الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثّالث: الجِناية على نفس غير مكتملة (الجناية على الجنين، أو الإجهاض) إذا ضرب إنسان (أب أو أم أو غيرهما) امرأة حاملاً على بطنها أو ظهرها، أو جنبها أورأسها أو عضو من أعضائها، أو أخافها بالضرب أو القتل أو الصياح عليها فأجهضت أوألقت جنينها، فإما أن تلقيه ميتاً أو حياً، وفيه مبحثان:
المبحث الأول ـ حالة إلقاء الجنين ميتا ً:
إذا انفصل الجنين عن أمه ميتاً، فعقوبة الجاني هي دية الجنين، ودية الجنين ذكراً أو أنثى، عمداً أو خطأ: غرة (1) ـ عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل، أي نصف عشر الدية، أو ما يعادلها وهو خمسون دينارا أو خمس مئة درهم عند الحنفية أو ست مئة درهم عند الجمهور (2)،على الخلاف في تقويم الدينار بالدراهم.
والدليل عليه أحاديث صحيحة متعددة، منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما
_________
(1) غرة كل شيء: خياره، وسمي العبد أو الأمة غرة؛ لأنهما من أنفس الأموال، وأصل الغرة: البياض في وجه الفرس.
(2) البدائع: 325/ 7، الشرح الكبير للدردير: 268/ 4، مغني المحتاج: 103/ 4، المهذب: 198/ 2، المغني: 799/ 7، بداية المجتهد: 407/ 2.

(7/5771)


في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقضى أن دية جنينها غرة ـ عبد أو وليدة (1)، وقضى بدية المرأة (2) على عاقلتها» (3).

من تجب عليه الغرة: إذا كانت الجناية عمداً، وجبت مغلظة، أي حالَّةً معجلة في مال الجاني المتعمد، ولا يتصور العمد إلا عند المالكية، وبناء عليه قالوا: دية الجنين تكون حالَّة معجلة لا منجَّمة (أي مقسّطة)، وتكون من النقدين: الذهب أو الفضة، ولا تكون من الإبل، وتكون في مال الجاني في العمد مطلقاً، وكذا في حالة الخطأ إلا أن تبلغ ثلث دية الجاني فأكثر، فتكون حينئذ على العاقلة (4)، كما لو ضرب مجوسي مسلمة فألقت جنيناً.
وأما في حالة الخطأ أو شبه العمد، وهذا هو المتصور عند الجمهور، فتحمل العاقلة الدية، والجاني واحد من العاقلة عند الجمهور، وليس واحداً منها عند الحنابلة، كما بان في دية القتل شبه العمد. والدليل له حديث المغيرة: «أن امرأة ضربتها ضَرَّتها بعمود فِسطاط (خيمة)، فقتلتها وهي حبلى، فأتي بها النبي صلّى الله عليه وسلم، فقضى فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين غرة، فقال عصبتها: أندي مالا طعِم ولا شرب ولا صاح ولا استهل (5)، مثل ذلك يُطَلّ (6)؟ فقال: سجع مثل سجع الأعراب» (7).
_________
(1) الوليدة: الأمة الصغيرة، أقل سنها سبع سنين، ولذا عبر عنها بوليدة دون أمة لئلا يتوهم اشتراط كبرها.
(2) التي توفيت بعدئذ.
(3) متفق عليه بين أحمد والشيخين. قال ابن تيمية: وفيه دليل على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة (نيل الأوطار: 69/ 7).
(4) الشرح الكبير: 268/ 4، بداية المجتهد: 408/ 2، القوانين الفقهية: ص 347، 351.
(5) استهل المولود: صاح عند الولادة.
(6) يطل: أي يبطل ويهدر.
(7) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، والترمذي ولكنه لم يذكر اعتراض العصبة وجوابه. واستدل بذلك على ذم السجع في الكلام، وكراهته إذا كان ظاهر التكلف. ولا يكره إذا كان عفوياً وهو حق أو في مباح.

