الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ السّادس: حدّ الرِّدّة وأحكام
المرتدّين الكلام هنا عن معنى الردة وشرائطها وأحكام المرتدين: حكم قتل
المرتد، وحكم تملك أمواله وتصرفاته، وحكم ميراثه.
معنى الردة: الردة لغة: الرجوع عن الشيء
إلى غيره، وهي أفحش الكفر وأغلظه حكماً، ومحبطة للعمل إن اتصلت بالموت عند
الشافعية، وبنفس الردة عند الحنفية، قال الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن
دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون} [البقرة:217/ 2].
وهي شرعاً: الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر، سواء بالنية أو بالفعل المكفر
أو بالقول، وسواء قاله استهزاءً أو عناداً أواعتقاداً.
وعلى هذا فالمرتد: هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر، مثل من أنكر وجود
الصانع الخالق، أو نفى الرسل، أو كذب رسولاً، أو حلل حراماً بالإجماع
كالزنا واللواط وشرب الخمر والظلم، أو حرم حلالاً بالإجماع كالبيع والنكاح،
أو نفى وجوب مجمع عليه، كأنه نفى ركعة من الصلوات الخمس المفروضة، أو اعتقد
وجوب ما ليس بواجب بالإجماع، كزيادة ركعة من الصلوات المفروضة، أو وجوب صوم
شيء من شوال، أو عزم على الكفر غداً، أو تردد فيه.
(7/5576)
ومثال الفعل المكفر: إلقاء مصحف أو كتاب
حديث نبوي على قاذورة، وسجود لصنم أو شمس (1).
والخلاصة: للردة أسباب ثلاثة كبرى وهي:
1 - إنكار حكم مجمع عليه في الإسلام، كإنكار وجوب الصلاة والصوم والزكاة
والحج، وإنكار تحريم الخمر والربا وكون القرآن كلام الله.
2 - فعل بعض أفعال الكفار: كإلقاء مصحف في قاذورة متعمداً، وكذلك إلقاء كتب
التفسير والحديث، وكالسجود لصنم وممارسة بعض عبادات الكفار أو خصائصهم في
اللباس والشراب.
3 - التحلل من الإسلام بسب الإله أو سب
نبي أو سب الدين، أو استباحة تعري المرأة ومنع الحجاب.
المرتد والزنديق
والسابّ والساحر:
المرتد: هو المكلف الذي يرجع عن الإسلام
طوعاً إما بتصريح بالكفر، أو بلفظ يقتضيه، أو بفعل يتضمنه.
وأما الزنديق: فهو الذي يظهر الإسلام ويُسرّ الكفر. فإذا عثر عليه قتل ولا
يستتاب، ولا يقبل قوله في ادعاء التوبة إلا إذا جاء تائباً قبل ظهور
زندقته.
وأما الساحر: فيقتل إذا عثر عليه
كالكافر، واختلف في قبول توبته أم لا.
وأما من سب الله تعالى أو النبي صلّى الله عليه وسلم أو أحداً من الملائكة
أو الأنبياء، فإن كان
_________
(1) راجع مغني المحتاج: 133/ 4 وما بعدها، المهذب: 288/ 2، غاية المنتهى:
332/ 3،المغني: 123/ 8، 131، فتح القدير: 385/ 4، حاشية الدسوقي على الشرح
الكبير: 301/ 4.
(7/5577)
مسلماً قتل اتفاقاً. واختلف هل يستتاب أو
لا، المشهور عند المالكية عدم الاستتابة وإن كان كافراً، فإن سب بغير ما به
كفر، فعليه القتل، وإلا فلا قتل عليه (1).
شروط صحة الردة: اتفق العلماء على
اشتراط شرطين لصحة الردة:
الأول ـ العقل: فلا تصح ردة المجنون
والصبي الذي لا يعقل؛ لأن العقل من شرائط الأهلية في الاعتقادات وغيرها.
