الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الخامس: طرق إثبات الجناية فيه مبحثان:
المبحث الأول ـ لمحة إجمالية عن طرق الإثبات العامة.
المبحث الثاني ـ إثبات القتل بطريق خاص ـ القسامة.
المبحث الأول ـ لمحة إجمالية عن طرق الإثبات العامة:
لا حظنا في أثناء الكلام عن الحدود أن الفقهاء يبحثون باختصار طرق إثبات الجريمة الموجبة للحد من شهادة أو إقرار ونحوهما، لما للحد من خطورة خاصة تتطلب توقف الحكم به على ثبوت الجريمة ثبوتاً قاطعاً أو مؤكداً. وذلك بالإضافة إلى وجود مباحث مستقلة لطرق الإثبات في كل كتاب فقهي.
وكذلك الشأن في الجنايات، لا بد من الإشارة لما تثبت به، تسهيلاً على القاضي في إصدار أحكامه عليها، ولفت نظره لضرورة التأكد من وقوع الجناية الموجبة لعقوبة بدنية كالقصاص أو التعزير أو لعقوبة مالية كالدية أو الأرش.
لذا فإني أعطي هنا فكرة أو لمحة إجمالية عن طرق الإثبات العامة من إقرار وشهاد وقرينة ونكول عن اليمين، لبيان مدى صلاحية إحداها لإثبات الجناية، سواء عند جمهور الفقهاء أو عند بعض الفقهاء، وأحيل بالتفصيل على البحوث المستقلة الخاصة بكل منها في هذا الكتاب أو غيره.

(7/5796)


ويلاحظ أن العلماء اتفقوا على جواز إثبات جرائم القصاص في القتل والجرح العمد بالإقرار أو شهادة رجلين.

أولاً ـ الإقرار: الإقرار: هو إخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه (1)، وهو حجة قاصرة على المقر لا يتعدى أثره إلى غيره، لقصور ولاية الإقرار على غيره، فيقتصر أثر الإقرار على المقر نفسه. ويؤخذ بمقتضى الإقرار؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه.
ولا خلاف في جواز الاعتماد على الإٍقرارفي العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجرائم أو الجنايات والحدود، فقد أجمعت الأمة على صحة الإقرار مطلقاً، وكونه حجة في مختلف العصور، إذا كان صحيحاً.
واتفق العلماء على صحة الإقرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره (2).
ويشترط في الإقرار بالجناية أو الجريمة الموجبة لحد أو قصاص أو تعزير أن يكون واضحاً مفصلاً، قاطعاً في الاعتراف بارتكاب الجرم، عمداً أو خطأ أو شبه عمد.
فلا يصح الإقرار المجمل الغامض أو المشتمل على شبهة، حتى يتحدد نوع العقاب، إذ لا عقاب مثلاً على القتل دفاعاً عن النفس أو المال، أو استعمالاً لحق، أو تنفيذاً لقصاص.
_________
(1) الدر المختار: 467/ 4.
(2) البدائع: 222/ 7، تكملة الفتح: 281/ 6، تبيين الحقائق: 3/ 5، الشرح الكبير للدردير: 397/ 3 وما بعدها، المهذب: 343/ 2، مغني المحتاج: 238/ 2، المغني: 138/ 5.

(7/5797)


ولا يصح إقرار المتهم في إقراره لملاطفة صديق ونحوه؛ لأن التهمة تخل برجحان جانب الصدق على الكذب في إقراره.
ولا يصح إقرار عديم العقل كالمجنون، وغير المميز. ويصح عند الحنفية خلافاً لبقية الأئمة إقرار الصبي المميز بالديون والأعيان؛ لأنه من ضرورات التجارة.
ولا يصح إقرار المستكره أو المتهم الذي يضرب ليقر في الأموال والجنايات الموجبة لحد أو قصاص، ويلغى، ولا يترتب عليه أي أثر، إلا أن المالكية يقولون: لا يلزم إقرار المستكره، بمعنى أنه يخير بعد زوال الإكراه بين إجازة الإقرار أو إلغائه أو إبطاله (1).
ولا يصح إقرار زائل العقل بنوم أو إغماء أو دواء. أما السكران المتعدي بسكره (وهو من تعاطى مسكراً متعمداً) (2): فيصح إقراره في كل تصرفاته وجناياته عند الشافعية. ويصح إقراره عند الحنفية في الأموال والأحوال الشخصية وفي القتل والجناية على ما دون النفس وعلى الجنين؛ لأنها حقوق شخصية للعباد، ولا يصح إقراره في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة، لوجود الشبهة، وهي تدرأ بالشبهات، لكن يضمن السكران الشيء المسروق وإن كان لا يحد.
ولا يصح إقرار السكران بحق أو جناية أو غيرهما عند المالكية والحنابلة؛ لأنه غير عاقل.
_________
(1) البدائع: 189/ 7 وما بعدها، تكملة الفتح: 265/ 7، تبيين الحقائق: 182/ 5، الدر المختار: 89/ 5، الدردير: 397/ 3، المغني: 196/ 8، حاشية الباجوري على شرح ابن القاسم لمتن أبي شجاع: 4/ 2.
(2) الدر المختار: 489/ 4، رد المحتار والدر المختار: 180/ 3 وما بعدها، الدردير: 397/ 3، حاشية الباجوري: 4/ 2، المغني: 138/ 5.

(7/5798)


واتفق الفقهاء (1) عى أنه يجوز للمقر الرجوع عن إقراره في حقوق الله تعالى كالردة والزنا وشرب خمر وسرقة وقطع طريق من أجل إسقاط الحد، لا إسقاط المال؛ لأنها تدرأ بالشبهات.
أما حقوق الآدميين كالإقرار بالقتل أو الجُرْح أو قطع طرف، أو إسقاط جنين، فلا يجوز للمقر الرجوع عن إقراره بها، لتعلقها بحقوق الناس الشخصية، ولو أن القصاص مما يدرأ بالشبهات؛ لأن الأصل ألا يجوز إلغاء كلام المكلف بلا مقتضٍٍ.
ولا يشترط تعدد الإقرار، ويكفي مرة واحدة إلا في الإقرار بالزنا عند الحنفية والحنابلة، فإنه يطلب كونه أربع مرات، طلباً للتثبت في إقامة الحد، وعملاً بواقعة إقرار ماعز بن مالك أمام الرسول صلّى الله عليه وسلم أربع مرات.

