الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثّاني: الجِناية على ما دون
النَّفس الجناية على ما دون النفس: هي كل اعتداء على جسد إنسان من قطع عضو،
أو جرح، أو ضرب، مع بقاء النفس على قيد الحياة.
وهي عند الحنفية (والمالكية الذين لا يقولون بشبه العمد): إما عمد أو خطأ.
والعمد: ما تعمد فيه الجاني الفعل بقصد العدوان، كمن ضرب شخصاً بحجر بقصد
إصابته. والخطأ: هو ما تعمد فيه الجاني الفعل دون قصد العدوان، كمن يلقي
حجراً من نافذة، فيصيب رأس إنسان فيوضحه (أي يُوضح العظم)، أو يقع نتيجة
تقصير كمن ينقلب على نائم فيكسر ضلعه (1).
وليس فيما دون النفس عند الحنفية شبه عمد، وإنما هو عمد أو خطأ؛ لأن شبه
العمد: هو الضرب بما ليس بسلاح أو ما في حكمه، كالضرب بالمثقل من حجر أو
عصا كبيرة. فوجوده يعتمد على آلة الضرب، والقتل هو الذي يختلف حكمه باختلاف
الآلة، أما إتلاف ما دون النفس فلايختلف حكمه باختلاف الآلة، وإنما ينظر
فيه إلى النتيجة الحاصلة، وهو حدوث الإتلاف أو قصد الاعتداء، فاستوت الآلات
كلها في دلالتها على قصد الفعل، فكان الفعل إما عمداً أو خطأ فقط. وعقوبة
شبه العمد عندهم هي عقوبة العمد، بدليل قولهم: «ما يكون شبه عمد في النفس
فهو عمد فيما سواها» (2).
_________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 204/ 2.
(2) تكملة فتح القدير: 271/ 8، البدائع: 233/ 7، 310، اللباب مع الكتاب:
147/ 3.
(7/5737)
ويتصور الشافعية والحنابلة (1) شبه العمد
فيما دون النفس، كأن يضرب رأس إنسان بلطمة، أو بحجر صغير لا يشج غالباً،
فيتورم الموضع إلى أن يتضح العظم. ويقولون: «لا قصاص إلا في العمد، لا في
الخطأ وشبه العمد». وعقوبة شبه العمد عندهم كعقوبة الخطأ.
والكلام في هذا الفصل على نوعي الجناية على ما دون النفس عمداً أو خطأ في
مبحثين:
المبحث الأول ـ عقوبة الجناية العمدية على ما
دون النفس:
الجناية العمدية على ما دون النفس: إما أن تكون على الأطراف بقطعها أو
تعطيل منافعها، أوتكون بإحداث جُرْح في غير الرأس وهي الجراح، أو في الرأس
والوجه وهي الشجاج.
والقاعدة المقررة في عقوبة هذه الجناية: هي (2) أنه كلما أمكن تنفيذ القصاص
فيه (وهو الفعل العمد الخالي عن الشبهة) وجب القصاص، وكل ما لا يمكن فيه
القصاص (وهو الفعل الخطأ، وما فيه شبهة) وجب فيه الدية أو الأرش.
وعلى هذا تكون ـ عقوبة إبانة الأطراف (أو قطعها): هو القصاص أو الدية
والتعزير، وعقوبة تعطيل منافع الأعضاء (إذهاب معاني الأعضاء) في الواقع
العملي: هو الدية، أو الأرش (3). وعقوبة الجراح والشجاج: القصاص أو الأرش
أو حكومة العدل (4).
_________
(1) مغني المحتاج: 25/ 4، كشاف القناع: 638/ 5.
(2) البدائع: 234/ 7، تكملة فتح القدير: 270/ 8.
(3) الأرش: هو المال الواجب المقدر شرعاً في الجناية على ما دون النفس من
الأعضاء.
(4) حكومة العدل: هي المال الذي يقدره القاضي بمعرفة الخبراء فيما ليس فيه
مقدار محدد شرعاً كاليد الشلاء ونحوها مما ذهب نفعه، والجرح والتعطيل
ونحوهما.
(7/5738)
ففي هذا المبحث أربعة مطالب:
المطلب الأول ـ عقوبة إبانة الأطراف (أو قطعها):
الأطراف عند الفقهاء: هي اليدان والرجلان، ويلحق بها أو يجري مجراها
الأصبع، والأنف والعين والأذن، والشفَة والسن، والشعر والجفن ونحوها.
وعقوبة إبانة الأطراف: إما القصاص، أو الدية والتعزير بدلاً عنه، إذا امتنع
القصاص لسبب من الأسباب.
العقوبة الأصلية الأولى ـ القصاص:
يشترط لتطبيق القصاص في الطرف والجُرْح (1) ولغيرهما مما دون النفس، الشروط
العامة المشروطة للقصاص في النفس، ويضاف إليها شروط خاصة.
أما الشروط العامة: فهي عند الحنفية (2) أن يكون الجاني عاقلاً بالغاً،
متعمداً مختاراً، غير أصل للمجني عليه، وكون المجني عليه معصوماً ليس جزءاً
للجاني ولا ملكه، وكون الجناية مباشرة لا تسبباً، وأن يكون القصاص ممكناً
بإمكان المماثلة.
وأضاف الجمهور (3) كما تقدم في القتل العمد: أن يكون المجني عليه مكافئاً
للجاني، ولا فرق عندهم بين أن تكون الجناية مباشرة أو تسبباً.
وبناء عليه تكون موانع القصاص العامة ما
يأتي:
_________
(1) الطرف: ماله حد ينتهي إليه كأذن ويد ورجل. والجرح بضم الجيم: هو أثر
الجراحة. وليس المراد به نفس الجرح بفتح الجيم، لأنه هو الفعل.
(2) البدائع: 297/ 7.
(3) الشرح الكبير للدردير: 250/ 4، مغني المحتاج: 25/ 4، المغني: 703/ 7،
كشاف القناع: 638/ 5.
(7/5739)
1 - الأبوة:
يمتنع القصاص من الوالد لولده فيما دون النفس كالنفس لحديث «لا يقاد الوالد
بولده» باتفاق المذاهب الأربعة، حتى عند الإمام مالك؛ لأن الضرب عدواناً أي
تعدياً لا على وجه اللعب أو التأديب الذي ينشأ عنه جرح، لا قصاص فيه عنده؛
لأنه
من الخطأ (1).
2 - انعدام التكافؤ: ينعدم التكافؤ بين
الجاني والمجني عليه فيما دون النفس في حالتين أو ثلاث عند الحنفية، وفي
حالتين أخريين عند غير الحنفية (الجمهور).
أما حالتا انعدام التكافؤ عند الحنفية: فهما الاختلاف في الجنس، وعدم
التماثل العددي، فلا قصاص فيما دون النفس بين الرجل والمرأة (2)؛ لأن
الأطراف عندهم كالأموال، وإذا لم يتحقق التماثل بين دية المرأة والرجل، إذ
أن ديتها نصف دية الرجل، فلا تماثل بينهما في دية الأطراف، وإذا انعدم
التماثل والمساواة بين أرشي المرأة والرجل، امتنع القصاص بين طرفيها.
وإذا تعدد الجناة كأن قطعوا يد رجل أو أصبعه أوقلعوا سنه لا قصاص عليهم،
لعدم المماثلة بين الأيدي واليد، والمماثلة فيما دون النفس شرط أساسي
للقصاص. وعليهم دية الطرف المقطوع (3).
وعند الجمهور: يقتص الرجل بالمرأة وبالعكس، وتقطع الأيدي الكثيرة باليد
الواحدة.
وأما حالتا انعدام التكافؤ عند الجمهور: فهما الحرية والإسلام كما في قصاص
النفس.
_________
(1) الشرح الكبير للدردير والدسوقي: 242/ 4، 250.
(2) تكملة فتح القدير: 271/ 8، اللباب مع الكتاب: 147/ 3.
(3) تكملة فتح القدير: 280/ 8، البدائع: 299/ 7.
(7/5740)
فلا قصاص بالقطع عندهم من الحر للعبد،
ويقطع العبد بالحر، والعبد بالعبد. ويقول الحنفية في هذا خلافاً لمبدئهم في
القصاص بالنفس: لا قصاص مطلقاً بين الحر والعبد، وبالعكس، ولا بين العبيد
أنفسهم، لعدم التماثل، أو للتفاوت في القيمة؛ إذ أن قيمة كل عبد تختلف عن
قيمة غيره (1)، أي أن الحرية وعكسها العبودية حالة ثالثة لمنع القصاص فيما
دون النفس عند الحنفية.