وأما السكران الذاهب العقل، فلا تصح ردته استحساناً عند الحنفية؛ لأن الأمر
يتعلق بالاعتقاد والقصد، والسكران لا يصح عقده ولا قصده، فأشبه المعتوه،
ولأنه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم، ولأنه غير مكلف، فلم تصح ردته
كالمجنون (2).
وقال الشافعية على المذهب عندهم، والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد: تصح
ردة السكران المتعدي بسكره، وإسلامه، كما يصح طلاقه وسائر تصرفاته، ولأن
الصحابة أوجبوا عليه حد الفرية التي يأتي بها في سكره، وأقاموا مظنة
الافتراء مقامه (3)، ولكن لا يقتل وهو سكران إن ارتد حتى يستتاب بعد بلوغ
وصحو ثلاثة أيام. وأما البلوغ فليس بشرط عند أبي حنيفة ومحمد والمالكية
والحنابلة، فتصح ردة الصبي المميز، لكن عند أبي حنيفة ومحمد: لا يقتل ولا
يضرب، وإنما يعرض عليه الإسلام جبراً (4) عند البلوغ ويحبس ويضرب. وإذا
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 364 وما بعدها، غاية المنتهى: 359/ 3، 362.
(2) البدائع: 134/ 7، الدر المختار: 311/ 3 وما بعدها.
(3) مغني المحتاج: 137/ 4، المغني: 147/ 8 وما بعدها.
(4) وهذا مثل الصبي الذي حكم بإسلامه تبعاً لأبويه، ثم بلغ كافراً، ولم
يسمع منه الإقرار بالردة بعد البلوغ، فإنه يجبر على الإسلام، ولايقتل. فإن
أقر بالإسلام بعد البلوغ ثم ارتد يقتل. (الدر المختار ورد المحتار: 335/ 3)
(7/5578)
حكم بصحة ردته بانت منه امرأته، ولا تطبق
عليه العقوبات المقررة للمرتد؛ لأنه ليس أهلاً لالتزام العقوبات في الدنيا.
وقال الشافعي وأبو يوسف: البلوغ شرط، فلا تصح ردة الصبي المميز، ولا
المجنون لعدم تكليفهما، فلا اعتداد بقولهما واعتقادهما، أي لا يصح أيضاً
عندهما إسلام الصبي، لحديث «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ ... »
وقد رجع أبو حنيفة إلى رأي أبي يوسف كما في الفتح وغيره.
وقال الجمهور غير الشافعية: يصح إسلام الصبي المميز لحديث: «كل مولود يولد
على الفطرة .. » (1).
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة» (2).
والخلاصة: أنه يصح إسلام المميز وردته عند الجمهور، ولا يصح إسلامه ولا
ردته عند الشافعية.
وأرجح رأي الجمهور في قبول إسلام المميز بدليل إسلام سيدنا علي رضي الله
عنه وهو صغير، والأولى الأخذ برأي الشافعي وأبي يوسف في عدم صحة ردة
المميز؛ إذ لا تكليف قبل البلوغ.
_________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد والموطأ والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة
بلفظ «ما من مولود إلا يولد ... » ورواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن
الأسود بن سريع بلفظ «كل مولود يولد ... » (جامع الأصول: 178/ 1، نيل
الأوطار: 200/ 7، الجامع الصغير: 94/ 2) والفطرة: أنه يكون متهيئاً
للإسلام.
(2) البدائع، مغني المحتاج، المرجعان السابقان، المغني، المرجع نفسه: ص
133، 135 وما بعدها، وأما حديث «من قال: لا إله إلا الله» فرواه البزار عن
أبي سعيد الخدري، وهو حديث صحيح متواتر روي عن 34 صحابياً بلفظ «من شهد أن
لا إله إلا الله، وجبت له الجنة» (النظم المتناثر من الحديث المتواتر
للكتاني: ص 28، الجامع الصغير: 177/ 2، مجمع الزوائد: 81/ 10 وما بعدها).
