الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الخامِس: حدّ الشُّرْب وحدّ السُّكْر والأشربة خطة الموضوع:
الكلام عن حد الشرب وحد السُّكْر بحسب اصطلاح الحنفية، ثم يأتي بيان رأي غيرهم، في المباحث الآتية:

المبحث الأول ـ تعريف حد الشرب وحد السكر، وضابط السكر وشروط الحد ومقدار الحد.
المبحث الثاني ـ أنواع الأشربة المحرمة والمباحة.
المبحث الثالث ـ أحكام الخمر.
المبحث الرابع ـ أحكام الأشربة المسكرة غير الخمر.
المبحث الخامس ـ إثبات الشرب.
المبحث السادس ـ مخاطر المخدرات وأحكامها في الإسلام.
المبحث الأول ـ تعريف حد الشرب وحد السكر، وضابط السُّكْر وشروط الحد ومقدار الحد:
اعتبر الحنفية لشرب الأشربة المحرمة نوعين من الحد، وهما حد الشرب وحد

(7/5485)


السكر، أما حد الشرب: فهو الذي يجب بشرب الخمر خاصة، حتى يجب الحد بشرب قليلها وكثيرها، ولا يتوقف الوجوب على حصول السكر منها. قال صلّى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه .. » (1) والخمر كما سأبين: ماء العنب النيء المتخمر، وسميت الخمر خمراً إما لأنها تخمر العقل، أي تستره، وإما لأنها تخامر العقل، أي تخالطه، وإما لأنها تخمر نفسها لئلا يقع فيها شيء يفسدها.
وأما حد السكر: فهو الذي يجب عند السكر الحاصل بشرب ما سوى الخمر من الأشربة المعهودة المسكرة (2)، التي سيأتي بيانها.
ولم يفرق جمهور الفقهاء بين شرب الخمر وغيرها، فقالوا: كل شراب أسكر كثيره، فقليله حرام، وهو خمر، حكمه حكم عصير العنب في تحريمه، ووجوب الحد على شاربه (3)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» (4).
_________
(1) روي عن اثني عشر صحابياً: وهم أبو هريرة، ومعاوية، وابن عمر، وقبيصة بن ذؤيب، وجابر، والشريد بن سويد، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمرو، وجرير بن عبد الله البجلي، وابن مسعود، وشرحبيل بن أوس، وغطيف بن الحارث. فحديث أبي هريرة أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي، وحديث معاوية أخرجوه إلا النسائي، وحديث ابن عمر وجابر أخرجهما النسائي، وحديث قبيصة رواه أبو داود، وحديث الخدري رواه ابن حبان، وحديث غطيف رواه البزار، وأحاديث الصحابة الآخرين رواها الحاكم، فهو متواتر (راجع نصب الراية: 346/ 3 وما بعدها، جامع الأصول: 333/ 4 وما بعدها، مجمع الزوائد: 277/ 6، نيل الأوطار: 146/ 7).
(2) البدائع: 39/ 7، تبيين الحقائق: 195/ 3، فتح القدير: 178/ 4.
(3) بداية المجتهد: 434/ 2، مغني المحتاج: 187/ 4، المغني: 304/ 8، المهذب: 286/ 2، المنتقى على الموطأ: 147/ 3.
(4) رواه بهذا اللفظ مسلم والدارقطني عن ابن عمر، ورواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه بلفظ: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» وكذلك رواه ابن حبان وعبد الرزاق والدارقطني. وروي عن صحابة آخرين مثل أنس بن مالك وعمر بن الخطاب، وقرة بن إياس، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وميمونة، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم، حتى إنه بلغ رواة هذا الحديث ستة وعشرين صحابياً أحصيناها في تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 449/ 3، فهو متواتر (وراجع أيضاً نصب الراية: 295/ 4، التلخيص الحبير: ص 359، مجمع الزوائد: 57/ 5، نيل الأوطار: 173/ 8).

(7/5486)


ضابط السُكْر: قال أبو حنيفة: إن السكر الذي يتعلق به وجوب الحد، والحرمة: هو الذي يزيل العقل، بحيث لا يفهم السكران شيئاً، ولا يعقل منطقاً، ولا يفرق بين الرجل والمرأة، والأرض من السماء؛ لأن الحدود يؤخذ في أسبابها بأقصاها درءاً للحد، لقوله عليه السلام: «ادرؤوا الحدود بالشبهات». وبناء عليه اعتبر غاية السكر وأكمله هو الموجب للحد.
وقال الصاحبان وباقي الأئمة: السكران هو الذي يكون غالب كلامه الهذيان، واختلاط الكلام؛ لأنه هو السكران في عرف الناس وعادتهم، فإن السكران في متعارف الناس اسم لمن هذى وخلط في كلامه، ولا يعرف ثوبه من ثوب غيره، ولا نعله من نعل غيره.
وقول الصاحبين مال إليه أكثر المشايخ، وعليه الفتوى كما صرح صاحب تنوير الأبصار وغيره (1)، وهو رأي غير الحنفية.

شروط الحد:
يشترط لحد المسكرات شروط ثمانية (2) وهي:
الأول ـ أن يكون الشارب عاقلاً: فلا يحد المجنون.
الثاني ـ أن يكون بالغاً: فلا يحد الصغير.
_________
(1) مختصر الطحاوي: ص 278، فتح القدير: 187/ 4، البدائع: 118/ 5، حاشية ابن عابدين: 181/ 3.
(2) القوانين الفقهية: ص 361، اللباب مع الكتاب: 193/ 3، المهذب: 286/ 2، المغني: 308/ 8، غاية المنتهى: 330/ 3.

(7/5487)


الثالث ـ أن يكون مسلماً: فلا حد على الكافر في شرب الخمر، ولا يمنع منه.
الرابع ـ أن يكون مختاراً غير مكره.
الخامس ـ ألا يضطر إلى شربه لغصة.
السادس ـ أن يعلم أنه خمر: فإن شربه وهو يظنه شراباً آخر، فلا حد عليه.
السابع ـ أن يعلم أن الخمر محرمة، فإن ادعى أنه لا يعلم ذلك، فاختلف المالكية، هل يقبل قوله أو لا. وقال غيرهم: لا تقبل دعوى الجهل ممن نشأ بين المسلمين.
الثامن ـ أن يكون مذهبه تحريم ما شرب: فإن شرب النبيذ من يرى أنه حلال، فاختلف العلماء: هل عليه حد أو لا. وذكر الحنابلة أن الحد على المسكرات إنما يلزم من شربها إذا كان عالماً أن كثيرها يسكر، فأما غيره فلا حد عليه؛ لأنه غير عالم بتحريمها، ولا قاصد إلى ارتكاب المعصية بها، فأشبه من زفت إليه غير زوجته. وهذا قول عامة أهل العلم.

مقدار الحد:
قال جمهور الفقهاء: حد الشرب والسكر ثمانون جلدة (1)، لقول علي رضي الله عنه: «إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد
_________
(1) فتح القدير: 185/ 4، البدائع: 113/ 5، تبيين الحقائق: 198/ 3، بداية المجتهد: 435/ 2، حاشية الدسوقي: 353/ 4، المنتقى على الموطأ: 143/ 3، القوانين الفقهية: ص361، المغني: 304/ 8، نيل الأوطار: 144/ 7.

(7/5488)


المفتري ثمانون» (1) ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً (2).
وقال الشافعية: حد الخمر وسائر المسكرات أربعون جلدة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يعين في ذلك حداً، وإنما كان يضرب السكران ضرباً غير محدود، كما روى أبو هريرة (3)، فقدروه بأربعين. وروى أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين» (4). وقال علي كرم الله وجهه: «جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌ سنة، وهذا أحب إلي» (5). هذا وقد حرمت الخمر سنة ثمان من الهجرة، كما استظهره الحافظ ابن حجر في فتح الباري. ويضرب في حد الخمر بالأيدي والنعال وأطراف الثياب،
_________
(1) رواه الدارقطني ومالك بمعناه والشافعي عنه عن ثور بن زيد الديلي رحمه الله، وهو منقطع؛ لأن ثوراً لم يلحق عمر بلا خلاف. ولكن وصله النسائي والحاكم من وجه آخر عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه عبد الرزاق عن عكرمة، ولم يذكر ابن عباس (راجع جامع الأصول: 331/ 4،التلخيص الحبير: ص 360، نيل الأوطار: 144/ 7، وانظر في نصب الراية: 351/ 3 حديث السائب بن يزيد وغيره في موضوعه).
(2) إن دعوى الإجماع غير مسلَّمة، فقد اختلف الصحابة في حد الخمر قبل إمارة سيدنا عمر وبعدها، ولم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام مقدار معين (نيل الأوطار: 142/ 7).
(3) رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة، قال: أتي النبي صلّى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: اضربوه، فقال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله. قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان (راجع نيل الأوطار: 138/ 7) ويؤيده حديث سيأتي تخريجه عن علي في ضمان موت الذي يعزر.
(4) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدة نحو أربعين ... الحديث. وفي رواية «فجلد بجريدتين نحو أربعين» قال: وفعله أبو بكر. والجريد: سعف النخل (راجع جامع الأصول: 330/ 4، نيل الأوطار: 138/ 7، التلخيص الحبير: ص 360).
(5) رواه مسلم من حديث حصين بن المنذر من قول علي (راجع نيل الأوطار: 138/ 7 ومابعدها، التلخيص الحبير: ص 360) وراجع في الفقه: مغني المحتاج: 189/ 4، المهذب: 286/ 2 وما بعدها، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 105.
على ظاهر النص، لحديث أبي هريرة المتقدم. والسوط الذي يضرب به: سوط بين سوطين، ولا يمد ولا يجرد، ولا تشد يده؛ لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «ليس في هذه الأمة مد ولا تجريد، ولا غَل، ولا صفد» وقد سبق تخريجه.

(7/5489)


المبحث الثاني ـ أنواع الأشربة:
أولاً ـ الأشربة المحرمة: سبعة وهي (1):
1 - الخمر: هو اسم للنيء (أي غير النضيج أو الذي لم تمسه النار) من ماء العنب بعد ما غلى، واشتد وقذف بالزبد (أي الرغوة)، وسكن عن الغليان، وصار صافياً. وهذا التعريف هو مذهب أبي حنيفة؛ لأن معنى الإسكار لا يتكامل إلا بالقذف بالزبد، فلا يصير خمراً بدونه.
وقال الصاحبان والأئمة الثلاثة: إذا غلى واشتد فهو خمر، وإن لم يسكن عن الغليان؛ لأن معنى الإسكار يتحقق بدون القذف بالزبد، وهذا هو الأظهر عند الحنفية، سداً لباب الفساد أمام العوام.
ويحرم وينجس عصير غلى، أو أتى عليه ثلاثة أيام بلياليهن. ودليل تحريم الخمر وحكمة التحريم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة:90/ 5 - 91] وقد نزلت هذه الآية في
_________
(1) راجع نتائج الأفكار تكملة فتح القدير: 152/ 8 وما بعدها، البدائع: 112/ 5، حاشية ابن عابدين: 318/ 5 وما بعدها، المبسوط: 13/ 24 وما بعدها.

(7/5490)


المرحلة الرابعة من مراحل التدرج في تشريع الخمر، التي كان أولها: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكَراً ورزقاً حسناً} [النحل:16/ 67] وثانيها: {يسألونك عن الخمر والميسر، قل: فيهما إثم كبير} [البقرة:219/ 2] وثالثها: {لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ماتقولون} [النساء:43/ 4] والحكمة واضحة: وهي دفع الضرر والفساد عن الناس، فالخمر أم الخبائث.

2 - السَّكَر: هونقيع التمر الطري الذي لم تمسه النار، أو هو النيء من ماء الرطب (1) إذ غلى واشتد وقذف بالزبد، وسكن غليانه عند أبي حنيفة.
وعند الصاحبين والأئمة الآخرين: إذا غلى، ولم يسكن غليانه، على الخلاف السابق. ونبيذ التمر إذا لم يطبخ هو السَّكَر كما حقق قاضي زاده في نتائج الأفكار.

3 - الفضيخ: هو اسم للنيء من ماء البُسْر (2) اليابس إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، أو لم يقذف، على الاختلاف السابق. وسمي فضيخاً؛ لأنه يفضخ أي يكسر ويرض.
4 - نقيع الزبيب: هو اسم للنيء من ماء الزبيب المنقوع في الماء حتى خرجت حلاوته، من غير طبخ، واشتد وقذف بالزبد، أو لم يقذف، على الخلاف السابق.
_________
(1) الرطب: ثمر النخيل إذا أدرك ونضج قبل أن يتتمر (المصباح المنير) والبلح أول ما يرطب من البسر. وهكذا يكون أول ثمر النخيل: طَلْع، ثم خَلاَل، ثم بلَح، ثم بُسْر، ثم رُطَب، ثم تَمْر. والزهو: البُسْر الملون، يقال: إذا ظهرت الحمرة والصفرة في النخل، فقد ظهر فيه الزهو.
(2) البسر: ما قد أزهى من ثمر النخل، ولم يبد فيه إرطاب، والرطب ما قد جاوز حد البسر إلى الإرطاب، والتمر اسم جنس يتناول اليابس والرطب والبسر (المصباح المنير، المنتقى على الموطأ: 149/ 3).

(7/5491)


5 - الطلاء أو المثلَّث: هو اسم للمطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وصار مسكراً على ما هو الصواب عند الحنفية، فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا قصد بشر به اللهو والطرب، كما عليه حال الأغلبية الساحقة من الشاربين، فإن قصد بشربه التقوية أو التداوي، وهذا نادر، فيباح شربه عندهما. ويحرم مطلقاً عند الصاحبين وباقي الأئمة.
6 - الباذَق أو المنصَّف: هو المطبوخ أدنى طبخة من ماء العنب حتى ذهب أقل من الثلثين، سواء أكان أقل من الثلث أم النصف، وصار مسكراً. والدليل على أن الزائد على الثلث حرام: هو ما ثبت عن سيدنا عمر أنه أحل ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فما لم يذهب ثلثاه، فالقوة المسكرة فيه قائمة.
7 - الجمهوري: هو الطلاء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق ويعود إلى المقدار الذي كان في الأصل، ثم طبخ أدنى طبخة، وصار مسكراً، فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا قصد بشر به اللهو، ويحرم مطلقاً عند الصاحبين وبقية الأئمة.
ثانياً ـ الأشربة الحلال في رأي ضعيف هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف: أربعة إذا كان القصد من شربها التقوي واستمراء الطعام والتداوي، وهي ما يأتي (1):
1 - نبيذ التمر والزبيب إن طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة: وهو أن يطبخ إلى أن ينضج أي أن يطبخ طبخاً يسيراً، وحكمه أنه يحل شربه وإن اشتد إذا شرب منه بلا لهو ولا طرب، وما لم يسكر. فلو شرب ما يغلب على ظنه أنه مسكر فيحرم القدح الأخير الذي يسكر بشربه؛ لأن السكر حرام من كل شراب.
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 322/ 3.

(7/5492)


2 - الخليطان من الزبيب والتمر إذا طبخ أدنى طبخة، وإن اشتد: يحل شربه بلا لهو، كأن يكون بقصد التقوي أو استمراء الطعام.
3 - نبيذ العسل والتين والبُر والذرة: يحل سواء طبخ أو لا، بلا لهو وطرب. ويسمى نبيذ العسل (البِتْع) إذا صار مسكراً. ويسمى نبيذ الحنطة والشعير (الجِعَة) إذا صار مسكراً. ويسمى نبيد الذرة (المِرز) إذا صار مسكراً، وهي مع ذلك حلال عند أبي حنيفة فيما دون الإسكار (1)، كما سيأتي بيانه.
4 - الطلاء أو المثلث العنبي وإن اشتد: وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه: يحل شربه إذا قصد به استمراء الطعام والتداوي والتقوي على طاعة الله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما.
والرأي المختار عند الحنفية في حكم شرب هذه الأنواع الأربعة: هو الحرمة مطلقاً، عملاً برأي محمد، كما سيبين.

المبحث الثالث ـ أحكام الخمر:
يتعلق بالخمر الأحكام التالية (2):

1 - يحرم شرب قليلها وكثيرها إلا عند الضرورة؛ لأنها محرمة العين. قال الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان} [المائدة:90/ 5] فوصفها الحق تعالى بكونها رجساً، فيدل على أنها محرمة في نفسها.
_________
(1) البدائع: 117/ 5.
(2) المبسوط: 2/ 24 وما بعدها، البدائع: 112/ 5 ومابعدها، نتائج الأفكار: 155/ 8 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 319/ 5، القوانين الفقهية: ص 361، المهذب: 286/ 2 وما بعدها، المغني: 304/ 8 وما بعدها.

(7/5493)


وقال عليه الصلاة والسلام: «حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها، والسَكَر من كل شراب» (1).
إلا أنه رخص في شربها عند ضرورة العطش أو الإكراه قدر ما تندفع به الضرورة.

ولا يجوز الانتفاع بها للتداوي وغيره؛ لأن الله تعالى لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا، قال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حَرَّم عليكم» (2) فإنه دل على تحريم التداوي بما حرم الله تعالى، وأنه لم يجعل الشفاء فيه، ولما كانت الخمر محرمة، دل على تحريم التداوي بها.
ويحرم على الرجل أن يسقي الصبيان الخمر، فإذا سقاهم، فالإثم عليه في الشرب، دون الصغير؛ لأن خطاب التحريم موجه إليه. قال عليه الصلاة والسلام: «شارب الخمر كعابد الوثن» (3) وقال صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «الخمر أم الخبائث» (4)
_________
(1) رواه العقيلي من حديث علي بلفظ: «حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» ويروى: «لعينها» وهو معلول بمحمد بن الفرات وأخرجه النسائي موقوفاً على ابن عباس باللفظ المذكور في الصلب هنا. ورواه البزار موقوفاً أيضاً، وكذلك أخرجه الطبراني في معجمه موقوفاً على ابن عباس، وأخرجه عنه من طريق ابن المسيب مرفوعاً نحوه، وأخرجه أبو نعيم في الحلية. وأخرجه الدارقطني في سننه عن ابن عباس موقوفاً، وقال: وهذا هو الصواب عن ابن عباس؛ لأنه قد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» (راجع نصب الراية: 306/ 4 وما بعدها، مجمع الزوائد: 53/ 5) والسكر: كل ما يسكر، ويطلق على نبيذ الرطب.
(2) أخرجه البيهقي وصححه ابن حبان، وأخرجه أحمد عن أم سلمة، وأخرجه البخاري تعليقاً عن ابن مسعود، وصححه السيوطي.
(3) رواه البزار عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ: «مدمن خمر كعابد وثن» وفي صحيح ابن حبان عن ابن عباس نحوه. ورواه أحمد والبزار والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح عن ابن عباس بلفظ: «مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد الوثن» (راجع نصب الراية: 298/ 4، مجمع الزوائد: 70/ 5، 74، نيل الأوطار: 169/ 8).
(4) رواه النسائي عن عثمان بن عفان موقوفاً، وكذا رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في سننه موقوفاً على عثمان، وهو أصح، قال: سمعت رسول الله يقول: «اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث» الحديث، وفيه قصة عن رجل قديم. وروى الطبراني عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، من شربها وقع على أمته وخالته وعمته» وفيه ضعيف (راجع نصب الراية: 297/ 4، مجمع الزوائد: 67/ 5، التلخيص الحبير: ص 360).

(7/5494)


وقال صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها» (1).

