الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الرّابع: حكم الأسرى والسّبي
الأسرى: هم الرجال المقاتلون من الكفار
إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء.
والسبي: هم النساء والأطفال.
والكلام عنهم يطول جداً، ولذا سأقصر الكلام على بحث حكم الأسرى والسبي
بعد أسرهم وسبيهم، ومن المعلوم أن الأسر مشروع لقوله تعالى: {وخذوهم
واحصروهم} [التوبة:5/ 9] وقوله سبحانه: {فشدوا الوَثاق} [محمد:4/ 47] وهو
كناية عن الأسر، والأسر في حرب المسلمين قليل؛ لأن المسلم لا يأسر عدوه
عادة إلا في نهاية المعركة، أما في أثنائها فنادر، والأسير عالة على الآسر.
والثابت من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه كان يمن على بعض الأسارى
ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال، أو بالأسرى (1)، وذلك على حسب ما تقتضيه
المصلحة العامة ويراه ملائماً لحال المسلمين.
وأبدأ أولاً بحكم السبي:
_________
(1) راجع نيل الأوطار: 8 ص 2 - 6.
(8/5910)
حكم السبي: يعرف
حكم السبي ببحث الأحوال التي قد يتعرضون
لها، وهي: القتل والاسترقاق، والمن
والفداء (1).
أما القتل بعد الأسر فلا يجوز للنساء والذراري، أي الأولاد باتفاق العلماء،
سواء أكانوا من أهل الكتاب، أم من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية (2) وعبدة
الأوثان والثنوية (3).
فإن اشترك النساء والأولاد في القتال مع قومهم بالفعل أو بالرأي، جاز قتلهم
في أثناء القتال، وبعد الأسر عند جمهور الأئمة، لوجود العلة في قتل
الأعداء: وهي المقاتلة. وخالف الحنفية في حالة القتل بعد الأسر، فلم يجيزوا
قتل المرأة والصبي والمعتوه الذي لا يعقل؛ لأن القتل بعد الأسر بطريق
العقوبة، وهم ليسوا من أهل العقوبة.
فأما القتل حال نشوب المعركة، فلدفع شر القتال، وقد وجد الشر منهم، فأبيح
قتلهم فيه، لدفع الشر، وقد انعدم الشر بالأسر.
وأما الرق: فإنه إذا لم يجز قتل السبي
بعد الأسر كما تقدم، فإن المالكية يرون أن الإمام يخير حينئذ بين الاسترقاق
والمن والفداء.
وقال الحنفية: يسترقهم الإمام، سواء أكانوا من العرب أم من العجم؛ لأن
النبي صلّى الله عليه وسلم استرق نساء هوازن وذراريهم (4)، وكذا الصحابة
استرقوا نساء المرتدين من العرب وذراريهم.
_________
(1) راجع التفصيل في آثار الحرب للمؤلف: ص 418 وما بعدها، البدائع: 7 ص
119.
(2) الدهرية ـ بفتح الدال وقد يضم: منسوبة إلى الدهر لقولهم: «ما يهلكنا
إلا الدهر» فهم يقولون ببقاء الدهر وإن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه
لا بصانع، فهم جحدوا الصانع المدبر العالم القادر (راجع المنقذ من الضلال
للغزالي: ص 10).
(3) الثنوية: هم القائلون بإلهين اثنين: وهما النور والظلمة (راجع اعتقادات
فرق المسلمين والمشركين للرازي: ص 88).
(4) راجع نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 3.
(8/5911)
وقال الشافعية والحنابلة والزيدية
والإمامية: يصيرون أرقاء بنفس السبي ويقسمون مع الغنائم؛ لأن النبي صلّى
الله عليه وسلم كان يقسم السبي كما يقسم المال (1).
ويلاحظ أن إرقاق السبي كان معاملة بالمثل؛ لأن مشروعية الرق في الإسلام،
كانت على أساس تقرير الواقع الذي كان موجوداً قبل الإسلام؛ ولتهيئة الأذهان
للتخلص منه بالعتق مع مرور الزمن.