ولا قصاص عند الجمهور فيما دون النفس من المسلم للذمي الكافر، ولكن يقطع
الذمي بالمسلم عند الشافعية والحنابلة، لعدم التكافؤ في النفس، ولا يقطع
الذمي بالمسلم عند المالكية؛ لأن القصاص فيما دون النفس يقتضي المساواة بين
الطرفين، ولا مساواة بين المسلم والكافر مطلقاً (2).
3 - كون الاعتداء على ما دون النفس شبه عمد عند
الشافعية والحنابلة: كأن يلطم شخص غيره فيفقأ عينه، أو يرميه بحصاة
فيشل يده، أو يحدث ورماً ينتهي بموضحة، فلا قصاص عندهم في هذه الحالة،
وإنما تجب الدية المقررة شرعاً للعين أو اليد.
ويقتص من الجاني عند المالكية والحنفية في هذه الحالة؛ لأن شبه العمد فيما
دون النفس له حكم العمد، لتوافر صفة الاعتداء، وما دون النفس يكفي فيه مجرد
قصد الاعتداء، والاعتداء بأي آلة أمر متصور ممكن، بعكس القتل، فلا يكون إلا
بآلة مخصوصة، كما بان سابقاً.
4 - أن يكون الفعل تسبباً عند الحنفية: فهم يشترطون للقصاص بالجناية على
النفس أو ما دون النفس أن تكون الجناية مباشرة لا تسبباً كما ذُكر.
ويخالفهم الجمهور فيه.
_________
(1) تكملة فتح القدير: 271/ 8 وما بعدها، اللباب مع الكتاب: 147/ 3.
(2) الشرح الكبير للدردير: 250/ 4، مغني المحتاج: 25/ 4.
(7/5741)
5 - أن تكون الجناية
واقعة في دار الحرب عند الحنفية: فلا قصاص عندهم في
النفس أو ما دونها على جناية وقعت في دار الحرب لعدم ولاية الإمام عليها،
خلافاً لباقي الأئمة.
6 - تعذر استيفاء القصاص: يمتنع القصاص
في النفس أو ما دونها عند الفقهاء إذا لم يمكن الاستيفاء؛ لأن القصاص يتطلب
المماثلة، فإذا لم يتحقق التماثل فلا قصاص، وينتقل إلى الدية (1). فلا تقطع
إبهام اليد اليمنى ذات المفصلين من الجاني، بقطعه إبهاماً ذات مفصل واحد من
المجني عليه، لكونها كانت مقطوعة المفصل الأول قبل الجناية، لعدم التماثل.
وأما الشروط الخاصة للقصاص في الجناية على ما دون النفس: فهي التي ترجع إلى
أساس واحد، وهو تحقيق التماثل. ومقتضاه تحقيق التماثل بين الجناية والعقوبة
في أمور ثلاثة: التماثل في الفعل، والتماثل في المحل (أو الموضع والاسم)
والتماثل في المنفعة (أو الصحة والكمال) (2).
وأضاف الحنفية التماثل في الأرشين، وقد سبق بيانه في مانع القصاص العام
بسبب انعدام التكافؤ عندهم بين المرأة والرجل، وبين الحر والعبد؛ لأن ما
دون النفس عندهم له حكم الأموال؛ لأنه خلق وقاية للنفس كالأموال، فتعتبر
فيه المماثلة كما تعتبر في إتلاف الأموال.
والدليل على اشتراط التماثل: قوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/ 5]
وقوله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/ 16]
{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/ 2] ولأن
دم الجاني معصوم إلا بمقدار جنايته، فما زاد عليها معصوم يمنع
_________
(1) البدائع: 297/ 7 وما بعدها، المغني: 703/ 7، كشاف القناع: 639/ 5،
المهذب: 178/ 2 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 250/ 4.
(2) البدائع: 297/ 7 وما بعدها، المغني: المغني: 703/ 7، كشاف القناع: 639/
5 - 651.
(7/5742)
التعرض له، فلا تصح الزيادة في القصاص على
قدر الجناية (1)، ولاقصاص في الجراح إلا في الموضحة إذا كانت عمداً. وبناء
عليه تكون موانع القصاص الخاصة بما دون
النفس ثلاثة هي:
1 - عدم التماثل في الفعل (أو عدم إمكان
الاستيفاء بلا حيف ولا زيادة): يشترط لجواز استيفاء القصاص: الأمن من الحيف
(أي الجور والظلم) ولايؤمن من الحيف إلا إذا كان القطع في الأطراف من
المفاصل كمفصل الزند أو مفصل المرفق أو الكتف من اليد أو مفصل الكعب أو
الركبة أو الورك من الرجل، أو كان له حد ينتهي إليه كمارن الأنف (وهو ما
لان منه).
فإن كان القطع من غير مفصل، أو لم يكن له حد ينتهي إليه كالقطع من قصبة
الأنف، أو من نصف الساعد أو العضد أو الساق أو الفخذ، فلا قصاص عند الحنفية
والراجح عند الحنابلة (2)، وتجب دية اليد أو الرِّجل.
ويجب القصاص حينئذ عند المالكية (3) كلما أمكن، ولم يحدث خطر أو خوف؛ لأن
المماثلة مع الإمكان حق لله لا يجوز تركها؛ لقوله تعالى: {والجروحَ قصاص}
[المائدة:45/ 5].
ويرى الشافعية (4) أنه يقتص من أقرب مفصل إلى محل الجناية دونه، ويعطى
المجني عليه حكومة
(تعويض) الباقي لتعذر القصاص فيه، فإن قطع رجل يد آخر من نصف الساعد،
فللمجني عليه أن يقتص من الكوع (الرسغ)؛ لأنه داخل في جناية يمكن القصاص
فيها، ويأخذ الحكومة (التعويض) في الباقي؛ لأنه كسر
_________
(1) المغني: 703/ 7.
(2) البدائع: 298/ 7، كشاف القناع: 639/ 5.
(3) الشرح الكبير للدردير: 251/ 4 - 253، 255.
(4) مغني المحتاج: 29/ 4، المهذب: 180/ 2.
(7/5743)
عظم لا تمكن المماثلة فيه، فانتقل إلى
البدل. وإن قطع رجل يد آخر من نصف العضد، فللمقطوع أن يقتص من المرفق،
ويأخذ الحكومة (التعويض) في الباقي، وله أن يقتص من الكوع (الرسغ) ويأخذ
الحكومة في الباقي؛ لأن الجميع مفصل واحد في الجناية، وليس له الاقتصاص من
الكوع إذا كان القطع من المرفق؛ لأنه يتمكن من القصاص في محل الجناية، أما
في الحالة المتقدمة فلا يمكنه الاقتصاص في موضع الجناية.
ولا قصاص باتفاق الأئمة في كسر العظام كعظم الصدر أو الصلب أو العنق، ويجب
فيها الأرش كاملاً؛ لأن التماثل غير ممكن (1).
كما لا قصاص بالاتفاق فيما بعد (أو فوق) الموضحة من الشجاج؛ لأن الاستيفاء
دون حيف غير ممكن. ويقتص من الموضحة لإمكان القصاص، ولا يقتص فيما دون
الموضحة إلا عند المالكية (2) ولا قصاص في الضرب بالسوط والعصا واللطمة
والوكزة إذا لم تترك أثراً؛ لأن المماثلة فيها غير ممكنة (3) وإنما فيها
التعزير. واستثنى المالكية السوط، ففي الضرب به قصاص. ويرى ابن القيم
القصاص في اللطمة ونحوها.
2 - عدم المماثلة في الموضع قدراً ومنفعة: فلا تقطع اليد بغير اليد، ولا
اليمنى باليسرى، ولا الإبهام أو السبابة بغيرها لعدم التجانس، ولا تقلع
السن إلا
_________
(1) البدائع: 308/ 7، الشرح الكبير للدردير: 253/ 4، المهذب: 178/ 2، مغني
المحتاج: 28/ 4.
(2) البدائع: 309/ 7، الشرح الصغير: 349/ 4 وما بعدها، مغني المحتاج: 26/
4، كشاف القناع: 652/ 5، الشرح الكبير: 252/ 4.
(3) البدائع: 299/ 7، الدردير في الكبير: 252/ 4، وفي الصغير: 353/ 4، مغني
المحتاج: 29/ 4، كشاف القناع: 640/ 5، المغني: 60/ 8، أعلام الموقعين: 318/
1. .
