الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي البَابُ الخامِس: القَضاء وطرق إثبات الحقّ
سأبحث هنا أمر القضاء أو الحكم بين
الناس، ووسيلة الوصول إلى الحق بطريق القضاء وهي الدعوى، وطرق إثبات الحق
لدى القاضي بالشهادة وباليمين والنكول والإقرار، والقرائن، وذلك في فصول
ثلاثة:
الفصل الأول ـ القضاء وآدابه
الفصل الثاني ـ الدعوى والبينات
الفصل الثالث ـ طرق الإثبات
وأمهد لهذه الفصول ببيان منهج الإسلام في القضاء.
(8/5919)
المنهج
الإسلامي في الميدان القضائي
المنهج: معناه المسلك وطريقة العمل،
والقضاء: فصل الخصومات وإنهاء المنازعات بإلزام الخصم بالحكم الشرعي، وهو
أحد أركان الدولة الإسلاميةأو الخلافة أو الإمامة العظمى، ومحور نظام
الحكم، والمظهر العملي الحازم لإلزام الناس باحترام أحكام الشريعة وإعلان
هيبتها ونفوذها وتطبيقها في العلاقات الاجتماعية لإحقاق الحق، وإبطال
الباطل، وإبراز العدل والإنصاف بين الناس، المؤمنين منهم وغير المؤمنين.
لذا كان أحد وظائف الأنبياء، وكان الخلفاء والولاة والقضاة يتولونه
بالنيابة عن الأمة التي يمثلها الخليفة أو الإمام الأعظم. ولاشك بأن العدل
في التصور الإسلامي هو أساس الملك، والظلم مؤذن بخراب المدنيات وتدمير كيان
الأمم والشعوب، والقضاء على مصالح الأفراد والجماعة، لأنه يؤدي إلى التذمر
ويعجل بالفوضى ويدفع إلى الانتقام والتخريب.
فالقضاء في غاية الأهمية والحساسية، ومادام هو بخير فالأمة بخير، وإذا فسد
القضاء فسدت الأمة والبلاد. ونظراً لهذه الحساسية المفرطة للقضاء، كان
منهج الإسلام فيه يقوم على الأسس التالية:
1 - النظر في الدعوى بموضوعية وتجرد وحياد دون
محاباة خصم أو ميل لأحد الخصمين دون الآخر. وهذا واجب ديني خطير من
أوليات نظام القضاء إرساء لمعالم الحق والعدل، وإيفاء الحقوق، ونشر الأمن
والاستقرار في صفوف
(8/5921)
الناس، ونزع الضغينة والحقد، وتوفير الصفاء
والوئام، وملء النفوس بالثقة والاطمئنان والرضا والمحبة.
وحينئذ ترتقي الأمة، وتعلو كلمتها، وترتفع سمعتها في كل مكان مما يدعو إلى
سرعة الدخول في الإسلام، والتفرغ لكل متطلبات التنمية والرخاء وزيادة
العطاء والإنتاج. قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلَنا بالبينات وأنزلنا
معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد:25/ 57] وقال سبحانه:
{وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نِعمَّا يعظكم به}
[النساء:58/ 4].
2 - الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية،
شريعة الله القائمة على الحق وتعظيمه، وحفظ الحقوق، وأداء الواجبات، فلا
يجوز شرعاً تطبيق غير أحكام الله تعالى وشرعه، لذا هدد الله تعالى أهل
الكتاب الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، فقال سبحانه: {ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44/ 5] {الظالمون} [المائدة:45/
5]، {الفاسقون} [المائدة:47/ 5]، وندّد الله تعالى بالمشركين والمنافقين
الذين يتجاوزون حدود الله والحكم بشرائع الجاهلية، فقال تعالى: {أفحكمَ
الجاهلية يبغون، ومن أحسنُ من الله حُكْماً لقوم يوقنون} [المائدة:50/ 5]
وعلى القاضي حفظ هيبة مجلس القضاء، وليس المراد بذلك شخص القاضي، وإنما حفظ
هيبة أحكام الشرع التي يطبقها على المتخاصمين، فلا يعفو مثلاً عمن أهانه من
الخصوم أو أهان أحد الحضور.
3 - مراقبة الله تعالى، وهذا واجب على
القاضي والخصوم معاً؛ لأن قاضي الأرض لايستطيع أن يفعل شيئاً أمام قاضي
السماء، فعليه أن يبحث بأناة وجدية وتعمق عن الحق وصاحبه، وعلى الخصم أن
يعتقد أن القاضي في الدنيا لايحل الحرام ولا يحرم الحلال، فعليه الاكتفاء
بما يعتقد أنه حق، دون تجاوز ولا اعتداء، حتى وإن قضى القاضي في الظاهر
بحكم معين ومقدار معين.
(8/5922)
4 - غاية القضاء في
الإسلام إرضاء الله تعالى بإحقاق الحق وإنصاف المظلوم، دون تأثر بدين أو
ملة أو قومية أو قرابة، وحتى على النفس، قال الله
تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط، شهداءَ لله ولو على
أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا
تتّبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تَلْوُوا أو تُعرضوا فإن الله كان بما تعملون
خبيراً} [النساء:135/ 4] وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين
لله، شهداء بالقِسْط، ولايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب
للتقوى واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون} [المائدة:8/ 5].
5 - ركائز القضاء أو أركانه: يعتمد
القضاء على أركان خمسة هي في مجملها مايأتي:
الأول - الحاكم: وهو القاضي الذي عينته
السلطة أو الحكومة للفصل في الدعاوى والخصومات، وبهذا يختلف الحاكم عن
المحكَّم: وهوالذي يتفق عليه الخصمان للتحكيم في النزاع الدائر بينهما.
الثاني - الحُكْم: وهو مايصدر عن القاضي من قرار لحسم النزاع وإنهاء
الخصومة وله صفة الإلزام، فيختلف الحكم عن الفتوى، فإنها غير ملزمة. والحكم
يكون إما بإلزام المحكوم عليه بأمر ما كتنفيذ شيء أو إعطاء شيء، وهذا يسمى
قضاء إلزام، وإما يمنع الحاكم المنازعة بقوله للمدعي: ليس لك حق عند خصمك
بسبب عجزك عن الإثبات، وهذا يسمى قضاء الترك.
الثالث - المحكوم به: وهو في قضاء
الإلزام ما ألزم به القاضي المحكوم عليه من إيفاء المدعي حقه، وهو في قضاء
الترك ترك المدعي المنازعة. وعلى كل فالمحكوم به هو الحق، إما لله أو للعبد
أو مشترك بينهما.
(8/5923)
الرابع - المحكوم
عليه: هو من يصدر الحكم ضده، أو من يستوفى منه
الحق، سواء أكان مدعى عليه أم لا.
الخامس - المحكوم له: وهو المدعي بحق
له، سواء أكان خالصاً له كالحق في الدين أو الالتزام المالي، أم خالصاً لله
كالحدود الشرعية، أم مشتركاً بين الحقين وكان حق الله هو الغالب وهو حد
القذف في رأي الحنفية، أو حق العبد هو الغالب وهو الحق في القصاص. فإن كان
الحق خالصاً لله أو حق الله فيه غالب، فإن المحكوم له هو الشرع، وهنا
لاتشترط الدعوى من شخص معين، ويحق لكل شخص حتى القاضي التقدم بالأمر وهي
دعوى الحسبة، وهو الذي تمثله في عصرنا النيابة العامة.
6 - التقيد بوسائل الإثبات: ليس للقاضي
إصدا ر الحكم في قضية ما بناء على قناعته الشخصية، وإنما لابد من التقيد في
إثبات الحق بوسائل إثبات معينة كالشهادة والإقرار واليمين والقرينة.
7 - الاعتماد على النصوص الشرعية الأصلية
في الكتاب والسنة من خلال التفسيرات والاجتهادات الراجحة التي أوضحت فيها
هذه النصوص، كالمذاهب الفقهية أو مدارس التفسير القرآني المختلفة أو شرح
الأحاديث النبوية الصحيحة.
8 - الدمج بين مبدأ التوازن العام ومبدأ
العدالة: إن التوازن بين الحقوق والواجبات عند تطبيق العدل أمر
ضروري لتحقيق المساواة بين الخصوم وتحقيق القدرة على الوفاء، وتوازن
القضاء، وهذا هو الذي يقال له: الإحسان في العدل، وهو الذي أمر الله تعالى
به في قوله سبحانه: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90/ 16].
(8/5924)
والعدل: هو فصل الخصومات بين المتنازعين
بواسطة الشريعة الإسلامية والإحسان في العدل: هو موازنة الحقوق والواجبات
عند تطبيق العدل.
والشريعة تفرض التكاليف مشروطة بالقدرة على الوفاء، لقوله تعالى: {لايكلف
الله نفساً إلا وُسْعها} [البقرة:286/ 2]، وهذا يستوجب مبدأ إنظار المعسر
لقوله تعالى: {وإن كان ذو عُسْرة فنَظِرَةٌ إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2] فلا
تكليف عند العجز، ولايخاطب الصبي ولا المجنون ولا الناسي، لقوله صلّى الله
عليه وسلم فيما يرويه الطبراني عن ثوبان: «رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه».
واشتراط القدرة يتطلب التخفيف عند المشقة، عملاً بالقاعدة الشرعية، (المشقة
تجلب التيسير).
والقدرة تستوجب الاعتراف بنظرية الدفاع الشرعي والأخذ بنظرية الظروف
الطارئة والقوة القاهرة، كالأخذ بمبدأ فسخ الإجارة للأعذار في مذهب
الحنفية، وفسخ البيع حال تعرض الثمار للجوائح المهلكة أو المتلفة بقدر
الثلث فأكثر في مذهب المالكية والحنابلة، فإذا كان الوفاء بالعقد واجباً
لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] فإن هذا
مقيد بمبدأ عدم إرهاق المدين بعقد لم تكن الظروف المستقبلية متوقعة فيه أو
منتظرة له وقت التعاقد (1).
وتوازن القضاء يستدعي ضرورة التسوية بين الخصوم في كل شيء، ويندب في
الإسلام اللجوء إلى الصلح قبل السير في إجراءات الدعوى؛ لأن الصلح يُبْقي
جانب الود والسماحة والتفاهم، ويحقق توازناً أكثر مما يحققه الحكم القضائي.
_________
(1) نظرية الضرورة الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي ص316 ومابعدها.
(8/5925)
والتوازن يقتضي كفالة حقوق الدفاع لكل
منهم، ويتطلب أيضاً الجمع بين الإثبات وحريته، لذا حدد الإسلام قيمة
الإقرار والشهادة واليمين وبعض القرائن الشرعية، وترك في الوقت نفسه للقاضي
حق تقدير وسائل أخرى كالقرائن القضائية، حتى لايضيع حق يثبت المنطق أن
مدعيه محق، وحتى لايلزم أي شخص بحق لم يثبته مدعيه بالحجج الكافية. وهذا
التوازن جعل الإسلام يشدد في الإثبات في الميدان الجنائي، فجعل إثبات الزنا
بأربعة شهود يعاينون الجريمة، وجعل الشبهة دارئة للحد لصالح المتهم، وأباح
الرجوع عن الشهادة والإقرار، فيكون ذلك دليل البراءة من الجريمة.
9 - اعتماد القضاء على الوازع الديني:
إن إقامة العدل بين الناس غاية سامية، لذا فقد أحيطت بسياج ديني أخلاقي إلى
جانب الضمانات القانونية والمبادئ القضائية والأخلاقية مترابطة مع بعضها،
ومن هنا قررت الشريعة لفت نظر كل من الخصوم والشهود والقضاة إلى عقاب من
ادعى باطلاً أو شهد زوراً أو حكم ظلماً، وإلى ثواب الذين يؤدون الشهادة على
وجهها، والذين يتحرون في أحكامهم الحق ليس غير.
وإذا أمر القاضي أو ثبت عليه أنه جار في حكمه عمداً بقتل نفس أو قطع يد أو
قصاص، أقيد منه، ولا شيء عليه إذا أخطأ في حكم (1).
10 - القضاء في الإسلام منصب خطير، وذو
مكانة كبيرة في الشريعة الإلهية، لذا وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم
والسنة الشريفة تشيد بالقضاء وتكلف به الأنبياء والمرسلين، وتوجب القضاء
بالحق والعدل كما تقدم لدينا. وكما كرمت الشريعة القاضي العادل حذرت من
القاضي الجائر الذي يتبع هواه (2)، فقال
_________
(1) نظام القضاء في الإسلام للشيخ المرحوم أحمد عبد العزيز آل مبارك ص8.
(2) القضاء في الإسلام للأستاذ محمود الشربيني: ص13.
(8/5926)
سبحانه: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}
[الجن:15/ 72]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الحاكم والبيهقي
عن عبد الله بن أبي أوفى: «إن الله تعالى مع القاضي مالم يجر، فإذا جار،
تبرأ الله منه وألزمه الشيطان». وقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه أصحاب
السنة الأربعة والحاكم عن بُريدة: «القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في
الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في
النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار».
ولا وجود للإجراءات المعقدة في نظام المحاكمات الإسلامي، كما لا تأخير في
إصدار الأحكام، وإنما يتميز نظام القضاء في الإسلام بالتعجيل.
هذه هي أصول المنهج الإسلامي في القضاء، لما طبقت كان القضاء في الدولة
الإسلامية تاج عز، ومفخرة من مفاخر التاريخ، لأنه نظام يعتمد على العقيدة
والدين والأخلاق وهو النظام الكفيل بتحقيق الأمن والاستقرار لأي مجتمع
إنساني يريد السعادة والبقاء، ويفرض الهيبة والاحترام له في أنظار العالم.
