإذن، فيختل معنى توفر الحرز، وهذا شرط متفق عليه في الجملة.
_________
(1) فتح القدير: 235/ 4، المغني: 277/ 8، غاية المنتهى: 341/ 3، المهذب:
281/ 2، المبسوط: 188/ 9، حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 220/ 3، مغني
المحتاج: 163/ 4. ويلاحظ أن للشافعية تفصيلاً رجحه النووي في السرقة من بيت
المال، فقال: ومن سرق مال بيت المال: إن فرز لطائفة كذوي القربى والمساكين،
ليس هو منهم، قطع إذ لا شبهة له في ذلك، وإن لم يفرز لطائفة فالأصح أنه إن
كان له حق في المسروق كمال المصالح العامة وكصدقة وهو فقير مثلاً، فلا
يقطع، وإن لم يكن له فيه حق، قطع لانتفاء الشبهة.
(2) ذو الرحم المحرم من الشخص: هو الذي لو كان أحدهما رجلاً، والآخر امرأة،
لم يجز له أن يتزوجها من أجل الرحم التي بينهما.
(7/5453)
وكذلك لا قطع على خادم قوم سرق متاعهم، ولا
على ضيف سرق متاع مضيفه، ولا على أجير سرق من موضع أذن له في دخوله؛ لأن
الإذن في الدخول أخرج الموضع من أن يكون حرزاً في حقه (1). وهذا متفق عليه
في المذاهب الأربعة، إلا أن الإمام مالك اشترط في الخادم حتى يدرأ عنه الحد
أن يلي الخدمة بنفسه.
ووافق الإمام أحمد أبا حنيفة في رواية عنه في ألا قطع بالسرقة من أحد
الزوجين.
وقال الشافعي في الأظهر: يجب القطع في السرقة من الأقارب وأحد الزوجين من
الآخر، ما عدا قرابة الأصل والفرع، إذا سرق المال المحرز عنه، لعموم آية
السرقة والأخبار الواردة فيها، وإلحاقاً للقرابة القريبة، كالأخت والعمة
بالقرابة البعيدة، ولأن النكاح عقد على منفعة، فلا يؤثر في درء الحد،
كالإجارة لا يسقط بها الحد عن الأجير أو المستأجر إذا سرق أحدهما من الآخر
المال المحرز عنه (2). ووافق الإمام مالك الشافعي في القطع بالسرقة بين
الزوجين، والمعقول هو الرأي الأول، لوجود التسامح في أخذ المال عادة بين
الأقارب.
_________
(1) البدائع: 70/ 7، 75، المبسوط: 151/ 9، تبيين الحقائق للزيلعي: 220/ 3،
222، الدر المختار: 221/ 3، المهذب: 280/ 2، القوانين الفقهية: ص 359.
(2) مغني المحتاج: 162/ 4. ويلاحظ أن الشافعية نبهوا على أن وجوب قطع يد
الزوجة بالسرقة من مال زوجها: هو فيما إذا لم تستحق على الزوج شيئاً حين
السرقة، أما إذا كانت تستحق النفقة والسكنى في تلك الحالة، فالمتجه أنه لا
قطع إذا أخذت بقصد الاستيفاء كما في حق رب الدين الحال إذا سرق نصاباً من
المديون، وربما كان الإمام الشافعي في الأم (139/ 6) أميل لعدم القطع
مطلقاً بسبب الشبهة. وقال الإمام مالك (الموطأ: 52/ 3): إذا سرق أحد
الزوجين من حرز يختص به الآخر كأن كان في بيت لا يسكنان معاً فيه، أو سرق
شيئاً أحرزه عنه، يقطع. وعن الإمام أحمد روايتان في ذلك (المغني: 276/ 8):
إحداهما ـ لا قطع عليه كمذهب أبي حنيفة، والثانية ـ يقطع كمذهب مالك.