(7/5579)
وأما الذكورة فليست بشرط اتفاقاً، فتصح ردة
المرأة.
الشرط الثاني: الاختيار أو الطواعية:
فلا تصح ردة المكره اتفاقاً إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، كما سبق ذكره
في بحث الإكراه (1).
أحكام المرتد: للمرتد أحكام منها:
1 - قتل المرتد:
لا يقتل المرتد إلا إذا كان بالغاً عاقلاً، لم يتب من ردته، وثبتت ردته
بإقرار أو شهادة. وقد اتفق العلماء على وجوب قتل المرتد، لقوله صلّى الله
عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» (2) وقوله عليه السلام: «لا يحل دم امرئ
مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس،
والتارك لدينه المفارق للجماعة» (3). وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد،
وكذا تقتل المرأة المرتدة عند جمهور العلماء غير الحنفية، بدليل أن امرأة
يقال لها: «أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النبي صلّى الله
عليه وسلم فأمر أن تستتاب، إن تابت وإلا قتلت» (4) وقد وقع في حديث معاذ:
«أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن، قال له: أيما رجل ارتد
عن الإسلام فادعه، فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن
الإسلام، فادعها، فإن عادت، وإلا فاضرب عنقها» (5). قال الحافظ ابن حجر:
«وإسناده حسن، وهو نص في موضوع النزاع، فيجب المصير إليه».
_________
(1) المراجع السابقة، المغني: ص 145، غاية المنتهى: 353/ 3، 358.
(2) رواه الجماعة إلا مسلماً، ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عكرمة عن
ابن عباس. وقد سبق تخريجه (راجع نيل الأوطار: 190/ 7).
(3) رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه (سبل السلام: 231/ 3،
الإلمام: ص 443).
(4) أخرجه الدارقطني والبيهقي عن جابر، وإسناده ضعيف، وأخرجه البيهقي من
وجه آخر ضعيف عن عائشة (نيل الأوطار: 192/ 7، نصب الراية: 458/ 3، تلخيص
الحبير، الطبعة المصرية: 49/ 4).
(5) رواه الطبراني في معجمه عن معاذ بن جبل، قال الحافظ ابن حجر: وسنده حسن
(نيل الأوطار: 193/ 7، نصب الراية: 457/ 3).
(7/5580)
وقال الحنفية: لا تقتل المرأة المرتدة،
ولكنها تجبر على الإسلام، وإجبارها يكون بالحبس إلى أن تسلم أو تموت؛ لأنها
ارتكبت جرماً عظيماً، وتضرب في كل ثلاثة أيام مبالغة في الحمل على الإسلام،
ولو قتلها قاتل لا يجب عليه شيء للشبهة. ودليلهم على عدم جواز قتل المرأة
المرتدة هو قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا امرأة» وفي حديث صحيح آخر
أن النبي عليه السلام نهى عن قتل النساء، ولأن القتل لدفع شر الحرابة لا
بسبب الكفر، إذ جزاؤه أعظم من القتل عند الله تعالى، فيختص القتل لمن يتأتى
منه المحاربة، وهو الرجل دون المرأة لعدم صلاحية بنيتها (1).
أما الاستتابة قبل القتل: فيستحب عند
الحنفية أن يستتاب المرتد ويعرض عليه الإسلام، لاحتمال أن يسلم، لكن لا
يجب؛ لأن دعوة الإسلام قد بلغته، فإن أسلم فمرحباً به، وإن أبى نظر الإمام
في شأنه: فإن تأمل توبته أو طلب هو التأجيل أجله ثلاثة أيام، فإن لم يتأمل
توبته، أو لم يطلب هو التأجيل، قتله في الحال، بدليل ما روي عن سيدنا عمر
رضي الله عنه: «أنه قدم على رجل من جيش المسلمين، فقال: هل عندكم من
مُغربةِ خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بالله تعالى بعد إسلامه، فقتلناه، فقال
عمر: هلا حبستموه في بيت ثلاثة أيام، وأطعمتموه في كل يوم رغيفاً لعله
يتوب، ثم قال: اللهم إني لم أحضر ولم آمر، ولم أرض» (2)، إلا أن الكمال بن
الهمام قال: لكن ظاهر تبري عمر يقتضي الوجوب.