ثانياً ـ الشهادة: إن أغلب وقائع الخصومات في الحقوق المالية والجرائم يثبت بالشهادة. وهي: إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء (2). ولا خلاف بين الفقهاء في جواز الاعتماد على الشهادة في الإثبات، لورود النصوص القرآنية والنبوية الدالة على مشروعيتها والقضاء بها (3).
وعدد الشهود اثنان إلا في الزنا، فلا بد فيه من أربعة شهود لقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور:13/ 24].
_________
(1) فتح القدير: 120/ 4، بداية المجتهد: 430/ 2، الدردير: 318/ 4، مغني المحتاج: 150/ 4، تحفة الطلاب شرح تنقيح اللباب لزكريا الأنصاري: ص 180، المغني: 197/ 8.
(2) فتح القدير: 2/ 6، الدر المختار: 385/ 4، الشرح الكبير للدردير: 164/ 4، مغني المحتاج: 426/ 4.
(3) راجع بحث الشهادة.

(7/5799)


وتقبل عند الحنفية (1) شهادة النساء مع الرجال في الأموال والأحوال الشخصية (الزواج والطلاق وتوابعهما). وعند المالكية والشافعية والحنابلة (2): لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها وعقودها.
ولا تقبل شهادة النساء مع الرجال في المذاهب الأربعة في الحدود والجنايات والقصاص، وإنما لا بد فيها من شهادة رجلين عدلين، لخطورتها وضرورة التأكد من ثبوتها، وتضييقاً في طرق إثباتها، واحتيالاً لدرئها، ولأن في شهادة المرأة بدلاً عن الرجل شبهة البدلية، لقيامها مقام شهادة الرجال، فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات. ويقول الزهري: «مضت السنة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده ألا تجوز شهادة النساء في الحدود» (3) وقال علي كرم الله وجهه: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود والدماء» (4).
وبما أن هناك خلافات فقهية في أنواع الشهادات في الجرائم فإني أضيف لما سبق التوضيح التالي:

1ً - جرائم القصاص في النفس أو ما دونها: لا تثبت عند أئمة المذاهب الأربعة إلا بشهادة رجلين عدلين. ولا تقبل فيها
_________
(1) فتح القدير: 7/ 6، البدائع: 277/ 6، اللباب شرح الكتاب: 55/ 4 ومابعدها، الهداية: 93/ 3، ط الخيرية.
(2) بداية المجتهد: 454/ 2، المهذب: 333/ 2، المغني: 97/ 8، 149/ 9 ومابعدها، الطرق الحكمية: ص 152 ومابعدها، مغني المحتاج: 118/ 4.
(3) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وأخرج عن الشعبي والنخعي والضحاك قالوا: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود» (نصب الراية: 79/ 4).
(4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (نصب الراية، المكان السابق).

(7/5800)


شهادة رجل وامرأتين، ولا شهادة شاهد ويمين المدعي ـ المجني عليه (1)، ولا تثبت بالشهادة على الشهادة (2)، ولا بكتاب القاضي إلى قاض آخر (3)؛ لأن القصاص عقوبة خطيرة، فيحتاط لدرئه باشتراط شاهدين عدلين.
إلا أن المالكية (4) أجازوا استحساناً في جراح النفس عمداً أو خطأ إثباتها بشهادة شاهد واحد ويمين المجني عليه. كما أنهم أجازوا إثبات جراح العمد بشاهد عدل وامرأتين، أو أحدهما مع اليمين. وهذه إحدى المستحسنات الأربع، إذ هي ليست بمال، ولا آيلة له.

2ً - جرائم التعزير البدني كالضرب والحبس ونحوهما: يرى الحنفية (5) أن التعزير يغلب فيه حق الآدمي، فتثبت جريمة التعزير عندهم بما تثبت به سائر حقوق العباد من الإقرار والبينة والنكول عن اليمين (6)، وعلم القاضي، وشهادة النساء مع الرجال، والشهادة على الشهادة، وكتاب القاضي إلى القاضي.
والمالكية كما قالوا في جرائم القصاص أجازوا إثبات جرائم التعزير البدني بشاهد ويمين المدعي. وأجاز بعض المالكية التعزير في بعض الجرائم بشاهد واحد
_________
(1) المبسوط: 17/ 30، البدائع: 225/ 6، بداية المجتهد: 256/ 2، الدردير: 187/ 4، المهذب: 301/ 4، 334، مغني المحتاج: 118/ 4، 443، 482، المغني: 151/ 9، 252، 97/ 8.
(2) فتح القدير: 20/ 6، الدردير: 198/ 4، المهذب: 334/ 2،المغني: 158/ 9.
(3) تبيين الحقائق: 241/ 4، الدردير: 159/ 4، بداية المجتهد: 458/ 2، مغني المحتاج: 452/ 4، المغني: 90/ 9.
(4) الشرح الكبير للدردير: 187/ 4 وما بعدها.
(5) الدر المختار وحاشيته: 204/ 3 ومابعدها، البدائع: 65/ 7.
(6) ونكول الجاني عن اليمين مجرد قرينة تقوي موقف المجني عليه.

(7/5801)


دون يمين (1)، وقبل الإمام مالك شهادة الصبيان على بعضهم في الجراح (2) عملاً بالمصلحة المرسلة أو إجماع أهل المدينة.
واقتصر الشافعية والحنابلة (3) على إثبات جريمة التعزير بما تثبت به جريمة القصاص، وهو شهادة رجلين عدلين؛ لأن العقوبة البدنية خطيرة، فيحتاط فيها بقدر الإمكان، فلا تثبت به بما تثبت به الأموال من شهادة رجل وامرأتين أو شهادة رجل ويمين المدعي.

3ً - جرائم التعزير المالي كالدية أو الغرامة: تثبت هذه الجريمة في المذاهب الأربعة (4) بما تثبت به الحقوق المالية كشهادة رجلين أو رجل وامرأتين؛ لأنه يقصد بها المال. وأجاز غيرا لحنفية إثباته أيضاً بشاهد ويمين المجني عليه. وأضاف المالكية إمكان إثباتها بامرأتين ويمين المدعي، ولم يجز الحنفية مطلقاً مبدأ قبول شاهد ويمين، ولا يمين وامرأتين، عملاً بما اقتصر عليه النص القرآني في قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان} [البقرة:282/ 2] فمن زاد على ذلك فقد زاد على النص، والزيادة على النص نسخ، والنسخ لا يكون إلا بنص مشابه.
ثالثاً ـ القرائن: القرينة: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً، فتدل عليه. ومنه يفهم أنه لا بد في القرينة من تحقق أمرين:
_________
(1) تبصرة الحكام: 260/ 1 ومابعدها.
(2) الاعتصام للشاطبي: 115/ 2 ومابعدها، كتابنا الوسيط في أصول الفقه: ص 364، ط ثالثة.
(3) المراجع السابقة.
(4) المراجع السابقة، المغني: 98/ 8.