(7/5744)
بمثلها ثنية أو ناباً أو ضرساً، ولا الأعلى
بالأسفل أو بالعكس، لاختلاف المنفعة (1).
3 - عدم التماثل في الصحة والكمال: فلا
تقطع اليد الصحيحة بالشلاء، ولا الرجل الصحيحة بالشلاء، ولايؤخذ الكامل
بالناقص كيد أو رجل كاملة بأخرى ناقصة الأصابع. إلا أن الإمام مالك يرى قطع
اليد أو الرجل الناقصة إصبعاً بالكاملة بلا غرم على الجاني، ولا خيار
للمجني عليه في نقص الأصبع، فإن نقصت أكثر من أصبع، خيِّر المجني عليه بين
القصاص وأخذ الدية. وإن نقصت يد المجني عليه أو رجله أصبعاً يقتص من الجاني
الكامل الأصابع، فإن نقصت أكثر من أصبع كأصبعين فأكثر لا يقتص لها من يد أو
رجل كاملة (2).
وأحسن نموذج تطبيقي للقصاص فيما دون النفس هو قوله تعالى: {وكتبنا عليهم
فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن
بالسن، والجروحَ قصاص} [المائدة:45/ 5].
أداة القصاص فيما دون النفس:
لا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف، ولا بآلة يخشى منها الزيادة سواء
أكان الجرح بها أم بغيرها، وإنما يستعان بجرَّاح مختص يستخدم الموسى أو
المبضع الجراحي ونحوهما، ويطلب القصاص من الجاني في الجراحات بأرفق مما جنى
به، فإذا كان الجرح بحجر أو عصا اقتص منه بالموسى (3).
_________
(1) البدائع: 297/ 7، الشرح الكبير للدردير: 251/ 4، المهذب: 179/ 2 وما
بعدها، كشاف القناع: 646/ 5 وما بعدها.
(2) البدائع: 300/ 7 - 303، الشرح الكبير للدردير: 252/ 4 - 254 وما بعدها،
المهذب: 181/ 2، كشاف القناع: 649/ 5 وما بعدها.
(3) البدائع: 309/ 7، الدسوقي على الدردير: 265/ 4، المهذب: 186/ 2،
المغني: 704/ 7.
(7/5745)
سراية القصاص فيما
دون النفس:
السراية: هي حدوث مضاعفات أو آثار تترتب على تطبيق العقوبة الشرعية، تؤدي
إلى إتلاف عضو آخر أو موت النفس البشرية. فإذا سرى الجرح الحاصل بالقصاص من
العضو إلى النفس، فأدى للموت، سمي الفعل سراية النفس أو الإفضاء للموت،
وإذا سرى إلى عضو آخر، سمي الفعل سراية العضو.
وعلى هذا إذا اقتص من طرف الجاني، فسرى القصاص إلى النفس، ومات، فهل هناك
ضمان أو لا؟ فيه رأيان للفقهاء.
1 - قال أبو حنيفة (1): إذا اقتص شخص من آخر لقطع يده، فقطع المجني عليه يد
الجاني، فمات من القطع، ضمن الدية؛ لأنه استوفى غير حقه، إذ حقه القطع.
وكذلك يضمن الأرش أي دية العضو إذا قطع شخص أصبعاً من يد أو رجل، فشلت
الكف، أو شلت أصبع آخر جنبها، فعليه دية اليد.
والقاعدة عنده فيه وفي أمثاله هي أن «الجناية إذا حصلت في عضو، فسرت إلى
عضو آخر، والعضو الثاني لا قصاص فيه، فلا قصاص في العضو الأول أيضاً، ولكن
فيه الدية» أي على العاقلة.
ولو كان الموت حادثاً بسبب التأديب، كالضرب الحاصل من الأب أو الوصي أو
المعلم، يضمن المتسبب الدية؛ لأنه التأديب هو الفعل الذي يبقى فيه المؤدَب
حياً بعده، فإذا سرى، تبين أنه قتل، وليس بتأديب، فسأل الفاعل؛ لأنه متعد
في فعله، غير مأذون في القتل، أي أن الفاعل ضامن الدية في كل الحالات، سواء
أكان عمله مشروعاً أم غير مشروع.
_________
(1) البدائع: 305/ 7، 307، تكملة فتح القدير: 319/ 8، تبيين الحقائق: 136/
6.
(7/5746)
وقال الصاحبان (1): لا شيء على المقتص في
الحالة الأولى وهي قطع اليد قصاصاً؛ لأن الموت حصل بفعل مأذون فيه، وهو
القطع. كما لا شيء عليه في الحالة الثالثة (التأديب)؛ لأن الفاعل مأذون في
تأديب الصبي وتهذيبه، والمتولد من الفعل المأذون فيه لا يكون مضموناً، كما
لو عزر الإمام إنساناً فمات، أو قطع الحاكم يد السارق، فمات.
وتجب دية اليد في الحالة الثانية (شل اليد) ولا قصاص.
2 - وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (2): لا ضمان على المقتص
بسريان القصاص إلى النفس أو العضو، أو المنفعة؛ لأن السراية حصلت من فعل
مأذون فيه، مثل بقية الحدود، ويؤيده أن عمر وعلياً قالا: «من مات من حد أو
قصاص: لا دية له، الحقُ قتَله» (3). وهذا موافق لرأي الصاحبين.
سراية الجناية:
لا خلاف بين الفقهاء في أن سراية الجناية مضمونة (4)؛ لأنها أثر الجناية،
وبما أن الجناية مضمونة، فكذلك أثرها.
فإن سرت الجناية إلى النفس، وجب القصاص.
وإن لطمه فذهب ضوء عينيه، لم يقتص منه عند الجمهور؛ لأن المماثلة فيها غير
ممكنة، وقال الشافعية: يجب القصاص فيه بالسراية؛ لأن له محلاً مضبوطاً (5).
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) الشرح الكبير للدردير: 252/ 4، المهذب: 188/ 2، 190، المغني: 727/ 7.
(3) رواه سعيد بن منصور في سننه.
(4) المغني: 727/ 7، مغني المحتاج: 33/ 4.
(5) المغني: 715/ 7، مغني المحتاج: 29/ 4، المهذب: 186/ 2.
(7/5747)
وإن قطع الجاني أصبعاً، فتأكَّلت أخرى
وسقطت من مفصل، وجب فيه القصاص عند الصاحبين والحنابلة. وقال أبو حنيفة
وأكثر الفقهاء: لا قصاص وتجب دية الأصبع الثانية، لعدم تحقق العمدية (1).
العقوبة الأصلية الثانية عند المالكية في إبانة
الأطراف - التعزير:
يوجب المالكية (2) التعزير (أو الأدب على حد تعبيرهم) على المعتمد عندهم في
الجناية على ما دون النفس، بحسب اجتهاد الحاكم، سواء في حالة العمد (لا
الخطأ) الذي لا قصاص فيه، أو العمد الذي فيه القصاص، فتقطع يد الجاني مثلاً
ويعزر (أو يؤدب)، سواء في الأطراف أو الشجاج أو الجراح.
ولا يرى جمهور الفقهاء حاجة لهذا التعزير مع القصاص؛ لأن الله تعالى جعل
العقوبة في قوله: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/ 5] هي القصاص دون غيره، فمن
أضاف غيرها فقد زاد على النص بدون دليل، وهذا الرأي أولى بالاتباع.
العقوبة البدلية في إبانة الأطراف ـ الدية أو
الأرش:
إذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب وجبت الدية بدلاً عنه، كما تجب أيضاً عند
الشافعية والحنابلة بصفة عقوبة أصلية إذا كانت الجناية شبه عمد.
وتجب الدية كاملة بإزالة جنس المنفعة كإتلاف اليدين، ويجب الأرش بإزالة بعض
المنفعة كإتلاف يد واحدة أو أصبع واحدة. والأرش نوعان: مقدر وغير
_________
(1) المغني: 727/ 7، البدائع: 307/ 7، مغني المحتاج: 30/ 4.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 253/ 4، الشرح الصغير: 353/ 4.
(7/5748)
مقدر. والمقدر: هو ما حدد الشرع له نوعاً
ومقداراً معلوماً كأرش اليد والعين. وغير المقدر: هو مالم يقدر له الشرع
مقداراً معيناً، وترك أمر تقديره للقاضي.
