الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

البَابُ الرَّابع: الجهاد وتوابعه ويشتمل على أربعة فصول:
1 - حكم الجهاد وقواعده.
2 - انتهاء الحرب بالإسلام أو بالمعاهدات.
3 - حكم الأنفال والغنائم.
4 - حكم الأسرى والسبي.

(8/5843)


الفَصْلُ الأوَّل: حكم الجهاد وقواعده يتكلم الفقهاء عادة عن العلاقات الدولية العامة والخاصة بين المسلمين وغيرهم فيما يسمونه «كتاب السِّيَر» (1). والسير: جميع سيرة، وهي السنة والطريقة، ويقصد بها هنا سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم في غزواته، وذلك يشمل البحث في حقيقة الجهاد والمكفلين بالقتال وواجبات المسلمين قبل بدء المعركة وفي أثنائها وبعد انتهائها، وحكم المعاهدات من أمان وهدنة وعقد ذمة، وحكم الأنفال والغنائم وكيفية تقسيم خمس الغنيمة، وحكم أموال المسلمين التي استولى عليها الأعداء، وحكم الأسرى، وحكم المرتدين.
وسأذكر هنا هذه الموضوعات مجملة؛ لأن تفصيلها يحتاج إلى مؤلف ضخم (2).

معنى الجهاد: الجهاد لغة: بذل الجهد وهو الوسع والطاقة: مأخوذ من الجهد بالضم، أوا لمبالغة في العمل: مأخوذ من الجهد بالفتح. واصطلاحاً عند الحنفية: هو الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله بالمال والنفس، قال الله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم
_________
(1) السير: بكسر السين وفتح الياء. وللإمام محمد بن الحسن كتابان: «السير الكبير» و «السير الصغير» من كتب ظاهر الرواية، وقد وصفت بصفة المذكر لقيامها مقام المضاف الذي هو الكتاب.
(2) انظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي ـ رسالتنا التي حصلنا بها على درجة الدكتوراه في الحقوق بمرتبة الشرف الأولى مع التبادل مع الجامعات الأجنبية، ط ثالثة.

(8/5845)


إن كنتم تعلمون} [التوبة:41/ 9] وقال سبحانه: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون في سبيل الله، فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة:111/ 9] (1).
وعرفه غير الحنفية بما يقارب هذا التعريف، فقال الشافعية مثلاً: «هو قتال الكفار لنصرة الإسلام» (2).
وأنسب تعريف للجهاد شرعاً أنه: بذل الوسع والطاقة في قتال الكفار ومدافعتهم بالنفس والمال واللسان.
فالجهاد يكون بالتعليم وتعلم أحكام الإسلام ونشرها بين الناس، وببذل المال، وبالمشاركة في قتال الأعداء إذا أعلن الإمام الجهاد، أخرج أبو داود عن أنس ابن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم».

فضل الجهاد ومنزلته في الإسلام:
الجهاد في الإسلام ذروة سنامه، وسياج مبادئه، وطريق الحفاظ على بلاد الإسلام والمسلمين. فهو من أهم مبادئ الإسلام العظمى؛ لأنه سبيل العزة والكرامة والسيادة، لهذا كان فريضة محكمة، وأمراً ماضياً إلى يوم القيامة، وما ترك قوم الجهاد إلا ذَلّوا وغُزوا في عقر دارهم وخذلهم الله، وسلط عليهم شرار الناس وأراذلهم.
_________
(1) البدائع: 97/ 7، فتح القدير: 276/ 4 وما بعدها، الدر المختار: 238/ 3.
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب: 391/ 2، وانظر آثار الحرب للمؤلف: ص 31 وما بعدها.

(8/5846)


قال تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده} [الحج:78/ 22] {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيَقْتلون ويُقْتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة:111/ 9].
ثم وردت أحاديث نبوية كثيرة تبين فضل الجهاد، وأنه أفضل الأعمال عند الله تعالى، سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور» (1). وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» (2).
والمجاهد الذي يجود أو يضحي بنفسه في سبيل الله، سبيل الجماعة والقيم العليا، يتمتع بالخلود والرفعة والمكانة في تاريخ البشرية وعند الله تعالى حيث يجعله في مصاف الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خَلْفهم ألاَّ خوف عليهم ولا هم يحزنون} [آل عمران:169/ 3 - 170].
ولقد تمنى نبي الله أن يحوز درجة الشهادة في سبيل الله، فقال: «والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله، فأُقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل» (3) وقال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّيْن» (4). بل إن الشهيد نفسه يتمنى
_________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(8/5847)


العودة إلى دار الدنيا، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وإن له ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة» (1).
وعقد الرسول الكريم مقارنة دقيقة بين قتلى الحرب فقال (2): «القتلى ثلاثة رجال: رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، ذلك الشهيد الممتحن، في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ورجل مؤمن قَرَف (3) على نفسه من الخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فتلك مصمصة (4) محت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محَّاء للخطايا، وأُدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أسفل من بعض. ورجل منافق جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فذلك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق» (5).

