الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الأوَّل: الجِناية على النَّفس الإنسانيَّة (القتل وعقوبته)
فيه مباحث أربعة:
المبحث الأول ـ معنى القتل وتحريمه وأنواعه.
المبحث الثاني ـ القتل العمد وعقابه.
المبحث الثالث ـ القتل شبه العمد وعقوبته.
المبحث الرابع ـ القتل الخطأ وعقوبته.

المبحث الأول ـ تعريف القتل وتحريمه وأنواعه:
تعريف القتل: القتل هو الفعل المزهق أي القاتل للنفس أو المميت (1)، أو هو فعل من العباد تزول به الحياة (2)، أي أنه هدم للبنية الإنسانية.

تحريم القتل: القتل إذا كان عمداً عدواناً جريمة كبرى، ومن السبع الموبقات التي يترتب عليها استحقاق العقاب في الدنيا والآخرة، وذلك بالقصاص، والخلود في نار جهنم؛ لأنه اعتداء على صنع الله في الأرض، وتهديد لأمن الجماعة وحياة المجتمع.
_________
(1) مغني المحتاج: 3/ 4.
(2) تكملة فتح القدير: 244/ 8.

(7/5613)


ففي القرآن الكريم آيات كثيرة في شأن تحريم القتل، منها قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوماً، فقد جعلنا لوليه سلطاناً، فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الاسراء:17/ 33]. ودلت جريمة ابن آدم (قابيل) على أن القتل اعتداء على الإنسانية، فقال سبحانه: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس، أوفساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً} [المائدة:5/ 32].
ودليل القصاص قوله جل ثناؤه: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى (1)، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، لعلكم تتقون} [البقرة:2/ 178]. وكان القصاص أيضاً مقرراً في الشرائع السماوية السابقة كشريعة اليهود. بدليل قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها (2) أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الظالمون}
[المائدة:5/ 45].ونص القرآن العظيم على العذاب الأخروي للقاتل عمداً في قوله تعالى:
_________
(1) أوجبت الآية مبدأ المماثلة في القصاص إذا أريد قتل القاتل، ومنع العدوان والظلم، فلا يقتل غير القاتل، منعاً من عادة الأخذ بالثأر التي كانت في الجاهلية. ويرى الحنفية: أن قوله {الحر بالحر .. إلخ} [البقرة:178/ 2] تأكيد لصدر الآية، فلا يقتل غير القاتل، وإنما يقتل القاتل دون غيره. وبناء عليه فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر القاتل بقتله العبد. أو لا يقتل الرجل بالمرأة وبالعكس. وقال المالكية والشافعية: إن الله أوجب المساواة. ثم بين المساواة المعتبرة، فالحر يساويه الحر، والعبد يساويه العبد، والأنثى تساويها الأنثى، لكن دل الإجماع على أن الرجل يقتل المرأة.
(2) أي في التوراة.

(7/5614)


{ومن يقتلْ مؤمناً متعمداً، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، غضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً}. [النساء:4/ 93]
وأوضحت السنة النبوية حالات القتل المأذون به شرعاً أي المباح للحاكم، لا للأفراد، فقال النبي عليه السلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1). وفي رواية: «لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق». ورويت أحاديث كثيرة في تحريم القتل والانتحار، وتحريم الدماء والأموال والأعراض، منها: «قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا» (2) ومنها: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (3) ومنها: «اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» (4) الحديث.
وحددت السنة عقوبة القتل العمد فقال صلّى الله عليه وسلم: «العمد قوَد، إلا أن يعفو ولي المقتول» (5) أي أن القتل العمد يوجب القود (أي القصاص) إلا عند العفو.
وأجمع العلماء على تحريم القتل، فإن فعله إنسان متعمداً فسق، وأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم خلافاً لابن عباس (6)، بدليل قوله تعالى:
{إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون
_________
(1) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) رواه النسائي والضياء عن بريدة.
(3) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(6) المغني: 636/ 7.

(7/5615)


ذلك لمن يشاء} [النساء:4/ 116] فجعل التوبة عن القتل وغيره داخلاً في المشيئة، وقال تعالى: {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر:39/ 53] وحديث القاتل مائة نفس التائب من جرائه معروف مشهور (1) صريح في قبول توبة التائب.
وأما آية الخلود في جهنم للقال، فهي محمولة على من لم يتب، أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه الله، وله العفو إذا شاء.
ويلاحظ أن تحريم القتل هو في حالة كون القتل ظلماً، بخلاف حالة غير الظلم وهي القتل بحق، كقتل القاتل والمرتد، فالقتل عموماً نوعان: قتل محرم: وهو كل قتل عدوان، وقتل بحق. ويرى الشافعية أنه يمكن انقسام القتل إلى الأحكام الخمسة: واجب وحرام ومكروه ومندوب ومباح (2).

ف القتل الواجب: هو قتل المرتد إذا لم يتب، والحربي إذا لم يسلم أو لم يعط الجزية.
والقتل الحرام: هو قتل معصوم الدم بغير حق، أي بصفة العدوان، وكان المقتول مؤمناً أو أمناً؛ لأن العصمة بإيمان أو أمان، فهي عصمة مخصوصة.
والقتل المكروه: هو قتل المجاهد قريبه الكافر إذا لم يسب الله أو رسوله.
والمندوب: هو قتل المجاهد قريبه الكافر إذا سب الله أو رسوله.
والمباح: هو قتل المقتص منه أو قتل الإمام الأسير؛ لأنه مخير في قتله حسبما يرى من المصلحة. ومنه القتل دفاعاً عن النفس ضمن ضوابط الدفاع الشرعي. وعدَّ الحنفية (3) ما يأتي من القتل المباح، فقالوا: لو دخل رجل بيته فرأى رجلاً مع
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري (راجع جامع الأصول لابن الأثير: 68/ 3).
(2) مغني المحتاج: 3/ 4.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 197/ 3، 397/ 5.

(7/5616)


امرأته أو محرمه يزني بها فقتله، حل له ذلك، ولا قصاص عليه. وهو رأي الحنابلة والشافعية والمالكية أيضاً (1). وإذا كان الزنى طواعية باختيار منهما، كان له عند الحنفية والحنابلة قتلهما جميعاً، فلو أكرهها فله قتله، ودمه هدَر إذا لم يمكنها التخلص منه بصياح أو ضرب. أما لو وجد رجلاً مع امرأة لا تحل له، فله قتله إن كان يعلم أنه لا ينزجر بصياح وضرب بما دون السلاح، فإن كان ينزجر بما ذكر لا يحل القتل.

أنواع القتل:
أولاً ـ يقول الحنفية (2): القتل خمسة أنواع: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وما جرى مجرى الخطأ، والقتل بالتسبب.
ف العمد: ما تعمد فيه القاتل ضرب غيره بسلاح، كالسيف والسكين والرمح والرصاص، أو ما أجري مجرى السلاح في تفريق أجزاء الجسد، كالمحدد من الخشب، والحجر، والنار، والإبرة في مقتل.
وذلك لأن العمد معناه القصد وهو أمر خفي لا يمكن الإطلاع عليه ولا معرفته، إلا بدليل يدل عليه، وهو استعمال الآلة القاتلة، فجعلت الآلة دليلاً على القصد، وأقيمت مقامه باعتبارها مظنة لوجوده، كما أن السفر مظنة المشقة.

وشبه العمد عند أبي حنيفة: أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح ولا ما أجري مجرى السلاح، أي بما لا يفرق الأجزاء، كاستعمال العصا والحجر والخشب
_________
(1) المغني: 332/ 8، المهذب: 225/ 2، الشرح الكبير: 357/ 4.
(2) تكملة فتح القدير: 244/ 8 وما بعدها، البدائع: 233/ 7، الدر المختار: 375/ 5، اللباب شرح الكتاب: 141/ 3.

(7/5617)


الكبيرين، أي أن القتل بالمثقل يعتبر شبه عمد؛ لأنه لا يقتل به غالباً، ويقصد به التأديب، والفتوى بقول الإمام.
وقال الصاحبان: القتل بالمثقل كالحجر العظيم أو الخشبة العظيمة عمد. وشبه العمد: أن يتعمد ضربه بما لا يقتل غالباً كالحجروالخشب الصغيرين، أو كالعصا الصغيرة، أو اللطمة.
وبناء عليه يكون الضرب بما لا يغلب فيه الهلاك كالعصا والحجر الصغيرين والسوط واللطمة متفقاً على كونه شبه عمد بين أئمة الحنفية الثلاثة. واختلفوا في الحجر الكبير والعصا الكبيرة ونحوهما، كالإلقاء من سطح أو جبل ولا يرجى منه النجاة، فهو شبه عمد عند أبي حنيفة، عمد عند الصاحبين.

والقتل الخطأ: هو الذي لا يقصد به القتل أو الضرب، وهو نوعان:
1 - خطأ في القصد أو ظن الفاعل: وهو أن يرمي شيئاً، يظنه صيداً، فإذا هو إنسان، أو يظنه حربياً فإذا هو مسلم، أي أن الخطأ راجع إلى فعل القلب وهو القصد.
2 - خطأ في الفعل نفسه: وهو أن يرمي غرضاً (الغرض: هو الهدف الذي يرمي إليه) أو صيداً، فيصيب آدمياً، أو يقصد رجلاً، فيصيب غيره، أي أن الخطأ راجع إلى أداة الرمي.

وما أجري مُجرى الخطأ: هو المشتمل على عذر شرعي مقبول، كانقلاب نائم على آخر فيقتله.
والقتل بالتسبب: هو الحاديث بواسطة غير مباشرة، كمن حفر حفرة أو بئراً في غير ملكه، في طريق عام بغير إذن السلطات، فوقع فيها فيها إنسان ومات، أو

(7/5618)


وضع حجراً أو خشبة على قارعة الطريق، فعثر به إنسان، فمات، ومثل شهود القصاص إذا رجعوا عن شهادتهم، بعد قتل المشهود عليه (1).

ثانياً ـ يرى أكثر العلماء ومنهم الشافعية والحنابلة (2): أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وشبه عمد (3)، وخطأ.
والقتل العمد: هو قصد الفعل العدوان والشخص بما يقتل غالباً، جارحٍ، أو مثقل، مباشرة، أو تسبباً، كحديد وسلاح وخشبة كبيرة، وإبرة في مقتل، أو غير مقتل كفخذ وألية إن حدث تورم وألم واستمر حتى مات، أو كأن قطع إصبع إنسان، فسرت الجراحة إلى النفس ومات.
وشبه العمد: هو قصد الفعل العدوان والشخص بما لا يقتل غالباً، كضرب بحجر خفيف أو لكمة باليد، أو بسوط، أو عصا صغيرين أو خفيفين، ولم يوال بين الضربات، وألا يكون الضرب في مقتل، أو كان المضروب صغيراً أو ضعيفاً، وألا يكون حر أو برد مساعد على الهلاك، وألا يشتد الألم ويبقى إلى الموت. فإن كان شيء من ذلك فهو عمد؛ لأنه يقتل غالباً. ولا قصاص في شبه العمد، وإنما فيه دية مغلظة أبيّنها في بحث الديات.
والخطأ: هو القتل الحادث بغير قصد الاعتداء لا للفعل، ولا للشخص، كأن وقع شخص على آخر فمات، أو رمى شجرة أودابة، فأصابت الرمية إنساناً فمات، أو رمى آدمياً فأصاب غيره فمات.
وبما أن هذا التقسيم أشهر التقاسيم فإني سأعتمده في بحث أنواع القتل وعقوباته.
_________
(1) البدائع: 139/ 7.
(2) مغني المحتاج: 3/ 4، المغني: 636/ 7 وما بعدها.
(3) سمي بذلك، لأنه أشبه العمد في القصد، ويسمى أيضاً خطأ عمد، وعمد خطأ، وخطأ شبه عمد.

(7/5619)


ثالثاً ـ مشهور مذهب المالكية (1): أن القتل نوعان: عمد، وخطأ، لأنهما المذكوران فقط في القرآن الكريم، لبيان حكم نوعي القتل، فمن زاد قسماً ثالثاً أو رابعاً زاد على النص، وأنكر مالك شبه العمد.
أما العمد: فهو أن يقصد القاتل القتل مباشرة بضرب بمحدد أو مثقل، أو تسبباً بإحراق أو تغريق أو خنق، أو سُمّ أو غيرها، كمنع طعام أو شراب قاصداً به موته، فمات، أو قصد مجرد التعذيب، سواء بما يقتل غالباً أو بما لا يقتل غالباً، إن فعل ذلك لعداوة أو غضب لا على وجه التأديب. فإن كان القتل بسبب الضرب على وجه اللعب أو التأديب فهو من الخطأ، إن كان الضرب بنحو قضيب، لا بنحو سيف.
وأما الخطأ: فهو ألا يقصد الضرب ولا القتل، كما لو سقط إنسان على غيره فقتله، أو رمى صيداً فأصاب إنساناً.
وشبه العمد: هو أن يقصد الضرب ولا يقصد القتل، والمشهور عندهم أنه كالعمد (2).
ويلاحظ مما سبق أن الفقهاء اتفقوا على بعض حالات القتل العمد كالقتل بسلاح، وعلى حالة القتل الخطأ، واختلفوا في حالات ثلاث: هي القتل شبه العمد، وما أجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب.
كما يلاحظ أن الفقهاء اعتمدوا في إثبات العمد وشبه الخطأ، على الآلة المستعملة في القتل باعتبارها دليلاً مادياً أو حسياً على توافر القصد أي (العمد)
_________
(1) الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 242/ 4، القوانين الفقهية: ص 344، بداية المجتهد: 390/ 2.
(2) القوانين الفقهية: ص 345.

(7/5620)


وعدم توفره. وفي عصرنا الحاضر حيث تعددت أساليب القتل، ينبغي البحث في ظروف القتل وملابساته، وفي قرائن الأحوال، للحكم على نية القاتل، أهو متعمد، أم مخطئ.

المبحث الثاني ـ القتل العمد وعقابه وفيه مطلبان ـ المطلب الأول ـ أركان القتل العمد.
المطلب الثاني ـ عقوبات القتل العمد.
المطلب الأول ـ أركان القتل العمد:
للقتل العمد أركان ثلاثة: هي أن يكون القتيل آدمياً حياً معصوم الدم، وأن يحدث القتل نتيجة لفعل الجاني، وأن يقصد الجاني إحداث الوفاة (1).

الركن الأول ـ القتيل آدمي حي معصوم الدم:
القتل العمد الموجب للقصاص: هو الحادث اعتداء على آدمي حي معصوم الدم (2) على التأبيد، فلا قصاص بالاعتداء على غير الإنسان، أو على الميت الذي فارق الحياة، أو على غير معصوم الدم عصمة مؤقتة غير دائمة، كالمرتد أو الحربي (3)، أو المستأمن (4) في دار الإسلام؛ لأن المستأمن لم تثبت له عصمة مطلقة
_________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي للمرحوم الأستاذ عبد القادر عودة: 12/ 2 وما بعدها.
(2) البدائع: 336/ 7، 252، الدر المختار: 375/ 5، اللباب شرح الكتاب: 143/ 3، مغني المحتاج: 8/ 4.
(3) الحربي: عدو، وهو الذي ينتمي لدولة محاربة، أو هو الذي بيننا وبين بلاده عداوة وحرابة، والإجماع على أنه مهدر الدم والمال، أي مباح الدم والمال.
(4) المستأمن: هو من دخل دار الإسلام بأمان مؤقت فيما دون السنة.

(7/5621)


دائمة، وإنما عصمته مؤقتة أثناء إقامته في دار الإسلام، فهو في الأصل حربي، ودخل دار الإسلام لحاجة عارضة، ثم يعود إلى وطنه الأصلي، فكان في عصمة دمه شبهة الإباحة بالعود إلى دار الحرب، فلا يقتص من قاتله عمداً، وإنما يعزر، لافتئاته على مصلحة الحاكم.
كذلك لا قصاص عند الجمهور بقتل الباغي (1) لعدم العصمة، واعتقاد أهل العدل (جماعة المسلمين في دار الإسلام) إباحة دمه. وتلك الإباحة عند غير الحنفية (2) مقصورة على حالة الحرب الدائرة بين قومه البغاة وبين أهل العدل. ويرى الحنفية أن عدم عصمة البغاة مطلقة في أي حال بمجرد البغي (3).

وأساس العصمة عند الحنفية (4): هو الوجود في دار الإسلام، فيعد المسلم والذمي والمستأمن معصوم الدم بسبب وجوده في دار الإسلام. أما الحربي أو المسلم في دار الحرب، فليس معصوماً، ولا عقاب على قاتله، لكونه في دار الحرب.
وأما عند الجمهور غير الحنفية (5): فأساس العصمة هو الإسلام أو الأمان. فيعدّ المسلم والذمي والمستأمن والمهادن معصوماً، إما بسبب الإسلام بالنسبة للمسلم ولو كان في دار الحرب، أو بسبب الأمان بالنسبة لغير المسلم المعاهد، فلا
_________
(1) الباغي: هو أحد البغاة الخارجين على الإمام يبغون خلعه، وكان له منعة وشوكة، معتمدين على تأويل سائغ لنص شرعي.
(2) الشرح الكبير للدردير: 300/ 4، المهذب: 220/ 2، مغني المحتاج: 125/ 4، المغني: 113/ 8 وما بعدها. قال ابن قدامة: الصحيح أن الخوارج يباح قتلهم، فلا قصاص على قاتل أحد منهم ولا ضمان عليه في ماله.
(3) البدائع: 236/ 7.
(4) تكملة الفتح: 255/ 8، البدائع: 252/ 7، اللباب مع شرح الكتاب: 144/ 3.
(5) الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 239/ 4، مغني المحتاج: 14/ 4، المغني: 648/ 7.

(7/5622)


تباح دماؤهم ولا أموالهم، ويعاقب قاتلهم على القتل العمد، إلا أنه لا يقتل المسلم بالكافر عندهم (1) كما سيتضح فيما بعد، ويقتل قاتل المسلم ولو كان في دار الحرب. ويظهر أثر الخلاف بين الرأيين في قتل المسلم في دار الحرب.

ووقت العصمة عند الحنفية: مختلف فيه بين الإمام وصاحبيه (2). فأبو حنيفة: يرى أن وقت العصمة هو وقت الفعل أي فعل القاتل لا غير، فمن رمى إنساناً مسلماً فجرحه، ثم ارتد المجروح بعد الجرح، ومات وهو مرتد، لا يقتص منه؛ لأن فعل الجاني لا يصير قتلاً إلا بفوات حياة القتيل، وقد فاتت حياة المقتول في وقت لم يكن فيه معصوماً، فكان دمه هدراً، لكن على الجاني دية المقتول عند أبي حنيفة؛ لأنه يسأل عن الجرح الذي أحدثه في معصوم عند بدء فعله.
وقال الصاحبان: وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت جميعاً؛ لأن للفعل تعلقاً بالقاتل والمقتول، فهو فعل القاتل، وأثره يظهر في المقتول بفوات الحياة، فلا بد من ملاحظة العصمة في الوقتين جميعاً، فلا قصاص على الجاني في المثال السابق ولا دية عليه عندهما. فالإمام وصاحباه اتفقوا على عدم القصاص واختلفوا في إيجاب الدية.
وقال زفر: إن وقت العصمة هو وقت الموت لا غير.
كذلك اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في تحديد وقت العصمة عند الرمي. فقال أبو حنيفة: العبرة بوقت الرمي لا وقت الإصابة، لأن الإنسان يسأل عن فعله، ولا فعل منه سوى الرمي.
_________
(1) المغني: 652/ 7.
(2) البدائع: 253/ 7، التشريع الجنائي الإسلامي: 23/ 2 وما بعدها.

(7/5623)


وقال الصاحبان: العبرة بوقت الإصابة لا وقت الرمي؛ لأن المعول عليه هو وقت التلف، ووقت التلف هو وقت الإصابة.
فمن رمى غيره برصاصة، فارتد المرمي بعد الرمي وقبل الإصابة، يكون الجاني مطالباً بالدية عند أبي حنيفة؛ لأنه كان معصوماً عند الرمي، وليس مطالباً عند الصاحبين؛ لأن المجني عليه لم يكن معصوماً وقت الإصابة.
واتفق غير الحنفية (مالك والشافعي وأحمد) (1) مع الصاحبين في رأيهما بتحديد وقت العصمة، وهو وقت الفعل (ضرباً أو جرحاً) ووقت الموت معاً، أي حال البدء وحال الانتهاء، فيشترط كون المجني عليه معصوماً من حين الضرب أو الجراح إلى حين الموت. فلو قطع شخص يد مسلم، فارتد، ثم مات بسراية الجرح، فالنفس هَدَر، أي لم يجب في النفس قصاص ولا دية ولا كفارة؛ لأنها نفس مرتد غير معصوم ولا مضمون.
لكن اختلف غير الحنفية في تحديد وقت العصمة حال الرمي، فقال المالكية والشافعية: إنه وقت الرمي. وقال الحنابلة: إنه حالة الإصابة.

الركن الثاني ـ القتل نتيجة لفعل الجاني:
لا تعد الجريمة قتلاً إلا إذا ارتكب الجاني فعلاً من شأنه إحداث الموت. فإن حدث الموت بفعل لا يمكن نسبته إلى الجاني، أو لم يكن فعله مما يحدث الموت، فلا يعد الجاني قاتلاً.
والفعل القاتل يصح أن يكون ضرباً أو جرحاً، أو ذبحاً أو حرقاً أو خنقاً أو
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 238/ 4 وما بعدها، 249، مغني المحتاج: 23/ 4، المغني: 653/ 7 - 656.

(7/5624)


تسميماً أو غير ذلك (1). والبحث في هذا الركن في أمرين: أداة القتل، والأفعال المكونة للقتل العمد.
أداة القتل:
تختلف أدوات القتل قوة وضعفاً في مدى التأثير على الجسم والتأثر بها، لذا حدد الفقهاء لكل منها حكماً وأثراً معيناً، واختلفوا فيما بينهم في ترتيبها كما ذكرت في بيان أنواع القتل إجمالاً.

أولاً ـ رأي الحنفية (2):
اشترط أبو حنيفة في أداة القتل العمد: أن تكون مما يقتل غالباً، ومما يعد للقتل، وهي كل آلة جارحة أوطاعنة ذات حد لها مَوْر في الجسم، أي تفرق أجزاء الجسم، سواء كانت من الحديد أو الرصاص أو النحاس، أو الخشب المحدد أو الحجر المحدد، أو نحوها كالسيف والبندقية والسكين والرمح، والإبرة في مقتل، أو ما يعمل عمل هذه الأشياء في الجرح والطعن، كالنار والزجاج وليطة القصب (3) والمروة المحددة (4)، والرمح الذي لاسنان له ونحوها.
وسواء أكان الحديد وشبهه من المعادن مما له حد يبضع (يقطع الجلد ويشق اللحم) بضعاً، أم هو مثقل ليس له حد يرض رضاً، كالعمود وصنجة الميزان وظهر الفأس والمروة، ونحوها.
_________
(1) التشريع الجنائي، عودة: 25/ 2.
(2) البدائع: 233/ 7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 97/ 6 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 244/ 8، الدر المختار ورد المحتار: 375/ 5.
(3) الليطة: قشر القصب اللازق به.
(4) المروة: حجر أبيض براق يقدح به النار.

(7/5625)


أما أداة القتل شبه العمد: فهي كل آلة تقتل غالباً، ولكنها ليست جارحة ولا طاعنة كالخشبة الكبيرة، والحجر الثقيل، ويقصد به غير القتل كالتأديب ونحوه، فإن قصد به الإتلاف فهو عمد.
ودليل الإمام قوله عليه الصلاة والسلام: «ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتل ُ السوط أو العصا، فيه مئة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» (1).
واتفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أن القتل شبه عمد في حالتين وهما:
1 - أن يقصد الجاني القتل بعصا صغيرة أو بحجر صغير أو بلطمة، أو بسوط ضرب به ضربة أو ضربتين ولم يوال الضربات، ونحوها مما لا يقتل غالباً.
2 - الضرب بالسوط الصغير الذي يوالي به الضربات حتى يموت المجني عليه. وقيل في الحالة الثانية عند الصاحبين: إنها عمد محض.
واختلف الإمام مع صاحبيه في حالتين أخريين هما:
1 - استعمال العصا الكبيرة والحجر الكبير والمدقة الكبيرة ونحوها.
2 - الإلقاء في بئر أو من سطح أو جبل، ولا يرجى منه النجاة.
عند الإمام: هما شبه عمد. وعند الصاحبين: هما عمد. قال الحنفية (2): والصحيح قول الإمام، وبه يفتى في شبه العمد.
أما التغريق في الماء القليل وموت الغريق، فليس عمداً ولا شبه عمد، باتفاق الحنفية.
_________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن عبد الله بن عمرو.
(2) رد المحتار: 376/ 5، اللباب شرح الكتاب: 142/ 3، تبيين الحقائق: 101/ 6.

(7/5626)


ثانياً ـ مذهب الشافعية والحنابلة: اكتفى الشافعية والحنابلة (1) في تحديد أداة القتل العمد: بأن تكون مما يقتل غالباً، سواء أكان القتل بمحدد أم بمثقّل.
والمحدد: هو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين ونحوهما من أي معدن كحديد ورصاص ونحاس وذهب وفضة، أوغير معدن كزجاج وحجر وقصب وخشب له حد قاطع. والمحدد لا ينظر فيه إلي غلبة الظن في حصول القتل، بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو أنملته فمات، كان عمداً.
والمثقل: هو ما ليس له حد يجرح ولا سن يطعن، كالعصا والحجر، فإن كان المثقل مما يقتل غالباً، أي يغلب على الظن حصول الموت به عند استعماله، كان القتل عمداً موجباً للقصاص. وإن كان المثقل مما لا يقتل غالباً، كان القتل شبه عمد موجباً للدية.
وبناء عليه يكون القتل عمداً إذا استعمل الجاني سلاحاً نارياً أو سلاحاً أبيض كالسيف ونحوه، أو معدناً أو غير معدن له حد جارح يقطع الجلد واللحم، أو له مور (2) وغور في الجسم كالمسلّة والنشاب، أو الإبرة المغروزة في مقتل. أو استعمل ما يقتل غالباً كالعصا الغليظة والعمود والخشبة الكبيرة والحجر، أو كانت الأداة مما تقتل كثيراً كالعصا والسوط والحجر الصغير، واللكزة واللطمة، إذا كرر الضرب بما ذكر حتى قتله، أو ضربه في مقتل أو كانت تقتل نادراً في بعض الظروف كما في حال ضعف المضروب لمرض أو صغر، أو في زمن حر أو برد مفرط، أو اشتد الألم وبقي إلى الموت.
فإن استعمل الجاني أداة لا تقتل غالباً كالضرب بالسوط أو العصا الخفيفين،
_________
(1) مغني المحتاج: 3/ 4 - 4، المهذب: 175/ 2، المغني: 637/ 7 - 640، كشاف القناع: 587/ 5.
(2) أي يفرق أجزاء الجسد.

(7/5627)


ولم يوال الضربات، ولم يكن الضرب في مقتل، أو المقتول صغيراً أو ضعيفاً، ولم يكن حرأو برد معين على الهلاك، ولم يشتد الألم ويستمر إلى الموت، كان القتل شبه عمد.
ودليل الشافعية والحنابلة: هو نفس الحديث الذي استدل به الحنفية وهو «ألا إن في قتيل عمد الخطأ، قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل» وقالوا: إن الحديث محمول على المثقل الصغير؛ لأنه ذكر العصا والسوط، وقرن به الحجر، فدل على أنه أراد ما يشبههما. واستدلوا أيضاً بحديث آخر: «إن جارية وُجدت، وقد رُضَّ رأسها بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا، أفلان أو فلان، حتى سمي يهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فاعترف، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم برض رأسه بالحجارة» (1) قالوا: فثبت القصاص في هذا أي في المثقل، بالنص، وقيس عليه الباقي، مما يدل على شرعية القصاص في القتل بالمثقل.

ثالثاً ـ مذهب المالكية: إن أداة القتل العمد عند المالكية (2): هي كل آلة يقتل بها غالباً كالمحدد مثل السلاح، والمثقل مثل الحجر، أو ما لا يقتل بها غالباً كالعصا والسوط ونحوهما، سواء قصد الجاني بالضرب قتل المجني عليه، أو لم يقصد قتلاً، وإنما قصد مجرد الضرب، أو قصد قتل شخص معتقداً أنه (زيد) فإذا هو (عمرو): إن حصل الضرب لعداوة أو غضب لغير تأديب، ففي كل ذلك القَوَد (3).
_________
(1) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو دليل أيضاً على أنه يقتل الرجل بالمرأة، وعليه إجماع العلماء. ودليل أيضاً على أنه يجوز القود بمثل ما قتل به المقتول، وإليه ذهب الجمهور.
(2) الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 242/ 4، القوانين الفقهية: ص 344.
(3) القود: القصاص، وسمي بذلك؛ لأن الجاني المقتص منه كانوا في الغالب يقودونه بشيء يربط به أو بيده، كالحبل وغيره (المغني: 683/ 7، رد المحتار: 376/ 5).

(7/5628)


ويعتبر كالضرب: الإحراق أو التغريق أو الخنق أو التسميم، أو منع الطعام أو الشراب، سواء قصد الموت أم مجرد التعذيب.
فإن كان الضرب على وجه اللعب أو التأديب، فهو قتل خطأ، إن كان بنحو قضيب (أي عصا)، لا بنحو سيف، وكما لو سقط على غيره فقتله، أو رمى صيداً فأصاب إنساناً.
وهذا في غير الأب، وأما الأب فلا يقتل بولده، ما لم يقصد إزهاق روحه، كأن يضجعه ويذبحه.
وبه يتبين أن القتل عند مالك نوعان فقط كما بان سابقاً: عمد، وخطأ، وليس هناك ما يسمى (شبه العمد) فقد أنكره مالك، وقال: «ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا» وجعله من قسم العمد.

