الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثّاني: انتهاء الحرب بالإسلام أو بالمعاهدات ينتهي القتال بطرق متعددة منها اعتناق الإسلام، أو عقد معاهدة مع المسلمين أو بالأمان.
المبحث الأول ـ انتهاء القتال بالإسلام:
الكلام هنا عن طرق الدخول في الإسلام، وعن أحكام إعلان الإسلام في ظروف القتال.
أما طرق الدخول في الإسلام، فمنها الصريح، ومنها الضمني، ومنها التبعي.

ف إعلان الإسلام صراحة: يكون بالنطق بالشهادتين أو بالشهادة مع التبري من عقيدته السابقة. والكفار في هذا الأمر أصناف أربعة: صنف ينكرون وجود الله وهم الدُهرية، وصنف ينكرون وحدانية الخالق وهم الوثنية والمجوس، وصنف يقرون بوجود الله ووحدانيته إلا أنهم ينكرون النبوة والرسالة، وصنف ينكرون فقط رسالة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم.
فإن كان الكافر من الصنف الأول والثاني، فيكفي أن يقول ليُحكم بإسلامه: لا إله إلا الله، أو يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن

(8/5860)


أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» (1).
عن أبي مالك عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» (2).
وعن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قصة حبر من أحبار اليهود أنه قال للنبي: «لقد صدقت، وإنك لنبي» ثم انصرف (3).
وإن كان الكافر من الصنف الثالث: فلا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، وإنما لا بد من أن ينطق بالشهادة الأخرى، فيقول: أشهد أن محمداً رسول الله. وحينئذ يحكم بإسلامه.
وإن كان من الصنف الرابع، فلا يكفيه النطق بالشهادتين، وإنما ينبغي عليه أن يتبرأ من الدين الذي عليه من اليهودية أو النصرانية. ولا يقبل إسلامه أيضاً إذا قال: أنا مؤمن، أو مسلم، أوآمنت، أو أسلمت؛ لأن اليهود والنصارى يدعون أنهم مؤمنون، أو مسلمون على النحو الذي هم عليه. هذا ما قرره الإمام محمد، وكان ذلك بحسب زمنه، أما الآن فالمفتى به ما قاله ابن عابدين: يكفي أن يقول اليهودي والنصراني: أنا مسلم؛ لأن اليهود والنصارى يمتنعون من قول: (أنا مسلم) فإذا قال أحدهم: (أنا مسلم) فهو دليل إسلامه (4).
_________
(1) هذا حديث متواتر عن تسعة عشر صحابياً بألفاظ، منها: ما رواه مسلم والبخاري وأبو داود وغيرهم عن أبي هريرة، ومنها: ما رواه الشيخان عن ابن عمر، ومنها: ما رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي عن أنس، ومنها غير ذلك (راجع العيني شرح البخاري: 215/ 14، شرح مسلم: 210/ 1، سنن البيهقي: 182/ 9، نيل الأوطار: 197/ 7 وما بعدها، نصب الراية: 379/ 3، النظم المتناثر: ص 29).
(2) أخرجه مسلم (راجع شرح مسلم: 212/ 1، جامع الأصول: 161/ 1).
(3) أخرجه مسلم (راجع صحيح مسلم: 99/ 1).
(4) رد المحتار على الدر المختار: 315/ 3.

(8/5861)


وأما الوثني مثلاً فيحكم بإسلامه إذا قال: أنا مسلم ونحوه، بدليل حديث المقداد بن الأسود أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار، وقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمتُ لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تقتله (1).

وأما إعلان الإسلام ضمنا ً: فمثل أن يصلي الكتابي أو المشرك مع جماعة من المسلمين؛ لأن الصلاة على هذه الهيئة لم تكن في شرائع من قبلنا، فكان ذلك دليلاً على الدخول في الإسلام. هذا عند الحنفية والحنابلة. وقال الشافعي: لا يحكم بإسلامه؛ لأن الصلاة ليست دليلاً على الإيمان حال الانفراد، فكذلك حال الاجتماع.
وأما الحكم بالإسلام تبعا ً: فهو أن الصبي يحكم بإسلامه تبعاً لأبويه عند وجودهما، أو وجود أحدهما، كما إذا أسلم أحد الأبوين، فالولد يتبع المسلم منهما؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، كما أنه يحكم بإسلامه أيضاً إذا سبى الصبي وحده، وأدخل في دار الإسلام فهو مسلم تبعاً للدار (2).
وأما الأحكام المترتبة على الدخول في الإسلام من قبل الكفار: فهي عصمة الدماء والأموال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها».
وبناء عليه إذا أسلم أهل بلدة من أهل دار الحرب قبل أن يتغلب عليهم المسلمون، حرم قتلهم، ولا سبيل لأحد على أموالهم التي في أيديهم أو الودائع
_________
(1) أخرجه البخاري ومسلم (راجع شرح مسلم: 98/ 2، الإلمام: ص 465).
(2) آثار الحرب: ص 643 وما بعدها، البدائع: 102/ 7 وما بعدها، رد المحتار على الدر المختار: 316/ 3، المغني: 143/ 8.

(8/5862)


في بلاد الإسلام للحديث السابق، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من أسلم على ما ل فهو له» (1).
فإن تغلبنا عليهم بالحرب، كان عقار من أسلم وزوجته وأولاده الكبار فيئاً للمسلمين؛ لأن العقار من جملة دارالحرب، وزوجته كافرة حربية لا تتبعه في الإسلام، وكذا أولاده كفار حربيون، ولا تبعة لهم؛ لأنهم على حكم أنفسهم.
كذلك يعصم الإسلام عند جمهور العلماء صغار الأولاد والحَمْل، إذا أسلم الأب أو الأم، سواء أكان في دار الحرب أم في دار الإسلام؛ لأن الطفل تابع لأبيه أو لأمه في الإسلام مطلقاً، إذ الولد يتبع خير الأبوين ديناً بالاتفاق. قال الله تعالى: {والذين آمنوا واتَّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} [الطور:21/ 52].
وقال الحنفية: إذا أسلم كافر في دار الإسلام لم يكن أولاده الصغار مسلمين بإسلامه، إذا كانوا في دار الحرب، لانقطاع التبعة بتباين الدارين، فكانوا من جملة الأموال يدخلون في الفيء.
وأما الزوجة والأولاد الكبار: فقد اتفق أئمة المذاهب الأربعة والشيعة الإمامية والزيدية والظاهرية على أن إسلام الشخص لا يعصم زوجته ولا أولاده الكبار البالغين، إذ إن للزوجة والأولاد الراشدين حكم أنفسهم كفراً وإسلاماً، لقوله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} [الأنعام:164/ 6] {كل امرئ بما كسب رهين} [الطور:21/ 52] (2).
_________
(1) رواه البيهقي وأبو يعلى وأبو عدي في الكامل مرفوعاً عن أبي هريرة بلفظ: «من أسلم على شيء فهو له». (راجع مجمع الزوائد: 335/ 5، سنن البيقهي: 113/ 9، نيل الأوطار: 11/ 8، نصب الراية: 310/ 3).
(2) آثار الحرب: ص 650 - 652 والمراجع المذكورة فيه.