فريضة الجهاد:
إن لم يكن النفير عاما ً: فالجهاد فرض كفاية، ومعناه أنه يفترض على جميع من هو أهل للجهاد، لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لقوله عز وجل: {فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلاًّ وعد الله
_________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه.
(2) راجع كتاب الجهاد لعبد الله بن المبارك: ص30.
(3) قرف الذنب واقترفه، إذا كسبه وعمله.
(4) أي مطهرة من دنس الخطايا.
(5) أخرجه من حديث عتبة بن عبد السلمي الدارمي، والطيالسي، وابن حبان والبيهقي وأحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح خلا أبا المثنى، المملوكي وهو ثقة.

(8/5848)


الحسنى} [النساء:95/ 4] الله سبحانه وعد الحسنى كلاًّ من المجاهدين والقاعدين عن الجهاد، ولو كان الجهاد فرض عين لما وعد القاعدين الحسنى؛ لأن القعود يكون حراماً.
وقوله سبحانه: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} [التوبة:122/ 9] الآية، ولأن المقصود من الجهاد ـ وهو الدعوة إلى الإسلام، وإعلاء الدين الحق، ودفع شر الكفرة وقهرهم ـ يحصل بقيام البعض به، فإذا قاموا به يسقط عن الباقين.
وإن ضعفوا عن مقاومة الكفرة، فعلى من يجاورهم من المسلمين، الأقرب، فالأقرب: أن يجاهدوا معهم وأن يمدوهم بالسلاح والمال.
ولا يجوز للمرأة الاشتراك في الجهاد إلا بإذن زوجها؛ لأن القيام بحقوق الزوجية فرض عين، كما لا يجوز الجهاد للولد بدون إذن أبويه أو أحدهما إذا كان الآخر ميتاً؛ لأن بر الوالدين فرض عين، فيكون مقدماً على فرض الكفاية.
وأقل الجهاد عند توافر القوة مرة في السنة كإحياء الكعبة، ولقوله تعالى: {أوَ لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين} [التوبة:126/ 9] قال مجاهد: نزلت في الجهاد ولفعله صلّى الله عليه وسلم منذ أمر به.
وكان الجهاد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرض كفاية، لقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} ـ إلى قوله تعالى - {وكلاً وعد الله الحسنى} [النساء:4/ 95] ففاضل سبحانه وتعالى بين المهاجرين والقاعدين، ووعد كلاً الحسنى، والعاصي لا يوعد بها، ولا يفاضل بين مأجور ومأزور. وأما بعد النبي صلّى الله عليه وسلم فللكفار حالان:

(8/5849)


أحدهما ـ يكونون ببلادهم ففرض كفاية إذا فعله من فيهم كفاية، سقط الحرج عن الباقين.
الثاني ـ يدخلون بلدة لنا، فيلزم أهلها الدفع بالممكن، فإن عجزوا وجب القتال على من بقربهم دون مسافة القصر من البلدة كأهلها، ثم يلزم من بعد ذلك بقدر الكفاية دفعاً عنهم وإنقاذاً لهم. والتقييد بقدر الكفاية دال على أنه لا يجب على الجميع الخروج للقتال، بل إذا صار إليه قوم فيهم كفاية، سقط الحرج عن الباقين (1).

ف إن كان النفير عاما ً: كأن هجم العدو على بلد إسلامي: فالجهاد فرض عين على كل قادر من المسلمين، لقوله سبحانه وتعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً} [التوبة:41/ 9] قيل: نزلت في النفير. وقوله عز وجل: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} [التوبة:120/ 9] فإذا عم النفير خرجت المرأة بغير إذن زوجها، وجاز للولد أن يخرج بدون إذن والديه.
ويتعين الجهاد في ثلاثة أحوال (2):
الأول ـ إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً} [الأنفال:45/ 8].
الثاني ـ إذا نزل الكفار ببلد، تعين على أهله قتالهم ودفعهم.
الثالث ـ إذا استنفر الإمام قوماً، لزمهم النفير معه، لقول الله تعالى:
_________
(1) مغني المحتاج: 208/ 4 - 219، المغني: 348/ 8.
(2) المغني: 346/ 8.