الأفعال المكونة للقتل العمد:
القتل العمد الموجب للقصاص في الجملة، مع اختلاف الفقهاء في بعض أنواعه: هو تسعة أقسام (1)، أبحثها هنا، مع بيان الرأي الأرجح في عصرنا الحاضر.

1 - القتل بمحدد: المحدد: هو كل آلة جارحة أوطاعنة لها مور في البدن، أي تفرق أجزء الجسد، مثل الأسلحة النارية الحديثة المختلفة، والسلاح الأبيض، والأخشاب والأحجار المحددة والزجاج والعظم ونحوها.
ويكاد يكون هناك اتفاق بين الفقهاء على أن القتل بالمحدد هو قتل عمد
_________
(1) راجع كشاف القناع: 587/ 5 وما بعدها، المغني: 637/ 7 - 646.

(7/5629)


موجب للقصاص، مع ملاحظة ضوابط المذاهب في بيان ما يوجب القصاص، على ما بان في المبحث السابق.
- الحنفية اشترطوا أن تكون قاتلة غالباً ومعدة للقتل.
- واكتفى الشافعية والحنابلة بأن تكون الآلة محددة، ولم يشترطوا غلبة الظن في حصول القتل بها.
ولم يشترط المالكية شيئاً في آلة القتل، وإنما يكفي وجود العدوان.
وبناء عليه: إذا أحدث الجاني جرحاً كبيراً، فهوقتل عمد بالاتفاق، وإن أحدث جرحاً صغيراً في مقتل كالعين والقلب والخاصرة، باستعمال إبرة أوشوكة، فهو قتل عمد اتفاقاً.
وإن استعمل الإبرة في غير مقتل كفخذ وألية فهو شبه عمد عند الحنفية؛ لأن الإبرة معدة للخياطة، ولا تستعمل في القتل عادة (1)،وعمد عند الشافعية (2) إن تورم محل الغرز وتألم، واستمر الأمران حتى مات. فإن لم يظهر للغرز أثر، بأن لم يشتد الألم، ومات في الحال، فهو قتل شبه عمد، وقيل: هو عمد. ويعد الغرز عند الحنابلة (3) في غير مقتل قتل عمد إن بالغ الجاني في إدخال الإبرة في البدن؛ لأن هذا يشتد ألمه ويفضي إلى القتل. وكذا إن كان الغور يسيراً، أو الجرح لطيفاً، واستمر حتى مات يكون عمداً فيه القود. وإن مات في الحال ففيه وجهان: أحدهما - لا قصاص فيه، والثاني - فيه القصاص، وبه يظهر أن مذهبي الشافعية والحنابلة متفقان في حال استعمال الإبرة.
_________
(1) رد المحتار: 375/ 5.
(2) مغني المحتاج: 4/ 4 - 5.
(3) المغني: 637/ 7 - 638.

(7/5630)


وجعل مالك الجرح والغرز قتلاً عمداً، في مقتل أو غير مقتل إذا لم يكن الفعل على وجه اللعب أوا لتأديب (1).

2 - القتل بالمثقَّل، أو بغير المحدد: هو ما ليس له حد، كالعصا والحجر. واختلف الفقهاء في شأنه، هل يوجب القود؛ لأنه عمد، أو الدية؛ لأنه شبه عمد؟
قال أبو حنيفة: القتل بمثقل إلا الحديد وما في معناه من نحاس وصنجة ميزان (2) شبه عمد (3). واستثناء الحديد لأنه يعمل عمل السلاح، لقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس} [الحديد:25/ 57]. ودليله حديث «ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مئة من الإبل» فإذا أوجب الرسول عليه السلام فيه الدية، كان شبه عمد وليس عمداً.
وقال الصاحبان: القتل بمثقل كحجر عظيم أوخشبة عظيمة إذا كان مما يقتل غالباً عمد؛ لأنه لما كان يقتل غالباً، صار بمنزلة الآلة الموضوعة له. فإذا لم يكن المثقل قاتلاً غالباً، كان القتل شبه عمد، ولو توالى الضرب.
ورأى الشافعية والحنابلة (4): أن القتل بالمثقل الذي يقتل غالباً، سواء كان كبيراً، أم صغيراً وكان في مقتل أو في مرض أو حر أو برد شديدين، أم والى الضربات: هو قتل عمد؛ لأنه يقتل غالباً، ولعموم الآيات الدالة على وجوب القصاص في القتل، ولإيجاب النبي عليه الصلاة والسلام القصاص على يهودي
_________
(1) الشرح الكبير: 242/ 4.
(2) سنجة الميزان بالسين أفصح من الصاد.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 375/ 5، اللباب شرح الكتاب: 141/ 3 وما بعدها.
(4) مغني المحتاج: 4/ 4، المغني: 638/ 7.

(7/5631)


قتل امرأة بحجر، وقوله عليه الصلاة والسلام: «ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يُوديَ، وإما أن يقاد» (1). وأما الحديث الذي استدل به أبو حنيفة السابق فهو محمول على المثقل الصغير؛ لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر، فدل على أنه أراد ما يشبههما، كما تقدم.
وقال المالكية (2): القتل بمثقل قتل عمد، سواء أكان مما يقتل غالباً أم لا يقتل غالباً، ما دام الفعل عدواناً، لا على وجه اللعب والتأديب.
والحقيقة أن الذي يلاحظ حالات القتل العمد العدوان وظروفه من غيظ وحقد وعصبية جامحة يرجح رأي المالكية في القتل بمحدد أو بمثقل.

3 - القتل بالمباشرة:
المباشرة: ما أثر في التلف وحصله دون واسطة، وكان علة للموت، والقتل بالمباشرة: أن يقصد الجاني عين المجني عليه بالفعل المؤدي إلى الهلاك بلا واسطة (3)، كالجرح أو الذبح بالسكين، والخنق، فإنه يؤدي بذاته إلى موت المجني عليه.
وقد اتفق الفقهاء على أن القتل بطريق المباشرة موجب للقصاص، واشترط الحنفية (4) لإيجاب القصاص أن يكون القتل مباشرة لا تسبباً.
والمباشرة إما أن تكون من قاتل واحد، أو من جماعة. فإن حدث القتل من شخص واحد بانفراده، وجب القصاص من القاتل. وأما إن حدث القتل من
_________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأصحاب الكتب الستة من حديث أبي هريرة.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 242/ 4.
(3) مغني المحتاج: 6/ 4.
(4) البدائع: 239/ 7.

(7/5632)


جماعة اشتركوا في الجريمة، فإما أن يتم الاشتراك في حال التعاقب أو في وقت واحد.

قتل الجماعة بالواحد:
يجب شرعاً باتفاق الأئمة الأربعة قتل الجماعة بالواحد، سداً للذرائع، فلو لم يقتلوا لما أمكن تطبيق القصاص أصلاً، إذ يتخذ الاشتراك في القتل سبباً للتخلص من القصاص. ثم إن أكثر حالات القتل تتم على هذا النحو، فلا يوجد القتل عادة إلا على سبيل التعاون والاجتماع.
وقد بادر الصحابة إلى تقدير هذا الأمر، فأفتوا بالقصاص الشامل. وأول حادثة حدثت هي في عهد عمر، وهي أن امرأة بمدينة صنعاء، غاب عنها زوجها، وترك عندها ابناً له من غيرها، فاتخذت لنفسها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله، فأبى، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام خليل المرأة، ورجل آخر، والمرأة وخادمها، فقطعوه أعضاء، وألقوا به في بئر. ثم ظهر الحادث وفشا بين الناس، فأخذ أمير اليمن خليل المرأة فاعترف، ثم اعترف الباقون، فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: أن اقتلهم جميعاً، وقال: «والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً» (1). وحكم حالتي الاشتراك في القتل يظهر فيما يأتي (2):
_________
(1) أخرجه مالك في موطئه عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل نفراً: خمسة، أو سبعة برجل قتلوه غيلة، وقال: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به» وعن مالك رواه محمد بن الحسن في موطئه والشافعي في مسنده والبخاري في صحيحه وابن أبي شيبة في مصنفه والدارقطني في سننه والطحاوي والبيهقي.
(2) البدائع: 238/ 7، تكملة الفتح: 278/ 8، اللباب شرح الكتاب: 150/ 3، الدر المختار: 394/ 5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 114/ 6 وما بعدها.

(7/5633)


أولاً ـ القتل المباشر على التعاقب: كأن يشق رجل بطن آخر، ثم يأتي غيره فيحز رقبته، فالقصاص على الثاني إن كان عمداً، وإن كان خطأ فالدية على عاقلته؛ لأنه هو القاتل، لا الأول، فإن عليه التعزير فقط.
وتتم هذه الحالة بانفراد كل من المشتركين عن الآخر، لا مجتمعين، فلا يكون بينهما توافق أو تمالؤ سابق.

ثانياً ـ القتل المباشر حالة الاجتماع: كأن تحدث جراحات معاً من عدة جناة، فيجرح كل منهم جرحاً مهلكاً، أو يطلق كل منهم عياراً نارياً، فيصيب المجني عليه إصابة قاتلة، فيجب القصاص عند الحنفية على كل المشتركين إذا باشروا القتل؛ لأن كل واحد منهم يعد قاتلاً عمداً. يظهر من هذا أن الحنفية لا يفرقون بين حالة التوافق (وهو قصد القتل دون اتفاق سابق) وبين التمالؤ (وهو في اصطلاح المالكية قصد القتل بعد اتفاق سابق على ارتكاب الجريمة)، وإنما المهم حدوث الإصابة فعلاً وأن يكون فعل الجاني قاتلاً، بدليل قولهم في القتل العمد: «وتشترط المباشرة من الكل، بأن جرح كل واحد جرحاً سارياً» وقال التمرتاشي: «ويقتل جمع بمفرد إن جرح كل واحد جرحاً مهلكاً، وإلا لا» أي أن المهم عندهم هو حدوث مباشرة القتل.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (1): تقتل الجماعة غير المتمالئين (أي غير المتفقين سابقاً) بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به، فيما لو انفرد بالجناية ومات المجني عليه، وضربوه عمداً عدواناً، أي لا بد من كون فعل كل واحد من الجماعة قاتلاً. وفي هذه الحالة يتفق الجمهور مع الحنفية. وكذلك
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 245/ 4، القوانين الفقهية لابن جزي: ص 345، المهذب: 174/ 2، مغني المحتاج: 12/ 4، 20، 22، المغني: 671/ 7 وما بعدها، كشاف القناع: 598/ 5، بداية المجتهد: 392/ 2.

(7/5634)


يقتل عند الجمهور الجماعة المتمالئون (المتواطئون) على القتل بالواحد إن قصد الجميع الضرب، وإن لم يصلح فعل كل واحد من الجماعة للقتل، أي ولو لم يكن فعل كل واحد قاتلاً، كأن ضربوه بسياط أو بحجر صغير، فمات، لئلا يتخذ التواطؤ (الاتفاق السابق) ذريعة إلى درء القصاص. وهذا هو الأصح عند الشافعية والحنابلة، إلا أنهم يخالفون المالكية في اشتراط كون كل مشترك في ارتكاب الفعل له صفة الفاعل للجريمة، ويكفي عند المالكية حضور الجميع، وإن لم يتول القتل إلا واحد، إذا كان غير الضارب مستعداً للضرب، ولو لم يضرب غيره، وإنما كان ربيئة أي رقيباً.
وبه يظهر أن الجمهور يختلفون مع الحنفية في هذه الحالة (القتل بالتمالؤ) لكني أرجح مذهب الجمهور، لفعل عمر رضي الله عنه في قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، وإجماع الصحابة على فعله.
والخلاصة: أنه إذا باشر الجميع القتل يقتل الجميع باتفاق المذاهب.

وأما الشريك: الذي لم يباشر فعلاً من أفعال القتل، وإنما اقتصر على الاتفاق على القتل دون حضور القتل، أو على التحريض أو الإعانة على القتل دون مباشرة القتل، فيعاقب بالتعزير، ومنه القتل إذا شاء الإمام عند غير المالكية. ويعاقب بالقصاص عند المالكية.
معنى التمالؤ: هذا ويلاحظ أن الفقهاء اختلفوا في تحديد معنى التمالؤ (1).
قال الحنفية والشافعية والحنابلة في الأرجح عندهم: التمالؤ ـ في اصطلاحهم هو توافق إرادات الجناة على الفعل ولو دون أن يكون بينهم اتفاق سابق، بحيث
_________
(1) الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 245/ 4، الشرح الصغير: 344/ 4، وراجع التشريع الجنائي الإسلامي: 39/ 2 - 42، 126 وما بعدها.

(7/5635)


يباشرون الجناية، أي يجتمعون على ارتكاب الفعل في فور واحد ولو دون سابقة من تدبير أو اتفاق. وقال المالكية: التمالؤ: التعاقد والاتفاق، وهو أن يقصد شخصان فأكثر قتل شخص وضربه، فالتمالؤ يتطلب اتفاقاً سابقاً على ارتكاب الفعل، وإن التوافق على الاعتداء لا يعتبر تمالؤاً، لكن يقتل الجميع إذا قصدوا الضرب، وحضروا الجناية، وإن لم يتول القتل إلا واحد منهم، وكان الآخر رقيباً مثلاً، بشرط أن يكونوا بحيث لو استعين بهم أعانوا.
ويقتل عند المالكية أيضاً الجمع غير الممالئين بقتل شخص واحد إذا ضربوه عمداً عدواناً ومات مكانه، ولم تتميز الضربات، أو تميزت ولكن لم تعرف الضربة القاتلة.

قتل الواحد بالجماعة ـ تعدد القتلى:
يقتل أيضاً الواحد بالجماعة قصاصاً، ولا يجب عند الحنفية (1) والمالكية (2) مع القود شيء من المال، فليس للجماعة إلا القصاص؛ لأن الجماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به، فكذلك إذا قتلهم واحد، قتل بهم، كالواحد بالواحد. وحق أولياء المقتول في القتل مقدور الاستيفاء لهم، فلو أوجبنا معه المال، لكان زيادة على القتل، وهذا لا يجوز. وإني أميل لهذا الرأي.
وقال الشافعية (3): لا يقتل القاتل إلا بواحد، سواء اتفق أولياء الدم على طلب القصاص، أو لم يتفقوا؛ لأن المماثلة مشروطة في القصاص، ولا مماثلة بين
_________
(1) البدائع: 239/ 7، الدر المختار: 395/ 5، تبيين الحقائق: 115/ 6، تكملة الفتح: 278/ 8.
(2) المغني: 699/ 7، الميزان الكبرى للشعراني: 143/ 2، القوانين الفقهية: ص 345.
(3) مغني المحتاج: 22/ 4، المهذب: 183/ 2.

(7/5636)


الواحد والجماعة، فلا يجوز أن يقتل الواحد بالجماعة، وإنما يقتل الواحد بالواحد، وتجب الديات للباقين. واشتراك أولياء الدم في حق المطالبة بالقصاص لايوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق.
وبناء عليه، إن قتل الواحد جماعة على الترتيب، قتل بأولهم، إن لم يعف لسبق حقه. وإن قتلهم معاً دفعة واحدة، كأن جرحهم أو هدم عليهم جداراً، فماتوا في وقت واحد، أو أشكل أمر المعية والترتيب، فيقتص من الجاني لواحد من القتلة بالقرعة وجوباً، وللباقين من المستحقين الديات، لتعذر القصاص عليه، كما لو مات الجاني مثلاً.
وقال الحنابلة (1): إن اتفق أولياء القصاص على القود أو قتل الجاني قتل بهم، وإن أراد أحدهم القود، والآخر الدية، قتل لمن أراد القود، وأعطي الباقون الدية من مال الجاني، سواء قتلهم دفعة واحدة أو دفعتين، ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فمن قتل له قتيل، فأهله بين خِيرَتين: إن أحبوا قَتَلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل» (2) أي الدية، ولأن الجنايات المتعددة لا تتداخل في حالة الخطأ، فلا تتداخل في حالة العمد.

4 - القتل بالتسبب:
السبب: ما يؤثر في الهلاك ولا يحصله، أي أنه المؤثر في الموت لا بذاته،
_________
(1) المغني: 699/ 7 وما بعدها.
(2) سبقت الإشارة لتخريجه إجمالاً وقد رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة بلفظ: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفتدي، وإما أن يقتل» ولفظ الترمذي: «إما أن يعفو، وإما أن يقتل» وفي رواية لأحمد وأبي داود وابن ماجه عن أبي شريح الخزاعي: «فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو» قال ابن عباس: «فالعفو أن يقبل في العمد الدية والاتباع بالمعروف».

(7/5637)


ولكن بواسطة، كحفر بئر في طريق عام دون إذن من السلطات وتغطيتها بحيث يسقط المار فيها ويموت، وشهادة زور على بريء بالقتل، وإكراه رجل على قتل رجل آخر، وحكم جائر من حاكم على رجل بالقتل.
السبب أنواع ثلاثة (1):
الأول ـ حسي: كالإكراه على القتل.
الثاني ـ شرعي: كشهادة الزور على القتل، وحكم الحاكم على رجل بالقتل كذباً أو مع العلم بالتهمة متعمداً الأذى.
الثالث ـ عرفي: كتقديم الطعام المسموم لمن يأكله، وحفر بئر وتغطيتها في طريق القتيل.
وحكم القتل بالتسبب إجمالاً: أنه عند الحنفية (2) لا يوجب القصاص؛ لأن القتل تسبيباً لا يساوي القتل مباشرة، والعقوبة قتل مباشر. فمن حفر حفرة أو بئراً على قارعة الطريق، فوقع فيها إنسان، ومات، لا قصاص على الحافر؛ لأن الحفر قتل بالسبب لا بالمباشرة. كما لا قصاص على شهود الزور إذا رجعوا عن شهادتهم بعد قتل المشهود عليه. أما الإكراه على القتل فيوجب القصاص عند الحنفية على المُكرِه؛ لأنه قتل مباشرة، والإكراه يجعل المستكره آلة بيد المكره، ولا قصاص على الآلة.
وقال الجمهور غير الحنفية (3): يجب القصاص بالسبب، إذا قصد المتسبب
_________
(1) مغني المحتاج: 6/ 4.
(2) البدائع: 239/ 7، تبيين الحقائق للزيلعي: 101/ 6 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 253/ 8.
(3) الشرح الكبير للدردير: 243/ 4، 246، مغني المحتاج: 6/ 4، المهذب: 176/ 2 ومابعدها، المغني: 645/ 7، كشاف القناع: 591/ 5 - 593، 601 وما بعدها.

(7/5638)


إحداث الضرر، وهلك المقصود المعين بالسبب المتخذ، كما في حالة الحفر ورجوع الشهود عن شهادتهم، والتسميم، والإكراه.

ولا بد من توضيح الكلام في الإكراه على القتل، والتسميم.
الإكراه على القتل: إذا أكره رجل غيره على قتل آخر بأن هدده بما يلحق ضرراً بنفسه أو ماله، فقال أبو حنيفة ومحمد: يجب القصاص على المكرِه، دون المستكره المباشر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) ولأن المستكره آلة للمكره، والقاتل معنى هو المكرِه، والموجود من المستكره صورة القتل فقط.
وقال أبو يوسف: لا قصاص على أحد، سواء المكره والمستكره، للشبهة؛ لأن المكره ليس بمباشر للقتل، وإنما هو مسبب له، وإنما القاتل هو المستكره.
وقال زفر: القصاص على المستكره؛ لأن القتل وجد منه في الحقيقة والواقع. وبه يتبين أن في المذهب الحنفي (2) آراء ثلاثة أرجحها الأول.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية في الأظهر عندهم، والحنابلة) (3): يجب القصاص على المكره والمستكره جميعاً؛ لأن المكره متسبب في القتل بما يفضي إليه غالباً، والمستكره مباشر القتل عمداً عدواناً، ومؤثرْ في فعله استبقاء نفسه. وإني أرجح هذا الرأي.
_________
(1) رواه ابن ماجه عن أبي ذر، والطبراني والحاكم عن ابن عباس، والطبراني أيضاً عن ثوبان بلفظ: «إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
(2) البدائع: 179/ 6، تكملة فتح القدير: 302/ 7، اللباب شرح الكتاب: 112/ 4.
(3) الشرح الكبير للدردير: 244/ 4، مغني المحتاج: 9/ 4، المهذب: 177/ 2، المغني: 645/ 7، كشاف القناع: 601/ 5 وما بعدها.

(7/5639)


لكن لو قال له: اقتلني وإلا قتلتك، فلا قصاص عند الشافعية إذا قتله؛ لأن الإكراه شبهة يدرأ بها الحد.
أما لو أمره بقتل نفسه، بأن قال له: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، لم يجب القصاص؛ لأن هذا ليس إكراهاً، فصار كأنه مختار له، في رأي الشافعية. ويلاحظ أن الإكراه على القتل لا يبيحه، بل يأثم بالاتفاق وكذا لا يباح الزنى بالإكراه.

الأمر بالقتل:
فرَق الفقهاء بين الإكراه على القتل وبين الأمر بالقتل، لاختلاف طبيعة الحالتين، ففي حالة الإكراه يكون المباشر مجبراً على تنفيذ الفعل، وفي حالة الأمر يكون المباشر مختاراً ارتكاب الجريمة؛ لذا كان في حكمه تفصيل:
1 - إذا كان المأمور غير مميز كصبي أو مجنون، فلا قصاص على الآمر عند الحنفية؛ لأنه قتل بالتسبب، والقتل بالتسبب لا قصاص فيه، وإنما فيه الدية، كما بينت سابقاً.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (1): يقتص من الآمر؛ لأنه متسبب في القتل. وأما المباشر فهو مجرد آلة يحركها الآمر كيف يشاء.
2 - وإذا كان المأمور مميزاً، أو كبيراً بالغاً عاقلاً، فإما أن يكون للآمر سلطان عليه، أو لا سلطان له عليه.
_________
(1) بداية المجتهد: 388/ 2 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 244/ 4، المهذب: 177/ 2، كشاف القناع: 602/ 5 ومابعدها، المغني: 757/ 7، القوانين الفقهية: ص 345.

(7/5640)


فإن لم يكن سلطان للآمر على المأمور، فقال مالك والشافعي وأحمد (1): يقتص من المباشر المأمور، ويعزر الآمر.
وأما إذا كان للآمر سلطان على المأمور أي المباشر، كسلطة الأب على ولده الصغير، وسلطة الحاكم على من هو تحت إمرته، بحيث يخاف المأمور أن يقتله الآمر لو لم يطع أمره، فيقتص عند مالك (2) من الآمر والمأمور معاً؛ لأن الأمر في هذه الحالة يعتبر إكراهاً.
وقال الشافعية والحنابلة (3): إن علم المأمور أن القتل بغير حق، فيقتص من المأمور المباشر؛ لأنه غير معذر في فعله، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (4)، ويعزر الآمر بالقتل ظلماً لارتكابه معصية. وإن لم يعلم المأمور أن القتل بغير حق، فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام في غير معصية، والظاهر من حاله أنه لا يأمر إلا بالحق.
وعند أبي حنيفة (5): لا قصاص على الآمر إلا إذا كان مُكرِهاً، كما لا قصاص على المأمور إذا كان الأمر صادراً ممن يملكه؛ لأن الأمر أو الإذن شبهة تدرأ القصاص، فإن كان الأمر صادراً ممن لا حق له فيه، فعلى المأمور القصاص.

التسميم:
التسميم: تسبب لقتل النفس، فلا يوجب القصاص عند الحنفية (6). فإن
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) بداية المجتهد: 389/ 2.
(3) المهذب، كشاف القناع، المرجعان السابقان، والمكان السابق.
(4) رواه الحاكم وأحمد في مسنده عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري.
(5) البدائع: 236/ 7.
(6) الدر المختار: 385/ 5، تبيين الحقائق: 101/ 6.

(7/5641)


دس شخص لآخر السم في طعام أو شراب، فأكله أو شربه ولم يعلم به، ومات منه، فلا قصاص عليه، ولا دية، لكن يلزمه الاستغفار والحبس والتعزير، لارتكابه معصية بتسببه لقتل النفس، وتغريره بالمجني عليه.
أما في حالة الإكراه على تناول السم، كأن أوجر (صب في الحلق) شخص السم في حلق آخر على كره منه، أو ناوله إياه وأكرهه على شربه حتى شرب، فالفعل قتل شبه عمد؛ لأنه حصل بما لا يجرح، فلا قصاص فيه عند أبي حنيفة، وإنما تجب الدية على عاقلته (أهل ديوانه أو حرفته أو
نقابته) (1).
والتسميم أو تقديم مسموم عند المالكية (2) موجب للقصاص، إن مات متناوله، وكان مقدمه عالماً بأنه مسموم، وإلا فلا شيء عليه لأنه معذور، كما لا شيء على مقدِّمه إن علم المتناول بسميته؛ لأنه يكون حينئذ قاتلاً لنفسه.
وكذلك يعتبر التسميم عند الحنابلة (3) قتلاً عمداً موجباً للقصاص إذا كان مثله يقتل غالباً، لأن التسميم يتخذ كثيراً طريقاً إلى القتل، فيوجب القصاص، وبدليل أن يهودية أتت النبي صلّى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها النبي صلّى الله عليه وسلم وبشر بن البراء بن معرور، فلما مات بشر، أرسل إليها النبي صلّى الله عليه وسلم، فاعترفت، فأمر بقتلها (4).
وعند الشافعية (5): يعد تسميم الصبي غير المميز (دون السابعة) والمجنون قتلاً عمداً موجباً للقصاص، وكذلك يجب القصاص إن سقى السم بالغاً عاقلاً مكرَهاً، فمات، لأنه سبب يقتل غالباً.
_________
(1) وأما على رأي الصاحبين، فمن الفقهاء من قال: إنه قتل شبه عمد عندهما أيضاً، ومنهم من قال: عندهما تفصيل: إن كان ما أوجر من السم مقداراً يقتل مثله غالباً فهو عمد، وإلا فخطأ العمد.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 244/ 4.
(3) المغني: 643/ 7، كشاف القناع: 591/ 5 وما بعدها.
(4) رواه أبو داود عن أبي هريرة. وانظر سيرة ابن هشام: 338/ 2.
(5) مغني المحتاج: 6/ 4، المهذب: 176/ 2.

(7/5642)


فإن سقاه مميزاً أو بالغاً عاقلاً في غير حالة الإكراه، ولم يعلم المتناول حال الطعام، فهو في الأصح قتل شبه عمد، يوجب الدية فقط لا القصاص؛ لأن آخذه تناوله باختياره من غير إلجاء.
والخلاصة: إن التسميم قتل عمد عند المالكية والحنابلة، وعمد عند الشافعية في حالة الإكراه، وإعطائه غير المميزأو المجنون، وشبه عمد عند الحنفية في حالة الإكراه، وكذا في غير حالة الإكراه عند الشافعية، ويوجب التعزير فقط عند الحنفية في غير حالة الإكراه.

حالات اشتراك المتسبب مع المباشر في جناية القتل:
بينت سابقاً حالة الاشتراك المباشر بين اثنين فأكثر في بحث قتل الجماعة بالواحد، وأبين هنا حالة اشتراك المتسبب مع المباشر، كما سأبين في مبحث تالٍ حالة الاشتراك بين من يجب عليه القصاص وبين من لا يجب عليه.
أما حالة اشتراك المتسبب مع المباشر في جريمة القتل، فيخضع حكمها لما قرره الفقهاء من القواعد الفقهية العامة في بحث الضمان (1). وأمثلتها: اشتراك الممسك مع القاتل، والدال مع المدلول، والحافر حفرة مع المردي، والملقي من شاهق مع القاد.

أولاً ـ ضمان المباشر وحده: المباشر: هو الذي حصل الضرر بفعله بلا واسطة، أي تدخل فعل شخص آخر مختار، ويكون مسؤولاً عن فعله في ضوء قاعدتين عند الحنفية هما:
_________
(1) انظر كتابنا نظرية الضمان: ص 44 ومابعدها، 188 ومابعدها.

(7/5643)


1 - «المباشر ضامن وإن لم يتعمد»: فمن باشر القتل بسلاح وجب عليه القصاص إذا كان القتل عمداً عدواناً. ومن باشر القتل بغير سلاح كحجر وخشب، أو أطلق عياراً نارياً إلى طائر فأصاب إنساناً، أو انقلب نائم على إنسان فقتله أو سقط من حائط على إنسان في الطريق فقتله، كان القتل شبه عمد في القتل بغير سلاح، وخطأ في الإطلاق على طائر، ومما جرى مجرى الخطأ في الوقوع على إنسان، ويجب عليه الدية (1) والأصح أن يقال في القاعدة: «وإن لم يتعدّ».
2 - «إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر»: يلزم المباشر بالضمان أو المسؤولية إذا كان هو المؤثر الأقوى في إحداث العدوان، وكان دور السبب ضعيفاً لا يعمل بانفراده في الهلاك. كمن حفر حفرة أو بئراً في الطريق العام دون إذن السلطات، وجاء آخر وأردى غيره (دفعه أو ألقاه) في البئر، أوألقى حيواناً فيها، ضمن المردي أو الدافع أو الملقي، ووجب عليه الدية أو التعويض، لأنه مباشر للتلف بالذات، وأما حافر البئر فهو متسبب فقط؛ لأن حفره البئر، وإن أفضى إلى التلف، لكنه لا ينفرد بالإتلاف ما لم يوجد الدفع الذي هو المباشر (2). ومثله من دل غيره على شخص فقتله المدلول كان الثاني عند أبي حنيفة هو المسؤول. ومثَّل الشافعية والحنابلة (3) لهذه القاعدة بمن أمسك شخصاً فقتله آخر أو
_________
(1) مجمع الضمانات: ص 146 - 154، 161، 165، جامع الفصولين لابن قاضي سماوة: 113/ 2، 124 ومابعدها، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 99/ 2، الدر المختار: 375/ 5 - 377.
(2) البدائع: 275/ 7، المبسوط: 185/ 26، الدر المختار: 422/ 5، جامع الفصولين: 115/ 2، مجمع الضمانات: ص 153.
(3) المهذب: 192/ 2 ومابعدها، مغني المحتاج: 8/ 4 ومابعدها، المغني: 684/ 7، كشاف القناع: 601/ 5.