ولقد طبق هذا النظام خلال عشرات القرون من سنة (622 حتى سنة 1924) م، أي
قرابة ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وكان أبرز معالمه التسوية بين الإمام
الحاكم وبين آحاد الرعية في مجلس القضاء، والتزام العدالة حتى مع الأعداء
في السلم والحرب والمواطنة والتعايش الديني بين المسلمين وغيرهم في ظل
الدولة الإسلامية الرشيدة.
رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله
عنه في القضاء: ينبغي على كل قاض أن يحفظ الرسالة العمرية في
القضاء؛ لأنها تضع له منهاج التقاضي، وتحدد نظرة الإسلام إلى القضاء،
وأوضاع المتقاضين أمام القاضي وآداب
(8/5927)
القاضي، وقواعد سير الدعوى، وضوابط الشهادة
في سبيل الوصول إلى إصدار الحكم وتنفيذه، وهذا نص الرسالة (1):
- بسم الله الرحمن الرحيم
- من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس (2).
- سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو
أما بعد:
1 - فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متّبعة.
2 - فافهم إذا أُدلي إليك.
3 - فإنه لاينفع تكلم بحق لا نفاد له.
4 - آسِ بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لايطمع شريف في حيفك، ولا
ييأس ضعيف من عدلك.
5 - البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.
6 - والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراماً، أو حرَّم حلالاً.
7 - ومن ادعى حقاً غائباً أو بيِّنةً، فاضرب له أمداً ينتهي إليه، فإن
بيَّنه أعطيته بحق، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ
للعذر، وأجلى للعماء.
_________
(1) انظر أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: 85/ 1 ومابعدها، وانظر الشرح
النفيس لها في هذا الكتاب، تبصرة الحكام: 19/ 1.
(2) هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.
(8/5928)
8 - ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم،
فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم،
لايبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
9 - والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجرَّباً عليه شهادة زور، أو
مجلوداً في حد، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة.
10 - فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود، إلا
بالبيِّنات والأيمان.
11 - ثم الفهمَ الفهمَ، فيما أدلي إليك، مما ورد عليك، مما ليس في قرآن ولا
سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها
إلى الله، وأشبهها بالحق.
12 - وإياك والغضب، والقلق، والضجر، والتأذي بالناس، والتنكرعند الخصومة أو
الخصوم.
13 - فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذِّكْر.
14 - فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه، كفاه الله مابينه وبين الناس،
ومن تزيّن بما ليس في نفسه شانه الله، فإن الله لايقبل من العباد إلا ما
كان خالصاً.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(8/5929)
صلاحيات القاضي:
يحدد قانون القضاء في العصر الحديث صلاحيات
القاضي واختصاصه، ويوزع تلك الصلاحيات بين القضاة بحسب الموضوع
عادة، إما في المسائل المدنية أو في المسائل الجنائية أو الأحوال الشخصية
أوفي القضايا التجارية أو الإدارية أو الدستورية أو أمن الدولة أو نحو ذلك.
وأما أعمال القاضي الشرعي في تصور فقهائنا، فمنها ماهو متفق عليه ومنها
ماهو مختلف فيه، وقد اتفق الفقهاء على تولي القاضي للأمور الآتية (1):
1 - الفصل بين المتخاصمين، إما بصلح عن تراضٍ أو بإجبار على حكم نافذ.
2 - قمع الظالمين ونصرة المظلومين وإيصال الحق إلى ذويه.
3 - تنفيذ الوصايا.
4 - النظر في شؤون الأوقاف.
5 - الحجر على السفهاء.
6 - المواريث.
7 - شؤون الأيتام والمجانين وإقامة الأوصياء لحفظ أموالهم.
8 - الجراحات والدماء.
9 - الإثبات.
10 - عقد نكاح النساء اللاتي ليس لهن أولياء أو عَضَلهن (2) الأولياء.
_________
(1) نظام القضاء في الإسلام للشيخ أحمد عبد العزيز آل مبارك: ص12 - 14.
(2) منعهن الأولياء عن الزواج.
(8/5930)
11 - منع التعدي على الطرقات والأفنية
العامة. وللقاضي المطالبة بهذه الأعمال إن لم تسند إليه.
واختلف الفقهاء حول تولي القاضي الشؤون الآتية:
1 - إقامة الحدود.
2 - صلاة الجمعة والعيدين.
3 - أموال الصدقات.
فبعضهم أسندها للقاضي؛ لأنه كالوصي المطلق إلا ما اختص به الخليفة نفسه من
شؤون الجيش وقتال البغاة وجباية الخراج.
وبعضهم لم يدخلها في اختصاص القاضي لأنه وكيل عن الإمام الأعظم، وليس
للوكيل أن يتعدى حدود وكالته.
ودليلهم أن عمر رضي الله عنه نهى الولاة عن تنفيذ حكم الإعدام على أحد إلا
بعد مشاورته وموافقته، وقاسوا القضاة على الولاة. ويظهر أن هذا الرأي هو
الأرجح؛ لأن القاضي وكيل عن الإمام الأعظم، فليس له أن يتعدى حدود وكالته.
(8/5931)
الفَصْلُ الأوّل: القضاء وآدابه الكلام عن
القضاء في المباحث التسعة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف القضاء ومشروعيته.
المبحث الثاني ـ شروط القاضي.
المبحث الثالث ـ حكم قبول القضاء.
المبحث الرابع ـ صلاحيات القاضي.
المبحث الخامس ـ واجبات القضاة.
المبحث السادس ـ آداب القضاة.
المبحث السابع ـ انتهاء ولاية القاضي.
المبحث الثامن ـ متى يجوز حبس المدين؟
المبحث التاسع ـ عزل القاضي وانعزاله.
وأبدأ ببحثها كلاً على حدة.
(8/5933)
المبحث الأول ـ تعريف القضاء ومشروعيته:
القضاء لغة: انقضاء الشيء وإتمامه، والحكم بين الناس، والقاضي: الحاكم،
وشرعاً: فصل الخصومات وقطع المنازعات (1). وعرفه الشافعية بأنه فصل الخصومة
بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى، أي إظهار حكم الشرع في الواقعة. وسمي
القضاء حكماً: لما فيه من الحكمة التي توجب وضع الشيء في محله، لكونه يكف
الظالم عن ظلمه، أو من إحكام الشيء (2).
والأصل في مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع (3):
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم
بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله} [ص:26/ 38] وقول
الله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/ 5] وقوله تعالى:
{فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة:42/ 5] وقوله عز وجل: {إنا أنزلنا إليك
الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/ 4] ونحوها من
الآيات.
وأما السنة: فما روى عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«إذا اجتهد الحاكم، فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (4)، وفي
رواية صحح
_________
(1) الدر المختار: 4 ص 309، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 129.
(2) مغني المحتاج: 4 ص 372، وانظر فتح القدير: 5 ص 453.
(3) المبسوط: 16 ص 59 وما بعدها، المغني: 9 ص 34، مغني المحتاج، المرجع
السابق، المهذب: 2 ص 289.
(4) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن عمرو وأبي هريرة، ورواه الحاكم
والدارقطني عن عقبة بن عامر وأبي هريرة وابن عمر بلفظ: «إذا اجتهد الحاكم
فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشر أجور». (راجع نصب الراية: 4 ص 63، شرح
مسلم: 12 ص 13، سبل السلام: 4 ص 117، مجمع الزوائد: 4 ص 195، الإلمام: ص
514).
(8/5934)
الحاكم إسنادها: «فله عشرة أجور» وروى
البيهقي خبر: «إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه،
فإن عدل أقاما، وإن جار عرجا وتركاه».
وقد حكم النبي صلّى الله عليه وسلم بين الناس (1)، وبعث علياً كرم الله
وجهه وأبا موسى الأشعري إلى اليمن للقضاء في المنازعات، وبعث أيضاً إليها
معاذاً (2)، وكان عتّآب بن أسيد أول قاض لرسول الله صلّى الله عليه وسلم
على مكة، ولأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم حكموا بين الناس، وبعث عمر
رضي الله عنه أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضياً، وأرسل عبد الله بن مسعود
إلى الكوفة قاضياً. وتولى القضاء عمر وعلي ومعاذ وأبو موسى وشريح وأبو يوسف
رضي الله عنهم.
وأجمع المسلمون على مشروعية تعيين القضاة، والحكم بين الناس، لما في القضاء
من إحقاق الحق، ولأن الظلم متأصل في الطباع البشرية، فلا بد من حاكم ينصف
المظلوم من الظالم.
نوع المشروعية: القضاء فريضة محكمة من
فروض الكفايات باتفاق أئمة المذاهب، فيجب على الإمام تعيين قاض، ودليل
الفرضية قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط}
[النساء:135/ 4] ولأنه كما ذ ُكر طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع
الحقوق، وقل من ينصف من نفسه، وبما أن الإمام لا يقدر عادة على فصل
الخصومات بنفسه لكثرة مشاغلة العامة، فالحاجة تدعو إلى تولية القضاة.
_________
(1) أخرجه أبو داود عن علي، ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه، وأبو داود
الطيالسي في مسانيدهم، ورواه الحاكم في المستدرك (راجع نصب الراية، المرجع
السابق، ص 60 ومابعدها).
(2) أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ (نصب الراية: ص 63، تلخيص الحبير،
الطبعة المصرية: 4 ص 182).
(8/5935)
وأما كونه فرض كفاية: فلأنه أمر بمعروف، أو
نهي عن منكر، وهما واجبان كفائيان. قال بعضهم: «القضاء أمر من أمور الدين،
ومصلحة من مصالح المسلمين، تجب العناية به؛ لأن بالناس إليه حاجة عظيمة»
(1)، وهو من أنواع القربات إلى الله عز وجل، ولذا تولاه الأنبياء عليهم
السلام، قال ابن مسعود: «لأن أجلس قاضياً بين اثنين أحب إليّ من عبادة
سبعين سنة».
المبحث الثاني ـ شروط القاضي:
اتفق أئمة المذاهب على أن القاضي يشترط فيه أن يكون عاقلاً بالغاً حراً
مسلماً سميعاً بصيراً ناطقاً، واختلفوا في اشتراط العدالة، والذكورة،
والاجتهاد (2).
أما العدالة: فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا يجوز تولية
فاسق ولا من كان مرفوض الشهادة لعدم الوثوق بقولهما، قال تعالى: {يا أيها
الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات:6/ 49] فإذا لم تقبل
الشهادة من امرئ، فلأن لا يكون قاضياً أولى. والعدالة تتطلب اجتناب
الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، وسلامة العقيدة، والمحافظة على
المروءة، والأمانة التي لا اتهام فيها بجلب منفعة لنفسه أو دفع مضرة عنها
من غير وجه شرعي.
وقال الحنفية: الفاسق أهل للقضاء، حتى لو عين الإمام قاضياً صح قضاؤه
للحاجة، لكن ينبغي ألا يعين، كما في الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي
شهادة الفاسق، لكن لو قبلها منه جاز، وفي الحالتين: (قضاء وشهادة) يأثم من
يعينه للقضاء ومن يقبل شهادته.
_________
(1) اللباب شرح الكتاب للميداني: 4 ص 77.
(2) البدائع: 3/ 7، الدسوقي: 129/ 4، بداية المجتهد: 449/ 2، مغني المحتاج:
375/ 4، البجيرمي على الخطيب: 318/ 4، المغني: 39/ 9.
(8/5936)
أما المحدود في القذف: فلا يعين قاضياً كما
لا تقبل شهادته عند الحنفية كبقية الأئمة؛ لأن القضاء من باب الولاية، وبما
أن هذا المحدود لا تقبل شهادته وهي أدنى الولايات، فعدم تعيينه قاضياً
أولى.
وأما الذكورة: فهي شرط أيضاً عند غير الحنفية، فلا تولى المرأة القضاء؛
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (1)، ولأن
القضاء يحتاج إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والخبرة بشؤون الحياة،
والمرأة ناقصة العقل، قليلة الرأي، بسبب ضعف خبرتها واطلاعها على واقع
الحياة، ولأنه لا بد للقاضي من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم،
والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجال بعداً عن الفتنة، وقد نبه الله تعالى على
نسيان المرأة، فقال: {أن تضل إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى} [البقرة:282/
2] ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يولِّ النبي صلّى
الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد.
وقال الحنفية: يجوز أن تكون المرأة قاضياً في الأموال أي في القضاء المدني؛
لأنه تجوز شهادتها في المعاملات، ويأثم المولي لها للحديث السابق: «لن يفلح
.. » أما في الحدود والقصاص أي في القضاء الجنائي، فلا تعين قاضياً؛ لأنه
لا شهادة لها فيه، ومن المعلوم أن أهلية القضاء تلازم أهلية الشهادة.
وقال ابن جرير الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكماً على الإطلاق في كل شيء،
لأنه يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية.
وأما الاجتهاد: فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية
_________
(1) رواه البخاري والنسائي والترمذي وصححه عن أبي بكرة (المقاصد الحسنة
للسخاوي: ص 340، نيل الأوطار: 8 ص 263، سبل السلام: 4 ص 123، تلخيص الحبير:
4 ص 184).
