الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الرّابع: حَدّ الحِرابة أو قَطع الطَّريق وحكم البغاة تمهيد:
هذا هو الحد الرابع من أنواع الحدود، ونتكلم فيه عن حكم البغاة لوجود التشابه بين جريمتي قطع الطريق والبغي، فقطاع الطرق: هم محاربون على غير التأويل، والبغاة محاربون على التأويل.
وقد ألحق الحنفية حد الحرابة بحد السرقة؛ لأن قطع الطريق يسمى سرقة كبرى، إلا أنه ليس بسرقة مطلقة، فإن السرقة هي الأخذ خفية كما يتبادر إلى الذهن، وإنما يطلق عليه اسم السرقة مجازاً بسبب الإخفاء عن الإمام أو عن حراسه لحفظ الطريق.
فيسمى سرقة بسبب أخذ المال سراً عن الحارس أو الإمام، وتسميتها «كبرى»؛ لأن فيه ضرراً على أصحاب الأموال وعامة الناس، ولذا غلظ الحد فيه، وخفف في السرقة العادية المسماة بالسرقة الصغرى؛ لأن ضررها يخص الملاك بأخذ مالهم وهتك حرزهم (1).
والكلام على حد الحرابة يكون في المباحث الخمسة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف قطاع الطرق أو المحاربين، وركن قطع الطريق.
_________
(1) فتح القدير مع العناية بحاشيته: 268/ 4.

(7/5462)


المبحث الثاني ـ شروط قطع الطريق.
المبحث الثالث ـ إثبات قطع الطريق.
المبحث الرابع ـ أحكام قطاع الطرق.
المبحث الخامس ـ ما يسقط حكم القطع، وما يترتب على عدم وجوب الحد. ثم يكون الكلام عن تعريف البغاة وأحكامهم.

المبحث الأول ـ تعريف قطاع الطرق وركن قطع الطريق:
قاطع الطريق أو المحارب: هو كل من كان دمه محقوناً قبل الحرابة وهو المسلم أو الذمي. والأصل في مشروعية حد قطع الطريق هو قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبُوا، أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنْفَوا من الأرض} [المائدة:33/ 5].
وقد اتفق العلماء على أن من قتل وأخذ المال، وجب إقامة الحد عليه، ولا يسقط العقاب بعفو ولي المقتول، والمأخوذ منه المال، خلافاً للقتل العادي.
قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم (1).
فالحرابة إذن: هي كل فعل يقصد به أخذ المال على وجه تتعذر معه الاستعانة عادة (2).
_________
(1) الميزان: 168/ 2، بداية المجتهد: 445/ 2، حاشية الدسوقي: 350/ 4، المهذب: 284/ 2، مغني المحتاج: 183/ 4، المغني: 290/ 8.
(2) تبصرة الحكام في أصول الأقضية والأحكام لابن فرحون: 271/ 2.

(7/5463)


ركن قطع الطريق:
ركنه: هو الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالبة على وجه يمتنع المارة عن المرور وينقطع الطريق، سواء أكان القطع من جماعة أم من واحد، بعد أن يكون له قوة القطع، وسواء أكان القطع بسلاح أم غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها، وسواء أكان بمباشرة الكل، أم التسبب من البعض بالإعانة والأخذ؛ لأن القطع يحصل بكل ماذكر كما في السرقة، ولأن هذا من عادة قطاع الطرق (1). وبه يظهر أن قطاع الطرق قوم لهم منعة وشوكة، بحيث لا تمكن للمارة مقاومتهم، يقصدون قطع الطريق، بالسلاح أو بغيره.

المبحث الثاني ـ شروط قطع الطريق:
هناك شروط في القاطع، والمقطوع عليه، وفيهما معاً، وفي المقطوع له، وفي المقطوع فيه.

شروط القاطع:
يشترط في القاطع أن يكون عاقلاً بالغاً، فإن كان صبياً مجنوناً لا حد عليهما؛ لأن الحد عقوبة تستدعي جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية.
_________
(1) البدائع: 90/ 7 وما بعدها، فتح القدير: 268/ 4، المبسوط: 195/ 9.
والمحارب عند المالكية: هو الذي شهر السلاح وقطع الطريق وقصد سلب الناس، سواء أكان في مصر أو قفر. ومن دخل داراً بالليل وأخذ المال بالكره، ومنع من الاستغاثة، فهو محارب، والقاتل غيلة محارب، ومن كان معاوناً للمحاربين كالكمين والطليعة فهو في حكم المحارب عندهم (القوانين الفقهية: ص 362).