(7/5644)


حفر بئراً فرداه فيها آخر، أو ألقاه من شاهق، فتلقاه آخر فقدَّه (قطعه نصفين مثلاً قبل وصوله الأرض) فالقصاص على القاتل والمردي والقادّ فقط (1).
وبناء عليه لو أمسك رجل شخصاً ليقتله آخر، يضمن القاتل فقط عند الحنفية (2)، فيقتص منه إن قتله بسلاح؛ لأنه باشر القتل،، ويجب التعزير على الممسك من غير حبس.
وقال الشافعية، والراجح عند أحمد (3): يقتل القاتل، ويعزر الممسك عند الشافعية بحسب ما يرى الحاكم من المدة. وقال الحنابلة: يحبس الممسك حتى يموت، لقوله عليه السلام: «إذا أمسك الرجلُ الرجلَ، حتى جاء آخر، فقتله، قتل القاتل وحبس الممسك» (4) وقوله أيضاً: «إن من أعتى الناس على الله عز وجل: من قتل غير قاتله، أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام، أو بصَّر عينيه في النوم ما لم تبصره» (5).
_________
(1) وهذا هو المعروف من الأفعال المؤثرة في زهوق الروح بالشرط، لأن الذي له دخل من الأفعال بالزهوق إما مباشرة: وهي ما يؤثر في الهلاك ويحصله بالذبح بسكين، وإما شرط: وهو مالا يؤثر في الهلاك ولا يحصله، بل يحصل التلف عنده بغيره، ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه، كالحفر مع التردي، فإنه لا يؤثر في التلف ولا يحصله، وإنما التردي هو المحصل للتلف، لكن لولا الحفر لما حصل التلف، ولذا سمي شرطاً، ومثله الإمساك للقاتل. وإما سبب: وهو ما يؤثر في الهلاك ولا يحصله كشهادة الزور على بريء بالقتل، فإنها علة أو مؤثر في الحكم عليه بالإعدام، ولكنها لا تجلب بذاتها الإعدام، وإنما الذي يجلبه فعل الجلاد (مغني المحتاج: 6/ 4).
(2) الدر المختار ورد المحتار: 384/ 5، البدائع: 274/ 7.
(3) مغني المحتاج: 8/ 4، المهذب: 176/ 2، المغني: 755/ 7.
(4) رواه الدارقطني عن ابن عمر، وهو حديث مرسل، ورواه الشافعي من فعل علي. قال في بلوغ المرام: رجاله ثقات، وصححه ابن القطان.
(5) رواه أحمد والدارقطني والطبراني والحاكم من حديث أبي شريح الخزاعي. ورواه آخرون عن عائشة، وابن عباس.

(7/5645)


لكن المالكية (1) قالوا: إذا اجتمعت المباشرة والسبب، فالقصاص عليهما معاً، فيشارك القاتل والممسك في الضمان أو القصاص، لتسبب الممسك ومباشرة القاتل. ومثله الدال الذي لولا دلالته ما قتل المدلول عليه، قياساً على الممسك. كذلك يقتص عندهم من الحافر والمردي معاً.
والخلاصة: إن المباشر ضامن إذا تغلبت المباشرة على السبب.

ثانياً ـ ضمان المتسبب وحده:
المتسبب: هو الذي يحدث أمراً يؤدي إلى تلف شيء آخر بحسب العادة، إلا أن التلف مباشرة لا يقع منه، وإنما بواسطة أخرى هي فعل فاعل مختار. ويضمن المتسبب وحده إذا كان متعدياً، عملاً بقاعدة «المتسبب لايضمن إلا بالتعدي» سواء أكان بقصد أم لا، أو بقاعدة «يضاف الفعل إلى المتسبب إن لم يتخلل واسطة»، وذلك إذا تعذر تضمين المباشر لكونه غير مسؤول أو غير موجود أو غير معروف، أو كان فعل المتسبب أقوى من المباشر. فمن دفع إلى صبي سكيناً ليمسكه له، فوقع عليه، فجرحته، كان الضمان (الدية) على الدافع؛ لأن السبب هنا يشتمل على معنى التعدي، لكون الصبي لم يباشر فعلاً معيناً، فهو غير مسؤول، والسكين بطبيعتها آلة جارحة.
ومن طرح على قارعة الطريق حية، فلدغت إنساناً بمجرد إلقائها، فمات، فهو ضامن ديته؛ لأنه متعد في هذا السبب. ومثله لو ألقى عقرباً أوزنبوراً ونحوهما على حيوان أو إنسان، فأتلفه، كان على الملقي الضمان. وشهود الزور
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 245/ 4 وما بعدها، لكن في إتلاف الأموال يقدم المستكره على المكره، والمردي على الحافر في تعلق الضمان به وحده (الشرح الكبير: 444/ 3).

(7/5646)


في قتل إنسان يضمنون الدية عند الحنفية، ويجب عليهم القصاص عند غير الحنفية؛ لأنهم تسببوا في موت المشهود عليه، ولو كان الحاكم هو المباشر.
ولو دفع إنسان رجلاً على آخر، فعطب الآخر، كان الضمان (الدية) على الدافع؛ لأن المدفوع كالآلة، والقاعدة فيه هي «المدفوع كالآلة في الضمان».
ولو عثر شخص بحجر لم يعرف واضعه، فوقع في بئر، يكون حافر البئر ضامناً الدية، لتعذر معرفة المباشر، ولأن صاحب البئر متسبب.
ومن حفر بئراً في داره، وغطاها، أوربط كلباً قرب باب الدار، ثم أذن لرجل بالدخول، فوقع في البئر ومات، أو عقره الكلب، فمات وجب عليه الضمان (الدية عند الحنفية، وفي الأصح عند الشافعية) (1).
والخلاصة: أن المتسبب هو الضامن إذا تغلب السبب على المباشر.

ثالثاً ـ تضمين المتسبب والمباشر معاً: يضمن المتسبب مع المباشر إذا كان للسبب تأثير يعمل بانفراده في الإتلاف متى انفرد عن المباشرة، أي إذا تعادلت قوة التسبب والمباشرة، أو اعتدل السبب والمباشر بأن تساوى أثرهما في الفعل، كان المتسبب والمباشر مسؤولين معاً عن القتل، كأن اجتمع على قيادة دابة سائق وراكب عليها، فما أحدثته من تلف، كان الضمان عليهما؛ لأن سوق الدابة وحده يؤدي إلى التلف، وإن لم يكن هناك شخص راكب عليها. وكذلك إذا نخس رجل الدابة بأمر راكبها، يكون الضمان على الاثنين؛ لأن الناخس بمنزلة السائق.
_________
(1) المبسوط: 14/ 16 وما بعدها، 185/ 26، البدائع: 273/ 7، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 197/ 1، مجمع الضمانات للبغدادي: ص 168، المهذب: 193/ 2.

(7/5647)


وعند الجمهور غير الحنفية يقتص في حالة الإكراه من المكره والمستكره معاً؛ لأن المكره متسبب، والمستكره مباشر، كما بان سابقاً.
وعند المالكية خلافاً لبقية المذاهب: يقتص من الممسك والقاتل؛ لأن الممسك متسبب، والقاتل مباشر، كما أوضحت سابقاً.

حالة اشتراك من يجب عليه القصاص ومن لا يجب عليه القصاص:
القاعدة المقررة في هذه الحالة عند الحنفية هي أن «القصاص لا يتجزأ» (1) فلو اشترك اثنان في قتل رجل: أحدهما ممن يجب عليه القصاص، لو انفرد بالجريمة وحده، والآخر لا يجب عليه، لو انفرد لعدم انطباق شروط القصاص عليه كما سيأتي، مثل اشتراك صبي مع بالغ، ومجنون مع عاقل، ومخطئ وعامد في قتل شخص (2)، أو اشتراك الأب مع شخص أجنبي في قتل الابن، أو اشتراك زوج مع أجنبي في قتل زوجته وله منها ولد، أو اشتراك رجل مع سبعٍ أو حية في إماتة إنسان، كأن يجرحه سبع أو تلدغه حية، ويجرحه إنسان عمداً، فيموت بسببها، أو يجرح الشخص نفسه، ويجرحه أجنبي أيضاً، فمات، ففي كل هذه الحالات لا قصاص على أحد في مذهبي الحنفية والحنابلة (3)، سواء من توافرت فيه شرائط القصاص أو لم تتوافر فيه لمانع شرعي، لوجود الشبهة في فعل كل واحد منهما، ولا يطبق القصاص مع الشبهة، لكن تجب الدية عليهما.
_________
(1) راجع الدر المختار: 380/ 5، وكتابنا نظرية الضمان: ص 304.
(2) أو أحدهما بالسيف والآخر بالعصا عند أبي حنيفة، لأن الاشتراك بالعصا يجعل المشترك مرتكباً قتلا شبه العمد.
(3) البدائع: 235/ 7، الفتاوى الهندية: 4/ 6، الدر المختار ورد المحتار: 397/ 5، المغني: 676/ 7، 677، 681، كشاف القناع: 605/ 5.

(7/5648)


أما صاحب أهلية القصاص كالبالغ فتجب الدية في ماله. والذي لا يجب عليه القصاص كالمخطئ، تجب الدية على عاقلته.
وهذا عند الحنفية في حالة غير شريك الأب، أما في حالة اشتراك الأب والأجنبي، فتجب الدية في مالهما؛ لأن الأب لو انفرد بالقتل تجب الدية في ماله.
ورأى الحنابلة: أن على عاقلة الصبي والمخطئ نصف الدية، وعلى البالغ، والمتعمد نصف الدية في ماله. وفي شريك السبع وشريك جارح نفسه وجهان في إيجاب القصاص عليه: أحدهما وهو الأصح: لا قصاص عليه، والثاني: عليه القصاص. وأما شريك الأب فعليه القصاص، كشريك الأجنبي.
وقال الشافعية (1) بتفصيل آخر: لا يقتل شريك المخطئ، وشبه العمد بسبب الشبهة في القصاص، وإنما تجب الدية عليهما، أما المتعمد فعليه نصف الدية مغلظة في ماله، وغير المتعمد عليه نصف الدية مخففة. ويقتل شريك الأب في قتل ولده (أي كما قال الحنابلة)، وشريك جارح نفسه، كأن جرح الشخص نفسه وجرحه غيره فمات بهما. وكذلك يقتل شريك دافع الصائل (2) في الأظهر، وشريك صبي مميز أو مجنون، وشريك السبع والحية القاتلين غالباً، لصدور الجريمة منه، وهو القتل العمد، وأما امتناع القصاص على الآخر فهو لعذر أو مانع خاص به، فلا يتعدى إلى الآخر، ويجب عليه القصاص جزاء لفعله. والأظهر عند الشافعية أن من ألقى غيره في ماء مُغرق كالبحر فالتقمه حوت، وجب القصاص عليه؛ لأنه بسببه، فإن كان الماء غير مغرق فلا قصاص عليه.
وقال المالكية (3): إن اشترك في القتل عامد ومخطئ، أو مكلف وغير مكلف
_________
(1) مغني المحتاج: 20/ 4، المهذب: 174/ 2.
(2) أي المدافع عن نفسه أو ماله أو عرضه ضد الباغي المعتدي.
(3) بداية المجتهد: 389/ 2، 405، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 246/ 4 ومابعدها.

(7/5649)


مثل رجل عامد وصبي، أو عامد ومجنون، إن تمالآ على قتله، فعلى العامد القصاص، وعلى عاقلة المخطئ والمجنون والصبي نصف الدية؛ لأن عمد الصبي كخطئه، رعاية للمصلحة وصيانة للدماء، فكأن كل واحد منهما انفرد بالجريمة.
فإن لم يتمالأا على قتله، وتعمد الاثنان قتل المجني عليه أوتعمد الكبير، فعلى الكبير نصف الدية في ماله، وعلى عاقلة الصبي نصفها أي كما قال الحنفية. فإن قتلاه خطأ، أو أخطأ الكبير، فعلى عاقلة كل منهما نصف الدية. وفي حالة عدم التمالؤ هناك قولان عند المالكية في أربع مسائل: هي شريك سبع، وشريك جارح نفسه جرحاً يعقبه الموت غالباً، ثم ضربه كبير قاصداً قتله، وشريك حربي، وشريك مرض بعد الجرح، بأن جرح شخص غيره، ثم حصل للمجروح مرض ينشأ عنه الموت غالباً. ثم مات، ولم يدر، أمات من الجرح أو من المرض.
والقولان هما: قول بعدم القصاص من الشريك، ولكن على الشريك نصف الدية في ماله، ويضرب مئة، ويحبس عاماً، وقول بالقصاص. والراجح في شريك المرض القصاص في حالة القتل العمد، والدية في الخطأ. ولكن بعد حلف أيمان القسامة الخمسين. وأما المسائل الثلاث الباقية فالقولان فيها على حد سواء. ولعل رأي المالكية أرجح الآراء صوناً للدماء.

5 - الإلقاء في مهلكة:
إذا جمع شخص بين إنسان وبين أسد أونمر في مكان ضيق كزُبية (1) ونحوها، أوأمام كلب فينهشه، أو يرمي عليه حية أوعقرباً فتلدغه، فهل يعتبر فعله قتلاً عمداً، فيسأل عنه، أو لا يسأل عنه؟ هناك آراء ثلاثة في المذاهب.
_________
(1) زبية الأسد: حفرة تحفر له شبه البئر، أو حفرة في مكان عال يصاد فيها الأسد.

(7/5650)


قال الحنفية (1): لا قود فيه ولا دية، وإنما يعزر ويضرب ويحبس إلى أن يموت. ويروى عن أبي حنيفة أن عليه الدية. وإن فعل ذلك بصبي فعليه الدية.
وإن ربط صبياً وألقاه في الشمس أو البرد حتى مات، فعلى عاقلته الدية.
وقال المالكية (2): الفعل العدوان في هذه الحالة قتل عمد فيه القود، سواء أكان فعل الحيوان بالإنسان مما يقتل غالباً كالنهش، أم مما لا يقتل غالباً ومات الآدمي من الخوف. ولا يقبل الادعاء بأنه قصد بفعله اللعب. وكذلك قال الحنابلة (3): الفعل قتل عمد موجب للقصاص إن فعل الحيوان المفترس أو المتوحش بالإنسان ما يقتل به غالباً، أو فعل به فعلاً يقتل مثله. فإن فعل به فعلاً لو فعله الآدمي لم يكن قتلاً عمداً، لم يجب القصاص به؛ لأن السبع صار آلة للآدمي، فكان فعله كفعله.
وعلى هذا، إن ألقاه مكتوفاً بين يدي أسد أو نمر، فقتله، فهو عمد. وكذا إن جمع بينه وبين حية في مكان ضيق، فنهشته، فقتلته، فهو عمد. ولو لسعه عقرب من القواتل، فهو عمد. ورأي المالكية والحنابلة أولى في تقديري.
وقال الشافعية (4): إن جمع بين شخص وبين السبع في زُبية أو بيت صغير ضيق، أو أغراه به، أو أمسكه وعرضه لمجنون فقتله، وجب عليه القود؛ لأن السبع يقتل إذا اجتمع مع الآدمي في موضع ضيق. أما إن كتّف رجلاً وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدي سبع (أي في مكان واسع مثل البرية) فقتله، لم يجب القود؛ لأنه سبب غير ملجئ.
_________
(1) الدر المختار: 386/ 5.
(2) الشرح الكبير للدردير: 244/ 4.
(3) المغني: 641/ 7 ومابعدها، كشاف القناع: 589/ 5 وما بعدها.
(4) نهاية المحتاج للرملي: 14/ 7، المهذب: 176/ 2، مغني المحتاج: 9/ 4.

(7/5651)


وإن كتَّفه وتركه في موضع فيه حيات، فنهشته، فمات لم يجب القود، سواء أكان المكان ضيقاً أم واسعاً؛ لأن الحية تهرب عادة من الآدمي، فلم يكن تركه معها ملجئاً إلى قتله، بخلاف السبع فإنه يثب على الإنسان في المكان الضيق دون المتسع.
وإن أنهشه سبعاً أو حية يقتل مثلها غالباً، فمات منه، وجب عليه القود؛ لأنه ألجأه إلى قتله.

6 - التغريق والتحريق:
يفرق الحنفية بين التحريق والتغريق، فالتحريق بالنار عندهم قتل عمد؛ لأن النار كالسلاح في تفريق أجزاء الجسد، فتشق الجلد، وتعمل عمل الذبح. وألحقوا بالنار: الماء المغلي أو الحار، والمعدن المصهور، والتنور أو الفرن المحمي وإن لم يكن فيه نار (1).
وأما التغريق بالماء الكثير فهو عند أبي حنيفة قتل شبه عمد، لأنه كالقتل بالمثقل. وعند الصاحبين: هو قتل عمد موجب للقود؛ لأنه مما يقتل به غالباً، واستعماله دليل العمدية (2)، ويدل لهما قوله عليه السلام: «من غرَّق غرقناه» (3). وهذا إذا كان الماء عظيماً بحيث لا تمكن النجاة منه. فلو كان الماء قليلاً لا يقتل غالباً، أو عظيماً تمكن النجاة منه بالسباحة، والملقى بالماء يحسن السباحة، فالقتل ليس شبه عمد باتفاق الحنفية.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 375/ 5، 386، نتائج الأفكار ـ تكملة فتح القدير: 245/ 8 وما بعدها.
(2) نتائج الأفكار: 267/ 8، الدر المختار: 385/ 5.
(3) رواه البيهقي من حديث البراء بن عازب، لكن في إسناده من يجهل حاله.

(7/5652)


ويرى المالكية (1): أن التحريق والتغريق قتل عمد موجب للقصاص، إذا كان التغريق عدواناً أو لعباً لغير المحسن للعوم، أوعداوة لمحسن العوم وكان الغالب عدم النجاة لشدة برد، أو طول مسافة، فغرق. فإن كان التغريق لمحسن العوم لعباً، فعليه دية مخففة (مخمسة) لا مغلظة. وقال الشافعية والحنابلة (2): إذا ألقى أو طرح شخص غيره في نار أو ماء، لا يمكنه التخلص منه لكثرة الماء أو النار أولعجزه عن التخلص لعدم إحسانه السباحة، أو مع إحسانها، وكان مكتوفاً أو ضعيفاً أو مريضاً أو صغيراً، فمات، كان القتل عمداً موجباً القصاص. وإن ألقاه في ماء مغرق، فالتقمه حوت، وجب القصاص في الأظهر عند الشافعية؛ لأنه ألقاه في مهلكه، وفيه وجهان عند الحنابلة، أصحهما وجوب القود على الملقي. فإن كان الماء يسيراً غير مغرق والتقمه الحوت فلا قصاص، وعليه دية القتل شبه العمد عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه هلك بفعله.
وإن أمكنه التخلص من الغرق بسباحة أو تعلق بزورق، فتركها، فلا قود ولا دية؛ أي أنه هدر عند الحنابلة، وفي الأظهر عند الشافعية؛ لأنه مهلك لنفسه. كذلك لا دية في الأظهر عند الشافعية إذا ألقاه في نار يمكنه الخلاص منها، فمكث فيها حتى مات. وفي إيجاب ضمان ديته وجهان عند الحنابلة، والصواب إلزامه الدية؛ لأنه جانٍ بالإلقاء المفضي إلى الهلاك. ورأي الشافعية والحنابلة أولى بالاتباع، ويقترب منه رأي المالكية؛ لأن مثل هذا الفعل الذي يباشره المعتدي قاتل غالباً.
_________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 243/ 4.
(2) مغني المحتاج: 8/ 4، نهاية المحتاج: 10/ 7، المهذب: 176/ 2،192، المغني: 641/ 7، كشاف القناع: 590/ 5.

(7/5653)


7 - الخنِق (1):
الخنق عند أبي حنيفة قتل شبه عمد موجب للدية؛ لأنه ليس وسيلة معدة للقتل. وشرط القتل العمد عنده استعمال آلة قاتلة غالباً، ومعدة للقتل. وهو قتل عمد موجب للقصاص عند الصاحبين؛ لأنه في رأيهما وسيلة معدة للقتل، وذلك عندهما بشرط أن يدوم الجاني على الخنق بمقدار ما يموت منه الإنسان غالباً. فإن لم يتحقق هذا الشرط فلا قصاص باتفاق الحنفية (2).
وقال المالكية (3): الخنق عمد، سواء قصد به الجاني موت المجنى عليه، فمات، أو قصد مجرد التعذيب، ما دام هناك عدوان. فإن كان على وجه اللعب أو التأديب، فهو من القتل الخطأ.
وقال الشافعية والحنابلة (4): الخنق عمد فيه القصاص، إن فعل به ذلك مدة يموت في مثلها غالباً، فمات، أي كما قال الصاحبان. وإن فعله في مدة لا يموت في مثلها غالباً، فمات، فهو عمد الخطأ أي شبه العمد، إلا أن يكون ذلك يسيراً في العادة بحيث لا يتوهم الموت منه، فلا يوجب ضماناً؛ لأنه بمنزلة لمسه.
وإن خنقه وتركه متألماً مثلاً حتى مات، ففيه القود؛ لأنه مات من سراية جنايته. وإن تنفس وصح بعدئذ، ثم مات، فلا قود؛ لأن الظاهر أنه لم يمت بالخنق. ورأي غير أبي حنيفة أولى سداً للباب أمام المعتدين.
_________
(1) الخنِق ـ بكسر النون، ولا يقال بالسكون: مصدر خنق من باب نصر: إذا عصر حلقه أي حبس أنفاسه، ومنع خروج الهواء من رئتيه، سواء بالشنق، أو باليدين أو بالحبل أو بالوسادة. والخناق بكسر الخاء: حبل يخنق به.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 385/ 5 وما بعدها.
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 242/ 4.
(4) المغني: 640/ 7، مغني المحتاج: 6/ 4.

(7/5654)


8 - القتل بالترك أو الحبس ومنع الطعام والشراب:
إذا حبس شخص إنساناً في مكان، ومنع عنه الطعام أو الشراب، أو الدفء في الشتاء ولياليه الباردة، حتى مات جوعاً أو عطشاً أوبرداً في مدة يموت في مثلها غالباً، وتعذر عليه الطلب، ففيه آراء:
قال أبو حنيفة: لا شيء على الحابس؛ لأن الموت حدث بالجوع ونحوه، لا بالحبس.
وقال الصاحبان: تجب عليه الدية؛ لأنه قاتل شبه عمد؛ لأن الطعام والشراب والدفء من لوازم الإنسان، وتتوقف عليها حياته، فمن منعه إياها أهلكه بمنعه. وكونهما لم يعتبرا الفعل قتل عمد، فلأن الحبس في تقديرهما ليس وسيلة معدة للموت، وإن كان في ذاته وسيلة قاتلة غالباً (1).
واعتبر المالكية (2) القتل في هذه الحالة كالخنق قتلاً عمداً، ما دام قد صدر على وجه العدوان.
واعتبر الشافعية والحنابلة (3) القتل حينئذ عمداً موجباً القصاص، إذا مضت مدة يموت مثله فيها غالباً جوعاً أو عطشاً؛ لظهور قصد الإهلاك به؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بالموت عندئذ، فإذا تعمده الإنسان، فقد تعمد القتل، وهذا الرأي وسط معتدل.
وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة وضعفاً، والزمان حراً وبرداً؛ لأن فقد الماء في الحر ليس كفقده في البرد.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 386/ 5، التشريع الجنائي لعودة: 73/ 2.
(2) الشرح الكبير والدسوقي: 242/ 4.
(3) نهاية المحتاج: 7/ 7 ومابعدها، مغني المحتاج: 5/ 4 وما بعدها، المهذب: 176/ 2، المغني: 643/ 7، كشاف القناع: 591/ 5.

(7/5655)


فإن كان لا يموت في مثلها غالباً، كان القتل شبه عمد عند الحنابلة. وفصل النووي في المنهاج في هذه الحالة، فقال: إن لم يكن به جوع وعطش سابق فشبه عمد. وإن كان به بعض جوع أو عطش، وعلم الحابس الحال، كان القتل عمداً، لظهور قصد الاهلاك.

9 ـ القتل تخويفاً أو إرهاباً: يحدث القتل أحياناً بفعل معنوي غير مادي، كالتخويف والإرهاب، والصيحة الشديدة ونحوها من الأمثلة التالية:
ـ من شهر سيفاً في وجه إنسان، أو دلاَّه من مكان شاهق، فمات من روعته، أو ذهب عقله.
ـ لو صاح إنسان بصبي أو مجنون أو معتوه صيحة شديدة، وهو على سطح أو حائط ونحوهما، فوقع فمات، أو ذهب عقله.
ـ لو تغفل أحد بالغاً عاقلاً، فصاح به، فأصابه ذلك.
ـ لو طلب الحاكم امرأة إلى مجلس القضاء، فأجهضت جنينها فزعاً، أو زال عقلها.
ـ لو ألقى على إنسان حية، ولو كانت ميتة، فمات فزعاً ورعباً.
ففي كل هذه الأحوال: لا ضمان لديته عند الحنفية لعدم تعدي السبب، أي لم يكن المذكور سبباً كافياً للضمان، إذ ليس السبب متصلاً بالنتيجة قطعاً، وذلك إذا لم يكن التخويف فجأة. فإن كان الصياح ونحوه على إنسان فجأة، فمات من صيحته أو قال له: قع، فوقع، فهو قاتل له قتلاً شبه عمد، فتجب الدية (1).
_________
(1) الدرالمختار: 397/ 5، مجمع الضمانات: 172، اللآلئ الدرية في الفوائد الخيرية بهامش جامع الفصولين: 112/ 2، ط الأولى بالأزهرية.

(7/5656)


وقال المالكية (1): يكون المتسبب فيما ذكر في غير حال الإجهاض قاتلاً عمداً يجب عليه القصاص إن كان على وجه العداوة. أما إن كان على وجه اللعب أو التأديب فعليه الدية.
وقال الشافعية والحنابلة (2): إن فعل ما ذكر عمداً فهو شبه عمد موجب الدية، وإلا فهو خطأ؛ لأنه سبب إتلافه. ووافق الشافعية على هذا في الصبي. ولهم في البالغ قولان: تجب الدية؛ لأن الفاعل مسؤول عن فعله ما دام قد أدى للموت، والبالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي. وقيل في وجه آخر: لا تجب الدية؛ لأن البالغ بما يتميز به عادة من ضبط الأعصاب لا يفزع مع الغفلة، وإن فزع فنادراً، ولا حكم للنادر.
إلا أن هذين المذهبين اختلفا في حالة الاجهاض من الفزع، فإن أجهضت المرأة، فاتفقا على ضمان الجنين إذا ألقته أمه ميتاً، لقصة عمر الآتية. وأما إن فزعت المرأة فماتت، فقال الشافعية: لم تضمن ديتها؛ لأن ما حدث ليس بسبب لهلاكها في العادة.
وقال الحنابلة: تجب ديتها أيضاً؛ لأن الحاكم أفزعها، فكان متسبباً في موتها.
وأما قصة عمر: فهي أنه أرسل إلى امرأة مُغِيبة (3)، كان يدخل عليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر، فبينا هي في الطريق فزعت، فجاءها الطلق (4)، فألقت ولداً، فصاح الصبي صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 244/ 4 وما بعدها.
(2) المهذب: 192/ 2، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 230، المغني: 832/ 7 وما بعدها، مغني المحتاج: 4/ 4.
(3) المرأة المُغِيبة: هي التي غاب عنها زوجها. يقابلها: امرأة مُشْهِد: وهي التي زوجها شاهد حاضر.
(4) الطلق: وجع الولادة.

(7/5657)


صلّى الله عليه وسلم، فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت وال ومؤدب، وصمت علي. فأقبل عليه عمر، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم، فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك؛ لأنك أفزعتها، فألقته، فقال عمر: أقسمت عليك ألا تبرح حتى تقسمها على قومك، أي قريش.

الركن الثالث ـ القصد الجنائي:
لا يكون القتل عمداً عند جمهور الفقهاء (الحنفية (1) والشافعية (2) والحنابلة (3)) إلا إذا قصد الجاني قتل المجني عليه، أو ضربه بفعل مزهق (أي قصد الفعل العدوان بما يقتل غالباً). فإن لم يتوافر القصد الجنائي، فلا يعد الفعل قتلاً عمداً. ولو قصد الجاني مجرد الاعتداء على المجني عليه، دون إزهاق روحه، بما لا يقتل غالباً، كان القتل شبه عمد.
وبما أن هذا القصد أو النية أمر باطني خفي لا يمكن الاطلاع عليه، أناط الفقهاء حكم القتل العمد بوصف ظاهر يمكن معرفته، وهو استعمال أداة القتل المناسبة؛ لأن الجاني غالباً يختار الآلة المناسبة لتنفيذه قصده الجرمي. فاستعمال الآلة القاتلة غالباً هو المظهر الخارجي لنية الجاني، وهو الدليل المادي الذي لا يكذب في الغالب؛ لأنه من صنع الجاني، لا من صنع غيره. ومن ثم اشترط الفقهاء أن تكون الآلة قاتلة غالباً؛ لأنها دليل على قصد القتل عند الجاني (4).
_________
(1) تبيين الحقائق: 97/ 6، 100، البدائع: 233/ 7 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 375/ 5.
(2) مغني المحتاج: 3/ 4، المهذب: 172/ 2، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 222.
(3) كشاف القناع: 587/ 5، المغني: 637/ 7.
(4) التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عودة: 79/ 2 وما بعدها.