(7/5802)


1 - أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساساً للاعتماد عليه.
2 - أن توجد صلة تربط بين الأمر الظاهر والأمر الخفي.
ولا يحكم عند جمهور الفقهاء بالقرائن في الحدود؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ولا في القصاص إلا في القسامة للاحتياط في أمر الدماء وإزهاق النفوس، بالاعتماد على وجود القتيل في محلة المتهمين عند من لا يشترط قرينة اللوث (العداوة الظاهرة) أو بالاعتماد على مجرد اللوث عند من يشترطه. ويحكم بها في نطاق المعاملات المالية والأحوال الشخصية عند عدم وجود بينة في إثبات الحقوق الناشئة عنها، ولكنها تقبل إثبات العكس بأدلة أخرى.
وأخذ بعض الفقهاء كابن فرحون المالكي وابن القيم الحنبلي (1) بالقرائن أحياناً مع التحفظ والحذر، ولو في نطاق الحدود، وصار ذلك مذهب المالكية والحنابلة، مثل إثبات الزنا بالحمل، وإثبات شرب الخمر بظهور رائحتها من فم المتهم، وثبوت السرقة بوجود المسروق في حيازة المتهم، ورد المسروقات أو الوديعة أو اللقطة لمن يصفها بعلامات مميزة. ونحوه كثير في إثبات الحق والملكية والأهلية والولادة.
واعتبر الحنفية القرينة القطعية (2) بينة نهائية كافية للقضاء بها، كما لو رئي شخص مدهوشاً ملطخاً بالدم، ومعه سكين ملوثة بالدم، بجوار مضرج بدمائه في مكان، فيعتبر هو القاتل (م/1741 من المجلة). أما القرينة غير القطعية الدلالة ولكنها ظنية أغلبية، ومنها القرائن العرفية، أو المستنبطة من وقائع الدعوى
_________
(1) تبصرة الحكام: 312/ 1، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 97 وما بعدها، 214 وما بعدها.
(2) عرفت المجلة القرينة القاطعة: بأنها الأمارة البالغة حد اليقين (م/1741).

(7/5803)


وتصرفات الخصوم، فهي دليل أولي مرجح لزعم أحد المتخاصمين مع يمينه، متى اقتنع بها القاضي، ولم يثبت خلافها (1).

رابعاً ـ النكول عن اليمين: النكول عن اليمين: هو الامتناع عن حلف اليمين الموجهة إلى المدعى عليه بطريق القاضي. وهو لا يعدو أن يكون مجرد قرينة على صدق المدعي في اتهام المتهم.
ويقضى به عند الحنفية والحنابلة (2)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل جنس اليمين في جانب المدعى عليه وحصرها فيه في قوله عليه الصلاة والسلام: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه».
ويقضى بالنكول عند أبي حنيفة في القصاص في الأطراف حالة العمد، وبالدية حالةالخطأ. ولا يقضى فيه عنده بالقصاص بالنفس لا بالقصاص ولا بالدية، لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف.
ولا يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة والصاحبين.
كما لا يقضى بالنكول باتفاق الحنفية والحنابلة في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة والشرب، لاشتماله على الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
_________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف/536.
(2) تكملة فتح القدير: 155/ 6 و 158، المبسوط: 35/ 17، الدر المختار: 442/ 4، المغني: 235/ 9 وما بعدها، كشاف القناع: 332/ 6 وما بعدها.

(7/5804)


وأما التعازير فيقضى فيها بالنكول عند الحنفية كما بان سابقاً، أما عند الحنابلة فلا يقضى فيها بالنكول، على ما هول الظاهر في الترجيح بين الروايتين عن أحمد؛ لأنه يرى قصر الأيمان على الأموال والعروض التجارية (1).
ولم يأخذ المالكية والشافعية (2) بالنكول، وإنما أخذوا باليمين المردودة في جانب المدعي، ويقضى باليمين المردودة عند المالكية في الأموال وما يؤول إليها فقط كخيار وأجل دون ما سواها من القصاص والحدود والتعازير. وأما عند الشافعية: فيقضى باليمين المردودة في جميع الحقوق والتعازير، ما عدا جنايات الدماء والحدود، فلا يقضى فيها بالقصاص ولا بالحد.

المبحث الثاني ـ إثبات القتل بطريق خاص ـ القَسامة: وفيه ثمانية مطالب: معنى القسامة، ومشروعيتها، وآراء الفقهاء في شرعيتها، ومحل القسامة (الجريمة التي تجوز فيها) ومتى تكون، وشروطها، وكيفيتها، ومن تجب عليه، وحكمها أو ما يجب بها.
المطلب الأول ـ معنى القسامة:
القسامة لغة: مصدر بمعنى القسم أي اليمين. وشرعاً: هي الأيمان المكررة في دعوى القتل، وهي خمسون يميناً من خمسين رجلاً. يقسمها عند الحنفية (3): أهل
_________
(1) المغني: 67/ 8، 238/ 9، كشاف القناع: 332/ 6.
(2) بداية المجتهد: 454/ 2، الدردرير: 146/ 4 ومابعدها، مغني المحتاج: 118/ 4، 150، المهذب: 301/ 2، 318.
(3) البدائع: 286/ 7، الكتاب مع اللباب: 172/ 3، تبيين الحقائق: 169/ 6، الدر المختار: 442/ 5.

(7/5805)


المحلَّة التي وجد فيها القتيل ويتخيرهم ولي الدم، لنفي تهمة القتل عن المتهم، فيقول الواحد منهم: بالله ما قتلته ولا علمت له قاتلاً. فإذا حلفوا غرموا الدية. وعند الجمهور غير الحنفية (1): يحلفها أولياء القتيل لإثبات تهمة القتل على الجاني، بأن يقول كل واحد منهم: بالله الذي لا إله إلا هو: لقد ضربه فلان فمات، أو لقد قتله فلان. فإن نكل بعضهم (أي ورثة القتيل) عن اليمين، حلف الباقي جميع الأيمان، وأخذ حصته من الدية. وإن نكل الكل أو لم يكن هناك لوث (قرينة على القتل أو العداوة الظاهرة) ترد اليمين على المدعى عليه ليحلف أولياؤه خمسين يميناً. فإن لم يكن له أولياء (عاقلة) حلف المتهم (الجاني) الخمسين، وبرئ.
وإذا حلف أولياء القتيل وجب عند المالكية القصاص في حالة العمد، والدية في الخطأ. وتجب الدية فقط في كل الحالات عند الشافعية، على ما سأبين، وأوجب الحنابلة القصاص في دعوى القتل عمداً، والدية في القتل شبه العمد أو الخطأ.

ف هل القسامة إذن دليل نفي أو دليل إثبات؟ قال الحنفية: القسامة دليل لنفي التهمة عن المدعى عليهم. وقال الجمهور: إنها دليل للمدعين لإثبات تهمة القتل على القاتل إذا لم تتوافر وسائل الإثبات الأخرى.
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 293/ 4، بداية المجتهد: 421/ 2، مغني المحتاج: 109/ 4، 114، المهذب: 318/ 2، المغني: 68/ 8، كشاف القناع: 66/ 6 وما بعدها، 76.