(8/5937)
كالقدوري (1)، فلا يولى الجاهل بالأحكام
الشرعية، ولا المقلد: (وهو من حفظ مذهب إمامه، لكنه غير عارف بغوامضه،
وقاصر عن تقرير أدلته) لأنه لا يصلح للفتوى، فلا يصلح للقضاء بالأولى؛ لأن
الله تعالى يقول: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/ 5] ولم يقل
بالتقليد للآخرين، وقال سبحانه: {لتحكم بين الناس بما أراك الله}
[النساء:105/ 4] وقال عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}
[النساء:59/ 4] وروى بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «القضاة،
ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف
الحق، فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس
على جهل فهو في النار» (2) فالعامي يقضي على جهل.
ويلاحظ أن اشتراط وصف الاجتهاد عند المالكية: هو الذي عليه عامة أهل
المذهب، لكن المعتمد والأصح عندهم أنه يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد
(3).
وأهلية الاجتهاد: تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالأحكام من القرآن والسنة،
ومعرفة الإجماع والاختلاف والقياس ولسان العرب، ولا يشترط أن يكون الفقيه
محيطاً بكل القرآن والسنة، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة، ولا أن يكون
مجتهداً في كل المسائل، بل يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع البحث (4).
_________
(1) اللباب في شرح الكتاب أي كتاب القدوري: 4 ص 78. قال في الهداية:
والصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط أولوية. فأما تقلي الجاهل أي غير المجتهد
فصحيح عندنا؛ لأنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره.
(2) رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه. وقد علق
عليه ابن تيمية بقوله: «وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلاً» (نيل
الأوطار: 263/ 8 ومابعدها، سبل السلام: 115/ 4، نصب الراية: 65/ 4، مجمع
الزوائد: 195/ 4).
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 129/ 4.
(4) راجع التفصيل في كتابنا أصول الفقه: ص 1044/ 2 ومابعدها، ط دار الفكر.
(8/5938)
وقال جمهور الحنفية: لا يشترط كون القاضي
مجتهداً، والصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية والندب والاستحباب، فيجوز
تقليد غير المجتهد للقضاء، ويحكم بفتوى غيره أي بتقليد مجتهد؛ لأن الغرض من
القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه، وهو يتحقق بالتقليد، لكن مع
هذا قالوا: لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام، أي الجاهل بأدلة الأحكام
الشرعية تفصيلاً واستنباطاً؛ لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل يقضي
بالباطل من حيث لا يشعر به.
وبصرف النظر عن هذا الخلاف فإن الواقع له مكان وأهمية، قال الإمام الغزالي:
اجتماع هذه الشروط من العدالة والاجتهاد وغيرهما متعذر في عصرنا لخلو العصر
من المجتهد والعدل، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة، وإن كان
جاهلاً فاسقاً (1).
وقال الشافعية: إذا تعذرت هذه الشروط، فولى سلطان له شوكة فاسقاً أو مقلداً
نفذ قضاؤه للضرورة. وفي الجملة: إذا وجد اثنان كل منهما أهل للقضاء يقدم
الأفضل في العلم والديانة والورع والعدالة والعفة والقوة، لقوله صلّى الله
عليه وسلم: «من تولى من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً، وهو يعلم
أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب الله، وسنة رسوله، فقد خان الله
ورسوله، وجماعة المسلمين» (2).
_________
(1) راجع البحث في البدائع: 3/ 7، فتح القدير: 453/ 5 وما بعدها، 485،
مختصر الطحاوي: ص 332، الدر المختار ورد المحتار عليه: 312/ 4 وما بعدها،
318، بداية المجتهد: 449/ 2، الشرح الكبير للدردير: 129/ 4 وما بعدها، مغني
المحتاج: 375/ 4 وما بعدها، المهذب: 290/ 2، المغني: 39/ 9 وما بعدها.
(2) رواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس، وأخرجه الحاكم وابن عدي وأحمد بن
حنبل والعقيلي والخطيب البغدادي. وعن حذيفة بن اليمان أخرجه أبو يعلى
الموصلي (نصب الراية: 62/ 4).
(8/5939)
إثبات ولاية القاضي: تثبت ولاية القاضي
بشهادة شاهدين يخبران بمحل ولايته، وباستفاضته خبر تعيينه، والأولى أن يكتب
له الإمام كتاباً بالتولية، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنه
كتب لعمرو بن حزم كتاباً لما بعثه إلى اليمن، وهو ابن سبعة عشر عاماً، وكتب
أبو بكر رضي الله عنه كتاباً لأنس لما بعثه إلى البحرين، وختمه بخاتم رسول
الله صلّى الله عليه وسلم. وتثبت ولاية القاضي اليوم بقرار التعيين أو
التوظيف وينشر في الجريدة الرسمية، وقد ينشر في الصحف اليومية. ويسن للقاضي
الاستعانة بعلماء البلد الذي عين فيه، كما يتعرف على العدول ليتابع عمله
بوجه أفضل.
المبحث الثالث ـ حكم قبول القضاء:
اتفق الفقهاء على أنه إذا تعين للقضاء واحد يصلح له في بلد لزمه طلبه
وقبوله، فإن امتنع عصى، كسائر فروض الأعيان، وللحاكم إجباره؛ لأن الناس
مضطرون إلى علمه ونظره، فأشبه من عنده طعام منعه عن المضطر.
فإن وجد في البلد عدد يصلح للقضاء، فيجوز القبول والترك. وهل القبول حينئذ
أفضل أو الترك؟
قال جمهور العلماء في المذاهب الأربعة: الترك أفضل، لقوله صلّى الله عليه
وسلم: «من جعل قاضياً بين الناس، فقد ذبح بغير سكين» (1) وقد امتنع بعض
الصحابة كابن عمر وبعض كبار الفقهاء كأبي حنيفة من قبول القضاء، لما ورد
فيه من التشديد
_________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وأخرجه أيضاً الحاكم
والبيهقي وابن أبي شيبة وأبو يعلى والبزار والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه
ابن خزيمة وابن حبان، وله طرق منها ما رواه ابن عدي عن ابن عباس (نيل
الأوطار: 259/ 8 وما بعدها، نصب الراية: 64/ 4، سبل السلام: 116/ 4، تلخيص
الحبير: 184/ 4، الإلمام: ص 512).
(8/5940)
والذم، ولما فيه من الخطورة (1)، بل إنه
يكره طلبه لقوله صلّى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن
بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن
أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» (2) أي صرفت إليها دون عون، وعن أنس قال: قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سأل القضاء، وكل إلى نفسه، ومن أجبر
عليه نزل إليه ملك فسدده» (3) وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم
قال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة،
وبئست الفاطمة» (4). فيكون طلب القضاء مكروهاً إذا كان هناك مماثل أو أفضل
منه.
لكن يندب طلب القضاء لعالم غير مشهور يرجو به نشر علمه بين الناس لتحصل
المنفعة بعلمه، كما يندب لمن كان محتاجاً إلى الرزق؛ لأن القضاء طاعة لما
في إقامة العدل من جزيل الثواب. ويستحب أيضاً لمن يرجو بعمله إحقاق الحق
ومنع ضياع الحقوق، وتدارك جورالقضاة أو عجزهم عن إيصال الحقوق لأهلها.
ويكره قبول القضاء لمن يخاف العجز عنه، ولا يأمن على نفسه الحيف فيه، حتى
لا يكون سبباً لمباشرة القبيح.
وقال بعض العلماء: قبول القضاء أفضل؛ لأن الأنبياء والمرسلين صلوات الله
_________
(1) قال في كتاب الجوهرة الحنفي: وقد دخل فيه (أي في القضاء) قوم صالحون،
واجتنبه قوم صالحون، وترك الدخول فيه أحوط وأسلم للدين والدنيا، لما فيه من
الخطر العظيم والأمر المخوف.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد (نيل الأوطار: 256/ 8).
(3) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد (نصب الراية: 69/ 4، مجمع
الزوائد: 194/ 4، نيل الأوطار، المرجع السابق).
(4) رواه البخاري وأحمد والنسائي. وقوله: «ستحرصون» بكسر الراء، ويجوز
فتحها، وقوله: «نعم المرضعة وبئست الفاطمة» أي نعمت المرضعة في الدنيا
وبئست الفاطمة بعد الموت (نيل الأوطار: 257/ 8، سبل السلام: 116/ 4).
(8/5941)
ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند
صحيح عن عوف ابن مالك بلفظ «أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم
القيامة، إلا من عدل». عليهم، والخلفاء الراشدين ما رسوا القضاء، ولنا فيهم
قدوة، ولأن القضاء إذا أريد به وجه الله تعالى يكون عبادة خالصة، بل هو من
أفضل العبادات، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يوم من إمام عادل أفضل من
عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين يوماً»
(1).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن
يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما وَلُوا»
(2) قالوا: وأما الأحاديث التي فيها ذم القضاء فهي محمولة على القاضي
الجاهل أو العالم الفاسق، أو الذي لا يأمن على نفسه الرشوة (3).
قال القدوري الحنفي: ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه (أي يعلم من
نفسه) أنه يؤدي فرضه: وهو الحكم على قاعدة الشرع. ويكره الدخول فيه لمن
يخاف العجز عنه أي عن القيام به على الوجه المشروع، ولا يأمن على نفسه
الحيف (أي الظلم). ولا ينبغي للإنسان أن يطلب الولاية بقلبه، ولا يسألها
بلسانه (4)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من طلب القضاء وكل إلى نفسه ومن
أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده» (5).
_________
(1) رواه إسحاق بن راهويه والطبراني في الأوسط عن ابن عباس (نصب الراية:
67/ 4).
(2) رواه مسلم وأحمد والنسائي عن عبد الله بن عمر (نصب الراية، المرجع
نفسه: ص 68، نيل الأوطار: 260/ 8).
(3) راجع البدائع: 3/ 7 ومابعدها، فتح القدير: 458/ 5 ومابعدها، الدر
المختار: 319/ 4، اللباب شرح الكتاب: 78/ 4، الشرح الكبير للدردير: 130/ 4
ومابعدها، مغني المحتاج: 373/ 4، المغني: 35/ 9.
(4) الكتاب: 78/ 4
(5) سبق تخريج الحديث قريباً. وفيه دليل على أن طلب مايتعلق بالحكم مكروه،
فيدخل الإمارة والقضاء والحسبة ونحو ذلك (نيل الأوطار: 259/ 8).
(8/5942)
المبحث الرابع ـ
صلاحيات القاضي:
تشتمل ولاية القاضي على عشرة أمور (1):
الأول ـ الفصل بين المتخاصمين إما بصلح عن تراضٍ، وإما بإجبار على حكم
نافذ.
الثاني ـ قمع الظالمين عن الغصب والتعدي وغير ذلك، ونصرة المظلومين وإيصال
كل ذي حق إلى حقه.
الثالث ـ إقامة الحدود والقيام بحقوق الله تعالى.
الرابع ـ النظر في الدماء والجراح.
الخامس ـ النظر في أموال اليتامى والمجانين وتقديم الأوصياء عليهم حفظاً
لأموالهم.
السادس ـ النظر في الأحباس (الأوقاف).
السابع ـ تنفيذ الوصايا.
الثامن ـ عقد نكاح النساء إذا لم يكن لهن ولي أو عضلهن الولي.
التاسع ـ النظر في المصالح العامة من طرقات المسلمين وغير ذلك.
العاشر ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول والفعل.
وهذا دليل على أن القاضي ينظر في الأمور المدنية والجنائية والأحوال
الشخصية، والقضايا الإدارية وحقوق الله تعالى، أي حقوق المجتمع، فهو قاضي
_________
(1) القوانين الفقهية: ص293.
(8/5943)
مدني وجنائي وشرعي وإداري ومحتسب، ولكن لا
مانع شرعاً من التخصص الموضوعي في القضاء إذا ازدحمت الدعاوى وكثرت
المشكلات.
المبحث الخامس ـ واجبات القضاة:
يجب على القاضي التقيد ببعض الواجبات فيما يتعلق بمصادر الأحكام التي يستمد
منها حكمه، وطريق ثبوت الحق بالبينة أو الإقرار ونحوهما وما يتعلق بالمقضي
له والمقضي عليه.
المطلب الأول ـ ما يقضي به القاضي من الأحكام
الشرعية وصفة قضائه:
يجب على القاضي أن يقضي في كل حادثة بما يثبت عنده أنه حكم الله تعالى: إما
بدليل قطعي، وهو النص المفسر الذي لا شبهة فيه من كتاب الله عز وجل، أو
السنة المتواترة أو المشهورة، أو الإجماع.
وإما بدليل ظاهر موجب للعمل، كظواهر النصوص المذكورة في القرآن الكريم أو
السنة المشرفة، أو الثابت بالقياس الشرعي، ويعمل به في المسائل الاجتهادية
التي اختلف فيها الفقهاء.
فإن لم يجد القاضي حكم الحادثة في المصادر الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع
والقياس، يجب عليه العمل بما أدى إليه اجتهاده، إن كان مجتهداً؛ لأن ثمرة
اجتهاده هو الحق بالنسبة إليه ظاهراً، فلا يعمل باجتهاد غيره.
وهل للمجتهد أن يقضي برأي مجتهد آخر أفقه منه؟ قال أبو حنيفة: له القضاء
به.
(8/5944)
وقال الصاحبان: ليس له القضاء به. ومرجع
الخلاف هو أن كون أحد المجتهدين أفقه من غيره هل يصلح مرجحاً؟ عند أبي
حنيفة: يصلح؛ لأن اجتهاده أقرب إلى الصواب. وعند الصاحبين: لا يصلح مرجحاً؛
لأن كون العالم أفقه من غيره ليس من جنس الدليل الذي يستند إليه في استنباط
الحكم.