(8/5863)


المبحث الثاني ـ انتهاء القتال بالأمان الكلام عن الأمان ببيان ركنه وشروطه وحكمه وصفته وما يبطل به ومكانه ومدته والمصلحة فيه.
تعريف الأمان وركنه ونوعاه: الأمن في اللغة: ضد الخوف، وفي اصطلاح الشرعيين كما عرفه الشافعية: عقد يفيد ترك القتل والقتال مع الحربيين. وركنه: اللفظ الدال على الأمان، نحو قول المجاهد: أمنتكم أو أنتم آمنون، أو أعطيتكم الأمان، ونحوها.
وهو إما عام أو خاص:
فالعام: ما يكون لجماعة غير محصورين كأهل ولاية، ولا يعقده إلا الإمام أو نائبه، كعقد الهدنة وعقد الذمة؛ لأن هذا العقد من المصالح العامة التي يختص الإمام بالنظر فيها.
والخاص: ما يكون للواحد أو لعدد محصور كعشرة فما دون. ولا يجوز لأكثر من ذلك كأهل بلدة كبيرة، لما فيه من افتئات على الإمام، وتعطيل للجهاد. وما نص عليه الحنفية من إعطاء الفرد حق تأمين أهل حصن أو مدينة لا دليل عليه؛ لأن الأحاديث الواردة في الأمان محصورة في حالات فردية معينة كما سنرى.
والعام: إما مؤقت وهو الهدنة، أو مؤبد وهو عقد الذمة (1).

شروط الأمان: اشترط الحنفية لصحة الأمان شروطاً أربعة (2):
1 - أن يكون المسلمون في حال ضعف، والكفار في حال القوة.
_________
(1) آثار الحرب: ص 225 وما بعدها، 285 ومابعدها.
(2) البدائع: 106/ 7، فتح القدير: 298/ 4، تبيين الحقائق: 247/ 3، الدر المختار: 249/ 3.

(8/5864)


2 - العقل: فلا يجوز أمان المجنون والصبي غير المميز؛ لأن العقل شرط في أهلية التصرف.
3 - البلوغ وسلامة العقل عن الآفات المرضية.
4 - الإسلام: فلا يصح أمان الكافر ولو ذمياً، وإن كان يقاتل مع المسلمين؛ لأنه متهم بالنسبة للمسلمين، فلا تؤمن خيانته، والأمان مبني على مراعاة مصلحة المسلمين، والكافر مشكوك في تقديره المصلحة.
ولا تشترط الحرية، فيصح أمان العبد عند الجمهور، ولم يجز أبو حنيفة أمان العبد المحجور عن القتال إلا أن يأذن له مولاه بالقتال؛ لأن الأمان عنده من جملة العقود، والعبد محجور عليه، فلا يصح عقده.
وقال الصاحبان: يصح أمان العبد، لأنه مؤمن ذو قوة وامتناع يتحقق منه الخوف، والأمان يكون بسبب الخوف.
وكذلك لا تشترط الذكورة، فيصح أمان المرأة لحديث: «إن المرأة لتأخذ للقوم، يعني تجير على المسلمين» (1) وحديث: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» (2). ولا تشترط السلامة عن العمى والزمانة والمرض، فيصح أمان الأعمى والزمِن والمريض.
ولا يجوز أمان التاجر في دار الحرب، والأسير فيها، والحربي الذي أسلم هناك؛ لأن هؤلاء لا يستطيعون تقدير المصلحة في الأمان، ولأنهم متهمون في نظر المجاهدين لكونهم تحت سلطة العدو.
_________
(1) رواه الترمذي عن أبي هريرة، وقال: حسن غريب (نيل الأوطار: 28/ 8).
(2) حديث متفق عليه بين أحمد والشيخين عن أم هانئ (نيل الأوطار: 17/ 8).

(8/5865)


وكذلك الجماعة ليست بشرط، فيصح أمان الواحد.
ويوافق الحنفيةَ في أغلب هذه الحالات: جمهورُ الفقهاء والشيعة الإمامية والزيدية والإباضية، فهم يرون أن الأمان يصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار، ولو كان عبداً لمسلم أو كافر، أو فاسقاً، أو محجوراً عليه لسفه أو تفليس، أو امرأة، أوأعمى، أو مقعداً أو زَمِناً أو مريضاً أو خارجاً على الإمام؛ لأن الخوارج مسلمون، قال علي رضي الله عنه: «إخواننا بغوا علينا».

والأدلة لما ذكر من القرآن والسنة والمعقول هي ما يأتي:
أما القرآن فقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6/ 9] والنص عام يشمل كل مسلم، وكل مستأمن أو معاهد يريد سماع القرآن الكريم أو المفاوضة مع المسلمين لأمور سياسية أو حربية أو أمنية أو تجارية.
وأما السنة: فقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً» (1)، وفي رواية «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» (2)، وقد أنفذ الرسول صلّى الله عليه وسلم أمان أم هانئ
_________
(1) الصرف: التوبة أو الحيلة، والحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه عن علي بن أبي طالب، وأخرج البخاري نحوه عن أنس بن مالك، وأخرجه مسلم أيضاً عن أبي هريرة، وأخرجه غيرهم (راجع نصب الراية: 393/ 3 وما بعدها، صحيح البخاري: 102/ 4، القسطلاني: 229/ 5، 236، منتخب كنز العمال في مسند أحمد: 295/ 2، نيل الأوطار: 28/ 8، مجمع الزوائد: 283/ 6، 329/ 5).
(2) معنى الحديث: أن المسلمين يتساوون في القصاص والديات، لا فضل لشريف على وضيع، وإذا أعطى أدنى رجل منهم أماناً فليس للباقين نقضه، ومعنى «وهم يد» أي يتناصرون على الملل المحاربة لهم.

(8/5866)


لرجل أو رجلين من أحمائها قائلاً لها: «قد أجرنا من أجرت ياأم هانئ» (1) وكذلك أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام أمان ابنته زينب لزوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان قادماً بتجارة إلى المدينة، فأصابتها إحدى سرايا المسلمين (2).

وأما المعقول: فهو أن الواحد من المسلمين من أهل القتال والمنعة، فيخافه العدو، ويهتم هو بتحقيق مصلحة الجماعة الإسلامية، فيتم منه الأمان دون حاجة إلى إجازة الإمام؛ لأن فعله تصرف صدر من ذي أهلية له، ووقع في محله (3).
حكم الأمان: يقتضي الأمان ثبوت الأمن والطمأنينة للمستأمنين، فيحرم قتل رجالهم وسبي نسائهم وأولادهم، واغتنام أموالهم، واسترقاقهم، ولا يجوز أيضاً ضرب الجزية عليهم؛ لأن فعل شيء مما ذكر غدر، والغدر حرام.
ويشمل حكم الأمان نفس المستأمن، وأولاده الصغار، وماله عند الحنابلة والحنفية استحساناً؛ لأن الإذن بالدخول يقتضي ذلك.
وقال الشافعية: يدخل في الأمان مال المستأمن وأهله بلا شرط إن كان الإمام هو الذي أعطى الأمان.
ويرى الهادوية والمالكية: أن الأمان يتبع الشرط (4).
_________
(1) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والموطأ والترمذي والبيهقي عن أم هانئ (راجع العيني شرح البخاري: 93/ 15، القسطلاني: 228/ 5، سنن أبي داود: 112/ 3، سنن البيهقي: 94/ 9، نصب الراية: 395/ 3، جامع الأصول: 259/ 3).
(2) أخرجه الطبراني عن أم سلمة وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف ويؤيده أيضاً حديث رواه الترمذي وقال: حسن غريب عن أبي هريرة بلفظ: «إن المرأة لتأخذ للقوم ـ يعني تجير على المسلمين» (راجع نصب الراية: 395/ 3 وما بعدها، نيل الأوطار: 28/ 8، مجمع الزوائد: 330/ 5).
(3) راجع آثار الحرب: ص 222، 228 وما بعدها.
(4) راجع التفصيل في آثار الحرب: ص 245 ومابعدها.