ما تجب فيه الدية كاملة:
تجب الدية كاملة بدلاً عن القصاص في الجناية العمدية أو في حالة الجناية
خطأ بإزالة جنس منفعة العضو، إما بإبانته (أو قطعه)، أو بتعطيل منفعته
(إذهاب معناه) مع بقاء الهيكل أو الصورة.
والأعضاء التي تجب فيها الدية أنواع أربعة:
نوع لا نظير له في البدن، ونوع في البدن منه اثنان، ونوع في البدن منه
أربعة، ونوع في البدن منه عشرة.
النوع الأول ـ ما لا نظير له في البدن،
وهو ما يلي (1):
الأنف، اللسان، الذكر أو الحَشَفة،
الصُلب إذا انقطع المني، مسلك البول، مسلك الغائط، الجلد، شعر الرأس، شعر
اللحية إذا لم ينبت.
أما الأنف: إذا قطع كله، أو قطع المارن (وهو مالان من الأنف) ففيه الدية
لقوله عليه الصلاة والسلام في كتاب عمرو بن حزم: «وإن في الأنف إذا أوعب
جَدْعُه الدية» أي إذا قطع جميعه. والأنف مشتمل على الفتحتين (المنخرين)
وعلى الحاجز بينهما؛ وتندرج حكومة قصبته في ديته، عند الفقهاء حتى الشافعية
(2) وفي كل من طرفي الأنف، والحاجز: ثلث الدية.
_________
(1) البدائع: 311/ 7، الشرح الكبير: 272/ 4 وما بعدها، مغني المحتاج: 61/ 4
وما بعدها، المهذب: 200/ 2، المغني: 1/ 8 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 62/ 4، كشاف القناع: 37/ 6.
(7/5749)
وأما اللسان
المتكلم به ـ لسان الناطق: ففيه الدية لقوله عليه السلام في حديث ابن حزم:
«وفي اللسان الدية».
وفي لسان الأخرس عند (المالكية والحنفية والشافعية): حكومة (أي تعويض يقدره
القاضي) وعند الحنابلة: فيه ثلث الدية (1)، أي حكومة، والحكومة عند
المالكية إذا لم يذهب الذوق، وإلا فالدية.
وفي لسان الطفل الذي لم ينطق دية عند الجمهور، وحكومة عند أبي حنيفة.
وفي الذكر أو الحشفة (رأس الذكر) ولو
لصغير وشيخ: الدية، للحديث السابق في الديات: «وفي الذكر الدية».
وفي ذكر الخصي والعنَّين (2) عند الحنفية والحنابلة: حكومة، وعند المالكية
على الراجح والشافعية: دية كاملة (3).
وفي الصلب إذا انقطع الماء وهو المني
الذي فيه: الدية، للحديث السابق في الديات: «وفي الصلب الدية».
وفي إتلاف كل من مسلك البول أو مسلك الغائط:
الدية عند الفقهاء، وهو الأقرب عند المالكية؛ لأن الجاني فوَّت منفعة
مقصودة بنحو كامل، فيجب عليه كمال الدية (4).
_________
(1) مغني المحتاج: 63/ 4، المغني: 16/ 8، البدائع: 311/ 7، اللباب: 154/ 3،
الشرح الكبير للدردير: 277/ 4، كشاف القناع: 41/ 6.
(2) وهو من لا يتأتى منه الجماع.
(3) اللباب شرح الكتاب: 154/ 3، الدردير في الكبير: 273/ 4، مغني المحتاج:
67/ 4، المغني: 33/ 8، كشاف القناع: 47/ 6 وما بعدها.
(4) البدائع: 311/ 7، الدردير والدسوقي: 277/ 4، مغني المحتاج: 74/ 4،
المغني: 51/ 8.
(7/5750)
وفي سلخ الجلد
عند الشافعية: الدية إذا لم ينبت، وبقيت حياة مستقرة في المسلوخ، ثم مات
بسبب آخر غير السلخ، كأن حز غير السالخ رقبته بعد السلخ (1).
وتجب الدية عند المالكية إذا أدت الجناية إلى تجذيم الجلد أو تبريصه، أو
تسويده (2).
وتجب عند الحنفية والحنابلة في الجلد حكومة عدل، إلا أن الحنفية قالوا: في
سلخ جلد الوجه كمال الدية (3).
وفي إزالة شعر الرأس أو اللحية أو الحاجبين:
ولم ينبت بعدئذ: الدية عند الحنفية والحنابلة. وأما عند المالكية
والشافعية: فيجب في الكل حكومة عدل (4).
النوع الثاني ـ الأعضاء التي في البدن منها
اثنان: وهي ما يأتي (5): اليدان، الرجلان، العينان، الأذنان،
الشفتان، الحاجبان إذا ذهب شعرهما نهائياً ولم ينبت، والثديان، والحلمتان،
والأنثيان، والشُّفران، والأليتان، واللَّحيان.
فإذا ذهب واحد منها ففيه نصف الدية.
أما اليدان إن قطعتا من الرسغ أو الكتف
أو المنكب (6) ففيهما الدية، لحديث معاذ: «وفي اليدين وفي الرجلين الدية»
ولحديث سعيد بن المسيب عن النبي صلّى الله عليه وسلم:
_________
(1) مغني المحتاج: 67/ 4 وما بعدها.
(2) الدردير والدسوقي: 272/ 4.
(3) الدر المختار: 413/ 5.
(4) البدائع: 312/ 7، الدرالمختار: 408/ 5 وما بعدها، الدردير والدسوقي:
277/ 4، مغني المحتاج: 79/ 4، كشاف القناع: 36/ 6، المغني: 10/ 8 وما
بعدها.
(5) البدائع: 311/ 7.
(6) المنكب: مَجْمع عظم العضد والكتف.
(7/5751)
«
في العينين الدية، وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية، وفي الشفتين
الدية، وفي الأذنين الدية، وفي الأنثيين الدية» (1) وفي اليد الواحدة نصف
الدية؛ لما روى مالك والنسائي في حديث عمرو بن حزم: «وفي اليد خمسون».
وأما الرِّجلان: ففيهما الدية، وفي الرِّجْل الواحدة نصف الدية، لحديث معاذ
وابن المسيب المتقدمين في دية اليدين، وحديث ابن حزم: «وفي الرِّجل خمسون».
والعينان: فيهما الدية لحديث ابن المسيب
المتقدم ولحديث عمرو بن حزم: «في العينين الدية، وفي اليدين الدية، وفي
الرِّجلين الدية، وفي الشفتين الدية، وفي العين خمسون» (2). وأما عين
الأعور ففيها عند مالك وأحمد وجماعة من الصحابة دية كاملة؛ لأنها في معنى
العينين، وفيها نصف الدية عند االشافعي، إذ لم يفصّل الدليل، وهو كتاب ابن
حزم بين عين المبصروعين الأعور.
والأذنان: فيهما الدية بالقطع أو القلع،
وفي أذن واحدة نصف الدية لخبر عمرو بن حزم: «في الأذن خمسون من الإبل» (3)
واشترط مالك لدية الأذنين ذهاب السمع، فإن لم يذهب ففيها حكومة.
والشفتان: فيهما الدية لخبر عمرو بن
حزم: «وفي الشفتين الدية». وفي كل شفة نصب الدية، عليا أو سفلى، صغرت أو
كبرت.
والحاجبان: إذا أزيل شعرهما ولم ينبت
فيهما الدية عند الحنفية والحنابلة.
_________
(1) قال عنه الزيلعي في (نصب الراية: 371/ 4): غريب.
(2) حديث عمرو بن حزم سبق تخريجه، وقد صححه ابن حبان، والحاكم، وحكى ابن
المنذر الإجماع فيه.
(3) رواه الدارقطني والبيهقي.
(7/5752)
وفي أحد الحاجبين: نصف الدية؛ لأن الجاني
أتلف جنس منفعة مقصودة، أو فوت جمالاً مقصوداً لذاته.
وعند المالكية والشافعية في إزالة شعر الحاجبين الحكومة فقط (أي التعويض
المقدر قضاء)؛ لأنه إتلاف جمال من غير منفعة، فلا تجب فيه الدية (1).
والثديان والحَلْمتان للمرأة: فيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية؛ لأن
فيهما جمالاً ومنفعة، فأشبها اليدين والرجلين. قال ابن المنذر: أجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة نصف الدية، وفي الثديين الدية.
واشترط مالك لدية الحلمتين انقطاع اللبن أو فساده، فإن لم ينقطع أو يفسد
فتجب حكومة عدل. أما الثديان ففيهما عنده الدية، انقطع اللبن أو لا (2).