(7/5464)


ويشترط أيضاً أن يكون ذكراً في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، ولو كان بين القطاع امرأة لا يقام الحد عليها في الرواية المشهورة؛ لأن ركن القطع وهو (الخروج على المارة على وجه المحاربة والمغالبة) لا يتحقق من النساء عادة، لرقة قلوبهن وضعف بنيتهن، فلا يكنَّ من أهل الحرب.
وقال الطحاوي: النساء والرجال في قطع الطريق سواء؛ لأن هذا حد يستوي في وجوبه الذكر والأنثى كسائر الحدود. وسيأتي بيان المذاهب الأخرى.
وأما الرجال الذين مع المرأة، فلا يقام عليهم الحد عند أبي حنيفة ومحمد، سواء باشروا معها أو لم يباشروا؛ لأن سبب وجوب الحد شيء واحد، وهو قطع الطريق، وقد حصل ممن يجب عليه، ومن لا يجب عليه، فلا يجب أصلاً كما إذا كان فيهم صبي أو مجنون.
وفرق أبو يوسف بين الصبي وبين المرأة، فقال: إذا باشر الصبي لا حد على من لم يباشر من المكلفين.
وإذا باشرت المرأة يحد الرجال؛ لأن امتناع وجوب الحد على المرأة ليس لعدم الأهلية؛ لأنها من أهل التكليف، بل لعدم المحاربة منها، أو نقصانها عادة، وهذا لم يوجد في الرجال، فلا يمتنع وجوب الحد عليهم (1). لكن نص ابن عابدين في حاشيته (232/ 3) على أن المرأة كالرجل في الحرابة في ظاهر الرواية، إلا أنها لاتصلب.
ولم يفرق الجمهور بين الرجل والأنثى، فيقام حد الحرابة على جميع المكلفين
_________
(1) البدائع: 91/ 7،المبسوط: 197/ 9، مختصر الطحاوي: ص 277.

(7/5465)


الملتزمين ولو أنثى، الذين يعرضون للناس بسلاح أو غيره، فيغصبون مالاً محترماً مجاهرة (1).

شروط المقطوع عليه:
يشترط في المقطوع عليه أمران:
1 - أن يكون مسلماً أو ذمياً: فإن كان حربياً مستأمناً، لا حد على القاطع؛ لأن عصمة مال المستأمن ليست عصمة مطلقة، وإنما فيها شبهة الإباحة.
2 - أن تكون يده صحيحة: بأن كانت يد ملك أو يد أمانة أو يد ضمان، فإن لم تكن كذلك كيد السارق، لم يجب الحد على القاطع (2).

شروط القاطع والمقطوع عليه جميعا ً:
يشترط ألا يكون في القطاع ذو رحم محرم من المقطوع عليهم، فإن كان أحدهم ذا رحم من المقطوع عليهم لا يجب الحد على القطاع؛ لأنه يوجد بينهم قريب للمقطوع عليهم. والسبب في منع الحد: هو أنه يكون عادة بين هذا القريب وبين المقطوع عليه تبسط في المال والحرز، لوجود الإذن بالتناول عادة.
واختلف الحنفية مع بقية المذاهب في هذا الشرط، وفي اشتراط الذكورة في القاطع، وفي اشتراك الصبي أو المجنون مع القطاع.
فقال الحنفية كما تقدم: يشترط كون القطاع كلهم أجانب مكلفين ذكوراً، حتى إذا كان أحدهم ذا رحم محرم أو صبياً أو مجنوناً، لا يجب عليهم القطع عند
_________
(1) غاية المنتهى: 344/ 3، القوانين الفقهية: ص 362، المهذب: 284/ 2.
(2) البدائع، المرجع السابق.

(7/5466)


أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الحد عقوبة، فتستدعي جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية، كما سبق بيانه، وأما المرأة: فلا يتحقق منها قطع الطريق لضعفها.
وقال أبو يوسف: العبرة بمباشرة القطع، فإذا باشرت المرأة القطع حد الرجل كما تبين، ولا تحد المرأة، فإن قتلت أحداً تقتل قصاصاً، لا حداً، فيجوز لولي القتيل العفو عن القصاص.
وإذا باشر الصبي أو المجنون القطع لا يحد أحد، وإن كانت المباشرة من غيرهما، فيحد العقلاء البالغون، ولا يحد الصبي أو المجنون. ودليله أن القطع هو الأصل في قطع الطريق، والإعانة كالتابع، فإذا وليه الصبي، فقد أتى بالأصل، فإذا لم يجب القطع بالأصل، فكيف يجب بالتابع، فإذا وليه البالغ فقد حصل الأصل منه (1).
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: لا يسقط حد القطع عن قطاع الطرق إذا كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه؛ لأن وجود هؤلاء شبهة اختص بها واحد، فلم يسقط الحد عن الباقين، كما لو اشتركوا في وطء المرأة. وعلى هذا فلا حد على الصبي والمجنون وإن باشر القتل وأخذ المال؛ لأنهما ليسا من أهل الحدود، وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما، ودية قتيلهما على عاقلتهما، أي أقاربهما من العصبات.
وأما المرأة إذا كانت مشتركة مع القطاع، فيثبت في حقها حكم المحاربة؛ لأنها تحد في السرقة، فيلزمها حكم المحاربة كالرجل، وتقتل حداً إن قتلت، وأخذت المال (2).
_________
(1) البدائع: 67/ 7، 91، فتح القدير: 273/ 4، تبيين الحقائق: 239/ 3، المبسوط: 203/ 9.
(2) حاشية الدسوقي: 348/ 4، مغني المحتاج: 180/ 4، الميزان: 169/ 2، المغني: 297/ 8.