والصحيح عند المالكية أن القاضي إذا كان من أهل الاجتهاد، فله أن يقضي بما
رأى، وإن كان غيره أعلم منه؛ لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه
بالإجماع (1).
وإن لم يكن القاضي مجتهداً: يختار قول الأفقه والأورع من المجتهدين بحسب
اعتقاده (2).
صفة قضاء القاضي: قال جمهور العلماء:
قضاء القاضي ينفذ ظاهراً لا باطناً؛ لأنا مأمورون باتباع الظاهر، والله
يتولى السرائر، فلا يحل هذا الحكم حراماً ولا يحرم حلالاً، فلو حكم بشهادة
شاهدين ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطناً، سواء في المال وغيره،
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن
بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا
يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» متفق عليه (3).
وقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلاق، نفذ حكمه ظاهراً
وباطناً؛ لأن مهمته القضاء بالحق، وأما الحديث فهو في قضية لا بينة فيها.
وعلى
_________
(1) المقدمات الممهدات: 263/ 2.
(2) المبسوط: 68/ 16، البدائع: 5/ 7 وما بعدها، مختصر الطحاوي: ص 327.
(3) راجع مغني المحتاج: 397/ 4، المغني: 58/ 9، بداية المجتهد: 450/ 2
ومابعدها، المقدمات الممهدات: 266/ 2.
(8/5945)
هذا إذا ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها،
فأنكرت، فأقام على زواجها شاهدي زور، فقضى القاضي بالنكاح بينهما، وهما
يعلمان أنه لا نكاح بينهما، حل للرجل وطؤها، وحل لها التمكين عند أبي
حنيفة، خلافاً للجمهور. ومثله لو قضى بالطلاق فرق بينهما عنده، وإن كان
الرجل منكراً. ويقاس عليه البيع ونحوه.
والخلاصة: إن القاضي في قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً حيث كان
المحل قابلاً لذلك كالعقود والفسوخ، والقاضي غير عالم بزور الشهود. وهذا
القول وإن كان هو الأوجه في مذهب الحنفية، إلا أن المفتى به عندهم هو قول
الصاحبين الموافق لبقية الأئمة، وهو أن قضاء القاضي ينفذ ظاهراً فقط لا
باطناً، أي ليس الحلال عند الله هو ما قضى به القاضي، بل ما وافق الحق (1).
المطلب الثاني ـ طرق إثبات الحق لدى القضاء:
يجب على القاضي أن يقضي بما ثبت عنده بطرق الإثبات الشرعية: وهي البينة
والإقرار واليمين والنكول على النحو الذي سيذكر في المبحث المخصص لطرق
الإثبات. وأشير هنا إلى أن البينة تظهر الحق بالاتفاق بشرط أن يثبت عند
القاضي عدالة الشهود بالسؤال عنهم، ممن له علم بأحوالهم سراً وعلانية.
والإقرار حجة مطلقة؛ لأن الإنسان غير متهم بالإقرار على نفسه كاذباً.
والشهادة في الأموال: شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، أو شهادة رجل ويمين
المدعي عند غير الحنفية.
_________
(1) البدائع: 15/ 7، شرح فتح القدير: 492/ 5، ط التجارية، الدر المختار ورد
المحتار: 462/ 4، ط الأميرية.
(8/5946)
واليمين تسقط بها دعوى المدعي الذي لا بينة
له. وكذلك عند الإمام مالك: يثبت بها حق المدعي الذي أنكره عليه خصمه.
والنكول عن اليمين من المدعى عليه يثبت به الحق للمدعي في الأموال عند أبي
حنيفة (1). ويقضى عند المالكية بالنكول مع شاهد أو يمين المدعي أو مع يمين
المدعى عليه (2). وهل للقاضي أن يقضي بعلمه أو بكتاب قاض آخر إليه أو
بالشهادة على الشهادة
1 - قضاء القاضي بعلم نفسه:
قال المالكية والحنابلة: لا يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ولا غيره، سواء
علم ذلك قبل القضاء وبعده، ويجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء، بأن
أقر بين يديه طائعاً. ودليلهم على عدم الجواز قول النبي صلّى الله عليه
وسلم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن (3)
بحجته من بعض، فأقضي بنحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا
يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» (4) فدل على أنه يقضي بما يسمع، لا
بما يعلم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في قضية
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 6، بداية المجتهد: 451/ 2 ومابعدها، الشرح
الكبير للدردير: 151/ 4.
(2) القوانين الفقهية: ص 302.
(3) أي أفطن بها، ويجوز أن يكون معناه: أفصح تعبيراً وأظهر احتجاجاً حتى
يخيل أنه محق، وهو في الحقيقة مبطل. والأرجح في المعنى: أنه أبلغه أي أحسن
إيراداً للكلام مع أنه كاذب.
(4) رواه الجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أم سلمة، ورواه الطبراني في
الأوسط عن ابن عمر، لكن فيه متروك (نيل الأوطار: 278/ 8، شرح مسلم: 4/ 12،
مجمع الزوائد: 198/ 4، الإلمام: ص 514).
(8/5947)
الحضرمي والكندي: «شاهداك أو يمينه، ليس لك
منه إلا ذاك» (1)، وهناك آثار عن بعض الصحابة تؤيد عدم جواز القضاء بعلم
نفسه (2).
وقال الحنفية: القضاء بعلم القاضي بنفسه: بالمعاينة، أو بسماع الإقرار، أو
بمشاهدة الأحوال، فيه تفصيل:
1 - إن قضى القاضي بعلم حدث له، في زمن القضاء وفي مكانه، في الحقوق
المدنية كالإقرار بمال لرجل، أو الشخصية كطلاق رجل امرأته، أو في بعض
الجرائم: وهي قذف رجل أو قتل إنسان، جاز قضاؤه. ولا يجوز قضاؤه بعلم نفسه
في جرائم الحدود الخالصة لله عز وجل، إلا أن في السرقة يقضي بالمال، لا
بالقطع؛ لأن الحدود يحتاط في درئها، وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم
القاضي.
2 - إذا قضى القاضي بعلم نفسه قبل أن يقلد منصب القضاء، أو بعد أن قلد، لكن
قبل أن يصل إلى البلد الذي ولي قضاءه، فإنه لا يجوز عند أبي حنيفة أصلاً.
وعند الصاحبين: يجوز فيما سوى الحدود الخالصة لله عز وجل، قياساً على جواز
قضائه فيما علمه في زمن القضاء.
ورد أبو حنيفة بأن القياس مع الفارق، فالعلم المستفاد في زمن القضاء علم في
وقت يكون القاضي فيه مكلفاً بالقضاء، فأشبه البينة القائمة فيه، أما العلم
الحاصل في غير زمان القضاء: فهو علم في وقت لا يكون القاضي مكلفاً فيه
_________
(1) رواه أحمد والشيخان عن الأشعث بن قيس (نيل الأوطار: 302/ 8).
(2) المغني: 53/ 9 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 158/ 4، نيل الأوطار:
المرجع السابق: ص 286، بداية المجتهد: 458/ 2 وما بعدها.
(8/5948)
بالقضاء، فلا يصلح؛ لأنه ليس في معنى
البينة، فلم يجز القضاء به؛ لأن البينة المعتبرة أن يسمع القاضي الشهود في
ولايته، أما ما يعلمه قبل ولايته فهو بمنزلة ما يسمعه من الشهود قبل
ولايته، وهو لا قيمة له.
والخلاصة: إن أبا حنيفة يقول: ما كان من حقوق الله كالحدود الخالصة له، لا
يحكم فيه القاضي بعلمه؛ لأن حقوق الله مبنية على المساهلة والمسامحة، وأما
حقوق الناس المدنية، فما علمه القاضي قبل ولايته، لم يحكم به، وما علمه في
ولايته، حكم به (1). والمعتمد عند المتأخرين من الحنفية وهو المفتى به: عدم
جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقاً في زماننا لفساد قضاة الزمن (2).
وقال الشافعية: الأظهر أن القاضي يقضي بعلمه قبل ولايته أو في أثناء
ولايته، أو في غير محل ولايته، سواء أكان في الواقعة بينة أم لا، إلا في
حدود الله تعالى. وعلى هذا فيجوز للقاضي أن يقضي بعلمه في الأموال قطعاً،
وفي القصاص وحد القذف على الأظهر؛ لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو
الشاهدان، فقضاؤه بالعلم أولى. وأما الحدود الخالصة لله كالزنا والسرقة
والمحاربة وشرب المسكرات، فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ويندب
سترها، لكن إن اعترف إنسان بموجب الحد في مجلس الحكم قضى فيه بعلمه (3)،
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فإن اعترفت فارجمها».
2 - قضاء القاضي بكتاب قاض آخر إليه:
اتفق الفقهاء على أن القاضي له أن يقضي بكتاب قاض آخر إليه فيما ثبت
_________
(1) المبسوط: 93/ 16، البدائع: 7/ 7، مختصر الطحاوي: ص 332.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 4 ص 369.
(3) مغني المحتاج: 4 ص 398.
(8/5949)
عنده في الحقوق المالية للحاجة إليه، فقد
يكون لامرئ حق في غير بلده، ولا يمكنه إتيانه والمطالبة به إلا بكتاب
القاضي بشرط أن يشهد شاهدان عدلان على أن الكتاب المرسل هو كتاب قاضٍ، وأن
يشهد بثبوت الحكم عنده على نحو معين، وأجاز الإمام مالك أن يحكم القاضي
بكتاب قاضٍ في الحدود والقصاص أيضاً (1).
ولكتاب القاضي إلى قاض آخر صورتان:
الأولى: كتابة الشهادة التي سمعها القاضي من الشهود إما مع تعديل الشهود
وتزكيتهم أو بدون تعديل، ليبحث القاضي الآخر عن أحوال الشهود.
الثانية: كتابة صورة الحكم الذي حكم به على الشخص الغائب ويرسلها إلى
القاضي الثاني لتنفيذ الحكم عليه.
وبما أن الحنفية لا يجيزون القضاء على الغائب كما سيأتي بيانه، فالصورة
الثانية لتنفيذ الحكم. والأولى مقدمة لإصدار الحكم.
وقد اشترط علماء المذاهب في قبول كتاب القاضي شروطاً أكتفي بذكر شروط
الحنفية منها وهي (2):
أولاً ـ البينة على أنه كتابه: فيشهد شاهدان رجلان أو رجل وامرأتان على أن
_________
(1) بداية المجتهد: 2 ص 458، المغني: 9 ص 90، مغني المحتاج: 4 ص 452،
المهذب: 2 ص 304، المبسوط: 16 ص 95، الميزان: 2 ص 188، الشرح الكبير
للدردير: 4 ص 159، فتح القدير: 5 ص 277 وما بعدها، تبيين الحقائق: 241/ 4.
(2) المبسوط، المرجع السابق، البدائع: 7 ص 7 وما بعدها، فتح القدير، المرجع
السابق، اللباب شرح الكتاب للميداني: 4 ص 84 وما بعدها، مختصر الطحاوي: ص
330، درر الحكام: 2 ص 412 وما بعدها، تبيين الحقائق: 184/ 4، القوانين
الفقهية: ص 297، الشرح الكبير: 159/ 4.
(8/5950)
هذا كتاب فلان القاضي ببيان اسمه ونسبه؛
لأنه لا يعرف أنه كتابه بدون المذكور. ويحدد في الكتاب اسم المدعى عليه
والشهود، والمدعى به وصفاته لتمييزه عن غيره. وهذا أمر طبيعي متفق عليه.
ثانياً ـ أن يكون الكتاب مختوماً، ويشهدوا على أن هذا ختمه لصيانته عن
الخلل فيه. وأن تكون الكتابة ظاهرة مقروءة تفيد المعنى المراد وتؤدي
المقصود من كتابة الشهادة أو كتابة الحكم، ليتمكن القاضي المكتوب له العمل
بموجب الكتاب.
ثالثاً ـ أن يشهد الشاهدان بما في الكتاب: بأن يقولا: إنه قرأه عليهما مع
الشهادة بالختم.
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يكفي أن يشهد الشاهدان بالكتاب
والخاتم، ولا تشترط الشهادة بما في الكتاب؛ لأن المقصود من هذه الشهادة
حصول العلم للقاضي المرسل إلىه بأن هذا كتاب فلان القاضي، ويتحقق المطلوب
بما ذكر. وقال الطرفان: لا يحصل هذا المقصود إلا بالعلم بما فيه.
رابعاً ـ أن تكون هناك مسافة سفر القصر بين القاضي المرسل وبين المرسل
إليه؛ لأن القضاء بكتاب القاضي أمر جوِّز للحاجة أو للضرورة؛ لأنه قضاء على
غائب، ولا ضرورة فيما دون مسافة القصر.
خامساً ـ أن يكون موضوع الكتاب في الحقوق المدنية أو الشخصية كالديون
والنكاح، وإثبات النسب، والمغصوبات، والأمانات والمضاربة، أو أن يكون في
العقارات كالأراضي والدور؛ لأنها تقبل التحديد، وقيل: لا يقبل في المنقولات
للحاجة إلى الإشارة إليها عند الدعوى والشهادة.
وفي رواية عن محمد: أنه يقبل في جميع المنقولات من الدواب والثياب
(8/5951)
والأمتعة ونحوها، وبه أخذ المتأخرون من
الحنفية، وعليه الفتوى، وبه قال سائر الأئمة الآخرين.