2 - يكفر مستحلها؛ لأن حرمتها ثبتت بدليل مقطوع به، وهو نص القرآن الكريم في الآية السابقة: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام (2) رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه، لعلكم تفلحون} [المائدة:90/ 5].
3 - يحرم على المسلم تمليكها بسائر أسباب الملك من البيع والشراء والهبة وغيرها؛ لأن كل ذلك انتفاع بالخمر، وإنها محرمة الانتفاع على المسلم. قال النبي عليه الصلاة والسلام: «يا أهل المدينة، إن الله تبارك وتعالى قد أنزل تحريم الخمر، فمن كتب هذه الآية، وعنده شيء منها، فلا يشربها، ولا يبيعها، فسكبوها في
_________
(1) رواه أبو داود عن ابن عمر، وصححه ابن السكن، ورواه ابن ماجه وزاد: «وآكل ثمنها» وفي موضوعه عن أنس بن مالك وزاد: «وعاصرها والمشتري لها والمشترى له» رواه الترمذي وابن ماجه ورواته ثقات. وعن ابن عباس رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وعن ابن مسعود ذكره ابن أبي حاتم في العلل، ورواه البزار والطبراني وفيه ضعيف. وعن أبي هريرة مرفوعاً: «إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه» رواه أبو داود، وعن عبد الله بن عمر (راجع التلخيص الحبير: ص 359، مجمع الزوائد: 73/ 5) وفي بعض ألفاظه: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخمر وشاربها ... الحديث».
(2) الميسر: القمار، قال مجاهد: كل شيء فيه قمار فهو ميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز. والأنصاب جمع نصب بفتح النون وضمها، وهوحجر أو صنم منصوب يذبحون عنده. والأزلام: القداح، واحدها زلم ـ بفتح الزاي وضمها ـ وهي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها على الميسر. والرجس: العذاب أو القذر والنتن، وسميت الأصنام رجساً لأنها سبب الرجس وهو العذاب.

(7/5495)


طرق المدينة» (1) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» (2)، إلا أنها تورث؛ لأن الملك في الموروث ثبت شرعاً من غير صنع العبد، فلا يكون ذلك من باب التمليك والتملك، والخمر إن لم تكن متقومة، فهي مال قابل للملك في الجملة.

4 - لا يضمن متلفها إذا كانت لمسلم؛ لأنها ليست متقومة في حق المسلم، وإن كانت مالاً في حقه.
5 - إنها نجسة نجاسة مغلظة، حتى إذا أصاب الثوب ـ في رأي الحنفية ـ أكثر من قدر الدرهم، يمنع جواز الصلاة؛ لأن الله تعالى سماها رجساً، فقال سبحانه: {رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة:90/ 5]. والظاهر أن المراد من كلمة (رجس) هو النجاسة المعنوية الشرعية (3)، إلا أن الأمر بالاجتناب يقتضي الابتعاد عن الخمر ابتعاداً شديداً، وقد حكم الجمهور بنجاسة الخمر وسائر المسكرات المائعة فوق تحريم شربها تنفيراً وتغليظاً، وزجراً عن الاقتراب منها (4)، يدل لنجاستها حديث أبي ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله، إنا بأرض أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: (إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم
_________
(1) الأحاديث في تحريم الخمر متواترة، منها: ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري بلفظ: «إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية، وعنده منها شيء، فلا يشرب ولا يبيع، قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة، فسفكوها» ومنها ما أخرجه الإمام أحمد عن عائشة: «كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام» والفَرق بإسكان الراء: مئة وعشرون رطلاً، وبفتحها ستة عشر رطلاً. ومنها ما أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان عن جابر: «ما أسكر كثيره، فقليله حرام». (راجع نيل الأوطار: 169/ 8، نصب الراية: 296/ 4 وما بعدها، مجمع الزوائد: 51/ 5، فيض القدير: 420/ 5).
(2) أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عباس، ورواه الحميدي في مسنده عن أبي هريرة (راجع نيل الأوطار، المرجع السابق).
(3) تفسير المنار: 58/ 7.
(4) الفقه على المذاهب الأربعة: 18/ 1، حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلي على المنهاج: 68/ 1.

(7/5496)


تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها). وفي رواية أبي داود: «إنا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن وجدتم غيرها فكلوا اشربوا، وإ ن لم تجدوا غيرها فارحضوها (اغسلوها) بالماء، وكلوا اشربوا» (1). قال الشوكاني: والأمر بغسل الآنية في حديث أبي ثعلبة ليس لتلوثها برطوباتهم بل لطبخهم الخنزير، وشربهم الخمر فيها.
ولو سقيت بهيمة خمراً ثم ذبحت، فإن ذبحت ساعة ما سقيت به تحل من غير كراهة؛ لأنها في أمعائها، فتطهر بالغسل، وإن مضى عليها يوم أو أكثر، تحل مع الكراهة عند الحنفية، لاحتمال أنها تفرقت في العروق والأعصاب.
ولو نقعت فيها الحنطة، ثم غسلت، حتى زال طعمها ورائحتها، يحل أكلها. وإن وجد فيها طعم الخمر ورائحتها، لا يحل أكلها.

6 - يحد شاربها قليلاً أو كثيراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (2) ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك (3).
_________
(1) أخرجه الدارقطني (نصب الراية: 95/ 1، نيل الأوطار: 19/ 1).
(2) روي عن تسعة من الصحابة: وهم عبد الله بن عمرو، وجابر، وسعد بن أبي وقاص، وعلي، وعائشة، وابن عمر، وخوات بن جبير، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، فحديث ابن عمرو رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما، وحديث جابر أخرجه الدارقطني وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان، وحديث عائشة أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، وحديث ابن عمر رواه إسحاق بن راهويه في مسنده والطبراني في معجمه، وحديث خوات بن جبير أخرجه الحاكم وغيره، وحديث سعد رواه النسائي والدارقطني، وحديث علي أخرجه الدارقطني، وحديث زيد رواه الطبراني في معجمه، وحديث أنس رواه أحمد وأبو يعلى وغيرهما فهو متواتر. (راجع نصب الراية: 301/ 4 وما بعدها، مجمع الزوائد: 56/ 5 وما بعدها، التلخيص الحبير: ص 359، سبل السلام: 35/ 4، نيل الأوطار: 179/ 8).
(3) تفسير المنار: 77/ 7.

(7/5497)


ولو شرب خمراً ممزوجاً بالماء: إن كانت الغلبة للخمر، يجب الحد، وإن غلب الماء عليها حتى زال طعمها وريحها لا يجب الحد، إلا أنه يحرم شرب الماء الممزوج بالخمر، لما فيه من أجزاء الخمر حقيقة.

7 - إن حد شرب الخمر وحد السكر مقدر بثمانين جلدة في الأحرار، لفعل الصحابة رضي الله عنهم، وقياسهم على حد القذف كما عرفنا، وهذا رأي الجمهور، وقال الشافعية: حد الخمر أو المسكر على الأحرار أربعون جلدة؛ لأن عثمان رضي الله عنه جلد الوليد بن عقبة أربعين، وقال علي: جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الخمرأربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سُنَّة (1).
8 - إذا تخللت الخمر بنفسها يحل شرب الخل بلا خلاف، لقوله عليه الصلاة والسلام: «نعم الإدام الخل» (2). ويعرف
التخلل بالتغير من المرارة إلى الحموضة بحيث لا يبقى فيها مرارة أصلاً عند أبي حنيفة، فلو بقي فيها بعض المرارة لا يحل؛ لأن الخمر عنده لا يصير خلاً إلا بعد تكامل معنى الخلِّية فيه، كما لا يصير خمراً إلا بعد تكامل معنى الخمرية.
وقال الصاحبان: تصير الخمر خلاً بظهور قليل الحموضة فيها، اكتفاء بظهور دليل الخلية فيه، كما أن الخمر تصير خمراً بظهور دليل الخمرية عندها.
أما إذا خلل الخمر صاحبها بإلقاء علاج فيها من خل أو ملح أو غيرهما، حتى صارت حامضاً، فيحل شربها، ويكون التخليل جائزاً عند الجمهور، قياساً على
_________
(1) أخرج البيهقي قصة جلد الوليد، وأخرج مسلم عن حصين بن المنذر قول علي كرم الله وجهه.
(2) رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن جابر بن عبد الله، وأخرجه مسلم والترمذي عن عائشة، وأخرجه الحاكم عن أم هانئ، ورواه البيهقي عن أم أيمن. وفي لفظ: «نعم الأدم الخل» (راجع نصب الراية: 310/ 4، المقاصد الحسنة: ص 447، الجامع الصغير: 188/ 2).

(7/5498)


دبغ الجلد، فإن الدباغ يطهره، ولقوله عليه السلام: «خير خلكم خل خمركم» (1) وقوله أيضاً: «نعم الإدام الخل» ولم يفصل بين تخلل الخمر بنفسها والتخليل، ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح مباح.
وإذا صارت الخمر خلاً يطهر ما يجاورها من الإناء، ويطهر أعلى الإناء إذا غسل بالخل. وقيل: يطهر تبعاً، وهو المفتى به (2).
وقال الشافعي: لا يحل التخليل بالعلاج، ولا تطهر الخمر حينئذ، لأننا مأمورون باجتنابها، فيكون التخليل اقتراباً من الخمر على وجه التمول، وهو مخالف للأمر بالاجتناب، ولأن الشيء المطروح في الخمر يتنجس بملاقاتها، فينجسها بعد انقلابها خلاً (3).
وإذا نقلت الخمر من الظل إلى الشمس أو بالعكس، فتخللت، تحل عند الجمهور، وكذا عند الشافعية في الأصح.

المبحث الرابع ـ أحكام الأشربة المسكرة غير الخمر:
هذه الأشربة ثلاث فئات:

الفئةالأولى ـ غير المطبوخ غالباً: وهو السَّكَر والفضيح النيء والباذق المطبوخ ونقيع الزبيب والتمر من غير طبخ: _________
(1) رواه البيهقي في المعرفة عن جابر وقال: تفرد به المغيرة بن زياد، وليس بالقوي. ويلاحظ أن أهل الحجاز يسمون خل العنب خل الخمر (راجع نصب الراية: 311/ 4).
(2) المبسوط: 7/ 24، البدائع: 113/ 5 وما بعدها، نتائج الأفكار: 166/ 8، حاشية ابن عابدين: 320/ 5.
(3) حاشية قليوبي وعميرة على شرح الجلال المحلي على المنهاج للنووي: 72/ 1.

(7/5499)


أي نقيع التمر إذا اشتد وقذف بالزبد أو الذي طبخ من ماء العنب، فذهب أقل من ثلثيه، ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ، فهذه هي الفئة الأولى التي يتعلق بها الأحكام التالية (1):
1 - يحرم شرب قليلها وكثيرها باتفاق العلماء، لقوله عليه السلام: «الخمر من هاتين الشجرتين» (2). وأشار إلى النخلة والعنبة، وهذه الفئة إما من التمر أو من العنب، ولأنه إذا ذهب أقل من الثلثين بالطبخ، فالحرام فيه باق، وهو مازاد على الثلث.
2 - لا يكفر مستحلها، ولكن يضلل؛ لأن حرمتها دون حرمة الخمر، لثبوتها بدليل غير مقطوع به من أخبار الآحاد، وآثار الصحابة رضي الله عنهم.
3 - لا يحد عند الحنفية بشرب قليلها، وإنما يجب الحد بالسُّكر منها؛ لأن نص الحديث السابق: «والسَكَر من كل شراب» حرم السكر وجعله كحرمة الخمر، والمعاني التي حرم من أجلها الخمر في قوله تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون} [المائدة:91/ 5] هذه المعاني تحصل بالسكر من كل شراب. لهذا قال علي رضي الله عنه: «فيما أسكر من النبيذ ثمانون، وفي الخمر قليلها وكثيرها ثمانون».
4 - مقدار الحد: ثمانون جلدة عند الجمهور كما عرفنا، وأربعون جلدة عند الشافعية.
_________
(1) البدائع: 114/ 5 وما بعدها، نتائج الأفكار: 158/ 8 وما بعدها، المبسوط: 4/ 24.
(2) أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة أي الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة» (راجع نصب الراية: 295/ 4، نيل الأوطار: 172/ 8).

(7/5500)


5 - يحرم التداوي بها، سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن التداوي بالمسكر، فقال: «إن الله تبارك وتعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (1).
6 - يجوز بيعها عند أبي حنيفة مع الكراهة، ويضمن متلفها؛ لأن البيع مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه، وهذه الأشربة مرغوب فيها، إلا أن الخمر مع كونها مرغوباً فيها لا يجوز بيعها بنص الحديث السابق: «يا أهل المدينة، إن الله تبارك وتعالى قد أنزل تحريم الخمر، فمن كتب هذه الآية، وعنده شيء منها، فلا يشربها ولا يبيعها» والنص ورد في الخمر، فيقتصر على مورد النص.
وأيضاً لأن الأخبار تعارضت في هذه الأشربة في الحل والحرمة، قال أبو حنيفة بحرمة شربها احتياطاً، ولكن لا تبطل ماليتها احتياطاً؛ لأن الاحتياط لايجري في إبطال حقوق الناس.
وقال الصاحبان: لا يجوز بيعها أصلاً، ولا يضمن متلفها، لعدم كونها مالاً متقوماً؛ لأن المال المتقوم: هو ما يباح الانتفاع به حقيقةً وشرعاً، وهي لا يباح الانتفاع بها.
7 - في نجاستها روايتان عن أبي حنيفة: رواية راجحة تعتبر نجاستها مغلظة كنجاسة الخمر؛ لأنه يحرم شرب قليلها وكثيرها، فلا يعفى عنها أكثر من قدر
_________
(1) رواه عبد الرزاق والطبراني في معجمه وابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: «إن الله لم يكن ليجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» وذكره البخاري تعليقاً عن ابن مسعود، وأخرجه البيهقي وابن حبان وصححه، وأخرجه أيضاً أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم، وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام» وروى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان عن وائل بن حجر أن طارق بن سويد سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، قال: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء» (راجع نصب الراية: 299/ 4، التلخيص الحبير: ص 359، مجمع الزوائد: 72/ 5، نيل الأوطار: 203/ 8، سبل السلام: 36/ 4).

(7/5501)


الدرهم، ورواية تعتبر نجاستها مخففة فيعفى عنها ما دون ربع الثوب عند الحنفية؛ لأن نجاسة الخمر إنما ثبتت بالشرع، بقوله تعالى: {رجس} [المائدة:90/ 5] فتختص النجاسة باسم الخمر. وعن أبي يوسف: أن الكثير الفاحش: هو النجس؛ لأن حرمتها دون حرمة الخمر، واختار السرخسي أن نجاسة السكر ونقيع الزبيب مخففة، والمفتى به أن نجاستها
كالخمر (1).

الفئة الثانية ـ المطبوخ وهو المثلث (أو الطلاء) والجمهوري والمطبوخ من الزبيب والتمر أدنى طبخ:
أي أن عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه، ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ، وإن لم يذهب ثلثاه، فهذه هي الفئة الثانية.
المثلث: وهو المطبوخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي معتقاً، حكمه وحكم الجمهوري والمطبوخ من الزبيب والتمر أدنى طبخ، أي وإن لم يذهب ثلثاه: أنه يحل شرب القليل منه، ويحرم المسكر منه وهو القدح الأخير الذي يسكر، فإذا سكر يجب الحد، ويجوز بيعه وتمليكه ويضمن متلفه، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ودليلهما حديث وآثار: أما الحديث فهو ما روي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بنبيذ فشمه، فقطب وجهه لشدته، ثم دعا بماء، فصبه عليه وشرب منه (2).
_________
(1) نتائج الأفكار: 160/ 8، البدائع: 115/ 5، رد المحتار: 321/ 5.
(2) رواه الطبراني وفيه هود بن عطاب وهو ضعيف، ويؤيده ما رواه الطبراني عن المطلب بن أبي وداعة وفيه رجل ضعيف: أن النبي أتي بإناء فصب عليه الماء، حتى تدفق، ثم شرب منه، وروى العقيلي عن علي، قال: «طاف النبي صلّى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة أسبوعاً، ثم استند إلى حائط من حيطان مكة، فقال: هل من شربة؟ فأتي بقعب من نبيذ، فقطب، ورده، فقام إليه رجل من آل حاطب، فقال: يا رسول الله، هذا شراب أهل مكة، قال: فصب عليه الماء، ثم شرب، ثم قال: حرمت الخمر بعينها والسَّكَر من كل شيء» وأعله بمحمد بن الفرات وهو منكر الحديث (راجع نصب الراية: 306/ 4، مجمع الزوائد: 66/ 5).

(7/5502)


وأما الآثار، فمنها ماروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كان يشرب النبيذ الشديد، ومنها: ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه أضاف قوماً فسقاهم، فسكر بعضهم، فحده، فقال الرجل: تسقيني ثم تحدني؟ فقال علي: إنما أحدك للسُّكْر (1). والحقيقة أن هذا الخبر غير صحيح؛ لأن في سنده مدلساً وضعيفاً.
وقد اعتبر أبو حنيفة حل المثلث من علامة مذهب أهل السنة والجماعة، فقال: السنة أن تفضل الشيخين، وتحب الخَتَنين (أي الصهرين) وتمسح على الخفين، ولا تحرم نبيذ الجَرّ، أي المثلث أو الطلاء. والحل محصور في القليل منه أو إذا قصد به التقوي على الطاعة، أو التداوي، أو استمراء الطعام، أما إذا قصد به التلهي، فيحرم.
وقال محمد: لا يحل شرب هذين الشرابين، ولكن لا يجب الحد ما لم يسكر، لقوله عليه السلام: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وبرأيه يفتى عند الحنفية.
وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: كل شراب أسكر كثيره حرم قليله، وحد شاربه إذا كان مكلفاً مختاراً، لقوله عليه السلام: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» وقوله أيضاً «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره» وصحح الترمذي: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (2).
_________
(1) المبسوط: 15/ 24، البدائع: 116/ 5، نتائج الأفكار: 162/ 8 وهذا الحديث أخرجه الدارقطني في سننه، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الشعبي. وروى الدارقطني مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه، ورواه العقيلي في كتابه عن عمر أيضاً، وله طرق أخر عند ابن أبي شيبة، وفي الأطراف، وعند عبد الرزاق في مصنفه (راجع نصب الراية: 350/ 3) ويلاحظ أن هذه القصة غير ثابتة.
(2) مغني المحتاج: 187/ 4، المهذب: 286/ 2، بداية المجتهد:434/ 2 وما بعدها، المغني: 304/ 8.

(7/5503)


الفئة الثالثة ـ الأشربة الحلال في رأي ضعيف: وهي خليط الزبيب والتمر المطبوخ، والمتخذ من غير العنب والتمر:
الأشربة الأربعة الحلال التي ذكرت كالخليطين والمِزْر والجِعة والبِتْع والمثلث ب قصد التداوي يحل شربها بلا لهو ولا طرب، قليلاً كان أو كثيراً إذا شرب مالا يسكره، ولا يحد شاربها، وإن سكر منها، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنه ليس في هذه الأشربة معنى الخمرية، إذ لا شدة فيها، ولأنه عليه السلام قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: يعني النخلة والكرمة» ذكر صلّى الله عليه وسلم الخمر بلام الجنس، فاقتضى اقتصار الخمرية على ما يتخذ من هاتين الشجرتين. وإنما لا يجب الحد وإن سكر منه؛ لأنه سكر حصل بتناول شيء مباح، فلا يوجب الحد، كالسكر الحاصل من تناول البنج، بخلاف ما إذا سكر بشرب المثلث، فإنه يجب الحد؛ لأن السكر فيه حصل بتناول المحظور وهو القدح الأخيرة.
وخلاصة الفرق بين هذه الفئات الثلاث: أن الفئة الأولى يحرم قليلها وكثيرها ويجب الحد بالسكر منها، وأن الثانية يحرم المسكر منه فقط ويجب الحد بالسكر، وأما الثالثة فيحل شربها للتداوي والتقوي، وإن سكر منها، ولا حد فيها وإن سكر منها عند أبي حنيفة وأبي يوسف.

وقد حرم محمد رحمه الله تعالى هذه الأشربة الأربعة التي هي حلال عند الشيخين: وهي المتخذة من العسل والتين ونحوهما قليلها وكثيرها، والأصح أنه يحد شاربها بالسكر منها، وبه يفتى في المذهب الحنفي (1)، وقال الأئمة الثلاثة:
_________
(1) يظن بعض شاربي البيرة ونحوها أن قليلها حلال في مذهب الحنفية. والواقع أن قليلها وكثيرها حرام في كل المذاهب وبإجماع آراء الحنفية، لأن الخلاف فيما يسمى بالأشربة الحلال محصور فيما قصد بشربه تقوية البدن الضعيف. أما إذا كان يؤخذ للهو والتسلية كما يفعل هؤلاء الشاربون فهو حرام كالكثير تماماً، ولو قطرة واحدة (الفقه على المذاهب الأربعة: 2 حاشية ص 7 بتصرف).