(8/5867)


وبناء عليه يجب على المسلمين كف الأذى عن المستأمنين، وإذا انتهت مدة الأمان وجب على الحاكم المسلم إبلاغ المأمن، أي تبليغ المستأمن المكان الذي يأمن فيه على نفسه وماله. ولا يجوز في رأي الجمهور نقض أمان المستأمن ما لم نخش منه الخيانة، أو يصدر منه ما يستدعي إلغاء أمانه.

رقابة الدولة على التأمينات: للإمام مراقبة كل أمان يصدر من الأفراد، وعلى التخصيص أمان المرأة والعبد والصبي ونحوهم، ولكن لايتوقف عند أكثر الفقهاء نفاذ الأمان على إجازة الإمام. وقال ابن الماجشون وسحنون المالكيان: أمان المرأة موقوف على إذن الإمام. ورد عليهما بحديث عائشة - فيما رواه البيهقي وأبو داود والترمذي - «إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين، فيجوز» وفي رواية: «أمان المرأة جائز إذا هي أعطت القوم الأمان» وروى الترمذي عن أبي هريرة حديث: «إن المرأة لتأخذ للقوم، يعني تجير على المسلمين».
صفة الأمان: يرى الحنفية أن الأمان عقد غير لازم، حتى لو رأى الإمام المصلحة في النقض نقضه؛ لأنه جوازه عندهم مشروط بتحقيق المصلحة، فإذا صارت المصلحة في النقض نقض، ونبذ للمستأمن، أي أُلقي إليه عهده (1).
ويرى جمهور الفقهاء والشيعة الإمامية والزيدية أن الأمان عقد لازم من جانب المسلمين، ويبقى اللزوم مع بقاء عدم الضرر؛ لأن الأمان حق على المسلم، فليس له نبذه إلا لتهمة أو مخالفة (2).

ما ينتقض به الأمان: إذا كان الأمان مؤقتاً إلى مدة معلومة ينتهي بمضي الوقت من غير حاجة إلى النقض.
_________
(1) البدائع: 107/ 7، البحر الرائق: 81/ 5، مخطوط السندي: 45/ 8، فتح القدير: 300/ 4، الكتاب مع اللباب: 126/ 4.
(2) راجع آثار الحرب، والمراجع التي فيه: ص 293.

(8/5868)


وإن كان الأمان مطلقاً غير محدد بوقت: فانتقاضه عند الحنفية إما بنقض الإمام، لكن يخبرهم بالنقض ثم يقاتلهم، وإما بطلب العدو نقضه، وحينئذ يدعوهم الإمام إلى الإسلام، فإن أبوا فإلى التعاقد بعقد الذمة، فإن أبوا ردهم إلى مأمنهم ثم قاتلهم، احترازاً عن الغدر.
وأجاز جمهور الفقهاء للإمام أن ينبذ عقد الأمان إذا حصل فقط ضرر للمسلمين لقوله تعالى:
{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال:58/ 8] (1).

مدة الأمان: إذا دخل الحربي إلى دار الإسلام مستأمناً، لم يمكَّن من الإقامة فيها سنة فما فوقها، لئلا يصير عيناً للأعداء وعوناً عليهم. ويقول له الإمام أو نائبه إذا أمنه وأذن له في الدخول إلى دارنا: إن أقمت في دارنا تمام السنة وضعت عليك الجزية، فإن أقام تمام السنة أخذت منه الجزية، وصار ذمياً لالتزامه ذلك، ولم يترك بعدها أن يرجع إلى دارالحرب؛ لأن عقد الذمة لا ينقض.
وإن عاد المستأمن إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي، أو ترك ديناً في ذمة مسلم أو ذمي، صار دمه مباحاً بالعود لبطلان أمانه، وما كان في دار الإسلام من ماله، فهو موقوف (أي مجمَّد بتعبير العصر). فإن أسر أو قتل، سقطت ديونه؛ لأن يد من عليه الدين أسبق إليه من يد الجماعة العامة، فيختص به، وصارت الوديعة ونحوها مما في دارنا فيئاً؛ لأنها في يده حكماً، فتصير فيئاً تبعاً لنفسه (2).
_________
(1) آثار الحرب: ص 361، البدائع، المرجع السابق.
(2) الكتاب مع اللباب: 135/ 4.

(8/5869)


المصلحة في الأمان: اشترط الحنفية والمالكية (1): أن يكون الأمان لمصلحة؛ لأن الحرب مع العدو مستمرة. واكتفى الشافعية والحنابلة (2) باشتراط عدم وجود الضرر من الأمان ولا تشترط المصلحة. فلا يجوز الأمان لجاسوس ونحوه، إذ لاضرر ولا ضرار في الإسلام. والضرر: مثل تأمين جاسوس أو مهرب سلاح.
مكان الأمان: هو دار الإسلام: وهي مكان الأمان إذا كان المؤمّن هو الإمام أو أمير الجيش، فللمستأمن التنقل في كل البلاد الإسلامية إلا إذا قيد الأمان في موطن معين أو كان القيد شرعياً، والقيد الشرعي مختلف في تحديده بين الفقهاء (3)، ففي رأي أبي حنيفة: يجوز للكافر دخول أي مكان في دار الإسلام، حتى الحرم المكي والمسجد الحرام، فله الدخول والإقامة في حرم مكة والمسجد مدة مقام المسافر ـ ثلاثة أيام بلياليها ـ وأجاز الحنفية لغير المسلم دخول المساجد كلها ومنها المسجد الحرام، من غير إذن؛ لأنه ليس المراد من آية {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/ 9] النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية.
ومنع الشافعية والحنابلة غير المسلم، ولو لمصلحة من دخول حرم مكة، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/ 9] والمراد من المسجد الحرام: الحرم المكي بإجماع المفسرين، بدليل قوله تعالى عقب ذلك: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} [التوبة:28/ 9] والعيلة: هي الفقر بانقطاع التجارة حال المنع من دخول الحرم. ويمنع غير المسلم أيضاً في هذين المذهبين من دخول الحجاز أو الاستيطان فيه إلا بإذن الإمام ولمصلحة المسلمين كحمل رسالةأو إدخال تجارة يحتاج إليها المسلمون،
_________
(1) فتح القدير: 300/ 4، الشرح الكبير: 185/ 2، الشرح الصغير: 286/ 2.
(2) نهاية المحتاج: 217/ 7، مغني المحتاج: 238/ 4، كشاف القناع: 97/ 3، ط مكة.
(3) شرح السير الكبير: 1/ 93، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 2/ 176، أحكام القرآن للجصاص: 2/ 88، مواهب الجليل للحطاب: 3/ 381، الدردير مع الدسوقي: 2/ 185، المهذب: 2/ 257، الأم: 4/ 100، المغني: 8/ 529.