(7/5658)


وأما المالكية (1)، فاشترطوا للقصاص من الجناية وجود العدوان، ولم يشترطوا في القصاص قصد القتل، فسواء قصد الجاني قتل المجني عليه، أو تعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل، فهو قاتل عمداً (2)، إذا لم يرتكب الفعل على وجه اللعب أو التأديب، فيكون حينئذ خطأ.

القصد المحدود وغير المحدود: لا فرق عند الحنفية والحنابلة (3) بين القصد المحدود وغير المحدود، فسواء قصد الجاني قتل شخص معين، أو ضرب جماعة ولو لم يقصد شخصاً معيناً من الجماعة، فهو قاتل عمد.
وفرق الشافعية والمالكية (4) بين نوعي القصد، فإن قصد معيناً فهو قتل عمد، وإن قصد غير معين فهو قتل شبه عمد عند الشافعية، وخطأ عند المالكية.

الرضا بالقتل أو الإذن بالقتل:
يرى بعض الفقهاء أن الرضا أو الإذن بالقتل لا يبيح القتل؛ لأن الإنسان غير مالك نفسه، وإنما هي مملوكة لله عز وجل، فلا تباح عصمة النفس إلا بما نص عليه الشرع. ورأي فقهاء آخرون أن الإذن يبيح القتل. وبناء عليه اختلف الفقهاء في عقوبة القاتل المأذون له بالقتل، كما لو قال رجل لآخر: اقتلني، فقتله.
_________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 237/ 4، 242.
(2) وبذلك يتسع مذهب المالكية لما يسمى عند القانونيين بالقصد الاحتمالي في جريمة القتل العمد: وهو كون الجاني مسؤولاً عن كل ما يتوقع حدوثه، مما هو ممكن الوقوع. بل إن هذا المذهب يتسع لأكثر من القصد الاحتمالي، فيشمل كل ما يتصوره الفاعل ممكن الوقوع، أو ممتنع الوقوع؛ لأن القتل العمد عندهم: هو كل فعل قصد به مجرد العدوان، ولو لم يقصد به القتل.
(3) الدر المختار: 375/ 5، كشاف القناع: 587/ 5.
(4) الشرح الكبير للدردير: 243/ 4 وما بعدها، مغني المحتاج: 4/ 4، نهاية المحتاج: 4/ 7.

(7/5659)


قال الحنفية ما عدا زفر (1): القتل شبه عمد، يوجب الدية؛ لأن الإذن بالقتل الموجود بالفعل أورث شبهة، والحدود ومنها القصاص تدرأ بالشبهات. وقال زفر: لا يصلح الإذن شبهة، فلا يدرأ القصاص، ويجب تطبيقه.
وقال المالكية (2): الإذن بالقتل لا يمنع وجوب القصاص، وإنما يلزم القود.
وقال الشافعية في الأظهر عندهم والحنابلة (3): لا قصاص ولا دية، ودم المقتول أو جرحه هدر؛ لأن الحق له فيه، وقد أذنه في إتلافه، كما لو أذن له في إتلاف ماله.

المطلب الثاني ـ عقوبات القتل العمد:
عقوبة القتل العمد: هي الجزاء المترتب على الاعتداء على النفس.
وللقتل العمد عقوبات: أصلية، وبدلية (عن الأصلية)، وتبعية.
واتفق الفقهاء على أن قاتل النفس عمداً يجب عليه أمور ثلاثة: الأول ـ الإثم العظيم لورود القرآن بتخليده في نار جهنم، والثاني ـ القود لآية القصاص، والثالث ـ الحرمان من الميراث لحديث: «لا يرث القاتل شيئاً».

النوع الأول ـ العقوبة الأصلية:
نص الشرع على عقوبة أصلية للقتل العمد وهي القصاص أو القود (4)، وهي
_________
(1) البدائع: 236/ 7، الدر المختار: 388/ 5.
(2) الشرح الكبير للدردير: 240/ 4.
(3) مغني المحتاج: 11/ 4، كشاف القناع: 602/ 5 وما بعدها.
(4) سمي قوداً؛ لأنهم كانوا يقودون الجاني بحبل أو غيره إلى محل استيفاء القصاص.

(7/5660)


عقوبة متفق عليها بين الفقهاء، قال الحنفية (1): موجَب العمد: القود عيناً، أي فلا ينتقل عنه إلى المال إلا بالتراضي.
وأضاف الشافعية دون غيرهم من الفقهاء عقوبة أخرى للقتل العمد وهي الكفارة، قياساً على عقوبة القتل الخطأ التي نص عليها القرآن الكريم صراحة.

العقوبة الأصلية الأولى المتفق عليها ـ القصاص:
الكلام عن القصاص يتناول بحث معناه ومشروعيته، والفرق بينه وبين الحدود الأخرى، وشروطه، وموانعه، وكيفية وجوبه، وصاحب الحق فيه، وولاية الاستيفاء، وكيفية الاستيفاء، ومسقطاته.

أولاً ـ معنى القصاص: القصاص والقصص لغة: تتبع الأثر، واستعمل في معنى العقوبة؛ لأن المقتص يتبع أثر جناية الجاني، فيجرحه مثلها. وهو أيضاً المماثلة، ومن هذا المعنى أخذت عقوبة «القصاص» شرعاً، أي مجازاة الجاني بمثل فعله، وهو القتل.
ويلزم القصاص، سواء كان القتل مع سبق الإصرار أو الترصد أم لا.

ثانياً ـ مشروعية القصاص: ثبتت مشروعية القصاص بالقرآن والسنة والإجماع والمعقول.
أما القرآن، ففيه ـ كما ذكر سابقاً ـ آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/ 2] ومنها أيضاً: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ... } [المائدة:45/ 5] {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179/ 2].
_________
(1) الدر المختار: 376/ 5.

(7/5661)


وفي السنة أحاديث متعددة أيضاً منها: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1) ومنها حديث ابن عباس مرفوعاً: « ... ومن قتل عمداً فهو قود، ومن حال دونه، فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولا عدل» (2).
وأجمعت الأمة على وجوب القصاص.
والعقل يقضي بتشريع القصاص، إما عدالة بأن يفعل بالقاتل مثل جنايته، وإما مصلحة بتوفير الأمن العام وصون الدماء، وحماية الأنفس، وزجر الجناة، ولا يتحقق ذلك إلا به، فلا يلتفت إلى الدعاوى والمزاعم القائلة بأن فيه تهديماً جديداً للبنية الإنسانية؛ لأن في تشريعه صون حق الحياة للمجتمع: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179/ 2].

هل القصاص يكفر إثم القتل؟ اختلف العلماء في أمره (3) كما اختلفوا في الحدود، هل هي زواجر أو جوابر؟
قال الجمهور: القصاص من القاتل أو العفو عنه يكفر إثم القتل؛ لأن «الحدود كفارات لأهلها» (4) وهذا عام لم يخصص قتلاً من غيره. قال النووي: ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة بالعقوبة في الآخرة.
_________
(1) أخرجه أحمد والأئمة الستة من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) رواه أبو داود والنسائي. والصرف: التوبة، والعدل: الفدية.
(3) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 239/ 4 وما بعدها، رد المحتار: 389/ 5.
(4) يذكره الفقهاء حديثاً، روى مسلم في صحيحه عن عبادة بما في معناه: «من أصاب شيئاً من ذلك ـ أي المعاصي كالزنا والسرقة والقتل ـ فعوقب به فهو كفارة له» ورويت أحاديث أخرى في هذا المعنى، منها ما رواه الترمذي وصححه الحاكم عن علي بن أبي طالب وفيه: «من أصاب ذنباً فعوقب به في الدنيا، فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة» وهو عند الطبراني بإسناد حسن ولفظه «من أصاب ذنباً أقيم عليه حد ذلك الذنب، فهو كفارة له» وللطبراني عن ابن عمر مرفوعاً: «ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارة لما أصاب من ذلك الذنب» (راجع نيل الأوطار: 50/ 7، 53).

(7/5662)


وقال الحنفية: القصاص أو العفو لا يكفر إثم القتل؛ لأن المقتول المظلوم لا منفعة له في القصاص، وإنما القصاص منفعة للأحياء ليتناهى الناس عن القتل: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة:179/ 2].

ثالثاً ـ الفرق بين القصاص والحدود الأخرى: الحدود كحد الزنا وحد المسكر حقوق خالصة لله تعالى، أي للمجتمع أو للجماعة، والقصاص حق شخصي للعباد، وفيه عند الحنفية والمالكية حق لله تعالى، أي للجماعة، وحد القذف مشتمل على الحقين: حق الله وحق العبد (الآدمي). وبناء على هذا ذكر الحنفية بين الحدود والقصاص فروقاً سبعة هي ما يأتي (1):
1 - القصاص يورث، والحد لا يورث.
2 - القصاص يصح العفو عنه، والحد لا يعفى عنه.
3 - التقادم لا يمنع قبول الشهادة بالقتل، بخلاف الحد ما عدا القذف، فإن التقادم يمنع الشهادة. والتقادم في الشرب بذهاب الريح، وفي حد غيره بمضي شهر.
4 - تجوز الشفاعة في القصاص، ولا تجوز في الحد بعد الوصول للحاكم،
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 390/ 5، نقلاً عن الأشباه والنظائر لابن نجيم.

(7/5663)


أما قبل الوصول إليه والثبوت عنده، فتجوز الشفاعة فيه لإطلاق سراح المتهم (1).
5 - لا بد في القصاص من رفع الدعوى إلى القضاء من ولي الدم، أما الحد ما عدا القذف والسرقة، فلا يشترط فيه الادعاء الشخصي من صاحب المصلحة فيه، وإنما يصح الحسبة فيه.
6 - يثبت القصاص بإشارة الأخرس أو كتابته، أما الحد فلا يثبت بهما، لاشتمالهما على الشبهة.
7 - يجوز للقاضي القضاء بعلمه الشخصي في القصاص دون الحدود، وهذا عند متقدمي الحنفية، وأفتى المتأخرون بعدم القضاء بالعلم مطلقاً سداً للذريعة أمام قضاة السوء، سواء في القصاص والحدود أم في الأموال وغيرها.
وأضاف بعض الحنفية فروقاً ثلاثة أخرى هي:
8 - استيفاء الحدود يكون بواسطة الإمام الحاكم، وأما القصاص فيجوز لولي الدم استيفاؤه بشرط وجود الحاكم.
9 - يجوز الاعتياض في القصاص، بخلاف الحدود ومنها حد القذف. وأجاز الشافعية المعاوضة عنه.
10 - يصح الرجوع عن الإقرار في الحد، دون القصاص.
_________
(1) تجوز الشفاعة لأرباب الحوائج المباحة كدفع الظلم وتخليص من خطأ، أو العفو عن ذنب ليس فيه حد إذا لم يكن المذنب مصراً، فإن كان مصراً فلا يجوز حتى يرتدع عن الذنب والإصرار. ودليل الشفاعة حديث: «اشفعوا تؤجروا» ولا يتناول هذا الحديث الحدود، فإن هناك أحاديث أخرى تمنع من الشفاعة فيها، مثل حديث عائشة في المرأة المخزومية السارقة ورد شفاعة أسامة فيها: «أتشفع في حد من حدود الله؟».

(7/5664)


رابعاً ـ شروط القصاص: يشترط لوجوب القصاص شروط في القاتل والمقتول ونفس القتل وولي القتيل.
شروط القاتل:
يشترط في القاتل الذي يقتص منه شروط أربعة (1):
1 - أن يكون مكلفاً (أي بالغاً عاقلاً)، فلا قصاص ولا حد على الصبي أو المجنون؛ لأن القصاص عقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة؛ لأنها لا تجب إلا بالجناية، وفعلهما لا يوصف بالجناية. ومثلهما زائل العقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمغمى عليه ونحوهما؛ ولأن هؤلاء ليس لهم قصد صحيح، فهم كالقاتل خطأ.

القصاص من السكران: ويقتص من السكران بشراب محرم باتفاق المذاهب الأربعة (2)؛ لأن السكر لا ينافي الخطاب الشرعي أي التكليف، فتلزمه كل أحكام الشرع، وتصح عباراته كلها في العقود كالبيع، وفي الإسقاطات كالطلاق، وفي الإقرارات، وإنما ينعدم بالسكر القصد دون العبارة، فلو تكلم بكلمة الكفر لا يرتد استحساناً عند الحنفية.
والقصاص من السكران واجب؛ لأنه حق آدمي، وقياساً على إيجاب حد الشرب عليه، وسداً للذرائع أمام المفسدين الجناة، فلو لم يقتص منه لشرب ما
_________
(1) البدائع: 234/ 7 ومابعدها، الدر المختار: 378/ 5، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 98/ 6، الشرح الكبير للدردير: 242/ 4، بداية المجتهد: 388/ 2، القوانين الفقهية: ص 345، المهذب: 173/ 2، مغني المحتاج: 15/ 4، المغني: 664/ 7 وما بعدها، كشاف القناع: 606/ 5.
(2) التلويح على التوضيح: 186/ 2، كشف الأسرار على أصول البزدوي: 1472/ 2 - 1475، القوانين الفقهية: ص 345، المهذب: 173/ 2، مغني المحتاج: 5/ 4، المغني: 665/ 7، الدردير: 237/ 4.

(7/5665)


يسكره، ثم يقتل ويزني ويسرق، وهو بمأمن من العقوبة والمأثم، ويصير عصيانه سبباً لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة عنه.
2 - أن يكون متعمداً القتل: أي قاصداً إزهاق روح المجني عليه، فإن كان مخطئاً، فلا قصاص عليه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «العمد قود» (1) أي القتل العمد يوجب القود، فالحديث شرط العمد لوجوب القود. ولم يشترط المالكية العمد بالذات، وإنما يكفي وجود العدوان.
3 - أن يكون تعمد القتل محضاً: أي لا شبهة في عدم إرادة القتل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم شرط العمد مطلقاً في قوله «العمد قود». وهو يعني اكتمال وصف العمدية، ولا كمال مع وجود شبهة انتفاء قصد القتل، كما في حالة تكرار الضرب بما لا يقتل عادة، لا يراد به القتل، بل التأديب والتهذيب.
4 - أن يكون القاتل عند الحنفية مختاراً: فلا قصاص على المستكره على القتل عند الحنفية ما عدا زفر، وقال الجمهور: عليه مع المكره القصاص، كما بان سابقاً.

شروط المقتول:
يشترط لإيجاب القصاص في المعتدى عليه المقتول شروط هي ما يأتي (2):
_________
(1) رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما من حديث ابن عباس بلفظ: «العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول».
(2) البدائع: 235/ 7 ومابعدها، الدر المختار: 378/ 5 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 254/ 8 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 237/ 4، 242 وما بعدها، مواهب الجليل: 232/ 6، القوانين الفقهية: ص 345، بداية المجتهد: 391/ 3، مغني المحتاج: 15/ 4 وما بعدها، المهذب: 173/ 2، الروضة للنووي: 148/ 9، المغني: 648/ 7، 652، 657، كشاف القناع: 585/ 5، 587، 607.

(7/5666)


1 - أن يكون معصوم الدم أو محقون الدم (1) أي يحرم الاعتداء على حياته. فلا يقتل مسلم ولا ذمي بالكافر الحربي، ولا بالمرتد، ولا بالزاني المحصن، ولا بالزنديق، ولا بالباغي؛ لأن هؤلاء مباحو الدم إما بسبب الحرابة أو الردة أو الزنا أو البغي، فكل واحد منها سبب لإهدار الدم، أي إباحته.
والعصمة عند الحنفية تكون ـ كما بان سابقاً ـ بالإسلام والإقامة في دار الإسلام، فمن أسلم في دار الحرب، وبقي مقيماً فيها، لا يقتص من قاتله هناك؛ لأن كمال حقن الدم بالعصمة المقومة والمؤثمة، وبالإسلام حصلت المؤثمة دون المقومة؛ لأن هذه تحصل بالإقامة في دار الإسلام (2).
وأما العصمة عند الجمهور (غير الحنفية): فتكون بالإيمان (الإسلام) أو الأمان بعقد الذمة أو الهدنة، فمن قتل مسلماً في دار الحرب عامداً عالماً بإسلامه، فعليه القود، سواء أكان قد هاجر أم لم يهاجر إلى دار الإسلام.
وصرح الحنفية بأن العصمة لمحقون الدم يجب أن تكون «على التأبيد» لإخراج المستأمن، فلا يقتص من قاتله؛ لأن عصمته مؤقتة أثناء الأمان، لا مؤبدة، ففي دمه شبهة الإباحة.
ويتفق الجمهور مع الحنفية على هذا القيد، لأنهم يقولون: لا يقتل مسلم بكافر، سواءأكان مستأمناً أم ذمياً أم معاهداً؛ لأن الكافر ليس بمحقون الدم على التأبيد، فأشبه الحربي (3).
_________
(1) الحقن هو المنع، وحقن دمه: إذا منعه أن يسفك.
(2) رد المحتار: 378/ 5.
(3) المغني: 652/ 7 ومابعدها، المهذب: 241/ 2.

(7/5667)


قتل الوالد بالولد وبالعكس:
2 - ألا يكون المجني عليه جزء القاتل، أي ألا تكون هناك رابطة الأبوة والبنوة، فلا قصاص على أحد الوالدين (الأب والجد، والأم أو الجدة وإن علوا) بقتل الولد أو ولد الولد وإن سفلوا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقاد الوالد بالولد» (1). قال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه، حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلفاً (2).
ولأن في القصاص من الأب شبهة آتية من حديث: «أنت ومالك لأبيك» (3) والقصاص يدرأ بالشبهات.
ولأن الأوامر المطالبة بالإحسان إلى الآباء تمنع القصاص منهم، فقد كان الأب سبباً في إيجاد ولده، فلا يكون الابن سبباً في إعدامه.
وإذا لم يقتل الأب بابنه وجب عليه الدية.
وهذا الحكم متفق عليه بين أئمة المذاهب (4) إلا أن المالكية استثنوا حالة واحدة: هي أن يتحقق أن الأب أراد قتل ابنه، وانتفت شبهة إرادة تأديبه وتهذيبه،
_________
(1) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب، وفي بعض أسانيده طعن، وصحح البيهقي والحاكم بعض طرقه. وروي عن آخرين وهم ابن عباس وسراقة بن مالك وعمرو بن شعيب عن أبيه عند جده.
(2) المغني: 666/ 7.
(3) رواه ابن ماجه عن جابر، والطبراني عن سمرة وابن مسعود، وهو ضعيف.
(4) البدائع: 235/ 7، تكملة الفتح: 258/ 8 وما بعدها، بداية المجتهد: 293/ 2، الشرح الكبير للدردير: 242/ 4، مغني المحتاج: 18/ 4، المهذب: 174/ 3، المغني: 666/ 7 ومابعدها، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 222.

(7/5668)


كأن يضجعه فيذبحه، أو يبقر بطنه أو يقطع أعضاءه، فيقتل به لعموم القصاص بين المسلمين. فلو ضربه بقصد التأديب، أو في حالة غضب، أو رماه بسيف أو عصا، فقتله لا يقتل به.
واتفق الفقهاء على أنه يقتل الولد بقتل والده، لعموم القصاص وآياته الدالة على وجوبه على كل قاتل، إلا ما استثني بالحديث السابق (1).
وعلة التفرقة بين الأب والابن في هذا الحكم: هو قوة المحبة التي بين الأب والابن، إلا أن محبة الأب غير مشوبة بشبهة مادية بقصد انتظار النفع منه، فتكون محبته له أصيلة لا لنفسه، فتقتضيه بالطبيعة الحرص على حياته. أما محبة الولد لأبيه فهي مشوبة بشبهة انتظار المنفعة؛ لأن ماله له بعد وفاة أبيه، فلا يحرص عادة على حياته، فتكون محبته لنفسه، فقد يقتله.

التكافؤ:
3 - اشتراط الجمهور (غير الحنفية) (2) أن يكون المقتول مكافئاً للقاتل في الإسلام والحرية، فلا يقتل قصاصاً مسلم بكافر، ولا حر بعبد، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» (3) وقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ولا يقتل مؤمن بكافر» (4) وقوله عليه الصلاة والسلام في العبد: «لا يقتل
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) الشرح الكبير للدردير: 238/ 4، 241، بداية المجتهد: 391/ 2، القوانين الفقهية: ص 345، مغني المحتاج: 16/ 4، المهذب: 173/ 2، المغني: 652/ 7، 658، كشاف القناع: 609/ 5.
(3) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ورواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه من حديث أبي جحيفة.
(4) رواه أحمد والنسائي وأبو داود من حديث علي رضي الله عنه.

(7/5669)


حر بعبد» (1) وقول علي رضي الله عنه: «من السنة ألا يقتل حر بعبد» (2).ولم يشترط الحنفية (3) التكافؤ في الحرية والدين، وإنما يكفي التساوي في الإنسانية، لعموم آيات القصاص بدون تفرقة بين نفس ونفس، مثل قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/ 2] وقوله سبحانه {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45/ 5] ولعموم حديث «العمد قَوَد» وصوناً لحق الحياة، وتحقيق ذلك في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم، لما بينهما من العداوة الدينية، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقاد مؤمناً بكافر، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته» (4)، ولأن العبد آدمي معصوم الدم فأشبه الحر، والقصاص يتطلب فقط المساواة في العصمة.
وأما المراد من قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [البقرة:178/ 2] بعد قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/ 2] فاختلف فيه الفقهاء، فقال الحنفية: المراد به الرد علي ما كان يفعله بعض القبائل، من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إلا حراً، وفي امرأتهم إلا رجلاً، على ما جاء في حديث الشعبي، فأبطل ما كان من الظلم، وأكد فرض القصاص على القاتل دون غيره، فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر بالعبد أو أنه لا يقتل الرجل بالمرأة. وقال الجمهور: إن الله قد أوجب المساواة في القصاص، ثم بيَّن المساواة المعتبرة، فبين أن الحر يساويه الحر، والعبد يساويه
_________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً.
(2) رواه الإمام أحمد بإسناده عن علي، وأخرجه البيهقي.
(3) البدائع: 237/ 7، تبيين الحقائق: 102/ 6 وما بعدها.
(4) رواه الدارقطني في سننه عن ابن عمر من طريق عبد الرحمن بن البيلماني، وهو ضعيف. وروي مرسلاً عند محمد بن الحسن، والشافعي وعبد الرزاق وأبي داود من طريق البيلماني.

(7/5670)


العبد، والأنثى تساويها الأنثى، لكن جاء الإجماع على أن الرجل يقتل بالمرأة. فمناط الاستدلال عندهم كلمة {القصاص} الموجبة للمساواة والمماثلة في القتل، ومناط الاستدلال عندالحنفية كلمة {القتلى} الموجبة حصر القصاص في القاتل، لا في غيره.
وأما حديث «لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده» فمعناه عند الحنفية أنه لا يقتل المسلم والمعاهد بكافر حربي؛ لأن المراد بالكافر هو الحربي بدليل جعل الحربي مقابلاً للمعاهد؛ لأن المعاهد يقتل بمن كان معاهداً مثله من الذميين إجماعاً، فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي، كما قيد في المعطوف؛ لأن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقاً، ويكون التقدير: لا يقتل مسلم بكافر حربي ولا ذو عهد بكافر حربي؛ لأن الذمي أو المعاهد إذا قتل ذمياً قتل به، فعلم أن المراد به: الحربي، إذ هو الذي لا يقتل به مسلم ولا ذمي. ولا يقال كما يرى الجمهور، معناه: لا يقتل ذو عهد مطلقاً، أي لا يحل قتله، بمعنى أنه يصبح كلاماً مستأنفاً مبتدأ به؛ لأن المراد من الحديث نفي القتل قصاصاً، لا نفي مطلق القتل، فيكون المعطوف مثل المعطوف عليه.
وأيد الحنفية قولهم بالقياس أيضاً وهو أن يد المسلم تقطع إذا سرق مال الذمي فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم، فحرمة دمه كحرمة دمه.
لكن رد الجمهور على أدلة الحنفية بأن حديث «أنا أحق من وفى بذمته» ضعيف. وتوجد شبهة في إباحة دم الذمي، بسبب الكفر المبيح للدم، ولا قصاص مع الشبهة. وحديث «ولا ذو عهد في عهده» كلام تام لا يحتاج إلى تقدير، وهي جملة مستأنفة، لبيان حرمة دماء أهل الذمة والعهد بغير نقض، ولو سلمنا أنها للعطف، فالمشاركة في أصل النفي لا من كل وجه، فلو سلمنا تقدير الحربي في

(7/5671)


الجملة الثانية، فلا يسلم تخصيص الكافر بالحربي. وأما القياس فهو في مقابلة النص: «لا يقتل مسلم بكافر». ثم إن حد السرقة حق الله، والقصاص يشعر بالمساواة، ولا مساواة بين المسلم والكافر.
واتفق الفقهاء فيما عدا ذلك على أنه يقتل الرجل بالأنثى، والكبير بالصغير، والعاقل بالمجنون، والعالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، وسليم الأطراف بمقطوعها وبالأشل، أي أنه لا يشترط التكافو في الجنس والعقل والبلوغ والشرف والفضيلة وكمال الذات أو سلامة الأعضاء (1).

وهل يقتل الباغي قصاصاً بالعدل وبالعكس؟: قال الحنفية (2) والمالكية (3) والحنابلة (4) في وجه هو الراجح: لا يقتل الباغي بالعدل وبالعكس؛ لأن كلاً منهما غير معصوم الدم في زعم الآخر، لاستحلاله الدم بتأويل. قال الزهري: «وقعت الفتنة والصحابة متوافرون، فاتفقوا على أن كل دم استحل بتأويل القرآن العظيم فهو موضوع».
وقال الشافعية (5): يقتص من الباغي بقتل العادل وبالعكس في غير حال القتال؛ لأن المقتول معصوم الدم مطلقاً؛ لأن الإسلام حقن دماء البغاة في غير حال القتال. وحكم البغاة في ضمان النفس والمال والحد إن لم يكن في قتال حكم أهل
_________
(1) البدائع، بداية المجتهد، المهذب، كشاف القناع، المكان السابق، المغني: 648/ 7.
(2) البدائع: 236/ 7.
(3) القوانين الفقهية: ص 364، الشرح الكبير والدسوقي: 300/ 4.
(4) المغني: 115/ 8، غاية المنتهى: 350/ 3، قال ابن قدامة: في القصاص وجهان: أحدهما: يجب لأنه مكافئ معصوم، والثاني: لا يجب لأن في قتلهم اختلافاً بين الأئمة، فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص، لأنه مما يندرئ بالشبهات.
(5) المهذب: 221/ 2، مغني المحتاج: 128/ 4 وما بعدها.

(7/5672)


العدل، فإذا أتلفوه في غير قتال ضمنوه، وإلا فلا. لكن الصحيح عند الشافعية (1) أنه لا يتحتم قتل الباغي ويجوز العفو عنه، لقول علي رضي الله عنه بعد أن جرحه ابن ملجم قبل استشهاده: «أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن عشت فأنا ولي دمه: أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت، وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به» وقال الشافعي رضي الله عنه والحنابلة: يكره للعادل أن يتعمد قتل ذي رحمه من أهل البغي، وأضاف الشافعي: وحكم دار البغي دار الإسلام، فإذا جرى فيها ما يوجب إقامة حد، أقامه الإمام إذا استولى عليها.

قتل الغيلة: هو القتل لأخذ المال، سواء أكان القتل خفية، كما لو خدعه، فذهب به لمحل، فقتله فيه لأخذ المال، أم كان القتل ظاهراً على وجه يتعذر معه الغوث، وقد يسمى الثاني (أي القتل ظاهراً) حرابة (2).
وحكم هذا القتل كبقية أنواع القتل الأخرى عند الجمهور (3) (غير المالكية) في القصاص والعفو عنه، واشتراط التكافؤ بين القاتل والمقتول.
وقال المالكية: يقتل هذا القاتل بسبب الفساد والحرابة، لا قصاصاً، وبما أن هذا القتل يعاقب عليه فاعله بسبب الحرابة والفساد، لا للقصاص، رأى المالكية (4): أنه لا يشترط فيه شرط التكافؤ، فيقتل الحر بالعبد، والمسلم بالكافر ولا عفو فيه، ولا صلح، وصلح ولي القتيل مردود، والحكم فيه إلى الإمام.
_________
(1) وقال في مغني المحتاج: أرجح الوجهين كما قال البلقيني: الوجوب أي وجوب القصاص على البغاة.
(2) وعرفه صاحب المغني ابن قدامة بقوله: أن يخدع الإنسان فيدخل بيتاً أو نحوه، فيقتل أو يؤخذ ماله. وذكر أن ذلك عند مالك.
(3) المغني: 648/ 7.
(4) الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 238/ 4، 242.

(7/5673)


شرط القتل:
اشترط الحنفية (1) في القتل نفسه الموجب للقصاص: أن يكون مباشرة، لاتسبباً، فإن كان تسبباً ففيه الدية، كمن حفر بئراً على قارعة الطريق، فوقع فيه إنسان ومات، فعلى الحافر الدية. وإذا رجع شهود القصاص عن شهادتهم بعد قتل المشهود عليه، فتجب عليهم الدية؛ لأنه لم يوجد منهم القتل مباشرة، وإنما وجد منهم سبب القتل.
ولم يشترط غير الحنفية هذا الشرط، وإنما قالوا ـ في الجملة ـ: يجب القصاص بالسبب كالمباشرة؛ لأنهما متماثلان، على النحو الذي بان سابقاً. وملخصه:
إنه يجب عند الجمهور القصاص بالسبب الحسي كالإكراه على القتل، وبالسبب الشرعي كشهود الزور، وفي بعض أحوال السبب العرفي كتقديم الطعام المسموم إلى الضيف الصبي غير المميز أو المجنون. واختلفوا في تسميم المميز أو البالغ العاقل، فقال المالكية والحنابلة: على فاعله القصاص. وقال الشافعية في أرجح الأقوال: لا يقتص منه، وإنما عليه الدية (دية شبه العمد). كما اختلفوا في حالة الشرط (وهو مالا يؤثر في الهلاك ولا يحصله بل يحصل التلف عند هـ بغيره، ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه) كالحفر مع التردي، والإمساك مع القتل، والدلالة على المجني عليه. فقال غير المالكية: يقتص من مباشر القتل، ويعزر المتسبب. وقال المالكية: يقتص من الاثنين معاً. واختلفوا أيضاً في حالة اشتراك الفاعل والشريك: فمن اتفق أو حرض أي اشترك في الجريمة ولم يباشر القتل فعليه
_________
(1) البدائع: 239/ 7.