والأنثيان: (الخُِصيتان) فيها الدية؛
لأنهما وكاء المني، ولحديث عمرو بن حزم: «وفي البيضتين الدية» (3).
والشُّفران (4): فيهما الدية، إذا قطعا أو أشلا، وفي أحدهما نصف الدية؛ لأن
فيهما جمالاً ومنفعة في المباشرة أو الجماع. فلو زالت بقطعهما البكارة وجب
أرشها مع الدية (5).
والأليان: فيهما الدية عند الحنفية
والشافعية والحنابلة. وفي واحدة منهما نصف الدية؛ لأن فيهما جمالاً ظاهراً
أو منفعة كاملة، وليس في البدن نظيرهما.
_________
(1) البدائع: 311/ 7، المغني: 11/ 8، الشرح الكبير للدردير: 277/ 4، بداية
المجتهد: 413/ 2، المهذب: 208/ 2.
(2) البدائع، المكان السابق، المغني: 30/ 8، الدردير: 273/ 4، مغني
المحتاج: 66/ 4.
(3) البدائع: المكان السابق، الدردير: 273/ 4، مغني المحتاج: 79/ 4،
المغني: 34/ 8.
(4) الشفران: هما اللحمان المحيطان
بحرفي فرج المرأة، المغطيان له، كما تحيط الشفتان بالفم.
(5) الدردير، المكان السابق، مغني المحتاج: 67/ 4.
(7/5753)
وقال المالكية في أليي الرجل: حكومة
اتفاقاً، وكذلك في المرأة قياساً على الرجل. وقال أشهب (1) في أليي (2)
المرأة خطأ: الدية.
واللَّحيان (3): فيهما الدية عند الشافعية والحنابلة (4)، وفي أحدهما نصف
الدية؛ لأن فيهما نفعاً وجمالاً، وليس في البدن مثلهما.
النوع الثالث - الأعضاء التي منها في البدن
أربعة: وهي الآتي:
أشفار العينين (وهي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر وهو الهُدْب) إذا
لم تنبت، والأهداب (وهي شعر الأشفار) إذا لم تنبت.
وأما الأشفار وحدها أو الجفون معها:
ففيها عند الجمهور دية: لأن منفعة الجنس، سواء قطع الشفر وحده أو قطع معه
الجفن؛ لأن الجفن تبع للشفر. وفي كل جُفن أو شُفْر ربع الدية؛ لأن فيهما
جمالاً ظاهراً، ونفعاً كاملاً. ويرى المالكية أن فيها حكومة عدل لعدم ورود
نص فيها، والتقدير لابد فيه من نص، ولا يثبت بالقياس كما يرى الجمهور (5).
وأما الأهداب (أو شعر الجفن): ففيهما
عند الحنفية والحنابلة: الدية؛ لأن الأهداب تابعة للأجفان كحلمة الثدي،
والأصابع مع الكف. وفيها عند المالكية إذا فسد منبتها: حكومة عدل كسائر
الشعور (6).
النوع الرابع - ما في البدن منه عشرة:
وهو أصابع اليدين، وأصابع الرجلين، وفي كل اصبع عشر الدية , لحديث عمرو بن
حزم: (وفي كل اصبع من اصابع اليد والرجل عشر من الابل) وفي كل أنملة ثلث
الدية إلا أنملة الإبهام ففيها نصف ديتها باتفاق المذاهب الأربعة.
ولا يفضل أصبع على أصبع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «في كل أصبع عشر من
الإبل، وفي كل سن خمس من الإبل، والأصابع سواء، والأسنان سواء» (7) وفي
الأصبع الزائدة أو الشلاء حكومة عدل (8).
وأما الأسنان الـ (32): ففيها الدية،
وفي كل سن خمس من الإبل أو خمس مئة درهم ما لم تصل إلى مقدار الدية، للحديث
السابق، ولحديث ابن حزم: «وفي السنِّ خمس من الإبل» سواء أكانت السن صغيرة
أم كبيرة، دائمة أم لبنية (مؤقتة قابلة للتبدل) أما السن الزائدة ففيها
حكومة. وأما ما يترتب على تغير السن من الشَّين كسواد أواخضرار أو حمرة،
ففيه أرش السن عند الحنفية وحكومة عدل عند غيرهم (9). وقيد المالكية إيجاب
التعويض في الخضرة أو الاصفرار بما إذا كانت مثل السواد عرفاً. وفي الصفرة
عند الحنفية حكومة (10).
_________
(1) الدردير: 277/ 4، مغني المحتاج: 67/ 4.
(2) الألية: بالفتح ألية الشاة، ولا تقل: إلية بالكسر، ولا لِيَّة،
وتثنيتها «اليان» بغير تاء.
(3) اللحيان: هما العظمان اللذان فيهما
الأسنان السفلى أي الفك السفلي.
(4) المغني: 27/ 8، كشاف القناع: 44/ 6، مغني المحتاج: 65/ 4.
(5) البدائع: 311/ 7، 324، الدردير: 277/ 4، المهذب: 201/ 2، مغني المحتاج:
62/ 4، المغني: 7/ 8.
(6) المراجع السابقة.
(7) رواه الخمسة إلا الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(8) البدائع: 314/ 7، 303، 318، تبيين الحقائق: 134/ 6، الدردير: 278/ 4،
مغني المحتاج: 66/ 4، المغني: 35/ 8 وما بعدها.
(9) وهناك رواية أخرى عند الحنابلة في التسويد أو الاخضرار: أن الواجب أرش
أو دية السن: خمس من الإبل.
(10) البدائع: 315/ 7، الدردير: 278/ 4 وما بعدها، مغني المحتاج: 63/ 4 وما
بعدها، كشاف القناع: 42/ 6، المغني: 21/ 8 وما بعدها.
(7/5754)
المطلب الثاني ـ
تعطيل منافع الأعضاء (أو إذهاب المعاني):
يعاقب الجاني إذا عطل منفعة عضو غيره أو أذهب معناه مع بقاء هيكله (أو
صورته أو آلته)، كذهاب البصر أو السمع، أو
الذوق أو الشم، أو اللمس، أو المشي أو البطش أو النطق أو العقل، أو
شلل اليد أو الرجل، أو القدرة على الجماع. وقد عد بعضهم المنافع عشرين أو
أكثر، منها: عقل، سمع، بصر، شم، صوت، ذوق، مضغ، إمناء، إحبال، جماع، إفضاء،
بطش، مشي، ذهاب شعر، أو جلد أو مشي وغير ذلك.
والقاعدة في عقوبة هذه الجنايات: هي محاولة القصاص، كلما أمكن، من الناحية
العملية، فإن لم يمكن القصاص وجبت الدية أو الأرش المقدر شرعاً (1).
ففي البصر الدية؛ لأنه أبطل منفعة العينين. جاء في كتاب عمرو بن حزم: «وفي
العينين الدية». وفي السمع الدية لحديث معاذ: «في السمع الدية» (2)،ونقل
ابن المنذر الإجماع فيه، ولأنه من أشرف الحواس، فكان كالبصر، بل هو أشرف
منه عند أكثر الفقهاء؛ لأن به يدرك الفهم، فلو فقد بضربة واحدة سمعه وبصره،
فعليه ديتان.
وفي الشم لقوله عليه الصلاة والسلام في
حديث عمرو بن حزم: «في المشام الدية».
وفي إبطال الذوق: الدية؛ لأنه أحد الحواس الخمس، فأشبه الشم.
وفي إذهاب الكلام: دية لخبر البيهقي:
«في اللسان الدية إن منع الكلام» ولأن اللسان عضو مضمون بالدية، فكذا
منفعته العظمى كاليد والرجل.
_________
(1) البدائع: 311/ 7، الدردير: 271/ 4 وما بعدها، المهذب: 201/ 2 وما
بعدها، مغني المحتاج: 68/ 4 وما بعدها، المغني: 37/ 8 وما بعدها، كشاف
القناع: 32/ 6 وما بعدها.
(2) رواه البيهقي.
(7/5756)
وفي ذهاب العقل:
الدية لخبر عمرو بن حزم: «وفي العقل الدية».
وفي ذهاب جماع بجناية على الصلب: دية،
لحديث عمرو بن حزم: «وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية» والمقصود من ذلك:
الجماع. وقال المالكية: لو كسر صلبه، فأبطل إنعاظه فعليه ديتان، فهم يجعلون
لتعطيل قوة الجماع دية، بأن فعل معه فعلاً كضربه، فأبطل إنعاظه، ولكسر
الصلب دية أخرى، وإن كانت قوة الجماع فيه.