سادساً ـ ألا يكون الكتاب في الحدود والقصاص؛ لأن كتاب القاضي إلى القاضي
بمنزلة الشهادة على الشهادة، وهي لا تقبل في العقوبات الخالصة لله عز وجل؛
لأنها تدرأ بالشبهات، وكتاب القاضي إلى القاضي فيه شبهة.
وهذا أيضاً هو الأرجح عند الشافعية والحنابلة. وقال المالكية كما عرفنا:
يجوز كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص؛ لأن الاعتماد على الشهود،
وقد شهدوا.
وهناك شروط أخرى من أهمها: أن الكتاب إذا وصل إلى القاضي قرأه على الخصم؛
لأنه بمنزلة أداء الشهادة، وهو لا يكون إلا بمحضر الخصم، فكذا هذا، منعاً
من اتهام القاضي في شيء.
ومن أهمها أيضاً: أن الكتاب يقبل إذا كان القاضي الكاتب ما زال في منصبه
عند وصول الكتاب إلى المرسل إليه، فإن مات، أو عزل أو لم يبق أهلاً للقضاء
قبل وصول الكتاب، لا يقبل؛ لأن الكاتب صار من جملة الرعايا العاديين، ولا
يقبل أيضاً الكتاب إذا مات المكتوب له أو عزل، إلا أن يكتب إلى قاضي بلد
كذا وإلى كل من يقضي فيه من قضاة المسلمين.
3 - قضاء القاضي بالشهادة على الشهادة:
اتفق الفقهاء على قبول الشهادة على الشهادة في الأموال، لقوله تعالى:
{وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] وللحاجة إليها؛ لأن الشهادة الأصلية
قد تتعذر بسبب حبس أو مرض أو عجز.
(8/5952)
ولا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود
الخالصة لله عند الحنفية والحنابلة، والشافعية في الأظهر؛ لأن الحدود مبنية
على الستر والدرء بالشبهات، والشهادة على الشهادة فيها شبهة، فإنه يعترضها
احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل.
وقال الإمام مالك: تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود وكل الحقوق المالية؛
لأن موجب الحد يثبت بشهادة الأصل، فيثبت بالشهادة على الشهادة كالأموال
(1)، وسأفصل هذا الموضوع في بحث الشهادات إن شاء الله تعالى.
المطلب الثالث ـ واجبات القاضي نحو المقضي له:
يجب على القاضي نحو المقضي له أمور (2):
1ً - أن يكون ممن تقبل
شهادته للقاضي، فإن كل من لا تقبل شهادته له: لا يجوز قضاء القاضي له؛ لأن
القضاء له قضاء لنفسه من جهة، فلم يكن القضاء مجرداً، وإنما فيه تهمة، فلا
يصح القضاء. وعليه فلا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه، ولا لأبويه وإن علوا،
ولا لزوجته، ولا لأولاده وإن سفلوا، ولا لشريكه في المال المشترك بينهما،
ولا لكل من لا تجوز شهادته لهم، لوجود التهمة، وهذا رأي أكثر الفقهاء (3).
2ً - أن يكون المقضي له
حاضراً وقت القضاء، فإن كان غائباً لم يجز القضاء له إلا إذا كان عنه وكيل
حاضر؛ لأن القضاء على الغائب عند الحنفية لا يجوز، فكذلك لا يجوز القضاء
للغائب أيضاً.
_________
(1) راجع فتح القدير: 74/ 6، مغني المحتاج: 453/ 4، المغني: 206/ 9،
القوانين الفقهية: ص 297.
(2) البدائع: 8/ 7، اللباب شرح الكتاب: 90/ 4، مختصر الطحاوي: ص 332.
(3) بداية المجتهد: 460/ 2، مغني المحتاج: 393/ 4، المغني: 107/ 9.
(8/5953)
3ً - طلب القضاء من
القاضي في حقوق الناس؛ لأن القضاء وسيلة إلى الحق، وحق الإنسان لا يستوفى
إلا بطلبه.
المطلب الرابع ـ واجبات القاضي نحو المقضي عليه:
يجب على القاضي ألا يحكم على من لا يجوز أن يشهد عليه، فلا يقضي على عدوه،
ويجوز أن يقضي له. ويجب أن يكون المقضي عليه حاضراً عند الحنفية، فلا يجوز
القضاء على الغائب بالبينة إذا لم يكن عنه وكيل حاضر (1) كوكيله ووصيه
ومتولي الوقف أو نائبه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإنما أقضي له
بحسب ما أسمع» وما روي عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال حين أرسله
إلى اليمن: «لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر» (2)، ولأنه قضاء
لأحد الخصمين وحده، فلم يجز، كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن
يكون للغائب ما يبطل البينة ويقدح فيها، فلم يجز الحكم عليه.
وعدم جواز القضاء على الغائب عند الحنفية، سواء أكان الخصم غائباً وقت
الشهادة أم بعدها وبعد التزكية، وسواء أكان غائباً عن مجلس القضاء أم عن
البلد التي فيها القاضي، إلا أن يكون ذلك ضرورياً، كما إذا توجه القضاء على
الخصم، فاستتر.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: 222/ 6، اللباب، المرجع السابق: ص 88، تكملة
فتح القدير: 137/ 6، تكملة رد المحتار على الدر المختار: 314/ 1، المبسوط:
39/ 17.
(2) رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حسن صحيح، وأخرجه أيضاً ابن حبان
وصححه وأحمد، وقواه ابن المديني عن علي بلفظ: «يا علي إذا جلس إليك
الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول فإنك إذا
فعلت ذلك تبين لك القضاء» (نيل الأوطار: 375/ 8، سبل السلام: 120/ 4).
(8/5954)
وقال المالكية والشافعية والحنابلة (1):
يجوز القضاء على الغائب البعيد الغيبة بشرط أن يكون للمدعي بينة، وذلك في
حقوق الناس المدنية، أما في الحدود الخالصة لله تعالى، فلا يقضى على الغائب
بها؛ لأنها مبنية على المسامحة والدرء والإسقاط، لاستغنائه تعالى، بخلاف حق
الإنسان، فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال، حكم عليه بالمال دون القطع.
واستدلوا على جواز الحكم على الغائب بحديث هند، قالت: «يا رسول الله، إن
أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك
بالمعروف» (2) فقضى لها الرسول عليه السلام، ولم يكن زوجها حاضراً. والواقع
أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه؛ لأن أبا سفيان كان حاضراً بمكة، والحادثة
كانت بمكة، لما حضرت هند لمبايعة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
قال ابن حزم: صح عن عثمان القضاء على الغائب، وصح عن عمر أنه حكم في امرأة
المفقود أنها تتربص أربع سنين وأربعة أشهر وعشراً، ولا مخالف لهما من
الصحابة. ودليلهم من المعقول أن البينة يطلب سماعها وهي مسموعة في هذه
الحالة على الغائب، فيجب الحكم بها كالبينة المسموعة على الحاضر الساكت،
وأيضاً فالحكم على الميت والصغير جائز، وهما أعجز عن الدفاع عن نفسيهما من
الغائب، ولأن في منع الحكم عن الغائب إضاعة للحقوق التي ندب الحكام إلى
حفظها.
وحد الغيبة البعيدة عند الشافعية: هو أن يكون الغائب في مسافة بعيدة عن
_________
(1) بداية المجتهد: 460/ 2، الشرح الكبير للدردير: 162/ 4، مغني المحتاج:
406/ 4، 415، المهذب: 3/ 2، المغني: 110/ 9.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن عائشة (شرح مسلم: 7/ 12، الإلمام: ص
515).
(8/5955)
بلد القاضي: وهي التي لا يرجع منها مبكر
إلى موضعه الذي بكَّر منه ليلاً بعد فراغ المحاكم، لما في إلزامه الحضور من
المشقة. وقيل: هي مسافة القصر.
وأما الحاضر في بلد القاضي ومن بقربه: فلا تسمع البينة عليه، ولا يحكم عليه
في غيبته إلا لتواريه، أو تعززه، وعجز القاضي حينئذ عن إحضاره بنفسه أو
بأعوان السلطان.
المبحث السادس ـ آداب القضاة:
ينبغي على القاضي أن يلتزم بآداب معينة تقتضيها مصلحة القضاء وإقامة العدل
بين الناس، وهذه الآداب مستمدة في أغلبها من كتاب سيدنا عمر بن الخطاب رضي
الله عنه في القضاء والسياسة إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وأذكر هنا أهمها عند الحنفية وأصنفها إلى قسمين: آداب عامة، وآداب خاصة.
الآداب العامة:
1 ً - المشاورة: يندب للقاضي أن يجلس
معه جماعة من الفقهاء يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله من الأحكام أو
يشكل عليه من القضايا، قال تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/ 3]
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحداً بعد رسول
الله صلّى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأصحابه منه».
فإن اتفق رأي الفقهاء على أمر قضى به، كما كان يفعل الخلفاء الراشدون،
(8/5956)
وإن اختلفوا أخذ بأحسن أقاويلهم وقضى بما
رآه صواباً، إلا أن يكون غيره أفقه منه، فيجوز له الأخذ برأيه وترك رأيه
الشخصي. وإن اعتمد على قول بعضهم، ثم رأى الصواب في قول الآخر، فله أن يعدل
عن الرأي الأول؛ لأن الأمور الاجتهادية يجوز للقاضي أن يأخذ بأحد الآراء
فيها قبل صدور الحكم. أما بعد الحكم فليس له أن يبطل الحكم الذي صدر منه؛
لأنه صار بالقضاء كالرأي المتفق عليه، ولكن له أن يعمل في المستقبل بخلاف
الرأي السابق (1).
2ً
- التسوية بين الخصمين في المجلس والإقبال:
ينبغي أن يعدل القاضي بين الخصمين في الجلوس، والإقبال، فيجلسهما بين يديه،
لا عن يمينه ولا عن يساره، وأن يسوي بينهما في النظر والنطق والإشارة
والخلوة فلا يسارّ أحدهما أو يخلو به، ولا يشير إليه، ولا يلقنه حجة منعاً
للتهمة، ولا يضحك في وجه أحدهما؛ لأنه يجترئ عليه، ولا يمازحهما ولا واحداً
منهما؛ لأنه يذهب بمهابة القضاء، ولا يضيف أحدهما (2)، ولا يرفع صوته على
أحدهما، ولا يكلم أحدهما بلغة لا يعرفها الآخر، وإذا تكلم أحدهما أسكت
الآخر حتى يسمع كلامه، ويفهم، ثم يستنطق الآخر، حتى يفهم تماماً رأيه (3).
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين،
فليسوِّ بينهم في
_________
(1) البدائع: 11/ 7 وما بعدها، الدر المختار: 316/ 4، الكتاب مع اللباب:
81/ 4، أصول الفقه للمؤلف: 1115/ 2، ط دار الفكر.
(2) روي إسحاق بن راهويه وعبد الرزاق والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة في
صحيحه عن الحسن عن علي قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف
الخصم إلا ومعه خصمه» ورواية البيهقي له بإسناد ضعيف منقطع، وله طريق آخر
عند الطبراني في الأوسط عن علي، قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن
يضيف أحد الخصمين دون الآخر» وفيه ضعيف (نصب الراية: 73/ 4، تلخيص الحبير:
193/ 4 وما بعدها، مجمع الزوائد: 197/ 4).
(3) البدائع، المرجع السابق: ص 9، المبسوط: 61/ 16، فتح القدير: 469/ 5.
(8/5957)
المجلس، والإشارة والنظر، ولا يرفع صوته
على أحد الخصمين أكثر من الآخر» (1).
وفي كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري: «آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك،
حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك» (2) وعن الحسن قال: «جاء
رجل فنزل على علي رضي الله عنه، فأضافه، فلما قال: إني أريد أن أخاصم، قال
له علي رضي الله عنه: تحول، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف
الخصم إلا ومعه خصمه» (3)، وعن عبد الله بن الزبير قال: «سنة رسول الله؛
صلّى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي»، وفي لفظ: «قضى رسول
الله صلّى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم» (4).
وكما أنه لا يصح تلقين الخصم حجته، يكره تلقين الشاهد، وهو أن يقول القاضي
كلاماً يستفيد به الشاهد علماً على الحادثة، واستحسن أبو يوسف تلقين الشاهد
الذي يستحي أو يحتار أو يهاب مجلس القضاء، فيترك شيئاً من شروط الشهادة،
فيعينه القاضي بقوله: «أتشهد بكذا وكذا» بشرط عدم التهمة؛ لأن في التلقين
إحياء للحق (5).
_________
(1) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده وأبو يعلى والدارقطني والطبراني عن أم
سلمة، ولفظ الدارقطني: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في
لحظه وإشارته ومقعده» (فتح القدير، المرجع السابق، نصب الراية: 73/ 4، مجمع
الزوائد: 197/ 4، تلخيص الحبير: 193/ 4).
(2) روى الكتاب الدارقطني في سننيهما عن أبي المليح الهذلي، وروى بعضه ابن
أبي شيبة في مصنفه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ونقله ابن الجوزي
في سيرة عمر بن الخطاب واعتمده ابن القيم في أعلام الموقعين (راجع نصب
الراية: 63/ 4، 81، أعلام الموقعين: 85/ 1، أصول الفقه للمؤلف: 628/ 2، ط
دار الفكر.