(7/5504)


يحد بشرب القليل منها والكثير (1) لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» وقوله: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وقوله: «كل شراب أسكر فهو حرام» وقوله صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «إن من العنب خمراً، وإن من العسل خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن الحنطة خمراً، ومن التمر خمراً، وأنا أنهاكم عن كل مسكر» (2).

الحشيش والأفيون والبنج (3):
يحرم كل ما يزيل العقل من غير الأشربة المائعة كالبنج والحشيشة والأفيون، لما فيها من ضرر محقق، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولكن لا حد فيها؛ لأنها ليست فيها لذة ولاطرب، ولا يدعو قليلها إلى كثيرها، وإنما فيها التعزير لضررها، ولما رواه أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر».
ويحل القليل النافع من البنج وسائر المخدرات للتداوي ونحوه؛ لأن حرمته ليست لعينه، وإنما لضرره (4).

القهوة والدخان: سئل صاحب العباب الشافعي عن القهوة، فأجاب: للوسائل حكم المقاصد، فإن قصدت للإعانة على قربة كانت قربة، أو مباح فمباحة، أو مكروه فمكروهة، أو حرام فمحرمة. وأيده بعض الحنابلة على هذا
_________
(1) انظر نيل الأوطار: 140/ 7، البدائع: 117/ 5، نتائج الأفكار: 160/ 8 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 322/ 5 وما بعدها.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشير، زاد أحمد وأبو داود: «وأنا أنهى عن كل مسكر» (راجع التلخيص الحبير: ص 359، مجمع الزوائد: 56/ 5، نيل الأوطار: 173/ 8).
(3) البَنج: يسمى في العربية شيكران: وهونبات يصدع ويسبت، ويخلط العقل. والأفيون: عصارة الخشخاش. والحشيشة: ورق القنب الهندي.
(4) مغني المحتاج: 187/ 4، حاشية ابن عابدين: 325/ 5، المبسوط: 9/ 24، فتح القدير: 184/ 4.

(7/5505)


التفصيل.
وقال الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي صاحب غاية المنتهى: ويتجه حل شرب الدخان والقهوة، والأولى لكل ذي مروءة تركهما (1).
والواقع، لا تقل مرتبة التدخين عن الكراهة أو الكراهة التحريمية، وقد يصبح التدخين حراماً إذا ثبت ضرره بالنفس أو المال أو كان المدخن محتاجاً إلى المال لإنفاقه على قوته أو قوت أهله أو ملبسه أو ملبس أهله وعياله.
وقد حرم الإباضية التبغ؛ لأنه من الخبائث، وأصدرت دولة إيران عام 1991م أمراً بمنعه وتحريمه ومنع توظيف المدخنين، وقد ذكر الشيخ محمد بن جعفر الكتاني في كتابه: حكم التدخين عند الأئمة الأربعة وغيرهم (2) سبعة عشر دليلاً على تحريم الدخان، وأبان المفاسد الكثيرة المترتبة على الدخان، وأورد فتاوى علماء المذاهب الإسلامية بالتحريم، وناقش أدلة المبيحين بالتحريم.
وتلك الأدلة بإيجاز:
1 - الدخان من الخبائث المحرمة بنص الكتاب، والخبائث: كل ما تستكرهه النفوس وتنفر منه.
2 - الدخان مضرّ بالأبدان ضرراً بيِّناً لا شك فيه، ولا شبهة الآن عند الحكماء وهو من أهم أسباب سرطان الرئة والقلب وغير ذلك من الأمراض الخطيرة أو المنتنة.
3 - الدخان مؤذ بدخانه الخبيث ورائحته المنتنة لمن لا يتعاطاه من زوجة أو زوج وصاحب.
_________
(1) غاية المنتهى: 331/ 3.
(2) توزيع مكتبة الغزالي بدمشق، طبع عام 1411هـ ـ 1990م وعنوان الكتاب «إعلان الحجة وإقامة البرهان على منع ما عمَّ وفشا من استعمال عُشبة الدخان».

(7/5506)


4 - الدخان مؤذ برائحته ونتنه للحفظة الكرام الكاتبين وغيرهم من الملائكة المكرمين.
5 - الدخان مضر بدِين صاحبه، شاغل له عن سلوك المسالك التي يرتقي بها.
6 - الدخان فيه إفساد للجسم والبدن وتخدير له وتفتير بالتجربة والمشاهدة.
7 - الدخان مع كونه مفتراً، أي مخدراً للجفون والأطراف، قد يحصل الإسكار منه لبعض الناس في ابتداء التعاطي، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر.
8 - فيه إسراف وتبذير، وهو إضاعة المال من أي نوع كان بإتلافه وإنفاقه في غير فائدة دينية ولا مصلحة دنيوية.
9 - إنه مصادم للفطرة الإنسانية، مؤد إلى تردد القلب وقلقه واضطرابه، فهو مشكوك ومشتبه فيه، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، والبر: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب.
10 - إنه يؤدي إلى أكل المحروق وتسرب أجزاء منه محروقة للحلق كلما تناول المدخن شيئاً منه.
11 - فيه أكل النار الممتزجة بالحطب الذي هو ورقه، أي من جذبه إلى جوفه.
12 - فيه إفساد مزاج من طبعه السوداء أو الصفراء؛ لأنه يجفف الرطوبات البدنية ويحرقها.
13 - فيه عبث ولهو، وهو حرام عندالحنفية.

(7/5507)


14 - نهى عنه ملوك الإسلام وسلاطينه في الترك والمغرب والسودان وغيرهم، بل وملوك أوروبا.
15 - إنه من البدع ومحدثات الأمور بعد القرون الثلاثة المشهود بخيريتها وفضلها، بل بعد القرون العشرة، أخرج أبو داود من حديث العرباض بن سارية: «إياكم ومُحْدَثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».
16 - فيه غول، وهو ما يعتري شاربه بتركه من القلق والفساد والأذى في عقله ومزاجه وحواسه، وبسببه يعود له ولا يقدر على الترك، وكل ما فيه غول يغتال العقول ويضعف الإرادة يمنع منه، بدليل وصف الحق تعالى خمر الجنة بأنها {لا فيها غول} [الصافات:47/ 37].
17 - ما كان مشكوكاً فيه أحرام هو أم حلال، ولم نجد فيه نصاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم، يعمل فيه بعمل أهل التقوى والورع واجتناب المشتبهات.

المبحث الخامس ـ إثبات شرب الخمر ونحوها:
اتفق جمهور الفقهاء على أن شرب الخمر ونحوها يثبت بشهادة رجلين مسلمين عدلين يشهدان أنه مسكر أو بالإقرار مرة واحدة، ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال. ويكفي في إقرار وشهادة أن يقال: شرب فلان خمراً.
وقال أبو يوسف وزفر: يشترط في الإقرار هنا كما في السرقة: أن يكون مرتين بمجلسين، اعتباراً لعدد الإقرار بعدد الشهود.
ولا يعتبر الإقرار والشهادة بعد ذهاب الرائحة وتقادم العهد عند أبي حنيفة

(7/5508)


وأبي يوسف. وقال محمد: يحد بالإقرار أو الشهادة بعد ذهاب الرائحة، ولكن دون شهر في الشهادة.

واختلفوا في إثبات الشرب بالرائحة:
فقال المالكية: يجب الحد بالرائحة إذا شمها شاهدان عدلان في فمه أو تقيأها، وشهدا بذلك عند الحاكم؛ لأن ابن مسعود جلد رجلاً وجد منه رائحة الخمر (1)، وتشبيهاً للشهادة على الرائحة بالشهادة على الصوت (2).
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: لا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها؛ لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء، فلما صارت في فمه مجها، أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرهاً أو مضطراً أو غالطاً، أو شرب شراب التفاح، فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد بالشك؛ لأن الحد يدرأ بالشبهة، ولا يستوفيه القاضي بعلمه أيضاً (3).
ويلاحظ أنه لا يقام الحد على السكران حال سكره، وإنما يؤخره إلى الصحو باتفاق الأئمة، ليتحقق مقصود الحد من الانزجار.
_________
(1) رواه الطبراني وعبد الرزاق وإسحاق بن راهويه عن أبي ماجد الحنفي، قال: جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله: ترتروه ومزمزوه (أي حركوه تحريكاً عنيفاً لعله يصحو) واستنكهوه، ففعلوا، فرفعه إلى السجن، ثم عاد به من الغد، ودعا بسوط، ثم أمر بثمرته فدقت بين حجرين، حتى صارت درة، ثم قال للجلاد: اجلد وأرجع تلك، وأعط كل عضو حقه (راجع نصب الراية: 349/ 3، مجمع الزوائد: 275/ 6، 279).
(2) حاشية الدسوقي: 353/ 4، بداية المجتهد: 436/ 2، المنتقى على الموطأ: 142/ 3، القوانين الفقهية: ص 362.
(3) فتح القدير: 180/ 4، 186، تبيين الحقائق: 196/ 3، الكتاب مع اللباب: 193/ 3، مختصر الطحاوي: ص 280، مغني المحتاج: 190/ 4، المغني: 309/ 8، حاشية الباجوري على متن أبي شجاع: 246/ 2، غاية المنتهى: 330/ 3.

(7/5509)


المبحث السادس ـ مخاطر المخدرات وأحكامها في الإسلام:
الشرائع الإلهية وخاتمتها الشريعة الإسلامية تنشد في تشريعها لتنظيم حياة الناس وأحوالهم تحقيق المصالح والمنافع البشرية الحقيقية، ودفع أنواع المضار والمفاسد وألوان الأذى والشر، بدليل الاستقراء التام والتتبع الشامل لكل ما جاءت به شريعة القرآن الكريم من أحكام العبادات والمعاملات والجنايات والعلاقات الاجتماعية الخاصة والعامة، فلا نجد مطلوباً شرعاً: فرضاً أو مندوباً إلا وكان فيه الخير للفرد والجماعة أو الشخص والأمة، ولا نرى ممنوعاً: حراماً أو مكروهاً إلا وفيه الشر أو شبهة السوء للإنسان والناس قاطبة.
والعقل المجرد غير المتأثر بالهوى أو النفعية الطائشة أو الوقتية غير المنضبطة يدرك تماماً المصلحة المجردة والمضرة الواضحة، ويؤيد ما جاءت به شريعة السماء، إذ لا يخفى على عاقل أن تحصيل المصالح المحضة أو الدائمة الأثر، ودرء المفاسد المحضة أو الآنية التأثير، عن نفس الإنسان وغيره، محمود حسن، كما أنه لا يخفى أيضاً أن درء المفاسد والمضار الراجحة مقدم على المصالح المرجوحة، كما قال العز بن عبد السلام في مقدمة كتابه: «قواعد الأحكام في مصالح الأنام».
وهذا ما اتفق عليه الحكماء، وأجمعت عليه الشرائع، فحرّمت الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، واتفقت الملل كلها على الحفاظ على المقاصد الخمسة الكلية الضرورية، وهي الدين والعقل والنفس والنسب أو العرض والمال، ووجهت الأديان ذات المصدر الإلهي إلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال والآداب والأخلاق. وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما.

(7/5510)


ومن هذا المنطلق حاربت الشريعة الإسلامية وحرمت تناول المسكرات والمخدرات بأنواعها المختلفة، لما فيها من ضرر واضح على الإنسان وصحته وعقله وكرامته وسمعته أو اعتباره الأدبي. روى ابن ماجه والدارقطني مسنداً، والإمام مالك في الموطأ مرسلاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» وهو حديث حسن، مفاده أن الضرر ممنوع بالنفس أو بالغير، فلا يجوز لأحد أن يضر نفسه أو غيره بغير حق ولا جناية سابقة، ولايجوز مقابلة الضرر بالضرر، فمن سبَّك أو شتمك فلا تسبّه، ومن ضرّ بك فلا تضرّ به، بل اطلب حقك منه عند الحاكم من غير مسابّة.
وجاء في الإنجيل المتداول الآن من قول السيد المسيح عليه السلام: «السكّيرون والزناة لا يدخلون ملكوت السموات» وإذا كان السكر والزنى ممنوعين لضررهما وقبحهما، فكذلك المخدرات التي تضر العقل، وتفسد النفس والوجدان أو الضمير.

ومن المعلوم أن الضرر الناجم عن تعاطي المسكرات والمخدرات متعدد الجوانب ففيها ضرر بالشخص ذاته، وبأسرته وأولاده، وبمجتمعه وأمته.
أما الضرر الشخصي: فهو التأثير الفادح في الجسد والعقل معاً، لما في المسكر والمخدر من تخريب وتدمير الصحة والأعصاب والعقل والفكر ومختلف أعضاء جهاز الهضم وغير ذلك من المضار والمفاسد التي تفتك بالبدن كله، بل وبالاعتبار الأدبي والكرامة الإنسانية، حيث تهتز شخصية الإنسان، ويصبح موضع الهزء والسخرية، وفريسة الأمراض المتعددة.
وأما الضرر العائلي: فهو ما يلحق بالزوجة والأولاد من إساءات، فينقلب البيت جحيماً لا يطاق من جراء التوترات العصبية والهياج والسب والشتم وترداد

(7/5511)


عبارات الطلاق والحرام، والتكسير والإرباك، وإهمال الزوجة والتقصير في الإنفاق على المنزل، وقد تؤدي المسكرات والمخدرات إلى إنجاب أولاد معاقين متخلفين عقلياً، وقد شاهدت ذلك بنفسي في حالات كثيرة من أولاد المدمنين.

وأما الضرر العام: فهو واضح في إتلاف أموال طائلة من غير مردود نفعي، وفي تعطيل المصالح والأعمال، والتقصير في أداء الواجبات، والإخلال بالأمانات العامة، سواء بمصالح الدولة أو المؤسسات أو المعامل أو الأفراد.
هذا فضلاً عما يؤدي إليه السكر أو التخدير من ارتكاب الجرائم على الأشخاص والأموال والأعراض، بل إن ضررالمخدرات أشد من ضرر المسكرات؛ لأن المخدرات تفسد القيم الخلقية.

أنواع المخدرات وحكمها الشرعي:
المخدرات والمسكرات أنواع متعددة، يتفنن الناس في تناولها بأسماء مختلفة، ويلجأ بعضهم إلى تعاطي أشياء تحقق الهدف المقصود من تغطية العقل، وكلها تشترك في حكم واحد، وهو التحريم بسبب ما فيها من الضرر المؤكد الحصول.
ومن أشهر أنواع المخدرات: الحشيشة، والأفيون، والكوكايين والمورفين والبنج (نبات سام يستعمل في الطب للتخدير) وجوزة الطيب (ثمر شجرة) والبرش (مركب من الأفيون والبنج) والقات (نبات تمضغ أوراقه، قليله منبه منشط، وكثيره مخدر مثبّط، يورث الكسل والخمول، ويعطل الأعمال) وغير ذلك مما يؤخذ بالحُقَن أو المضغ أو التدخين أو غيرها، فيؤدي إلى تغييب العقل، وإضرار الصحة، وإفساد الأخلاق.

(7/5512)


والحكم الشرعي للمخدرات أنها حرام في غير حالة التداوي للضرورة أو الحاجة، وفي غير حالة إصلاح البهارات بإضافة بعضها إليها بالقدر القليل فقط مثل خلط شيء قليل من جوزة الطيب مع البهارات أو المقبّلات. وحرمتها كالمسكرات التي جاءت النصوص التشريعية في القرآن والسنة النبوية بتحريمها تحريماً قطعياً.

وأدلة تحريم تعاطي المخدرات كثيرة منها ما يلي:
1ً - إن المخدرات تؤدي إلى أضرار جسيمة كثيرة كما تقدم، وقد يفوق ضررها ضرر المسكرات؛ لأنها تفسد أخلاق المجتمع وتضر الأمة في اقتصادها وأعمالها ضرراً بليغاً، وتفسد العقل، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ففيها ضرر عقلي وبدني وديني وأخلاقي، وكل ما هو ضار في نتائجه أو ذاته وعينه فهو حرام، والمضِّرات من أشهر المحرمات.
2ً - روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر». والمفتر: كل ما يورث الفتور وارتخاء الأعضاء وتخدير الأطراف. قال ابن حجر: وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه، فإنها تسكر وتخدِّر وتفتر. وفي حديث آخر عند أبي داود عن ابن عباس: «كل مخمِّر وكل مسكر حرام» والمخمِّر: ما يغطي العقل.
3ً - حكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال ابن تيمية: ومن استحلها فقد كفر، وإنما لم تتكلم فيها الأئمة الأربعة رضي الله عنهم؛ لأنها لم تكن في زمنهم، وإنما ظهرت في آخر المئة السادسة، وأول المئة السابعة حين ظهرت دولة التتار.

(7/5513)


4ً - قال ابن تيمية في فتاويه الكبرى: كل ما يغيب العقل فإنه حرام، وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين، أي إلا لغرض معتبر شرعاً.
وقال أيضاً في كتابه السياسة الشرعية: إن الحشيشة حرام، يُحَدُّ متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي داخلة فيما حرّمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظاً أو معنى.
وجاء أيضاً في فتاوى ابن تيمية في مواضع متكررة: «هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها، ومستحلوها، الموجبة لسخط الله تعالى، وسخط رسوله، وسخط عباده المؤمنين، المعرّضة صاحبها لعقوبة الله، تشتمل على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقاً كثيراً مجانين، وتورث من مهانة أكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى. وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام.
ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال، فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وإن القليل منها حرام أيضاً بالنصوص الدالة على تحريم الخمر وتحريم كل مسكر».
وأيد ابن القيم أستاذه ابن تيمية في ذلك كله، وقال في زاد المعاد: «إن الخمر يدخل فيها كل مسكر: مائعاً كان أو جامداً، عصيراً أو مطبوخاً، فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور ـ أي الحشيشة ـ لأن هذا كله خمر بنص رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصحيح

(7/5514)


الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه، إذ صح عنه قوله: كل مسكر خمر». وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابة ومراده، بأن الخمر ما خامر العقل.
على أنه لو لم يتناول لفظه صلّى الله عليه وسلم كل مسكر، لكان القياس الصحيح الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل وجهة، حاكماً بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه».
وقال الصنعاني في سبل السلام: «إنه يحرم ما أسكر من أي شيء، وإن لم يكون مشروباً، كالحشيشة». وقال بعض علماء الحنفية: «إن من قال بحل الحشيشة زنديق مبتدع».
وقال الحافظ ابن حجر: «إن من قال: إن الحشيشة لا تسكر، وإنما هي مخدر: مكابرٌ، فإنها تحدث ما تحدثه الخمر من الطرب والنشوة».
وذكر ابن البيطار أن قبائح خصالها كثيرة، وعدّ منها بعض العلماء مئة وعشرين مضرة دينية ودنيوية. وقال: إن قبائح خصالها موجودة في الأفيون، وفيه زيادة مضار.

وأما القات فهو حرام، وإن زعم بعض أهل اليمن أنه لا يخدر وإنما هو منشط ومفتق للذاكرة، وهذا مجرد وهم وهو غير صحيح؛ لأن العبرة بالنتائج، ولقد أثبت الأطباء، وجاء في قرار اليونيسكو في الأمم المتحدة أنه مخدر وضار، ومن أضراره الواضحة: تخلّف اليمنيين، وتعطيل اقتصادهم، وانشغالهم بشرائه، وتعاطيه من منتصف النهار إلى منتصف الليل، وإهدارهم المال الكثير في سبيل الحصول عليه وبذل الجهود في زراعته على حساب المزروعات الأخرى النافعة.

(7/5515)


وذهب أبو بكر المقري الشافعي إلى تحريم القات، وقال: إني رأيت من أكلها الضرر في بدني وديني، فتركت أكلها، فقد ذكر العلماء: إن المضِّرات من أشهر المحرمات، فمن ضررها أن آكلها يرتاح ويطرب وتطيب نفسه ويذهب حزنه، ثم يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلاق.
وكذلك حرمه الفقيه حمزة الناشري محتجاً بحديث أم سلمة السابق: أنه صلّى الله عليه وسلم «نهى عن كل مسكر ومُفْتِر» وهو الذي يجعل في الجسم فتوراً، أي ضعفاً وانكساراً.
والخلاصة: إن جميع المخدرات الحادثة من قرون بعد القرون الستة الأولى حرام كالخمر، لمخامرتها العقل وتغطيتها إياه. وفيها مفاسد الخمر ومضاره، وتزيد عليها، فهي أكثر ضرراً وأكبر فساداً من الخمر؛ لأنها تضر الأمة ضرراً بليغاً، أفراداً وجماعات، مادياً، وصحياً، وأدبياً. ولا شك بأن الشريعة الإسلامية تحرِّم المفاسد والمضار، وتجيز ما فيه مصالح حقيقية، خالصة أو راجحة. وأما ما يزعمونه من مصالح ومنافع فهي وهمية خادعة.
لذا اتفقت أنظمة العالم على منع المخدرات، ولا نجد إجماعاً دولياً على شيء، مثلما نجده في الإجماع على مقاومة كل وسائل تعاطي المخدرات وتهريبها، وإتلاف الكميات المهربة، وعقاب المهربين بالسجن وغيره.