(7/5806)


المطلب الثاني ـ مشروعية القسامة وحكمة التشريع وسبب وجوب القسامة:
كانت القسامة معروفة في الجاهلية، وأول من قضى بها الوليد بن المغيرة. وثبتت مشروعية القسامة بالسنة في أحاديث متعددة، منها: ما رواه رجل من الأنصار: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية» (1).
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة» (2).
وروى الجماعة عن سهل بن أبي حَثْمة قال: «انطلق عبد الله بن سهل، ومُحَيِّصة بن مسعود إلى خيبر، وهو يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل، وهو يتشحّط في دمه (3) قتيلاً، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومُحَيِّصة وحُوَيِّصة ابنا مسعود إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: كبِّر كبِّر (4)، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما، قال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم (5)؟ فقالوا: وكيف
نحلف، ولم
_________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار (نيل الأوطار: 34/ 7).
(2) رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 39/ 7).
(3) هو الاضطراب في الدم.
(4) أي دع من هو أكبر منك سناً يتكلم.
(5) فيه دليل على مشروعية القسامة. وإليه ذهب جمهور الصحابة والتابعين والعلماء من الحجاز والكوفة والشام، كما حكى القاضي عياض. وهي أصل مستقل من أصول الشريعة لورود الدليل بها، فتخصص بها الأدلة العامة، وفيها حفظ للدماء وزجر للمعتدين.

(7/5807)


نشهد ولم نر؟ قال: فتبرِّئكم يهود بخمسين يميناً (1)، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلّى الله عليه وسلم من عنده» (2).
وفي لفظ آخر: «أتحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم» أي يقتص لكم من قاتله.
والحكمة من تشريع القسامة: هي أنها شرعت لصيانة الدماء وعدم إهدارها، حتى لا يهدر (أو يطل) دم في الإسلام، وكيلا يفلت مجرم من العقاب، قال علي لعمر فيمن مات من زحام يوم الجمعة أو في الطواف: «يا أمير المؤمنين، لا يُطلُّ دم امرئ مسلم، إن علمت قاتله، وإلا فأعطه ديته من بيت المال».
وأما إلزام عصبة أو عاقلة المتهم بالقتل بالقسامة والدية عند الحنفية (3) فبسبب وجود التقصير منهم في الحفاظ على حياة القتيل قبل قتله في الموضع الذي وجد فيه، ولعدم نصرته أو حمايته من اعتداء الجاني عليه، كما في القتل خطأ، كأنهم شُرطة، وبما أن حفظ المحلة عليهم ونفع ولاية التصرف في المحلة عائد إليهم، فهم مسؤولون، والخراج بالضمان على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام (4).
ويلاحظ أن إيجاب الدية بعد القسامة ليس هو الهدف الأصلي من القسامة وإنما الغرض الحقيقي منها: هو إظهار جريمة القتل، وتطبيق القصاص عندما يحس الحالفون بخطورة اليمين، ويتحرجون من حلف اليمين الكاذبة، فيقرون بالقتل، فإذا حلفوا برئوا من القصاص، وثبتت الدية لئلا يهدر دم القتيل، وعلى هذا فإن القسامة لم تشرع لإيجاب الدية إذا نكلوا عن الأيمان.
_________
(1) أي يخلصونكم عن الأيمان بأن يحلفوا، فإذا حلفوا انتهت الخصومة.
(2) نيل الأوطار: 34/ 7. فعقله النبي صلّى الله عليه وسلم أي وداه بمئة من إبل الصدقة كما جاء في لفظ لأحمد.
(3) البدائع: /7 290، اللباب شرح الكتاب: 172/ 3.
(4) رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة وضعفه البخاري وصححه الترمذي وغيره.

(7/5808)


وإنما شرعت لدفع التهمة بالقتل، وأما الدية فلوجود القتيل بين أظهرهم. وإلى هذا المعنى أشار عمر حينما قيل: «أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال: أما أيمانكم فلحقن دمائكم، وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم». ومن نكل من عصبة القاتل عن اليمين حبس حتى يحلف؛ لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها، تعظيماً لأمر الدم، فيجمع بينه وبين الدية، وذلك بعكس النكول عن اليمين في الأموال؛ لأن الحلف فيها بدل عن أصل حق صاحب المال (المدعي)، ولهذا يسقط اليمين ببذل المدعى به. وأما أيمان القسامة فلا تسقط ببذل الدية؛ لأنها واجب أصلي لإظهار القصاص، وليست بدلاً عن حق.

المطلب الثالث ـ آراء الفقهاء في شرعية القسامة:
أقر فقهاء المذاهب الأربعة والشيعة والظاهرية مشروعية القسامة لثبوتها بالسنة النبوية، كما تقدم.
وروى القاضي عياض عن جماعة السلف (منهم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن عُلَيَّة ومسلم بن خالد، وعمر بن عبد العزيز في رواية عنه) أن القسامةغير ثابتة، لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه (1):
منها ـ أن اليمين لا تجوز إلا على ما علم قطعاً أوشوهد حساً.
ومنها ـ أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
ومنها ـ أن حديث سهل السابق الوارد بها ليس فيه حكم بها، وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية، فتلطف بهم النبي صلّى الله عليه وسلم ليريهم كيفية بطلانها.
_________
(1) نيل الأوطار: 36/ 7، بداية المجتهد: 419/ 2.

(7/5809)


والجواب: أن القسامة ثبتت بحديث خاص، فلا يترك العمل بها من أجل الدليل العام، فتكون مخصصة له، لما فيها من حفظ الدماء، وزجر المعتدين، وتعذر قيام الشهادة على القتل حيث يرتكبه القاتل غالباً في الخفاء، وأما دعوى أن النبي قال ذلك للتلطف بهم في بيان بطلانها، فمردود، لثبوتها في أحاديث ووقائع أخرى، منها حديث أبي سلمة المتقدم الذي أقر به النبي صلّى الله عليه وسلم القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية.

المطلب الرابع ـ محل القسامة ومتى تكون؟ لا تكون القسامة إلا في جريمة القتل فقط أياً كان نوع القتل عمداً أو خطأ أو شبه عمد، دون بقية الاعتداءات على النفس من قطع أو جرح أو تعطيل منفعة عضو؛ لأن النص ورد في القتل، فيقتصر في القسامة على محل ورودها، وعلى هذا تثبت الجراح بالاعتراف والشهادة، ولا قسامة في الجراح.
كما لا تكون عند الحنفية (1) إلا إذا كان القاتل مجهولاً، فإن كان معلوماً فلا قسامة، ويجب حينئذ القصاص أو الدية.
ولا تكون القسامة عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (2) إلا إذا كان هناك لوث (أو لطخ، أو شبهة) ولم توجد بينة للمدعي في تعيين القاتل، ولا إقرار.
_________
(1) البدائع: 288/ 7، تكملة فتح القدير: 383/ 8، تبيين الحقائق: 169/ 6.
(2) الشرح الكبير للدردير: 287/ 4، بداية المجتهد: 422/ 2، مغني المحتاج: 111/ 4 ومابعدها، نهاية المحتاج: 105/ 7، المهذب: 318/ 2 ومابعده، المغني: 68/ 8، كشاف القناع: 68/ 6، القوانين الفقهية: ص 349.