(8/5870)


وذلك لمدة ثلاثة أيام فقط، ودليلهم حديث أحمد ومسلم والترمذي عن عمر: «لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أترك إلا مسلماً» والمراد من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة، كما حكى ابن حجر عن الجمهور، بدليل رواية أحمد: «أخرجوا اليهود من الحجاز». ودليلهم أيضاً فعل عمر رضي الله عنه ـ فيما روى البخاري والبيهقي ـ حيث أجلى اليهود والنصارى من الحجاز فقط دون جزيرة العرب، وأقرهم في اليمن مع أنها من جزيرة العرب.
وأجاز المالكية لغير المسلم دخول حرم مكة دون البيت الحرام، بأمان، لمدة ثلاثة أيام أو بحسب الحاجة في تقدير المصلحة من قبل الإمام، ولا يجوز عند المالكية لغير المسلم استيطان جزيرة العرب (الحجاز واليمن) لعموم حديث عمر السابق: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع إلا مسلماً» وحديث ابن عباس ـ فيما اتفق عليه البخاري ومسلم وأخرجه أبو داود ـ «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» وحديث عائشة عند أحمد: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وحديث أبي عبيدة بن الجراح فيما يرويه أحمد والبيهقي: «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» وما أخرجه مالك عن الزهري مرسلاً: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» وأما حديث «أخرجوا يهود أهل الحجاز» فلا يصلح لتخصيص العام، لما تقرر لدى علماء أصول الفقهاء من أن التخصيص بموافق العام لا يصح، وعبارتهم هي: «إفراد فرد من أفراد العام بحكمه لا يخصص العام».

المبحث الثالث ـ انتهاء الحرب بالهدنة:
الكلام عن الهدنة أو الصلح المؤقت أوالموادعة يتناول البحث في ركنها وشروطها وحكمها وصفتها وما تنتقض به ومدتها.

(8/5871)


تعريف الموادعة وصيغتها: الموادعة: هي مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره، سواء فيهم من يقر على دينه ومن لم يقر، دون أن يكونوا تحت حكم الإسلام (1). وعاقدها هو الإمام أو نائبه باتفاق الفقهاء، فإن عقدها أحد الأفراد، عدّ ذلك افتياتاً على الإمام أو نائبه، ولم يصح العقد عند الجمهور.
ويصح عند الحنفية إذا تولاه فريق من المسلمين بغير إذن الإمام إذا توافرت المصلحة للمسلمين فيه؛ لأن المعول عليه وجود المصلحة، وقد وجدت، ولأن الموادعة أمان، وأمان الواحد كأمان الجماعة (2).
وصيغتها: لفظ الموادعة أو المسالمة أو المصالحة أو المعاهدة أو المهادنة ونحوها.
وركنها: الإيجاب والقبول بين الإمام أو نائبه، وحاكم الأعداء.

وشرط مشروعيتها: أن يكون المسلمون في حال ضعف، والكفار أقوىاء؛ لأن الموادعة ترك القتال، فلا يجوز إلا في حال يقع وسيلة إلى القتال. والحقيقة أن هذا الشرط حالة من الحالات التي يطلب فيها باتفاق العلماء وجود المصلحة من عقد الهدنة، والمصلحة كما تتحقق حال ضعفنا، تتحقق بأغراض أخرى كرجاء إسلام الكفار، أو عقد الذمة، أو التعاون معهم لدفع عدوان غيرهم، أو لإقرار السلام، وتبادل المنافع الاقتصادية ونحوها (3)، قال تعالى: {ولا تهنوا وتدعوا إلى السَّلْم وأنتم الأعلون، والله معكم} [محمد:35/ 47] وقال سبحانه: {وإن
_________
(1) راجع آثار الحرب، والمراجع التي فيه: ص 662.
(2) البدائع: 108/ 7، الدسوقي: 189/ 2، مغني المحتاج: 260/ 4، المغني: 462/ 8، الفروق: 207/ 1.
(3) آثار الحرب: ص 669، البدائع: 108/ 7، فتح القدير: 293/ 4.

(8/5872)


جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله} [الأنفال:61/ 8] وقد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على إنهاء الحرب عشر سنين (1).
ولا يقاتل المعاهدون ما لم تظهر منهم بوادر الخيانة، لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال:58/ 8].
ولا بأس بأن يتم الصلح على عوض مالي يدفعه المسلمون إلى الكفار عند الاضطرار، أو يدفعه الأعداء للمسلمين إذا كان في الدفع مصلحة للمسلمين؛ لأن الله تعالى أباح لنا الصلح مطلقاً في قوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال:61/ 8] فيجوز ببدل أو بغير بدل، ولأن المقصود من الصلح هو دفع الشر والخطر، فيجوز بأية وسيلة، وهذا باتفاق الفقهاء (2).

حكم الهدنة: يترتب على الموادعة أو الهدنة إنهاء الحرب بين المتحاربين، ويأمن الأعداء ـ كما في عقد الأمان ـ على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم؛ لأن الموادعة عقد أمان أيضاً، وبناء عليه يجب كف أذانا أو أذى الذميين عنهم حتى يتأتى ناقض للعهد منهم (3). ويجب لهم الوفاء بشروط الهدنة الصحيحة شرعاً. ولا يوفى لهم بالشروط الباطلة كاشتراط إعادة النساء المسلمات إليهم.
_________
(1) انظر المعاهدة في القسطلاني شرح البخاري: 336/ 5، العيني شرح البخاري: 13/ 14 وما بعدها، شرح مسلم: 135/ 12 وما بعدها، نيل الأوطار: 31/ 8 وما بعدها، نصب الراية: 388/ 3، أخرج الحديث أبو داود عن المِسْور بن مَخرمة ومروان بن الحكم، وأصله في البخاري، وأخرج مسلم بعضه عن أنس، ورواه أحمد والبيهقي.
(2) راجع آثار الحرب: ص 670، المرجع السابق: ص 109، الدر المختار: 247/ 3، اللباب شرح الكتاب: 120/ 4.
(3) آثار الحرب: ص 682، 686.

(8/5873)


الفرق بين الهدنة والأمان العام: هناك فرق بين الهدنة والأمان العام مع جماعة من الحربيين من نواح أربع:
الأولى ـ أن الهدنة معاهدة بين دولتين على إنهاء القتال وتوفير السلام في جميع أنحاء الدولة. أما الأمان العام فهو اتفاق الدولة مع جماعة غير محصورة على المسالمة ومنح الأمان في بلد أو إقليم معين.
الثانية ـ أن الهدنة طريق لإنهاء الحرب بين المسلمين وغيرهم، وأما الأمان العام فهو لتأمين جماعة ولو في أثناء الحرب.
الثالثة ـ أن الإجابة لطلب الأمان واجبة، لقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6/ 9]. أما الإجابة لطلب الهدنة فمباحة جائزة غير واجبة بشرط مراعاة المصلحة الإسلامية.
الرابعة ـ إذا بطل أمان رجال لم يبطل أمان نسائهم والصبيان، وإذا انتقضت الهدنة انتقض أمان جميع المهادنين.

صفة عقد الهدنة: يرى الحنفية أن الهدنة عقد غير لازم محتمل للنقض، فللإمام أن ينبذ عهد الكفار إليهم، كلما رأى في النبذ مصلحة للمسلمين، لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال:58/ 8] فإذا بلغهم الخبر جاز بدؤهم بالقتال.
ولا بد من النبذ تحرزاً عن الغدر، ولا بد من تقدير مدة يبلغ خبر النبذ إلى جميعهم. ولا ينبذ إليهم إن بدؤوا بخيانة باتفاقهم؛ لأنهم صاروا ناقضين للعهد، فلا حاجة إلى نقضه.
أما إن نقض جماعة منهم العهد، فإن كان نقضهم بإذن ملكهم، صاروا ناقضين للعهد؛ لأنه باتفاقهم معنى.