وقال الشافعية والحنابلة (1): لو كسر شخص صلب المجني عليه، فذهب مع سلامة
الرجل والذكر مشيه وجماعه، أو مشيه ومنيه، فعليه ديتان؛ لأن كل واحد منهما
مضمون بالدية عند الانفراد، فكذا عند الاجتماع.
فإن ذهب بعض منفعة العضو وجب فيه بعض
الدية إن كان التبعيض معروفاً أو ممكن التقدير، كذهاب بصر عين واحدة، أو
ذهاب سمع أذن واحدة دون الأخرى.
فإن لم يمكن التقدير يجب عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة):
حكومة. وعند المالكية: يقابل النقص بما يناسبه من الدية، أي بحساب ما ذهب
(2).
المطلب الثالث ـ عقوبة الشجاج إما أن
يجب القصاص في الشجة وإما أن يجب الأرش، والأرش إما مقدر أو غير مقدر، وفي
كل من الشجاج والجراح إما أرش مقدر أو غير مقدر.
_________
(1) مغني المحتاج: 76/ 4، كشاف القناع: 47/ 6.
(2) الدردير: 272/ 4، مغني المحتاج: 77/ 4، المغني: 16/ 8، كشاف القناع:
32/ 6، 38، 47.
(7/5757)
أولاً ـ ما يجب فيه أرش مقدر: عقوبة الشجة:
هي الأرش، والأرش نوعان كما تقدم: مقدر وغير مقدر.
والأرش المقدر: هو ما حدد له الشرع مقداراً مالياً معلوماً. ويجب في
الأعضاء وفي الشجاج والجراح، ففي الأعضاء أو الأطراف كما تبين إما أن تجب
الدية كاملة بتفويت جنس المنفعة كقطع اليدين أو الرجلين، أو فقء العينين،
وقطع الأذنين، وقد يجب الأرش بتفويت بعض منفعة الجنس، فيكون الأرش نصف
الدية كما في قطع يد أورجل واحدة أو قلع عين أو قطع أذن واحدة. وقد يكون
الأرش ربع الدية كما في الجفن الواحد، أو الشَّفْر أو هُدب العين، وقد يكون
الأرش عشر الدية كما في قطع إحدى أصابع اليد أو الرجل. وقد يكون نصف عشر
الدية، أي خمس من الإبل، كما في السن أو الضرس. فهذا كله هو الأرش المقدر
(1).
ثانياً ـ ما يجب فيه حكومة عدل: الأرش غير المقدر: هو حكومة العدل وهي ما
لم يحدد له الشرع مقداراً معلوماً، وترك أمر تقديره للقاضي، والقاعدة فيها:
أن ما لا قصاص فيه من الجنايات على ما دون النفس، وليس له أرش مقدر: فيه
الحكومة (2) كإزالة الأشعار عند الشافعية، وعند الحنفية (3)، ومثل كسر
الضلع، وكسر قصبة الأنف، وكسر كل عظم من البدن سوى السن. وكذا في ثدي
الرجل، وفي حلمة ثدييه، وفي
_________
(1) البدائع: 314/ 7، الدر المختار: 409/ 5 وما بعدها، 413.
(2) البدائع: 323/ 7.
(3) البدائع: 323/ 7، الدر المختار: 413/ 5 وما بعدها، الشرح الصغير
للدردير: 381/ 4، مغني المحتاج: 77/ 4، المغني: 56/ 8.
(7/5758)
لسان الأخرس، وذكر الخصي والعنِّين، والعين
القائمة الذاهب نورها، والسن السوداء، واليد أو الرجل الشلاء، والذكر
المقطوع الحشفة، والكف المقطوع الأصابع، والأصبع الزائدة، وكسر الظفر
وقلعه، ولسان الطفل ما لم يتكلم، وفي ثدي المرأة المقطوعة الحلمة، والأنف
المقطوع الأرنبة، والجفن الذي لا أشفار له.
ومن المتفق عليه أن ما قبل الموضحة من الشجاج ليس له أرش مقدر.
وحكومة العدل: هي على الجاني، ولا تتحملها العاقلة، وتقدر الحكومة في
الشجاج بأن ينظر كم مقدار هذه الشجة من الموضحة، فيجب بقدر ذلك من أرش
الموضحة، وهو نصف عشر الدية (1). والمفتى به عند الحنفية ومذهب الشافعية:
أنها هي بمقدار التفاوت بين القيمتين: في الحر من الدية وفي العبد من
القيمة، فإن نقص الحر عشر قيمته أخذ عشر ديته، وهكذا بعد افتراض كون
المشجوج عبداً.
والشجاج: هي جراحات الرأس والوجه خاصة (2)، وهي عند الحنفية إحدى عشرة شَجة
(3):
1 - الحارصة: هي التي تحرص الجلد أي تشقه ولا يظهر منها الدم.
2 - الدامعة: هي التي يظهر منها الدم ولا يسيل كالدمع في العين، وتسمى
أيضاً الخارصة: وهي التي تكشط الجلد.
3 - الدامية: هي التي يسيل منها الدم، بأن تضعف الجلد بلا شق له حتى يرشح
الدم. وتسمى عند الحنابلة البازلة أو الدامعة.
_________
(1) الدر المختار: 412/ 5، 416، المهذب: 199/ 2، البدائع: 324/ 7.
(2) أما جراح الجسم فيما عد االرأس والوجه فتسمى «الجراح». فالشجة إذن: هي
ما كان في الرأس والوجه. والجراحة: ماكان في سائر البدن غير الرأس والوجه.
(3) البدائع: 296/ 7، الدر المختار: 411/ 5، تكملة فتح القدير: 311/ 8،
تبيين الحقائق: 132/ 6.
(7/5759)
4 - الباضعة: هي التي تبضع اللحم، أي تقطعه
وتشقه.
5 - المتلاحمة: هي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة ولم تقرب
للعظم، هذا ما روى أبو يوسف، وقال محمد: المتلاحمة قبل الباضعة: وهي التي
يتلاحم منها الدم ويسود.
6 - السِّمحاق: هي التي تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة التي بين اللحم
والعظم. وهذه الجلدة هي السمحاق، فسميت الشجة بها لوصولها إليها، ويسميها
الشافعية الملطاط: وهي التي تستوعب اللحم إلى أن تبقى غشاوة رقيقة فوق
العظم.
7 - الموضحة (1): هي التي تخترق السمحاق، وتوضح العظم، أي تظهره وتكشفه،
ولو قدر مغرز إبرة.
8 - الهاشمة: هي التي تهشم العظم، أي تكسره.
9 - المنقِّلة: هي التي تنقل العظم بعد كسره، أي تحوله عن مكانه.
10 - الآمَّة (أو المأمومة): هي التي تصل إلى أم الدماغ: وهي جلدة تحت
العظم وفوق الدماغ أي المخ.
11 - الدامغة: هي التي تخرق غشاء الدماغ، وتصل إلى الدماغ.
والجمهور يرون الشجاج عشرة. أما المالكية (2) فيحذفون الثانية وهي الدامعة،
ويسمون الأولى دامية، والثانية حارصة، والثالثة سمحاقاً، والسادسة ملطاة أو
ملطاط بتسمية أهل البلد، ويخصصون الآمة والدامغة بالرأس، والباقي في الرأس
أو الخد.
_________
(1) بتخفيف الضاد أو بتشديدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 250/ 4 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 350.
(7/5760)
وأما الشافعية والحنابلة (1): فيحذفون
أيضاً الثانية وهي الدامعة، ويقال عند الشافعية عن الأولى: الخارصة؛ وهي
التي تكشط الجد، ويسميها الحنابلة كالجمهور الحارصة، أو الملطاة، والخمسة
الأولى لا مقدر فيها من الشرع.
نوعا عقوبة الشجاج: عقوبة الشجاج كما
تقدم: إما عقوبة أصلية وهي القصاص إذا أمكن، أو عقوبة بدلية وهي الأرش.
العقوبة الأصلية في الشجاج ـ القصاص:
القاعدة في القصاص في جنايات العمد: أنه كلما أمكن وجب استيفاؤه، وإذا لم
يمكن وجب الأرش. وعليه تعرف أحوال القصاص في الشجاج، ففي كل شجة يمكن فيها
المماثلة: القصاص.