(7/5467)


حكم الردء:
اختلف العلماء أيضاً في الردء، أي العون:
فقال الحنفية والمالكية والحنابلة: إذا اجتمع محاربون، فباشر بعضهم القتل والأخذ، وكان بعضهم ردءاً، كان للردء حكم المحاربين في جميع الأحوال، اكتفاء بوجود المحاربة، سواء باشر بعضهم القتل أم لم يباشر (1).
وقال الشافعية: لا يجب على الردء بأن كثَّر جمعهم فقط، ولم يزد على ذلك، غير التعزير بالحبس والتغريب ونحوهما؛ لأن المدار في المحاربة على المباشر، لا على من كان ردءاً له (2).

شروط المقطوع له:
المقطوع له: أي من أجله وهو المال: يشترط فيه الشروط نفسها التي ذكرت في المسروق، وموجزها: أن يكون المأخوذ مالاً، متقوماً، معصوماً، ليس لأحد فيه حق الأخذ، ولا تأويل التناول، ولا تهمة التناول، مملوكاً لا ملك فيه للقاطع، ولا تأويل الملك، ولا شبهة الملك، محرزاً مطلقاً، ليس فيه شبهة الإباحة، نصاباً كاملاً: عشرة دراهم، أو مقدراً بها، لكل من القاطعين (3).

شروط المقطوع فيه:
المقطوع فيه وهو المكان، يشترط فيه ثلاثة شروط:
_________
(1) المراجع السابقة، فتح القدير: 271/ 4، القوانين الفقهية: ص 362.
(2) مغني المحتاج: 182/ 4، المهذب: 285/ 2.
(3) البدائع: 92/ 7.

(7/5468)


1 - أن يكون قطع الطريق في دار الإسلام، فإن كان في دار الحرب لا يجب الحد، لعدم ولاية الإمام في دار الحرب، فلا قدرة له على إقامة الحد.
2 - أن يكون القطع عند متقدمي الحنفية خارج المصر. واختلف العلماء في تحقق قطع الطريق في داخل المصر. فقال أبو حنيفة ومحمد وظاهر كلام أحمد: لا يثبت حكم القطع إلا أن يكون خارج المصر؛ لأن القطع لا يحصل بدون الانقطاع، والطريق لا ينقطع في الأمصار وفيما بين القرى؛ لأن الناس يغيثون المقطوع عليه في كثير من الأحيان، فكان القطع في المصر بالغصب أشبه، فعليه التعزير ورد ما أخذ من مستحقه، وهذا أخذ بمقتضى الاستحسان (1). وهوظاهر الرواية عند الحنفية، لكن المفتى به خلافه كما سأبين.
وقال أبو يوسف والمالكية والشافعية، والحنابلة في المعتمد عندهم: يثبت حكم قطع الطريق داخل المصر، وخارجه على حد سواء. استدل أبو يوسف بمقتضى القياس: وهو أن سبب جوب الحد قد تحقق وهو قطع الطريق، فيجب الحد، كما لو كان في غير مصر.
قال ابن عابدين: أفتى المشايخ برواية أبي يوسف التي تقتضي بأن الحرابة تقع في المصر ليلاً أو نهاراً بسلاح أو بدونه دفعاً لشر المتغلبة المفسدين (2).
واستدل الجمهور بنحوه، فقالوا: إن محاربة شرع الله عز وجل وتعدي حدوده لا يختلف تحريمها بكونها خارج المصر، أو داخله كغيرها من سائر المعاصي من زنا وشرب خمر وغيرهما (3).
_________
(1) المرجع السابق، المبسوط: 201/ 9، الهداية مع فتح القدير: 274/ 4.
(2) رد المحتار: 232/ 3، وانظر أيضاً: 815/ 1.
(3) حاشية الدسوقي: 348/ 4، القوانين الفقهية: ص 362، بداية المجتهد: 445/ 2، مغني المحتاج: 181/ 4، المغني: 287/ 8، المهذب: 284/ 2.

(7/5469)


إلا أن الشافعية قالوا: يشترط في قاطع الطريق أن يكون له شوكة، أي قدرة وقوة مغالبة لغيره، ولا يشترط العدد. والمغالبة: إنما تتأتى بالبعد عن العمران، لا بالقرب منه، بحيث لو قال الشخص: ياغوثاه، أغاثه الناس، وتوجد المغالبة في المصر حال ضعف السلطان.
3 - أن يكون بينهم وبين المصر مسيرة سفر، فإن كان أقل منه لم يكونوا قطاع طرق، وهذا الشرط عند أبي حنيفة ومحمد، وأما عند أبي يوسف فليس بشرط. وقد بيّنت في الشرط السابق دليل كل منهم (1) وأن المفتى به هو رأي أبي يوسف.