(7/5810)


واللوث كما عرفه المالكية: هو الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بوقوع المدعى به، أو الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بأنه قتل. وذكروا له أمثلة خمسة يظهر منها تعيين القاتل بدليل غير كاف لإثبات القتل، وهي:
1 - أن يقول المجروح المُدمى البالغ الحر المسلم: دمي عند فلان، مع وجود الجرح وأثر الضرب، أو يقول: قتلني فلان، سواء أكان الْمُدمى عدلاً أم فاسقاً (مسخوطاً). والتدمية في العمد لوث باتفاق المالكية. وفيها قولان في الخطأ، أرجحهما أنها لوث.
2 - شهادة عدلين على معاينة الضرب أو الجرح، أو على إقرار المُدمى في المثال الأول.
3 - شهادة واحد على معاينة الجرح أوالضرب.
4 - شهادة واحد على معاينة القتل.
5 - أن يوجد القتيل، وبقربه شخص عليه أثر القتل.
وعرفه الشافعية: بأنه قرينة حالية أو مقالية لصدق المدعي، أو هو أن يوجد معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي، كأن وجد قتيل أو بعضه كرأسه في مَحَلَّة، أو قرية صغيرة، بينها وبين قبيلة المقتول عداوة دينية أو دنيوية، ولا يعرف قاتله، ولا بينة بقتله. أو وجد قتيل تفرق عنه جمع كأن ازدحموا على بئر أو على باب الكعبة، ثم تفرقوا عن قتيل، لقوة الظن أنهم قتلوه، ولا يشترط هنا كونهم أعداء، لكن يشترط أن يكونوا محصورين بحيث يتصور اجتماعهم على القتيل. وإلا لم تسمع الدعوى ولا قسامة. والتحام قتال بين صفين أو وصول سلاح في أحدهما للآخر: لوث في حق الصف الآخر، وشهادة العدل الواحد أو النساء، وقول فسقة وصبيان وكفار: لوث في الأصح.

(7/5811)


وعرف الحنابلة اللوث: بأنه العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، لنحو ما كان بين الأنصار ويهود خيبر، وما يكون بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء، وما بين البغاة وأهل العدل، وما بين الشرطة واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله، فإن لم تكن عداوة ظاهرة بين المتهم والمقتول ولكن غلب على الظن صدق المدعي كتفرق جماعة عن قتيل أو في زحام أو شهد نساء وصبيان وفساق أو عدل فليس لوثاً. وإن ادعى شخص القتل من غير وجود عداوة، فلا بد من تعيين المدعى عليه. وإذا رفعت الدعوى على عدد غير معين لم تسمع الدعوى، كما قال الشافعية.
وبهذا يظهر أن المالكية يرون أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثاً، وإن كانت هنالك عداوة بين القوم الذين منهم القتيل، وبين أهل المحلة. ويعتبرون ادعاء المجني عليه على المتهم قبل وفاته لوثاً، وهذا هو التدمية في العمد: وهو قول المقتول: فلان قتلني أو دمي عند فلان. ولا يعتبره الشافعية وسائر العلماء لوثاً. والإشاعة المتواترة على ألسنة الخاص والعام أن فلاناً قتله: لوث عند الشافعية، وليست لوثاً عند المالكية.
والخلاصة أن اللوث: هو أمارة غير قاطعة على القتل، ولكن حالات اللوث مختلف فيها بين الجمهور.

المطلب الخامس ـ شروط القسامة:
اشترط الحنفية (1) في القسامة سبعة شروط هي ما يأتي:
_________
(1) البدائع: 287/ 7 - 290، الكتاب مع اللباب: 173/ 3، تبيين الحقائق: 171/ 6، الدر المختار: 443/ 5 ومابعدها.

(7/5812)


1ً - أن يكون بالقتيل أثر القتل من جراحة أو أثر ضرب أو خنق، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا قسامة فيه ولا دية، لأنه إذا لم يكن به أثر القتل، فالظاهر أنه مات حتف أنفه، فلا يجب به شيء. فإذا وجد والدم يخرج من فمه أو من أنفه أو دبره، أو ذكره، لا شيء فيه؛ لأن الدم يخرج من هذه المواضع عادة بدون الضرب، وإنما بسبب القيء أو الرعاف ونحوهما، فلا يعرف كونه قتيلاً.
وإن كان الدم يخرج من عينه أو أذنه، ففيه القسامة والدية؛ لأن الدم لا يخرج من هذه المواضع عادة، فكان خروجه بسبب القتل. وعلى هذا لا يشترط الحنفية: اللوث، وإنما يكفي أن توجد الجثة في محلها وبها أثر القتل.
وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية (1): يشترط للقسامة وجود لوث، ولكن ليس من شرط اللوث قرينة القتل أن يكون بالقتيل أثر، بل لا بد من تحقق الموت قتلاً بسبب، لا قضاءً وقدراً محضاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار في قتيل خيبر، هل كان بقتيلهم أثر أو لا، ولأن القتل يحصل بما لا أثر له كالخنق وعصر الخصيتين. ومن به أثر قد يموت حتف أنفه لسقطته أوصرعته أو يقتل نفسه.
2ً - أن يكون القاتل مجهولاً، فإن علم فلا قسامة فيه، ولكن يجب القصاص بشروطه في القتل العمد، وتجب الدية في شبه العمد والخطأ ونحوهما.
3ً - أن يكون القتيل من بني آدم، فلا قسامة في بهيمة وجدت في محلة قوم، ولا غرم فيها.
4ً - رفع الدعوى إلى القضاء من أولياء القتيل؛ لأن القسامة يمين، واليمين لاتجب من دون الدعوى، كما في كل الدعاوى.
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 287/ 4، مغني المحتاج: 111/ 4، المغني: 71/ 8، القوانين الفقهية: ص349.