لا خلاف في أن الموضحة فيها القصاص، لعموم قوله سبحانه وتعالى: {والجروحَ
قصاص} [المائدة:45/ 5] إلا ما خص بدليل، ولأنه يمكن استيفاء القصاص فيها
على سبيل المماثلة؛ لأن لها حداً تنتهي إليه السكين، وهو العظم.
ويعتبر قدر الموضحة بالمساحة طولاً وعرضاً في قصاصها، لابحجم الرأس كبراً
وصغراً؛ لأن الرأسين قد يختلفان في ذلك.
ولا خلاف في أنه لا قصاص فيما بعد أو فوق الموضحة لتعذر استيفاء القصاص
فيها على وجه المماثلة أوالمساواة.
وأما ما دون الموضحة ففيها خلاف:
_________
(1) مغني المحتاج: 58/ 4 وما بعدها، المهذب: 198/ 2، المغني: 42/ 8 وما
بعدها، كشاف القناع: 51/ 6 وما بعدها.
(7/5761)
1 - قال المالكية (1)، وهو الأصح وظاهر
الرواية عند الحنفية (2): فيها القصاص، سواء أكانت في الرأس أم في الخد،
لإمكان المساواة، بأن يسبر غورها بمسبار، ثم يتخذ حديدة بقدره، فيقطع.
واستثنى في الشرنبلالية السمحاق، فلا يقاد إجماعاً.
2 - وقال الشافعية والحنابلة (3): لا قصاص فيما دون الموضحة، لعدم إمكان
تحقيق المماثلة، ولحديث مرسل: «لا طلاق قبل ملك، ولا قصاص فيما دون الموضحة
من الجراحات» (4). وعلى هذا فلا قصاص في الشجاج في هذين المذهبين سوى
الموضحة.
العقوبة البدلية في الشجاج ـ الأرش:
الأرش كما عرفنا: هو التعويض المالي الواجب بالجناية على ما دون النفس.
ويرى أكثر الفقهاء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة: أنه ليس في موضحة غير الرأس
والوجه أرش مقدر، لقول الخليفتين الراشدين: «الموضحة في الوجه والرأس» (5).
كما أنه ليس فيما دون الموضحة من الشجاج أرش مقدر أيضاً، بل فيه
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 350، بداية المجتهد: 399/ 2 وما بعدها، 411، الشرح
الكبير للدردير: 250/ 4 وما بعدها.
(2) البدائع: 309/ 7، الدر المختار ورد المحتار: 391/ 5، 412، اللباب شرح
الكتاب: 147/ 3.
(3) المهذب: 198/ 2، مغني المحتاج: 26/ 4، 59، المغني: 42/ 8، كشاف القناع:
51/ 6 وما بعدها.
(4) أخرجه البيهقي عن طاوس، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن وعمر بن
عبد العزيز ما يؤيده (نصب الراية: 374/ 4).
(5) المغني: 44/ 8.
(7/5762)
حكومة عدل (1)؛ إذ ليس فيه أرش مقدر في
الشرع، ولا يمكن إهدارها، فوجب فيها حكومة عدل. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه
عن الحسن وعمر بن عبد العزيز أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون
الموضحة بشيء (2).
واتفقوا على أن ما فيه أرش مقدر من الشجاج هو الموضحة فما بعدها، لورود
الشرع بتقديره، كما يتبين من حديث عمرو بن حزم في الديات: «وفي المأمومة
ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقِّلة خمس عشرة من الإبل، وفي
كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي
الموضحة خمس من الإبل» (3).
في الموضحة: خمس من الإبل، أي نصف عشر الدية، لحديث «في الموضحة خمس من
الإبل».
وفي الهاشمة: عشر من الإبل، أي عُشر الدية؛ لحديث ابن حزم: «وفي الهاشمة
عشر». ويلاحظ أن الهاشمة عند المالكية هي في جراح البدن. وبدلها في الوجه
والرأس: المنقلة.
وفي المنقِّلة: خمس عشرة من الإبل، لحديث ابن حزم «وفي المنقلة خمس عشرة من
الإبل».
وفي الآمة أو المأمومة: ثلث الدية، لحديث ابن حزم: «وفي المأمومة ثلث
الدية».
_________
(1) البدائع: 324/ 7، الدر المختار: 412/ 5، الشرح الكبير للدردير: 271/ 4،
مغني المحتاج: 59/ 4، المغني: 54/ 8 وما بعدها.
(2) نصب الراية: 374/ 4.
(3) نيل الأوطار: 57/ 7، نصب الراية: 374/ 4 وما بعدها.
(7/5763)
وفي الدامغة: ثلث الدية، قياساً على
المأمومة.
المطلب الرابع ـ عقوبة الجراح:
الجراح: ما كان في سائر البدن عدا الرأس والوجه، وهي نوعان: جائفة، وغير
جائفة (1).
والجائفة: هي التي تصل إلى الجوف، من الصدر أو البطن، أو الظهر، أو الجنين
أو ما بين الأنثيين، أو الدبر، أو الحلق.
ولا تكون الجائفة في اليدين والرجلين، ولا في الرقبة؛ لأنه لا يصل إلى
الجوف.
وغير الجائفة: هي التي لا تصل إلى الجوف، كالرقبة أو اليد أو الرجل.
وعقوبة الجراح: إما أصلية أو بدلية.
العقوبة الأصلية في جراح العمد ـ القصاص:
لا قصاص في الجائفة والمأمومة والمنقّلة؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم
رفع القَوَد في المأمومة، والمنقّلة، والجائفة، ولأنه يخشى منها الموت،
وإنما فيها الدية. وفيما عدا ذلك اختلف الفقهاء:
1 - فقال الحنفية (2): إنه لا قصاص في شيء من الجراح إذا لم يمت المجروح،
سواء أكانت الجراحة جائفة أم غيرها؛ لأنه لا يمكن استيفاء القصاص فيها على
وجه المماثلة.
_________
(1) البدائع: 296/ 7.
(2) البدائع: 310/ 7، رد المحتار على الدر المختار: 310/ 5.
(7/5764)
فإن مات المجروح بسبب الجراحة، وجب القصاص؛
لأن الجراحة صارت بالسراية نفساً، لهذا قالوا: «لا يقاد جرح إلا بعد برئه».
2 - وقال المالكية (1): يجب القصاص في جراح العمد، كلما أمكن التماثل ولم
يخش منه الموت، لقوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/ 5].
وذلك بأن يقيس أهل الطب والمعرفة طول الجرح وعرضه وعمقه ويشقون مقداره في
الجارح.
3 - وقال الشافعية والحنابلة (2): يقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم، كالموضحة
في الوجه والرأس، وجرح العضد والساعد والفخذ والساق والقدم؛ لأنه يمكن
استيفاؤه على سبيل المماثلة من غير حيف ولا زيادة، لانتهائه إلى عظم؛ لأن
الله نص على القصاص في الجروح.
ويشترط في القصاص في جراح العمد ما يشترط في قصاص النفس حال العمد من كون
الجاني مكلفاً (بالغاً عاقلاً)، وعصمة المجني عليه، وتكافؤ الجاني والمجني
عليه على الخلاف المذكور سابقاً في الشجاج، كما تشترط الشروط الخاصة بقصاص
الأطراف (3). ولا قصاص في جراح العمد إلا إذا أمكن تحقيق المماثلة، ولا
قصاص في الشجاج إلا في الموضحة إذا كانت عمداً، ولا قصاص في اللسان، ولا في
كسر عظم إلا في السن؛ لأنه لا يمكن الاستيفاء من غير ظلم.
القصاص بعد البرء: لا يجوز القصاص في
الأطراف والجراح عند الجمهور (4) إلا بعد اندمال أو برء الجرح، لما روى
جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى أن يستقاد
_________
(1) بداية المجتهد: 399/ 2، القوانين الفقهية: ص 350.
(2) مغني المحتاج: 23/ 4، المغني: 686/ 7 وما بعده، 748، كشاف القناع: 651/
5.
(3) البدائع: 310/ 7، بداية المجتهد: 399/ 2، مغني المحتاج: 25/ 4، المغني:
702/ 7 وما بعدها.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 390/ 5، المغني: 729/ 7، 59/ 8، تبيين
الحقائق: 138/ 6، بداية المجتهد: 400/ 2، الشرح الصغير: 381/ 4.
(7/5765)
من الجارح، حتى يبرأ المجروح» (1) ولأن
الجراحات ينظر إلى مآلها، لاحتمال أن تسري إلى النفس، فيحدث القتل، فلا
يعلم أنه جرح إلا بالبرء.