(7/5674)


التعزير عند الأئمة ما عدا مالكاً، وكذلك من أعان على القتل ولم يباشر القتل، عليه القصاص عند مالك، والتعزير عند باقي الأئمة (1).

شرط ولي القتيل:
اشترط الحنفية (2) في ولي القتيل صاحب الحق في القصاص: أن يكون معلوماً، فإن كان مجهولاً لا يجب القصاص؛ لأن القصد من إيجاب القصاص هو التمكين من استيفاء الحق، والاستيفاء من المجهول متعذر، فتعذر الإيجاب له. وخالف فيه باقي الأئمة.

خامساً ـ موانع القصاص: يفهم من المبحث السابق في شروط القصاص أن هناك حالات مانعة من القصاص، وهي ستة، يمكن إدخالها تحت مفهوم الشبهة التي تدرأ الحدود ومنها القصاص.
1 - حالة الأبوة عند فقهاء المذاهب ما عدا حالة إرادة القتل إذا ثبتت ثبوتاً قاطعاً عند المالكية. أما رابطة الزوجية فلا تمنع القصاص باتفاق المذاهب الأربعة، خلافاً للزهري والليث بن سعد (3).
2 - عدم التكافؤ بين الجاني والمجني عليه: في الإسلام والحرية عند جمهور الفقهاء خلافاً للحنفية. أما الكفار فيقتلون، بعضهم ببعض دون تفريق، فيقتل الذمي بالذمي، أو المجوسي، أو الحربي، أو المستأمن.
_________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 132/ 2.
(2) البدائع: 240/ 7.
(3) المغني: 668/ 7.

(7/5675)


3 - حالة الاشتراك الجرمي أو الاتفاق الجنائي: أي حالة الاتفاق على القتل دون حضور القتل، أو التحريض أو الإعانة على القتل دون مباشرة القتل، فلا قصاص على من لم يباشر القتل، وإنما يعزر عند جمهور الفقهاء، خلافاً للمالكية الذين قالوا: يقتص ممن حضر أو أعان ولم يباشر كالربيئة أو حارس الأبواب ومفارق الطرق.
أما في حالة اشتراك الجماعة بالقتل ومباشرتهم القتل فيقتص من الجميع باتفاق المذاهب.
4 - القتل بالتسبب عند الحنفية دون غيرهم من الأئمة.
5 - أن يكون ولي القتيل مجهولاً عند الحنفية دون غيرهم من الأئمة.
6 - أن يكون القتل في دار الحرب عند الحنفية دون غيرهم.
فلا قصاص عند الحنفية على من قتل مسلماً في دار الحرب، لعدم ولاية الإمام على دار الحرب، سواء أكان القتيل ممن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا، أم كان مسلماً من أهل دار الإسلام، لكنه دخل دار الحرب بأمان، أو بإذن كالتاجر والأسير. وتجب الدية عند الصاحبين بقتل التاجر أو الأسير؛ لأنهما من أهل دار الإسلام، والأسر أمر طارئ. وعند أبي حنيفة: تجب دية التاجر، لا الأسير: لأن الأسير مقهور في يد أهل الحرب، فصار تابعاً لهم، فلم يعد متقوماً (1). وأوجب غير الحنفية القصاص من القاتل في كل هذه الأحوال، كما بان سابقاً.
_________
(1) البدائع: 133/ 7، 237.

(7/5676)


سادساً ـ كيفية وجوب القصاص (أو مدى لزوم القصاص، أو موجب العمد): يجب القصاص من القاتل إلا إذا عفا عنه ولي القتيل. فإذا عفا، هل يلزم القاتل بالدية أو لا؟
قال الحنفية والمالكية، والشافعية في ظاهر مذهبهم الراجح عندهم وفي رواية عن أحمد (1): موجَب (2) القتل العمد هو القَود عيناً أي متعيناً، لقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/ 2] وهذا يفيد تعين القصاص واجباً متعيناً للعمد، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من قتل عمداً فهو قَود» (3)، ولأن القصاص بدل شيء متلف، فتعين الجزاء من جنسه، كسائر المتلفات.
ويحسن إيراد عبارة الشافعية فيه وهي: موجب العمد القود عيناً، والدية بدل عند سقوطه، وفي قول: موجب العمد: أحدهما (القصاص والدية) مبهماً، وعلى القولين: للولي عفو على الدية بغير رضا الجاني، وعلى الأول: لو أطلق العفو فالمذهب لا دية.
وبناء على هذا الرأي: قال الحنفية والمالكية والشافعية على المذهب: لو عفا ولي القتيل عن القصاص مطلقاً، أي دون مطالبة بالدية، لا يلزم الجاني بالدية جبراً عنه، وإنما له باختياره أن يدفعها في مقابل العفو عنه. وللولي أن يعفو مجاناً أو يقتص، أي ليس له إن أراد أخذ جزاء الجناية إلا القود، لا الدية. ويجوز العفو على الدية أو أكثر أو أقل برضا الجاني، وتعد الدية حينئذ بدلاً عن القصاص. ولو
_________
(1) البدائع: 241/ 7، الدر المختار: 376/ 5، الشرح الكبير للدردير: 239/ 4، بداية المجتهد: 394/ 2، مغني المحتاج: 48/ 4، المهذب: 188/ 2، المغني: 752/ 7، كشاف القناع: 633/ 5.
(2) موجب العمد، أي مقتضاه في الاعتداء على نفس أو غيرها.
(3) رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح.

(7/5677)


تعدد الأولياء فبادر أحدهم، فقتل الجاني قبل إبداء الآخرين رأيهم، سقط حق الباقين في القصاص ولا دية لهم، ويترتب على اعتبار الدية بدلاً من القصاص أنه لا يجوز للقاضي أن يجمع بين عقوبة وبدلها جزاء عن فعل واحد.
وقال الحنابلة عملاً برواية أخرى عن أحمد هي الراجحة عندهم (1)، وفي قول عند الشافعية: ليس القصاص واجباً عيناً، وإنما الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية. وللولي خيار التعيين: إن شاء استوفى القصاص، وإن شاء أخذ الدية من غير توقف على رضا القاتل. ويعتبر التعزير بدلاً عن الدية. ودليلهم قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء، فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/ 2] ومعناه فليتتبع القاتل، وليؤد القاتل الدية، فالله أوجب الاتباع بمجرد العفو، ولو أوجب العمد القصاص عيناً، لم تجب الدية عند العفو المطلق. ثم إن الدية أحد بدلي النفس، فكانت بدلاً عنها، لا عن بدلها كالقصاص. وأما حديث «من قتل عمداً فهو قود» فالمراد به وجوب القود. ويخالف القتل سائر المتلفات؛ لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه، والقتل بخلافه.
وأضاف الحنابلة أدلة أخرى، منها قول ابن عباس: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/ 2] (2) وعن أبي هريرة مرفوعاً: «من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين: إما أن يُودِي (3)، وإما أن يقاد» (4).
_________
(1) كشاف القناع: 633/ 5.
(2) رواه البخاري.
(3) وديت القتيل: إذا أعطيت ديته. واتديته: أخذت ديته.
(4) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.

(7/5678)


ويترتب على هذا الرأي: أن الولي لو عفا عن القصاص مطلقاً، أو إلى الدية بدلاً عنه، وجبت الدية؛ لأن الواجب غير معين، فإذا ترك أحدهما وجب الآخر، وإن اختار الدية سقط القصاص، وإن اختار القصاص تعين. وفي هذه الحالة الأخيرة: هل له بعدئذ العفو على الدية؟ قال القاضي أبو يعلى الحنبلي: له ذلك؛ لأن القصاص أعلى، فكان له الانتقال إلى الأدنى، ويكون بدلاً عن القصاص. ويحتمل أنه ليس له ذلك؛ لأنه أسقط الدية باختياره القود، فلم يعد إليها.

سابعاً ـ صاحب الحق في القصاص: صاحب الحق في القصاص أو مستوفيه أو ولي الدم: هو عند الحنفية والحنابلة، والصحيح عند الشافعية (1): كل وارث يرث المال، سواء أكان من ذوي الفروض أم العصبة، أي جميع الورثة نساءً ورجالاً، أزواجاً وزوجات.
وقال المالكية (2): مستحق القصاص هو العاصب الذكر، أي جميع العصبة بالنفس، يقدم الأقرب فالأقرب من العصبة في إرثه إلا الجد والإخوة، فهم في درجة متساوية في القصاص والعفو، فلا دخل في القصاص للبنات والأخوات والزوجات والزوج؛ لأن القصاص لرفع العار، فاختص بالعصبات كولاية الزواج.
وقد تكون المرأة مستحقة القصاص عند المالكية بشروط ثلاثة وهي:
1 - أن تكون وارثة المقتول كبنت أو أخت، فخرج العمة والخالة ونحوهما من ذوي الأرحام.
_________
(1) البدائع: 242/ 7 وما بعدها، الدر المختار: 383/ 5، حاشية الشلبي علي الزيلعي: 114/ 6، مغني المحتاج: 39/ 4 وما بعدها، المهذب: 183/ 2 وما بعدها، المغني: 739/ 7، 743، كشاف القناع: 621/ 5 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 256/ 4، بداية المجتهد: 395/ 2، الشرح الصغير: 358/ 4.

(7/5679)


2 - ألا يساويها عاصب في الدرجة وفي القوة معاً: بأن لم يوجد أصلاً، أو وجد عاصب أنزل منها درجة، كعم مع بنت أو أخت. فتخرج البنت مع الابن، والأخت مع الأخ، فلا كلام لها معه في عفو ولا قود، أي ليس لها حينئذ طلب القصاص، لتساويهما في الدرجة والقوة معاً، بخلاف الأخت الشقيقة مع الأخ لأب، لها الكلام معه؛ لأنه وإن ساواها في الدرجة هو أنزل منها في القوة.
3 - أن تكون عصبة فيما لو فرض كونها ذكراً، فلا كلام للأخت لأم، والزوجة، والجدة لأم (1). وللأم المطالبة باستيفاء القصاص، لأنها لو ذكِّرت، كانت أباً؛ لأنها والدة، لكن لا لاكلام لها مع وجود الأب، لمساواة العاصب لها.
وإذا تعدد الورثة، هل يثبت حق القصاص لكل وارث على سبيل الاستقلال، أو على سبيل الشركة؟ رأيان:
الرأي الأول ـ لأبي حنيفة ومالك (2): وهو أن القصاص يثبت لكل وارث على سبيل الاستقلال والكمال؛ لأنه حق مبتدأ لهم بوفاة القتيل؛ لأن المقصود من القصاص في القتلى هو التشفي، والميت لا يتشفى، فيثبت للورثة ابتداء. ثم إن حق القصاص لا يتجزأ، وما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة، يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال، كأنه ليس معه غيره، كولاية التزويج وولاية الأمان.
الرأي الثاني ـ للشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب، والصاحبين (3): وهو أن حق القصاص يثبت لكل وارث على سبيل الشركة؛ لأن الحق في القصاص أصلاً
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 258/ 4، الشرح الصغير: 360/ 4 وما بعدها.
(2) البدائع: المرجع السابق والمكان السابق، الدردير: 257/ 4، الشرح الصغير للدردير: 360/ 4.
(3) مغني المحتاج: 40/ 4، المهذب: 188/ 2، المغني: 739/ 7، كشاف القناع: 621/ 5، البدائع: 242/ 7.

(7/5680)


هو للمقتول، وبما أنه عجز بالموت عن استيفاء حقه بنفسه، فيقوم الورثة مقامه بالإرث عنه، ويكون مشتركاً بينهم، كما يشتركون في إرث المال.
ويتفرع عن هذا الاختلاف على رأيين: أنه إذا تعدد الأولياء، هل ينتظر لاستيفاء القصاص بلوغ أحد الأولياء إذا كان صغيراً، أو عودته إذا كان غائباً، أو إفاقته من جنونه إذا كان مجنوناً؟
فعلى الرأي الأول: لا ينتظر بلوغ الصغير، ولا إفاقة المجنون، ويكون الحق في الاستيفاء للكبير، والعاقل، وأما الغائب فينتظر لاحتمال عفوه.
وأما على الرأي الثاني: فينتظر بلوغ الصبي، وكمال المجنون بإفاقته، وقدوم الغائب، ولا يجوز حينئذ للكبير أو للحاضر الاستقلال باستيفاء القصاص. وفي هذه الحالة يحبس القاتل حتى يحضر الغائب، ويكمل الصبي والمجنون، ولا يخلى بكفيل.
وإذا لم يكن للمقتول وارث غير جماعة المسلمين، كان الأمر باتفاق الفقهاء إلى السلطان، عملاً بالقاعدة الشرعية: «السلطان ولي من لا ولي له» (1) فإن رأ ى السلطان القصاص اقتص، وإن رأى العفو على مال عفا؛ لأن الحق للمسلمين، فوجب على الإمام أن يفعل ما يراه من المصلحة؛ لأن «تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة» فإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز؛ لأنه تصرف لا مصلحة فيه للمسلمين، فلم يملكه (2).
_________
(1) هذا نص حديث نبوي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها، وحسنه الترمذي، ورواه أحمد وصححه الحاكم وابن حبان.
(2) المهذب: 188/ 2، البدائع: 245/ 7، المغني: 754/ 7.

(7/5681)


ثامناً ـ ولاية استيفاء القصاص: الكلام فيمن يلي استيفاء القصاص يحتاج لتفصيل بحسب ما إذا كان المستحق منفرداً أو متعدداً.
1 - إذا كان مستحق القصاص منفردا ً فإما أن يكون كبيراً أو صغيراً:
أـ فإن كان كبيراً فله استيفاء القصاص؛ لقوله تعالى: {ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً، فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/ 17].
ب ـ وإن كان صغيراً أو مجنوناً، ففي انتظار كماله عند مشايخ الحنفية رأيان (1): قال بعضهم: ينتظر بلوغه أو كماله. وقال آخرون: يستوفيه القاضي نيابة عنه.
وقال المالكية (2): لا ينتظر البلوغ أو الإفاقة، ولولي الصغير أو المجنون أو وصيهما النظر بالمصلحة في استيفاء القصاص، وفي أخذ الدية كاملة.
وقال الشافعية والحنابلة (3): ينتظر بلوغ الصغير وإفاقة المجنون؛ لأن القصاص للتشفي، فحقه التفويض إلى اختيار المستحق، فلا يحصل المقصود باستيفاء غيره من ولي أو حاكم أو بقية الورثة.

2 - إذا تعدد مستحقو القصاص: فإما أن يكون الكل كباراً أو فيهم صغير.
أـ فإن كان الجميع كباراً حاضرين، فلكل واحد منهم ولاية استيفاء القصاص، حتى لو قتله أحدهم صار القصاص مستوفى للجميع؛ لأن القصاص
_________
(1) البدائع: 243/ 7.
(2) الشرح الكبير للدردير: 258/ 4.
(3) مغني المحتاج: 40/ 4، المغني: 739/ 7.

(7/5682)


إن كان حق الميت (كما يرى الصاحبان وموافقوهما) فكل واحد من الورثة خصم في استيفاء حق الميت، كما هو الحال في استيفاء المال.
وإن كان القصاص حق الورثة ابتداءً واستقلالاً (كما يرى أبو حنيفة ومالك) فكل واحد من الورثة يملك حق القصاص على سبيل الكمال.
لكن يشترط عند الحنفية حضور جميع المستحقين عند استيفاء القصاص، لاحتمال العفو من الغائب. فإن بادر أحد المستحقين بقتل الجاني، صار القصاص عند الحنفية مستوفى للجميع؛ لأن القصاص واجب عيناً، وليس لباقي الورثة شيء من المال، وإنما يعزر المقتص لافتئاته على إمام المسلمين.
وقال الحنابلة، والأظهر عند الشافعية (1): إنه لا قصاص في هذه الحالة على من بادر فقتل الجاني، ولكن للباقين من المستحقين نصيبهم من الدية من تركة الجاني، لسقوط حقهم بغير اختيارهم، وكون ذلك من تركة الجاني لا من المبادر على الأرجح؛ لأن المبادر فيما وراء حقه كالشخص الأجنبي، ولو بادر أجنبي فقتل الجاني، أخذ الورثة الدية من تركة الجاني لا من الأجنبي.
ب ـ وأما إذا كان مستحقو القصاص كباراً وصغاراً، أو فيهم مجنون أو بعضهم غائب. فللكبار استيفاء القصاص عند أبي حنيفة ومالك (2)، ولا ينتظر بلوغ الصغير، ولا إفاقة المجنون (3)؛ لثبوت حق القصاص للورثة ابتداء على سبيل الكمال والاستقلال، ولأن القصاص حق لا يتجزأ، لثبوته بسبب لا يتجزأ، وهو
_________
(1) مغني المحتاج: 41/ 4، المغني: 741/ 7.
(2) البدائع: 243/ 7 وما بعدها، الدر المختار: 383/ 5، الشرح الكبير للدردير: 257/ 4، تكملة فتح القدير: 265/ 8.
(3) هذا عند المالكية إذاكان الجنون مطبقاً مستمراً، أما من يفيق أحياناً فتنتظر إقامته، كما ينتظر المغمى عليه.

(7/5683)


القرابة. ويؤيده اقتصاص الحسن لأبيه علي من ابن ملجم، وكان في ورثة علي كرم الله وجهه صغار.
وأما الغائب فينتظر عودته لاحتمال عفوه حال غيبته، فتقع الشبهة، ولا قصاص مع الشبهة، بعكس الصغير؛ لأن العفو من الصغير ميئوس منه حال استيفاء القصاص؛ لأنه ليس من أهل العفو. وانتظار الغائب عند المالكية هو في حال الغيبة القريبة، بحيث تصل إلىه الأخبار إن أراد الحاضر القصاص. أما في حال الغيبة البعيدة بحيث يتعذر وصول الخبر إليه كأسير ومفقود فلا ينتظر.
وللأب والجد عند الحنفية والمالكية استيفاء القصاص عن الصغير، وأضاف المالكية دون الحنفية تلك الولاية للوصي أيضاً.
وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة (1): ليس لبعض أولياء القتيل استيفاء القصاص إلا بإذن الباقين، فإن كان فيهم صغير ينتظر بلوغه، أو مجنون تنتظر إفاقته، أو غائب ينتظر قدومه؛ لأن القصاص حق مشترك بينهم، ولا يملك أحدهم إبطال حق غيره، فيؤخر إلى وقت كمال القاصر، كما يؤخذ لعودة الغائب.
وليس للولي أباً أو جداً، ولا للوصي ولا للحاكم استيفاء القصاص للصغير أو المجنون؛ لأن القصد من القصاص هو التشفي، وترك الغيظ، ولايحصل المقصود باستيفاء الأب أو غيره، بخلاف الدية، فإن الغرض يحصل باستيفائه.

تاسعاً ـ كيفية استيفاء القصاص (أداة القصاص): هناك رأيان في الفقه في كيفية القصاص.
_________
(1) تكملة فتح القدير: 265/ 8، مغني المحتاج: 40/ 4، المغني: 740/ 7 وما بعدها، كشاف القناع: 621/ 5.

(7/5684)


1 - قال الحنفية، والأصح عن الحنابلة (1): لا يكون القصاص في النفس إلا بالسيف (2)، سواء أكان ارتكاب جريمة القتل بالسيف ونحوه، أم بمحرم لذاته كسحر وتجريع خمر ولواط، أم بمثقل كحجر وعصا، أم بتغريق أم تحريق أم هدم حائط عليه، أم حبس أم خنق أم قطع عضو ثم ضرب عنقه، أم جنى عليه جناية غير ما ذكر فمات، وتوافرت شروط القصاص بحسب كل مذهب، على ما بان، فمن له قود قاد بالسيف، ولا يفعل بالمقتص منه كما فعل إذا كان القتل بغير السيف لأنه مُثْلة، وقد نهي عن المثلة، ولأن فيه زيادة تعذيب، لكن لو قام ولي الدم بإلقاء الجاني في بئر، أو قتله بحجر، أو بنوع آخر عزر، وكان مستوفياً حقه في القصاص.
واستدلوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا قَود إلا بالسيف» (3).
2 - وقال المالكية والشافعية (4): يقتل القاتل بالقِتْلة التي قتل بها، أي بمثل الفعل الذي فعله بالقتيل، من ضربه بمحدد كحديد أو سيف، أو بمثقل كحجر، أو رمي من شاهق، أو خنق أو تجويع أو تغريق أو تحريق أو غيرها. لكن إن عدل الولي عن هذه الوسائل إلى السيف، جاز بل هو أولى للخروج من الخلاف.
ويتعين السيف عند هؤلاء إذا كان القتل بسحر أو خمر، أو لواط؛ لأن هذا محرم لعينه، فوجب العدول عنه إلى القتل بالسيف.
_________
(1) البدائع: 245/ 7، الدر المختار: 382/ 5، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 98/ 6، كشاف القناع: 628/ 5، المغني: 685/ 7، 688.
(2) قال الحنفية: المراد بالسيف: السلاح.
(3) رواه ابن ماجه والبزار في مسنده، وقال: لا نعلم أحداً أسنده بأحسن من هذا الإسناد، ورواه ابن ماجه والبيهقي والدارقطني عن النعمان بن بشير من غير طريق، وقال أحمد: ليس إسناده بجيد.
(4) بداية المجتهد: 396/ 2 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 265/ 4، مغني المحتاج: 44/ 4، المهذب: 186/ 2، القوانين الفقهية لابن جزي: ص 345، الشرح الصغير: 369/ 4 وما بعدها.

(7/5685)


كما يتعين السيف أيضاً عند المالكية إذا طال تعذيب الجاني بمثل فعله، أو ثبت القصاص بالقسامة، واختلف المالكية على رأيين في القتل بالنار والسم إذا كان القاتل قتل بهما، فقيل: يقتل بالسيف، وقيل: يقتل بما قتل به، وهذا هو مشهور مذهب المالكية.
واستدلوا على مذهبهم بالقرآن والسنة والمعقول:
أما من القرآن فآيات مثل قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/ 16] وقوله سبحانه: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/ 2] {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها} [الشورى:40/ 42].
ومن السنة: قوله عليه الصلاة والسلام: «من حرَّق حرقناه، ومن غرَّق غرَّقناه» (1) وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «رضَّ رأس يهودي بين حجرين، كان قد قتل بهما جارية من الأنصار (2)».
ومن المعقول: أن القصاص معناه المماثلة في الفعل، فوجب أن يستوفى من الجاني مثل ما فعل، ثم إن المقصود من القصاص هو التشفي، ولا يكمل المطلوب إلا إذا قتل القاتل بمثل ما قتل. وأما حديث النهي عن المثلة فمحمول على من وجب قتله، لا على وجه المكافأة.

تنفيذ القصاص بواسطة ولي القتيل:
استيفاء القصاص بالسيف ونحوه قد يكون بالجلاد المتخصص إذا رغب عنه
_________
(1) أخرجه البيهقي في السنن من حديث البراء بن عازب. لكن في إسناده من يجهل حاله كبشر وغيره.
(2) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك.

(7/5686)


مستوفي القصاص، وقد يكون بنفس مستحق القصاص، فيمكَّن من السيف، ولكن بإشراف الحاكم؛ لأن المبدأ الشرعي المتفق عليه أن تنفيذ عقوبات الحدود والقصاص والتعزيرات يكون من اختصاص الإمام، فيشترط وجوده عند استيفاء العقوبة (1). وتعتبر مشاركة ولي الدم في القصاص سبيلاً لإطفاء لوعته وإزالة حقده، فتهدأ نفسه، ويوصد الباب أما م أسرته، كيلا تبادر إلى الاقتتال مع أسرة القاتل، قال الله تعالى: {ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/ 17].
وإذا سلِّم القاتل لولي الدم لأجل استيفاء القصاص منه، وجب على الحاكم أن ينهاه عن العبث بالجاني، فلا يشدد عليه بحبس أو تخشيب أو تكتيف قبل القصاص ولا يمثل به بعد القصاص (2).
وعليه، يشترط لاستيفاء ولي المقتول القصاص بنفسه شرطان:
1 - أن يكون ذلك بإذن الإمام، وإلا عزر.
2 - أن يكون القصاص في قتل النفس، لا في الأطراف والأعضاء.

استعمال وسيلة قصاص غير السيف:
بما أن القصد من استعمال السيف كونه أسرع أداة في القتل، وأيسر وسيلة لتفادي الألم والعذاب، فلا مانع شرعاً من استعمال أداة أخرى أسرع من السيف،
_________
(1) راجع البدائع: 96/ 7، الدر المختار: 389/ 5 وما بعدها، حجة الله البالغة: 132/ 2، الشرح الكبير للدردير: 354/ 4، مغني المحتاج: 277/ 2، 31/ 4، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 14، المهذب: 184/ 2، كشاف القناع: 626/ 5، المغني: 690/ 7.
(2) الشرح الكبير للدردير: 259/ 4.

(7/5687)


وأقل إيلاماً، وأبعد عن المُثْلة، مثل المِقْصلة التي هي من قبيل السلاح المحدد، والكرسي الكهربائي التي تسرع في الصعق (1)، والشنق لعدم إسالة الدم فيه، والاعتماد على إيقاف القلب به، والإعدام بغاز معين شبيه بالمخدر.

عاشراً ـ مسقطات القصاص: يسقط القصاص بأحد أربعة أسباب هي ما يأتي: موت الجاني، العفو، الصلح، إرث القصاص (2).
1 - موت الجاني (فوات محل القصاص): إذا مات من عليه القصاص، أو قتل ظلماً بغير حق، أو بحق بالردة أو القصاص، سقط القصاص؛ لأن محله هو نفس القاتل، ولا يتصور بقاء الشيء في غير محله.
وفي هذه الحالة، هل تجب الدية في مال الجاني أو لا؟
قال الحنفية والمالكية (3): إذا سقط القصاص بالموت لا تجب الدية في مال القاتل؛ لأن القصاص واجب عيناً، فإذا مات سقط الواجب. وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل. ولا تجب الدية إلا برضا القاتل واختياره.
وقال الحنابلة (4): إذا سقط القصاص بالموت، بقي الخيار للولي في أخذ الدية؛ لأن الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القود أو الدية، فإن اختار أخذ الدية
_________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 154/ 2 نقلاً عن لجنة الفتوى بالأرهر، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقا: ف/328.
(2) البدائع: 246/ 7 وما بعدها، الدر المختار: 394/ 5، الشرح الكبير: 262/ 4 ومابعدها، الشرح الصغير: 366/ 4 وما بعدها.
(3) البدائع، المكان السابق، الشرح الكبير للدردير: 239/ 4.
(4) كشاف القناع: 633/ 5.

(7/5688)


وجبت ولو لم يرض الجاني. وبالرغم من أن الراجح في المذهب الشافعي وهو أن القصاص واجب عيناً، إلا أن الشافعية قالوا: الدية بدل عن القصاص عند سقوطه بعفو أو غيره كموت الجاني، فيثبت حق المجني عليه في الدية؛ لأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل، إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر، كذوات الأمثال (1). وتلزم الدية حال العفو عن القصاص على الدية باختيار ولي المجني عليه، لا برضا الجاني. وبه يظهر أن الشافعية والحنابلة يقررون بقاء الدية في التركة بموت القاتل.

2 - العفو: الكلام فيه يتناول مشروعيته، وركنه، ومعناه وشروطه، وأحكامه.
مشروعيته: يجوز العفو عن القصاص، وهو أفضل من استيفاء القصاص (2)، بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عُفي له من أخيه شيء، فاتِّباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:178/ 2] وقال سبحانه: {والجروحَ قصاص، فمن تصدَّق به فهو كفارة له} [المائدة:45/ 5] وقال تعالى في مناسبة إسقاط الحق في شيء من المهر قبل الدخول: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237/ 2].
ومن السنة قول أنس: «ما رفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو» (3). وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يصاب بشيء في جسده، فيتصدق به إلا رفعه الله درجة، وحط به عنه خطيئة» (4)
_________
(1) مغني المحتاج: 48/ 4، نهاية المحتاج: 48/ 7، المهذب: 188/ 2.
(2) المغني: 742/ 7، كشاف القناع: 633/ 5.
(3) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي، وإسناده لابأس به.
(4) رواه ابن ماجه والترمذي، وقال عنه: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

(7/5689)


وعن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً» (1).
وجعل القصاص قابلاً للسقوط بالعفو مزية فريدة للتشريع الإسلامي، إذ به يقلص من حالات تنفيذ هذه العقوبة الخطيرة، ويتحقق الغرض منها بحفظ حق الحياة، ومنع الثأر، ورفع الأحقاد والضغائن من النفوس.

وركن العفو: أن يقول العافي: عفوت أو أسقطت أو أبرأت أو وهبت ونحوها (2).
ومعنى العفو عند الحنفية والمالكية (3): هو إسقاط القصاص مجاناً. أما التنازل عن القصاص مقابل الدية فهو صلح، لا عفو؛ لأن تنازل الولي لا ينفذ إلا إذا قبل الجاني دفع الدية، فلا تثبت الدية عندهم إلا بتراضي الفريقين أي الولي والقاتل. وليس للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير ديته، إلا أن يرضى القاتل بإعطاء الدية.
والعفو عند الشافعية والحنابلة (4): هو التنازل عن القصاص مجاناً، أو إلى الدية، وولي الدم بالخيار: إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتل أم لم يرض، عملاً بحديث أبي هريرة: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، بين أن يأخذ الدية، وبين أن يعفو».
_________
(1) رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه.
(2) البدائع: 246/ 7.
(3) تبيين الحقائق: 107/ 6 وما بعدها، 113، البدائع: 247/ 7، بداية المجتهد: 394/ 2، الشرح الصغير: 368/ 4، الشرح الكبير: 262/ 4 وما بعدها.
(4) مغني المحتاج: 49/ 4، كشاف القناع: 633/ 5.