وكيفية توبة
_________
(1) راجع المبسوط: 98/ 10 وما بعدها، فتح القدير: 385/ 4 وما بعدها،
البدائع: 134/ 7، تبيين الحقائق للزيلعي: 384/ 3 وما بعدها، الدر المختار
ورد المحتار: 312/ 3، 326.
(2) رواه مالك في الموطأ، والشافعي والبيهقي من طريقه عن محمد بن عبد الله
بن عبد القادر، قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى .. الحديث
(نصب الراية: 460/ 3، نيل الأوطار: 191/ 7).
(7/5581)
المرتد: أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى
الإسلام، ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه، لحصول المقصود به، وتكون توبة
المرتد وكل كافر بإتيانه بالشهادتين (1).
وقال جمهور العلماء: تجب استتابة المرتد والمرتدة قبل قتلهما ثلاث مرات،
بدليل حديث أم مروان السابق ذكره، وثبت عن عمر وجوب الاستتابة، ولا يعارض
هذا: النهي عن قتل النساء الذي استدل به الحنفية، لأن ذلك محمول على
الحربيات، وهذا محمول على المرتدات (2).
والخلاصة: أنه يعرض الإسلام استحباباً عند الحنفية (3)، ووجوباً عند غيرهم
على المرتد، فإن كانت له شبهة كشفت له، إذ الظاهر أنه لا يرتد إلا من له
شبهة. ويحبس ثلاثة أيام ندباً عند الحنفية، ويعرض عليه الإسلام في كل يوم،
فإن أسلم فبها، وإن لم يسلم قتل، لحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» (4).
ولا يقتل المرتد إلا الإمام أو نائبه، فإن قتله أحد بلا إذنهما، أساء وعزر،
ولكن لا ضمان بقتله ولو كان القتل قبل استتابته، أو كان مميزاً، إلا أن
يلحق بدار الحرب فلكل أحد قتله وأخذ مامعه.
2 - حكم مال المرتد وتصرفاته:
لا خلاف في أن المرتد إذا أسلم تكون أمواله على حكم ملكه السابق، ولا خلاف
أيضاً في أنه إذا مات، أو قتل، أو لحق بدار الحرب، تزول أمواله عن ملكه.
_________
(1) اللباب شرح الكتاب: 149/ 4، غاية المنتهى: 360/ 3.
(2) بداية المجتهد: 448/ 2، الشرح الكبير للدردير: 304/ 4، مغني المحتاج: ص
139 وما بعدها، المغني: 124/ 8 وما بعدها، غاية المنتهى: 358/ 3.
(3) الكتاب مع اللباب: 148/ 4.
(4) أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد عن عبد
الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد سبق تخريجه.
(7/5582)
واختلف في أن زوال ملكه عن أمواله بالموت
أو القتل أو اللحاق بدار الحرب: هل من وقت الردة، أي بأثررجعي، أو عند حدوث
هذه الأسباب؟
قال أبو حنيفة (وقوله هو الصحيح في مذهبه)، والشافعي في أظهر أقواله
الثلاثة، ومالك على الراجح في مذهبه، وظاهر كلام أحمد: تصبح أموال المرتد
بمجرد الردة موقوفة، أي يحجر عليه بالارتداد إلى أن يتقرر مصيره، فإن أسلم
تبينا بقاء ملكه، وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه،
تبينا زوال ملكيته عن أمواله بمجرد ردته، وعند أبي حنيفة: ينتقل ماكان
اكتسبه في حال إسلامه إلى ورثته المسلمين؛ لأن ردته بمنزلة موته، فيتحقق
شرط توريث المسلم من المسلم، ويصبح مااكتسبه في حال ردته فيئاً للمسلمين،
فيوضع في بيت المال؛ لأن كسبه حال ردته كسب مباح الدم ليس فيه حق لأحد،
فكان فيئاً كمال الحربي.