وقال الشافعية (2): إن كان القصاص في الطرف، فالمستحب ألا يستوفى إلا بعد
استقرار الجناية بالاندمال (أي البرء) أو بالسراية إلى النفس، فإن استوفي
قبل الاندمال جاز، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رجلاً طعن
رجلاً بقرْن في ركبته، فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: أقدني،
فقال: حتى تبرأ، ثم جاء إليه، فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه، فقال: يا
رسول الله، عرجتُ، قال: قد نهيتك، فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عرجك، ثم نهى
رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه» (3).
تأجيل القصاص لعذر: اتفق الأئمة على أنه
يؤخر القصاص في الطرف أو النفس عن المرأة الحامل حتى تضع حملها وترضع
وليدها، ويستغني عنها ولدها بإرضاع من جهة أخرى. وقال المالكية: يؤخّر
القصاص فيما دون النفس لعذر كبرد شديد أو حر يخاف منه الموت.
العقوبة البدلية في جراح العمد ـ الأرش:
إذا تعذر تنفيذ القصاص في الجراح، لعدم إمكان تحقيق المماثلة وجب الأرش،
والأرش هنا: هو الأقل من الدية.
وقد عرفنا أن جراح البدن: إما جائفة أو غير جائفة:
_________
(1) رواه الدارقطني، وأبو بكر بن أبي شيبة مسنداً ورواه البيهقي وأحمد
مرسلاً (نيل الأوطار: 27/ 7).
(2) المهذب: 185/ 2.
(3) رواه أحمد والدارقطني.
(7/5766)
ففي الجائفة: ثلث الدية لحديث عمرو بن حزم:
«وفي الجائفة ثلث الدية».
وغير الجائفة: فيها حكومة عدل.
حكومة العدل (ضابطها وتقديرها) أشرت لذلك سابقاً، وأوضح الآن مايلي:
أما ضابط حكومة العدل فهو: كل ما لا قصاص فيه من الجنايات على ما دون
النفس، وليس له أرش مقدر، ففيه حكومة (1). مثل كسر العظم إلا السن، واليد
الشلاء ونحوها.
وأما كيفية تقديرها: فقد أشرت لطريقتين، أولاهما للطحاوي الحنفي وهي المفتى
بها عند الحنفية، والمقررة في المذاهب الأخرى (2): وهي أن يقوَّم المشجوج
أو المجروح كما لو كان عبداً بدون شج أو جرح، ثم يقوَّم وهما به، فيجب
بمقدار التفاوت بين القيمتين، بنسبتهما من الدية في الأحرار، فلو كانت
قيمته وهو عبد صحيح عشرة، وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة، فيكون فيه عشر
ديته.
ولكن يتعذر اللجوء لهذه الطريقة في الوقت الحاضر، لعدم وجود الرق.
والطريقة الثانية ـ هي للكرخي: وهي أن تقرب الجناية إلى أقرب الجنايات التي
لها أرش مقدر، ففي الشجاج مثلاً ينظر كم مقدار الشجة من الموضحة، فيجب بقدر
ذلك من نصف عشر الدية المقرر للموضحة (3).
_________
(1) البدائع: 323/ 7، القوانين الفقهية: ص 354، مغني المحتاج: 77/ 4،
المغني: 55/ 8.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 412/ 5، البدائع: 324/ 7، الدردير في
الشرح الكبير: 271/ 4، مغني المحتاج: 77/ 4، المغني: 56/ 8 وما بعدها.
(3) الدر المختار: 412/ 5.
(7/5767)
غير أن هذه الطريقة محصورة التطبيق في شجاج
الرأس والوجه.
وقيل بطريقة ثالثة ربما كانت أنسب الطرق في عصرنا، وهي أن تقدر الجناية
بمقدار ما يحتاج إليه المجني عليه من النفقة وأجرة الطبيب والأدوية إلى أن
يبرأ (1). فإن لم يبرأ الجرح وأحدث عاهة مستديمة، أو ترك أثراً دائماً
فيلاحظ الأثر.
ولا يكون التقويم إلا بعد برء الجرح؛ لأن أرش الجرح المقدر إنما يستقر بعد
برئه، فإن لم تنقصه الجناية شيئاً، مثل: إن قطع أصبعاً أو يداً زائدة، أو
قلع لحية امرأة، فلم ينقصه ذلك، بل زاده حسناً فلا شيء على الجاني؛ لأن
حكومة العدل لأجل جبر النقص، ولا نقص حينئذ، فأشبه ما لو لطم وجهه فلم يؤثر
(2).
دية جراح المرأة: للفقهاء رأيان في
تقدير ديات جراح المرأة:
1 - قال الحنفية والشافعية (3): الجناية على ما دون النفس في المرأة تقدر
بحسب ديتها، وبما أن دية المرأة نصف دية الرجل، فتكون جراحها وشجاجها نصف
جراح الرجل وشجاجه، إلحاقاً لجُرحها بنفسها.
2 - وقال المالكية والحنابلة (4): دية جراح المرأة كدية جراح الرجل فيما
دون ثلث الدية الكاملة، فإن بلغت الثلث أو زادت عليها رجعت إلى نصف دية
الرجل. وعلى هذا إن قطعت أصبع المرأة ففيها عشر من الإبل، وإن قطعت ثلاث
أصابع ففيها ثلاثون من الإبل، فإن قطع أربعة أصابع ففيها عشرون من الإبل.
_________
(1) الدر المختار، المكان السابق.
(2) المغني: 59/ 8، الدر المختار: 415/ 5، تبيين الحقائق: 138/ 6.
(3) البدائع: 322/ 7، مغني المحتاج: 57/ 4.
(4) القوانين الفقهية: ص 354، المغني: 797/ 7 وما بعدها.
(7/5768)
ودليلهم ما روى النسائي عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عقل المرأة مثل عقل
الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها». وروى مالك في الموطأ، والبيهقي، وسعيد بن
منصور عن ربيعة قال: قلت لسعيد بن المسيب، كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر،
قلت: ففي أصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون، قلت: ففي
أربع؟ قال: عشرون. قال ربيعة: لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟ قال سعيد: هكذا
السنة ياابن أخي.
ويضيف البيهقي جواباً على اعتراض ربيعة قول ابن المسيب: أعراقي أنت؟ قال
ربيعة: عالم متثبت، أو جاهل متعلم، قال: يا ابن أخي، إنها السنة (1).
المبحث الثاني ـ عقوبة الجناية على ما دون
النفس خطأ:
إن عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ، هي الدية أو الأرش (2). والدية
المقصودة هنا هي الكاملة، والأرش المقصود هنا: هو الأقل من الدية. وليس
هناك أية عقوبة بدلية أخرى. وقد أبنت أحوال وجوب الدية والأرش في إبانة
الأطراف والشجاج والجراح العمد.
ولكن من يتحمل الدية أو الأرش المقدر (لا حكومة العدل عند الحنفية) في حال
الخطأ؟ العاقلة هي التي تتحملها فيما زاد عن نصف عشر الدية في رأي الحنفية،
أو عن ثلث الدية ولو في الطرف أو الجرح في رأي المالكية والحنابلة.
_________
(1) قال الشافعي: كنا نقوم به، ثم وقفت عنه، وأنا أسأل الله الخيرة، لأنا
نجد من يقول: السنة، ثم لا نجد نفاذاً بها عن النبي صلّى الله عليه وسلم،
والقياس أولى بنا فيها. وأول الحنفية السُّنة بأنها سنة زيد بن ثابت (نصب
الراية: 364/ 4).
(2) الدر المختار: 415/ 5 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 351، مغني
المحتاج: 95/ 4، 778/ 7.
(7/5769)
وتتحمل العاقلة عند الشافعية كل التعويض
الواجب، حتى الحكومات قل أو كثر، كما تبين في مقدار ما تتحمله العاقلة في
شبه العمد.
ويلاحظ أن عمد الصبي والمجنون عند الجمهور خطأ تحمله العاقلة (1)، والأظهر
عند الشافعية كما بان سابقاً: أن عمد الصبي عمد إذا كان مميزاً، وإلا فهو
خطأ، لكن لا قصاص عليه في حالة العمد، لكن تجب الدية في ماله، ولا تتحملها
عنه عاقلته (2).
_________
(1) المغني 776/ 7، الدر المختار: 415/ 5 وما بعدها، بداية المجتهد: 404/ 2
وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 347.
(2) مغني المحتاج: 10/ 4، المهذب: 174/ 2.
(7/5770)
|