(8/5850)


{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض} [التوبة:38/ 9] وللحديث المتفق عليه: «إذا استنفرتم فانفروا».
وهذا الحكم المذكور في فرضية الجهاد باتفاق الفقهاء (1).

شروط الجهاد: يشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط (2): الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة.
فأما الإسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع الشرعية. وأما الحرية؛ فلأن النبي كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد.
وأما الذكورة فلحديث عائشة عند البخاري وغيره: «قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ فقال: لكن أفضل الجهاد: حج مبرور». وأما السلامة من الضرر أي العمى والعرج والمرض، فلقوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج} [النور:61/ 24]. وأما وجود النفقة فلقوله تعالى: {ليس على الضعفاء ولاعلى المرضى، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة:91/ 9] ولأن الجهاد لا يمكن إلا بآلة، فتطلب القدرة عليها. وهذا كان في الماضي، وأما في عصرنا فالدولة تمد المجاهد بالسلاح والنفقة.

المكلفون بالجهاد: يفترض الجهاد على القادر عليه، فمن لا قدرة له لا جهاد عليه، فلا يطالب بالجهاد: الأعمى، والأعرج، والمريض مرضاً مزمناً أو غير
_________
(1) البدائع: المرجع السابق: ص 98، تبيين الحقائق: 241/ 3، فتح القدير: 278/ 4، الدر المختار: 239/ 3، آثار الحرب: ص 87.
(2) المغني: 347/ 8.

(8/5851)


مزمن، والمقعد (1) والشيخ الهرم، والضعيف والأقطع (2) والذي لا يجد ما ينفق، والصبي، والمرأة والعبد؛ لأن الأخيرين مشغولان بخدمة الزوج والسيد؛ ولأن الصبي غير مكلف، وليس أهلاً للقتال، بدليل ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال: «عُرضتُ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني في المقاتلة» الحديث. وأما كون الباقين لاقتال عليهم فلعجزهم، وقد نزل فيهم قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج ... } [النور:61/ 24] الآية نزلت في أصحاب الأعذار حين همّوا بالخروج مع النبي صلّى الله عليه وسلم حين نزلت آية التخلف عن الجهاد. وقال سبحانه: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة:91/ 9] (3).
ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها إلا أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، لصيرورة القتال حينئذ فرض عين.
ولا يقاتل الولد إلا بإذن أبويه، إلا إذا صار الجهاد فرض عين، جاء في الصحيحين: «أن رجلاً استأذن النبي صلّى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: ألك والدان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد».

ما يجب قبل القتال: أمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك، وينبغي أن يبتدئ بترتيب قوم في أطراف البلاد يكفون
_________
(1) المقعد كما في المغرب: هو الذي أقعده الداء عن الحركة. وقيل: المقعد: المتشنج الأعضاء. والزمِن: الذي طال مرضه.
(2) هو المقطوع اليد.
(3) المراجع السابقة، البدائع: ص 98 وما بعدها، تبيين الحقائق: ص 241، فتح القدير: ص283، الدر المختار: ص 241.

(8/5852)


من بإزائهم من المشركين، ويأمر بإعداد الحصون وحفر الخنادق، وجميع المصالح. ويؤمِّر في كل ناحية أميراً يقلده أمر الحروب وتدبير الجهاد (1). فإذا ساءت العلاقة بين المسلمين وغيرهم من الكفار ووجدت دواعي القتال، وقرر الحاكم المسلم خوض المعركة مع العدو، فيجب حينئذ إنذار العدو بإعلان الجهاد أوإبلاغ الدعوة الإسلامية.