وكذلك تكون تصرفات المرتد حال ردته بالبيع والشراء والهبة والوصية ونحوها
موقوفة عند أبي حنيفة: إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحاً، وإن قتل أو مات
على ردته كان تصرفه باطلاً، إلا أن الشافعية قالوا: إذا كان التصرف يحتمل
الوقف كالوصية فهو موقوف، وإن لم يحتمل الوقف كالبيع والهبة والرهن، كان
التصرف باطلاً؛ لأنهم يقولون ببطلان وقف العقود.
ودليل الشافعية: أن المرتد تزول عصمة نفسه بالردة، فيجب قتله، وكذا تزول
عصمة ماله، لأنها تبع لعصمة النفس، فتزول ملكيته عن ماله، ولأنه معرض
للقتل، والقتل يؤدي به إلى الموت، والموت تزول به الملكية، بأثر رجعي أي
(مستند إلى الماضي) يمتد إلى السبب الذي أدى إلى الموت وهو الردة، غير أنه
يدعى إلى الإسلام. ونظراً لاحتمال عودته إلى الإسلام نحكم بتوقف زوال ملكه
في الحال، فإن أسلم تبين أن الردة لم تكن سبباً لزوال الملك، وإن قتل أو
مات أو
(7/5583)
لحق بدار الحرب، تبين أنها وقعت سبباً
لزوال الملك من حين حدوثها، والحكم لا يتخلف عن سببه.
وقال الصاحبان، والحنابلة في الراجح عندهم: لا يزول ملك المرتد بمجرد ردته،
وإنما يزول بالموت أو القتل، لأن تأثير الردة يظهر في إباحة دمه، لا في
زوال ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص، ولأنه مكلف، فيكون كامل الأهلية،
فيحكم ببقاء ملكه. وزوال العصمة عن النفس لا يلزم منه زوال الملك بدليل
المحكوم عليه بالرجم ونحوه.
إلا أن الحنابلة قالوا: لو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه، وإنما يباح
قتله لكل واحد من غير استتابة، ويباح أخذ ماله لمن قدر عليه، لأنه صار
حربياً، حكمه حكم الحربيين. وتصبح تصرفات المرتد حينئذ موقوفة. قال ابن
مفلح الحنبلي في المبدع: تكون تصرفات المرتد من البيع والهبة والوقف ونحوه
موقوفة على المذهب؛ لأنه مال تعلق به حق الغير، فكان التصرف فيه موقوفاً
كتبرع المريض، والمذهب أنه يمنع من التصرف فيه. فإن أسلم ثبت ملكه
وتصرفاته، وكان ذلك صحيحاً وإلا بطلت، أي إذا مات أو قتل في ردته، كان
تصرفه باطلاً، تغليظاً عليه، بقطع ثوابه، بخلاف المريض.
أما الصاحبان فقالا: تزول ملكية المرتد عن أمواله بمجرد اللحاق بدار الحرب
مثل الموت أو القتل، وتنتقل كل أمواله لورثته. وتعتبر تصرفات المرتد نافذة
في أمواله، إلا أن أبا يوسف قال: تنفذ تصرفاته كتصرف الإنسان العادي الصحيح
البدن؛ لأنه يمكنه الرجوع إلى الإسلام، فيتخلص عن القتل. أما المريض: فلا
يمكنه دفع المرض عن نفسه، فلا تشابه بينهما.