(7/5813)


واشترط المالكية والشافعية والحنابلة (1) اتفاق الأولياء على الدعوى، فإن اختلفوا لم تثبت القسامة. وعبر الشافعية عن ذلك بقولهم: ألا تتناقض دعوى المدعي، فلو ادعى على شخص انفراده بالقتل، ثم ادعى على آخر أنه شريكه أو أنه القاتل منفرداً، لم تسمع الدعوى الثانية، لمناقضتها الدعوى الأولى (2).
5ً - إنكار المدعى عليه؛ لأن اليمين وظيفة المنكر، فإن اعترف فلا قسامة.
6ً - المطالبة بالقسامة؛ لأنها أيمان، واليمين حق المدعي، وحق الإنسان يوفى عند طلبه، كما في سائر الأيمان. ولهذا يختار أولياء القتيل من يتهمونه. ولو طولب من عليه القسامة، فنكل عن اليمين حبس حتى يحلف أو يقر؛ لأن اليمين حق مقصود بنفسه، لا أنه وسيلة إلى المقصود، وهو الدية، بدليل أنه يجمع بينه وبين الدية. قال الحارث بن الأزمع لسيدنا عمر رضي الله عنه: «أنبذل أيماننا وأموالنا؟ فقال: نعم». وذلك بخلاف اليمين في سائر الحقوق فإنها ليست مقصودة بنفسها، بل هي وسيلة إلى المقصود، وهو المال المدعى، فلا يجمع بينهما، فلو حلف المنكر أو المدعى عليه برئ.
_________
(1) المغني: 71/ 8 وما بعدها، كشاف القناع: 70/ 6، مغني المحتاج: 110/ 4، الدردير: 288/ 4.
(2) هذا وقد اشترط الشافعية في كل دعوى بدم أو غيره كغصب وسرقة وإتلاف ستة شروط وهي ما يأتي:
1ً - أن يكون محل الدعوى معلوماً غالباً بأن يفصّل المدعي ما يدعيه من عمد وخطأ وشبه عمد، ومن انفراد وشركة وعدد الشركاء.
2ً - أن يكون موضوع الدعوى ملزماً، فلا تسمع دعوى هبة شيء أو بيعه أوإقراره به حتى يقول: وقبضته بإذن الواهب، ويلزم البائع أو المقر التسليم إلي.
3ً - أن يعين المدعي في دعواه المدعى عليه، واحداً كان أو جمعاً معيناً كثلاثة حاضرين.
4ً - أن يكون المدعي مكلفاً (بالغاً عاقلاً) حالة الادعاء، فلا تسمع دعوى صبي ولا مجنون، ولا سكرانٍ متعدٍ بسكره.
5ً - أن يكون المدعى عليه أيضاً مكلفاً مثل المدعي، فلا تصح الدعوى على صبي ومجنون.
6ً - ألا تتناقض دعوى المدعي (راجع مغني المحتاج: 109/ 4 وما بعدها).

(7/5814)


7ً - أن يكون الموضع الذي وجد فيه القتيل مملوكاً لأحد الناس، أو في حيازة أحد، وإلا فلا قسامة ولا دية؛ لأن كل واحدة منهما تجب بترك الحفظ اللازم، فإذا لم يكن المحل ملك أحد أو في يد أحد، لا يلزم أحد بحفظه، فلا تجب القسامة والدية. وإنما تجب الدية في بيت المال؛ لأن حفظ المكان العام على العامة أو الجماعة، ومال بيت المال مالهم.
وتطبيقات ذلك في الأمثلة التالية (1):
ـ إذا وجد قتيل في فلاة (صحراء أو برية) من الأرض، ليست ملكاً لأحد، فإن كان موضعه في مكان يسمع فيه الصوت من قرية أوبلد، فعليهم القسامة. وإن كان في مكان لا يسمع فيه الصوت، فلا قسامة فيه ولا دية على أحد. وإنما تؤخذ ديته من بيت المال.
ـ إن وجد القتيل في وسط نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل، وكان يجري على سطح الماء، فلا قسامة ولا دية على أحد؛ لأن النهر العظيم ليس ملكاً لأحد، ولا في يد أحد. وإنما تجب الدية في بيت المال.
وأما إذا لم يكن يجري على سطح الماء، وكان محتبساً بالشاطئ (جانب النهر) أو في جزيرة، فالقسامة على أقرب القرى من ذلك المكان إذا كانوا يسمعون الصوت؛ لأنهم مسؤولون عن نصرة هذا الموضع، وهو تحت تصرفهم، فكان في أيديهم.
وأما إن وجد في نهر صغير، فالقسامة والدية على أهل النهر؛ لأن النهر مملوك لهم.
_________
(1) البدائع: 289/ 7 ومابعدها، اللباب: 174/ 3 - 176، تكملة فتح القدير: 392/ 8 - 396، الدر المختار: 445/ 5 وما بعدها، 448.

(7/5815)


ـ ولا قسامة في قتيل يوجد في المساجد الجامعة العامة، أو الشوارع أوالجسور أو الأسواق العامة، أو في السجن؛ لأن هذه الأماكن ليست مملوكة لأحد، ولا في يد أحد. والدية في بيت المال.
فإن كان في مسجد مَحلَّة، فالقسامة على أهلها.
ـ وإن وجد القتيل في سفينة، فالقسامة على من فيها من الركاب والملاحين؛ لأنها في أيديهم.
والسيارة أو العربة مثل السفينة.
وإذا وجد القتيل على دابة، ومعها رجل قائد أو سائق أو راكب، فالقسامة عليه، والدية على عاقلته، دون أهل المحلة؛ لأنها في يده.
ومثله، لو وجد القتيل في دار إنسان: القسامة عليه، والدية على عاقلته.
فإن وجد على دابة تسير، وليس في يد أحد، فلا قسامة ولا دية، وإنما الدية على بيت المال.
ـ وإن وجد القتيل بين قريتين، بحيث يبلغ الصوت أهل كل منهما، ليتمكنوا من النصرة، فالقسامة والدية على أقربهما إليه.
والخلاصة: أن كل مكان يكون التصرف فيه لعامة المسلمين لا لواحد منهم ولا لجماعة يحصون، لا قسامة ولا دية على أحد، وإنما الدية على بيت المال؛ لأن الغرم بالغنم.

المطلب السادس ـ كيفية القسامة (صيغتها وحالفها):
اختلف الفقهاء فيمن يبدأ بحلف الأيمان الخمسين، هل المدعون أو المدعى عليهم؟

(7/5816)


1ً - قال الحنفية (1): يبدأ بتحليف المدعى عليهم، كما هو الأصل في أن اليمين على المدعى عليه، ويتخيرهم ولي الدم؛ لأن اليمين حقه، فيختار من يتهمه بالقتل، فيحلف كل واحد منهم: «بالله ما قتلته، ولاعلمت له قاتلاً».
واستدلوا بما أخرجه البخاري عن سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار: «أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حَثْمة» روى حديثاً وفيه «فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تأتون بالبينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون لكم، قالوا: ما نرضى بأيمان يهود، وكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة بعير من إبل الصدقة» (2).
واحتجوا أيضاً بما أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ليهود، وبدأ بهم: يحلف منكم خمسون رجلاً (أي خمسين يميناً) فأبوا، فقال للأنصار: احلفوا، فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله؟! فجعلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم دية على يهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم» (3).
واستدل الكاساني (4) بما روي عن زياد بن أبي مريم أنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني وجدت أخي قتيلاً في بني فلان، فقال عليه الصلاة والسلام: اجمع منهم خمسين، فيحلفون بالله: ما قتلوه، ولا علموا له قاتلاً، فقال: يا رسول الله، ليس لي من أخي إلا هذا؟ فقال: بل لك مئة من
_________
(1) البدائع: 286/ 7، اللباب مع الكتاب: 172/ 3، تبيين الحقائق: 170/ 6
(2) نصب الراية: 392/ 4
(3) نصب الراية، المكان السابق، قال ابن رشد في بداية المجتهد: 421/ 2: وهو حديث صحيح الإسناد؛ لأنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة بن أبي عبد الرحمن.
(4) البدائع: 286/ 7.