(7/5772)


لكن الشافعية قالوا: إن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففة، وإن كانت شبه عمد، وجبت دية مغلظة كما في الدية الكاملة. ونص الحنفية على أن العاقلة تضمن الغرة إذا أسقطت الأم عمداً جنينها ميتاً بدواء أو فعل، كأن ضربت هي بطنها، بلا إذن زوجها. فإن أذن أو لم يتعمد فلا غرة، لعدم التعدي (1). ولا خلاف بين العلماء في إلزام الأم بالغرة في هذه الحالة، وأضاف إليها الشافعية والحنابلة وجوب الكفارة (2).
وتتعدد الغرة بتعدد الأجنة.
وتجب دية الجنين عند الحنفية والحنابلة في سنة (3)، وهو الأصح عند الشافعية (4)؛ لأن التأجيل في ثلاث سنين خاص بدية نفس كاملة. فإن كانت الدية بمقدار ثلث دية المسلم كدية الذمي فتؤجل سنة فقط. ومثلها دية المأمومة.

من تجب له الغرة: اتفق أئمة المذاهب الأربعة وهو الراجح عند المالكية (5) على أن الغرة تورث عن الجنين بحسب الفرائض الشرعية المعلومة لذوي الفرض والتعصب. والجاني الضارب إذا كان قريباً ولو أباً لا يرث من الغرة شيئاً؛ لأنه قاتل بغير حق، والقاتل لا يرث بنص الحديث النبوي.
شروط وجوب دية الجنين: يشترط لوجوب دية الجنين شرطان:
1ً - أن تؤثر الجناية في الجنين كضرب أو إيجار دواء ونحوهما.
_________
(1) الدر المختار ومناقشة رد المحتار: 418/ 5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 142/ 6.
(2) المغني: 816/ 7، الشرح الكبير: 268/ 4، كشاف القناع: 21/ 6.
(3) تبيين الحقائق: 140/ 6، كشاف القناع: 64/ 6.
(4) المهذب: 198/ 2، مغني المحتاج: 55/ 4، 97 ومابعدها.
(5) البدائع: 326/ 7، الدر المختار: 417/ 5، تبيين الحقائق: 142/ 6، الشرح الكبير: 269/ 4، الشرح الصغير: 380/ 4، مغني المحتاج: 104/ 4، المغني: 805/ 7، كشاف القناع: 22/ 6.

(7/5773)


2ً - انفصال الجنين ميتاً، فلو لم ينفصل أو انفصل حياً، لم تجب له الدية.

هل تجب الكفارة على الضارب؟ لا كفارة عند الحنفية (1) على الضارب، إن سقط الجنين كامل الخلقة ميتاً، إلا أن يشاء ذلك، فهو أفضل، تقرباً إلى الله تعالى بما يشاء إن استطاع، ويستغفر الله سبحانه مما صنع، أي أنه لا كفارة وجوباً بل ندباً.
وكذلك قال المالكية (2): تستحب الكفارة في قتل الجنين، ولا تجب.
وقال الشافعية والحنابلة (3): تجب الكفارة في الإجهاض، سواء ألقت الأم الجنين حياً أم ميتاً؛ لأنه نفس مضمونة، ولقوله تعالى: {ومن قتَل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء:92/ 4] والجنين محكوم بإيمانه تبعاً لأبويه أو لأحد أبويه. وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، وقد نص الله على الكفارة في أهل الميثاق. فمن لم يجد الرقبة حساً، أو شرعاً بأن وجدها بأكثر من ثمن المثل، صام شهرين متتابعين.
متى يجب التعويض المالي (الغرة) عن الجنين؟
اختلف الفقهاء في وقت وجوب الغرة عن الجنين: فقال الحنفية: يكفي استبانة بعض خلقه كظفر وشعر (4). وقال المالكية: تجب الغرة إذا كان الجنين
_________
(1) البدائع: 326/ 7، تبيين الحقائق: 141/ 6، اللباب شرح الكتاب: 171/ 3، الدر المختار: 418/ 5.
(2) القوانين الفقهية: ص 348، بداية المجتهد: 408/ 2.
(3) المغني: 815/ 7 وما بعدها، 96/ 8، كشاف القناع: 65/ 6، مغني المحتاج: 108/ 4، المهذب: 217/ 2.
(4) الفتاوى الهندية: 34/ 6، حاشية ابن عابدين: 587/ 6.

(7/5774)


مضغة أو كاملاً، أما إن كان علقة أي دماً مجتمعاً بحيث إذا صب عليه الماء الحار يذوب، فليس فيه شيء (1).
وقال الشافعية والحنابلة: تجب غرة الجنين إذا كان مضغة وثبت ذلك بالشهادة، فعند الشافعية: بشهادة أربعة نسوة، وعند الحنابلة بشهادة ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية. ولا شيء فيه إذا كان نطفة أو علقة (2).