الاتجار بالمخدرات:
إن الاتجار بالمخدرات بيعاً وشراء وتهريباً وتسويقاً أمر حرام كحرمة تناول المخدرات؛ لأن الوسائل في الشريعة تأخذ حكم المقاصد، ويجب سد الذرائع إلى المحرمات بمختلف الإمكانات والطاقات؛ لأن التاجر يسهِّل رواج المخدرات وتعاطيها، فيكون الثمن حراماً، والمال سُحْتاً، والعمل ضلالاً، والاتجار بها إعانة

(7/5516)


على المعصية، والبيع باطل، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/ 5].
ويكون النهي عن بيع الخمر والحكم ببطلانه شاملاً المخدرات؛ لما في ذلك من الإعانة على المعصية، والتواطؤ على إفساد الناشئة والأمة، وتدمير أخلاقها وقيمها، وتخريب اقتصادها وإضعافها أمام غيرها. ويكون الربح التجاري المغري سبباً واضحاً في التآمر على وجود الأمة وضعضعة كيانها وتحطيم جهود أبنائها، وخيانتها، والإسهام في تخلفها وهزِّ بنيتها.

زراعة الحشيش والخشخاش والقات وتصنيع الأفيون والكوكايين والهروين:
إن كل ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام، وكل ما يعين على المعصية، فهو معصية، فتكون زراعة الحشيش وغيرها واستخراج المواد المخدرة والعناية بها حفظاً وتعليباً وتهريباً ونقلاً من مكان إلى آخر أمراً حراماً في شرع الله ودينه، للأسباب التالية:
1 - إن زراعة ما يؤدي إلى الحرام يعد رضاً صريحاً من الزراع بتعاطي الناس له، واتجارهم فيه، والرضا بالمنكر أو المعصية يعد منكراً وعصياناً.
2 - تبين مما ذكر أن كل مافيه إعانة على المعصية يعد معصية، كما أن الزراعة لوسائل المخدرات معصية.
3 - روى أبو داود في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن من حَبَس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمراً، فقد تقحم النار». وهذا

(7/5517)


دليل صريح على حرمة زراعة الحشيش والقات وكل ما يؤدي لاستخراج عصارة الأفيون والهروين والكوكايين وغير ذلك.
4 - روى أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد عن ابن مسعود: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «لعَنَ آكل الربا ومُؤكله وشاهديه وكاتبه». ولفظ النسائي: «آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا ذلك، ملعونون على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة» فهؤلاء أربعة لعنوا في أكل الربا.
وروى أبو داود والحاكم عن ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها» فهؤلاء عشرة لعنوا في الخمر وتناولها.
والمتبادر إلى الذهن ألا يكون ملعوناً إلا آكل الربا وشارب الخمر دون من ذكر معهما، ولكن الشرع حرم فعل ثلاثة آخرين في الربا، وتسعة آخرين في الخمر؛ لأنهم كانوا سبباً في المعصية، وعوناً على اقتراف الحرام، فيكون المتسبب والمعين أو المساعد، له حكم الفاعل تماماً.
وبناء عليه يكون تاجر المخدرات والمهرب والناقل وكل من ساعد في تعاطيها آثماً إثماً عظيماً ومرتكباً حراماً ومنكراً شديداً.

ربح المخدرات:
إن الأرباح التي يستفيد منها التجار والمتعاملون في المخدرات كلها سحت وحرام، لما يأتي:
1ً - قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188/ 2] وأكل المال بالباطل يتناول جرائم السرقة والخيانة والظلم والغصب، والقمار، والعقود المحرمة من بيع وشراء ونحوهما من التجارات، وكل الخدمات المبذولة في سبيل ارتكاب المعاصي والمنكرات وكل ما حرمه الشرع، وإن رضي به المالك.

(7/5518)


2ً - الحديث النبوي وهو ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فكل ما حرم الله الانتفاع به، حرم الانتفاع بعوضه أو ثمنه، بدليل ما رواه أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عباس، والحميدي عن أبي هريرة في بيع الخمر: «إن الذي حرم شربها حرّم بيعها». وروى مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية ـ أي آية {إنما الخمر والميسر} [المائدة:90/ 5]ـ وعنده منها شيء، فلا يشرب ولا يبيع، قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة، فسفكوها» وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً: «إن الله حرَّم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه».

عقوبة متناول المخدرات:
أوجب ابن تيمية - كما تقدم- إقامة حد الخمر على من سكر من الحشيشة؛ لأنها تشتهى وتطلب، فالحكم عنده منوط باشتهاء النفس.
وذهب الشافعية إلى أن الأفيون وغيره إذا أذيب واشتد وقذف بالزبد، فإنه يلحق بالخمر في النجاسة وإقامة الحد، كالخبز إذا أذيب وصار كذلك، بل أولى.
واتفق الفقهاء على تعزير متناول المخدرات بدون عذر كما في حال التداوي والتعزير يكون بالتوبيخ والضرب والحبس والتشهير والتغريم بالمال وغير ذلك مما يراه القاضي أو الحاكم زاجراً ورادعاً الناس عن اقتراف الجرائم والمنكرات.
وأجاز فقهاء الحنفية والمالكية أن تكون عقوبة التعزير هي القتل، ويسمونه القتل سياسة، أي إذا رأى الحاكم المصلحة في ذلك، وكان جنس الجريمة يوجب القتل، كما في حال التكرار أو إدمان المسكرات والمخدرات، واعتياد الإجرام أو اللواط أو القتل بالحجر أو العصا أو الخشب.

(7/5519)


وهذا يصلح دليلاً أو مستنداً لما أفتى به بعض المفتين المعاصرين من اقتراح مشروع قانون يقضي بعقوبة متعاطي المخدرات بالإعدام شنقاً. وفي ذلك توفير مؤيد أو رادع من قبل السلطة الحاكمة لكل من يتاجر بالمخدرات أو يتعاطاها، أو يقوم بتهريبها.
وقد أصبحت عصابات التهريب وتجار المخدرات خطراً على الدول المختلفة، فلا يجوز التهاون بشأن إنزال أقسى العقوبات في حقهم، لحماية المجتمع من أضرار المخدرات ومفاسدها الجسيمة.
ولا شك بأن إتلاف المخدرات التي تُمسِكُ بها الدولة أمر واجب شرعاً؛ لأن الضار بذاته يجب التخلص منه بمختلف وسائل الإتلاف. والمصادرة، وعقاب المتعاملين فيها.
وإني أرى ضرورة وجود معاهدات دولية لمنع الاتجار بالمخدرات وتهريبها وعقاب تجارها وسماسرتها ووسطائها، كما أرى ضرورة وجود قانون موحد في البلاد العربية والإسلامية ينص على عقوبة شديدة لتجار المخدرات وكل من يتعاطاها أو يتناولها أو يقوم بنقلها بوسائط مختلفة في الحقائب والطائرات والسيارات ووسائل النقل القديمة وغيرها.

(7/5520)


ملحق بالحدود:
أولاً ـ تداخل الحدود: إذا اجتمعت الحدود على شخص، فإما أن تكون حدوداً خالصة لله تعالى، أو حدوداً خالصة للآدمي، أو تجتمع حدود الله، وحدود الآدميين (1).
ف القسم الأول نوعان:
1 - أن يكون فيها قتل: مثل أن يسرق ويزني وهو محصن، ويشرب الخمر، ويقتل في المحاربة (قطع الطريق). اختلف العلماء فيها:
قال الحنفية والمالكية والحنابلة: تتداخل الحدود فيقتل الشخص، ويسقط سائر الحدود، لقول ابن مسعود: «إذا اجتمع حدان: أحدهما القتل، أحاط القتل بذلك».
وقال إبراهيم النخعي: يكفيه القتل، ولأنها حدود خالصة لله تعالى، يراد بها الزجر، ومع القتل لا حاجة إلى زجره.
وقال الشافعي: يستوفى جميعها؛ لأن ما وجب مع غير القتل، وجب مع القتل، كقطع اليد قصاصاً، فهي حدود وجبت بأسباب، فلم تتداخل.

2 - ألا يكون فيها قتل: كما لو سرق وزنى وشرب الخمر، فلا تداخل، ويستوفى جميعها، من غير خلاف بين العلماء. ويقدم عند الشافعية والحنابلة
_________
(1) راجع التفصيل في البدائع: 62/ 7، فتح القدير: 208/ 4، تبيين الحقائق: 207/ 3، حاشية الدسوقي: 347/ 4، المنتقى على الموطأ: 145/ 3، القوانين الفقهية: ص 362، مغني المحتاج: 184/ 4، الميزان للشعراني: 169/ 2، المهذب: 288/ 2، تكملة المجموع: 351/ 18، حاشية الشرقاوي: 427/ 2، المغني: 298/ 8.

(7/5521)


الأخف فالأخف، فيقدم حد الشرب أولاً، ثم حد الزنى، ثم قطع اليد للسرقة، ويتداخل القطع للسرقة مع القطع للمحاربة؛ لأن محل القطعين واحد.
وقال المالكية: يقطع، ثم يجلد.
وقال الحنفية: الإمام بالخيار في البداية، إن شاء بدأ بحد الزنى، وإن شاء بحد السرقة، ويؤخر حد الشرب عنهما؛ لأن حد الزنى وحد السرقة ثبتا بنص القرآن، وحد الشرب ثبت بالاجتهاد، ولا يجمع ذلك كله في وقت واحد، بل يقام كل واحد منها بعد البرء من الأول، لئلا يؤدي الحد إلى الهلاك.

وأما القسم الثاني: وهو الحدود الخالصة للآدمي، وهي القصاص وحد القذف (على رأي الجمهور).
أما عند الحنفية: فإن حد القذف يشتمل على حق الله وحق العبد، إلا أن حق الله فيه غالب، كما عرفنا، وحينئذ يكون عندهم من القسم الأول، فيقدم في الاستيفاء على غيره من الحدود؛ لأن فيه حقاً للعبد أيضاً.
وقال المالكية: كل حد يدخل في القتل كردة أو قصاص أو حرابة إلا القذف، فلا بد من استيفائه أولاً، ثم يقتل. فلو اجتمع حد الزنى والشرب والسرقة، فإن هذه الحدود تسقط وتندرج في القتل.
وقال الحنابلة والشافعية: يستوفى كل الحدود، ويبدأ بأخفها، فيحد للقذف، ثم يقطع، ثم يقتل؛ لأنها حقوق للآدميين، أمكن استيفاؤها، فوجب كسائر حقوقهم، فإن ما دون القتل حق للآدمي، فلم يسقط به.
وقال الحنفية: يدخل ما دون القتل فيه، احتجاجاً بقول ابن مسعود السابق ذكره، وقياساً على الحدود الخالصة لله تعالى.

(7/5522)


وأما القسم الثالث: وهو أن يجتمع حدود الله، وحدود الآدميين: وهذه ثلاثة أنواع:
أحدها ـ ألا يكون فيها قتل: فقال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: تستوفى كلها إلا أن المالكية قالوا بتداخل حد الشرب وحد القذف؛ لأن الغرض من العقوبتين واحد، وهو منع الافتراء.
ثانيها ـ أن يكون فيها قتل: فقال الجمهور: حدود الله تعالى تدخل في القتل. وأما حقوق الآدميين، فتستوفى كلها.
وقال الشافعي: تستوفى الحدود جميعهاً؛ لأنها حدود وجبت بأسباب، فلم تتداخل.

ثالثها ـ أن يتفق الحقان في محل واحد، فإن اجتمع حقان: أحدهما لله، والآخر لآدمي، كالقصاص والرجم في الزنى، قدم القصاص عند العلماء، لتأكد حق الآدمي، وبه يتحقق أيضاً حق الله تعالى.
ثانياً ـ إسقاط الحدود بالتوبة:
إذا تاب العصاة ما عدا المحاربين من شاربي الخمر والزناة والسراق، فلا يسقط الحد عند الحنفية والمالكية والشافعية في الأظهر عندهم، وذلك سواء بعد رفع الأمر إلى الحاكم أو قبله؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يسقط الحد عن ماعز، حينما جاءه، وأقر بالزنى، ولا شك أنه لم يأت، إلا وهو تائب، ونحوه من الحدود، فإنه لم يرد نص في إسقاط الحد عن هؤلاء.
واستثنى الكاساني في البدائع حد السرقة العادية، فإنه يسقط بتوبة السارق قبل أن يظفر الحاكم به، وبشرط رد المال إلى صاحبه. وقال ابن عابدين: الظاهر أن

(7/5523)


التوبة لا تسقط الحد الثابت عند الحاكم بعد الرفع إليه. أما قبله فيسقط الحد بالتوبة حتى في قطاع الطرق، سواء أكان قبل جنايتهم أم بعدها.
وقال أحمد في أظهر الروايتين عنه: التوبة تسقط الحد عنهم من غير اشتراط مضي الزمان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «التوبة تجبُّ ما قبلها» (2)، ولأن في إسقاط الحد ترغيباً في التوبة، وذلك ما عدا حد القذف، فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي. وبه يظهر أنه ليس هناك إجماع ـ كما زعم بعضهم ـ على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا.
أما حد المحاربة: فلا خلاف بين العلماء كما تقدم: أن قطاع الطرق إن تابوا قبل القدرة عليهم، فتسقط عنهم حدود الله تعالى، لقوله سبحانه في آية المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم} (3) [المائدة:34/ 5].
_________
(1) رواه ابن ماجه والطبراني في الكبير والبيهقي عن عبد الله بن مسعود، ورجال الطبراني رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة راوي الحديث عن أبيه عبد الله لم يسمع منه، ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي مرفوعاً أيضاً من حديث ابن عباس، وزاد «والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه» وقد روي بهذه الزيادة موقوفاً ولعله أشبه، بل هو الراجح، كما قال المنذري. وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له» قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم (راجع الترغيب والترهيب: 97/ 4،المقاصد الحسنة: ص 152، مجمع الزوائد: 200/ 10).
(2) المعروف أن التوبة تصح بالإسلام، والإسلام يجب ما قبله، وقد ذكر حديث «التوبة تجب ما قبلها» في مغني المحتاج للخطيب: 184/ 4، وراجع مجمع الزوائد: 31/ 1، 199/ 10 وما بعدها، وذكره أيضاً ابن قدامة في المغني: 201/ 9، كما ذكر حديثاً آخر وهو «الندم توبة» رواه الطبراني في الصغير عن أبي هريرة ورجاله وثقوا وفيهم خلاف (مجمع الزوائد: 199/ 10).
(3) راجع البدائع: 96/ 7، فتح القدير: 272/ 4، رد المحتار: 154/ 3، الفروق للقرافي: 181/ 4، مغني المحتاج: 184/ 4، المهذب: 285/ 2، الميزان: 169/ 2، حاشية قليوبي وعميرة: 201/ 4، المغني: 295/ 8 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 357، 362 وما بعدها، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 67، وانظر أعلام الموقعين: 78/ 2، 19/ 3، 398/ 4، وراجع إحياء علوم الدين للغزالي: 14/ 4 وما بعدها، غاية المنتهى: 345/ 3 ومابعدها.

(7/5524)


وقد رأى الشافعية أن الحدود إذا أقيمت في الدنيا، لم تقم في الآخرة لحديث: «الله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة» (1)، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الحدود كفارات لأهلها» (2).
ويسقط حد تارك الصلاة وحد الردة بالتوبة الصادقة النصوح.

هل تقبل شهادة المحدود بالقذف إذا تاب؟ اختلف الحنفية والجمهور فيه، فقال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في القذف أبداً، وإن تاب وأصلح، ومن هنا كانت التوبة عندهم بالنسبة إليه عملاً قلبياً بين العبد وربه، ليس من الضروري اطلاعنا عليه؛ لأنه ليس هناك حكم عملي يترتب على هذه التوبة.
وقال الجمهور: إذا تاب المحدود في القذف قبلت شهادته، وتوبة القاذف: إكذابه نفسه. وفسره الإصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول: كذبت فيما أقول، فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي: لا
_________
(1) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أصاب حداً فعجل عقوبته في الدنيا فالله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة. ومن أصاب حداً فستره الله عليه وعفا عنه فال أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه» (راجع جامع الأصول: 349/ 4، الجامع الصغير: 164/ 2).
(2) الأحاديث في هذا المعنى كثيرة منها: ما رواه الطبراني وأحمد بنحوه عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما عبد أصاب شيئاً مما نهى عنه، ثم أقيم عليه حده، كفر عنه ذلك الذنب» وفي رواية: «من أصاب ذنباً وأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته» وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات. وروي بمعناه عن ابن عمر مرفوعاً عند الطبراني، وفيه متروك، وقد جاء في القسطلاني شرح البخاري: 380/ 7: إن الحدود كفارات. وترجم الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم بعنوان: «باب: الحدود كفارات لأهلها»: 224/ 12، وذلك عند شرح حديث عبادة بن الصامت الآتي ذكره في المبحث التالي (راجع مجمع الزوائد: 265/ 6).

(7/5525)


يقول: كذبت؛ لأنه ربما يكون صادقاً، فيكون قوله: «كذبت» كذباً، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما قلت ورجعت عنه، ولا أعود إليه.
والسبب في أن الشافعي شرط في توبة القاذف التلفظ باللسان، مع أن التوبة من عمل القلب: أنه رتب عليها حكماً شرعياً: وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب، فلا بد من أن يعلم الحاكم بتوبته حتى يقبل شهادته.
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور: خلافهم في رجوع الاستثناء الوارد في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا} [النور:4/ 24 - 5] هل يرجع إلى جميع الجُمَل التي سبقت، فيرتفع رد الشهادة، كما ارتفع الفسق، أو يرجع إلى الجملة الأخيرة وهي الفسق. والخلاف راجع إلى مسألة أصولية مشهورة وهي: هل الاستثناء عقب الجمل المتعاطفة يعود للجميع أو يعود للجملة الأخيرة؟
قال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في القذف أبداً، لاختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة؛ لأنها جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف لا يصلح أن يكون سبباً لهذه العقوبة.
ونوقش قولهم بأن العلة في هذه العقوبة هو فسقهم، والفسق علة في رد الشهادة، فإذا ارتفع الفسق بالتوبة، فيلزم منه ارتفاع رد الشهادة الذي هو معلوله؛ لأن الحكم يزول بزوال علته.
وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: تقبل شهادة المحدود في القذف بالتوبة؛ لأن الاستثناء يرجع إلى الجمل الثلاث المتعاطفة بالواو، فيرتفع رد

(7/5526)


الشهادة كما ارتفع الفسق بالتوبة. لكن لم يسقط الحد بالتوبة، للإجماع على أنه لا يسقط بالتوبة، لما فيه من حق العبد أو الآدمي، فلا يسقط باستيفائه، لا لخلل في اقتضاء صيغة الاستثناء التي أعقبت الجمل السابقة أن تعم كل الجمل، فبقي الاستثناء في ظاهره عائداً إلى رد الشهادة والتفسيق، وهذا ما قرره الزمخشري، وهو رأي أكثر التابعين وفقهاء الأمصار غير الحنفية (1).
واختلف الفقهاء في وقت رد شهادة القاذف، فقال أبو حنيفة ومالك: لا ترد شهادته إلا بعد جلده، لأن الواو وإن لم تقتض الترتيب، لكن الظاهر من الترتيب في الذكر أنه على وفق الترتيب في الحكم. وقال الشافعي: لا يتوقف رد الشهادة على حد القذف؛ لأن ظاهر الآية أنه متى قذف وعجز عن البينة استحق العقوبات الثلاث: الحد، ورد الشهادة، والتفسيق.

هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟ إذا ثبت القتل وجب على القاتل إما القصاص، وإما الدية. ولا يسقط القصاص إلا بعفو أولياء المقتول على أن يأخذوا الدية أو بدون شيء، فلا يسقط القصاص أو الدية إذن بالتوبة لتعلق الحق الشخصي به لأولياء الدم. وبناء عليه لا تصح توبة القاتل حتى يسلِّم نفسه للقود (القصاص) أو يؤدي الدية حين العفو، أو حالة القتل الخطأ. وتوبة القاتل لا تكون بالاستغفار والندامة فقط، بل تتوقف على إرضاء أولياء المقتول، فإن كان القتل عمداً لا بد من أن يمكنهم من القصاص منه، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه مجاناً، فإن عفوا عنه كفته التوبة. وبالعفو عنه يبرأ من العقوبة الدنيوية.
_________
(1) تخريج الفروع على الأصول: ص 207 وما بعدها، تفسير آيات الأحكام بالأزهر: 131/ 3 وما بعدها، ط 1953، المحرر في الفقه الحنبلي: 251/ 2 وما بعدها.

(7/5527)


وهل يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى؟ استظهر ابن عابدين أن الظلم المتقدم لا يسقط بالتوبة لتعلق حق المقتول به، فيخاصم القاتل يوم القيامة. وأما ظلم القاتل لنفسه بإقدامه على المعصية، فيسقط بالتوبة (1).
وقال الإمام النووي وأكثر العلماء: إن ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الآخرة بالعقوبة عن القاتل إذا تاب. فقد دلت أحاديث نبوية على أنه لايطالب، من أشهرها الحديث المروي في الصحيحين الذي ذكر فيه توبة القاتل مئة نفس في الأمم السابقة، وقبول الله توبته (2).

إسقاط التعازير بالتوبة:
بمناسبة بحث أثر التوبة في العقوبات المقدرة (الحدود والقصاص) يحسن الكلام عن أثر التوبة أيضاً على العقوبات غير المقدرة وهي التعازير.
يظهر مما ذكره الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة ضرورة التفرقة في التعزيرات بين حقوق الله وحقوق الأفراد (3)؛ لأن ضابط التعزير: هو كل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة. فقد يكون التعزير حقاً لله، أو حقاً للإنسان، أو يشترك فيه الحقان وأحدهما غالب على الآخر.
فإن كان التعزير حقاً خالصاً للإنسان، أو الغالب فيه حقه كالشتم والسب
_________
(1) رد المحتار: 389/ 5.
(2) رواه أبو سعيد الخدري (راجع رياض الصالحين: ص 14، كتاب التوابين لابن قدامة: ص 85، ط دمشق).
(3) رد المحتار: 190/ 3، 198، 204 وما بعدها، و 209، نهاية المحتاج: 175/ 7، رسالة التعزير للدكتور عبد العزيز عامر: ص 41، 436 - 441.

(7/5528)


والمواثبة والضرب بغير حق، والتزوير وشهادة الزور ونحوها مما يتوقف على الادعاء الشخصي، فلا يسقط بالتوبة، كما لا يسقط بعفو القاضي، إلا أن يصفح المعتدى عليه.
وأما إن كان التعزير حقاً لله تعالى كتعزير مفطر رمضان عمداً بدون عذر، وتارك الصلاة، وآكل الربا ظاهراً، ومن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق، أو كان حق الله فيه غالباً كمباشرة امرأة أجنبية فيما دون الجماع، كتقبيل وعناق وخلوة بها ونحوها، فيسقط بالتوبة، كما يسقط بعفو القاضي.
وهذا التفصيل في الواقع هو رأي الحنفية والشافعية.
ولكن وردت عبارات لبعض الفقهاء يفهم منها بعمومها أن التعزير مطلقاً يسقط بالتوبة باتفاق الفقهاء.
قال القرافي المالكي: إن التعزير يسقط بالتوبة، ما علمت في ذلك خلافاً (1).
وقال صاحب البحر الزخار الزيدي: يسقط التعزير بالتوبة، ويقرب أنه إجماع المسلمين الآن، لكثرة الإساءات فيما بينهم، ولم يعلم أن أحداً طلب تعزير من اعتذر إليه واستغفر، ولامن أقر بأنه قارف ذنباً خفيفاً، ثم تاب منه، ولاستلزامه تعزير أكثر الفضلاء، إذ لم يخل أكثرهم عن مقارفة ذنب، وظهوره في فعل أو قول (2).
ولعل المراد من هذه العبارات: التعزير الواجب حقاً لله تعالى؛ لأن الخلاف بين التعزير والحد هو في حقوق الله تعالى. أما الحقوق الشخصية فلا تسقط إلا
_________
(1) الفروق: 181/ 4.
(2) البحر الزخار، ملخصاً منه: 211/ 5.

(7/5529)


بمسامحة أو إسقاط أصحابها كما هو معروف، فقد قرر الفقهاء أن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة ما لم ترد المظالم لأصحابها، كما أنه لا يغفرها الباري سبحانه إلا بمغفرة صاحبها، ولا يسقطها إلا بإسقاطه (1).
وسيأتي مزيد بيان لموضوع إسقاط العقوبات بالتوبة.

ثالثاً ـ هل الحدود زواجر أو جوابر؟ إن المقصود من مشروعية الحدود والتعزيرات هو زجر الناس وردعهم عن ارتكاب المحظورات وترك المأمورات، دفعاً للفساد في الأرض ومنعاً من إلحاق الضرر بالأفراد والمجتمعات (2). ولكن الفقهاء اختلفوا في أمر آخر: وهو أنه، هل تتكرر العقوبة على الجاني في الآخرة، مع أن العقوبة استوفيت منه في الدنيا؟
قال الحنفية: إن الحدود والتعزيرات شرعت فقط زجراً لأرباب المعاصي من إفساد العلاقات الزوجية، وإضاعة الأنساب، وإتلاف الأعراض والأموال والعقول والنفوس، ولا يحصل التطهر من الذنب في الآخرة إلا بتوبة الجاني. واستدلوا بعموم آيات العقاب التي تدل على أن المذنب يستحق العقاب في النار، مثل قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} [النساء:93/ 4] ومثل قوله سبحانه في قطاع الطرق بعد أن ذكر عقابهم المعروف: {ذلك لهم خزيٌ في الدنيا، ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ} [المائدة:33/ 5] فقد أخبر
_________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 600/ 2، تفسير القرطبي: 200/ 18.
(2) راجع الأحكام السلطانية للماوردي: ص 213، فتح القدير: 112/ 4، تبيين الحقائق للزيلعي: 163/ 3.

(7/5530)


الله تعالى أن لهم عقوبة دنيوية، وعقوبة أخروية إلا من تاب، فإن التوبة تسقط عنه العقوبة الأخروية (1).
وقال أكثر العلماء: إن العقوبات الشرعية فضلاً عن أنها أصلاً للزجر في الدنيا، تعتبر تبعاً بالنسبة للمسلم جوابر لسقوط عقوبتها في الآخرة، إذا استوفيت في الدنيا، وفي الكافر زواجر، فإذا نفذت العقوبة على المسلم في الدنيا، فذلك يقيه عذاب الآخرة، فيكون الهدف منها مزدوجاً، للحديث السابق: «الله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة ... » وفي رواية له: «من أذنب فعوقب به في الدنيا لم يعاقب به في الآخرة ... » ولقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئآً من ذلك، فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك، فستره الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه» (2).

قاعدة الزواجر والجوابر في الشريعة:
قال العز بن عبد السلام والقرافي وصاحب تهذيب الفروق (3): الجوابر:
_________
(1) فتح القدير، والزيلعي، المرجعان السابقان، البحر الرائق: 3/ 5، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 154/ 3، أحكام القرآن للجصاص: 412/ 2.
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبادة بن الصامت (جامع الأصول: 161/ 1، شرح مسلم للنووي: 223/ 11 وما بعدها، القسطلاني شرح البخاري: 380/ 7، مغني المحتاج: 359/ 3، 2/ 4، حاشية البجيرمي على الخطيب الشربيني على المنهاج، باب الحدود، الأم للشافعي، باب الحدود، الشرح الكبير للدردير: 136/ 4، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 150/ 1، غاية المنتهى: 315/ 3).
(3) قواعد الأحكام: 150/ 1 وما بعدها، الفروق: 213/ 1، تهذيب الفروق: 211/ 1.

(7/5531)


مشروعة لجلب مافات من المصالح. والزواجر مشروعة لدرء المفاسد. والغرض من الجوابر: جبر ما فات من مصالح حقوق الله، وحقوق عباده. ولا يشترط أن يكون من وجب عليه الجبر آثماً.
ويفرق بينهما من أربعة وجوه:
1ً - إن الزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة. والجوابر مشروعة لاستدراك المصالح الفائتة.
2ً - إن معظم الزواجر مقررة على العصاة، زجراً لهم عن المعصية، وزجراً لمن يقدم بعدهم على المعصية. وقد تكون مع عدم العصيان، كما في تأديب الصبيان والمجانين، فإنا نزجرهم ونؤدبهم، لا لعصيانهم، بل لدرء مفاسدهم واستصلاحهم. وكقتال البغاة درءاً لتفريق الكلمة، مع عدم التأثيم؛ لأنهم متأولون.
ومعظم الجوابر تقرر على من لا يكون آثماً، بدليل أنه شرع الجبر في حالات الخطأ والعمد والجهل والعلم والنسيان والتذكر، وعلى المجانين والصبيان، بخلاف الزواجر، فإن معظمها لا يجب إلا على عاص زجراً له عن المعصية.
3ً - إن معظم الزواجر إما حدود مقدرة، وإما تعزيرات غير مقدرة، فهي ليست فعلاً للمزجورين، بل يفعلها الأئمة بهم، وإنما الجوابر فعل لمن خوطب بها.
وقد اختلف في بعض الكفارات: هل هي زواجر، لما فيها من مشاق تحمل الأموال وغيرها، أو هي جوابر؛ لأنها عبادات لا تصح إلا بنيات، وليس التقرب إلى الله تعالى زجراً، بخلاف الحدود والتعزيرات، فإنها ليست قربات؛ لأنها ليست فعلاً للمزجورين كما علم. والظاهر أنها جوابر؛ لأنها عبادات وقربات لاتصح إلا بالنية.

(7/5532)


4ً - إن الجوابر تقع في النفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء والجراح والعبادات والأموال والمنافع، بخلاف الزواجر، فإنها إنما تقع في الجنايات والمخالفات، ففي بداية المجتهد لابن
رشد (1): الجنايات التي لها حدود مشروعة خمس:
أحدها: جنايات على الأبدان أو النفوس والأعضاء، وهو المسمى قتلاً وجرحاً.
وثانيها: جنايات على الفروج وهو المسمى زناً وسفاحاً.
وثالثها: جنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذاً بحراب سمي حرابة إذا كان بغير تأويل، وإن كان بتأويل سمي بغياً. وما كان منها مأخوذاً على وجه المغافصة (2) من حرز يسمى سرقة. وما كان منها مأخوذاً بعلو مرتبة وقوة سلطان سمي غصباً.
ورابعها: جناية على الأعراض، وهو المسمى قذفاً.
وخامسها: جنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول والمشروب. وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط، وهو حد متفق عليه بعد صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه.
وأمثلة الجوابر فيما ذكر هي ما يأتي:

أما جوابر العبادات: فمثل التيمم مع الوضوء، وسجود السهو للسنن، وجبر ما فات مصلي النوافل من الاتجاه نحو القبلة بالاتجاه جهة السفر أثناء
_________
(1) انظر حـ 387/ 2.
(2) غافصه مغافصة: فاجأه وأخذه على غرة منه.

(7/5533)


الصلاة، واتجاه الخائف في صلاة الخوف جهة العدو إذا ألجأته الضرورة إلى ذلك، وجبر الصوم بالفدية بمد من الطعام في حق الشيخ الكبير، وجبر ارتكاب محظور من محظورات الحج والعمرة بالصيام، والإطعام، وذبح شاة (وهو النسك). ويلاحظ أن الصلاة لا تجبر إلا بعمل بدني. والأموال لا تجبر إلا بجابر مالي، والحج والعمرة يجبران تارة بعمل بدني كالصيام، وتارة يجبران بجابر مالي كذبح النسك والإطعام، والصوم تارة يجبر بمثله في حق من مات وعليه صيام، وتارة يجبر بالمال كالفدية للشيخ الكبير.

وأما جوابر المال: فالأصل رد الحقوق بأعيانها عند الإمكان، فإذا ردها كاملة الأوصاف برئ من عهدتها، وإن ردها ناقصة الأوصاف، جبر أوصافها بالقيمة؛ لأن الأوصاف ليست من الأموال المثلية.
وأما المنافع فنوعان: أحدهما ـ منفعة محرمة كمنافع الملاهي والفروج المحرمة واللمس والمس والتقبيل والضم المحرم، فلا تجبر احتقاراً لها، كما لا تجبر الأعيان النجسة لحقارتها.
والثاني ـ أن تكون المنفعة مباحة متقومة، فتجبر في العقود الفاسدة والصحيحة وفي حالة التلف في يد معتاد عليها كالغاصب؛ لأن الشرع قد قومها ونزلها منزلة الأموال، فلا فرق بين جبرها بالعقود كالإيجارات، وجبرها بالتلف والإتلاف ومنع صاحبها عن الانتفاع بها؛ لأن المنافع هي الغرض الأظهر من جميع الأموال، فمن غصب قرية أو داراً ضمن قيمة منفعتها طوال مدة الغصب، ولا تضمن منافع المغصوب عند الحنفية، إلا مال اليتيم ومال الوقف والأموال المعدة للاستغلال في رأي المتأخرين من الحنفية.

(7/5534)


وأما النفوس، والأعضاء، ومنافع الأعضاء، والجراح: فما رتبه الشارع عليها من ديات أو كفارات أو حكومة عدل (تعويض الجروح بحسب تقدير القاضي) فجوابر. وما رتبه الشارع عليها من قصاص أو ضرب أو سجن أو تأديب فزواجر.
مبدأ الستر والشفاعة في الحدود: يستحب الستر مطلقاً على مرتكب المعصية الموجبة للحد قبل الرفع إلى الإمام (1)، لحديث أبي هريرة عند الترمذي والحاكم: «ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة» وحديث ابن عباس مرفوعاً عند ابن ماجه: «من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته» وستأتي أدلة أخرى في بحث الشهادة.
وتحرم الشفاعة وقبولها في حدود الله بعد أن تبلغ الحاكم (2)، أما قبل ذلك فإنه جائز؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فهو مضادٌ الله في أمره» (3) وقوله صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمطروا أربعين صباحاً» (4) وقد أنكر النبي صلّى الله عليه وسلم على من شفع في حد ونهاه عن ذلك، قالت عائشة: «كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد، فكلَّموه، فكلَّم النبي صلّى الله عليه وسلم فيها، فقال له
_________
(1) نيل الأوطار: 136/ 7.
(2) غاية المنتهى: 312/ 3.
(3) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر، وكذا أخرجه أيضاً الحاكم وصححه، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر من وجه آخر صحيح موقوفاً عليه، وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعاً، وقال فيه: «فقد ضادَّ الله في ملكه» (نيل الأوطار: 107/ 7).
(4) رواه ابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة (المرجع السابق).

(7/5535)


النبي صلّى الله عليه وسلم: يا أسامة لا أُراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل، ثم قام النبي صلّى الله عليه وسلم خطيباً، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، فقطع يد المخزومية» (1).
_________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي عن عائشة (نيل الأوطار: 131/ 7).

(7/5536)


نظام التوبة وأثره في العقوبات
خطة البحث
المطلب الأول ـ نظام التوبة:
أولاً: الباعث على التوبة.
ثانياً: تعريف التوبة.
ثالثاً: شروط التوبة.
رابعاً: حكم التوبة شرعاً.
أـ وجوب التوبة فوراً.
ب ـ ما تجب التوبة عنه ووقت قبولها.
جـ ـ الوعد المضمون الحصول بقبول التوبة.
د ـ المشيئة الإلهية وحرية الاختيار في مغفرة الذنوب.
خامساً: التوبة والعقوبة.
أـ نوعا الجزاء أو العقوبة في الإسلام.
ب ـ الهدف من العقوبة.
جـ ـ الحاجة إلى العقوبة.
د ـ فلسفة التوبة أو هل تؤثر التوبة على المصلحة المقصودة من العقاب.

(7/5537)


هـ ـ المعاصي التي يتاب منها، وكيفية التوبة عنها.
التقسيم الأول ـ تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر.
التقسيم الثاني ـ تقسيم الذنب إلى ما يتعلق بحق الله أو بحق العباد.
المطلب الثاني ـ أثر التوبة الصادقة في الجزاءات أو العقوبات الأخروية:
1 - توبة الكافر.
2 - توبة المنافق.
3 - توبة الزنديق.
4 - توبة المبتدع.
المطلب الثالث ـ أثر التوبة في الجزاءات أو العقوبات الدنيوية:
تمهيد في أنوع العقوبات.
أولاً: آراء الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة.
عقوبة الردة والبغي
عقوبة القذف.
الحقوق الشخصية للناس.
عقوبة الزنا والسرقة وشرب الخمر.

(7/5538)


ثانياً: هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟.
ثالثاً: إسقاط التعازير بالتوبة.
خاتمة.

المطلب الأول ـ نظام التوبة:
أولاً- الباعث على التوبة:
الإنسان في أصل فطرته ـ وإن كان ميالاً إلى الشر واقتراف الذنوب والمعاصي لكنه كثيراً ما يدرك خطورة انحرافه وشذوذ سلوكه، فيبادر إلى تصحيح مسيرته إرضاء لشعوره الداخلي، وإحساساً بمرارة الألم والضيق الذي يعقب الفعل الجانح واستجابة لنداء الضمير وندماً على التورط في المعصية، وتأثراً بالوازع الديني الفطري المستقر في النفس الإنسانية، وطمعاً في نيل العفو من الله تعالى، وخوفاً من عقاب السلطة الحاكمة في عالم الدنيا.
والتخلص من الخطيئة بالتوبة دليل على قوة الإرادة وبعد النظر وسعة الأفق العقلي. وذلك بسبب قوة تأثير المغريات والشهوات الباعثة على الانحراف، لاسيما إذا اعتادها الإنسان، والعادة طبيعة ثانية، وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج عظيم، ولأن الإنسان عادة يتعجل الأمور، وقلما ينتظر المؤجل، إلا بشيء من الأناة والصبر والفهم والتخطيط، لذا لفت القرآن الكريم نظر الناس لطبائعهم، فقال تعالى: {كلاّ بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} [القيامة:20/ 75 - 21] {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} [الأعلى:87/ 16 - 17].

(7/5539)


ثانياً - تعريف التوبة: التوبة: عبارة عن ندم يورث عزماً وقصداً على عدم العود أو تكرار الخطيئة (1). وتتحقق بأن يرجع الخاطئ عن الفعل القبيح شرعاً وعقلاً، أو عن الإخلال بالواجب في الحال، ويندم على ما مضى، ويعزم على تركه في المستقبل (2)، قال عليه الصلاة والسلام: «الندم توبة» (3).
والحقيقة أن التوبة لغة هي الرجوع، ولا يلزم أن تكون عن ذنب. وشرعاً: هي الرجوع عن التعويج إلى سنن الطريق المستقيم (4). وأما الندم والعزم فهما من مقومات الرجوع الصحيح الذي يعد إقلاعاً صادقاً عن المعاصي. ولا بد من أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينياً أو شخصياً أمراً ذاتياً بحتاً مع القدرة والإرادة، فلو رجع لسبب آخر من ضعف بدن أو غرامة مالية أو تهديد بحبس أو إكراه من الدولة، لم تكن التوبة محققة نتائجها الدينية المرجوة، وأخصها تكفير الخطايا في عالم الآخرة، وإن حققت نتيجة مدنية تهتم السلطة بها ألا وهو قمع الإجرام وتوفير الأمن والطمأنينة والاستقرار.

ثالثاً- شروط التوبة: اشترط العلماء (5) لصحة التوبة شروطاً معينة تختلف بحسب كون
_________
(1) إحياء علوم الدين للغزالي: 3/ 4، 30.
(2) روح المعاني للألوسي: 35/ 25 وما بعدها.
(3) رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود. ورواه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال: صحيح على شرط الشيخين.
(4) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: 131/ 2.
(5) الإحياء للغزالي: 30/ 4 وما بعدها، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 187/ 1، رياض الصالحين للنووي: ص 11، تفسير القرطبي: 91/ 5، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: 131/ 2.