(7/5690)


شروط العفو: يشترط شرطان في العفو (1):
1 - أن يكون العافي بالغاً عاقلاً، فلا يصح عفو الصبي والمجنون؛ لأنه تصرف ضار بهما ضرراً محضاً، فلا يملكانه، كالطلاق، والهبة.
2 - أن يصدر العفو من صاحب الحق فيه؛ لأن العفو إسقاط الحق، وإسقاط الحق لا يقبل ممن لا حق له.
وصاحب الحق في العفو: هو الورثة رجالاً ونساء عند الجمهور، والعاصب الذكر عند المالكية.
ومن لا حق له في العفو: هو الأجنبي غير الوارث عند الجمهور، وغير العاصب عند المالكية، وكذا الأب والجد في قصاص وجب للصغير عند المالكية والحنفية؛ لأن الصغير هو صاحب الحق، ولأبيه وجده ولاية الاستيفاء فقط، كما أن العفو ضرر محض، فلا يملكه أحد سوى الصغير بعد البلوغ، حتى الحاكم لا يملكه، والسبب فيه أن العفو معناه التنازل مجاناً. وأجاز الشافعية والحنابلة للأب والجد والحاكم العفو على مال.

أحكام العفو:
للعفو أحكام، منها ما يأتي:

1 ً) ـ أثر العفو في إسقاط القصاص والدية: يترتب على العفو عن القاتل عند الحنفية والمالكية (2) إسقاط القصاص مجاناً. وليس للعافي حينئذ الحق في أخذ
_________
(1) البدائع: 246/ 7، بداية المجتهد: 395/ 2، الشرح الكبير: 258/ 4 ومابعدها، مغني المحتاج: 48/ 4، كشاف القناع: 634/ 5، المغني: 743/ 7.
(2) البدائع: 247/ 7، الشرح الكبير للدردير: 239/ 4 وما بعدها.

(7/5691)


الدية إلا من طريق الصلح، أي الاتفاق مع الجاني لدفع الدية برضاه؛ لأن موجب العمد عندهم هو القود عيناً. ولكن وجوب القود لا ينافي أن للولي العفو مجاناً، أوأخذ الدية برضا الجاني.
وقال الشافعية والحنابلة (1): للولي الحق المطلق في العفو، فإن عفا عن القصاص سقط، وإن عفا على الدية، وجبت على الجاني ولو بغير رضاه، لما روى البيهقي عن مجاهد وغيره: «كان في شرع موسى عليه السلام تحتم القصاص جزماً، وفي شرع عيسى عليه السلام الدية فقط، فخفف الله تعالى عن هذه الأمة وخيرها بين الأمرين» لما في الإلزام بأحدهما من المشقة، ولأن الجاني محكوم عليه فلا يعتبر رضاه.
وإذا أطلق الولي العفو أو بعبارة أخرى، إذا صدر العفو من الولي مطلقاً عن القود، ولم يتعرض للدية بنفي ولا إثبات، فالمذهب عند الشافعية: أنه لا دية؛ لأن القتل يوجب القود عيناً على الراجح عندهم، ولم يوجب الدية، والعفو إسقاط شيء ثابت، لا إثبات أمر معدوم. وكذلك قال المالكية: لا دية لعاف مطلق في عفوه إلا أن تظهر بقرائن الأحوال إرادتها، فيحلف على مراده (2).
وتجب الدية عند الحنابلة في هذه الحالة، لانصراف العفو إلى القود؛ لأنه في مقابلة الانتقام، والانتقام إنما يكون بالقتل، ولقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/ 2] أي اتباع المال، وذلك يشعر بوجوبه بالعفو (3).
_________
(1) مغني المحتاج: 48/ 4، كشاف القناع: 633/ 5 وما بعدها، المهذب: 188/ 2، المغني: 743/ 7.
(2) الشرح الكبير للدردير: 240/ 4.
(3) وهل بالعفو عن القاتل يبرأ القاتل في الدنيا فقط أو أنه يبرأ أيضاً فيما بينه وبين الله تعالى؟ قال الحنفية: يبرأ القاتل بالعفو عن القصاص والدية، ولكن لا يبرأ عن ظلمه، ولو بالتوبة لتعلق حق المقتول به، وأثر التوبة هو في إسقاط ظلم القاتل نفسه بإقدامه على المعصية. لكن الجمهور قالوا: يبرأ القاتل بالعفو في الدنيا والآخرة (رد المحتار: 389/ 5).

(7/5692)


2 ً) ـ أثر العفو على حق الغير إذا تعدد الأولياء أو كان الولي واحداً: إذا عفا ولي الدم، وكان واحداً، ترتب عليه أثره: فإن كان العفو مطلقاً ترتب عليه عصمة دم القاتل، فلو رجع عن عفوه، وقتل القاتل، اعتبر الولي قاتلاً عمداً، لعموم تشريع القصاص وآياته التي لم تفرق بين شخص وشخص، وحال وحال، ولأن الجاني بالعفو عنه صار
معصوم الدم (1).
وإن كان العفو مقيداً بدفع الدية، وجب على الجاني دفع الدية إن تم ذلك برضاه عند الحنفية والمالكية، أو بغير رضاه عند الشافعية والحنابلة، على ما تقدم سابقاً.
وأما إذا تعدد الأولياء، فعفا أحدهم، سقط القصاص عن القاتل؛ لأن القصاص لا يتجزأ، وهو شيء واحد، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، ويبقى للآخرين حصتهم من الدية. بدليل ما روي عن جماعة من الصحابة، وهم عمر وابن مسعود وابن عباس: أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء الذين لم يعفوا نصيبهم من الدية. ويأخذ العافي نصيبه من الدية إذا عفا على الدية، ولا يأخذ شيئاً إذا عفا مجاناً.
لكن سقوط القصاص عند المالكية بعفو أحد المستحقين مقيد بما إذا كان العافي مساوياً لدرجة الباقين أو أعلى درجة، أوا ستحقاقاً. فإن كان أنزل درجة أو لم يساو الباقي في الاستحقاق كإخوة لأم مع إخوة لأب، لم يعتبر عفوه (2).
_________
(1) البدائع: 247/ 7، الدر المختار: 394/ 5، الشرح الكبير للدردير: 240/ 4، الشرح الصغير: 366/ 4 وما بعدها، المهذب: 188/ 2، كشاف القناع: 634/ 5، المغني: 745/ 7.
(2) البدائع، المكان السابق، الشرح الكبير للدردير: 261/ 4 وما بعدها، الشرح الصغير: 364/ 4، المهذب: 189/ 2، المغني: 744/ 7، كشاف القناع، المكان السابق.

(7/5693)


وإذا عفا أحد الأولياء، فقتله الآخر، فلا قصاص عند الحنفية (1)، للشبهة، إذا كان القاتل غير عالم بالعفو، أو عالماً بالعفو، غيرعالم بحرمة القتل. وقال الشافعية والحنابلة وزفر (2): عليه القصاص إذا كان عالماً بالعفو؛ لأنه قتل نفساً بغير حق؛ لأن عصمته عادت إليه بالعفو.

3) ـ هل يبقى حق للسلطان بعد عفو ولي الدم؟:
إذا عفا ولي القتيل مطلقاً عن القاتل عمداً، صح العفو، وبقي عند الحنفية والمالكية حق السلطان في عقوبته تعزيراً؛ لأن القصاص فيه حقان: حق الله (أو حق المجتمع أو الحق العام)، وحق المجني عليه. وحدد المالكية نوع التعزير فقالوا: إذا عفا ولي الدم (3) عن القاتل عمداً، يبقى للسلطان حق فيه، فيجلده مئة، ويسجنه سنة (4).
وقال الشافعية والحنابلة: إذا عفي عن القاتل مطلقاً، صح العفو، ولم تلزمه عقوبة أخرى (5). وقال الماوردي (6): الأظهر أن لولي الأمر أن يعزر مع العفو عن الحدود؛ لأن التقويم من حقوق المصلحة العامة. وقال أبو يعلى الحنبلي (7) في حق
_________
(1) البدائع: 248/ 7.
(2) البدائع، المكان السابق، مغني المحتاج: 41/ 4، المهذب: 184/ 2، شرح المحلي على المنهاج: 122/ 4، المغني: 744/ 7، كشاف القناع: 632/ 5.
(3) أولياء الدم كما عرفنا: هم الورثة على ترتيب الإرث والحجب حتى الزوجان، في رأي الحنفية والشافعية والحنابلة. وقال المالكية: أولياء الدم: هم الذكور العصبة دون البنات والأخوات والزوجين (انظر القوانين الفقهية: ص 346).
(4) التلويح على التوضيح: 155/ 2، بداية المجتهد: 396/ 2.
(5) المغني: 745/ 7.
(6) الأحكام السلطانية له: ص 229.
(7) الأحكام السلطانية له: ص 266.

(7/5694)


السلطنة المشروع للتقويم والتهذيب: ظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى: أنه يسقط؛ لأنه لم يفرق، ويحتمل ألا يسقط للتهذيب والتقويم (1).

4) ـ عفو المقتول عمداً عن دمه قبل موته: إذا عفا المقتول عن القاتل قبل موته، فقال الحنفية والشافعية والحنابلة (2): يسقط القصاص عن القاتل، ولا تجب الدية لورثة المقتول من بعده، أي لا قصاص فيه ولا دية، وإنما هو هدر، للإذن فيه؛ لأن المقتول أسقط حقه باختياره، وقال تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} [المائدة:45/ 5] أي المقتول يتصدق بدمه، في حال إصابته قبل موته.
وقال المالكية (3): لو قال المقتول لقاتله: إن قتلتني أبرأتك، أو قال له بعد جرحه قبل إنفاذ مقتله: أبرأتك من دمي، فلا يبرأ القاتل، بل للولي القود؛ لأنه أسقط حقاً قبل وجوبه. أما لو أبرأه بعد إنفاذ مقتله، أو قال له: إن مت فقد أبرأتك، فإنه يبرأ؛ لأنه أسقط شيئاً بعد وجوبه. ويشترط أن يكون هذا القول بالإبراء بعد إنفاذ مقتله.
أما عفو المقتول خطأ عن الدية، فينفذ في المذاهب من ثلث ماله (4).

3 - الصلح:
يجوز الصلح على القصاص باتفاق الفقهاء، ويسقط به القصاص، سواء أكان الصلح بأكثر من الدية أم بمثلها أم بأقل منها (5)، وسواء أكان حالاً أم مؤجلاً،
_________
(1) انظر كتابنا نظرية الضمان: ص 309 - 311، المسؤولية المدنية والجنائية للشيخ محمود شلتوت: ص51 وما بعدها.
(2) البدائع: 249/ 7، مغني المحتاج: 50/ 4، المغني: 750/ 7.
(3) الشرح الكبير للدردير: 240/ 4، فتح العلي المالك: 322/ 1.
(4) البدائع: 249/ 7.
(5) يجوز لأبي المعتوه الصلح على الدية بالأكثر والمساوي، ولا يجوز بالأقل منها (الدر المختار: 382/ 5).

(7/5695)


ومن جنس الدية، ومن خلاف جنسها بشرط قبول الجاني؛ لأن القصاص ليس مالاً (1). أما الصلح على الدية فلا يجوز بأكثر من الدية، حتى لا يقع المتصالحان في الربا.
والصلح يختص بالإسقاط بمقابل. أما العفو فقد يقع مجاناً أو في مقابل مال، لكن إن وقع العفو عن القصاص على الدية، اعتبر عند الحنفية والمالكية صلحاً لا عفواً، ويسمى أيضاً عند الشافعية والحنابلة عفواً بمقابل.
وقد رغب الشرع في الصلح عموماً في قوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/ 4] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (2). ودلت السنة على مشروعية الصلح في الدماء لإسقاط القصاص، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «من قَتَل عمداً، دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية: ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خَلِفة (3)، وما صولحوا عليه فهو لهم» (4) وذلك لتشديد حرمة القتل.
وحكم الصلح: هو حكم العفو، فمن يملك العفو يملك الصلح، وأثر الصلح كأثر العفو في إسقاط القصاص، وإذا تعدد الأولياء، وصالح أحدهم الجاني على مال، سقط القصاص، وبقي حق الآخرين في المال. وإذا بادر أحد الأولياء بقتل الجاني بعد الصلح، فهو قاتل له عمداً، لكنه لا قصاص عليه عند الحنفية ما عدا زفر. وعليه القصاص عند الشافعية والحنابلة.
_________
(1) الدر المختار: 394/ 5، الشرح الكبير للدردير: 263/ 4، الشرح الصغير للدردير: 368/ 4، مغني المحتاج: 49/ 4، كشاف القناع: 634/ 5.
(2) رواه أبو داود والحاكم وابن حبان وصححه عن أبي هريرة، ورواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن عمرو بن عوف.
(3) الحقة: هي الناقة التي طعنت في السنة الرابعة، والجذعة: هي التي طعنت في الخامسة، والخلفة: هي الحامل.
(4) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.

(7/5696)


واتفق الفقهاء على أن الصلح الصادر من ولي الصغير أو المجنون أو من الحاكم لا يجوز على غير مال، ولا على أقل من الدية؛ لأنه لا يملك إسقاط حقه، ولأنه تصرف لا مصلحة فيه للصغير. فإن وقع الصلح على أقل من الدية صح عند المالكية والحنفية، ووجب باقي الدية في ذمة الجاني، ويرجع الصغير عند المالكية بعد رشده على القاتل في حال ملاءته (1)،أي يسره وغناه.

4 - إرث القصاص:
يسقط القصاص إذا كان ولي الدم هو وارث الحق في القصاص، كما إذا وجب القصاص لإنسان، فمات من له القصاص، فورث القاتل القصاص كله، أو بعضه، أو ورثه من ليس له القصاص من القاتل وهو الابن (2).
فتكون لدينا صورتان لإرث القصاص:
1 - مثال كون القاتل وارث القصاص: أن يقتل ولد أباه، وللولد أخ، ثم يموت الأخ صاحب الحق في القصاص، ولا وارث له إلا أخوه القاتل، فيصبح القاتل وارث دم نفسه من أخيه، فيسقط القصاص؛ لأن القصاص لا يتجزأ أو لا يتبعض، ولا يصح استيفاء القصاص من شخص طالب ومطلوب في آن واحد.
كذلك يسقط القصاص إذا ورث القاتل بعض الحق في القصاص، بأن ورث القاتل أحد ورثة القتيل، ويكون لهؤلاء الورثة نصيبهم من الدية.
_________
(1) الدر المختار: 382/ 5، الشرح الكبير للدردير: 258/ 4 وما بعدها، المهذب: 188/ 2، كشاف القناع: 634/ 5، المغني: 753/ 7.
(2) البدائع: 251/ 7، الشرح الكبير للدردير: 262/ 4، الشرح الصغير: 368/ 4، مغني المحتاج: 18/ 4 وما بعدها، المغني: 668/ 7 وما بعدها، المهذب: 174/ 2.

(7/5697)


2 - ومثال كون وارث القصاص من ليس له القصاص من القاتل: أن يقتل أحد الوالدين الوالد الآخر، وكان لهما ولد (ذكر أو أنثى) فيسقط القصاص؛ لأن الولد هو صاحب الحق فيه، ولا يجب للولد قصاص على والده، بدليل أنه لو جنى الوالد على ولده، وقتله، لا يقتص منه؛ للحديث النبوي: «لا يقاد الوالد بالولد» فمن باب أولى لا يقتص للولد من الوالد إذا جنى الوالد على غير ولده.
كذلك يسقط القصاص إذا كان للمقتول ولد آخر، أو وارث آخر؛ لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه، ولا يمكن وجوبه، وإذا لم يثبت بعضه سقط كله، لأنه لا يتبعض، وصار الأمر كما لو عفا بعض مستحقي القصاص عن نصيبه منه.

العقوبة الأصلية الثانية للقتل العمد عند الشافعية ـ الكفارة:
ورد تشريع الكفارة (1) في القتل الخطأ (2) في القرآن الكريم في آية: {ومن قَتَل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله إلا أن يصدَّقوا ... } [النساء:92/ 4] إلى قوله تعالى: {فمن لم يجدْ فصيام شهرين متتابعين، توبةً من الله، وكان الله عليماً حكيماً} [النساء:92/ 4] أي أن الواجب تحرير رقبة مؤمنة إن وجدت، فإن لم توجد فصيام شهرين متتابعين.
فهل يقاس القتل العمد على القتل الخطأ في إيجاب الكفارة أو لا؟ هناك رأيان للفقهاء أو ثلاثة:
_________
(1) الكفارة مأخوذة من الكَفر، وهو الستر؛ لأنها تغطي الذنب وتستره.
(2) ورد النص في الخطأ دون العمد، مع أن مقتضى الظاهر العكس، لخطر الدماء، ولأن مع المخطئ تفريطاً، إذ لو تحرز واحتاط لترك الفعل المسبب للقتل، ولأن العامد لا تكفيه الكفارة.

(7/5698)


1 - قال جمهور الفقهاء (1) (غير الشافعية): لا تجب الكفارة في القتل العمد؛ لأنه لا قياس في الكفارات؛ لأنها مقدرات شرعية للتعبد، فيقتصر فيها على محل ورودها، وقد اقتصر النص القرآني على الكفارة في القتل الخطأ جبراً للذنب غير المقصود. أما القتل العمد فجزاؤه جهنم؛ لأنه كبيرة، ولم يوجب القرآن كفارة فيه، فدل النص بمفهومه على أنه لا كفارة فيه، ولو كانت واجبة لبينها القرآن؛ لأن المقام يقتضي البيان.
والقتل العمد يوجب القصاص، فلا يوجب كفارة كزنا المحصن.
ويرشد إليه: «أن سويد بن الصامت قتل رجلاً، فأوجب النبي صلّى الله عليه وسلم عليه القود، ولم يوجب كفارة»، وعمرو بن أمية الضَّمري قتل رجلين في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم «فو داهما النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم يوجب كفارة» (2).
2 - وقال الشافعية (3): تجب الكفارة في القتل العمد على كل قاتل بالغ وصبي ومجنون وعبد وذمي وعامد ومخطئ، ومتسبب، وفي شبه العمد، أي أن الكفارة تجب سواء أكان القاتل كبيراً عاقلاً أم صغيراً أم مجنوناً، مسلماً أم ذمياً، فاعلاً أصلياً أم شريكاً، مباشرة أم تسبباً، وكان المقتول مسلماً ولو بدار حرب، أوذمياً أو أجنبياً حتى ولو بقتل نفسه. ولا تجب الكفارة بقتل مباح الدم كالحربي والباغي والصائل والمقتص منه، والمرتد والزاني المحصن.
هذا .. وقد حدد الشوكاني محل وجوب الكفارة في القتل العمد فيما إذا
_________
(1) البدائع: 251/ 7، بداية المجتهد: 410/ 2، القوانين الفقهية: ص 348، المغني: 96/ 8، كشاف القناع: 65/ 6.
(2) المغني: 96/ 8.
(3) مغني المحتاج: 107/ 4، المهذب: 217/ 2.

(7/5699)


عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية، وأما إذا اقتص منه، فلا كفارة عليه، بل القتل كفارته، لحديث عبادة بن الصامت في أن الحدود كفارات لأهلها، ولما أخرجه أبو نعيم في المعرفة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «القتل كفارة» (1).
والدليل على وجوب الكفارة في العمد: أن المقصود من تشريع الكفارة هو رفع الذنب، ومحو الإثم، والذنب في القتل العمد أعظم من القتل الخطأ، فكانت الكفارة في العمد أحرى وأولى، والعامد أحوج إليها لرفع الذنب وتكفير الخطيئة.
ويدل له خبر واثلة بن الأسقع، قال: «أتينا النبي صلّى الله عليه وسلم في صاحب لنا، قد استوجب النار بالقتل، فقال: أعتقوا عنه رقبة، يعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار» (2).
وكفارة القتل مثل كفارة الظهارفي الترتيب: عتق رقبة أولاً، فإن لم يجد (3) فصيام شهرين متتابعين (4)، كما نصت الآية، لكن لا إطعام فيها في الأظهر عند العجز عن الصوم، اقتصاراً على الوارد فيها، إذ المتبع في الكفارات النص، لا القياس، ولم يذكر الله تعالى في كفارة القتل غير العتق والصيام. وعلى هذا فمن لم يستطع الصوم ثبت ديناً في ذمته، ولا يجب شيء آخر. والواجب في عصرنا هو الصوم فقط.
3 - وقال المالكية (5): تستحب الكفارة في قتل الجنين م وجوب دية الجنين،
_________
(1) نيل الأوطار: 57/ 7.
(2) رواه أبو داود وأحمد وصححه الحاكم وغيره، كما رواه أيضاً النسائي وابن حبان والحاكم.
(3) قال ابن قدامة الحنبلي: فإن لم يجد الرقبة في ملكه فاضلة عن حاجته أو لم يجد ثمنها فاضلاً عن كفايته، فصيام شهرين متتابعين، توبة من الله. وهذا ثابت بالنص أيضاً (المغني: 97/ 8).
(4) تحتسب المدة بالأهلّة إذا صام من أول الشهر وإلا فيحسب كل شهر ثلاثين يوماً.
(5) القوانين الفقهية: ص 348، بداية المجتهد: 408/ 2.

(7/5700)


ولا تجب، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن الكفارة لما كانت لا تجب عندهم في العمد، وتجب في الخطأ، وكان الاعتداء على الجنين متردداً بين العمد والخطأ، استحسن الإمام الكفارة في الجنين، ولم يوجبها.
ولا تجب الكفارة على قاتل الباغي والصائل والحربي والمرتد والزاني المحصن والذي يقتص منه؛ لأن هؤلاء مباحو الدم بالنسبة للقاتل.

النوع الثاني ـ العقوبة البدلية في القتل العمد:
إذا سقط القصاص بعفو ولي القتيل أو بموت الجاني أو بغيرهما، طبقت عقوبتان أخريان وهما:
1 - الدية التي هي بدل حتمي عن القصاص عند الحنابلة، أو إذا عفي إليها عند الشافعية، وبرضا الجاني عند الحنفية والمالكية.
2 - التعزير الذي هو بدل حتمي أيضاً عند المالكية، وباختيار الحاكم عند الجمهور.
ويلاحظ أن صيام شهرين متتابعين عند الشافعية هو أحد خصال الكفارة على الترتيب الواجب بعد عتق الرقبة. ولا يقال: إن الصوم بدل مطلق عن الكفارة، وإنما هو بدل عن الخصلة الأولى فيها، لذا فإنه لا يعدُّ عقوبة بدلية في القتل العمد، وإنما هو عقوبة أصلية كما تقدم. وأبحث هنا فقط حكم الدية والتعزير.

العقوبة البدلية الأولى ـ الدية:
الكلام فيها يتناول تعريف الدية، ومشروعيتها، وشروط إيجابها، ونوعها ومقدارها، تغليظها وتخفيفها وقت أدائها، الملزم بها (أو من تجب عليه)، متى تجب كاملة، وهل يتساوى كل الناس في مقدارها؟

(7/5701)


أولاً ـ تعريف الدية: هي في الشرع (1): المال الواجب بالجناية على النفس أو ما في حكمها. والأرش: المال الواجب المقدر شرعاً بالاعتداء على ما دون النفس (2)، أي مما ليس فيه دية كاملة من الأعضاء. وبناء عليه تطلق الدية على بدل النفس أو ما في حكمها، والأرش على دية العضو.
وحكومة العدل: هو الأرش غير المقدر في الشرع، بالاعتداء على ما دون النفس من جرح أو تعطيل وغيرهما. ويترك أمر تقديره للحاكم بمعرفة أهل الخبرة العدول.
ثانياً ـ مشروعية الدية: ثبتت مشروعية الدية في القرآن والسنة والإجماع أما القرآن: فقوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله، إلا أن يصَّدَّقوا} [النساء:92/ 4] وهذه الآية وإن كانت في القتل الخطأ، إلا أن العلماء أجمعوا على وجوب الدية في القتل العمد، في حالات سقوط القصاص المار ذكرها.
وأما السنة فأحاديث كثيرة أشهرها حديث عمرو بن حزم في الديات. وهو: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات، وكان في كتابه «أن من اعتبط (3) مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء
_________
(1) اللباب شرح الكتاب: 152/ 3، الدرالمختار: 406/ 5، مغني المحتاج: 53/ 4، تكملة فتح القدير: 301/ 8.
(2) أطلق الحنفية الدية على بدل النفس، والأرش على الواجب فيما دون النفس، والأدق هو إطلاق الدية على المال الواجب بجناية على الحر في نفس أو فيما دونها كما فعل الشافعية (مغني المحتاج: 53/ 4)؛ لأن الدية كاملة تجب في أحيان كثيرة بالاعتداء على ما دون النفس كتعطيل منفعة عضو أو قطع عضوين أو أربعة أو عشرة، كما سأبين في حالات وجوب الدية كاملة.
(3) من اعتبط: هو القتل بغير سبب موجب. وأصله من اعتبط الناقة: إذا ذبحها من غير مرض ولا داء. فمن قتل مؤمناً كذلك، وقامت عليه البينة بالقتل وجب عليه القود إلا أن يرضى أولياء المقتول بالدية أو يقع منهم العفو.

(7/5702)


المقتول، وإن في النفس: الدية مئة من الإبل ... » (1). وأول من سنَّها مئة عبد المطلب جد الرسول صلّى الله عليه وسلم.
وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة.

ثالثاً ـ شروط وجوب الدية: يشترط لوجوب الدية عند الحنفية (2) شرطان:
1 - العصمة: وهو أن يكون المقتول معصوماً، أي مصون الدم، فلا دية بقتل الحربي والباغي لفقد العصمة. ورأي الجمهور متفق مع الحنفية في هذا الشرط، إلا أن الباغي معصوم الدم في غير حال الحرب عند الشافعية ومن وافقهم وهم الجمهور غيرا لحنفية.
2 - التقوم: وهو أن يكون المقتول متقوماً، فلا تجب الدية عند الحنفية بقتل الحربي إذا أسلم في دار الحرب، ولم يهاجر إلينا، وكان قاتله مسلماً أو ذمياً خطأ. وقال الجمهور: تجب الدية؛ لأن التقوم عندهم بالإسلام، وهذا مسلم قتل خطأ، والله تعالى يقول: {ومن قتَل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله} [النساء:92/ 4].
والتقوم عند الحنفية بدار الإسلام، وهذا ليس من أهل دار الإسلام، والله تعالى يقول: {فإن كان من قوم عدو لكم، وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء:92/ 4] فقد أوجب الله جزاء قتله: الكفارة فقط وهي عتق الرقبة، فلا يكون داخلاً تحت صدر الآية، وهي التي احتج بها الجمهور؛ لأنه مؤمن ديناً، لا
_________
(1) رواه النسائي ومالك، وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولاً، قال ابن عبد البر: وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرته عن الإسناد؛ لأنه أشبه المتواتر، في مجيئه في أحاديث كثيرة.
(2) البدائع: 252/ 7 وما بعدها.

(7/5703)


داراً، وهو في دار الحرب مكثر سواد الكفار، ومن كثَّر سواد قوم فهو منهم، على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم (1).
وأما الاتصاف بصفة «الإسلام» فليس من شرائط وجوب الدية، لا بالنسبة لقاتل، ولا بالنسبة للمقتول، فتجب الدية سواء أكان القاتل أو المقتول مسلماً أم ذمياً أم حربياً مستأمناً.
وكذلك العقل والبلوغ ليس شرطاً لإيجاب الدية، فتجب الدية في مال الصبي والمجنون، لعموم قوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ، فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا} [النساء:92/ 4]. كما تجب الدية بقتل الذمي والمستأمن، لقوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فدية مسلَّمة إلى أهله} [النساء:92/ 4].

هل تضمن الدية بسبب ممارسة حق التأديب؟ إذا ضرب السلطان أو الوالي متهماً، أو ضرب الأب ابنه للتأديب المشروع، أو ضرب الولي أو الوصي الصبي اليتيم، أو ضرب الزوج زوجته بسبب نشوزها، أو لتركها الصلاة مثلاً، أو أدَّب المعلم صبياً بغير إذن أبيه، فمات المؤدَّب بسبب هذا التأديب المشروع المعهود في العرف بين الناس، فهل يضمن هؤلاء فعلهم؟ للفقهاء فيه آراء:
1 - قال أبو حنيفة والشافعي (2): إنه يجب ضمان الدية في هذه الحالات؛
_________
(1) هذا حديث رواه أبو يعلى في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود بلفظ: «من كثَّر سواد قوم، فهو منهم، ومن رضي عمل قوم، كان شريك من عمل به» (نصب الراية: 346/ 4).
(2) المبسوط: 13/ 16، الدر المختار: 401/ 5، درر الحكام: 77/ 2، جامع أحكام الصغار بهامش الفصولين: 8/ 2 - 10، مجمع الضمانات: ص 54، 157، 166، البدائع: 305/ 7، المهذب: 289/ 2، مغني المحتاج: 199/ 4، الأحكام السلطانية للماوردي: ص230.

(7/5704)


لأن المقصود هو التأديب والزجر، لا الهلاك، فإذا أفضى التأديب إلى التلف، تبين أنه تجاوز الحد المشروع له، أو تخطى حدود السلطة المخولة إياه، ولأن هذا الفعل وهو التأديب أمر مباح، فيتقيد بشرط السلامة للغير كالمرور في الطريق العام ونحوه، فإن استيفاء الإنسان حقه مقيد بشرط السلامة للآخرين.
2 - وقال المالكية والحنابلة والصاحبان من الحنفية (1): لا ضمان في هذه الحالات، ما لم يكن هناك إسراف أو زيادة على ما يحقق المقصود، أو يتجاوز المعتاد؛ لأن التأديب فعل مشروع للزجر والردع، فلا يضمن التالف به، كما هو الشأن عند تطبيق الحدود الشرعية أو التعزيرات (2)، والقاعدة الفقهية تقول: «الجواز الشرعي ينافي الضمان».