واختلف الفقهاء في حكم إبلاغ الدعوة على ثلاثة آراء:
الأول ـ يجب قبل القتال تقديم الدعوة الإسلامية مطلقاً، أي سواء بلغت الدعوة العدو أم لا، وبه قال مالك والهادوية والزيدية، لقوله تعالى: {ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح:16/ 48].
الثاني ـ لا يجب ذلك مطلقاً، وهو رأي قوم كالحنابلة.
الثالث ـ تجب الدعوة لمن لم يبلغهم الإسلام، فإن انتشر الإسلام، وظهر كل الظهور، وعرف الناس لماذا يُدعون، وعلى ماذا يقاتلون، فالدعوة مستحبة تأكيداً للإعلام والإنذار، وليست بواجبة، وهذا رأي جمهور الفقهاء والشيعة الإمامية والإباضية. قال ابن المنذر: هو قول جمهور أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث (2).
من الأحاديث التي توجب الإبلاغ: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «ما قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوماً قط إلا دعاهم» (3) وما رواه سليمان بن
_________
(1) المغني: 352/ 8.
(2) راجع آثار الحرب للمؤلف، الطبعة الثالثة: ص 152 وما بعدها، الأحكام السلطانية للماوردي: ص35.
(3) رواه أحمد والبيهقي وأبو يعلى والطبراني وعبد الرزاق، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 304/ 5: ورجاله رجال الصحيح (راجع نيل الأوطار: 230/ 7 وما بعدها، نصب الراية: 378/ 3).

(8/5853)


بريدة عن أبيه، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصيته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً .. ثم قال: وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم ... فإن أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ... » الحديث (1).
ومن الأحاديث التي لا توجب الإبلاغ أو الدعوة إلى الإسلام: ما روي عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أغار على بني المُصطَلِق وهم غارّون (أي غافلون) وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم (2). ومنها ما رواه أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال: «أغر على أبنى (3) صباحاً، وحرّق» (4) والغارة لا تكون مع الدعوة.
الحديثان الأولان وغيرهما يعتبران الدعوة إلى الإسلام شرطاً في جواز القتال، والحديثان الآخران يجيزان الإغارة على العدو بدون دعوة جديدة، نظراً لأنه سبق له بلوغ الدعوة، وإزاء هذا التعارض في الظاهر قال أرباب الرأي الأول والثاني: إن بعض الأحاديث ينسخ بعضها، أو يخصص الفعل بزمن النبوة.
_________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري، وصححه الترمذي (راجع نيل الأوطار، المرجع السابق، جامع الأصول: 201/ 3، نصب الراية: 380/ 3، سبل السلام: 46/ 4، الإلمام: ص 484).
(2) رواه أحمد والشيخان (راجع نيل الأوطار، المرجع السابق، ص 232، جامع الأصول: 204/ 3، نصب الراية: 3ص 381، سبل السلام: ص 45، الإلمام: ص 486).
(3) أبنى ـ كحبلى: موضع بفلسطين بين عسقلان والرملة.
(4) رواه أبو داود وابن ماجه (راجع سنن أبي داود: 352/ 1، سنن ابن ماجه: ص 209، نصب الراية: 382/ 3، نيل الأوطار: 250/ 7).

(8/5854)


وقال الجمهور: يلجأ إلى الجمع والتوفيق بين الأحاديث؛ لأنه لا يلجأ إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الأدلة، وأما ادعاء التخصيص فلا دليل عليه.
فمن لم تبلغه الدعوة يجب دعاؤه إلى الإسلام، فإذا بلغته استحب ذلك (1).
وعلى هذا، يجوز أن نبدأ العدو بالقتال والإغارة والبيات عليهم (2)؛ لأنه قد وصلتهم أنباء الدعوة الإسلامية. وبه يتبين أنه يشترط فيمن نقاتلهم شرطين:
1 - ألا يكونوا مستأمنين أو معاهدين أو من أهل الذمة: لأن دماء هؤلاء معصومة مصونة، وقد حرم الشرع قتلهم، كما يأتي في المعاهدات.
2ً - إبلاغهم الدعوة الإسلامية وتعريفهم بالإسلام وبيان حقيقته وأهدافه وأسباب جهاد أعدائه. فإن توافر هذان الشرطان جاز قتالهم من دون إنذار سابق كما تقدم.

من يقتل ومن لا يقتل من الأعداء في المعركة: يجوز قتل المقاتلة الذين يشتركون في الحرب برأي أو تدبير أو قتال، ولا يجوز قتل غير المقاتلة من امرأة أو صبي أو مجنون أو شيخ هرم، أو مريض مقعد، أو أشل، أو أعمى، أو مقطوع اليد والرجل من خلاف أو مقطوع اليد اليمنى، أو معتوه، أو راهب في صومعته، أو قوم في دار أو كنيسة ترهبوا، والعَجَزة عن القتال، والفلاحين في حرثهم إلا إذا قاتلوا بقول أو فعل أو رأي أو إمداد بمال، بدليل أن ربيعة بن رفيع السُّلَمي أدرك دريد بن الصِّمة يوم حنين، فقتله وهو شيخ كبير جاوز المئة، لا ينتفع إلا برأيه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه (3). ويجوز قتل المرأة إذا كانت مَلِكة
_________
(1) آثار الحرب: ص 153 وما بعدها.
(2) البيات ـ بفتحتين: الإغارة ليلاً، يقال: بيَّت الأمر: دبره ليلاً.
(3) روي ذلك في الصحيحين عن أبي موسى (نيل الأوطار: 248/ 7).