(3) رواه إسحاق بن راهويه عن الحسن، ورواه أيضاً عبد الرزاق والدارقطني
وغيرهم كما سبق في تخريجه قريباً (فتح القدير: 469/ 5، نصب الراية: 73/ 4).
(4) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي والحاكم عن عبد الله بن الزبير وفي
إسناده ضعيف (نيل الأوطار: 274/ 8، تلخيص الحبير: 193/ 4).
(5) فتح القدير، المرجع السابق: ص 470، البدائع: 10/ 7، اللباب: 81/ 4.
(8/5958)
3ً
- قبول الهدية: لا يقبل القاضي هدية أحد
إلا من ذي رحم محرم، أو ممن جرت عادته قبل القضاء بمهاداته؛ لأن المقصود في
الأول صلة الرحم، وفي الثاني استدامة المعتاد. والحاصل أن المهدي إذا كان
له خصومة في الحال يحرم قبول هديته، لأنها بمعنى الرشوة، قال صلّى الله
عليه وسلم: «هدايا العمال غلول» (1) وروي: «هدايا العمال سحت» وفي لفظ:
«هدايا السلطان سحت». وأخرج أبو داود عن بريدة حديثاً بلفظ: «من استعملناه
على عمل فرزقناه رزقاً، فما أخذه بعد ذلك فهو غلول» وقال عليه الصلاة
والسلام في قصة ابن اللُّتبِيّة: «ما بال العامل نبعثه فيجيء، فيقول: هذا
لكم، وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أمه، فينظر أيهدى إليه أم لا؟» (2)
ولأن الهدية تدعو إلى الميل للمهدي، وينكسر بها قلب خصمه. وهذا كله دليل
على تحريم قبول الهدية على الحاكم بعد تولي القضاء؛ لأن للإحسان تأثيراً في
طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى
المهدي ميلاً يؤثر في الميل عن الحق عند وجود خصومة بين المهدي وبين غيره،
والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان
في قلبه.
_________
(1) رواه أحمد والبيهقي وابن عدي والبزار من حديث أبي حميد الساعدي وإسناده
ضعيف، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، وإسناده أشد ضعفاً
(تلخيص الحبير: 189/ 4، نيل الأوطار: 297/ 7، 268/ 8، مجمع الزوائد: 200/
4) والغلول: الخيانة.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي، قال: «استعمل رسول
الله صلّى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد، يقال له: ابن اللتبية على
الصدقة، فلما قدم، قال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقام رسول الله صلّى الله
عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال عامل أبعثه،
فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلى، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه، حتى ينظر
أيهدى له أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منها شيئاً إلا جاء يوم
القيامة يحمله على عنقه، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة
تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: اللهم، هل بلَّغت؟ مرتين
أو ثلاثاً» (الإلمام في أحاديث الأحكام: ص 516، سنن أبي داود: 121/ 2، نيل
الأوطار: 297/ 7) واللتبية بتشديد اللام المضمومة وسكون التاء وكسر الباء
وتشديد الياء المكسورة. وقال ابن السرح: ابن الاتبية.
(8/5959)
وإن كان المهدي قريباً من القاضي ولا خصومة
له، جاز قبول هديته؛ لأنه لا تهمة فيه.
وإن كان المهدي أجنبياً عن القاضي، لا تقبل هديته؛ لأنه قد يكون له مآرب في
المستقبل، إلا إذا كان له عادة بالمهاداة قبل تقلد القضاء، فيجوز قبولها
بشرط ألا تزيد الهدية على القدر المعتاد (1).
ويندب للقاضي ألا يبيع ولا يشتري بنفسه، لئلا يحابيه أحد، ويستغل منصبه
وقربه منه إذا وقعت خصومة بينه وبين غيره.
4ً
- إجابة الدعوة: إذا كانت الدعوة عامة:
وهي (ما تكون فوق العشرة أو التي يتخذها صاحبها سواء حضر القاضي أم لا، مثل
دعوة العرس والختان) ولا خصومة لصاحب الوليمة، فللقاضي إجابة الدعوة؛ لأن
الإجابة سنة، ولا تهمة فيه.
وإن كانت الدعوة خاصة: وهي (ما تكون دون العشرة أو التي لا يتخذها صاحبها
لولا حضور القاضي) فلا يجيبها؛ لأن إجابتها لا يخلو من التهمة، إلا إذا كان
صاحب الدعوة ممن اعتاد أن يتخذ للقاضي دعوة قبل القضاء، أو كان بينه وبين
القاضي قرابة، فلا بأس بأن يحضر، إذا لم يكن لصاحب الدعوة خصومة، كما تبين
في حال الهدية، لعدم وجود التهمة (2).
5 - شهود الجنازة وعود المريض: لا بأس
بأن يشهد القاضي الجنازة ويعود المريض؛ لأن ذلك من حقوق المسلمين بعضهم على
بعض (3)، قال صلّى الله عليه وسلم:
_________
(1) البدائع: 9/ 7 وما بعدها، فتح القدير: 467/ 5، الكتاب مع اللباب: 81/
4، الدر المختار: 323/ 4 وما بعدها، مغني المحتاج: 392/ 4.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 10، فتح القدير: ص 468، الدر المختار،
المرجع نفسه: ص 325.
(3) المراجع السابقة.
(8/5960)
«حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام،
وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإذا
استنصحك فانصح له» (1) فهي السادسة.
الآداب الخاصة:
1 - مكان القضاء: قال الشافعية: يستحب
أن يكون مجلس القضاء فسيحاً بارزاً للناس، متلائماً مع الوقت والفصول،
متناسباً مع الحر والبرد، لا مسجداً، فيكره اتخاذ المسجد مجلساً للحكم؛ لأن
مجلس القاضي، لا يخلو عن اللغط، وارتفاع الأصوات، وقد يحتاج لإحضار
المجانين والصغار وذوات الأعذار بالحيض والنفاس والجنابة، والكفار، ونحوهم،
والمسجد يصان عن ذلك كله. أخرج مسلم: «أنه صلّى الله عليه وسلم حين سمع من
ينشد ضالته في المسجد، قال: إن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت لما بنيت
له» فإن صادف وقوع قضية أو أكثر وقت الحضور في المسجد لصلاة أو غيرها، فلا
بأس بفصلها، وعليه يحمل ما جاء عنه صلّى الله عليه وسلم، وعن خلفائه في
القضاء في المساجد (2).
وقال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا بأس من القضاء في المساجد، اقتداء
برسول الله صلّى الله عليه وسلم (3) وبصحابته (4) وتابعيهم رضي الله عنهم،
كانوا يجلسون في المسجد للقضاء، والاقتداء بهم واجب (5).
_________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي
هريرة، ورواه البخاري في الأدب المفرد من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم
الأفريقي (نصب الراية: 72/ 4 وما بعدها، جامع الأصول: 338/ 7، سبل السلام:
148/ 4، مجمع الزوائد: 184/ 8).
(2) مغني المحتاج: 390/ 4.
(3) راجع بعض حوادث قضائه صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في المسجد
في (نصب الراية: 71/ 4 وما بعدها).
(4) راجع نصب الراية، المرجع السابق: ص 72.
(5) البدائع: 13/ 7، فتح القدير: 465/ 5، الدر المختار: 323/ 4، اللباب: ص
80، الشرح الكبير للدردير: 137/ 4، المغني: 45/ 9.
(8/5961)
2 - معاونو القاضي:
يندب أن يكون للقاضي جلواز وهو المسمى بصاحب المجلس أي الحارس في عرفنا،
وأن يكون له أعوان يستحضرون الخصوم ويمتثلون بين يديه إجلالاً له، ليكون
المجلس مهيباً ويذعن المتمرد للحق، وأن يكون للقاضي ترجمان لجواز أن يحضر
المحاكمة من لا يعرف القاضي لغته من المدعي والمدعى عليه والشهود.
وأن يتخذ القاضي كاتباً، لأنه يحتاج إلى حفظ الدعاوى والبينات والإقرارات،
وقد يشق عليه الكتابة بنفسه، فيحتاج إلى كاتب يستعين به. وينبغي أن يكون
الكاتب عفيفاً صالحاً من أهل الشهادة، وله معرفة بالفقه. وينبغي أن يقعد
الكاتب حيث يرى القاضي ما يكتب وما يصنع؛
لأنه أقرب إلى الاحتياط (1)، وأن يخصص الكاتب سجلاً خاصاً بالدعوى، يذكر
فيه موضوع الدعوى والمدعي والمدعى عليه، والشهود، ودفوع كل من الخصمين.
3 - فهم المنازعة: ينبغي على القاضي أن
يفهم الخصومة فهماً دقيقاً، فيجعل فهمه وسمعه وقلبه متجهاً كله إلى كلام
الخصمين، لقول سيدنا عمر في فاتحة كتابه إلى أبي موسى الأشعري: «فافهم إذا
أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له».
4 - صفاء القاضي وحالته النفسية: يلزم
ألا يكون القاضي قلقاً ضجراً مضطرباً وقت القضاء، لقوله صلّى الله عليه
وسلم: «إياك والضجر والقلق» (2) وألا يكون غضبان باتفاق العلماء، لقوله
صلّى الله عليه وسلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» (3)، ولقول سيدنا
_________
(1) البدائع: 12/ 7، مختصر الطحاوي: ص 329.
(2) ذكره السرخسي في المبسوط: 64/ 16.
(3) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أبي بكر بلفظ: «لا يقضين حاكم بين
اثنين وهو غضبان» وفي لفظ ابن ماجه: «لا يقضي» وفي لفظ آخر: «لا يحكم أحد
بين اثنين وهو غضبان» (نيل الأوطار: 272/ 8 وما بعدها، مجمع الزوائد: 194/
4، شرح مسلم: 15/ 12، تلخيص الحبير: 189/ 4، سبل السلام: 120/ 4).
(8/5962)
عمر إلى أبي موسى: «إياك والغضب والقلق
والضجر والتأذي بالناس، والتنكر لهم عند الخصومة، فإذا رأيت الخصم يتعمد
الظلم، فأوجع رأسه» ولأن القاضي إذا غضب تغير عقله، ولم يستكمل رأيه وفكره.
وفي معنى الغضب: كل ما شغل النفس من الهم والنعاس والجوع المفرط والعطش
المفرط، والتخمة، والخوف، والمرض، وشدة الحزن والسرور، ومدافعة الأخبثين،
فينبغي ألا يكون القاضي مشغولاً بهذه العوارض العشرة، حتى لا تمنع الحاكم
من إصابة الحق؛ لأنها تمنع استحضار القلب والعقل، واستجماع الفكر الذي
يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، فهي في معنى الغضب المنصوص عليه، فتجري
مجراه، قال عليه السلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان
مهموم، ولا مصاب، ولا يقضي وهو جائع» (1).
فإن حكم القاضي في الغضب وما شاكله لا ينفذ قضاؤه عند بعض الحنابلة؛ لأنه
منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
وقال بعضهم وهو مذهب الشافعي والجمهور: ينفذ قضاؤه (2).
وإذا أخطأ القاضي في قضائه، كان خطؤه على المقضي له، وإن تعمد الخطأ بجور،
كان الخطأ عليه (3).
_________
(1) رواه أبو عوانة في صحيحه، وأخرج البيهقي والدارقطني والطبري بسند ضعيف
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: «لايقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان» (مجمع
الزوائد: 195/ 4، نيل الأوطار: 273/ 8، تلخيص الحبير، المرجع السابق).
(2) المبسوط: 64/ 16، المغني: 49/ 9، مغني المحتاج: 391/ 4، البدائع: 9/ 7،
بداية المجتهد: 462/ 2.
(3) مجمع الضمانات: ص 364.
(8/5963)
5 - تزكية الشهود:
لا يسأل القاضي عن حالة الشهود فيما سوى الحدود والقصاص، وهذا من آداب
القضاء عند أبي حنيفة؛ لأن القضاء عنده بظاهر العدالة. وعند الصاحبين: من
واجبات القضاء، وسأفصل الموضوع في بحث شروط أداء الشهادة. والسؤال يكون
أولاً سراً، ثم يكون علانية خوفاً من الاحتيال والتزوير، بأن يسمى غير
العدل باسم العدل، فإذا اتفق اثنان عدلان أو أكثر على تزكية رجل، قبل قوله
وعمل به. وعدالة المزكين شرط؛ لأن من لا يكون عدلاً في نفسه، كيف يعدِّل
غيره
وأما العدد: فهو شرط فضيلة وكمال عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن التزكية
ليست بشهادة. وعند محمد: شرط جواز؛ لأن التزكية في معنى الشهادة.
ولو اختلف المعدلان، فعدله أحدهما، وجرحه الآخر، سأل القاضي غيرهما، فإن
عدله آخر أخذ بالتزكية، وإن جرحه أخذ بالجرح؛ لأن خبر الاثنين أولى من خبر
الواحد بالقبول؛ لأنه حجة مطلقة.
وإن عدله اثنان، وجرحه اثنان، عمل بالجرح؛ لأن المجرح يعتمد حقيقة الحال،
والمعدل يبني الأمر على الظاهر؛ لأن الظاهر من حال الإنسان أن يظهر الصلاح،
ويكتم الفسق، فكان قبول قول الجارح أولى.
وكذا لو جرحه اثنان، وعدله ثلاثة فأكثر، يعمل بقول الجارح عند الحنفية؛ لأن
الترجيح لا يقع بكثرة العدد في موضوع
الشهادات (1).
6 - مصالحة الخصمين: لا بأس للقاضي أن
يرد الخصوم إلى الصلح، إن تأمل منهما المصالحة، قال تعالى: {والصلح خير}
[النساء:128/ 4] فكان طلب الصلح طلباً للخير.