(7/5540)


المعصية بين الإنسان وبين الله تعالى، أو تتعلق بحقوق الناس. فإن كانت المعصية تمس أمراً بين الإنسان وربه، ولا تتعلق بحق شخصي لإنسان آخر، أي في حقوق الله تعالى فلها ثلاثة شروط:
أحدها ـ الإقلاع عن المعصية في الحال.
ثانيها ـ الندم على المعصية والمخالفة.
ثالثها ـ العزم على ألا يعود إلى مثل تلك المعصية أبداً في المستقبل.
فالتوبة ذات أركان ثلاثة: الإقلاع، والندم، والعزم، فإن فقدت أحد هذه الأركان الثلاثة لم تصح التوبة. إلا أن من عجز عن العزم والإقلاع كتوبة الأعمى عن النظر إلى المحرم، وتوبة المجبوب عن الزنا، فتوبته مجرد الندم، لأن (الميسور لا يسقط بالمعسور): أي لا يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة مثلاً بما عجز عنه، عملاً بقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (1)» أي إذا أمرتكم بمأمور تأتوا من ذلك المأمور ما استطعتموه أو ما قدرتم عليه.
وإن كانت المعصية تتعلق ب حق شخصي لإنسان، فشروطها أربعة وهي الثلاثة السابقة، ويضاف إليها الخروج من المظالم بأن يبرأ العاصي من حق صاحبها، فإن كانت المعصية أخذ مال أو نحوه بدون حق رده إليه، وإن كان الفعل قذفاً ونحوه مكن المقذوف منه أو طلب عفوه. وإن كان غيبة استحله منها وطلب مسامحته عن طعنه فيه في غيبته.
_________
(1) نص الحديث: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

(7/5541)


وأكمل أنواع التوبة ما حدده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك فيما روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه: إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال: يا أمير المؤمنين، ما التوبة؟ قال: «اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضيع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعاصي، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء
بدل كل ضحك ضحكته» (1).
والتوبة المستوفية كامل شرائطها هي التوبة النصوح المشار إليها في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً} [التحريم:8/ 66]. {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} [طه:82/ 20].
واختلاف العلماء في تحديد هذه التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولاً مجرد اختلاف ظاهري في العبارة، من هذه الأقوال ما قال القرطبي: التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيء الخلاّن (2).

رابعاً - حكم التوبة شرعاً: 1) ـ وجوب التوبة فورا ً:
اتفقت مصادر الشريعة في القرآن والسنة وإجماع الأمة على وجوب المبادرة إلى التوبة فور وقوع الخطيئة، فمن أخرها زماناً صار عاصياً بتأخيرها (3) وذلك
_________
(1) تفسير الألوسي: 36/ 25.
(2) انظر تفسير القرطبي: 198/ 18.
(3) قواعد الأحكام: 188/ 1، رياض الصالحين: ص 12، وتفسير القرطبي: 197/ 18.

(7/5542)


حتى يتحقق المقصود الأكمل منها بالتخلص من الأوزار، والظفر بمغفرة الله تعالى في الآخرة، والرضا عن الإنسان في الدنيا، ولتطهير المجتمع من الجرائم، ومنع الاسترسال في الانحراف كيلا تتجدد ظروف العود أو التكرار مرة أخرى في المستقبل، وغير ذلك من وجوه المصلحة المترتبة على التوبة التي يمكن فهمها من الحث المتكرر عليها في القرآن والأحاديث النبوية:
فمن آيات القرآن الكريم قوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور:31/ 24] {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً} [هود:3/ 11] {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً} [التحريم:8/ 66] {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب} [النساء:17/ 4] {فإن يتوبوا يك خيراً لهم} [التوبة:74/ 9] {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله، يجد الله غفوراً رحيماً} [النساء:110/ 4].
ومن الأحاديث النبوية المؤكدة للقرآن أو المبينة الموضحة لبعض أحكامه قوله صلّى الله عليه وسلم: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (1) «يا أيها الناس توبوا إلى الله، واستغفروه فإني أتوب في اليوم مئة مرة» (2) وقد استنبط العلماء من هذين الحديثين أنه يستحب للتائب إذا ذكر ذنبه الذي تاب منه أن يجدد الندم على فعله، والعزم على ترك العود إلى مثله، بل ولا يلزم أن تكون التوبة عن ذنب كما ذكرت سابقاً، فلا يعني الحديثان إذن أن النبي صلّى الله عليه وسلم يذنب في كل يوم سبعين مرة أو مئة مرة، بل معناه تجديد التوبة وتكريرها عن ذنب واحد صغير (3)
_________
(1) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم عن الأغر بن يسار المزني.
(3) قواعد الأحكام: 287/ 1 وما بعدها،

(7/5543)


الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للخطيب الشربيني: 131/ 2. واستعظام التقصير أو التفريط، أو ارتكاب أي خطيئة مهما صغرت، تشريعاً وتعليماً للأمة وإرشاداً للناس وفتحاً لباب التوبة للأمة، كل على قدر منزلته، وعلو رتبته، ومدى مسؤوليته العامة أو الخاصة. أما النبي صلّى الله عليه وسلم فقد تاب الله عليه من أي شيء.
ومن الأحاديث المرغبة في التوبة أيضاً: «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة» (1).

2) ـ ما تجب التوبة عنه ووقت قبولها:
تجب التوبة من جميع الذنوب أو المعاصي، فإن تاب المرء من بعضها صحت توبته عند أهل السنة من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي (2).
والمقصود بالذنب: كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل (3). ومما يدل على جواز التوبة عن أي مخالفة لأحكام الإسلام قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ... } [النساء:17/ 4] فإنه يعم الكفر وسائر المعاصي، فكل من عصى ربه، فهو جاهل حتى ينزع أو يقلع عن معصيته، قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً (4).
وإيجاب التوبة على الفور هو الأصل المبدئي العام، ومع ذلك يمكن قبول التوبة طوال حياة الإنسان تفضلاً من الله ورحمة، وتيسيراً وسماحة، وفتحاً لباب
_________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) رياض الصالحين: ص 12، تفسير القرطبي: 90/ 5
(3) الإحياء: 14/ 4
(4) تفسير القرطبي: 92/ 5.

(7/5544)


الأمل. وإبعاداً لليأس والقنوط عن النفس، إذ «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (1). ويرشد لذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (2) أي ما لم تبلغ روحه الحلقوم. وفسر عكرمة قوله تعالى: {ثم يتوبون من قريب} [النساء:17/ 4] بأن الدنيا كلها قريب. وقال الضحاك: كل ما كان قبل الموت فهو قريب (3) وفي حديث آخر: «ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه أدنى من ذلك، وقبل موته بيوم وساعة، ويعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه، إلا قبل منه» (4).
قال العلماء: إنما صحت التوبة قبل الموت ولو بيوم، لأن الرجاء بإصلاح الإنسان باق، ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل القبيح (5). أما من صار في حال اليأس من الحياة، كفرعون الذي آمن حينما صار في غمرة الماء والغرق، فلا تنفعه التوبة، أو إظهار الإيمان في ذلك الوقت؛ لأنها حال زوال التكليف الشرعي، قال الله تعالى عن قصة فرعون: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدْواً، حتى إذا أدركه الغرق، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس:90/ 10 - 91]. ويؤكد ذلك آية أخرى في موضوعها وهي: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت، قال: إني تبت الآن، ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً} [النساء:18/ 4].
_________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أنس بن مالك، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
(2) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) تفسير ابن كثير: 463/ 1، تفسير القرطبي: 92/ 5، تفسير الكشاف: 386/ 1.
(4) ذكره الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد الله بن عمر.
(5) تفسير القرطبي: 92/ 5.

(7/5545)


دلت الآيتان على عدم قبول التوبة حال اليأس من الحياة، وهو رأي ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين (1)، لكن قال جماعة من الحنفية: توبة اليأس مقبولة دون إيمان اليأس؛ لقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} [الشورى:25/ 42] (2).
وقال الشيخ محمد عبده: المراد بالزمن القريب: الوقت الذي تسكن فيه ثورة الشهوة النفسية، أو تنكسر به سورة الغضب، ويثوب إلى فاعل السيئة حلمه، ويرجع إليه دينه وعقله. فالظاهر من آية {من قريب} [النساء:17/ 4] أنها بينت الوقت الذي تقبل فيه التوبة من كل مذنب حتماً. وأما الآية التالية لها: {وليست التوبة} [النساء:18/ 4] فإنها بينت الوقت الذي لا تقبل فيه توبة مذنب قط، وما بين الوقتين مسكوت عنه، وهو محل الرجاء والخوف، فكلما قرب وقت التوبة من وقت اقتراف الذنب، كان الرجاء أقوى، وكلما بعد الوقت بالإصرار وعدم المبالاة والتسويف كان الخوف من عدم القبول هو الأرجح (3).

3) ـ الوعد المضمون الحصول بقبول التوبة:
وعد الله سبحانه وتعالى المغفرة لمن اجتنب الذنوب الكبائر، فقال: {إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء:31/ 4] أي إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب، وأدخلناكم الجنة، جزاء على الامتناع عن الكبائر، والصبر عنها، والحث على الدوام أوالبقاء على طريق الاستقامة. فهذا إخبار من الله سبحانه، وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن
_________
(1) تفسير القرطبي: 93/ 5.
(2) الدر المختار: 317/ 3.
(3) تفسير المنار: 440/ 4 وما بعدها، 448

(7/5546)


العاصين من عباده. ومثله قوله تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} [التوبة:104/ 9] وقوله {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} [طه:82/ 20].
قال القرطبي: فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء. والعقيدة: أنه لا يجب عليه شيء عقلاً، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب، والخلاصة: إن الآيات تتضمن وعداً من الله، ولا خُلْف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها، وهي الأربعة السابق ذكرها.
وأما العقل فلا يوجب قبول التوبة على الله خلافاً للمعتزلة، لأن من شرط الموجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق، ومالكهم والمكلف لهم، فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى عن ذلك (1).

4) ـ المشيئة الإلهية وحرية الاختيار في مغفرة الذنوب:
قد يعفو الله عن السيئات صغيرها وكبيرها من غير اشتراط شيء كالتوبة من الكبائر واجتناب الصغائر. لقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون} [الشورى:25/ 42].
أي يقبل الله التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي مطلقاً، سواء الصغائر والكبائر لمن يشاء (2) ومشيئة الله: موافقة لحكمته، وجارية على مقتضى سننه.
_________
(1) تفسير القرطبي: 90/ 5 وما بعدها.
(2) تفسير الألوسي: 36/ 25، تفسير القرطبي: 90/ 5.

(7/5547)


وجاءت آية أخرى تستثني الشرك بالله مما يغفره الله تعالى ويراد بالشرك مطلق الكفر الشامل لكفر اليهود وغيرهم. وذلك لأنه تتولد منه سائر الرذائل التي تهدم الأفراد والجماعات، قال عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:48/ 4]. أي إن مغفرة المعاصي لا لكل الناس، ولكن لمن يشاء الله من عباده الموفقين للإيمان والتوبة والعمل الصالح (1). {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود:114/ 11]. {قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر:53/ 39].
أي إن رأي جماعة من العلماء تقييد المغفرة في هذه الآيات بشرط التوبة، حتى لا يفهم من القرآن الإغراء بالمعصية والتجرئة عليها. والحقيقة أن الآية فوق ذلك، فهي تقارن بين الشرك وغيره، فالشرك معاقب عليه حتماً لإفساده النفوس البشرية، وأما ما عداه فمغفرته ممكنة بحسب المشيئة الإلهية، لأنه لا يصل إلى درجة الشرك في إفساد النفس (2).
والكلمة الأخيرة في قضية تكفير السيئات وعدم المؤاخذة عليها في الآخرة هي أنها تتعلق بمقاصد النفس وقوة الإيمان وسلطانه في القلب. وهذا رأي الغزالي (3) وتبعه الأستاذ الإمام محمد عبده (4)، فمن صح إيمانه واتجه قصده وإرادته إلى كف النفس عن المعاصي استحق المغفرة والرضوان.

وأما الإضرار بحقوق الناس المالية والأدبية فهو يعتبر كالشرك بالله لا يقبل
_________
(1) تفسير ابن كثير: 508/ 1 - 511، تفسير الكشاف: 424/ 1.
(2) تفسير المنار: 150/ 5، تفسير الألوسي: 52/ 5.
(3) الإحياء: 14/ 4 - 20.
(4) تفسير المنار: 51/ 5.

(7/5548)


المغفرة ما لم يسقط صاحبه حقه الشخصي، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء:48/ 4] وقال: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة} [المائدة:72/ 5] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم تركه، أوصلاة، فإن الله لا يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص
لا محالة» (1).

خامسا ً - التوبة والعقوبة: 1) ـ نوعا الجزاء أو العقوبة في الإسلام:
من المعلوم أن الشريعة الإسلامية تقرر نوعين من العقاب على الجرائم: وهما عقاب دنيوي وعقاب أخروى. فالعقاب الدنيوي: هو الذي تطبقه السلطة الزمنية الحاكمة في الدنيا. والعقاب الأخروي: هو الذي يوقعه الله تعالى على العاصي في عالم الآخرة كالتعذيب في النار ونحوه.
والجنايات الموجبة للعقوبة الدنيوية المحددة هي - كما تقدم - ثلاث عشرة: وهي القتل، والجرح، والزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والبغي، والحرابة (قطع الطريق)، والردة، والزندقة، وسب الله وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام (2).
_________
(1) رواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم وصححه من حديث عائشة.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي: ص 344.

(7/5549)


والسبب في تنوع العقاب في الإسلام هو الحماية الفعلية للأنظمة والأخلاق والفضائل وقمع الرذائل والقضاء عليها. فمن أفلت من عقاب الحاكم الزمني غفلة منه، أو تحايلاً عليه أو لعدم توافر وسائل الإثبات المطلوبة، أو لم يكن لجريمته عقاب مقرر في القوانين المطبقة كالكذب وخلف الوعد والحقد والحسد والغيبة والنميمة ونحوها، عوقب على مخالفاته في عالم الآخرة بين يدي أحكم الحاكمين الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
كما أن الجزاء الأخروي يمتاز بمكافأة الصالحين على فعل الخير تشجيعاً للفضيلة وحثاً على الاستقامة وصلاح الأعمال في الدنيا. والتوبة النصوح قد تساعد على تطبيق العقوبة في الدنيا بالإقرار بالجريمة أمام القاضي، وقد تسقط الجزاء الأخروي فتساهم في إصلاح المجرم، وإنقاذه من الزلات والأخطاء التي ارتكبها، وتجعله في عداد الصالحين، فيتحقق تلقائياً أو بصفة ذاتية الهدف الجوهري من تشريع العقوبات الزاجرة.

2) ـ الهدف من العقوبة:
يلتقي الفقه الإسلامي كأساس عام مع أفضل المبادئ والنظم التي توصلت إليها المدرستان التقليدية والوضعية لتحديد أساس حق العقاب ووظائف العقوبة قانوناً.
ففي مواجهة المدرسة التقليدية التي تقيم حق العقاب على أساس منفعة الصالح الاجتماعي عن طريق المنع أو الوقاية في المستقبل، نرى فقهاءنا يقررون أن أساس أو مناط العقوبات المقررة شرعاً هو مصلحة الناس العامة وسعادتهم (1)،فكل ما يحقق مصالح البشرية فهو مشروع مطلوب؛ لأن المقصود
_________
(1) الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي لأستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة ص 32 وما بعدها، ط الأنجلو المصرية، القصاص في الشريعة الإسلامية للمرحوم الشيخ أحمد إبراهيم: ص 247 وما بعدها.

(7/5550)


الأصلي من مشروعية الحدود والتعزيرات هوزجر الناس وردعهم عن ارتكاب المحظورات وترك المأمورات دفعاً للفساد في الأرض، ومنعاً من إلحاق الضرر بالأفراد والمجتمعات (1). قال ابن عابدين: إن مدار الشريعة بعد قواعد الإيمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم (2).
ومن حرص الشريعة على تحقيق المصلحة في العقاب: أنها تمنع كل الوسائل التي تؤدي إلى الإجرام كتناول المسكرات والمخدرات، بل واعتبرتها جرائم في ذاتها (3) وتطبيقات مبدأ (سد الذرائع) تؤكد ذلك، فالفاحشة مثلاً حرام، والنظر إلى عورة الأجنبية حرام، لأنها تؤدي إلى الفاحشة.
ثم إنه في مواجهة المدرسة التقليدية الجديدة التي تقول: إن أساس حق العقاب هو العدالة المطلقة مجردة عن فكرة المنفعة، يقرر فقهائنا ضرورة وجود تناسب بين الجريمة وعقوبة التعزير. ولكن دون فصل لمبدأ العدالة عن مراعاة المصلحة. وإنما يستهدف العقاب تحقيق العدالة وحماية المصالح الاجتماعية الثابتة.
وفي مواجهة المدرسة الوضعية التي تتفق مع المدرسة التقليدية من حيث ارتكازها على المبدأ النفعي، وتطالب بالعناية بشخص المجرم لتقدير درجة خطورته ومدى قابليته للإصلاح، نرى فقهاءنا يقررون ذلك صراحة عند تقدير القاضي العقوبات التعزيرية لأكثر الجرائم الواقعة، وذلك على قدر الجناية وعلى قدر مراتب الجاني. كما أن فقهاءنا يتميزون أساساً سواء في الحدود والتعزيرات بفتح
_________
(1) راجع الأحكام السلطانية للماوردي: ص 213، فتح القدير: 112/ 4، تبيين الحقائق للزيلعي 163/ 3، البحر الرائق: 3/ 5، أحكام القرآن للجصاص: 412/ 2.
(2) حاشية رد المحتار على الدر المختار: 262/ 3.
(3) القصاص في الشريعة للأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم: ص 21.

(7/5551)


باب التوبة عن المخالفات، ليبادر الجاني إلى إصلاح نفسه إصلاحاً ذاتياً صادراً عن اقتناع واختيار وحرية فكرية.

3) ـ الحاجة إلى العقوبة:
في كل إنسان نزعتا الخير والشر، وبما أن الخير سبيل الإصلاح والتقدم والسعادة وجب تقوية دوافع الخير في الإنسان، وإضعاف عوامل الشر في نفسه، فكان لا بد من تشريع العقاب الزاجر، لأنه يساعد في مقاومة الميل إلى الشر، ويرغب في الخير.
وحينئذ يعتبر تطبيق العقوبة على الجناة محققاً لمبدأ الرحمة العامة، والرحمة العامة في الحقيقة: هي العدل، والعدالة الحقيقية هي الرحمة الحقيقية، ويعني ذلك أن الرحمة والعدالة في الشريعة متلازمتان (1)، فليست الرحمة فوق العدل، ولا العدل فوق الرحمة أو القانون، بدليل صريح القرآن الكر يم: {وربك الغفور ذو الرحمة، لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب، بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً} [الكهف:58/ 18]. فإذا كانت العدالة تقتضي تعجيل العقوبة في الدنيا، فإن الرحمة تستدعي تأخيرها فتحاً لباب الأمل والتوبة والعدول عن المخالفة أمام كل إنسان في الحياة، وبذلك تكون التوبة أثراً من آثار الرحمة الواجب مراعاتها في تشريع العقاب مع مراعاة العدالة، وهذا هو جوهر رسالة الإسلام. قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107/ 21] قال ابن القيم «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها» (2).
_________
(1) الجريمة والعقوبة في الفقه، المرجع السابق: ص 6 - 8.
(2) أعلام الموقعين: 14/ 3.

(7/5552)


وقال ابن تيمية: «من رحمة الله سبحانه وتعالى أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام؛ وشرعها على أكمل الوجوه، المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع» (1). واستعرض العز بن عبد السلام مفاسد الجرائم التي شرعت عنها الزواجر من الحدود والتعزيرات بعبارة دقيقة البيان عميقة التحليل (2).
وقال الشاطبي في الموافقات: «إن أحكام الشريعة ماشرعت إلا لمصلحة الناس، وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله» ......