(8/5874)


وإن لم يكن نقضهم بإذن ملكهم، ودخلوا بلادنا، وقطعوا الطريق وكان لهم منعة، وقاتلوا المسلمين علانية، يكون فعلهم نقضاً للعهد في حقهم دون غيرهم. فإن لم يكن لهم مَنَعة، حوربوا، ولا يكون فعلهم نقضاً للعهد في حقهم (1).
وقرر جمهور الفقهاء أن الهدنة عقد لازم لا يجوز نقضه إلا إذا وجدت خيانة، أو غدر من العدو، بقيام أمارات تدل عليه؛ وإن لم توجد فيجب الوفاء لهم بالعهد، كما هو مقتضى آية النبذ السابق ذكرها: {وإما تخافن من قوم خيانة ... } [الأنفال:58/ 8] (2) فإذا لم يخف الإمام الخيانة، لا يجوز نبذ عهدهم.

شروط صحة الهدنة: يشترط لصحة الهدنة الشروط الأربعة التالية (3):
1ً - أن يعقدها مع الأعداء الإمام أو نائبه، وإذا كانت مع إقليم عقدها والي الإقليم أيضاً لتلك البلدة.
2ً - أن تعقد لمصلحة إسلامية، ولا يكفي انتفاء المفسدة كما في عقد الجزية، لعدم توافر المصلحة في موادعة الأعداء، والله تعالى يقول: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السَّلْم وأنتم الأعلون} [محمد:35/ 47]. والمصلحة كضعفنا بقلة عدد أو أهبة، أو لرجاء إسلامهم أو بذل الجزية أو نحو ذلك كحاجة الإمام إلى إعانتهم له على غيرهم، وقد هادن النبي صلّى الله عليه وسلم صفوان بن أمية أربعة أشهر عام فتح مكة لرجاء إسلامه، فأسلم قبل مضيها.
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 120/ 4 وما بعدها.
(2) البدائع: 109/ 7، آثار الحرب: ص 361 وما بعدها.
(3) مغني المحتاج: 260/ 4.

(8/5875)


3ً - أن تكون مؤقتة بمدة معينة لا مؤبدة ولا دائمة ولا مطلقة من غير مدة. والمدة كما ذكر الشافعية أربعة أشهر لا سنة، لقوله تعالى: {براءة من الله ورسوله ... } [التوبة:1/ 9] ثم قال: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .. } [التوبة:2/ 9]. وتجوز في حال ضعفنا لمدة عشر سنين فقط فما دونها بحسب الحاجة، لا أكثر من عشر، لأن هذا غاية مدة الهدنة، لأنه صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أبو داود ـ هادن قريشاً في الحديبية هذه المدة، وكان ذلك قبل أن يقوى الإسلام.
4ً - خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد، كأن شرط الأعداء منع فك أسرانا منهم، أو ترك مالنا الذي استولوا عليه لهم، أو لتعقد لهم ذمة بأقل من دينار لكل واحد، أو بدفع مال لهم ولم تدع ضرورة إليه، أو التنازل عن بعض واجباتهم نحو المسلمين أو دولتهم أو دينهم، فكل شرط من هذه الشروط يفسد عقد الهدنة ويجعلها لاغية.

ما ينتقض به عقد الهدنة: قال الحنفية: إذا كانت الهدنة مؤقتة ينتهي العقد بانتهاء المدة المحددة دون حاجة إلى النبذ.
وإن كانت الهدنة مطلقة غير معينة المدة، أي متروكة لرأي الإمام: فإما أن تنتقض صراحة بنبذ العهد من المسلمين أو من غيرهم، وإما أن تنتقض ضمناً أو دلالة بأن يوجد من الأعداء ما يدل على النبذ كقطع الطريق من قبل جماعة من الكفار، بإذن مليكهم.
وفي الجملة: لا تنتقض الهدنة عند الحنفية إلا بخيانة العدو متفقين. والخيانة: كل ما ناقض العهد والأمان مما هو شرط فيه أو جرى به العرف والعادة، مثل مقاتلة المسلمين أو مظاهرة عدو عليهم.
وقال الجمهور: تنتقض الهدنة إذا نقضها العدو بقتال أو بمناصرة عدو آخر،

(8/5876)


أو قتل مسلم، أو أخذ مال، أو بسبّ الله تعالى أو القرآن الكريم أو رسوله صلّى الله عليه وسلم، أو التجسس
على المسلمين، أو الزنا بمسلمة ونحوها (1).
واستدلوا على النقض بأدلة كثيرة، منها قوله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة:7/ 9] وقوله سبحانه: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً، ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} [التوبة:4/ 9] وقوله عز وجل: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دينكم، فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} [التوبة:12/ 9].
ومن أدلة الجمهور أيضاً: ما روى البيهقي وغيره أنه لما نقضت قريش عهد النبي صلّى الله عليه وسلم أي صلح الحديبية، خرج إليهم، فقاتلهم وفتح مكة، بسبب مظاهرة بعضهم لبعض (2). ومن المعروف أن بني النضير لما أرادوا قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإلقاء الجدار عليه نقض عهدهم، كما روى البيهقي وغيره (3).

مدة الهدنة: اتفق الفقهاء على أن عقد الصلح مع العدو لا بد من أن يكون مقدراً بمدة معينة، فلا تصح المهادنة إلى الأبد من غير تقدير بمدة، وإنما هي عقد مؤقت؛ لأن الصلح الدائم يفضي إلى ترك الجهاد. ومع هذا الاتفاق فإنهم اختلفوا في المدة التي تجوز بها الهدنة.
فقال الشافعية: إذا كان بالمسلمين قوة فتجوز لمدة أربعة أشهر فما فوقها إلى ما دون سنة في الأظهر، لقوله تعالى: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من
_________
(1) البدائع: المرجع السابق، آثار الحرب: ص380 ومابعدها.
(2) رواه البيهقي عن مروان بن الحكم، والمسْور بن مخرمة (نصب الراية: 390/ 3).
(3) وراجع شرح مسلم: 91/ 12.

(8/5877)


المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} [التوبة:1/ 9 - 2] ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلم هادن صفوان بن أمية أربعة
أشهر عام الفتح (1). ولا تبلغ المدة سنة؛ لأنها مدة تجب فيها الجزية.
فإن كان بالمسلمين ضعف، فتجوز لعشر سنين فقط فما دونها بحسب الحاجة، لأن هذا غاية مدة الهدنة، لأنه صلّى الله عليه وسلم هادن قريشاً في الحديبية هذه المدة على المعتمد. فإن لم يقْو المسلمون طوال تلك المدة فلا بأس أن يجدد الإمام مدة مثلها أو دونها على رجاء أن يقووا، وإذا انقضت المدة والحاجة باقية استؤنف العقد.
وهذا هو مذهب الشيعة الإمامية وظاهر كلام الإمام أحمد، وقال أبو الخطاب من الحنابلة: ظاهر كلام أحمد أنه يجوز على أكثر من عشر سنين على حسب ما يراه الإمام من المصلحة بعد اجتهاده. والذي يبدو أن ما نقله أبو الخطاب هو الأصح عند الحنابلة (2).
وقال الحنفية والمالكية والزيدية: ليس للهدنة مدة معينة، إنما تقدير المدة راجع إلى اجتهاد الإمام قدر الحاجة؛ لأن المهادنة عقد جاز لمدة عشر سنين، فتجوز الزيادة عليها كعقد الإجارة (3).