وأما المن: فقد أجاز المالكية أن يمن الإمام على السبي بإطلاق سراحهم إلى
بلادهم بدون مقابل. وكذلك أجاز الشافعية والحنابلة لولي الأمر
المن على السبي، ولكن بشرط استطابة أنفس
الغانمين، إما بالعفو عن حقوقهم، أو بمال يعوضهم من سهم المصالح.
ولم يجز الحنفية المن مطلقاً، حتى لا يعود السبي حرباً على المسلمين؛ لأن
النساء يقع بهن نسل، والصبيان يبلغون، فيصيرون حرباً كذلك.
وأما الفداء: فقد أجازه المالكية، فللإمام أن يفادي بالنفوس من نساء أو
صبيان. وأجازه الإباضية أيضاً بالنفوس والمال.
وأجازه الشافعية على مال أو أسرى من المسلمين في أيدي الأعداء بعد تعويض
الغانمين عنهم من سهم المصالح، بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم سبى
نساء بني قريظة وذراريهم، فباعهم من المشركين (2).
ولم يجز الحنفية والحنابلة الفداء
بالسبي، لا على مال، ولا على أسرى من المسلمين في أيدي قومهم.
_________
(1) راجع نيل الأوطار: 8 ص 3، 51، شرح مسلم: 12 ص 91.
(2) رواه الشيخان وأحمد عن أبي سعيد (شرح مسلم، المرجع السابق، نيل
الأوطار: 8 ص 55، الأموال: ص121).
(8/5912)
حكم الأسرى:
اتفق الفقهاء على أن لولي الأمر أن يفعل بالنسبة للأسرى ما يراه الأوفق
لمصلحة المسلمين، ويختار أحد أمور حددها كل واحد من أصحاب المذاهب بما هداه
إليه اجتهاده (1).
مذهب الحنفية: أن ولي الأمر مخير في الأسرى بين أمور ثلاثة: إما القتل،
وإما الاسترقاق، وإما تركهم أحراراً ذمة للمسلمين، إلا مشركي العرب
والمرتدين، فإنهم لا يسترقون، ولا تعقد لهم الذمة، ولكن يقتلون إن لم
يسلموا، لقوله تعالى: {ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد، تقاتلونهم أو
يسلمون} [الفتح:16/ 48] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يجتمع دينان في
جزيرة العرب» (2).
ولا يجوز في رواية عن أبي حنيفة الفداء بالمال أو بالأسرى بعد تمام الحرب.
وعند الصاحبين: يجوز الفداء بالأسارى، وجاء في السير الكبير لمحمد بن
الحسن: أنه يجوز الفداء بالمال عند الحاجة أو بأسرى المسلمين؛ لأنه ثبت عن
رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره: أنه فدى رجلين من
المسلمين برجل من المشركين (3)، وفدى بامرأة ناساً من المسلمين، كانوا أسرى
بمكة (4).
_________
(1) راجع آثار الحرب: ص 430 وما بعدها.
(2) رواه مالك وعبد الرزاق والبيهقي وإسحاق بن راهويه وابن هشام عن أبي
هريرة، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط عن عائشة بلفظ: «لا يترك بجزيرة
العرب دينان» (سنن البيهقي: 9 ص 208، مشكل الآثار للطحاوي: 4 ص 13، نصب
الراية: 3 ص 454، نيل الأوطار: 8 ص 64، مجمع الزوائد: 5 ص 325).
(3) رواه مسلم وأحمد والترمذي وصححه وابن حبان عن عمران بن حصين أن رسول
الله صلّى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني
عقيل (نيل الأوطار: 7 ص 305، سبل السلام: 4ص 55).
(4) أخرجه مسلم عن سلمة بن الأكوع، وفيه أنه أسر امرأة من بني فزارة،
فاستوهبها الرسول منه فوهبها له، فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم
إلى مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين، كانوا أسروا بمكة (نصب الراية: 3 ص
404).
(8/5913)
وقال محمد: الجواز أظهر الروايتين عن أبي
حنيفة، وفدى الرسول عليه الصلاة والسلام الأسارى يوم بدر بالمال (1).
ويحرم المن على الأسرى عند جمهور الحنفية؛ لأن في المن تمكين الأسير من أن
يعود حرباً على المسلمين، فيقوي عدوهم عليهم، وهو لا يحل.