(7/5817)


الإبل» (1) فدل الحديث على وجوب القسامة على المدعى عليهم، وهم أهل المحلة، وعلى وجوب الدية عليهم مع القسامة.
فإن حلفوا قضي عليهم (أي على أهل المحلة) بالدية في القتل العمد، وعلى عاقلتهم (عاقلة أهل المحلة) في القتل الخطأ.
وإن امتنع المدعى عليهم أو بعضهم عن الحلف، حبسوا حتى يحلفوا؛ لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها، تعظيماً لأمر الدم (2).
2ً - وقال المالكية والشافعية والحنابلة وداود الظاهري (3): يبدأ المدعون أولياء القتيل بالأيمان الخمسين، عملاً بحديث سهل بن أبي حثمة المتقدم، وفيه: «أتحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم؟» فيحلف كل ولي (بالغ عاقل) منهم أمام الحاكم والمدعى عليه، وفي المسجد الأعظم بعد الصلاة عند اجتماع الناس: «بالله الذي لا إله إلا هو: لقد ضربه فلان فمات، أو لقد قتله فلان». ويشترط أن تكون اليمين قاطعة (على البت) في ارتكاب المتهم الجريمة.
ويشترط عند المالكية (4) أن تكون الأيمان متوالية، فلا تفرق على أيام أوأوقات؛ لأن للموالاة أثراً في الزجر والردع.
ولا يشترط عند الشافعية على المذهب والحنابلة (5) موالاتها؛ لأن الأيمان من جنس الحجج، والحجج يجوز تفريقها، كما لو شهد الشهود متفرقين.
_________
(1) هذا الحديث غريب كما قال الزيلعي في نصب الراية: 393/ 4 ومابعدها.
(2) البدائع: 289/ 7، اللباب مع الكتاب: 172/ 3، تكملة فتح القدير: 388/ 8، تبيين الحقائق: 170/ 6.
(3) بداية المجتهد: 421/ 2، الدردير: 289/ 4 ومابعدها، 293، مغني المحتاج: 114/ 4 - 116، المغني: 68/ 8، 77، كشاف القناع: 8/ 6، القوانين الفقهية: ص 348.
(4) الدردير: 293/ 4.
(5) مغني المحتاج: 115/ 4، كشاف القناع: 76/ 6.

(7/5818)


فإذا لم يحلف المدعون، حلف المدعى عليه خمسين، وبرئ، فيقول: «والله ما قتلته، ولا شاركت في قتله، ولا تسببت في موته» لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي يتبرؤون منكم.
فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، برئ المتهم، وكانت دية القتيل في بيت المال عند الحنابلة (1)، خلافاً للمالكية والشافعية.
وإن نكل (امتنع) المدعى عليه عن اليمين، ردت الأيمان عند الشافعية (2) على المدعين، فإن حلفوا عوقب المدعى عليه، وإن لم يحلفوا لا شيء لهم.
وعند المالكية (3): من نكل من المدعى عليهم، حبس حتى يحلف أو يموت في السجن، وقيل: يجلد مئة ويحبس عاماً.
ولا يحبس عليها عندالحنابلة (4) كسائر الأيمان.

المطلب السابع ـ من تجب عليه القسامة (أو من يدخل القسامة):
تجب القسامة على الورثة كلهم عند بعض الفقهاء وعلى بعض الورثة عند آخرين.
1ً - قال الحنفية (5): الحالف هو المدعى عليه، وتجب أيمان القسامة على بعض الورثة وهم الرجال البالغون، فلا قسامة على صبي أو مجنون أو امرأة؛ لأن
_________
(1) المغني: 78/ 8.
(2) مغني المحتاج: 116/ 4.
(3) الشرح الكبير للدردير: 296/ 4، القوانين الفقهية: ص 348.
(4) المغني: 87/ 8.
(5) البدائع: 294/ 7، تكملة الفتح: 386/ 8، 389 ومابعدها، تبيين الحقائق: 171/ 6، الدر المختار: 444/ 6، 446 ومابعدها.

(7/5819)


سبب وجوبها هو التقصير في النصرة، وعدم حفظ موضع القتل، وهؤلاء ليسوا أهلاً لذلك.
والصبي أو المجنون لا يدخل في القسامة في أي موضع وجد القتيل، سواء وجد في غير ملكه، أو في ملكه. أما اشتراكه في الدية مع العاقلة فيدخل معها إن وجد القتيل في ملكه؛ لأن وجوده في ملكه كمباشرته القتل، والصبي والمجنون مؤاخذان بضمان الأفعال المالي.
والمرأة لا تدخل في القسامة والدية في قتيل يوجد في غير ملكها. أما إن وجد في دارها أو في قرية لها، ليس بها غيرها، فعليها القسامة؛ لأنها أهل لليمين، فتستحلف وتكرر عليها الأيمان في قول الطرفين (أبي حنيفة ومحمد). وقال أبو يوسف: لا قسامة عليها، وإنما على عاقلتها؛ لأنها ليست من أهل النصرة.
وتدخل المرأة مع العاقلة في الدية في هذه المسألة، استثناء من نظام العاقلة.
ولا يحلف ولي القتيل مع أهل المحلة، ولا يقضى له بالجناية بيمينه؛ لأن اليمين شرعت للدفع، لا للاستحقاق.
والقسامة والدية تجبان على الأقرب من عاقلة من وجد القتيل فيهم، فرب الدار وقومه أخص، ثم أهل المحلة، ثم أهل المصر. وقوم الشخص أو قبيلته يرتبون أيضاً: الأقرب فالأقرب.
ولا يدخل عند أبي حنيفة ومحمد السكان (كالمستأجرين والمستعيرين) مع الملاك في القسامة؛ لأن المالك هو المختص بنصرة البقعة دون السكان. وقال أبو يوسف: هي عليهم جميعاً؛ لأن ولاية التدبير تكون بالسكنى وبالملك.