المبحث الثاني ـ حالة إلقاء الجنين حيا ً:
إذا انفصل الجنين حياً ثم مات بسبب الجناية عمداً، فهل يجب القصاص من الضارب؟
قال المالكية (3): الراجح وجوب القصاص إذا أدى الفعل في الغالب إلى الموت كالضرب على البطن أو الظهر. وتجب الدية فقط لا الغرة إذا لم يؤد الفعل غالباً إلى نتيجة كالضرب على اليد أو الرجل؛ لأن الجنين إذا استهل صار من جملة الأحياء، فلم يكن فيه غرة (4).
وقال الحنفية والحنابلة والأصح عند الشافعية (5): إن الجناية على الجنين لا تكون عمداً، وإنما هي شبه عمد أو خطأ؛ لأنه لا يتحقق وجود الجنين وحياته حتى يقصد، فتجب الدية كاملة. ولا يرث الضارب منها شيئاً.
_________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 257/ 6، الخرشي: 38/ 8، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 268/ 4.
(2) قليوبي وعميرة: 160/ 4، المهذب: 198/ 2، المغني: 406/ 8.
(3) الشرح الكبير: 269/ 4.
(4) وقال ابن الحاجب: المشهور هو قول أشهب: وهو أنه لا قود في هذه الحالة، بل تجب الدية في مال الجاني بقسامة.
(5) البدائع: 326/ 7، تبيين الحقائق: 140/ 6، الدر المختار: 417/ 5، الكتاب مع اللباب: 170/ 3، المغني: 811/ 8، مغني المحتاج: 105/ 4.

(7/5775)


وأوجب الحنفية في هذه الحالة الكفارة، كما قال الشافعية والحنابلة في إيجابها مطلقاً، سواء في حالة إلقاء الجنين ميتاً أو حياً.
وتتعدد الدية بتعدد الأجنة.
فإن ماتت الأم أيضاً من الضربة بعد موت الجنين، أو أنه خرج الجنين بعد موت الأم حياً ثم مات، فعلى الضارب ديتان: دية الأم، ودية الجنين لوجود سبب وجوبهما، وهو قتل شخصين.

موت الجنين بعد موت الأم:
إن خرج الجنين بعد موت الأم ميتاً، فعلى الضارب دية الأم ولا شيء عليه عند الحنفية والمالكية (1) في الجنين، وإنما عليه التعزير، إذ لم يقم دليل قاطع على أن الجناية أدت لموت الجنين أو انفصاله، وإنما يحتمل أنه مات بموت الأم، فهو يجري حينئذ مجرى أعضائها.
وقال الشافعية والحنابلة (2): يجب على الضارب دية الأم وغرة الجنين، سواء ألقته في حياتها أم بعد موتها؛ لأنه جنين تلف بجناية الضارب، وعلم موته بخروجه، فوجب ضمانه؛ لأنه أتلفه مع الأم، كما لو خرج الجنين ميتاً ثم ماتت الأم. فإذا لم تسقط الأم جنينها فلا شيء فيه؛ لأنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه.

جنين غير المسلمة: تجب غرة جنين المرأة الذمية بالجناية عليها، لكن تقدير الغرة مختلف فيه بحسب كون الجنين مسلماً أو غير مسلم ولو من أب كافر.
_________
(1) البدائع: 326/ 7، الشرح الكبير: 269/ 4، بداية المجتهد: 408/ 2، القوانين الفقهية: ص 347.
(2) مغني المحتاج: 103/ 4، المغني: 802/ 7، كشاف القناع: 22/ 6.

(7/5776)


أما الحنفية: فغرته عندهم مثل غرة الجنين المسلم؛ لأن دية الكافر كدية المسلم عندهم، وكذلك غرته مثل غرة المسلم عند الحنابلة (1)؛ لأن الجنين مسلم تبعاً لدار الإسلام، فتقدر الذمية مسلمة.
وعند المالكية (2): غرة الجنين من الذمية تساوي عشر دية الأم.
والأصح عند الشافعية (3): غرة جنين اليهودي أو النصراني كثلث غرة المسلم، بناء على أن الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب.
_________
(1) كشاف القناع: 23/ 6، المغني: 800/ 7.
(2) الشرح الكبير: 268/ 4 وما بعدها.
(3) مغني المحتاج: 106/ 4.

(7/5777)