_________
(1) البدائع: 10/ 7 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 328.
(8/5964)
وقال سيدنا عمر: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا،
فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن». وإن لم يتأمل القاضي الصلح من
المتخاصمين، ولم يرضيا به، فلا يردهما إلى الصلح، ويتركهما على الخصومة،
وينفذ القضاء على من قامت عليه الحجة (1).
المبحث السابع ـ انتهاء ولاية القاضي:
كل ما تنتهي به الوكالة، تنتهي به ولاية القاضي، كالعزل والموت، والجنون
المطبق، وإنجاز المهمة الموكولة للشخص، إلا في شيء واحد، وهو أن الموكل إذا
مات أو خلع ينعزل الوكيل، أما ولي الأمر إذا مات أو خلع، فلا ينعزل قضاته
وولاته. والفرق بين الوكالة وولاية القاضي: أن الوكيل يعمل بولاية الموكل
وفي حقه الخالص له، فإن زالت أهلية الولاية، بطلت الوكالة. أما القاضي فلا
يعمل بولاية الإمام وفي حقه المجرد له، وإنما يعمل بولاية المسلمين وفي
حقوقهم، وإنما الإمام بمنزلة النائب عنهم، وولاية المسلمين باقية بعد موت
الإمام، فلو استخلف القاضي أحداً بإذن الإمام ثم مات القاضي، لا ينعزل
خليفته؛ لأنه نائب الإمام، لا نائب القاضي (2).
المبحث الثامن ـ متى يجوز حبس المدين؟
بينت في بحث التعزير أن الحبس جائز شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «مطل
الغني ظلم» والظالم يحبس.
_________
(1) البدائع، المرجع نفسه: ص13، مختصر الطحاوي: ص333.
(2) البدائع: 16/ 7، 37/ 6 وما بعدها.
(8/5965)
فإذا رفعت الدعوى إلى القاضي، وثبت الحق
عنده على أحد المتخاصمين، وطلب صاحب الحق حبس غريمه، لم يعجل القاضي بحبسه،
وإنما يعمل بما يأتي (1):
1ً - إذا ثبت لدى القاضي أن
المدين معسر أو معدم لا مال له: لا يحكم بحبسه في الدين، باتفاق الفقهاء
لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2] إذ لا
فائدة من حبسه، فيكون ظلماً، وإنما يترك ليسعى في الأرض ويكتسب، فيتمكن من
سداد دينه كله أو بعضه.
2ً - إذا كان مشكوكاً في
أمر المدين، أهو معسر أم موسر، جاز حبسه عند جمهور الفقهاء حبس تلوم
واختبار، إذا كان الدين من ديون المعاوضة (2) كثمن مبيع ودين قرض، وطلب
غرماؤه حبسه، وادعوا أن له مالاً يخفيه أو ينكره. وينتهي هذا الحبس
بالإفراج عن المدين إذا ثبت عسره، كالحالة السابقة، إذ لا حبس للمدين
المعدم، ويكون حبسه حينئذ ظلماً، ولا يحول القاضي بينه وبين غرمائه بعد
خروجه من الحبس، ولهم حق ملازمته.
3ً - إذا ثبت يسار المدين
بالأدلة المعروفة، لم يأمر القاضي فوراً بحبسه، وإنما يأمره بأداء المال
المستحق عليه لصاحبه؛ لأن الحبس جزاء المماطلة، فلا بد من ظهورها، إذا ثبت
الحق بإقراره. أما إن ثبت الحق بالبينة، وامتنع من الوفاء بالدين المستحق،
أو تأخر عن الدفع من غير ضرورة، جاز حبسه شهرين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل
بحسب تقدير القاضي لأحوال الأشخاص.
_________
(1) اللباب شرح الكتاب: 82/ 4، الطرق الحكمية: ص 101 - 106.
(2) أما إذا كان الدين من غير معاوضة كأرش الجناية ونفقة الأقارب، فلا يحبس
المدين بسببه إذا ادعى الإعسار. ولم يجز ابن القيم هذه التفرقة ورفض الحبس
في الحالتين، حتى يثبت موجبه، ويظهر أن هذا الرأي هو الأرجح تحقيقاً
للعدالة.
(8/5966)
ويظل محبوساً أبداً في رأي أبي حنيفة وزفر
حتى يقوم بالوفاء.
وقال الصاحبان وأئمة المذاهب الأخرى: إذا لم يفلح الحبس في دفعه إلى الوفاء
بديونه، يحجر عليه ويباع ماله جبراً، ويقسم بين دائنيه قسمة غرماء. فالحبس
جزاء مؤقت عند هؤلاء ينتهي إما بالإفراج عن المدين إذا ثبت عسره، أو ببيع
ماله جبراً وتسديد ديونه.
ويحبس الرجل في نفقة زوجته لظلمه بامتناعه عن الإنفاق، ولا يحبس والد في
دين ولده؛ لأنه نوع عقوبة، فلا يستحقه الولد على والده، إلا إذا امتنع
والده من الإنفاق عليه، دفعاً لهلاكه، ولئلا تسقط النفقة بمضي الزمان.
وقد رأى الحنفية بالنسبة لإثبات يسار المدين أنه يحبس إلى ظهور عسره في كل
دين لزمه بدلاً عن مال حصل في يده (أي في المعاوضات) كثمن مبيع وبدل
مستأجر، أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة؛ لأن التزامه بالعقد باختياره دليل
يساره.
ولا يحبس المدين فيما سوى ذلك كبدل الخلع، وبدل مغصوب أو شيء متلف ونحوها
إلا أن يثبت غريمه (دائنه) أن له مالاً، فيحبسه حينئذ لظهور المطل.
كيفية الحبس الشرعي (1): إن الحبس
الشرعي في أصله ليس هو الحبس في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص، ومنعه من
التصرف بنفسه، سواءأكان في بيت أم في مسجد، أم كان بتوكل شخص أو وكيله
عليه، وملازمته له.
وحق الملازمة يخول الدائن مراقبة مدينه عن كثب، حتى يتمكن من معرفة الأموال
التي تؤول إلىه تمهيداً للاستيلاء عليها وفاء لدينه.
_________
(1) الطرق الحكمية: ص 102 وما بعدها.
(8/5967)
وكان هذا هو الحبس على عهد النبي صلّى الله
عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولم يكن له محبس معد لحبس الخصوم.
ولكن لما كثر الناس في عهد عمر بن الخطاب ابتاع بمكة داراً وجعلها سجناً
يحبس فيها، فانقسم العلماء فريقين:
قال بعضهم: لا يتخذ الحاكم حبساً؛ إذ لم يكن لرسول الله صلّى الله عليه
وسلم ولا لخليفته بعده حبس، ولكن يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقام عليه
حافظ، أو يأمر غريمه بملازمته، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم.
وقال آخرون وهم الأكثرون كما تبين في التعزير: للحاكم أن يتخذ حبساً؛ إذ أن
عمر بن الخطاب قد اشترى من صفوان بن أمية داراً بأربعة آلاف درهم، جعلها
حبساً.
عزل القاضي وانعزاله:
للقاضي أن يعزل نفسه، لأنه كالوكيل عن الإمام، وللوكيل أن يعزل نفسه عن
الوكالة.
ولا ينعزل القاضي بموت الإمام أو ترك منصبه وولايته بسبب من الأسباب؛ لأن
الإمام يمثل الأمة في تعيين القضاة والموظفين.
وللإمام عزل القاضي إذا أخل بواجبه أو كثرت الشكاوى منه، أو وجد من هو أفضل
منه، أو كان هناك مثله أو دونه وكان في عزله مصلحة للمسلمين. فإ لم يكن شيء
مما سبق حرم عزله؛ لأنه عبث منهي عنه.
ولا ينعزل القاضي قبل بلوغه خبر عزله، لعدم علمه بذلك.
(8/5968)
وينعزل القاضي بنفسه بأحد أسباب ثلاثة:
1 ً - زوال الأهلية: بالجنون أو الإغماء أو العمى أو الخرس أو الصمم، أو
فقدان أهلية الاجتهاد وضبط الأمور بسبب غفلة أو نسيان.
2 ً - الردة: بخروجه عن الإسلام؛ لأنه يصبح كافراً، والله تعالى يقول: {ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4].
3 ً - الفسق: بالإخلال بأحكام الشريعة أمراً ونهياً، وبالآداب العامة؛
لمنافاة ذلك لمنصب الولاية إلا قاضي الضرورة: وهو القاضي الفاسق الذي يعينه
سلطان ذو شوكة.
(8/5969)
...... إقليمية
الشريعة والقضاء في ديار الإسلام ..........................
كلما هبَّت رياح الضعف والوهن على بلد إسلامي أو عربي، أثيرت حوله مشكلات
عديدة تتعلق بأوضاع غير المسلمين من الناحية القانونية أو الاجتماعية أو
السياسية، وتبدأ مظاهر الفتنة بالتساؤل: هل تطبق عليهم أحكام الشريعة
الإسلامية، أو أنهم يخضعون لقوانين خاصة بهم؟ وذلك كما كان عليه الحال في
أواخر عهد السلطة العثمانية، حيث تقرر بمساعي الدول الكبرى ما يسمى بنظام
الامتيازات الأجنبية الذي عانت منه البلاد الشيء الكثير، ويعاصرنا الآن
الوضع المتأزم في السودان بين الشمال والجنوب بمناسبة إقرار القانون
الجنائي لإعفاء الجنوبيين من أحكامه، بل حتى إقليم الخرطوم عاصمة الدولة،
التي يختل فيها الأمن اختلالاً ملحوظاً، وتكثر جرائم النهب والسرقة والقتل
في الفترة التي أوقف فيها تطبيق الحدود الشرعية.
ومثل هذه التساؤلات لا تتردد بالنسبة لغير المواطنين في ربوع الدول القوية
الغربية أو الشرقية، فلا يعترض أحد على تطبيق أحكام قانون عقوبات تلك
الدولة، مهما اشتد وقسا، ومهما تعنَّت الساسة وتغطرسوا، ويظل مبدأ إقليمية
القانون الذي هو جزء من سيادة الدولة هو المحترم والمطبق، ويتصدى قضاء
الدولة الحالي للنظر في أي جريمة وقعت على أرضها أو إقليمها، أو حتى على
وسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية والجوية التابعة لها من طائرات
وسفن، ولو في
(8/5970)
غير إقليم الدولة البري أو البحري أو
الجوي، وتبادر الدولة على الفور إلى طرد دبلوماسي مثلاً لإطلاقه عياراً
نارياً في شارع أو قرب سفارته، وتعلن الدولة صراحة كما حدث في بريطانيا في
الأسبوعين الأخيرين من شهر أيلول (سبتمبر 1988) قائلة لغير الإنجليز: إما
أن تحترموا قوانيننا أو ترحلوا من بلادنا، حفاظاً على الأمن الداخلي والسلم
والاستقرار.
وبالمقارنة بين هذا المثال والوضع في السودان يظهر لنا أن القضية إذن هي
قضية قوة ونفوذ لحماية المبدأ والحق، فإن كانت هناك قوة، كان احترام المبدأ
القانوني هو السائد، وإن كان هناك ضعف انحسر مبدأ القانون، وظهر الاستنكار
والاستهجان في وسائل الإعلام من إذاعة وصحافة، وتجرأ الناقدون لوصف القانون
الجنائي المستمد من شريعة الله تعالى بأنه متسم بالقسوة والشدة، وأنه سبب
التفرقة والتجزئة والانقسام، وفصل جنوب السودان عن شماله!!
والواقع أن مشكلة جنوب السودان سياسية محضة تعتمد على دعم وتأييد خارجي، له
بواعثه وأهدافه ومراميه المفروضة والمشبوهة المعروفة، وليس منشأ المشكلة
قضية تطبيق الشريعة.
ومع كل هذا أودّ بيان مبدأ إقليمية القانون الجنائي والقضاء، وأقارن بين ما
عليه القانون الوضعي في العقوبات، وبين ما قرره فقهاؤنا الشرعيون منذ قرون
كثيرة، لمعرفة أوجه الشبه والاختلاف في هذا الموضوع المهم جداً، ولدحض
ذرائع الذين يريدون التخلص من أحكام شريعة الله تعالى، بقصد إبقاء الجريمة
ترتع وتمرح، ويكون المجرمون في أمان من العقاب الرادع الذي يستأصل الإ جرام
ويقطع دابره.
من المعلوم أن الشريعة الغراء ذات المصدر الإلهي الوحيد الثابت الصحة
(8/5971)
والأصل منذ مجيئها وإلى اليوم والغد، تبغي
الخير والسلامة والعدالة والاستقرار والعيش بسلام في ديارها وفي العالم
أجمع، سواء بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم الذين يعيشون في ديار
الإسلام وأوطانه، وإذا تحقق هذا الهدف، وهو سريع التحقق إذا طبقت أحكام
الشريعة بأصولها وفروعها الصحيحة، وفي ضوء مقاصد التشريع العامة وروحه
النقية الصافية، والتُزمت جميع الأحكام الشرعية، ليس في نطاق العقاب الصارم
وحده، وإنما في مبنى الهيكل السياسي والاجتماعي والاقتصادي الشامل لجميع
المواطنين في ديار الإسلام بحيث يشعر الناس أن مظلة الإسلام رحمة كلها،
وخير كلها، وعدل كلها، ومصلحة كلها. وقد أثبتت التجارب أن العقوبات
والأنظمة الوضعية لم تحقق للناس سعادتهم ولم تكفل أو تضمن لهم الأمن
والسلامة والاستقرار لأموالهم وأنفسهم ومنازلهم وتحركاتهم وتنقلاتهم
وأسفارهم.