المبحث الرابع ـ انتهاء الحرب بعقد الذمة:
الكلام عن عقد الذمة ببيان ركنه وشرائطه وحكمه وصفته ومقدار الجزية ومسقطاتها.
_________
(1) راجع تلخيص الحبير، طبع القاهرة، بتعليق هاشم اليماني: 131/ 4، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 720/ 2.
(2) كشاف القناع: 104/ 3، ط مكة.
(3) راجع التفصيل في آثار الحرب: ص 675 وما بعدها.

(8/5878)


تعريف عقد الذمة أو الصلح المؤبد وركنه: الذمة في اللغة العهد، وهو الأمان والضمان والكفالة. وعند الفقهاء (1): هو التزام تقرير الكفار في ديارنا وحمايتهم والدفاع عنهم ببذل الجزية (2) والاستسلام من جهتهم. ولا يعقدها إلا الإمام أو نائبه؛ لأنها من المصالح العظمى التي تحتاج إلى نظر واجتهاد، وهذا لا يتأتى لغير الإمام أونائبه، لكن قال المالكية: إن عقدها غير الإمام فيأمنون، ويسقط عنهم القتل والأسر، وللإمام النظر بأن يمضيها أو يردهم لمأمنهم (3).
ويحرم قتال أهل الذمة وقتلهم ما داموا ملتزمين بشروط العهد، لما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من قتل رجلاً من أهل الذمة، لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً». وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله ورسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً».

وحكمة عقد الذمة: تحقيق التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، وتمكين غير المسلمين من الاطلاع على حقائق الإسلام ومبادئه، فيلتقي الجميع على الحق والعقيدة الصالحة.
والجزية بديل عن حماية المسلمين لأهل الذمة وعن المشاركة في الجهاد، ودليل مادي على الولاء للدولة الإسلامية.

وركن العقد أو صيغته: إما لفظ صريح يدل عليه، مثل لفظ العهد والعقد
_________
(1) راجع آثار الحرب للمؤلف: ص 692.
(2) الجزية: ما يؤخذ من أهل الذمة، لأنها تجزئ من القتل، أي تعصم.
(3) فتح القدير: 368/ 4، الخرشي، الطبعة الأولى: 166/ 3، مغني المحتاج: 243/ 4، كشاف القناع: 92/ 3 ط مصر.

(8/5879)


على أسس معينة، وإما فعل يدل على قبول الجزية، كأن يدخل حربي دار الإسلام بأمان، ويمكث فيها سنة، فيطلب إلىه إما أن يخرج أو يصبح ذمياً، فإن اختار البقاء عندنا صار من أهل الذمة.

شروط صحة العقد: يشترط في المعقود له عقد الذمة شروط ثلاثة:
الأول ـ ألا يكون المعاهد من مشركي العرب، فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال، لقوله تعالى عن المشركين: {تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح:16/ 48]، وإنما يعقد عقد الذمة مع أهل الكتاب، لقوله سبحانه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة:29/ 9] ويعقد هذا العقد أيضاً مع المجوس؛ لأن لهم شبهة كتاب، لما قال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (1). وعن عمر: «أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن ابن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجَر» (2).
وهذا الشرط متفق عليه بين الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية والإباضية والشيعة الإمامية والزيدية.
_________
(1) رواه الشافعي، ورواه الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس، فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وهذا منقطع ورجاله ثقات، ورواه أيضاً البزار والدارقطني وابن أبي شيبة مرسلاً (جامع الأصول: 264/ 3، نصب الراية: 448/ 3، نيل الأوطار: 56/ 8).
(2) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي (جامع الأصول: ص 261، نصب الراية: ص448، نيل الأوطار: 56/ 8، سبل السلام: 65/ 4).

(8/5880)


وقال الأوزاعي والثوري وفقهاء الشام والمالكية على المشهور في مذهبهم: تؤخذ الجزية من كل كافر، سواء أكان من العرب أم من العجم، من أهل الكتاب، أم من عبدة الأصنام (1)، بدليل ما رواه سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً» ثم قال: « ... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية ... » الحديث (2) فقوله صلّى الله عليه وسلم: «عدوك» عام يشمل كل كافر، قال الشوكاني: هذا الحديث حجة في أن قبول الجزية لا يختص بأهل الكتاب.
الشرط الثاني: ألا يكون المعاهد مرتداً، لأن حكمه القتل إذا لم يتب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «من بدل دينه فاقتلوه» (3)، وهذ الشرط متفق عليه بين الفقهاء.
الشرط الثالث: أن يكون العقد مؤبداً: فإن أقت الصلح لم يصح العقد؛ لأن عقد الذمة بالنسبة لعصمة الإنسان في ماله ونفسه بديل عن الإسلام، والإسلام مؤبد، فكذا بديله وهو عقد الذمة. وهذا شرط متفق عليه أيضاً (4).

شروط المكلفين بالجزية: يشترط لوجوب الجزية على أهل الذمة شروط:
_________
(1) راجع آثار الحرب: ص 712 ومابعدها، الدر المختار: 293/ 3، تبيين الحقائق: 277/ 3.
(2) أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها (راجع شرح مسلم: 37/ 12 ومابعدها).
(3) رواه الجماعة إلا مسلماً، ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق (نصب الراية: 456/ 3، نيل الأوطار: 190/ 7، سبل السلام: 65/ 4).
(4) راجع البدائع: 110/ 7 وما بعدها، آثار الحرب: ص 707، 713، فتح القدير: 371/ 4.

(8/5881)


1 - الأهلية من العقل والبلوغ: فلا تجب على الصبيان والمجانين؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال.
2 - الذكورة: فلا تجب على النساء؛ لأنهن أيضاً لسن من أهل القتال، والله سبحانه وتعالى أوجب الجزية على المقاتلين بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... } [التوبة:29/ 9] الآية، فالمقاتلة تقتضي المشاركة، يعني وقوع القتال من الطرفين.
3 - الصحة والمقدرة المالية: فلا تجب على المريض مرضاً لمدة سنة أو أكثر السنة؛ لأن للأكثر حكم الكل، ولا تجب أيضاً على الفقير المتعطل عن العمل، ولا على الرهبان الذين لا يخالطون الناس.
4 - السلامة من العاهات المزمنة، كالمرض المزمن والعمى والشيخوخة.
5 - الحرية، فلا تجب الجزية على العبد، لأنه ليس مالكاً للمال.
وفي الجملة: اتفق الفقهاء على اشتراط البلوغ والحرية والذكورة، فلا جزية على امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا معتوه ولا زمِن ولا أعمى ولا مفلوج ولا شيخ كبير؛ لأنها وجبت بدلاً عن القيام بقتال الأعداء، وهم لا يقاتلون لعدم الأهلية. ولا جزية على فقير غير معتمل (أي مكتسب ولو بالسؤال) لعدم الطاقة، ولا على الرهبان الذين لايخالطون الناس، إذ لا يقتلون، والأصل في الجزية لإسقاط القتل، ولا جزية على العبد بأنواعه.
وخالف الشافعية والحنابلة في الأرجح عندهم في الشرطين الثالث والرابع، فلم يجيزوا إسقاط الجزية بالأعذار (1).
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 111، آثار الحرب: ص 699، تبيين الحقائق: 278/ 4، فتح القدير: 372/ 4، الكتاب مع اللباب: 145/ 4.