المبحث الثالث ـ إثبات قطع الطريق:
يثبت قطع الطريق عند القاضي، إما بالبينة، وإما بالإقرار، بعد خصومة صحيحة أي (رفع الدعوى ممن له يد صحيحة) ولا يثبت بعلم القاضي، ولا بالنكول (2)، على حسب ما ذكر في السرقة. ويشترط عند الحنابلة وأبي يوسف تكرار الإقرا ر مرتين (3).

المبحث الرابع ـ أحكام قطاع الطرق (عقوباتهم):
اختلف العلماء في عقوبة قطع الطريق، هل العقوبات المذكورة في آية المحاربة على التخيير، أو مرتبة على قدر جناية المحارب؟.
فقال الحنفية والشافعية والحنابلة: إن حد قطاع الطريق على الترتيب المذكور
_________
(1) البدائع: 92/ 7.
(2) المرجع السابق: ص 93، والنكول: استنكاف الخصم عن حلف اليمين الموجهة إليه من القاضي.
(3) غاية المنتهى: 344/ 3.

(7/5470)


في الآية الكريمة السابق ذكرها؛ لأن الجزاء يجب أن يكون على قدر الجناية، ولكنهم اختلفوا في كيفية الترتيب:
فقال الحنفية: إن أخذوا المال، تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؛ وإن قتَلوا فقط قُتلوا؛ وإن قتلوا وأخذوا المال كان الإمام بالخيار: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم قتلهم، أو صلبهم، وإن شاء لم يقطع، وإنما يقتل أو يصلب.
وإن أخافوا الطريق فقط دون قتل، ولا أخذ للمال، ينفوا من الأرض، أي يحبسوا ويعزروا (1).
وما ذكر في الصورة الثالثة وهو (القتل وأخذ المال) هو رأي أبي حنيفة وزفر.
وقال الصاحبان: يقتل الإمام القاطع أو يصلبه، ولكن لا يقطعه؛ لأن الجناية وهي قطع الطريق واحدة، فلا توجب حدين، ولأن ما دون النفس في الحدود يدخل في النفس كحد السرقة والرجم إذا اجتمعا كما سأبين، فيقام حد الرجم فقط.
ورد أبو حنيفة وزفر على ذلك بأن هذه الجناية وإن كانت واحدة، فإن القطع والقتل أيضاً عقوبة واحدة، ولكنها مغلظة لتغلظ سببها، حيث إن قطع الطريق يخل بالأمن على النفس والمال معاً.
وقال الشافعية والحنابلة: إن أخذوا المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلوا ولم يصلبوا.
_________
(1) المبسوط: 195/ 9، البدائع: 93/ 7، فتح القدير: 270/ 4، تبيين الحقائق: 235/ 3، مختصر الطحاوي: ص 276، حاشية ابن عابدين: 233/ 3 وما بعدها.

(7/5471)


وإن قتلوا وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا.
وإن أخافوا، ينفوا من الأرض (1).
ودليلهم على هذا الترتيب: ما روي عن ابن عباس من قصة أبي بُرْدة الأسلمي بهذه الكيفية (2). فهم يخالفون الحنفية في الصورة الثالثة فقط.
وقال الإمام مالك (3): الأمر في عقوبة قطاع الطرق راجع إلى اجتهاد الإمام ونظره ومشورة الفقهاء بما يراه أتم للمصلحة وأدفع للفساد، وليس ذلك على هوى الإمام.
1 - فإن أخاف القاطع السبيل فقط كان الإمام مخيراً بين قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف أو نفيه وضربه، على التفصيل الآتي:
فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير والقوة، فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه؛ لأن القطع لا يدفع ضرره. وإن كان لا رأي له، وإنما هو ذو قوة وبأس، قطعه من خلاف. وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر عقاب فيه وهو الضرب والنفي.
2 - وأما إذا قتل، فلا بد من قتله، وليس للإمام تخيير في قطعه، ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه.
_________
(1) المهذب: 284/ 2، مغني المحتاج: 81/ 4 وما بعدها، المغني: 288/ 8، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 78.
(2) هذا أثر عن ابن عباس رواه الشافعي في مسنده وفي إسناده إبراهيم بن محمد أبي يحيى، وهو ضعيف، وأخرجه البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة:33/ 5] الآية، ورواه أحمد بن حنبل في تفسيره عن أبي معاوية عن حجاج عن عطية به نحوه. قال الشافعي: «واختلاف حدودهم باختلاف أفعالهم على ما قال ابن عباس إن شاء الله» (راجع التلخيص الحبير: ص 358 وما بعدها، نيل الأوطار: 152/ 7).
(3) المنتقى على الموطأ: 172/ 7، القوانين الفقهية: ص 363.