(7/5584)
وقال محمد: تنفذ تصرفاته كالمريض مرض
الموت، أي لا تنفذ تبرعاته بالنسبة للورثة إلا في حدود الثلث؛ لأن المرتد
معرض للموت بتنفيذ العقاب عليه وهو القتل، فأشبه المريض مرض الموت.
ويلاحظ أن خلاف أبي حنيفة مع صاحبيه هو في المرتد، أما المرتدة فلا يزول
ملكها عن أموالها بلا خلاف عندهم، وتنفذ تصرفاتها في مالها؛ لأنها لا تقتل
عندهم، فلم تكن ردتها سبباً لزوال ملكها عن أموالها، فتنفذ تصرفاتها (1).
3 - حكم ميراث المرتد:
إذا مات المرتد أو قتل، فإنه يبدأ بقضاء دينه وضمان جنايته ونفقة زوجته
وقريبه؛ لأن هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها.
وما بقي من ماله يكون فيئاً لجماعة المسلمين يجعل في بيت المال، وهو مذهب
المالكية والشافعية والحنابلة (2)، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يرث
المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم» (3).
_________
(1) راجع الموضوع في المبسوط: 101/ 10، الكتاب مع اللباب: 150/ 4 وما
بعدها، البدائع: 136/ 7، فتح القدير: 390/ 4 - 397، تبيين الحقائق: 285/ 3،
الدر المختار: 328/ 3، الشرح الكبير للدردير: 305/ 4 وما بعدها، مغني
المحتاج: 142/ 4 وما بعدها، المغني: 128/ 8 وما بعدها، غاية المنتهى: 361/
3، المبدع شرح المقنع لابن مفلح المؤرخ الحنبلي: (916 - 984 هـ) طبع المكتب
الإسلامي بدمشق.
(2) الشرح الكبير للدردير: ص 304، مغني المحتاج، المغني، المراجع السابقة.
(3) رواه أحمد في مسنده وأصحاب الكتب الستة عن أسامة بن زيد، وهو حديث صحيح
(تلخيص الحبير، الطبعة المصرية: 84/ 3، سبل السلام: 98/ 3، الإلمام: ص
388).
(7/5585)
وقال أبو حنيفة: إذا مات المرتد أو قتل، أو
لحق بدار الحرب، وترك ماله في دار الإسلام، انتقل ما اكتسبه في الإسلام إلى
ورثته، وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئاً يوضع في بيت مال المسلمين؛ لأن
الإرث له أثر رجعي يمتد إلى الماضي، فما اكتسبه في حال إسلامه يورث لوجود
الكسب قبل الردة، فيكون للإرث أثر رجعي بالنسبة إليه، فيتم شرط توريث
المسلم من المسلم، وما اكتسبه حال ردته يكون فيئاً؛ لأنه زال ملكه بالردة،
فكان الكسب لا مالك له، فلا يورث، إذ لا يمكن هنا أن يكون للإرث أثر رجعي
بالنسبة لكسب الردة، لعدم الكسب قبل الردة.
وقال الصاحبان: كل مال للمرتد يملكه ورثته، سواء أكان الكسب قبل الردة أم
بعدها؛ لأن القاعدة عندهما أن المرتد لا تزول ملكيته عن أمواله، وإنما ملكه
باق له؛ لأنه كما عرفنا أهل للملك، وإذا ثبت ملكه فتنتقل أمواله إلى ورثته
بالموت أو ما في معناه، ويعتبر للتوريث أثر رجعي إلى ما قبيل ردته، فيجعل
كأنه اكتسبه في حال الإسلام، فورثه ورثته منه حال الإسلام، فينطبق شرط
توريث المسلم من المسلم.
ثم اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في أهلية الوراثة: هل يعتبر حال الوارث
إسلاماً وغيره وقت الردة أو وقت الموت؟
قال الصاحبان: تعتبر أهلية الوراثة وقت الموت أو القتل؛ لأن ملك المرتد
يزول عندهما بالموت أو ما في معناه، فإن كان الوارث مسلماً حراً يرث، وإلا
فلا.