(8/5882)


حكم عقد الجزية: يترتب على عقد الذمة إنهاء الحرب بين المسلمين وغيرهم، وعصمة نفوس الكفار وأموالهم وبلادهم وأعراضهم، فلا يجوز استباحتها بعد انعقاد العقد، بدليل حديث بريدة السابق ذكره وفيه: «فادعهم إلى أداء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» ولقوله تعالى في آية الجزية: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة:29/ 9] إلى قوله تعالى {حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} [التوبة:29/ 9] فالله سبحانه طالب بالكف عن قتال أهل الكتاب عند وجود الإسلام أو بذل الجزية، وبما أن الإسلام يعصم النفس والمال وما ألحق بهما، فكذا الجزية. وقال علي رضي الله عنه: «وإنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا» (1) وروى أبو داود والبيهقي وأحمد عن الرسول صلّى الله عليه وسلم من حديث أسامة قال: «ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أوأخذ شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة» (2).
والجزية نوعان: جزية صلحية: وهي جزية توضع بالتراضي والصلح، فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق، فلا حد لها ولا لمن تؤخذ منه إلا ما يقع عليه الصلح. وجزية عنوية تفرض فرضاً: وهي التي يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب المسلمون على الكفار، واستولوا على بلادهم، وأقرهم الإمام على أمرهم.
فيضع الإمام عند الحنفية والحنابلة على الغني الظاهر الغنى (وهو من يملك
_________
(1) آثار الحرب: ص 728 وما بعدها، 111/ 7، والأثر المروي عن علي غريب، وأخرجه الدارقطني عن علي بلفظ «من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا» (نصب الراية: 281/ 3).
(2) الحديث مروي عن صفوان بن سليم رحمه الله (راجع سنن أبي داود: 231/ 3، سنن البيهقي: 205/ 9، منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 296/ 2،جامع الأصول: 257/ 3، الفتح الكبير: 485/ 1).

(8/5883)


عشرة آلاف درهم فصاعداً) في كل سنة ثمانية وأربعين درهماً، منجمة أي مقسطة على الأشهر، يأخذ في كل شهر أربعة دراهم. ويضع على المتوسط الحال (وهو من يملك مئتي درهم فصاعداً) أربعة وعشرين درهماً منجمة أيضاً على الأشهر، في كل شهر درهمين، وعلى الفقير المعتمل (وهو من يملك ما دون المئتي درهم، أو لا يملك شيئاً) اثني عشر درهماً منجمة أيضاً على الأشهر، في كل شهر درهماً (1). وذلك عملاً بفعل عمر رضي الله عنه الذي قسم أهل الذمة ثلاث طبقات: وهم الموسرون والمتوسطون والفقراء العاملون.
ويرى المالكية: أن الجزية أربعة دنانير في كل عام على كل واحد من أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الفضة، وذكر ابن جزي المالكي (2) أنه لا يزاد على ذلك لقوة أحد، ولا ينقص لضعفه، والراجح لدى المالكية أنه ينقص عن الفقير بحسب طاقته ووسعه.
وذهب الشافعية (3) إلى أن أقل الجزية دينار، لحديث معاذ بن جبل: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافر» (4) وهي ثياب يمنية، نسبة إلى حي من همدان في اليمن، تنسب إلىه الثياب المعافرية. ويستحب لدى الشافعية مماكسة (مشاححة) الذمي حتى يأخذ من المتوسط دينارين، ومن الغني أربعة دنانير، اقتداء بعمر رضي الله عنه، كما رواه البيهقي عنه.

صفة عقد الذمة: اتفق الفقهاء على أن عقد الذمة عقد لازم من ناحية
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 143/ 4، المغني: 501/ 8 ومابعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 156.
(3) مغني المحتاج: 248/ 4.
(4) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي والدارقطني، وصححه ابن حبان والحاكم من حديث مسروق عن معاذ.

(8/5884)


المسلمين، فلا يملك المسلمون نقضه بأي حال. وأما بالنسبة لغير المسلمين فهو عقد غير لازم، لكنه لا ينتقض عند الحنفية إلا بأحد أمور ثلاثة: وهي أن يسلم الذمي، أو يلحق بدار الحرب، أو يغلب الذميون على موضع فيحاربوننا، ولا ينتقض عهدهم بغير المذكور، كالامتناع من إعطاء الجزية، أو سب النبي صلّى الله عليه وسلم، أو قتل مسلم، أو الزنى بمسلمة؛ لأن التزام الجزية باق، ويستطيع الحاكم أن يجبره على أدائها، وأما بقية المخالفات فهي معاصي ارتكبوها وهي دون الكفر، وقد أقررناهم عليه، فما دونه أولى (1).
ويرى جمهور الفقهاء، والشيعة الإمامية والزيدية، والإباضية: أن عهد الذمي ينتقض بمنعه أداء الجزية، أو امتناعه من تطبيق أحكام الإسلام العامة، أو بالاجتماع على قتال المسلمين؛ لأن هذه الأمور من مقتضى عقد الذمة، فارتكابها يخالف مقتضى العقد، فيوجب نقض المعاهدة.
وكذلك قالوا ما عدا الشافعية والإمامية: ينتقض العقد بارتكاب المعاصي السابقة؛ لأن فيها ضرراً على المسلمين، فأشبه الامتناع عن بذل الجزية.
أما الشافعية في الأصح عندهم، فإنهم يرون أن عهد الذمة لا ينتقض بارتكاب المعاصي إذا لم يشترط النقض في العقد، فإن اشترط على أهل الذمة انتقاض العهد انتقض، لمخالفة الشرط ولحوق الضرر بالمسلمين (2).
واتفق الفقهاء على أن أهل الذمة ملتزمون بتطبيق أحكام الإسلام المدنية والجنائية، وأما العبادات ونحوها مما يدينون به كشرب الخمور وتربية الخنازير
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 112 وما بعدها، فتح القدير: 381/ 4، تبيين الحقائق: 281/ 3، الكتاب مع اللباب: 147/ 4.
(2) راجع آثار الحرب: ص 359، 367 - 374.

(8/5885)


وأكلها فيتركون وما يدينون بدون تظاهر. ولكن لا يجوز لهم إحداث بِيعة ولا كنيسة (1) ولا صومعة ولا بيت نار ولا مقبرة في دار الإسلام (2). ولهم فقط ترميم أماكن عبادتهم هذه.

آراء الفقهاء في مقدار الجزية ووقت أدائها ومسقطاتها: يرى الحنفية والحنابلة أن الجزية مقدارها بحسب حال المكلف بها، فإن كان غنياً فيجب عليه ثمانية وأربعون درهماً، وإن كان متوسط الحال فعليه أربعة وعشرون درهماً، وإن كان فقيراً عاملاً فعليه اثنا عشر درهماً كما ذكر. وهذا التقدير ثابت عن سيدنا عمر رضي الله عنه (3).
وقال المالكية في الأصح: مقدار الجزية أربعون درهماً، أي أربعة دنانير، وينقص عن الفقير بحسب وسعه وطاقته (4). وذكر ابن جزي أنه لا يزاد على أربعين درهماً (علماً بأن الدينار عندهم عشرة دراهم) لقوة أحد ولا ينقص لضعفه.
وقال الشافعية مثل الحنفية والحنابلة: أقل الجزية دينار لكل سنة، ويؤخذ من متوسط الحال ديناران، ومن غني أربعة دنانير، اقتداء بعمر رضي الله عنه كما رواه البيهقي عنه، ودليلهم على أقل مقدار الجزية: ما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما
_________
(1) البيعة بكسر الباء: وهي في الاستعمال الغالب متعبَّد النصارى، والكنيسة متعبد اليهود. لكن في ديار مصر والشام، لا يستعمل لفظ البيعة، بل تستعمل الكنيسة لمتعبد الفريقين. ولفظ الدير للنصارى خاصة. وأصل اللغة أن الكنيسة والبيعة تطلق على كل من معبد اليهود والنصارى.
(2) الكتاب مع اللباب: 146/ 4.
(3) البدائع: 112/ 7، الدر المختار: 292/ 3، تبيين الحقائق: 276/ 3، المغني: 502/ 8، وأما التقدير المذكور فمروي من طرق عن عمر، منها ما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن عبيد الله الثقفي، ورواه ابن زنجويه عن المغيرة بن شعبة (راجع نصب الراية: 447/ 3 وما بعدها).
(4) الشرح الكبير للدردير: 201/ 2 وما بعدها.