رابعاً ـ نوع الدية ومقدارها: اختلف الفقهاء على آراء ثلاثة في تحديد نوع الدية، وهي ما يأتي:
1 - رأي أبي حنيفة ومالك، والشافعي في مذهبه القديم (3): إن الدية تجب في واحد من ثلاثة أنواع: الإبل، والذهب، والفضة. ويجزئ دفعها من أي نوع. ودليلهم ما ثبت في كتاب عمرو بن حزم في الديات: «وإن في النفس الدية، مئة
_________
(1) المغني: 327/ 8، غاية المنتهى: 285/ 3، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 266، الميزان للشعراني: 172/ 3، نيل الأوطار: 140/ 7 - 145، البدائع، المكان السابق.
(2) قارن ذلك بالفقه على المذاهب الأربعة: 292/ 5.
(3) البدائع: 253/ 7، تكملة فح القدير: 302/ 8 وما بعدها، الدر المختار: 406/ 5 ومابعدها، اللباب: 153/ 3، الشرح الكبير للدردير: 266/ 4 ومابعدها، بداية المجتهد: 401/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 347، مغني المحتاج: 53/ 4 - 56.

(7/5705)


من الإبل» (1) وأن عمر فرض على أهل الذهب في الدية ألف دينار ومن الورِق عشرة آلاف درهم (2). ورأي أبي حنيفة هو الصحيح في مذهبه.
2 - رأي الصاحبين وأحمد (3): إن الدية تجب من ستة أجناس، وهي الإبل أصل الدية، والذهب، والفضة، والبقر، والغنم، والحُلل. والخمسة الأولى هي أصول الدية عند الحنابلة، وأما الحلل فليست أصلاً عندهم؛ لأنها تختلف ولا تنضبط. وروي عن أحمد: أنها أصل، وقدرها مئتا حلة من حلل اليمن، كل حلة بُرْدان: إزار ورداء جديدان.
وأي شيء أحضره الملزم بالدية، لزم ولي القتيل قبوله، سواء أكان الجاني من أهل ذلك النوع، أم لا؛ لأنها أصول في قضاء الواجب، يجزئ واحد منها، فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه كخصال الكفارة.
ودليل هذا الرأي: أن عمر قام خطيباً فقال: «ألا إن الإبل قد غلت، قال الراوي، فقوَّم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة» (4). وأخرج أبو داود مثله عن جابر بن عبد الله أنه قال: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مئة من الإبل ... الخ» (5).
_________
(1) سبق تخريجه: وفيه أيضاً: «وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم».
(2) رواه البيهقي من طريق الشافعي، قال: قال محمد بن الحسن: بلغنا عن عمر ... الخ (نصب الراية: 361/ 4).
(3) البدائع، ومراجع الحنفية، المكان السابق، المغني: 759/ 7 - 761، كشاف القناع: 16/ 6 وما بعدها.
(4) رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرجه البيقهي وابن أبي شيبة في مصنفه عن عبيدة السلماني، لكن جاء في هذه الرواية «وعلى أهل الحلل مئة حلة» (نصب الراية: 362/ 4).
(5) راجع نصب الراية: 363/ 4.

(7/5706)


3 - رأي الشافعي في مذهبه الجديد (1): إن الواجب الأصلي في الدية هو مائة من الإبل إن وجدت، وعلى القاتل تسليمها للولي سليمة من العيوب، فإن عدمت حساً بأن لم توجد في موضع يجب تحصيله منه، أو عدمت شرعاً بأن وجدت فيه بأكثر من ثمن مثلها، فالواجب قيمة الإبل، بنقد البلد الغالب (2)، وقت وجوب تسليمها بالغة ما بلغت؛ لأنها بدل متلف، فيرجع إلى قيمتها عند فقد الأصل. ودليله الحديث السابق وهو ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم ثمان مئة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، كان ذلك كذلك، حتى استخلف عمر رضي الله عنه، فقام عمر خطيباً، فقال: «ألا إن الإبل قد غلت، فقال: فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة» (3) ويؤكده من المعقول أن ما ضمن بنوع من المال وتعذر، وجبت قيمته، كذوات الأمثال (4).
وأما مقدار الدية فيتضح من الأحاديث السابقة، ولم يختلف الفقهاء في المقادير إلا في دراهم الفضة (أي الوَرِق).
وسبب الاختلاف فيها: هو سعر صرف الدينار، فعند الحنفية: الدينار يساوي عشرة دراهم بدليل حديث عَبيدة السلماني المتقدم. وعند الجمهور (5):
_________
(1) مغني المحتاج: 56/ 4، المهذب: 195/ 2 وما بعدها.
(2) المراد بالبلد: هو المحل الذي يجب التحصيل منه لو كانت موجودة فيه.
(3) وروي ما يقاربه في المعنى عن الزهري.
(4) المثليات: هي المكيلات (حنطة أو شعير) والموزونات (قطن أو حديد) والعدديات المتقاربة (جوز أو بيض) والذرعيات (كالقماش).
(5) راجع بداية المجتهد: 403/ 2، الشرح الكبير للدردير: 267/ 4، المغني: 760/ 7، مغني المحتاج: 56/ 4.

(7/5707)


الدينار يساوي اثني عشر درهماً، بدليل حديث عمر السابق، وأن رجلاً من بني عدي قتل، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً (1). وعلى هذا:
الواجب من الإبل مئة، ومن الذهب ألف دينار (2)، ومن الفضة عشرة آلاف درهم عند الحنفية، واثنا عشر ألف درهم عند الجمهور، ومن البقر مئتا بقرة، ومن الغنم ألفان، ومن الحلل، أي الثياب مئتا حلة: إزار ورداء.

خامساً ـ تغليظ الدية وتخفيفها: الدية إما مغلظة أو مخففة، وتجب الدية عند الحنفية في شبه العمد وفي الخطأ وفي شبه الخطأ وفي القتل بسبب، وفي العمد أيضاً إذا اشتمل القتل على شبهة: وهي الحالة التي يقتل فيها الأب ابنه. وقد تجب الدية في العمد برضا القاتل وولي الدم، أي عند التراضي عليها فيما إذا حصل عفو من ولي القتيل أو من بعض الأولياء، فيكون للباقي نصيبه من دية العمد.
ولا تتغلظ الدية إلا في حالة الوفاء بها بالإبل خاصة؛ لأن الشرع ورد بها، والمقدرات الشرعية لا تعرف إلا سماعاً ونقلاً من طريق الشرع، إذ لا مدخل للرأي فيها؛ فلا تتغلظ الدية في الدنانير والدراهم، بأن يُزاد على ألف دينار، أو على عشرة آلاف درهم (عند الحنفية).
وتتغلظ الدية في القتل العمد وفي شبه العمد عند الجمهور (3). وقال
_________
(1) رواه أصحاب السنن الأربعة، عن ابن عباس.
(2) الدينار: هو المثقال من الذهب، ويساوي 80،4 غم وهو المثقال العجمي.
(3) البدائع: 256/ 7 وما بعدها، تبيين الحقائق: 126/ 6 وما بعدها، الدر المختار: 406/ 5 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 251/ 8، 302، 304، مغني المحتاج: 53/ 4 - 55، المهذب: 195/ 2 وما بعدها، المغني: 764/ 7 - 766، كشاف القناع: 17/ 6 ومابعدها.

(7/5708)


المالكية (1): تتغلظ الدية في القتل العمد إذا قبلها ولي الدم، وفي حالة قتل الوالد ولده.
وإذا غلظت الدية تجب مثلثة عند المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن (أي ثلاثون حقه وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفة أي حاملاً، لخبرالترمذي بذلك). وهذا عند المالكية في حال قتل الأصل ولده، أما في القتل العمد إذا عفا ولي الدم، فتجب الدية عندهم مربعة، بحذف ابن اللبون من الأنواع الخمسة الواجبة في القتل الخطأ.
وتجب حينئذ مربعة، أي أرباعاً عند الحنفية ما عدا محمداً، والحنابلة (2): (خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة) (3).
وأما الدية المخففة في القتل الخطأ ونحوه، فتجب مخمسة، أي أخماساً باتفاق المذاهب (وهي عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة) وهذا رأي الحنفية والحنابلة، بدليل ما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض» (4) ولأن ابن اللبون يجب على طريق البدل عن ابنة المخاض في الزكاة إذا
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 266/ 4 وما بعدها، 282، بداية المجتهد: 401/ 2 وما بعدها، الشرح الصغير: 373/ 4.
(2) المراجع السابقة.
(3) بنت المخاض: هي التي طعنت في السنة الثانية، وبنت اللبون في الثالثة، والحقة في الرابعة، والجذعة في الخامسة.
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والبزار والبيهقي إلا أن الدارقطني قال: «عشرون بني لبون» مكان قوله «عشرون ابن مخاض».

(7/5709)


لم يجدها، فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب واحد (1).
وجعل المالكية والشافعية (2) مكان (بني المخاض): (بني اللبون) بدليل ما روى الدارقطني وسعيد بن منصور، في سننهما عن النَّخعي عن ابن مسعود، وقال الخطابي: روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم ودى الذي قتل بخيبر بمئة من إبل الصدقة، وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض.
وتغلظ عند الشافعية والحنابلة (3) دية القتل الخطأ في النفس والجراح في حالات ثلاث:
1 - إذا حدث القتل في حرم مكة، تحقيقاً للأمن.
2 - أو حدث في الأشهر الحرم: وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.
3 - أو قتل القاتل قريباً له ذا رحم محرم، كالأم والأخت.
وعلى هذا الرأي تغلظ الدية بأحد أسباب خمسة: كون القتل عمداً، أو شبه عمد، أو في الحرم، أو الأشهر الحرم، أو لذي رحم محرم.
والدليل على تربيع (4) الدية المغلظة عند الحنفية ما عدا محمداً، وعند الحنابلة: هو ما رواه الزهري عن السائب بن يزيد، قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرباعاً: «خمساً وعشرين جذعة، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين بنت مخاض» وقضى بذلك ابن مسعود،
_________
(1) البدائع: 254/ 7، المغني: 769/ 7، 771.
(2) بداية المجتهد: 402/ 2، مغني المحتاج: 54/ 4.
(3) مغني المحتاج: 54/ 4، المغني: 772/ 7، المهذب: 196/ 2.
(4) أي كونها تؤخذ أرباعاً.

(7/5710)


ولأن الدية حق يتعلق بجنس الحيوان، فلا يعتبر فيه الحمل في بعضها، كالزكاة والأضحية (1).
وأما دليل المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن في تثليث (2) الدية المغلظة، فهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من قَتَل متعمداً، دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خَلِفة، وما صولحوا عليه فهو لهم» (3) وذلك لتشديد القتل.
وحديث آخر عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا إن في قتيل عمد الخطأ، قتيل السوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» (4).
والخلاصة: أن دية العمد تغلظ عند الجمهور بتخصيصها بالجاني، وتعجيلها عليه، أي كونها حالَّة عند غير الحنفية، وتربيعها في رأي الحنفية والحنابلة، وتثليثها في رأي عند المالكية والشافعية.
ودية شبه العمد: تخفف من ناحيتين (وهما فرض الدية على العاقلة، والتأجيل بثلاث سنين) وتغلظ من ناحية واحدة: وهي التربيع في رأي، والتثليث في رأي آخر.
ودية الخطأ: تخفف من نواح ثلاث: إلزام العاقلة بها، والتأجيل ثلاث سنين، وتخميسها.
_________
(1) المغني: 766/ 7، البدائع: 254/ 7.
(2) أي كونها أثلاثاً.
(3) رواه الترمذي وقال: هو حديث حسن غريب.
(4) رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني (راجع نيل الأوطار: 21/ 7). هذا ... وإن كان البحث هنا في دية العمد، لكني استطردت فيه لبيان أحوال الديات الأخرى تجميعاً لشتات البحث.

(7/5711)


سادساً ـ وقت أداء الدية: تجب دية العمد وشبه العمد والخطأ عند الحنفية (1) مؤجلة في ثلاث سنين، عملاً بفعل عمر رضي الله عنه، ويكفي العامد تغليظ الدية عليه، وإيجابها في ماله.
وقال جمهور الفقهاء (2): دية العمد تجب معجلة (حالَّة) في ماله، غير مؤجلة؛ لأن الدية فيه بدل عن القصاص، وبما أن القصاص حالّ الأداء، فبدله وهو الدية حال مثله، ولأن في التأجيل تخفيفاً على القاتل، والعامد يستحق التغليظ لا التخفيف، بدليل وجوب الدية في ماله لا على العاقلة.
وأما دية الخطأ فتجب عند الجمهور كالحنفية مؤجلة في مدى ثلاث سنوات، تخفيفاً عن العاقلة، بدليل ما روي عن عمر وعلي أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، ولا مخالف لهما في عصرنا، فكان إجماعاً (3).
وكذلك دية شبه العمد عند الجمهور تجب مؤجلة لثلاث سنين، في كل سنة ثلثها.

سابعاً ـ الملزم بأداء الدية: اتفق الفقهاء على أن دية القتل العمد تجب على القاتل في ماله وحده،
_________
(1) البدائع: 256/ 7 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 402/ 2، القوانين الفقهية: ص 347، الشرح الكبير: 281/ 4، 285، مغني المحتاج: 55/ 4، المهذب: 196/ 2، 212، المغني: 764/ 7 - 766، كشاف القناع: 17/ 6.
(3) المغني: 766/ 7.

(7/5712)


ولاتحملها العاقلة؛ لأن الأصل في كل إنسان أن يسأل عن أعماله الشخصية المدنية كالإتلافات، والجنائية كالجرائم، ولا يسأل عنها غيره لقوله تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} [الطور:21/ 52] {ولا تزو وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164/ 6] {قل: لا تسألون عما أجرمنا، ولا نسأل عما تعملون} [سبأ:25/ 34].
ويؤيده ما جاء في السنة من قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يجني جانٍ إلا على نفسه» (1)، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لبعض أصحابه حين رأى معه ولده: «ابنك هذا؟» قال: نعم، قال: «أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه» (2).
وثبت في السنة بنحو خاص: «لا تعقل العاقلة عمداً، ولا عبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً» (3).
ويرى الفقهاء ما عدا المالكية (4) أن دية شبه العمد، والخطأ على العاقلة، كما سيأتي في عقوبة كل منهما.
وأما دية القتل العمد الصادر من الصبي أو المجنون، فقال الحنفية والمالكية والحنابلة (الجمهور) (5): إنها على عاقلته، وعبارتهم فيها: عمد الصبي وخطؤه
_________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمرو بن الأحوص في حجة الوداع.
(2) رواه أبو داود والنسائي وأحمد عن أبي رمثة (جامع الأصول: 9/ 11، نيل الأوطار: 83/ 7).
(3) رواه البيهقي عن الشعبي، وأبو عبيد القاسم بن سلام في الأموال (نصب الراية: 379/ 4).
(4) راجع بحث الملزم بأداء الدية في البدائع: 256/ 7، الدر المختار: 400/ 5، القوانين الفقهية: ص347، الشرح الكبير للدردير: 282/ 4، مغني المحتاج: 55/ 4، المغني: 764/ 7 - 770، كشاف القناع: 3/ 6.
(5) تبيين الحقائق: 139/ 6، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 77/ 1، الدر المختار: 378/ 5، 415، بداية المجتهد: 404/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 345، الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 486/ 4، المغني: 776/ 7، جامع أحكام الصغار لابن قاضي سماوه: 18/ 2، بهامش جامع الفصولين.

(7/5713)


سواء، بدليل أن مجنوناً صال على رجل بسيف، فضربه، فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه، فجعل ديته على عاقلته، بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، وقال: عمده وخطؤه سواء.
وقال الشافعية (1): الأظهر أن عمد الصبي عمد إذا كان مميزاً، وإن لم يكن له تمييز فهو خطأ قطعاً، أي أنه سواء أكان مميزاً أم غير مميز لا قصاص عليه لعدم تكليفه بالحلال والحرام شرعاً، لكن تجب الدية في ماله، ولا تتحملها عنه عاقلته إذا كان مميزاً، وكان القتل عمداً؛ لأن العاقلة (العصبة) لا تتحمل دية القتل العمد أو حالة الصلح أو الاعتراف، كما تقدم. وبما أن فعله يعدّ عمداً إذا كان مميزاً في الراجح عند الشافعية، فلا تتحمل العاقلة دية القتيل الذي جنى عليه، وتكون الدية عليه مغلظة.

ثامناً ـ متى تجب الدية كاملة، وهل يتساوى كل الناس في دية العمد؟ قال الحنفية والمالكية (2): دية العمد عند العفو عن القصاص غير محدودة، والواجب هو ما يتم التراضي أو الاتفاق عليه بين الجاني وولي الدم، سواء أكان المال قليلاً أم كثيراً، فإن انبهمت أي لم تحدد الدية كانت بحسب المقدار الشرعي (مئة من الإبل أو ما ينوب منابها من الدنانير والدراهم).
وقال الشافعية والحنابلة (3): دية العمد بحسب المقدار المحدد شرعاً: مئة بعير، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم في الديات: «في النفس مائة من الإبل».
_________
(1) مغني المحتاج: 10/ 4، 15، المهذب: 173/ 2، 174، 196.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 382/ 5، بداية المجتهد: 402/ 2، القوانين الفقهية: ص347.
(3) مغني المحتاج: 53/ 4، كشاف القناع: 3/ 6.

(7/5714)


وأما تساوي الديات بين الناس: ففيه خلاف:
قال الشافعية (1): قد يعرض للدية ما ينقصها، وهو أحد أسباب أربعة: الأنوثة، والرق، وقتل الجنين، الكفر، فالأول يردها إلى الشطر، والثاني إلى القيمة المختلفة بحسب كل شخص، والثالث إلى الغرة، والرابع إلى الثلث أو أقل.
وأذكر هنا الخلاف في أمرين: الأنوثة، والكفر.

الأنوثة (دية المرأة): اتفق الفقهاء ما عدا النادر (2) على أن دية المرأة نصف دية الرجل، عملاً بأحاديث وآثار وبالمعقول. أما الأحاديث، فمنها قوله عليه السلام مرفوعاً عن معاذ: «دية المرأة نصف دية الرجل» (3)، وروي موقوفاً عن علي: «عقل المرأة على النصف من عقل الرجل في النفس، وفيما دونها» (4).
والآثار فيها كثيرة مروية عن عمر وعلي وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم، فكان هناك إجماع من الصحابة على تنصيف دية المرأة.
والمعقول: أن المرأة في ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل، فكذلك ديتها.
_________
(1) مغني المحتاج: 53/ 4.
(2) البدائع: 254/ 7، الدر المختار: 407/ 5، بداية المجتهد: 405/ 2، القوانين الفقهية: ص347، مغني المحتاج: 56/ 4 ومابعدها، المهذب: 197/ 2، المغني: 97/ 7، كشاف القناع: 18/ 6.
(3) رواه البيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعاً، وقال البيهقي: إسناده لا يثبت مثله (نصب الراية: 363/ 4، نيل الأوطار: 67/ 7).
(4) رواه البيهقي عن علي موقوفاً، وفيه انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه (المرجعان السابقان) ولم أجد هذا الحديث في روايات حديث عمرو بن حزم، بالرغم من نسبته إليه في كتب فقه الحنابلة (المغني وكشاف القناع).

(7/5715)


وحكي عن ابن عُلَيَّة وأبي بكر الأصم من نفاة القياس: أن دية المرأة كدية الرجل، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن حزم: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل».

الكفر (دية غيرالمسلم): اختلف الفقهاء في تقدير دية غير المسلم على آراء ثلاثة:
1 - قال الحنفية (1): إن دية الذمي والمستأمن كدية المسلم، فلا يختلف قدر الدية بالإسلام والكفر، لتكافؤ الدماء، وعملاً بعموم قوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فدية مسلَّمة إلى أهله} [النساء:92/ 4] ولأنه عليه الصلاة والسلام «جعل دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار» (2).
2 - وقال المالكية والحنابلة (3): دية الكتابي (اليهودي والنصراني) المعاهد أو المستأمن نصف دية المسلم، ونساؤهم نصف ديات المسلمين، أي كنساء المسلمات، لقوله عليه الصلاة والسلام: «دية المعاهد نصف دية المسلم» (4) أو «إن دية المعاهد نصف دية المسلم» (5) أو «دية عقل الكافر نصف عقل المسلم» (6).
3 - وقال الشافعية (7): دية اليهودي والنصراني والمعاهد والمستأمن ثلث دية
_________
(1) البدائع: 254/ 7، الدر المختار: 407/ 5.
(2) أخرجه أبو داود في المراسيل عن سعيد بن المسيب، وفيه أحاديث أخرى تؤيده (نصب الراية: 366/ 4).
(3) الشرح الكبير للدردير: 267/ 4 وما بعدها، بداية المجتهد، والقوانين الفقهية، المكان السابق، المغني: 793/ 7، 796.
(4) أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث ابن عمرو، وهذا لفظ أبي داود.
(5) أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر.
(6) أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد، وهذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن.
(7) مغني المحتاج: 57/ 4، المهذب: 197/ 2.

(7/5716)


المسلم، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلّى الله عليه وسلم «فرض على كل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم» (1). وقضى بذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما (2)، ولأنه أقل ما أجمع عليه في المسألة.
واتفق غير الحنفية على أن دية المجوسي والوثني المستأمن كعابد الشمس والقمر والزنديق ثمان مئة درهم، أي ثلثا عشر دية المسلم بتقدير الجمهور، وأن نساءهم نصف دياتهم، أي أربع مئة درهم، كما قال بعض الصحابة مثل عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم، ربعض التابعين كسعيد بن المسيب وسليمان ابن يسار وعطاء وعكرمة والحسن وغيرهم (3).
والمذهب المنصوص عند الشافعية: أن من لم يبلغه الإسلام: إن تمسك بدين لم يبدَّل، فتجب له دية أهل دينه، فإن كان كتابياً فدية كتابي، وإن كان مجوسياً فدية مجوسي، وإن تمسك بدين بدِّل فديته كدية المجوسي. وقال الحنابلة والحنفية: لا يجوز قتل هذا الشخص إن وجد، حتى يدعى إلى الإسلام، فإن قتل قبل الدعوى من غير أن يعطى أماناً، فلا ضمان فيه؛ لأنه لا عهد له ولا إيمان.

العقوبة البدلية الثانية للعمد ـ التعزير:
إذا سقط القصاص في القتل العمد، كان التعزير عقوبة بدلية عنه؛ لكن هل التعزير أمر واجب أو جائز؟ وقد أشرت له في حالة عفو ولي الدم.
_________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه. وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف».
(2) روي الشافعي والدارقطني عن سعيد بن المسيب، قال: «كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، والمجوسي ثمان مئة».
(3) الشرح الكبير للدردير:: 268/ 4، مغني المحتاج: 57/ 4، المغني: 796/ 7.

(7/5717)


1 - قال المالكية (1): يجب تعزير القاتل العمد إذا لم يقتص منه، والعقوبة هي جلد مئة، وحبس سنة، عملاً بأثر ضعيف عن عمر.
2 - وقال الجمهور (2): لا يجب التعزير، وإنما يفوض الأمر للحاكم، يفعل ما يراه مناسباً للمصلحة، فيؤدب الشرير بالحبس أو الضرب أوالتأنيب ونحوها. ويمكن أن يكون التعزير عند الحنفية والمالكية هو القتل أو الحبس مدى الحياة.

النوع الثالث ـ العقوبة التبعية للقتل العمد ـ الحرمان من الميراث والوصية:
ثبت في السنة تشريع عقوبة أخرى للقتل العمد وهي الحرمان من الإرث، والوصية، وذلك في قوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لقاتل ميراث» (3) وفي رواية: «لا يرث القاتل شيئاً» (4). وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس لقاتل وصية» (5). فإذا قتل الوارث مورثه، أو الموصى له الموصي، حرم من الميراث والوصية، عملاً بمبدأ سد الذرائع، كيلا يطمع أحد بمال مورثه، فيتعجل موته بالقتل.
لكن اختلف الفقهاء في نوع القتل المانع من الميراث أو الوصية.

أولاً ـ الحرمان من الميراث: القتل من حيث المبدأ مانع من الميراث بالاتفاق، لكن الخلاف في تحديد صفة القتل.
_________
(1) بداية المجتهد: 396/ 2.
(2) التلويح على التوضيح: 155/ 2، المغني: 745/ 7، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 229، ولأبي يعلى: ص 266، رد المحتار: 196/ 3، الشرح الكبير للدردير: 355/ 4، التشريع الجنائي الإسلامي: 183/ 2 ومابعدها، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقا: ف 331، 333.
(3) رواه مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه عن عمر (نيل الأوطار: 74/ 6).
(4) رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (نيل الأوطار، المكان السابق).
(5) أخرجه الدارقطني والبيهقي عن علي بن أبي طالب، وفيه راو متروك يضع الحديث (نصب الراية: 402/ 4).

(7/5718)


فقال الحنفية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (1): إن القتل العدوان بغير حق، الصادر من البالغ العاقل، عمداً أم خطأ، مانع من الميراث.
لكن يشترط عند الحنفية أن يكون القتل مباشرة لا تسبباً. ولم يميز الشافعية والحنابلة بينهما، فقالوا: لا فرق بين المباشرة والتسبب، فكلاهما مانع من الإرث.
وإذا كان القتل بحق وهو القتل غير المضمون كالقتل قصاصاً أو حداً أو دفاعاً عن النفس أو قتل العادل الباغي، أو كالقتل الحادث بسبب التأديب كضرب الأب والزوج والمعلم، فلا يمنع الميراث عند الحنفية والحنابلة، ويمنع الميراث عند الشافعية، أي أن القتل غير المضمون يمنع الإرث عند الشافعية، وعند الحنابلة لايمنع. والقتل بإكراه مضمون عند الشافعية والحنابلة، فيمنع الميراث.
والقتل الصادر من الصبي أو المجنون أو النائم لا يمنع الميراث عند الحنفية، ويمنع الميراث عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه قتل بالتسبب.
وقال المالكية (2): إن القتل العمد، ومثله شبه العمد المعروف عند غيرهم والمقرر استثناء لديهم هو المانع من الميراث، سواء أكان مباشرة أم تسبباً، وأما القتل الخطأ فلا يحرم الإرث.
وعلى هذا فأشد المذاهب في جعل القتل مانعاً من الميراث هم الشافعية ثم الحنابلة، ثم الحنفية ثم المالكية. والسبب في التشدد إطلاق حديث: «ليس للقاتل شيء» ولأن القاتل لو ورث لم يؤمن أن يستعجل الإرث بالقتل، فاقتضت المصلحة حرمانه: «من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه».
_________
(1) الدر المختار: 542/ 5، التلويح على التوضيح: 153/ 2، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 136، مغني المحتاج: 25/ 3، المغني: 292/ 6، المهذب: 24/ 2، مؤلفنا نظرية الضمان: ص 329 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 486/ 4.

(7/5719)


ثانياً ـ الحرمان من الوصية: القتل المانع من الوصية عند الحنفية (1): هو القتل المانع من الإرث وهو أن يكون صادراً من بالغ عاقل، ومباشرة لا تسبباً، وعدواناً أي بغير حق، سواء أكان عمداً أم خطأ.
وعند المالكية (2): لا يصلح القتل الخطأ مانعاً من الوصية كالميراث، وأما القتل العمد ومثله شبه العمد، فهو مانع من الوصية على الراجح إن لم يعلم الموصي بأن الموصى له ضربه. فإن علم الموصي بمن ضربه أو قتله، ولم يغير وصيته، أو أوصى له بعد الضرب صحت الوصية، سواء قتله عمداً أم خطأ.
ومثلهما قال الحنابلة (3): الأصح أن القتل بغير حق، سواءأكان عمداً أم خطأ يبطل الوصية؛ لأنه يمنع الميراث، وهو آكد منها، فهي أولى بحرمان القاتل منها.
وقال الشافعية (4): الأظهر أن الموصى له لو قتل الموصي ولو تعدياً، استحق الموصى به؛ لأن الوصية تمليك بعقد فأشبهت عقد الهبة، وخالفت الإرث.
والخلاصة: إن القتل المانع من الميراث مانع عند الجمهور من الوصية. وأما عند الشافعية: فلا يعتبر القتل مانعاً من الوصية، وإن منع الميراث.

المبحث الثالث ـ القتل شبه العمد وعقوبته:
لايعرف المالكية القتل شبه العمد، فهو في حكم العمد إلا في حالة قتل الأب
_________
(1) الدر المختار: 459/ 5، البدائع: 339/ 7.
(2) الشرح الكبير للدردير: 426/ 4.
(3) منار السبيل في شرح الدليل على مذهب أحمد للشيخ إبراهيم بن ضويان: 39/ 2، ط دمشق، كشاف القناع: 397/ 4.
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي: 136/ 2، مغني المحتاج: 43/ 3.

(7/5720)


ابنه فهو شبه عمد عندهم (1). وعرفه الجمهور، ولكنهم كما تبين اختلفوا في تحديد معناه، فهو عند أبي حنيفة: أن يتعمد الجاني الضرب بما ليس بسلاح أو ما في حكمه، كالقتل بالمثقل من عصا أو حجر أو خشب كبير. وعند الصاحبين والشافعية والحنابلة: القتل بالمثقل عمد. وشبه العمد: أن يتعمد الجاني الضرب بما لا يقتل غالباً كالحجر والخشب الصغير والعصا الصغيرة.
وعقوبات القتل شبه العمد أنواع ثلاثة: أصلية، وبدلية، وتبعية.