(7/5454)
9 - أن يكون المسروق مقصوداً بالسرقة لا
تبعاً لمقصود: فلو سرق إنسان كلباً أو هراً في عنقه طوق ذهب أو فضة، أو
مصحفاً مرصعاً بالذهب والياقوت، أو سرق صبياً حراً عليه حلي أو ثياب ديباج،
أو إناء من ذهب أو فضة فيه شراب أو ماء أو طعام: لا يجب القطع عند أبي
حنيفة ومحمد وأحمد وفي وجه للشافعية؛ لأن المقصود بالسرقة هو الكلب أو
الصبي، والطعام وغيره تابع له، وإذا كان الأصل المقصود لا يجب فيه القطع
لقصور في ماليته، فلا يجب بالتابع.
وقال أبو يوسف وفي وجه آخر للشافعية: ليس هذا بشرط؛ لأنه قصد سرقة ما عليه
من مال، ولأن الطعام الذي في الإناء، ونحوه، إذا كان مما لا يقطع فيه،
التحق بالعدم، فيعتبر أخذ الإناء على الانفراد، فيقطع فيه (1)، ويظهر لي أن
هذا هو المعقول، لولا وجود الشبهة في اشتمال السرقة على ما يقطع من أجله
وما لا يقطع.
شروط المسروق منه:
يشترط في المسروق منه أن تكون له يد صحيحة، واليد الصحيحة ثلاثة أنواع:
1 - يد الملك.
2 - يد الأمانة، كيد الوديع والمستعير ويد الشريك المضارب.
3 - يد الضمان، كيد الغاصب ويد القابض على سوم الشراء، ويد المرتهن.
_________
(1) البدائع: 79/ 7، المهذب: 281/ 2.
(7/5455)
فيجب القطع على السارق من هؤلاء. ولا يجب
القطع على السارق من السارق؛ لأن يد السارق ليست بيد صحيحة، فكان الأخذ منه
كالأخذ من الطريق (1).
شروط المسروق فيه:
المسروق فيه: هو مكان السرقة. يشترط أن تكون السرقة في دار العدل، فلو سرق
في دار الحرب أو في دار البغي: لا يقطع؛ لأنه لا ولاية للإمام على غير دار
العدل، فلم تنعقد السرقة موجبة للقطع (2).
المبحث الثالث ـ إثبات السرقة:
تثبت السرقة عند القاضي بأحد أمرين: البينة أو الإقرار.
شروط البينة:
يشترط لقبول البينة شروط عامة تعرف في باب الشهادات، وشروط خاصة في الحدود
والقصاص، وهي (3):
1 - الذكورة: فلا تقبل فيها شهادة النساء.
2 - العدالة: فلا تقبل فيها شهادة الفساق.
3 - الأصالة: فلا تقبل فيها الشهادة على الشهادة، لوجود الشبهة.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 80.
(2) المرجع السابق.
(3) المبسوط: 169/ 9، فتح القدير: 223/ 4، 252، البدائع: 81/ 7، تبيين
الحقائق: 213/ 3، حاشية ابن عابدين: 213/ 3، غاية المنتهى: 342/ 3،
القوانين الفقهية: ص360 وما بعدها.
(7/5456)
4 - عدم تقادم العهد، إلا في حد القذف
والقصاص: فلو شهدوا بالسرقة بعد حين، لم تقبل شهادتهم، للشبهة.
5 - الخصومة أو الدعوى ممن له يد صحيحة: بأن كان صاحب ملك أو صاحب يد
أمانة، أو يد ضمان، كما بان سابقاً. فلو شهدوا أنه سرق مال فلان الغائب من
غير خصومة من المسروق منه، لم تقبل شهادتهم، ولكن يحبس السارق؛ لأن إخبارهم
أورث تهمة، ويجوز الحبس بالتهمة.
ويلاحظ أن حق الخصومة ثابت لمن له يد صحيحة في حق ثبوت ولاية استرداد
المسروق وإعادته إلى أيديهم، وفي حق القطع عند جمهور الحنفية؛ لأن يد
المالك أو الأمين أو الضامن يد صحيحة، والخصومة مظهرة للسرقة، وإذا ظهرت
السرقة بخصومة هؤلاء يقطع السارق، لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما} [المائدة:38/ 5].