(7/5472)


3 - وأما إن أخذ المال، فلم يقتل، فالإمام مخير بين قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه، يفعل مما ذكر ما يراه نظراً ومصلحة ولا يحكم فيه بالهوى.
ودليله: أن حرف «أو» المذكور في آية المحاربة يقتضي في اللغة التخيير، مثل قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة} [المائدة:89/ 5] (1).
ويلاحظ أن الجمهور قالوا: إن «أو» للتنويع، فتكون العقوبة بحسب نوع الجناية كما تبين.

كيفية الصلب ووقته ومدته:
قال أبو يوسف والكرخي وهو الأصح في مذهب الحنفية، والراجح عند المالكية أيضاً: يصلب قاطع الطريق حياً، على خشبة تغرز في الأرض، بأن يربط جميعه بها بعد وضع قدميه على خشبة عريضة من الأسفل، وربط يديه على خشبة عريضة من الأعلى. ثم يقتل مصلوباً قبل نزوله بأن يطعن بالحربة؛ لأن الصلب عقوبة مشروعة تغليظاً، وإنما يعاقب الحي، أما الميت فليس من أهل العقوبة. وليس صلبه من قبيل المثْلة المنهي عنها؛ لأن المراد بها قطع بعض الجوارح (2).
وقال أشهب من المالكية والشافعية والحنابلة والطحاوي من الحنفية: الصلب يكون بعد القتل؛ لأن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظاً، وفي صلبه حياً تعذيب له وتمثيل به (3)، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن المثلة وعن تعذيب الحيوان، فقال:
_________
(1) راجع حاشية الدسوقي: 349/ 4، بداية المجتهد: 445/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 363.
(2) المبسوط: 196/ 9، فتح القدير: 271/ 4، البدائع: 95/ 7، والمراجع السابقة في أحكام القطاع.
(3) المراجع السابقة في بيان مذهب الشافعية والحنابلة، المنتقى على الموطأ: 172/ 7.

(7/5473)


«
إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة» (1). والغرض من صلبه بعد قتله هو التنكيل به، وزجر غيره ليشتهر أمره.
ومدة الصلب عند الجمهور: ثلاثة أيام، ولا يبقى أكثر من ذلك.
وقال الإمام أحمد: يصلب بقدر ما يقع عليه اسم الصلب. قال ابن قدامة: والصحيح توقيته بما ذكر الخرقي، وهو بقدر ما يشتهر أمره.

النفي:
النفي عند الحنفية: معناه الحبس؛ لأن فيه نفياً عن وجه الأرض، وخروجاً عن الدنيا مع قيام الحياة، إلا عن الموضع الذي حبس فيه، ومثل هذا في عرف الناس يسمى نفياً عن وجه الأرض، وخروجاً عن الدنيا، كما قال بعض المحبوسين:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها (2) ..... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة ..... عجبنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا
وأما التغريب ففيه إضرار ببلد آخر، وتمكين له من الهرب إلى دار الحرب، وتعريض للكفر (3).
_________
(1) أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن شداد بن أوس بلفظ: «إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» (راجع الجامع الصغير: 71/ 1، الأربعين النووية: ص 41، نيل الأوطار: 141/ 8).
(2) بتخفيف همزة «أهلها» بحيث تقرأ همزة وصل، لضرورة الشعر.
(3) المبسوط: 135/ 9 وما بعدها، تبيين الحقائق: 236/ 3، فتح القدير: 270/ 4، البدائع: 95/ 7.

(7/5474)


وقال المالكية: النفي أن يخرج من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر ويسجن فيه، إلى أن تظهر توبته. والمسافة بين البلدين: أقل ما تقصر فيه الصلاة (1). والنفي هنا هو بمعنى التغريب في حد الزنا، وهو الحبس في بلد آخر.
وقال الشافعية: النفي معناه أن يحبسهم الإمام مدة حتى تظهر توبتهم، أو يعزرهم بما يراه رادعاً لهم (2). أما التغريب في حد الزنا فمعناه: الإبعاد لبلد آخر كما تقدم.
وقال الحنابلة: النفي أن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى بلد. ودليلهم ما روي عن الحسن والزهري: أن النفي هو تشريدهم عن الأمصار والبلدان، فلا يتركون يأوون بلداً (3). وأما التغريب في حد الزنا فمعناه مثلما قال الشافعية.

صفة حكم قطع الطريق:
حد الحرابة: من حقوق الله الخالصة له، فيجري فيه التداخل ولا يحتمل العفو والإسقاط والإبراء والصلح عنه، على نحو ما بان في حد السرقة. وأما اجتماع الغرم والقطع ففيه خلاف بين العلماء:
اتفق الفقهاء على أنه إذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود الله تعالى، فإن كانت الأموال موجودة ردت إلى مالكها. وإن كانت تالفة أو معدومة، فقال الحنفية: لا يجمع بين الحد والضمان؛ لقوله عليه السلام: «إذا أقيم الحد على
_________
(1) حاشية الدسوقي: 349/ 4، القوانين الفقهية: ص 363، بداية المجتهد: 446/ 2، المنتقى على الموطأ: 173/ 7.
(2) مغني المحتاج: 181/ 4، المهذب: 284/ 2.
(3) المغني:294/ 8.