النوع الأول ـ العقوبة الأصلية:
هناك عقوبتان أصليتان للقتل شبه العمد: وهما الدية والكفارة.

المطلب الأول ـ الدية المغلظة:
لا قصاص في القتل شبه العمد، بل فيه الدية المغلظة على العاقلة وهي العقوبة الأولى فيه (2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا، مئة من الإبل: منها أربعون في بطونها أولادها» (3) وهو رأي المالكية والشافعية، وتجب هذه الدية مربعة عند الحنابلة والحنفية.
ودية شبه العمد مثل دية العمد في نوعها ومقدارها، وتغليظها، لكنها
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 345، بداية المجتهد: 390/ 2، 393 وذلك كأن يحذف الأب ابنه بسيف أو عصا، فيقتله، كما فعل رجل من بني مدلج بابنه، ففرض عمر على الأب دية مغلظة مثلثة: 30 حقة و 30 جذعة، و 40 حوامل.
(2) البدائع: 251/ 7.
(3) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه ابن القطان (نصب الراية: 356/ 4).

(7/5721)


تختلف عنها في الملزم بها، وفي وقت أدائها، فدية العمد تجب على الجاني في ماله معجلة، ودية شبه العمد تجب على العاقلة مؤجلة في مدى ثلاث سنين.
لكن الإمام مالك يرى أن شبه العمد كالعمد، في وجوب الدية في مال الجاني. إلا في حالة قتل الأب ابنه فيما إذاحذفه بسيف أو عصا، فقتله، ففيه دية شبه عمد: مغلظة مثلثة، مؤجلة كدية الخطأ.

أولاً ـ الملزم بأداء دية شبه العمد: قال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) (1): تجب دية شبه العمد بطريق التعاون والتخفيف والمواساة للجاني على العاقلة، لا في مال الجاني.
وبما أن المالكية (2) يقسمون القتل إلى نوعين فقط: وهما العمد والخطأ، وليس عندهم شبه العمد، وهو في حكم العمد، فإنهم يوجبون دية شبه العمد في مال القاتل، لا في مال العاقلة إلا فيما استثناه الإمام مالك. وهذا موافق لرأي جماعة من فقهاء المذاهب غير المشهورة (وهم ابن سيرين والزهري والحارث العُكلي وابن شُبرمة وقتادة وأبو ثور وأبو بكر الأصم)؛ لأن هذا القتل موجَب فعل قصده الجاني، فلا تتحمله العاقلة عنه كالعمد المحض، ولأن دية هذا القتيل دية مغلظة، فأشبهت دية العمد.
ودليل الجمهور حديث أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله
_________
(1) البدائع: 255/ 7، تكملة فتح القدير: 251/ 8، مغني المحتاج: 55/ 4، المغني: 766/ 7 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 401/ 2، 405، الشرح الكبير للدردير: 282/ 4، المغني: 767/ 7.

(7/5722)


صلّى الله عليه وسلم
فقضى أن دية جنينها غرّه (1): عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها» (2). قال ابن تيمية: وفيه دليل على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة.
ويؤكده أنه قتل لا يوجب قصاصاً، فتجب ديته على العاقلة، كالخطأ، ويختلف عن العمد المحض؛ أن العمد قصد فيه الجاني الفعل وإرادة القتل، فاستحق تغليظ الدية بكونها في ماله، وتدفع فوراً، وشبه العمد قصد فيه الجاني الفعل، ولم يرد القتل، فاستحق التخفيف من ناحيتين: هما كون الدية على العاقلة، وكونها مؤجلة كما في القتل الخطأ.

وهل تجب الدية ابتداء على العاقلة أو على القاتل؟ هناك رأيان للفقهاء: قال الحنفية والمالكية والأصح عند الشافعية (3): تجب ابتداء على القاتل؛ لأن سبب وجوبها وهو القتل، وجد منه، لا من العاقلة، فكان الوجوب عليه، لا على العاقلة، وإنما العاقلة تتحمل دية واجبة عليه.
ويتحمل القاتل جزءاً من الدية مع العاقلة؛ لأنه هو المطالب أصالة بتحمل جريرة فعله، ودور العاقلة تابع، فهو مطالب بحفظ نفسه من ارتكاب الجرائم، وعاقلته مطالبة أيضاً بحفظه من الجريمة، فإذا لم يحفظوا فرَّطوا، والتفريط منهم ذنب. والقاتل يعتمد على مناصرة عاقلته وحمايتها له، فتشاركه في تحمل تبعة المسؤولية، لا أنها تستقل بتحملها عنه.
وبناء على هذا الرأي: إذا لم يكن للجاني عاقلة يرجع بالدية كلها عليه،
_________
(1) أصل الغرة: البياض في وجه الفرس، وعبر هنا بالغرة عن الجسم كله.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين (البخاري ومسلم) (نيل الأوطار: 69/ 7).
(3) البدائع: 255/ 7، مغني المحتاج: 95/ 4، 97، الشرح الكبير للدردير: 281/ 4 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 400/ 5، 454.

(7/5723)


وهذا هو الأظهر عند الشافعية. لكنهم قالوا في حال وجود العاقلة: متى وزع الواجب في السنة الأولى على العاقلة أو بيت المال، وفضل شيء منه فهو على الجاني مؤجلاً عليه كالعاقلة.
وقال الحنابلة (1): تجب الدية على العاقلة ابتداء؛ لأنه لا يطالب بها غيرهم، ولايعتبر تحملهم ولا رضاهم بها، فلا تجب على غير من وجبت عليه، كما لو عدم القاتل.
ولا يتحمل القاتل عند الحنابلة جزءاً من الدية؛ لأن الدية تلزم العاقلة ابتداء، فإن لم توجد عاقلة أو عجزت، وكان الجاني مسلماً أخذت الدية أوباقيها من بيت المال حالَّة دفعة واحدة؛ لأن الدية إنما أجلت على العاقلة تخفيفاً ولا حاجة للتأجيل في بيت المال.

ثانياً ـ وقت أداء دية شبه العمد: تؤدى دية شبه العمد كما تقدم في دية العمد مؤجلة في مدى ثلاث سنين، في آخر كل سنة ثلثها، وهو مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ومحكي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وكونها في آخر السنة لتتمكن العاقلة دفعها من إنتاج المواسم. وكونها في كل سنة الثلث، توزيعاً لها على السنين الثلاث.
ويعتبر بدء السنة عند الحنفية (2) من يوم الحكم أو القضاء بها، وهو رأي المالكية (3) في دية الخطأ.
_________
(1) كشاف القناع: 60/ 6، المغني: 771/ 7.
(2) اللباب شرح الكتاب: 178/ 3، 180، الدر المختار: 454/ 5.
(3) الشرح الكبير للدردير: 285/ 4، الشرح الصغير: 403/ 4.

(7/5724)


وعند الشافعية والحنابلة (1): تبدأ السنة من وقت وجوب الدية، فإن كانت دية نفس، فمن حين الموت؛ لأنه وقت استقرار الوجوب في الذمة، وإن كانت دية غير النفس، فمن حين الجناية؛ لأنها تلك حالة الوجوب.

ثالثاً ـ مقدار ما تتحمله العاقلة من دية شبه العمد: يرى الحنفية (2): أن العاقلة لاتتحمل ما دون نصف عشر الدية (وهو خمس من الإبل: أرش الموضِحة) إذا كانت الجناية فيما دون النفس. أما بدل النفس فتحمله العاقلة، وإن قل؛ لأن بدل النفس ثبت بالنص على العاقلة. وأما ما دون النفس فعلى الجاني، لقول الشعبي: «لا تعقل العاقلة عمداً، ولا عبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً، ولا ما دون أرش الموضحة» (3).
والأصح عند الحنفية: أنه لا يؤخذ في كل سنة من كل واحد من أفراد العاقلة إلا درهم، أو درهم وثلث، بحيث يؤخذ منه في مجموع الثلاث السنوات ثلاثة أو أربعة دراهم.
وقال المالكية، والحنابلة (4): لا تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية؛ لأن عمر رضي الله عنه قضى في الدية ألا يحمل منها شيء، حتى تبلغ عقل المأمومة، أي تعويضها، وهو ثلث الدية.
_________
(1) مغني المحتاج: 98/ 4، المغني: 767/ 7 وما بعدها.
(2) الدر المختار: 454/ 5 وما بعدها، البدائع: 255/ 7 وما بعدها، 322، اللباب شرح الكتاب: 179/ 3.
(3) رواه البيهقي موقوفاً على الشعبي. وتأويل العبد معناه: أن يقتل العبد حراً، فليس على عاقلة مولاه شيء من جنايته، وإنما هي في رقبته (نصب الراية: 379/ 4).
(4) الشرح الكبير للدردير: 282/ 4، 286، الشرح الصغير للدردير: 396/ 4، المغني: 775/ 7، 777، 788، القوانين الفقهية: ص 347 ومابعدها.

(7/5725)


ويتحمل عندهم كل فرد من أفراد العاقلة على قدر ما يطيق، بحسب اجتهاد الحاكم، وليس فيه تقدير شرعي محدد، فلا يكلف أحد ما يجحف به ويشق عليه؛ لأن تكليف العاقلة مشروع على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه.
وأقل عدد للعاقلة عند المالكية بحيث لا ينقص عنه: هو سبع مئة، وقيل: ألف، فإذا وجد من العصبة هذا العدد، فلا يضم إليهم أحد، وإن نقصوا عن هذا العدد، ولو كانوا أغنياء، ضم إليهم ما يكمِّلهم من الموالي، أي المعتِقون.
وقال الشافعية (1): تحمل العاقلة جميع الدية، قلَّت أو كثرت؛ لأنه إذا ألزمت بالكثير فالقليل من باب أولى. وتوزع على النحو التالي:
على الغني من العاقلة: نصف دينار ذهب أو قدره، وعلى المتوسط (2) ربع دينار أو ثلاثة دراهم، كل سنة من الثلاث السنوات؛ لأنها وجبت مواساة متعلقة بالحول، فتتكرر بتكرره كالزكاة. فيصبح جميع ما يلزم الغني في الثلاث السنين ديناراً ونصفاً، والمتوسط يلزمه نصف دينار وربع.

رابعاً ـ هل تحمل العاقلة خطأ الحاكم؟ تتحمل العاقلة الخطأ الشخصي للإمام والحاكم: وهو الذي لا صلة له بالحكم والاجتهاد.
أما الخطأ الناجم عن الحكم والاجتهاد ففيه رأيان (3):
_________
(1) المهذب: 211/ 2، مغني المحتاج: 95/ 4، 99.
(2) الغني: هو من يملك فاضلاً عن نصاب الزكاة وهو عشرون ديناراً، والمتوسط: من يملك عشرين ديناراً.
(3) المغني: 780/ 7 وما بعدها، 833، المهذب: 192/ 2، 212، مغني المحتاج: 81/ 4، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 252/ 4، 268.

(7/5726)


قال الجمهور (الشافعية في قول راجح والمالكية والحنابلة): يجب على عاقلته أيضاً، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء، فأجهضت جنينها، فقال عمر لعلي: عزمت عليك ألا تبرح حتى تقسمها على قومك (1)، أي قريش، ولأن الحاكم جانٍ، فكان خطؤه على عاقلته كغيره.
وقال الحنفية (2): عقل (أي تعويض) خطأ الحاكم في بيت المال؛ لأن الخطأ يكثر في أحكامه واجتهاده، فإيجاب عقله على عاقلته مجحف بهم، ولأن الحاكم نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله، فكان أرش جنايته في مال الله سبحانه. وهذا هو رأي العز بن عبد السلام من الشافعية (3).

خامساً ـ من العاقلة، وهل تتحمل الدية في العصر الحاضر؟ العاقلة: هي التي تتحمل العقل أي الدية، وسميت الدية عقلاً؛ لأنها تعقل الدماء من أن تسفك، أي تمسكه، ومنه سمي العقل؛ لأنه يمنع القبائح.
واختلف الفقهاء في تحديد العاقلة على ثلاثة مذاهب:

1 - قال الحنفية (4): العاقلة: هم أهل الديوان (5)، إن كان القاتل من أهل
_________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه (نصب الراية: 398/ 4).
(2) الدر المختار: 397/ 5، مجمع الضمانات للبغدادي: ص 172، نظرية الضمان للؤلف: ص 32 وما بعدها.
(3) قواعد الأحكام: 165/ 2، نظرية الضمان للمؤلف: ص 336 وما بعدها.
(4) الدر المختار 453/ 5 وما بعدها، البدائع: 255/ 7 وما بعدها، تبيين الحقائق: 177/ 6 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 178/ 3 وما بعدها.
(5) الديوان: اسم للدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند وعددهم وعطاؤهم. وكان عمر أول من دون الدواوين في العرب. وكانت الدواوين السلطانية في عهد عمر أربعة أقسام: ديوان الجيش أو الجند، وديوان الخراج والجزية، وديوان الولاة، وديوان بيت المال (الأحكام السلطانية للماوردي: ص 199، تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة: ص138).

(7/5727)


الديوان، وهم الجيش أو العسكر الذين كتبت أساميهم في الديوان: وهو جريدة الحساب. أو هم المقاتلة من الرجال الأحرار البالغين العاقلين، أي أهل الرايات والألوية، تؤخذ من عطاياهم أو من أرزاقهم (1) لا من أصول أموالهم. بدليل فعل عمر رضي الله عنه، فإن الدية كانت على أهل النصرة، وكانت بأنواع: بالقرابة، والحلف، والولاء، والعقد، فلما دوَّن عمر الدواوين جعل العقل (الدية) على أهل الديوان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم (2).
وإن لم يكن القاتل من أهل الديوان، فعاقلته: قبيلته وأقاربه، وكل من يتناصر هو بهم؛ لأنه يستنصر بهم. فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسباً على ترتيب العصبات: الأقرب فالأقرب، فيقدم الإخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام ثم بنوهم، وأما من لم يكن له عاقلة كاللقيط والحربي أو الذمي الذي أسلم فعاقلته بيت المال في ظاهر الرواية. والقاتل داخل مع العاقلة، فيكون ـ كما تقدم ـ فيما يؤدي مثل أحدهم؛ لأنه هو الجاني، فلا معنى لإخراجه، ومؤاخذة غيره، بل هو أولى بتحمل تبعة فعله.
ولا يدخل في العاقلة آباء القاتل وأبناؤه (3) ولا الأزواج؛ لأنه لا يتحقق بهم الكثرة، ولا النساء والصبيان والمجانين؛ لأن تحمل العاقلة تبرع بالإعانة، وهؤلاء ليسوا من أهل التبرع.
ولا تتحمل العاقلة جناية العبد، ولاالعمد، ولا ما لزم صلحاً ولا اعترافاً،
_________
(1) العطاء: ما يعطى للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين، لا بقدر الحاجة، بل بصبره وعنائه في أمر الدين. والرزق: ما يفرض للجندي في بيت المال، بقدر الحاجة، في كل شهر، أو مياومة كالرواتب اليوم.
(2) راجع نصب الراية: 398/ 4.
(3) رد المحتار: 454/ 5، وقيل: يدخل الآباء والأبناء.

(7/5728)


لقول الشعبي السابق ذكره، ولأنه لا يتناصر بالعبد، ولأن الإقرار مقصور على نفس المقر، فلا يتعدى إلى العاقلة، إلا أن يصدقوه في إقراره، ولأن ما لزم بالصلح عن دم العمد، يجب في القصاص، فإذا صالح عنه الجاني كان بدله في ماله.
كما لا تتحمل العاقلة أقل من نصف عشر الدية، وتتحمل نصف العشر فصاعداً كما تبين، وما نقص عن هذا المقدار، فهو في مال الجاني.

2 - ومذهب المالكية: أن العاقلة هم أهل الديوان (وهو الدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند وعددهم وعطاءاتهم وقدمهم) فإن لم يكن ديوان فالعصبة (ويبدأ بالإخوة، ثم بالأعمام، ثم من بعدهم من الأقارب) ثم بيت المال إن كان الجاني مسلماً؛ لأن بيت المال لا يعقل عن كافر، فإن لم يكن بيت مال، فتقسط الدية على الجاني (1).
3 - وقال الشافعية والحنابلة (2): العاقلة: هم قرابة القاتل من قبل الأب، وهم العصبة النسبية كالإخوة لغير أم والأعمام، دون أهل الديوان، بدليل ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في المرأة بديتها على عصبة القاتل (3).
ويدخل عند المالكية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: الآباء والأبناء خلافاً لما قال الحنفية؛ لأنهم أحق العصبات بميراث الجاني، فكانوا أولى بتحمل عقله، أي ديته.
_________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 282/ 4، الشرح الصغير: 397/ 4 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 347، بداية المجتهد: 405/ 2.
(2) مغني المحتاج: 95/ 4 وما بعدها، المهذب: 212/ 2، المغني: 783/ 7 - 791، كشاف القناع: 58/ 6 وما بعدها.
(3) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي (نيل الأوطار: 69/ 7).

(7/5729)


واستثنى الشافعية كالحنفية الأصل من أب وإن علا، والفرع من ابن وإن سفل؛ لأنهم أبعاض الجاني، فكما لا يتحمل الجاني الدية لا يتحمل أبعاضه وهم الآباء والأبناء.
وروى النسائي: «لا يؤخذ الرجل بجريرة (أي جريمة) ابنه» وفي رواية لأبي داود في خبر المرأتين اللتين اقتتلتا، من هذيل، السابق (1): «وبرأ الولد» أي من العقل، وقيس به غيره من الأبعاض. وفيها أيضاً «وبرأ زوجها». ويقدم الأقرب فالأقرب من العصبة: البنوة، ثم الأبوة عند من يدخلهم في العاقلة، ثم الأخوة، ثم العمومة. وأعمام الأب ثم بنوهم مقدمون على أعمام الجد ثم بنوهم.
ومن لم تكن له عاقلة أديت ديته من بيت المال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه» (2). فإن فقد بيت المال فالواجب عند المالكية والشافعية على الجاني، والجاني أحد العاقلة؛ لأن الدية عندهم تلزمه ابتداء، تتحملها العاقلة. وليس عند الحنابلة على القاتل في هذه الحالة شيء، كما أنه ليس واحداً من العاقلة؛ لأن الدية عندهم لزمت العاقلة ابتداء.
وتوزع الدية على أفراد العاقلة قريبهم وبعيدهم، حاضرهم وغائبهم، صحيحهم ومريضهم، ولو هرماً وزمِناً وأعمى؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في امرأة بني لَحْيان التي توفيت بسبب الاعتداء عليها وعلى جنينها بأن العقل على عصبتها (3)، كما أن النبي صلّى الله عليه وسلم في حادثة أخرى قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها (4).
_________
(1) رواه أبو داود عن جابر، ونصه «إن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم دية المقتول على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها» (نيل الأوطار: 81/ 7).
(2) أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(7/5730)


ولا تؤخذ الدية من فقير من العاقلة ولا امرأة ولا صبي ولا زائل العقل؛ لأن تحمل الدية للتناصر، والمواساة، والفقير لا يقدر على المواساة، وغيره ليس من أهل النصرة.
ومن مات من العاقلة أو افتقر أو جُنَّ قبل آخر الحول لم يلزمه شيء؛ لأنه مال يجب في آخر العام على سبيل المواساة، فأشبه الزكاة.

مصير نظام العواقل في الوقت الحاضر في رأي متأخري الحنفية:
إن نظام العواقل مستثنى من القاعدة العامة في تحمل كل مخطئ وزر نفسه، ولكن دون أن يلزم العاقلة شيء من ذنب الجاني أخروياً. والسبب في هذا الاستثناء هو مواساة القاتل ومناصرته وإعانته والتخفيف عنه، ودعم أواصر المحبة والألفة والإصلاح بين أفراد الأسرة، والحفاظ على حقوق المجني عليه حتى لاتذهب الجناية عليه هدراً إذا كان القاتل فقيراً، وأغلب الناس فقراء، فكان في ذلك النظام عدالة ومساواة في المجتمع، حتى لا يحرم أحد من التعويض بسبب فقر الجاني. ثم إن هذا النظام فيه تقدير للباعث الذي يشاهد عند القاتل، إذ لولا استنصاره بأسرته واعتماده على قوتهم لتثبت في الأمر ملياً، وصدرت أفعاله عن روية كاملة ووعي تام، لذا اعتبر الفقه الإسلامي أن الجناية الواقعة منسوبة ضمناً إلى كل فرد من أفراد العاقلة، فأوجبت الدية عليهم جميعاً (1). وكان بذل المال من العاقلة بديلاً عن النصرة التي كانت في الجاهلية، حيث كانت القبيلة تمنع الجاني وتحميه كيلا يدنو منه أولياء القتل للأخذ بالثأر.
_________
(1) راجع الجريمة والعقوبة لأستاذنا محمد أبي زهرة: ص 423 ومابعدها، المسؤولية الجنائية لأستاذنا الشيخ محمود شلتوت: ص 38، التشريع الجنائي الإسلامي: 198/ 2 ومابعدها، نظرية الضمان للمؤلف: ص 298.

(7/5731)


وبالرغم من كل هذه المزايا، فإن نظام العاقلة كان مناسباً للبيئة التي كانت فيه الأسرة الواحدة متماسكة البنيان، متناصرة فيما بينها على السراء والضراء. أما وإنه قد تفككت الأسر، وتحللت عرى الروابط بين الأقارب، وزالت العصبية القبلية، ولم يعد الاهتمام بالنسب أمراً ذا بال، فلم يبق بالتالي محل لنظام العواقل، لفقدان معنى التناصر بين أفراد الأسرة.
يرشد إليه أن نظام العاقلة تطور ـ في رأي الحنفية ـ من الأسرة إلى العشيرة، فالقبيلة، ثم إلى الديوان، ثم إلى الحرفة (1) (أو النقابة في عصرنا) ثم إلى بيت المال.
وبما أن نظام العشيرة قد زال، وبيت المال قد تغير نظامه، واختلف النظام الاجتماعي عما كان عليه في زمن العرب، وفقدت عصبية القبيلة بعضهم لبعض، وصار كل امرئ معتمداً على نفسه دون قبيلته كما في النظام الحاضر، فإن دية القتل الخطأ أو شبه العمد، أصبحت في زماننا هذا واجبة في مال الجاني وحده، وقد نص عليه الحنفية (2). وهذا موافق لرأي أبي بكر الأصم والخوارج الذين يجعلون الدية على القاتل لا على العاقلة، أخذاً بعموم الآيات والأحاديث التي تقرر مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية عن الأفعال (3). وهو أيضاً منسجم مع رأي باقي المذاهب الذين قرروا وجوب الدية على الجاني إذا لم توجد له عاقلة ولم يوجد بيت المال.
_________
(1) قال الحنفية: لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة (اللباب: 178/ 3).
(2) الدر المختار ورد المحتار: 456/ 5.
(3) مذكرة تفسير آيات الأحكام بالأزهر: 123/ 2.

(7/5732)


المطلب الثاني ـ العقوبة الأصلية الثانية: الكفارة:
القتل شبه العمد عند جمهور الفقهاء (1) القائلين به وهم غير المالكية: تجب فيه كفارة؛ لأنه ملحق بالخطأ المحض في عدم القصاص، وتحمل العاقلة ديته، وتأجيلها ثلاث سنين، فجرى مجرى الخطأ في وجوب الكفارة على الجاني.
والكفارة كما تقدم في القتل العمد: هي عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجدها في ملكه، أو لم يجد ثمنها فاضلاً عن كفايته لشراء الرقبة وإعتاقها، أو لم يجد الرقبة فعلاً، وجب عليه صيام شهرين متتابعين، كما ورد في النص القرآني.
والمالكية (2) يعتبرون شبه العمد مثل العمد لا يوجب كفارة.
ويلاحظ أن حوادث الدهس بالسيارات اليوم توجب الدية وكفارة القتل بالتسبب.

النوع الثاني ـ العقوبة البدلية في القتل شبه العمد:
إذا سقطت الدية لسبب ما، حل محلها التعزير، وعلى الحاكم عند المالكية تعزير القاتل بما يراه مناسباً. وجمهور الفقهاء يتركون الخيار في التعزير للحاكم، كما تقدم في تعزير القاتل عمداً. وأما الصوم فهو خصلة من خصال الكفارة التي هي عقوبة أصلية، ولكنها تأتي مُرتَّبة بعد العجز عن عتق الرقبة.

النوع الثالث ـ العقوبة التبعية في القتل شبه العمد:
يعاقب القاتل شبه العمد بعقوبتين أخريين عدا الدية، وهما الحرمان من الميراث والحرمان من
_________
(1) تكملة فتح القدير: 251/ 8، البدائع: 249/ 7 وما بعدها، الدر المختار: 407/ 5، مغني المحتاج: 107/ 4، المهذب: 217/ 2، المغني: 97/ 8، كشاف القناع: 65/ 6.
(2) الشرح الصغير للدردير: 405/ 4، بداية المجتهد: 401/ 2، الشرح الكبير: 266/ 4.

(7/5733)


الوصية، على النحو المبين في جزاء القتل العمد، عملاً بعموم حديثين هما: «ليس للقاتل ميراث» و «ليس لقاتل وصية» لكن الأول صحيح والثاني في سنده متروك يضع الحديث.

المبحث الرابع ـ القتل الخطأ وعقوبته:
القتل الخطأ كما عرفنا: هو ألا يقصد به الضرب ولا القتل، مثل لو سقط شخص على غيره فقتله، أو رمى صيداً فأصاب إنساناً، فهو نوع واحد عند الجمهور. ونوعان عند الحنفية؛ لأنهم يعتبرون حالة سقوط النائم على غيره، مما جرى مجرى الخطأ.
ولا قصاص في الخطأ وشبهه باتفاق الفقهاء، وإنما له عقوبتان فقط:
أصلية: وهي الدية والكفارة، وتبعية: وهي الحرمان من الميراث والوصية.
وكذلك عقوبات القتل شبه الخطأ عند الحنفية هي مثل عقوبات الخطأ (الكفارة، والدية على العاقلة، وحرمان القاتل من الميراث والوصية) وأما القتل بالتسبب عند الحنفية كحافر البئر فله عقوبة واحدة هي الدية على العاقلة، وليس فيه كفارة ولا حرمان من الميراث والوصية (1)، وهو عند الجمهور كالقتل الخطأ.

أما الصيام فهو أحد خصلتي الكفارة المنصوص عليها في القرآن الكريم في آية عقوبة القتل الخطأ: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله} ... {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} .. [النساء:4/ 92] وقد ذكر في الآية ثلاث كفارات: الأولى بقتل المسلم في دار الإسلام خطأ، والثانية بقتله في دار الحرب وهو لا يعرف إيمانه، والثالثة بقتل المعاهد وهو الذمي.
_________
(1) تكملة فتح القدير: 252/ 8 ومابعدها. ولا تعزير في الخطأ باتفاق الفقهاء.

(7/5734)


أما دية الخطأ فهي ـ كما تقدم في العمد ـ مخمسة، أي تؤخذ أخماساً: 20 بنت مخاض، و 20 ابن مخاض، و20 بنت لبون، و20 حقة، و20 جذعة، وهو مذهب الحنفية والحنابلة. وجعل المالكية والشافعية عشرين بني لبون مكان «عشرين بني مخاض».
واستدل كل من الفريقين برواية عن ابن مسعود (1).
واتفق الفقهاء (2) على أن دية الخطأ على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين، عملاً بقضاء النبي صلّى الله عليه وسلم بدية الخطأ على العاقلة (3)، وبفعل عمر وعلي رضي الله عنهما بجعل هذه الدية على العاقلة في ثلاث سنين (4).
والتأجيل عند الحنفية يشمل ما تحمله العاقلة والجاني معاً، وأما عند الجمهور فيجب حالاً كل ما لا تحمله العاقلة؛ لأنه بدل متلف، فلزم حالاً كقيم المتلفات. أما الذي تحمله العاقلة فيجب مواساة، فلزم التأجيل تخفيفاً على متحمله غير الأصلي.
والسبب في إلزام العاقلة الدية: أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل، والإعانة له تخفيفاً عنه؛ إذ كان معذوراً في فعله بسبب عدم قصده، وينفرد هو بالكفارة.
ولا تتغلظ دية الخطأ عند الحنفية والمالكية. وتتغلظ عند الشافعية والحنابلة في حالات ثلاث، كما تقدم في دية العمد.
_________
(1) راجع نيل الأوطار: 76/ 7 وما بعدها، نصب الراية: 356/ 4 - 360.
(2) المغني: 770/ 7 وما بعدها.
(3) نيل الأوطار: 80/ 7 وما بعدها.
(4) نصب الراية: 334/ 4، 399.

(7/5735)


وأما كفارة القتل الخطأ: فتجب في مال القاتل، ولا يشاركه في تحمل شيء منها أحد (1)؛ لأنه هو المتسبب بها، ولأن الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني، ولا يكفر عنه بفعل غيره؛ لأنها عبادة (2). واتفق الفقهاء على وجوب كفارة القتل الخطأ إذا لم يكن المقتول ذمياً ولا عبداً، وأوجبها الجمهور غيرالمالكية بقتل الذمي أيضاً. وقال المالكية: لا تجب الكفارة في قتل الذمي؛ لأنه مهدر الدم في الجملة بسبب كفره.
وأما الحرمان من الميراث والوصية: فقد سبق الكلام عنه في عقوبة القتل العمد.
_________
(1) المغني: 771/ 7، 92/ 8، مغني المحتاج: 107/ 4، البدائع: 252/ 7، الدر المختار: 277/ 5، الشرح الصغير: 405/ 4 وما بعدها.
(2) هذا ولم يبق في عصرنا بسبب إلغاء الرق إلا صيام شهرين متتابعين كفارة عن القتل الخطأ؛ لأن المقصود من الرقبة هو العتق، والله تعالى قال {فمن لم يجد} أي من لم يجد رقبة يحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن، فعليه صيام شهرين متتابعين.

(7/5736)