ويرى الإمام محمد: أنه يجوز المن على بعض الأسارى إن رأى الإمام فيه النظر
للمسلمين؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم منَّ على ثمامة بن أُثال الحنفي
حين أسره المسلمون، وربطوه بسارية من سواري المسجد (2).
لكن يجوز باتفاق الحنفية المن على الأسرى تبعاً للأراضي، كيلا يشغل
الفاتحون بالزراعة عن الجهاد.
ومذهب الشافعية والحنابلة والإمامية والزيدية والظاهرية: أن الإمام أو من
استنابه من أحد أركان حربه يفعل ماهو الأصلح والأحظ للإسلام والمسلمين من
أحد أمور أربعة: وهي القتل والاسترقاق والمن والفداء بمال أو بأسرى، يفعل
ذلك بالاجتهاد لا بالتشهي، فإن خفيت عليه المصلحة حبسهم حتى يظهر له وجهها.
وتقدير المصلحة يتم بحسب ما يرى في الأسير من قوة بأس وشدة نكاية، أو أنه
مأمون الخيانة، أو مرجو الإسلام، أو مطاع في قومه، أو أن المسلمين في حاجة
إلى المال.
_________
(1) رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعل فداء
أهل الجاهلية يوم بدر أربع مئة. وروى مسلم وأحمد عن أنس قصة اقتراح أبي بكر
قبول الفداء منهم، ومعارضة عمر لذلك (نصب الراية: 2 ص 402 وما بعدها، نيل
الأوطار: 7 ص 304، الإلمام: ص 495).
(2) رواه الشيخان وأحمد عن أبي هريرة (شرح مسلم: 12 ص 87، نصب الراية،
المرجع السابق: ص 391، نيل الأوطار، المرجع السابق: ص301 وما بعدها.
(8/5914)
ومذهب المالكية: أن الإمام يتخير بما هو
مصلحة للمسلمين في الأسرى قبل قسم الغنيمة بين أحد أمور خمسة: القتل،
والاسترقاق، والمن، والفداء، وضرب الجزية عليهم.
الأدلة (1):
استدل الفقهاء على جواز قتل الأسرى
بعموم آيات القتال، مثل قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة:5/ 9] وبما ثبت في السنة عن النبي صلّى
الله عليه وسلم أنه قتل بعض الأسرى يوم بدر، فأمر بقتل عقبة بن أبي مُعيط
والنضر بن الحارث، لشدة إيذائهما للرسول عليه الصلاة والسلام ولصحبه (2).
وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد بقتل أبي عزة الشاعر الذي أطلق
الرسول سراحه يوم بدر، فنظم بعدئذ شعراً يحرض به على قتال المسلمين، وفتح
الرسول مكة وأمر بقتل هلال بن خطَل، ومِقْيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي
سرح، وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» (3).
ثم إنه قد يكون في قتل بعض الأسرى مصلحة كبرى للمسلمين حسماً لمادة الفساد،
واستئصالاً لجذور الشر، وقطع شرايين الفتنة، وهذا كله بحسب الضرورة.
واستدلوا على جواز استرقاق الأسرى الذي
كان معاملة بالمثل مع الأمم
_________
(1) راجع آثار الحرب، الطبعة الثالثة: ص 432 وما بعدها.
(2) أخرجه أبو داود في المراسيل، ورجاله ثقات عن سعيد بن جبير (نصب الراية،
المرجع نفسه: ص402، سبل السلام: 4 ص 55).
(3) رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن أنس (مجمع الزوائد: 6 ص 168، سبل
السلام: 4 ص 54).
(8/5915)
الأخرى بسبب الحرب بقوله تعالى: {فإذا
لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم، فشدوا الوثاق، فإما
منَّاً بعد، وإما فداءً} [محمد:4/ 47] قالوا: إن الاسترقاق قد فهم من الأمر
بشد الوثاق، كما استدلوا بما ثبت في السير والمغازي من أن الرسول صلّى الله
عليه وسلم استرق بعض العرب
كهوازن وبني المصطلق وقبائل من العرب (1)، واسترق النبي أسرى في غزوة خيبر
وقريظة وفي غزوة حنين، وسبى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بني ناجية من
قريش، وفتحت الصحابة بلاد فارس والروم، فسبوا من استولوا عليه.