(7/5475)


السارق فلا غرم عليه» (1) ولأن التضمين يقتضي التمليك، والملك يمنع الحد، فلا يجمع بينهما (2).
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجتمع الحد والضمان كما في السرقة؛ لأن المال عين يجب ضمانها بالرد، لو كانت باقية، فيجب ضمانها إذا كانت تالفة، كما لو لم يقم عليه الحد، ولأن الحد والغرم حقان يجبان لمستحقين، فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك (3).

المبحث الخامس ـ ما يسقط حكم القطع، وما يترتب على عدم وجوب الحد أو سقوطه:
يسقط حكم قطع الطريق وهو الحد بعد وجوبه بأمور:
1 - تكذيب المقطوع عليه القاطع في إقراره بقطع الطريق.
2 - رجوع القاطع عن إقراره بقطع الطريق.
3 - تكذيب المقطوع عليه البينة.
4 - ملك القاطع الشيء المقطوع له وهو المال قبل الترافع أو بعده عند جمهور الحنفية خلافاً لغيرهم، على نحو ما ذكر في السرقة.
5 - توبة القاطع قبل قدرة السلطان عليه، لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من
_________
(1) اللفظ الصحيح لهذا الحديث المرسل هو: «لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد» وقد سبق تخريجه.
(2) البدائع: 95/ 7، فتح القدير: 271/ 4.
(3) حاشية الدسوقي: 350/ 4، مغني المحتاج: 182/ 4، المغني: 295/ 8، 298.

(7/5476)


قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة:34/ 5] وهذا باتفاق الأئمة (1).
ويترتب على سقوط الحد بالتوبة، أو على عدم وجوب الحد لمانع بأن فات شرط من شروط الحد السابق ذكرها كنقصان النصاب: أنه إذا كان المال موجوداً يجب رده إلى صاحبه، وإن كان هالكاً أو مستهلكاً يجب الضمان.
فإن قتلوا بسلاح يجب القصاص عند الحنفية، وإن قتلوا بعصا أو حجر، فعلى عاقلة القاتل الدية لورثة المقتول، ويجب القصاص عند الجمهور في القتل العمد، سواء أكان بسلاح أم بغيره.
وإن جرحوا، فالجراحات فيها القصاص فيما يمكن فيه القصاص، والأرش (أي الضمان) فيما لا يمكن (2).
_________
(1) البدائع: 96/ 7، المنتقى على الموطأ: 174/ 7.
(2) البدائع، المرجع السابق، فتح القدير: 271/ 4، المهذب: 285/ 2، القوانين الفقهية: ص363.

(7/5477)


.................... البغاة ..........................................
أولاً ـ تعريف البغي: البغي لغة: إما الطلب كما في قوله تعالى: {ماكنا نبغِ} [الكهف:64/ 18] أو التعدي. وهو في اصطلاح الفقهاء كما عرفه ابن عرفة المالكي: الامتناع من طاعة من تثبت إمامته في غير معصية بمغالبة، ولو تأولاً (1). والبغي حرام لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من نزع يده من طاعة إمامه، فإنه يأتي يوم القيامة، ولا حجة له، ومن مات وهو مفارق للجماعة، فإنه يموت ميتة جاهلية» (2)، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (3).
وعرف الحنفية البغاة: بأنهم قوم لهم شوكة ومنعة، خالفوا المسلمين في بعض الأحكام بالتأويل، وظهروا على بلدة من البلاد، وكانوا في عسكر، وأجروا
_________
(1) حاشية الدسوقي: 298/ 4.
(2) الأحاديث في هذا المعنى كثيرة: منها: ما أخرجه مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية .. » الحديث، ومنها: ما رواه الحاكم عن ابن عمر بلفظ: «من خرج من الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه، ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية» ومنها: ما رواه أحمد والشيخان عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً، فمات، فميتته جاهلية». وفي لفظ: «من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً، فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية» ومنها: ما روي عن أبي ذر ومعاوية وأبي الدرداء وغيرهم كثير (راجع جامع الأصول: 256/ 4، مجمع الزوائد: 219/ 5، 220، 224، نيل الأوطار: 171/ 7، 173).
(3) أخرجه أحمد والشيخان من حديث ابن عمر، وأبي موسى الأشعري، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وسلمة بن الأكوع. (راجع نيل الأوطار: 173/ 7، سبل السلام: 257/ 3).