وقال زفر: لا تعتبر خصومة غير المالك في حق القطع، ولا يقطع السارق بخصومة
الأمين أو الضامن؛ لأن يد غير المالك ليست بيد صحيحة في الأصل، وإنما تثبت
لهم ولاية الخصومة لإمكان الرد إلى المالك، فكان ثبوتها لهم بطريق الضرورة،
والثابت بالضرورة يكون عدَماً فيما وراء محل الضرورة، لانعدام علة الثبوت،
وهي الضرورة.
وأما السارق الأول فلا تعتبر خصومته باتفاق الحنفية في حق القطع بالنسبة
للسارق الثاني بالاتفاق؛ لأن يده ليست يد ملك، ولا يد ضمان، ولا يد أمانة،
فصار الأخذ من يده كالأخذ من الطريق. وأما في حق الاسترداد ففيه روايتان:
رواية تقرر أن للسارق الأول الاسترداد، إذ من الجائز أن يختار المالك
الضمان، ويترك القطع، فيحتاج إلى أن يسترد المسروق من السارق الثاني،
ليدفعه إلى
(7/5457)
المالك، فيتخلص من الضمان. ورواية: ليس له
الاسترداد، إذ ليس له يد صحيحة (1).
ويلاحظ أن مذهب الشافعية والحنابلة في أظهر الروايتين كالحنفية في افتقار
حد القطع إلى مطالبة المسروق منه؛ لأن المغلب عندهم في القطع حق المخلوق
(2).
وقال مالك: إنه لا يفتقر إلى مطالبة المسروق منه صيانة لحق المجتمع،
ومحافظة على أموالهم (3).
ولا تثبت السرقة عند القاضي بالنكول عن الحلف من المدعى عليه، ولا تثبت
أيضاً بعلم القاضي، في زمان القضاء أو قبله.
شروط الإقرار:
تظهر السرقة عند القاضي بالإقرار؛ لأن الإنسان غير متهم في الإقرار على
نفسه بالإضرار بها، ويكفي لوجوب القطع الإقرار مرة واحدة عند أبي حنيفة
ومحمد وجمهور العلماء.
وقال أبو يوسف والحنابلة: لا يقطع إلا بالإقرار مرتين، كما أن عدد الشهود
اثنان.
ويشترط عند أبي حنيفة ومحمد إقامة دعوى من المسروق منه، فإذا أقر السارق
أنه سرق مال فلان الغائب لم يقطع، ما لم يحضر المسروق منه ويخاصمه، كما هو
المقرر في البينة.
_________
(1) انظر البدائع: 83/ 7 - 84، فتح القدير: 255/ 4 وما بعدها، تبيين
الحقائق للزيلعي: 228/ 3.
(2) المهذب: 282/ 2 وما بعدها، المغني: 273/ 8، غاية المنتهى: 342/ 3.
(3) بداية المجتهد: 443/ 2.
(7/5458)
وقال أبو يوسف: الدعوى في الإقرار بالسرقة
ليست بشرط لوجوب القطع؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه (1).
المبحث الرابع ـ ما يسقط الحد بعد وجوبه:
يسقط الحد بأنواع هي (2):
1 - تكذيب المسروق منه السارق في إقراره بالسرقة، بأن يقول له: لم تسرق
مني.
2 - تكذيب المسروق منه بينته، بأن يقول: شهد شهودي بزور.
3 - رجوع السارق عن الإقرار بالسرقة، فلا يقطع، ويضمن المال؛ لأن الرجوع عن
الإقرار يقبل في الحدود، ولا يقبل في المال؛ لأنه يورث شبهة في الإقرار،
والحد يسقط بالشبهة، ولا يسقط المال.
4 - رد السارق المسروق إلى مالكه قبل المرافعة في السرقة عند أبي حنيفة
ومحمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وفي رواية أخرى عنه: إن الرد قبل
المرافعة لا يسقط الحد؛ لأن السرقة انعقدت موجبة للقطع، فرد المسروق بعدئذ
لا يخل بالسرقة الموجودة.