(8/5855)


الأعداء؛ لأن في قتلها تفريقاً لجمعهم، وكذلك إذا كان ملكهم صبياً صغيراً وأحضروه معهم في المعركة، لا بأس بقتله إذا كان في قتله تفريق جمعهم.
وأما أدلة عدم جواز قتلهم إذا لم يقاتلوا: فمنها قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا امرأة ولا وليداً» (1) وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «نهى عن قتل النساء والصبيان» (2). وقال لأحد صحابته: الحق خالداً فقل له: «لا تقتلوا ذرّية ولا عسيفاً» (3). وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال: «لا تقتلوا أصحاب الصوامع» (4). وعن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «انطلقوا باسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلُّوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» (5).
هذا في حال الحرب والقتال. أما بعد انتهاء القتال وهو ما بعد الأسر والأخذ: فكل من لا يحل قتله في حال القتال لا يحل قتله بعد الفراغ من القتال، وكل من يحل قتله في حال القتال إذا قاتل يباح قتله بعد الأخذ والأسر إلا الصبي
_________
(1) رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عباس ولفظه: « .. ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً» (راجع مجمع الزوائد: 316/ 5).
(2) رواه الجماعة إلا النسائي عن ابن عمر أنه قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلّى الله عليه وسلم، فنهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان». ورواه الموطأ أيضاً، وفي رواية لأحمد وأبي داود: «ما كانت هذه لتقاتل» (راجع القسطلاني شرح البخاري: 142/ 5، سنن ابن ماجه: 101/ 2، منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 319/ 2، نيل الأوطار: 246/ 7، جامع الأصول: 208/ 3 ومابعدها، نصب الراية: 386/ 3، مجمع الزوائد: 315/ 5).
(3) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن رباح بن ربيع (نيل الأوطار، المرجع السابق، جامع الأصول، المرجع السابق، مجمع الزوائد: ص 316، نصب الراية: ص 388) والذرية: الولدان. والعسيف: الأجير.
(4) أخرجه أحمد عن ابن عباس (نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 247).
(5) أخرجه أبو داود عن أنس (نيل الأوطار، المرجع السابق، ص 246، سنن أبي داود: 52/ 3، والمراجع السابقة).

(8/5856)


والمعتوه الذي لا يعقل، فإنه يباح قتلهما في حال القتال إذا قاتلا، ولا يباح قتلهما بعد الفراغ من القتال إذا أسرا، حتى وإن قتلا جماعة من المسلمين في القتال؛ لأن القتل بعد الأسر بطريق العقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة، فأما القتل في حال القتال فلدفع شر المقاتل، فإذا وجد الشر منهما فأبيح قتلهما لدفع الشر، كما قال الكاساني (1).
وينبغي للمسلمين ألا يغدروا (أي يخونوا بنقض العهد) ولا يغلُّوا (أي يسرقوا من الغنيمة) ولا يمثِّلوا بالأعداء: بأن يشقوا أجوافهم ويرضخوا رؤوسهم ونحو ذلك. قال بعض الحنفية: وإنما تكره المُثْلة بعد الظفر بهم، أما قبله فلا بأس بها (2).
هذا هو مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والشيعة الزيدية والشافعي في أحد قوليه). وقال الشيعة الإمامية والظاهرية وابن المنذر والشافعي في أظهر قوليه: يجوز قتل من عدا النساء والصبيان (3).