(7/5478)


أحكامهم، كالخوارج وغيرهم. أما الخوارج أو الحرورية: فهم قوم خرجوا على علي واستحلوا دمه ودماء المسلمين وأموالهم وسبي نسائهم، وكفروا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورأوا أن كل ذنب كفر (1)، وكانوا متشددين في الدين تشدداً زائداً.
وأما غيرهم من البغاة فلم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم.
وعرف المالكية البغاة: بأنهم الذين يقاتلون على التأويل، مثل الطوائف الضالة كالخوارج وغيرهم، والذين يخرجون على الإمام، أو يمتنعون من الدخول في طاعته؛ أو يمنعون حقاً وجب عليهم كالزكاة وشبهها (2). وعرفهم الحنابلة بقولهم: هم الخارجون على إمام ولو غير عدل، بتأويل سائغ ولهم شوكة، ولو لم يكن فيهم مطاع. ويحرم الخروج على الإمام ولو غير عدل (3).

والفرق بين الباغي والمحارب: أن المحارب يخرج فسقاً وعصياناً على غير تأويل، والباغي: هو الذي يحارب على تأويل، فيقتل ويأخذ المال، وإذا أخذ الباغي ولم يتب، فإنه لا يقام عليه حد الحرابة، ولا يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسراً، إلا أن يوجد بيده شيء بعينه، فيرد إلى صاحبه (4). ويكون للبغاة قوة ومنعة في مكان يتحصنون فيه.
_________
(1) فتح القدير: 408/ 4 وما بعدها، تحفة الفقهاء: 251/ 3 الطبعة الأولى، حاشية ابن عابدين: 338/ 3.
(2) القوانين الفقهية: ص 363.
(3) غاية المنتهى: 348/ 3 وما بعدها.
(4) المقدمات الممهدات: 236/ 3.

(7/5479)


ثانياً ـ أحكام البغاة: 1) ـ قتالهم واستتابتهم:
إذا لم يكن للبغاة منعة، فللإمام أن يأخذهم ويحبسهم حتى يتوبوا.
وإن تأهبوا للقتال، وكان لهم منَعة (مكان محصن) وشوكة (سلاح)، يدعوهم الإمام إلى التزام الطاعة، ودار العدل، والرجوع إلى رأي الجماعة أولاً، كما يفعل مع أهل الحرب. فإن أبوا ذلك قاتلهم أهل العدل حتى يهزموهم ويقتلوهم، ويجوز قتل مدبريهم وأسراهم، والإجهاز على جريحهم عند الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء (1). ولا يبدؤهم الإمام بالقتال حتى يبدؤوه؛ لأن قتالهم لدفع شرهم. ودليل هذه الأحكام: هو قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين} [الحجرات:9/ 49] وقال صلّى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:
«إنك تقاتل على التأويل، كما تقاتل على التنزيل» (2).
ولا بأس أن يقاتل البغاة بسلاحهم، ويرتفق بخيولهم إن احتاج المسلمون إليه؛ لأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي أولى.
_________
(1) حاشية الدسوقي: 300/ 4، مغني المحتاج: 127/ 4، المغني: 114/ 8، الكتاب مع اللباب: 154/ 4 وما بعدها.
(2) رواه أحمد وإسناده حسن عن أبي سعيد الخدري قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» وفي رواية «إن منكم» ثم في بعض الروايات عين رسول الله صلّى الله عليه وسلم المقصود بهذا الخطاب، وهو سيدنا علي (راجع مجمع الزوائد: 244/ 6، 133/ 9).

(7/5480)


وأما أموالهم: فيحبسها عنهم الإمام إلى أن يزول بغيهم، فإذا زال ردها إليهم؛ لأن أموالهم لا
تحتمل التملك بالاستيلاء لكونهم مسلمين (1).

2) ـ ضمان ما أتلفوه من الأنفس والأموال:
قال الحنفية والمالكية والحنابلة، والشافعية في أظهر القولين عندهم: لايضمن البغاة المتأولون ما أتلفوه حال القتال من نفس ولا مال، بدليل ماروى الزهري، فقال: «كانت الفتنة العظمى بين الناس، وفيهم البدريون، فأجمعوا ـ أي في وقائعهم كوقعة الجمل وصفِّين ـ على ألا يقام حد على رجل استحل فرجاً حراماً بتأويل القرآن، ولا يقتل رجل سفك دماً حراماً بتأويل القرآن، ولا يغرم مال أتلفه بتأويل القرآن» (2)؛ ولأن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى كأهل العدل، ولأن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة، فلا يشرع كتضمين أهل الحرب.
واتفق العلماء أيضاً على أنه لا إثم ولا كفارة على أهل العدل بقتلهم أهل البغي، ولا يضمنون ما أتلفوه عليهم، لخبر الزهري السابق، ولأن العادل قد فعل ما أمر به، وقتل من أحل الله قتله، وأمر بمقاتلته. وكذلك الأموال مهدرة كالأنفس، لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس، فالأموال أولى (3).
وإذا أتلف البغاة أو العادلون مال بعضهم بعضاً، قبل تمكن المنعة للبغاة، أو
_________
(1) المبسوط: 124/ 10وما بعدها، البدائع: 140/ 7 ومابعدها، فتح القدير: 409/ 4 وما بعدها، تبيين الحقائق: 295/ 3، الكتاب مع اللباب: 155/ 4.
(2) ذكره أحمد في رواية الأثرم واحتج به (راجع نيل الأوطار: 169/ 7).
(3) المبسوط: 128/ 10، البدائع: 141/ 7، فتح القدير: 414/ 4، بداية المجتهد: 448/ 2، حاشية الدسوقي: 300/ 4، القوانين الفقهية: ص 364، المهذب: 220/ 2، مغني المحتاج: 125/ 4، المغني: 113/ 8،كشاف القناع:128/ 4، شرح مسلم للنووي: 170/ 7، غاية المنتهى: 351/ 3.