والحكمة من الإبقاء على مشروعية الرق في النصوص
الشرعية: هو مراعاة الأوضاع القائمة في المجتمعات القديمة، لأن الرق
كان عماد الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولا يعقل أن يحرمه الإسلام ويبقى
مباحاً عند الأمم الأخرى التي تسترق أسرى المسلمين، ولا يعاملهم المسلمون
بالمثل، والمعاملة بالمثل كان منهج الشريعة والخلفاء في العلاقات الخارجية،
عملاً بأحكام السياسة الشرعية المؤقتة، وتحقيقاً للمصلحة الإسلامية العامة،
ولكن الإسلام أيقظ الضمير العالمي بتنبيه الناس إلى علاج مشكلة الأرقاء
وضرورة الإحسان إليهم في المعاملة والتخلص التدريجي من هذه الظاهرة بالعتق
وفتح منافذ دينية له، حتى إن العتق من أفضل القربات إلى الله تعالى.
وأما المن فثابت جوازه في قوله تعالى:
{فإما مناً بعد وإما فداء} [محمد:4/ 47] وادعاء نسخ هذه الآية بآية براءة
السابق ذكرها وهي {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة:5/ 9] لا دليل
عليه، ولا حاجة إليه، لإمكان الجمع بين الآيتين، بحمل آية براءة على الأمر
بالقتال عند وجود العدوان، وفي أثناء قيام
_________
(1) نيل الأوطار: 8 ص 2 وما بعدها.
(8/5916)
الحرب مع الأعداء، وقصر آية المن على حالة
ما بعد الانتهاء من الحرب والوقوع في قيد الأسر.
وقد منَّ الرسول صلّى الله عليه وسلم على ثُمامة بن أُثال الحنفي سيد أهل
اليمامة (1) كما منَّ على أبي عزة الجمحي الشاعر، وأبي العاص بن الربيع،
والمطَّلب بن حَنْطب يوم بدر، ومنَّ أيضاً على أهل مكة بقوله عليه السلام:
«اذهبوا فأنتم الطلقاء» وكذا منَّ على أهل خيبر (2). وقال في أسارى بدر:
«لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له» (3) أي
لأطلقتهم له بغير فداء أي بالمن.
وأما الفداء أو المفاداة: وهو تبادل
الأسرى أو إطلاق سراحهم على عوض، فهو جائز بآية سورة محمد السابقة: {فإما
مناً بعد وإما فداء} [محمد:4/ 47]، وأول حادثة فداء كانت إثر سرية عبد الله
بن جحش، حيث قبل الرسول عليه الصلاة والسلام الفداء في الأسيرين اللذين
أسرا في هذه السرية قبل غزوة بدر بشهرين (4). وفيما بعد موقعة بدر كان فداء
الأسارى أربعة آلاف درهم إلى ما دون ذلك (5)، فمن لم يكن له شيء أمر أن
يعلم صبيان الأنصار الكتابة والقراءة. وليس في المفاداة إعانة لأهل الحرب،
كما قال المانعون للفداء، وهم الحنفية، إذ إن تخليص المسلم من قيد الأسر
واجب لتمكينه من العبادة الحرة لله تعالى.
وأخرج مسلم عن إياس بن سَلَمة عن أبيه: أن سرية من المسلمين أتوا بأسرى،
فيهم امرأة من بني فَزارة، فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أهل
مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين، كانوا أسروا بمكة.
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة في قصة الخيل التي بعثها النبي صلّى
الله عليه وسلم قبل نجد (راجع نيل الأوطار: 301/ 7).
(2) راجع هذه الحوادث في نصب الراية: 3 ص 398 - 406، زاد المعاد لابن
القيم: 2 ص 165.
(3) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم (نيل الأوطار، المرجع
السابق، نصب الراية: 3 ص 405، سبل السلام: 4 ص 56، الإلمام: ص 494).
(4) راجع نصب الراية: 2 ص 403.
(5) رواه الواقدي عن النعمان بن بشير (نصب الراية، المرجع السابق).
(8/5917)
|