4) ـ فلسفة التوبة أو هل تؤثر التوبة على المصلحة المقصودة من العقاب؟.
إن الشريعة الإسلامية ـ كما هو معروف ـ تستهدف في أحكامها حماية مصالح الدنيا، وحفظ مقاصد الآخرة، بل إن الدنيا في الحقيقة مزرعة الآخرة، كما ورد في الأثر.
وبناء على هذا فلا يتصور أن تكون التوبة سبباً في ضياع مصلحة الجماعة في تطبيق العقوبة، ولا وسيلة تؤدي إلى الإغراء بالمعاصي والتجرئة عليها أو تسهيل ارتكابها، وإنما على العكس تكون التوبة الصادقة مساعدة على استئصال شأفة الجريمة، لأنه إذا كانت الغاية الأولى للعقاب هي إصلاح المجرم، فإن التوبة أقوى تأثيراً في تحقيق تلك الغاية لصدروها عن باعث ذاتي واقتناع داخلي. فهي إذن تفتح باب الأمل أمام المخطئين، وتدفعهم إلى معترك الحياة بروح إيجابية جديدة وحيوية وفعالية منتجة.
_________
(1) انظر رسالته في القياس ص 85 والسياسة الشرعية له: ص 98.
(2) قواعد الأحكام: 163/ 1 - 165.

(7/5553)


ثم إن دور التوبة مقصور ـ باتفاق الفقهاء كما سأبين ـ على الحالة التي لم تعرض فيها قضية الجريمة على محاكم القضاء، وفي حقوق المجتمع المحضة (أي حق الله بتعبير فقهائنا) فإن عرضت القضية على الحاكم لم يكن للتوبة تأثير في إسقاط العقوبة. وإن مست الجريمة حقاً شخصياً للفرد لم يَقبَل الحد (أي العقوبة المقدرة شرعاً) الإسقاط أيضاً بالتوبة ولا بغيرها كالإبراء والعفو والتنازل والصلح والمعاوضة.

5) ـ المعاصي التي يتاب منها وكيفية التوبة عنها:
يتناول هذا الموضوع أمرين: تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وتقسيم الذنوب إلى ما يكون حقاً لله أو للآدميين.

التقسيم الأول - تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر:
كل معصية في الإسلام تصح التوبة عنها، سواء أكانت من الكبائر أم من الصغائر، ابتداء من جريمة الكفر أو الشرك بالله إلى أدنى المحظورات. والمراد من الصغائر: هي التي تحصل لظرف طارئ كثورة أو غضب، أو نزوة طائشة، ثم يعقبها تأنيب وندم يمحو صفة الإصرار (1). كالنظر إلى ما لا يحل النظر إليه من المرأة الأجنبية (أي التي لا قرابة محرمية منها)، وضرب الخادم بدون ذنب، وسماع الملاهي والأوتار، واللعب بالنرد، ومجالسة شاربي الخمر والفساق والخلوة بالمرأة الأجنبية.
واختلفت عبارات العلماء في تحديد الكبائر:
_________
(1) عن ابن عباس أن رجلاً قال له: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبع مئة أقرب، لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار (تفسير الكشاف: 394/ 1، تفسير المنار: 50/ 5، الإحياء: 28/ 4 وما بعدها.

(7/5554)


فقال ابن عمر: كل ما نهي عنه فهو كبيرة.
وقال صحابي آخر: كل ما وعد الله عليه بالنار فهو كبيرة.
وقال بعض السلف: كل ما أوجب عليه الحد في الدنيا فهو كبيرة (1).
وأما غير الصحابة فقال الذهبي: الكبائر: كل ما نهى الله ورسوله عنه في الكتاب والسنة والأثر عن السلف الصالحين (2). وذكر في كتابه (الكبائر) سبعين كبيرة، من أهمها: الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل ما ل اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (3)، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والظلم، والغدر، وعدم الوفاء بالعهد، واليمين الغموس (وهي الكاذبة قصداً وعمداً) والرشوة، والقمار، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والغصب، وإيذاء الناس وشتمهم.
وذكر المفسرون في تفسير المعصية الكبيرة آراء أهمها أربعة (4):
أحدها: إنها المعصية الموجبة للحد.
والثاني: إنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة.
والثالث: قال إمام الحرمين وغيره: كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة.
_________
(1) الإحياء: 15/ 4، ط العثمانية المصرية.
(2) كتاب الكبائر للحافظ الذهبي: ص 7.
(3) وهذه السبع هي السبع الموبقات في الحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) تفسير ابن كثير: 487/ 1، ط البابي الحلبي.

(7/5555)


والرابع: ذكر القاضي أبو سعيد الهروي: إن الكبيرة: كل فعل نص الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في جنسها حداً من قتل أو غيره. وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في الشهادة والرواية واليمين.
وإذا كان القول الثاني هو لأكثر المفسرين، فإن الرأي الثالث هو أولى الآراء بالقبول؛ لأن الغزالي اعتمده، واستحسنه الرازي (1).
فالكبيرة إذن: هي كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به (2).

التقسيم الثاني - تقسيم الذنوب إلى ما يتعلق بحق الله أو بحق العباد (3):
تنقسم الذنوب إلى مايكون بين العبد وبين الله تعالى، وإلى ما يتعلق بحقوق الأشخاص (4).
_________
(1) تفسير المنار: 49/ 5.
(2) صنف أبو طالب المكي الكبائر بسبع عشرة: أربعة في القلب: وهي الشرك بالله، والإصرار على معصيته، والقنوط من رحمته، والأمن من مكره. وأربع في اللسان: وهي شهادة الزور، وقذف المحصن، واليمين الغموس، والسحر. وثلاث في البطن: وهي شرب الخمر والمسكر من كل شراب وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا وهو يعلم. واثنتان في الفرج، وهما الزنا واللواط. واثنتان في اليد: وهما القتل والسرقة. وواحدة في الرجلين: وهو الفرار من الزحف. وواحدة في جميع الجسد: وهو عقوق الوالدين. وتعقبه الغزالي بأنه تصنيف غير شامل ويمكن الزيادة عليه. وقال: إن الكبائر على ثلاث مراتب: الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر، ويتلوه الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته، ثم يتلوه البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله. المرتبة الثانية: النفوس. المرتبة الثالثة: الأموال. ثم استعرض بقية الجرائم (راجع الإحياء: 15/ 4 - 20).
(3) تفسيرالقرطبي 199/ 18 وما بعدها، الإحياء 14/ 4.
(4) المقصود بحق الله تعالى: ما يمس المجتمع وهو مايتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد. وينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه. وأما حق العبد: فهو الحق الشخصي: وهو مايتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير ودمه وعرضه.

(7/5556)


فأما ما يتعلق بحق الله تعالى: فهو كترك الصلاة والصوم. والتوبة لا تصح منه، حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها.
وأما ما يتعلق بحقوق العباد: فهو كترك الزكاة وقتل النفس وغصب الأموال وشتم الأعراض، والتوبة منه تكون برد الحق لصاحبه. ففي حال التفريط بالزكاة يجب القضاء. وفي القتل تكون التوبة بالتمكين من القصاص إن كان عليه، وكان مطلوباً منه قضاء. وفي القذف ببذل ظهره للجلد إن كان مطالباً به. فإن عفي عنه أو عن القتل مجاناً كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. فإن عفي عن القتل بمال فعليه أداؤه إن كان واجداً له، قال الله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/ 2]. وكذلك شراب الخمر والسراق والزناة إذا أصلحوا وتابوا سقط الحد عنهم في رأي بعض العلماء كما سيأتي تفصيل الكلام فيه.
وإن كان الذنب من مصالح العباد، فلا تصح التوبة عنه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه ـ عيناً كان أو غيره ـ إن كان قادراً عليه. فإن لم يكن قادراً فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه.
وإن كان العاصي أضر بآخر فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يطلب منه العفو والاستغفار له، فإذا عفا عنه، سقط الذنب عنه.
وإن أساء رجل إلى آخر بأن فزَّعه بغير حق، أو غمه، أو لطمه، أو صفعه بغير حق أو ضربه بسوط فآلمه، أو شانه بشتم لا حد فيه ثم ندم واستعفى من المضرور، وعزم على ألا يعود فعفا عنه صاحب الحق، سقط عنه ذلك الذنب.

(7/5557)


المطلب الثاني - أثر التوبة الصادقة في الجزاءات أو العقوبات الأخروية:
يترتب على التوبة النصوح ـ كما ذكر ـ إسقاط عقوبة المعصية قطعاً فيما بين التائب وبين الله تعالى، لأن التوبة تسقط أثر المعصية (1)، ولو كانت أعظم الجرائم التي هي الكفر أو الشرك بالله، لأنه يغفر كل ذنب للتائب إلا إذا أصر عليه فلا يغفر (2)، قال الله تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب} [غافر:3/ 40] وقال سبحانه: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا، فقد مضت سنة الأولين} [الأنفال:8/ 38] {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر:53/ 39]: أي بشرط التوبة في رأي الزمخشري وغيره.

روى مسلم من حديث عمرو بن العاص، قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم، قلت: ابسط يدك أبايعك فبسط يمينه، فقبضت يدي، فقال: (مالك؟) قلت: أردت أن اشترط، قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله».
ويؤيد ذلك أحاديث نبوية كثيرة منها: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (3) «لو أخطأتم حتى تبلغ السماء، ثم تبتم لتاب الله عليكم» (4) «والذي نفسي بيده لو
_________
(1) مغني المحتاج: 184/ 4.
(2) تفسير الألوسي: 52/ 5، تفسير الكشاف: 401/ 1، 36/ 3.
(3) رواه ابن ماجه والطبراني من حديث عبد الله بن مسعود ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي مرفوعاً أيضاً من حديث ابن عباس وزاد (والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه).
(4) رواه ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة.

(7/5558)


لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم» (1) «التوبة تجب ما قبلها» (2).
وسأذكر هنا نموذجاً من توبة العصاة:

1 - توبة الكافر: الكفر أو الشرك إما في الألوهية أو في الربوبية، فالشرك في الألوهية: هو الشعور بسلطة وتأثير وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى، وكل قول وعمل ينشأ عن ذلك الشعور. والشرك في الربوبية: هو الأخذ بشيء من أحكام الدين والحلال والحرام عن بعض البشر دون الوحي (3).
وتوبة المشرك أو الكفر تكون بإعلان الإسلام والإقرار بتوحيد الإله (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية) سواء أقدر عليه الحاكم أم لم يقدر عليه، لأن عدم القدرة ليست مشترطة في توبة الكفار. والتوحيد الذي يناقض الشرك: هو عبارة عن إعتاق الإنسان من رق العبودية لكل أحد من البشر وكل شيء من الأشياء السماوية والأرضية، وجعله حراً كريماً عزيزاً لا يخضع خضوع عبودية مطلقة إلا لمن خضعت لسنته الكائنات، بما أقامه فيها من النظام في ربط الأسباب بالمسببات، فلسنته الحكيمة يخضع، ولشريعته العادلة المنزلة يتبع. وإنما خضوعه هذا لعقله ووجدانه، لا لأمثاله في البشرية وأقرانه (4).
وتقبل توبة الكافر اتفاقاً ترغيباً في الإسلام (5) ولقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8].
_________
(1) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة.
(2) ذكره بعض الفقهاء ولم أقف على تخريجه وقد سبق بيان ذلك.
(3) تفسير المنار: 148/ 5.
(4) المرجع السابق: 149/ 5.
(5) الفروق للقرافي: 181/ 4.

(7/5559)


2 - توبة المنافق: النفاق: إظهار الإيمان باللسان، وكتمان الكفر
بالقلب (1) والمنافق وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام أشد خطراً على المسلمين من الكفار، لأنه يكتم الكفر والكيد للمسلمين ويتربص الدوائر بهم، ويرتكب السيئات بباعث النفاق الظاهر والخبث الباطن، فاستحق العذاب مرتين، وكان في الدرك الأسفل من النار.
وتوبة المنافق تكون بتزكية نفسه ومجاهدتها بقدر الاستطاعة والطاقة، وطلب العفو عما لا طاقة له به، وترك الكفر ظاهراً أو باطناً، وإعلانهم الإيمان بالله ورسوله. ويمكن قبول توبة المنافق لقوله تعالى {ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً} [الأحزاب:24/ 33] {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} ... {عسى الله أن يتوب عليهم} [التوبة:102/ 9] {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم، وإما يتوب عليهم} [التوبة:106/ 9].

3 - توبة الزنديق: الزنادقة هم الدهريون الذين ينكرون وجود الإله ويزعمون أن العالم وجد مصادفة (2). وقال المالكية: الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويسرّ الكفر (3). وقال الحنفية: الزنديق: هو من لا يتدين بدين (4).
_________
(1) التعريفات للجرجاني: ص 219، الفرق بين الزنديق والمنافق والدهري والملحد مع الاشتراك في إبطان الكفر: أن المنافق غير معترف بنبوة نبينا صلّى الله عليه وسلم. والدهري كذلك مع إنكاره إسناد الحوادث إلى الصانع المختار سبحانه وتعالى. والملحد: وهو من مال عن الشرع القويم إلى جهة من جهات الكفر سواء اعترف بالنبوة لمحمد أم لا، أظهر الكفر أو أبطنه، سبق إلى الإسلام أم لا. فهو أوسع فرق الكفر. أما الزنديق في لسان العرب فهو من ينفي الباري تعالى، أو من يثبت الشريك أو من ينكر حكمته، أو بعبارة أخرى كما في الفتح: هو من لا يتدين بدين (رد المحتار: 324/ 3).
(2) المنقذ من الضلال للغزالي: ص 10.
(3) القوانين الفقهية: ص 365.
(4) رد المحتار: 201/ 3، 324.

(7/5560)


واختلف العلماء في توبة الزنديق، فقال العترة من الزيدية، وأبو حنيفة ومحمد والشافعي: تقبل توبة الزنادقة ولا يقتلون؛ لعموم قوله تعالى: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8].
وقال مالك وأبو يوسف والجصاص: لا تقبل توبتهم، فإذا عثر على الزنديق قتل ولا يستتاب، ولا يقبل منه ادعاء التوبة إذ يعرف منه عادة التظاهر بالتوبة تقيه، بخلاف ما يبطنه، واستثنى الإمام مالك من جاء تائباً قبل ظهور زندقته فتقبل توبته (1).
والمفتى به في مذهب الحنفية أن الزنديق إذا أخذ قبل توبته ثم تاب لم تقبل توبته ويقتل، ولو أخذ بعدها قبلت (2).
قال صاحب البحر الزخار الزيدي: لكن الأقرب العمل بالظاهر، وإن التبس الباطن لقوله صلّى الله عليه وسلم لمن استأذنه في قتل منافق: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله» (3).

4 - توبة المبتدع: المبتدع: هو الذي أحدث شيئاً في الإسلام ليس منه، ولم يكن عليه الصحابة والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي. أو هو كل من قال قولاً خالف فيه اعتقاد أهل السنة والجماعة (4).
فإذا كان ببدعته منكراً لما علم بالتواتر والضرورة (أي البداهة) من الشريعة، فهذا كافر ببدعته، كالمجسمة أو المشبهة، الذين شبهوا معبودهم بإنسان له جسم محدود بسبعة أشبار بشبر نفسه، أو الذين ألهوا أحداً من البشر.
_________
(1) البحر الزخار: 207/ 5، القوانين الفقهية: ص 365.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 324/ 3.
(3) روى الحديث مسلم عن المقداد بن الأسود.
(4) التعريفات للجرجاني: ص 37، رد المحتار: 201/ 3.

(7/5561)


وأما إن كان المبتدع لا يكفر ببدعته، فهو ضال فاسق كأهل البدع والأهواء المخالفين لأهل السنة أو سيرة السلف الصلاح في بعض المسائل الاعتقادية، مثل القدَرية القائلين بخلق الإنسان أفعال نفسه، والخوارج الذين كفروا علياً ومعاوية وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة.
وتوبة المبتدع تكون بالتخلص من بدعته والتزام العقيدة الحقة، ولا مانع من قبول توبته وإن كان
كافراً، لأن العقل يجوز ذلك، وظاهر الشرع وعموم الآيات القرآنية يدل على إمكان قبول توبة الكفار والمشركين (1).
والخلاصة: إن قبول التوبة في عالم الآخرة مشروط بعدم الإصرار على المعصية، وعدم التلاعب بالإسلام. وعدم البقاء على الكفر قبل الموت وذلك هو ما يشير إليه القرآن الكريم في الآيات الثلاث الآتية:
1 - {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا، وهم يعلمون} [آل عمران:135/ 3].
2 - {إن الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم، ولا ليهديهم سبيلاً} [النساء:4/ 137]. {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} [آل عمران:90/ 3].
3 - {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} [آل عمران:91/ 3] و [البقرة:161/ 2].
_________
(1) الاعتصام للشاطبي: 271/ 2.

(7/5562)


المطلب الثالث - أثر التوبة في الجزاءات أو العقوبات الدنيوية:
تمهيد في أنواع العقوبات:
العقوبات الدنيوية بحسب نوع المصلحة المقصودة منها ثلاثة أنواع وهي (1):

1 - الحدود: وهي العقوبات المقدرة شرعاً الواجبة حقاً لله تعالى في الشريعة، أي التي تستوجبها المصلحة العامة: وهي دفع الفساد عن الناس، وتحقيق الصيانة والسلامة لهم. وتطبق على جرائم سبعة: الزنا، القذف، شرب المسكرات، السرقة، الحرابة، الردة، البغي.
2 - القصاص والدية: أما القصاص فهو معاقبة الجاني على جريمة القتل أو القطع أو الجراح عمداً بمثلها. وأما الدية فهي العوض المالي الواجب دفعه بدل النفس. وقد شرع القصاص مراعاة للحقين: حق الجماعة العام في أصل العقاب، وحق المجني عليه الخاص في نوع العقاب.
3 - التعازير: وهي العقوبة المشروعة على معصية أو جناية لا حد فيها ولا كفارة، سواء أكانت الجناية على حق الله تعالى، كالأكل في نهار رمضان وترك الصلاة، وطرح الأقذار في طريق الناس ونحو ذلك، أو على حق شخصي للعباد كأنواع السب والضرب والإيذاء بأي وجه، وغير ذلك من مختلف أنواع جرائم الاعتداء على الأموال والأنفس التي لا حد فيها.
وتعدّ أغلب الجرائم التي نص عليها قانون العقوبات في مصر وسورية داخلة تحت عقوبات التعزير الشرعية، سواء أكانت جنايات وجنحاً مضرة بالمصلحة العامة، أو تحصل لآحاد الناس، أو كانت مخالفات عادية.
_________
(1) راجع التشريع الجنائي الإسلامي للمرحوم الأستاذ عبد القادر عودة: 78/ 1 وما بعدها.

(7/5563)


وأبحث هنا أثر التوبات في هذه العقوبات.
أولاً - آراء الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة: اتفق الفقهاء على أن الحدود إذا رفعت إلى ولي الأمر أو نائبه القاضي، ثم تاب المتهم عن جريمته بعد ذلك، لم يسقط الحد عنه، بل تجب إقامة الحد وإن تاب المجرم حينئذ، سواء أكان قاطع طريق أم لصاً أم زانياً أم قاذفاً وغيرهم، إذ لا يجوز تعطيل الحد، لا بعفو، ولا بشفاعة، ولا بهبة، ولا غير ذلك (1) لأن الجريمة تمس مصلحة الجماعة، والتصرف على الرعيةمنوط بالمصلحة العامة. ويرشد لذلك من السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقبل العفو عن سارق رداء صفوان بن أمية، وقال لصفوان: «فهلا قبل أن تأتيني به؟» ثم قطع يده (2) يريد النبي صلّى الله عليه وسلم أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان العفو سائغاً جائزاً.
وذكر في الموطأ عن عثمان رضي الله عنه. أنه قال: «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع».
وفي سنن أبي داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب».
واتفق الفقهاء أيضاً على قبول توبة المحارب (قاطع الطريق) قبل قدرة السلطان عليه: وهو أن يأتي إلى الحاكم عن طوع واختيار ويظهر التوبة عنده، ويسقط عنه الحبس، لأن الحبس للتوبة، وقد تاب فلا معنى للحبس (3). ودليلهم
_________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 66، رد المحتار لابن عابدين: 154/ 3، البحر الزخار: 158/ 5.
(2) رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس.
(3) البدائع: 96/ 7، فتح القدير: 272/ 4، أحكام القرآن للجصاص: 413/ 2، المنتقى على الموطأ: 174/ 7، بداية المجتهد: 447/ 2، أحكام القرآن لابن العربي: 600/ 2، القوانين الفقهية: ص 363، مغني المحتاج: 183/ 4، تكملة المجموع: 342/ 18، المغني لابن قدامة: 295/ 8، أعلام الموقعين: 78/ 2، غاية المنتهى: 345/ 3، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 68، كشاف القناع: 124/ 6، الإفصاح: 424، الخلاف في الفقه للطوسي: 482/ 2، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 304، البحر الزخار: 202/ 5، شرح النيل: 643/ 7.