وعن أبي حنيفة روايتان: في رواية: يعتبر حال الردة فقط، فلو كان حينئذ
أهلاً للإرث ورث، وإن زالت أهليته بعدئذ.
وفي رواية: يعتبر حال الردة مع الدوام على الأهلية إلى وقت الموت أو القتل،
فمن كان وارثاً حال الردة، بأن كان حراً مسلماً، وبقي كذلك إلى وقت الموت
أو اللحاق بدار الحرب، فإنه هو الذي يرث.
(7/5586)
والأصح كما قال في المبسوط هو اعتبار حال
الوارث عند الموت أو القتل، أوالحكم باللحاق بدار الحرب؛ لأن الحادث بعد
انعقاد سبب الملكية ولكن قبل تمام السبب كالحادث عند وجود أصل السبب،
فمثلاً إن الزيادة المتولدة من المبيع كالولد، والثمرة قبل قبض المشتري
للمبيع، تعتبر ملحقة بالمبيع، فتصير معقوداً عليها، وكأنها موجودة عند
ابتداء العقد، ويعتبر الثمن موزعاً على الأصل وعلى الزيادة معاً (1).
وإن لحق المرتد بدار الحرب، وحكم القاضي بلحاقه، حلت ديونه المؤجلة التي
عليه، ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام عند الحنفية إلى ورثته المسلمين.
هل يشترط قضاء القاضي بلحاق المرتد بدار الحرب؟
فيه عند الحنفية روايتان: في رواية: أنه لا بد لاستقرار لحاقه بدار الحرب
من قضاء القاضي لاحتمال عودته إلى دار الإسلام. وظاهر الرواية: أنه لا
يحتاج للقضاء.
إلا أن الصاحبين ـ في حالة القضاء باللحاق ـ اختلفا في أهلية الوراثة
باللحاق بدار الحرب: هل تعتبر الأهلية وقت القضاء باللحاق أو وقت اللحاق؟
عند أبي يوسف: يعتبر وقت القضاء؛ لأن الملك لا يزول إلا بالقضاء، ومجرد
اللحاق يعتبر غيبة. وهذا هو الأرجح.
وعند محمد: يعتبر وقت اللحاق؛ لأن اللحاق هو سبب زوال الملك، فالملك يزول
به، والقضاء إنما يكون لتقرر اللحاق بإزالة احتمال عودة المرتد إلينا.
_________
(1) المبسوط: ص 102، فتح القدير: ص 391، تبيين الحقائق: ص 286، البدائع: ص
138، الدر المختار: ص 328 وما بعدها، المراجع السابقة.
(7/5587)
وإذا افترضنا أن المرتد بعد لحاقه بدار
الحرب، عاد مسلماً إلى دار الإسلام: فإن كان قبل قضاء القاضي بلحاقه، فماله
على حاله، وإن كان بعد القضاء، فما وجد من ماله في يد وارثه فهو أحق به،
ويأخذه منه بطريق القضاء؛ لأن حكم القاضي باللحاق صير المال ملكاً لورثة
المرتد، فلا يعود الملك له إلا بالقضاء أو بالتراضي.
وإذا كان المال قد خرج عن ملك الوارث بالتمليك، أو بالاستهلاك، فلا يحق
للمرتد الرجوع على وارثه بذلك (1).
أما ديون المرتد: فتقضى الديون التي
لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه من الديون في
حال ردته يقضى مما اكتسبه في حال ردته. وهذه رواية عن أبي حنيفة، وقول زفر.
_________
(1) المراجع السابقة، الدر المختار: ص 331، فتح القدير: ص 394، تبيين
الحقائق: 288، البدائع: ص 138، المبسوط: ص 103.
(7/5588)
|