(7/5481)


بعد انهزامهم، فإنهم يضمنون ما أتلفوه من الأنفس والأموال، لأنهم حينئذ من أهل دار الإسلام، فتكون الأنفس والأموال معصومة.
وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر، لم يأخذه الإمام ثانياً؛ لأن ولاية الأخذ له باعتبار الحماية، ولم يحمهم. فإن صرف البغاة هذا المال في حقه، أجزأ من أخذ منه لوصول الحق إلى مستحقه، وإن لم يكونوا صرفوه في حقه، أفتي أهله فيما بينهم وبين الله تعالى أن يعيدوا دفعه؛ لأنه لم يصل إلى مستحقه (1).

3) ـ عقوبة جرائم البغاة:
إذا قطع البغاة الطريق على أهل العدل من المسافرين، فلا يجب عليهم الحد؛ لأنه يدعون إباحة أموالهم عن تأويل، ولهم منعة.
ولو سرق الباغي مال العادل لا يقطعه الإمام، لعدم ولايته على دار البغي، ولخبر الزهري السابق الذكر. وفي الجملة: لا تقام الحدود على البغاة عند الحنفية، لعدم ولاية الإمام على دار البغي. ويوافقهم المالكية والحنابلة في عدم ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال، ولا تقام عليهم الحدود (2).
وقال الشافعي: يقطع الباغي إذا أصاب شيئاً من أموال المسلمين، ولو في داره؛ لأنه جانٍ، فيستوي في حقه وجود المنعة وعدمها؛ لأن الجاني يستحق التغليظ دون الخفيف.
وإذا سرق الباغي مال العادل في دار الإسلام يقطع، وإن استحله؛ لأنه لا
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 156/ 4.
(2) القوانين الفقهية: ص 364، المغني: 113/ 8.

(7/5482)


منعة له (1). وفي الجملة: حكم البغاة عند الشافعية في ضمان النفس والمال والحد في غير حال الحرب حكم أهل العدل. وإن ارتكب الباغي جريمة القتل: الصحيح عندهم أنه لا يتحتم قتله، ويجوز العفو عنه، لقول علي بعد أن جرحه ابن ملجم: أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن عشت فأنا ولي دمه، أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت (2).

4) ـ الفرق بين قتال البغاة وقتال المشركين:
البغاة باتفاق أئمة المذاهب كما عرفنا: هم الذين يخرجون على الإمام يبغون خلعه، أو منع الدخول في طاعته، أو يبغون منع حق واجب بتأويل في ذلك كله. وبهذا التأويل يمتازون عن المحاربين.
ويفترق حكم قتالهم عن قتال المشركين بأحد عشر وجهاً عند المالكية كما أبان القرافي المالكي (3):
وهي أن يقصد بالقتال ردعهم لا قتلهم، ويكف عن مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسراهم، ولا تغنم أموالهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا يستعان على قتالهم بمشرك، ولا نوادعهم على مال، ولا تنصب عليهم الرعَّادات (المجانيق)، ولا تحرق عليهم البساتين، ولا يقطع شجرهم. والمعتمد في المذهب المالكي: أن للإمام أن يقاتل البغاة بالسيف والرمي بالنبل والمنجنيق والتغريق والتحريق وقطع الميرة (التموين) والماء عنهم إلا أن يكون فيهم نسوة أو ذراري، فلا نرميهم بالنار، ولا نسبي ذراريهم وأموالهم؛ لأنهم مسلمون.
_________
(1) البدائع: 141/ 7، تحفة الفقهاء: 252/ 3، المهذب: 221/ 2.
(2) المهذب: 221/ 2، مغني المحتاج: 129/ 4، 277/ 2 وما بعدها.
(3) الفروق: 171/ 4، وانظر أيضاً القوانين الفقهية: ص 364، الشرح الكبير: 299/ 4.

(7/5483)


وقتال الحربيين المشركين كقتال البغاة إلا في خمسة أوجه:
يقاتلون أي الحربيون مدبرين، ويجوز تعمد قتلهم، ويطالبون بما استهلكوا من دم أو مال في الحرب وغيرها، ويجوز حبس أسراهم لاستبراء أحوالهم، وما أخذوه من الخراج والزكاة لا يسقط عمن كان عليه كالغاصب إذا أخذ ذلك.

(7/5484)