(7/5564)


صريح قوله تعالى في حق المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة:34/ 5].
ومفهوم الآية ألا يسقط عنه شيء بالتوبة بعد الظفر عليه، لأن الظاهر أن التوبة قبل ذلك توبة إخلاص، ولترغيبه في التوبة، وبعده الظاهر أنها تقيه من إقامة الحد عليه، ولا حاجة لترغيبه في التوبة؛ لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة.

أما ما يسقط عنه بالتوبة: فاختلفوا فيه (1)، فقال فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والإمامية والزيدية في أرجح الآراء لديهم: تسقط بتوبة المحارب حقوق الله تعالى كحد الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر؛ لأنها حدود الله تعالى، فتسقط بالتوبة كحد المحاربة، ولأن في إسقاطها ترغيباً في التوبة.
ولا تسقط عنه حقوق الناس الشخصية كحد القذف والقصاص وضمان الأموال، إذ لا دليل على إسقاطها.
وهناك آراء أخرى، قال الهادي من الزيدية، والإباضية: يسقط عنه ما قد أتلف ولو حقاً لآدمي في نفس أو مال أو قتل، لعموم الآية: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة:34/ 5].
وقال بعضهم: ترفع التوبة جميع حقوق الله، ولكن يؤاخذ بالدماء (أي جراح النفس من قتل وضرب وجرح) والأموال بما وجد بعينه في يده، ولا تتبع ذمته. وهو قول لمالك.
_________
(1) المراجع السابقة.

(7/5565)


وبعضهم قال: إن التوبة تسقط جميع حقوق الله، وحقوق الآدميين من مال ودم، إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده، وهو قول الليث بن سعد ورجحه ابن جرير الطبري (1).
وشدد بعضهم وهو قول عند الشافعية وللإمام مالك. فقال: لا تسقط التوبة عن المحارب إلا حد الحرابة فقط، ويؤاخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين.

عقوبة الردة والبغي:
الردة: ترك الدين الإسلامي والخروج عليه بعد اعتناقه. والبغي: الخروج عن طاعة الحاكم بثورة مسلحة، أو الخروج على الإمام مغالبة.
اتفق الفقهاء على إسقاط عقوبة الباغي (وهي القتل) بالتوبة؛ لأن القصد من عقابه توفير الطاعة والولاء والعدول عن البغي (2).
كما أن عقوبة المرتد (وهي القتل ومصادرة ماله) تسقط أيضاً بالتوبة بأن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام أو عما انتقل إليه من مذهب الكفر، لأن الغاية هي رجوعه إلى الإسلام، لذا استحب الحنفية استتابته وعرض الإسلام عليه قبل القتل، لاحتمال أن يسلم، وأوجب جمهور الفقهاء حصول الاستتابة قبل القتل ثلاث مرات (3)، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يتب وجب عليه القتل.
_________
(1) تفسير الطبري: 287/ 1 وما بعدها، شرح الأزهار: 378/ 4، شرح النيل: 643/ 7.
(2) فتح القدير: 409/ 4، الدر المختار ورد المحتار: 340/ 3، الشرح الكبير للدردير: 299/ 4، مغني المحتاج: 127/ 4، المغني: 114/ 8.
(3) المبسوط للسرخسي: 98/ 10، فتح القدير: 385/ 4، البدائع: 134/ 7، تبيين الحقائق: 284/ 3، بداية المجتهد: 448/ 2، الشرح الكبير للدردير: 304/ 4، مغني المحتاج: 139/ 4، المغني: 124/ 8، كشاف القناع: 144/ 6، القوانين الفقهية: ص 364، شرح النيل: 643/ 7.

(7/5566)


وأضاف الزيدية وأئمة المذاهب أن من تكرر منه الردة والإسلام حتى كثر فهو مقبول التوبة، لقوله تعالى: {يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8] ولم يفصل النص بين من تكرر منه ذلك أو لم يتكرر (1).
ذكر النسائي عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: هل من توبة؟ فنزلت آيات من سورة آل عمران آخرها (2) {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، فإن الله غفور رحيم} قال ابن عباس: فأرسل إلى الرجل فأسلم.

عقوبة القذف:
اتفق العلماء على أن التوبة لا تسقط حد القذف، لأنه حق آدمي (3).

الحقوق الشخصية للناس:
يظهر مما سبق أن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة ما لم ترد المظالم لأصحابها، كما أنه لا يغفرها الباري سبحانه إلا بمغفرة صاحبها، ولا يسقطها إلا بإسقاطه (4).

عقوبة السرقة والزنا وشرب الخمر:
اختلف الفقهاء في إسقاط عقوبات هذه الحدود بالتوبة على رأيين:
_________
(1) البحر الزخار: 208/ 5.
(2) الآيات: 86 - 89.
(3) بداية المجتهد: 434/ 2، المغني: 296/ 8.
(4) أحكام القرآن لابن العربي: 600/ 2، تفسير القرطبي: 200/ 18.

(7/5567)


الرأي الأول: قال الحنفية (1) والمالكية والشافعية والظاهرية والزيدية والإباضية في أرجح الآراء لديهم (2): إن التوبة لا تسقط سائر الحدود المختصة بالله تعالى كالزنا والسرقة وشرب الخمر، سواء بعد رفع الأمر الى الحاكم أو قبله واستدلوا بالأدلة الآية:
1 - عموم الآيات القرآنية التي تقرر عقوبة هؤلاء العصاة مثل قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2/ 24] {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5] فكل نص منهما عام في التائبين وغيرهم، ولا يستثنى إلا حد الحرابة كما أبنت، وحد تارك الصلاة لو تاب سقط القتل قطعاً، ولو بعد رفعه إلى الحاكم؛ لأن عقابه على الإصرار على الترك لا على مجرد الترك في الماضي. وكذلك إذا زنى الكافر ثم أسلم يسقط عنه الحد.
2 - أقام النبي صلّى الله عليه وسلم الحد على من جاءه تائباً، إذ رجم ماعزاً والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة، وقد جاؤوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد، بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم سمى فعلهم توبة، فقال في حق المرأة: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم (3). وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني سرقت جملاً لبني فلان، فطهرني فأقام الرسول الحد عليه.
_________
(1) استثنى الكاساني في البدائع حد السرقة العادية فقال: أنه يسقط إذا تاب السارق قبل أن يظفر به، ورد المال إلى صاحبه، بخلاف سائر الحدود لأن الخصومة (أي الادعاء بالحق) شرط في السرقة الصغرى والكبرى (أي الحرابة) والخصومة تنتهي بالتوبة.
(2) البدائع: 96/ 7، فتح القدير: 272/ 4، الدر المختار: 154/ 3، الفروق للقرافي: 181/ 4، تفسير القرطبي: 174/ 6 وما بعدها، مغني المحتاج: 184/ 4، المهذب: 285/ 2، حاشية قليوبي وعميرة: 201/ 4، القوانين الفقهية: ص 362، شرح النيل: 650/ 7، المحلى: 156/ 11 - 159، البحر الزخار: 158/ 5.
(3) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه من حديث عمران بن الحصين.

(7/5568)


3 - إن الحد كفارة، فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل، ولو جاز إسقاط الحد بالتوبة، لتمكّن كل مجرم من إسقاط العقوبة عنه بادعاء التوبة، وفي ذلك تشجيع على الإجرام والفساد.
4 - لا تقاس الحدود على حد الحرابة لأن مرتكبها مقدور عليه، فلا تسقط التوبة عنه الحد المقرر، كالمحارب بعد القدرة عليه.

الرأي الثاني: قال الحنابلة في الأرجح عندهم (1) والشيعة الإمامية (2) وبعض علماء الحنفية (3) والمالكية (4) والشافعية (5) والزيدية (6): إن التوبة تسقط حد الزنا والسرقة وشرب الخمر عن العصاة من غير اشتراط مضي زمان قبل رفع الأمر إلى الحاكم أو قبل القدرة عليهم أو قبل البينة وثبوت الحد عليهم، واستدلوا بما يأتي:
_________
(1) المغني: 296/ 8، غاية المنتهى: 345/ 3، قال ابن تيمية في فتاويه: 253/ 4 من وجب عليه حد الزنا أو السرقة أو شرب الخمر فتاب قبل أن يرفع إلى الإمام، فالصحيح أن الحد يسقط عنه كما يسقط عن المحاربين بالإجماع إذا تابوا قبل القدرة.
(2) قال الطوسي: كل من وجب عليه حد من حدود الله من شرب الخمر أو الزنا أو السرقة من غير المحاربين ثم تاب من قبل قيام البينة عليه بذلك فإنها بالتوبة تسقط (الخلاف في الفقه: 482/ 2، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 297 - 303).
(3) قال ابن عابدين من الحنفية: الظاهر أن التوبة لا تسقط الحد الثابت عند الحاكم بعد الرفع إليه، أما قبله فيسقط الحد بالتوبة حتى في قطاع الطرق، سواء كان قبل جنايتهم على نفس أو عضو أو مال أو كان بعد شيء من ذلك. ونقل عن شرح الأشباه: إذا تاب شارب الخمر توبة نصوحاً أرجو ألا يحد في الآخرة، فإنه لا يكون أكثر من الكفر والردة، وإنه يزول بالإسلام والتوبة (رد المحتار: 154/ 3).
(4) الفروق للقرافي: 181/ 4، قال فيه: (إن الحدود لا تسقط بالتوبة على الصحيح إلا الحرابة) مما يدل على وجود قول آخر بالسقوط.
(5) للشافعي قول بأن هذه الحدود تسقط بالتوبة قياساً على حد المحاربة. لكن قال النووي لا تسقط سائر الحدود عدا حد الحرابة بالتوبة في الأظهر (مغني المحتاج: 184/ 4، تكملة المجموع: 343/ 18، المهذب: 285/ 2).
(6) جاء في كتاب الوافي في الفقه عند الزيدية: يسقط حد الزنا بالتوبة لخبر ماعز (البحر الزخار: 158/ 5).

(7/5569)


1 - ثبت في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أنس قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل، فأعاد قوله، قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك» ففي هذا دليل على أن التائب غفر الله له، ولم يكن بحاجة لإقامة الحد عليه مادام أنه اعترف به.
2 - قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ومن لا ذنب له لا حد عليه. وقال في ما عز لما أخبر بهربه: «هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟» وإقامة الحد عليه بالرغم من توبته تجاوب مع ما اختاره بنفسه كما اختارته المرأة الغامدية، قال ابن تيمية: إن الحد مطهر، وإن التوبة مطهرة، وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إلا أن يطهرا بالحد، فأجابهما النبي صلّى الله عليه وسلم إلى ذلك (1).
3 - صرح القرآن الكريم بإسقاط حد الزنا بالتوبة في قوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء:16/ 4] وبإسقاط حد السرقة أيضاً في قوله سبحانه: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح، فإن الله يتوب عليه} [المائدة:39/ 5].
4 - لا فرق بين حد الحرابة وبقية الحدود، فإذا أسقطت التوبة حد الحرابة مع شدة ضررها وتعدي المحارب، فلأن تدفع التوبة ما دون حد الحراب بطريق الأولى والأحرى، وقد قال الله تعالى: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8].
_________
(1) أعلام الموقعين: 79/ 2.

(7/5570)


قال ابن القيم: الله تعالى جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم، ورفع العقوبة عن التائب شرعاً وقدراً، فليس في شرع الله ولا قدره عقوبة تائب البتة (1).
والكلمة الأخيرة: إن ظواهر القرآن والسنة والعمل بمبدأ الستر في الإسلام تؤيد الرأي الثاني الذي يسقط الحدود بالتوبة إذا كانت خالصة لله تعالى، أي لمصلحة الجماعة، ولم تكن متعلقة بالحقوق الشخصية للناس. وليس في هذا الرأي إخلال بمصالح المجتمع؛ لأن التائب بتوبته يحقق المصلحة المنشودة، لا سيما إذا لا حظنا اشتراط كون التوبة صادقة نصوحاً.
قال الحنابلة: إذا قلنا بسقوط الحد بالتوبة، فهل يسقط بمجرد التوبة أو بهما مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط بمجردها، وهو ظاهر قول أصحابنا، لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه.
والثاني: يعتبر إصلاح العمل، لقول الله تعالى: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء:16/ 4] وقال: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} [المائدة:39/ 5]. فعلى هذا القول: يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته، وليست مقدرة بمدة معلومة (2).

ثانياً- هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟ إذا ثبت القتل وجب على القاتل: إما القصاص، وإما الدية، ولا يسقط القصاص إلا بعفو أولياء المقتول على أن يأخذوا الدية أو بدون شيء، فلا يسقط
_________
(1) أعلام الموقعين: 78/ 2، 19/ 3، 398/ 4.
(2) المغني: 296/ 8 وما بعدها.

(7/5571)


القصاص أو الدية إذن بالتوبة لتعلق الحق الشخصي به لأولياء الدم. وبناء عليه لا تصح توبة القاتل حتى يسلم نفسه للقود (القصاص)، أو يؤدي الدية حين العفو أو حالة القتل الخطأ. وتوبة القاتل لا تكون بالاستغفار والندامة فقط، بل يتوقف على إرضاء أولياء المقتول، فإن كان القتل عمداً لا بد من أن يمكنهم من القصاص منه، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه مجاناً، فإن عفوا عنه كفته التوبة. وبالعفو عنه يبرأ من العقوبة الدنيوية.
وهل يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى؟.
استظهر ابن عابدين أن الظلم المتقدم لا يسقط بالتوبة لتعلق حق المقتول به، فيخاصم القاتل يوم القيامة. وأما ظلم القاتل لنفسه بإقدامه على المعصية فيسقط بالتوبة (1).
وقال الإمام النووي وأكثر العلماء: إن ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الآخرة بالعقوبة عن القاتل إذا تاب، فقد دلت أحاديث نبوية على أنه لا يطالب، من أشهرها الحديث المروي في الصحيحين الذي ذكر فيه توبة القاتل مئة نفس في الأمم السابقة، وقبول الله توبته (2).

ثالثاً ـ إسقاط التعازير بالتوبة: يظهر مما ذكره الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة ضرورة التفرقة في التعزيرات بين حقوق الله وحقوق الأفراد (3)، لأن ضابط التعزير هو: كل من ارتكب منكراً
_________
(1) رد المحتار: 389/ 5.
(2) رواه أبو سعيد الخدري (رياض الصالحين: ص 14، كتاب التوابين لابن قدامة: ص 85، ط دمشق) وانظر فتاوى ابن تيمية: 184/ 4 وما بعدها، ط 1329.
(3) وانظر رسالة التعزير للدكتور عبد العزيز عامر: ص 41، 436 - 441، رد المحتار: 190/ 3، 198، 204 وما بعدها، 209، نهاية المحتاج: 175/ 7.

(7/5572)


أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة. فقد يكون التعزير حقاً لله أو حقاً للفرد. ويشترك فيه الحقان وأحدهما غالب على الآخر.
فإن كان التعزير حقاً خالصاً للفرد أو الغالب فيه حقه كالشتم والسب والمواثبة والضرب بغير حق والتزوير وشهادة الزور ونحوها مما يتوقف على الادعاء الشخصي، فلا يسقط بالتوبة كما لا يسقط بعفو القاضي، إلا أن يصفح المعتدى عليه.
وأما إن كان التعزير حقاً لله تعالى كتعزير مفطر رمضان عمداً بدون عذر، وتارك الصلاة وأكل الربا ظاهراً، ومن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق أو كان حق الله فيه غالباً كمباشرة امرأة أجنبية فيما دون الجماع كتقبيل وعناق وخلوة بها ونحو ذلك، فيسقط بالتوبة، كما يسقط بعفو القاضي. وهذا التفصيل في الواقع هو رأي الحنفية والشافعية.
ولكن وردت عبارات لبعض الفقهاء يفهم منها بعمومها أن التعزير مطلقاً يسقط بالتوبة باتفاق الفقهاء.
قال القرافي: إن التعزير يسقط بالتوبة، ما علمت في ذلك خلافاً (1).
وقال في البحر الزخار: يسقط التعزير بالتوبة، ويقرب أنه إجماع المسلمين الآن لكثرة الإساءات فيما بينهم، ولم يعلم أن أحداً طلب تعزير من اعتذر إليه واستغفر، ولا من أقر بأنه قارف ذنباً خفيفاً، ثم تاب منه، ولاستلزامه تعزير أكثر الفضلاء، إذ لم يخل أكثرهم عن مقارفة ذنب وظهوره في فعل أو قول (2). ولعل المراد من هذه العبارات التعزير الواجب حقاً لله تعالى، لأن الخلاف بين التعزير والحد هو في حقوق الله تعالى.
_________
(1) الفروق: 181/ 4.
(2) البحر الزخار ملخصاً: 211/ 5.

(7/5573)


....................... خاتمة .........................................
يتبين من هذا البحث أن للتوبة نظاماً دقيقاً في الشريعة الإسلامية، إذ إنه قد يُكشَف عن الجريمة، فيبادر الجاني إلى الإقرار بمعصيته أمام القاضي، وللقاضي حينئذ توقيع العقوبة عليه، كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم فيمن أقر بالزنا أمامه، وهو رأي ابن تيمية وابن القيم.
وقد تساعد التوبة على التقليل من الجرائم بإصلاح الجاني من نفسه ورده الحقوق لأصحابها بدافع ذاتي واقتناع داخلي، إذا توافرت شرائط التوبة الشرعية، فكانت توبة صادقة نصوحاً.
ثم إنه قد تكون التوبة دليلاً على تحقيق الولاء والطاعة السياسية فتحقن دماء كثيرة، ولا تهدر الكرامة الإنسانية في سبيل دعم الحكم، فتتخلص الأمة من شر كبير وفساد عظيم وقعت به في الماضي حين قام بعض الحكام بالبطش بخصومهم المعارضين لسياستهم، كما يظهر في توبة البغاة والخوارج وقطاع الطرق.
وقد تكون التوبة أيضاً سبيلاً سهلاً لتوفير احترام العقيدة والنظام الإسلامي، كما في توبة المنافقين والمرتدين والزنادقة.
لهذا كله أقِرّ الرأي القائل بإسقاط الحدود والتعزيرات بالتوبة إذا كانت الجريمة ماسة بمصلحة المجتمع (حق الله) ما لم يرفع في شأنها دعوى إلى القضاء، أما إذا كانت الجريمة متعلقة بحق شخصي (حق الفرد) أو رفع في شأنها دعوى إلى القضاء، فمن العدل والمنطق ألا تسقط التوبة العقوبة إطفاء لنار الفتنة. ودفعاً للضرر عن المجني عليه، وشفاء لألم المصاب، واستئصالاً للجريمة، فلا يتجرأ أحد على الاعتداء على حقوق الآخرين في نفس أو مال أو عرض.

(7/5574)


وهذا هو رأي الحنابلة والشيعة الإمامية وبعض فقهاء المذاهب الأخرى في نطاق الحدود الثلاثة: (حد الزنا والسرقة وشرب الخمر)، وهو رأي الفقهاء عامة فيما يبدو بالنسبة للتعازير، وبقية الحدود الأخرى.
وفي ذلك مصلحة للمؤمنين بشرائع الإسلام في وقت عطلت فيه الحدود الشرعية، ولم يبق أمام المؤمن الصادق سوى التوبة لتكفير خطاياه.
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط، أخرج الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: قال الله: «يا ابن آدم، إنك مادعوتني ورجوتني غفرت لك على ماكان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو لقيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لاتشرك بي شيئاً، لأتيتك بقُرابها مغفرة».

(7/5575)