ودليل الطرفين: أن الخصومة شرط لظهور السرقة عند القاضي، ولما رد المسروق
على المالك، فقد بطلت الخصومة، بخلاف ما بعد المرافعة؛ لأن المطلوب هو وجود
الخصومة لا استمرارها. وعلى هذا، رد المسروق بعد المرافعة وسماع البينة: لا
يسقط القطع، سواء أكان الرد قبل القضاء أم بعده.
_________
(1) المراجع السابقة عند الحنفية، المبسوط: 182/ 9، المهذب: 282/ 2،
القوانين الفقهية: ص 361، غاية المنتهى: 342/ 3.
(2) البدائع: 88/ 7 وما بعدها، فتح القدير: 255/ 4 وما بعدها، تبيين
الحقائق: 229/ 3 وما بعدها.
(7/5459)
5 - ملك السارق المال المسروق قبل رفع
الأمر إلى القضاء بلا خلاف، فإن ملكه بعدئذ قبل إمضاء الحكم، فاختلف فيه
الفقهاء: فقال أبو حنيفة ومحمد: يسقط الحد، كما إذا وهب أو باع المسروق منه
المال المسروق للسارق قبل القضاء أو بعده قبل إصدار الحكم.
وقال أبو يوسف والشافعي وأحمد ومالك: إذا وهبه بعد القضاء، أي بعد ما رفع
إلى الحاكم، لم يسقط القطع، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر في
سارق رداء صفوان أن تقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا، هو عليه صدقة،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فهلا قبل أن تأتيني به؟» (1).
ودليل الطرفين: أن الملك في الهبة يثبت من وقت القبض، فيظهر الملك له من
ذلك الوقت، أي أن له أثراً رجعياً. وكون المسروق ملكاً للسارق على الحقيقة
أو مع الشبهة، يمنع من القطع، ولهذا لم يقطع قبل القضاء، فكذلك بعده؛ لأن
القضاء في باب الحدود إمضاؤها، فما لم يمض الحد (أي ينفَّذ فعلاً بأن يقام
على المحدود) فكأنه لم يقض. ولو كان لم يقض لا يقطع، فكذلك إذا لم يمض، أي
لم ينفَّذ الحد، والمعنى أنهم اعتبروا الحد قبل استيفائه، كما لو كان قبل
القضاء به.
زراعة عضو استؤصل في حد: تقدمت ببحث إلى مجمع الفقه الإسلامي بجدة عام 1410
هـ1990/م في دورته السادسة مفاده عدم جواز إعادة العضو المقطوع في حال
القصاص، بعملية جراحية، مراعاة لمصلحة المقتص له، وكذلك عدم جواز إعادة
العضو المقطوع في حد من الحدود الخالصة للعبد، ورأيت جواز إعادة العضو إذا
ثبت الجرم بالإقرار؛ لجواز الرجوع عنه، وكذلك إذا ثبت الجرم
_________
(1) المهذب: 282/ 2، البدائع، المرجع السابق: ص 89، غاية المنتهى: 337/ 3،
المنتقى على الموطأ: 162/ 7، والحديث رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس.
(7/5460)
بالشهادة في حقوق الله تعالى كحد السرقة
والحرابة والزنى والردة، إذا تاب المحدود، وكانت حالات الإعادة قليلة أو
نادرة، حتى لا يتجرأ الجناة على الجرائم والفواحش، ثم وافقت على قرار
المجمع المذكور بعدم الجواز، حتى لا يتخذ تطبيق الحد عبثاً أو مجالاً
للتلاعب والبعد عن الجدية، ولإبقاء آثار تطبيق الحد لزجر المحدود وبقية
الناس، وأذكر هنا نص قرار المجمع رقم (6/ 9/60):
1 - لا يجوز شرعاً إعادة العضو المقطوع تنفيذاً للحد؛ لأن في بقاء أثر الحد
تحقيقاً كاملاً للعقوبة المقررة شرعاً، ومنعاً للتهاون في استيفائها،
وتفادياً لمصادمة حكم الشرع في الظاهر.
2 - بما أن القصاص قد شرع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه، وصون حق الحياة
للمجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار، فإنه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذاً
للقصاص إلا في الحالات التالية:
أـ أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع.
ب ـ أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه.
3 - يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو في
التنفيذ.
(7/5461)
|