(8/5886)


عن معاذ رضي الله عنه: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً، أو عِدله من المعافر، وهي ثياب تكون باليمن» (1).
ويجب أداء الجزية عند الحنفية في أول السنة؛ لأنها تجب لحماية الذمي في المستقبل. وعند سائر المذاهب: تجب الجزية في آخر السنة؛ لأنه مال يتكرر بتكرار الحول، أو يؤخذ في آخر كل حول كالزكاة (2).
وتسقط الجزية باختيار الإسلام باتفاق الفقهاء، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه ابن عباس: «ليس على مسلم جزية» (3) وفي رواية للطبراني عن ابن عمر: «من أسلم فلا جزية عليه».
وتسقط بالموت عند الحنفية والمالكية والزيدية؛ لأن الجزية في رأيهم عقوبة، فتسقط بالموت كالحدود. وعند الشافعية والحنابلة: لا تسقط بالموت وتؤخذ من التركة؛ لأنها دين وجب في الحياة، فلم يسقط بالموت كديون الناس.
وتسقط الجزية أيضاً عند أبي حنيفة والزيدية بمضي السنة ودخول سنة أخرى؛ لأن الجزية عقوبة، فتتداخل مع بعضها كالحدود. وعند الصاحبين وسائر الأئمة: لا تتداخل الجزية وتجب الجزيات كلها؛ لأنها عوض، فتعتبر بمنزلة سائر الحقوق المالية كالدية والزكاة وغيرهما (4).
_________
(1) مغني المحتاج: 248/ 4، وأما حديث معاذ فرواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، وقال الترمذي: حديث حسن، وذكر أن بعضهم رواه مرسلاً وأنه أصح (جامع الأصول: 261/ 3، نصب الراية: 445/ 3، سبل السلام: 4 ص 66).
(2) المراجع السابقة.
(3) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني، وذكر الترمذي أنه مرسل (سنن أبي داود: 231/ 3، مجمع الزوائد: 13/ 6، منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 38/ 2، جامع الأصول: 267/ 3، نصب الراية: 453/ 3، نيل الأوطار: 61/ 8).
(4) راجع آثار الحرب: ص 694 وما بعدها، المغني: 511/ 8 وما بعدها.

(8/5887)


حقوق الذميين وواجباتهم: للذميين حقوق وواجبات (1).
أما حقوقهم فهي ما يأتي:
1ً -التزام تقريرهم في بلادنا إلا الحرم المكي في رأي الجمهور غير أبي حنيفة، لقوله تعالى: {إنما المشركون نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/ 9] والمراد به الحرم، بدليل قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة} [التوبة:28/ 9] وأجاز أبو حنيفة لهم دخول الحرم المكي كالحجاز كله، ولكنهم لا يستوطنون به، ومنع الاستيطان لا يمنع من دخوله.
ومنع المالكية استيطان الكفار في جزيرة العرب، وهي الحجاز واليمن، لكنهم أجازوا لهم دخول الحرم المكي دون البيت الحرام بأمان.
وأجاز الحنابلة دخول الكفار إلى الحجاز للتجارة، ولكن لا يمكنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام، وعن بعضهم: أربعة أيام.
وحظر الإمام الشافعي تمكين الكافر من دخول مكة وحرمها بأي حال فإن دخلها خفية، وجب إخراجه، وإن مات ودفن فيها، نبش وأخرج منها ما لم يتغير.
2ً - وجوب الكف عنهم وحمايتهم، بسبب عصمة أنفسهم وأموالهم بالعقد، وإنهاء الحرب معهم ومسالمتهم، لحديث بريدة رضي الله عنه عند مسلم: «فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم»، وروى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلم: أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتَل من وراءهم، ولا يكلَّفوا إلا طاقتهم».
_________
(1) راجع القوانين الفقهية: ص 156 وما بعدها، المهذب: 258/ 2، تحفة الأحوذي شرح الترمذي: 231/ 5، المغني: 529/ 8 - 531.

(8/5888)


3ً - عدم التعرض لكنائسهم ولا لخمورهم وخنازيرهم ما لم يظهروها، فإن أظهروا الخمر أرقناها عليهم، وإن لم يظهروها وأراقها مسلم، ضمنها في رأي المالكية والحنفية، ولا يضمنها في رأي الشافعية والحنابلة. ويؤدب منهم من أظهر الخنزير.

وأما واجباتهم فهي ثلاثة عشر شيئاً هي:
1ً - أداء الجزية عن كل رجل في كل عام مرة، وهي دينار عند الشافعي، وإن صولحوا على أكثر من ذلك جاز، وأربعة دنانير عند الجمهور.
2ً - ضيافة المسلمين ثلاثة أيام إذا مروا عليهم.
3ً - دفع عشر ما يتجرون به في غير بلادهم التي يسكنونها.
4ً - ألا يبنوا كنيسة، ولا يتركوها مبنية في بلدة بناها المسلمون، أو فتحت عنوة، فإن فتحت صلحاً واشترطوا بقاءها جاز.
5ً - ألا يركبوا الخيل ولا البغال النفيسة، ولهم ركوب الحمير.
6ً - أن يمنعوا من جادة الطريق ويضطروا إلى أضيقه.
7ً - أن تكون لهم علامة يعرفون بها كالزنار ويعاقبون على تركها.
8ً - ألا يغشوا المسلمين، ولا يأووا جاسوساً، وألا يتواطؤا مع أهل الحرب على إيذاء المسلمين، وغير ذلك من كل ما فيه ضرر بالمسلمين.
9ً - ألا يمنعوا المسلمين من النزول في كنائسهم ليلاً ونهاراً.
10ً - أن يوقروا المسلمين، فلا يضربوا مسلماً ولا يسبونه ولا يستخدمونه.
11ً - أن يخفوا نواقيسهم، ولا يظهروا شيئآً من شعائر دينهم.

(8/5889)


12ً - ألا يسبوا أحداً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يظهروا معتقدهم، وألا يطعنوا في شرع الله عز وجل، وألا يتعرضوا للقرآن أو الرسول صلّى الله عليه وسلم بسوء.
13ً - إجراء أحكام الإسلام عليهم في المعاملات والعقوبات الجنائية، كتحريم الزنا، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم رجم يهودياً ويهودية زنيا (1)، والامتناع من التعامل بالربا وارتكاب الفواحش والمعاصي وأحوال الفسوق، لكنهم يقرون على تناول الخمر لاعتقادهم إباحته، إلا إذا ترافعوا إلينا، فيحكم بينهم بشريعتنا.
_________
(1) أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(8/5890)