(7/5820)


والقسامة عند الطرفين على أهل الخطة (1) دون المشترين، ولو بقي من أهل الخطة واحد. وقال أبو يوسف: الكل مشتركون؛ لأن ضمان الشيء إنما يجب بترك الحفظ، ممن له ولاية الحفظ، والولاية تتحقق بالملك، والكل هنا ملاك. ويظهر أن هذا الرأي في الظروف الحاضرة هو الأولى بالاتباع (2).
وإذا حلف أهل المحلة وجبت الدية في مالهم إن كانت الدعوى في قتل عمد، وعلى عواقلهم إن كانت في قتل خطأ.
وإذا كان مكان وجود القتيل مملوكاً تجب القسامة على الملاك، والدية على عاقلتهم، وإذا لم يكمل أهل المحلة خمسين رجلاً، كررت الأيمان عليهم حتى يتم خمسون يميناً؛ لأنها الواجبة بالسنة، فيجب إتمامها ما أمكن. ولا يبحث عن فائدة تكرار الأيمان على هذا النحو، لثبوتها هكذا بالسنة.
2ً - والمالكية (3) فرقوا بين نوعي القتيل: العمد والخطأ، فقالوا:
في الخطأ: يحلف أيمان القسامة ورثة القتيل، وإن كان الوارث واحداً أوامرأة أو أخاً أو أختاً لأم، وإذا تعدد الورثة توزع الأيمان على قدر الميراث، ويجبر الكسر واحداً على صاحب الكسر الأكثر، وينتظر حضور الغائب حتى يحلف، والصبي حتي يبلغ، فيحلف حصته من أيمان القسامة فقط، وأخذ نصيبه من الدية. وإن نكل ورثة المقتول خطأ حلفت عاقلة القاتل، كل واحد منهم يميناً واحدة. فإن لم
_________
(1) الخِطة: ما اختط للبناء، والمراد هنا: ما خطه الإمام حين فتح البلدة وقسمها بين الغانمين. والمقصود بما خطه الإمام: أي ما أفرزه وميزه من أراض وأعطاه لأحد الناس.
(2) قال ابن عابدين في رد المحتار: 447/ 5: والحاصل أنه إذا كان في محلة أملاك قديمة وحديثة وسكان، فالقسامة على القديمة دون أخويها؛ لأنه إنما يكون ولاية تدبير المحلة إليهم. وإذا كان فيها أملاك حديثة وسكان فعلى الحديثة. وإذا كان سكان فلا شيء عليهم. قال في شرح الطحاوي: قيل هذا في عرفهم، وأما في عرفنا فعلى المشترين؛ لأن التدبير إليهم.
(3) الشرح الكبير: 293/ 4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 348 ومابعدها.

(7/5821)


يكن عاقلة حلف الجاني الخمسين وبرئ، فإن نكل غرم حصته، وإن نكل بعض الورثة حلف البعض الآخر جميع الأيمان، وأخذ حصته فقط من الدية.
ومن نكل من العاقلة يغرم حصته فقط من الدية للناكلين من ورثة القتيل.
وأما في القتل العمد: فيحلف العصبة من النسب، سواء ورثوا أم لا. ولا يحلف أقل من رجلين منهم. ولا يحلف النساء في العمد لعدم قبول شهادتهن فيه. فإن لم يوجد غيرالنساء، صار المقتول كمن لا وارث له، فترد الأيمان على المدعى عليه، فيحلف خمسين يميناً أنه: ما قتل.
3ً - وقال الشافعية (1): يشترك جميع الورثة رجالاً ونساءً في أيمان القسامة، وتوزع الأيمان الخمسون عليهم بحسب أنصبائهم من الإرث. ويجبر الكسر للواحد.
4ً - وقال الحنابلة (2): تختص الأيمان بالورثة الذكور المكلفين، وهم ذوو الفروض والعصبات على قدر إرثهم إن كانوا جماعة، ويجبر الكسر واحداً، وإن كان الوارث واحداً حلفها أي الخمسين يميناً، ولا يدخل في القسامة: النساء والصبيان والمجانين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون رجلاً منكم، وتستحقون دم صاحبكم» ولأن القسامة حجة يثبت بها قتل العمد، فلا تسمع من النساء كالشهادة، ولأن الصبي أو المجنون لا يثبت بقوله حجة، فلو أقر أحدهما على نفسه لم يقبل إقراره، فلأن لا يقبل قوله في حق غيره أولى.

المطلب الثامن ـ مايجب بالقسامة (أو الأثر المترتب عليها):
اتفق الفقهاء على أن الدية تجب بالقسامة على العاقلة في القتل خطأ أو شبه عمد، مخففة في الأول، ومغلظة في الثاني.
_________
(1) مغني المحتاج: 115/ 4.
(2) كشاف القناع: 74/ 6، المغني: 80/ 8.

(7/5822)


أما في القتل العمد: فيرى الحنفية، والشافعية في المذهب الجديد (1): أنه لايجب القصاص، وإنما تجب الدية حالَّة في مال المقسم عليه (المتهم)، لخبر البخاري: «إما أن تدوا صاحبكم، أو تأذنوا بحرب» فقد أطلق النبي صلّى الله عليه وسلم إيجاب الدية، ولم يفصل بين العمد والخطأ، ولو صلحت أيمان القسامة لإيجاب القصاص لذكره النبي صلّى الله عليه وسلم، ولأن القسامة حجة ضعيفة، مشتملة على شبهة؛ لأن اليمين تفيد غلبة الظن، فلا توجب القصاص، احتياطاً لأمر الدماء التي لا تراق بالشبهة، كالإثبات بالشاهد واليمين.
وقد روي إيجاب الدية عن عمر وعلي في قتيل وجد بين قريتين على أقربهما إليه.
وقال المالكية والحنابلة (2): يجب القصاص بالقسامة في القتل العمد. لكن عند المالكية: إذا تعدد المتهمون لا يقتل بالقسامة أكثر من واحد. وعند الحنابلة: لا قصاص إذا وجد مانع يمنع منه كعدم المكافأة. غير أن هذا القيد في كل قصاص.
واستدلوا على إيجاب القصاص بخبر الصحيحين: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» أي دم قاتل صاحبكم (3)، وفي رواية «فيدفع إليكم برمته» وفي لفظ مسلم: «فيسلَّم إليكم» ولأن القسامة حجة يثبت بها العمد، أي القصد بالاتفاق، فيثبت بها القصاص كشهادة الرجلين. وقد روى الأثرم بإسناده عن عامر الأحول: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة بالطائف».
_________
(1) تكملة فتح القدير: 388/ 8، الدر المختار ورد المحتار: 446/ 5 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب: 172/ 3، مغني المحتاج: 116/ 4 ومابعدها.
(2) بداية المجتهد: 423/ 2، الشرح الكبير للدردير: 288/ 4، 297، كشاف القناع: 76/ 6، المغني: 68/ 8 وما بعدها، 77، 85.
(3) وأجاب الشافعي في الجديد عن الحديث بأن التقدير: بدل دم صاحبكم.

(7/5823)


انتهى الجزء السابع
ويتبعه الجزء الثامن
تتمة الفقه العام
الجهاد وتوابعه - القضاء

(7/5824)