التدمير والتخريب: لا بأس عند الضرورة الحربية بإحراق حصون العدو بالنار، وإغراقها بالماء وتخريبها وهدمها عليهم، وقطع أشجارهم وإفساد زروعهم، ونصب المجانيق (4) ونحوها من مدافع اليوم على حصونهم وهدمها، لقوله تعالى: {يُخرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} [الحشر:2/ 59].
_________
(1) راجع البدائع: 101/ 7 وفي شرح اللباب على الكتاب: 210/ 4: لا بأس بقتل غير الصبي والمجنون بعد الأسر، لأنه من أهل العقوبة، الشرح الصغير: 275/ 2 وما بعدها، كشاف القناع: 44/ 3 وما بعدها.
(2) راجع الموضوع في آثار الحرب: ص 294 وما بعدها.
(3) راجع الموضوع في آثار الحرب: ص 494 وما بعدها.
(4) المجانيق: جمع منجنيق، وهي التي يرمى بها الحجارة.

(8/5857)


ولأنه عليه الصلاة والسلام أحرق البويرة: وهي موضع بقرب المدينة، ولأن في إرسال الماء ونحوه كسر شوكتهم وتفريق جمعهم.
ولا بأس برميهم بالنبال ونحوها من وسائل القتال الحديثة، البرية والبحرية والجوية، وإن كان فيهم مسلمون من الأسارى والتجار؛ لأن رميهم ضرورة، ويقصد الكفار بالضرب لا المسلمين؛ لأنه لا ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق.
وكذا يجوز ضرب الكفار إن تترسوا بأطفال المسلمين وأسراهم، للضرورة وسداً لذريعة الفساد التي قد تترتب على ترك قتلهم، لكن يقصد الكفار بالضرب كما ذكر. وإن أصيب مسلم فلا دية ولا كفارة. ولاينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالكفار على قتال الكفار، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم عن عائشة ـ لرجل تبعه يوم بدر: «ارجع فلن أستعين بمشرك»؛ ولأنه لا يؤمن غدرهم، إذ العداوة الدينية تحملهم على الغدر إلا عند الاضطرار (1)، وقد أجاز الأكثرون من أتباع المذاهب الأربعة الاستعانة بالكافر على الكفار، إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين، أي وكانت القيادة للمسلمين. وقيد الشافعية ذلك أيضاً بالحاجة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم ـ استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، وتعاونت خزاعة مع النبي صلّى الله عليه وسلم عام فتح مكة، وخرج قُزمان الظفري وهو من المنافقين مع الصحابة يوم أحد، وهو مشرك (2).

ما يجب على المجاهدين حال القتال: يجب على المجاهدين حال التحام القتال، وفي أثناء المعركة، الثبات أمام عدوهم إذا غلب على ظنهم أنهم يقاومونهم، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله
_________
(1) البدائع: 100/ 7 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 117/ 4 وما بعدها.
(2) نيل الأوطار: 136/ 7، القسطلاني شرح البخاري: 170/ 5.

(8/5858)


كثيراً، لعلكم تفلحون} [الأنفال:45/ 8] وعلى المسلم أن يثبت أمام اثنين من الكفار، قال الله تعالى: {الآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين} [الأنفال:66/ 8].
فإن غلب على ظن المقاتلين المسلمين أنهم سيُغلبون ويقتلون، فلا بأس أن يفروا من عدوهم منحازين إلى فئة يستنصرون بها من المسلمين. ولا عبرة بالعدد، حتى إن الواحد، إذا لم يكن معه سلاح، فلا بأس أن يفر من اثنين مسلحين، أو من واحد مسلح، أو بسبب عجز لمرض ونحوه، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً، فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة، فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال:16/ 8] (1).
ويؤيده ما روى ابن عمر قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرية قِبَل نجد، وأنا فيهم، فحاص المسلمون حيصة (يعني انهزموا من العدو) فلما قدمنا المدينة، قلنا: نحن الفرّارون، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: بل أنتم العكّارون (2) في سبيل الله، أنا لكم فئة، لترجعوا معي إلى الجهاد في سبيل الله» (3)، فهذا إقرار من الرسول صلوات الله وسلامه عليه لفعل هذه السرية التي لم تستطع متابعة القتال أمام قوة الأعداء، وإن كانت حالة الحرب ما زالت قائمة معهم.
ويحرم على المسلمين بيع أهل الحرب السلاح والكُرَاع (الخيول) ونحوها من وسائل القتال التي تقوي العدو كالحديد، ولا يتاجر بها إلى الأعداء (4).
_________
(1) آثار الحرب: ص 750 وما بعدها، البدائع: 98/ 7 وما بعدها.
(2) العكارون: العطافون الراجعون إلى الجهاد مرة أخرى.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر (جامع الأصول: 222/ 3، نيل الأوطار: 252/ 7).
(4) الكتاب مع اللباب: 123/ 4.

(8/5859)