ولا فرق في الحاجة إلى تطبيق شريعة الإسلام المدنية والجزائية بين عالم
متمدن متحضر، وعالم بدائي أو متخلف، فالبشر هم البشر، والناس هم الناس،
والكل يعرف أن أكبر نسبة للجرائم في العالم هي في الولايات المتحدة
الأمريكية، وأنه في كل دقيقة أو ثانية تقع جريمة في بريطانيا وأمريكا.
ومبدأ إقليمية قانون العقوبات وغيره في
كل دولة معناه أن القانون يسري حكمه على كل ما يقع في إقليم الدولة من
جرائم مهما كانت جنسية المجرم وصفته. وأساس هذا المبدأ حق الدولة في
السيادة على إقليمها، سواء الإقليم الأرضي، والمائي، والجوي. والإقليم
الأرضي يشمل جميع أجزاء حدود الدولة الجغرافية من مساحة الأرض اليابسة،
والإقليم المائي يمتد إلى ذلك الجزء من البحر العام الملاصق لشواطئ الدولة،
ويتحدد في العرف الدولي عرضه بثلاثة أميال
(8/5972)
بحرية من آخر نقطة ينحسر عنها البحر وقت
الجزر، والإقليم الجوي يضم كل طبقات الجو فوق الإقليمين الأرضي والمائي.
وهذا المبدأ الذي يحكم نطاق التطبيق المكاني للنصوص الجنائية الوضعية وهو
ما يعبر عنه بمبدأ (إقليمية قانون العقوبات) هو المبدأ السائد في عالم
القانون المعاصر، ولكن يرد عليه استثناءان: أحدهما داخلي والآخر خارجي. أما
الاستثناء الداخلي فيقتضي إعفاء بعض الأشخاص من الخضوع لقانون العقوبات في
الدولة، وهم أعضاء البرلمان عما يبدونه من أفكار وآراء في أداء أعمالهم
داخل المجلس أو في لجانه، ورؤساء الدول الأجنبية ورجال السلك السياسي
الأجنبي، وأفراد القوات الحربية الأجنبية الذين يقومون بمهمات أمنية لحفظ
السلام بترخيص من الدولة، وذلك عملاً بالعرف الدولي باعتبار أن هؤلاء تتصل
أوضاعهم بسيادة الدولة التي ينتمون إليها.
وأما الاستثناء الخارجي فيعني تطبيق قانون عقوبات الدولة خارج إقليمها على
جرائم تمس مصلحة أساسية لها، وهي الجرائم المخلة بأمن الدولة، وجرائم تزييف
النقود الوطنية، وجرائم تزوير أختام الدولة.
ولقد أجمع فقهاء الإسلام على وجوب تطبيق الشريعة في دار الإسلام على
المسلمين وغيرهم، كما هو السائد في نظريات القوانين الوضعية، ومنها
القوانين العربية، مع المخالفة أحياناً في بعض الحالات، فإن فقهاءنا
اختلفوا فيما بينهم في مدى تطبيق الشريعة على المستأمن: وهو من دخل دارنا
بأمان مؤقت، وذلك مثل الأجانب الذين يدخلون أراضي دولة أخرى بتأشيرة دخول
من الدولة نفسها أو من سفاراتها أو قنصلياتها المعتمدة في خارج الدولة، كما
اختلفوا أيضاً في مدى تطبيق الشريعة على جرائم مواطني الدولة الواقعة أو
التي ترتكب خارج أرض الدولة.
(8/5973)
وتطبق أحكام الشريعة على المسلمين وغيرهم
في ديار الإسلام في المعاملات المدنية والعقوبات الجنائية، سواء أكانت
حدوداً شرعية (عقوبات مقدرة) أم تعازير (عقوبات غير مقدرة متروك أو مفوض
تقديرها إلى ولي الأمر الحاكم).
ومبدأ إقليمية القضاء تابع لإقليمية
الشريعة، ويجب على القاضي المسلم أن يحكم في النزاع في حقوق الآدميين من
ديون ومعاملات في رأي الحنفية والشافعي في القول الصحيح، لقول الله تعالى
مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: {وأن احكُمْ بينَهم بما أنزلَ الله، ولا
تتَّبعْ أهواءَهم، واحذرْهم أن يفتنوك عن بعضِ ما أنزلَ الله ُ إليكَ، فإن
تولَّوْا فاعلمْ أنما يريدُ الله أن يُصيبَهم ببعضِ ذنوبهم، وإن كثيراً من
الناسِ لفاسقون. أفحُكْمَ الجاهلية يبغون، ومَنْ أحسنُ من الله حُكماً
لقومٍ يُوقنون} [المائدة:49/ 5]. وهذا يشمل المسلمين وغيرهم في دار
الإسلام.
وذهب فقهاء آخرون (مالك والشافعي في القول الآخر وأحمد) إلى أنه يخير
القاضي المسلم بين الحكم والإعراض عن الحكم بين غير المسلمين في المعاملات،
لقوله تعالى: {فإنْ جاءوك فاحكمْ بينهم أو أعرضْ عنهم} [المائدة:42/ 5].
والظاهر هو الرأي الأول، لأن هذه الآية منسوخة بالآية المتقدمة: {وأن احكم
بينهم} [المائدة:49/ 5] ولأننا التزمنا بمنع الظلم عن المستوطنين غير
المسلمين في ديارنا، ويلزم الدولة استئصال دابر الإجرام والفساد في داخل
أراضيها لحفظ الأموال والدماء، ويجب منح غير المسلمين حق التقاضي عموماً
إلى محاكمنا، وهذا يتفق مع ما قررته اتفاقية جنيف عام (1949م) في المادة
(42) من منح الرعايا الأجانب حق التقاضي، سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم،
بعد أن كان هذا الحق مسلوباً منهم فترة طويلة من الزمن.
ويتقوى الرأي الأول بقول الإمام علي رضي الله عنه: «وإنما بذلوا الجزية ـ
(8/5974)
ضريبة الأشخاص كضرائب الدخل الحالية ـ
لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا». وروى أبو داود والبيهقي عن رسول
الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلّفه
فوق طاقته، أو أخذ شيئاً بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة».
أما الخلاف الفقهي في المستأمن فينحصر
في رأيين: رأي أبي حنيفة ومحمد، ورأي الجمهور، أما أبو حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى: فيريان أن المستأمن الذي يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام لا
تطبق عليه العقوبات الشرعية إذا ارتكب جريمة متعلقة بحق الله تعالى، كشرب
الخمر والزنى والسرقة، ولا تقام عليه الحدود؛ لأن المستأمن التزم بما فيه
حقوق العباد، ولأن العقاب الديني لا ولاية كاملة فيه للحاكم المسلم على
المستأمن، لتوقيت مدة إقامته في ديارنا. أما مسؤوليته مدنياً وجنائياً فيما
يمس حقوق الأشخاص، كالقصاص والقذف والغصب والتبديد، فهو كبقية المسلمين
وغير المسلمين المقيمين إقامة دائمة في بلاد الإسلام (الذميين المعاهدين)
لما في ذلك من صلاح الجماعة، وزجر الجاني، وعهد الذمة القديم ما يزال ساري
المفعول على غير المسلمين الحاليين المقيمين في البلاد الإسلامية.
وأما الجمهور ومنهم أبو يوسف والشيعة الإمامية والزيدية: فيرون أن المستأمن
كالذمي تطبق عليه أحكام الشريعة، ويخضع لجميع أحكام المعاملات المدنية
والجرائم المخلة بالأمن والنظام، ويعاقب على جرائمه التي تمس حق الشخص
كالقصاص، والسرقة في رأيهم، والقذف وإتلاف الأموال، وكذا جرائمه التي تتعلق
بحق الله تعالى كشرب الخمر والزنى، لما في ذلك من ممارسة حق السيادة
للدولة، وللمحافظة على نقاوة المجتمع وسلامته وأمنه، ولأن المستأمن في دار
الإسلام التزم بتطبيق أحكام الإسلام عليه بموجب العهد أو
(8/5975)
الأمان، كما أن أحكام الشريعة في المعاملات
المالية من بيوع وعقود وتعامل بالربا تطبق عليه باتفاق الفقهاء.
وقد اتخذت نظرية أبي حنيفة ومحمد ذريعة لإعفاء الأجانب من الخضوع لأحكام
الشريعة مما سبَّب منح المستأمنين في عهد سليمان القانوني السلطان العثماني
ما يسمى بالامتيازات الأجنبية التي قاست منها البلاد الإسلامية كثيراً،
فكانت سبباً لاستغلال المسلمين، وتضييع حقوقهم، واستعلاء الأجانب عليهم،
والحد من سلطة الدولة وسيادتها، والإعفاء من الاختصاص التشريعي والقضائي،
ومن الأعباء المالية والخدمة العسكرية.
وينبني على رأي الجمهور أن الحصانة القضائية
التي يترتب عليها في العرف الدولي الحديث عدم خضوع رجال السلك الدبلوماسي
للولاية القضائية للدولة الموفد إليها، سواء في المسائل المدنية أو
الجنائية أو الإدارية، هذه الحصانة غير مقررة لدى جماهير فقهائنا،
فالمستأمن والسفير والقنصل ورئيس الدولة الأجنبية وغيرهم من ذوي
الاستثناءات المتقدمة يسأل كل منهم مدنياً وجنائياً عما يرتكبه من أعمال
مخالفة في بلاد الإسلام؛ لأن دفع الفساد واجب ملزم لكل من يقيم بين
المسلمين، ولو مؤقتاً، والمجرم لا يستحق الحماية ولا يصلح لأداء وظيفته.
وأما الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد فيريان أيضاً مسؤولية المستأمن مدنياً
وجنائياً، لكنه معفى فقط كما تقدم من المسؤولية الجنائية التي تتعلق بالحق
العام (حق الله تعالى) الذي تمارسه الدولة وترعاه، كشرب الخمر والزنى.
ويرى أستاذنا المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة: أن العقوبات التعزيرية التي لم
يرد في عقوبتها نص من كتاب أو سنة، أي غير الحدود الشرعية، يعفى منها
الممثلون السياسيون مجاراة للعرف الدولي الحاضر، ومراعاة لمبدأ المعاملة
بالمثل؛ لأن تقديرهذه العقوبات من حق ولي الأمر، وله الإعفاء منها لمصلحة
عامة.
(8/5976)
والعرف أو القانون الدولي، وإن كان لا يخضع
الممثل السياسي لولاية القضاء الإقليمي خشية التحامل عليه وإهدار حصانته،
فإنه أجاز للدولة الموفد إليها تبليغ الأمر إلى الدولة الموفدة لمحاكمته،
كما أن لها أن تعتبره شخصاً غير مرغوب فيه، وتطلب استدعاءه، بل لها في
الجرائم الخطيرة أن تطرده، ولها أن تقبض عليه إذا كان ذلك ضرورياً للمحافظة
على سلامتها، كما لها أن تطلب رفع الحصانة الدبلوسية عنه من دولته لتحاكمه
هي بسبب ارتكابه جريمة في أرضها. أما القناصل فيجوز خضوعهم للقضاء
الإقليمي. وهكذا يقترب العرف الدولي الحاضر من الحكم المقرر في الشريعة لدى
فقهائنا.
وأما الخلاف الفقهي حول تطبيق أحكام الشريعة
على رعايا دار الإسلام إذا ارتكبوا جرائم في خارج تلك الدار، فيتمثل
في رأيين أيضاً: مذهب الحنفية، ومذهب الجمهور. أما الحنفية: فيرون أن أحكام
الشريعة العقابية لا تطبق على الجرائم التي يقترفها المسلم أو الذمي في دار
الحرب، لعدم ولاية الإمام في إقامة الحدود وغيرها على جزء من أجزاء الدار
أو البلاد غير الإسلامية، ولأن وجوب إقامة الحد مشروط بالقدرة على الإقامة
أو التطبيق، ولا قدرة للإمام على من يرتكب جريمة في دار الحرب أثناء
ارتكابها، وإذا لم تتوافر القدرة لم تجب العقوبة.
إلا أن أبا يوسف خالف أستاذه أبا حنيفة في أمرين:
الأول ـ أن التعاقد على الربا حرام في جميع البلاد، في دار الإسلام وغيرها؛
لأن الربا حرام في ذاته في أي مكان من العالم.
والثاني ـ أن الأسير المسلم إذا قتله مسلم أو ذمي في دار الحرب، فعليه
الدية، لأنه إذا تعذر القصاص لعدم ولاية الإمام المسلم على تلك الدار، فتجب
الدية؛ لأن الأسر لا يفقد عصمة المسلم، ولأنه (لا يُطَل دم في الإسلام) أي
لا يهدر، فإذا امتنع القصاص، أمكن إيجاب الدية.
(8/5977)
وأما الجمهور (مالك والشافعي وأحمد): فيرون
أن الشريعة تطبق على كل جريمة في أي مكان ارتكبت، سواء في حدود البلاد
الإسلامية أو خارجها، وسواء أكان الجاني مسلماً أم ذمياً أم مستأمناً؛ لأن
المسلم ملزم بأحكام الشريعة في أي مكان، والذمي والمستأمن ملزمان بتلك
الأحكام الشرعية بمقتضى العهد والأمان. وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه
وسلم بعقوبة سكران يوم حنين في بلاد المشركين، وروى أبو داود في المراسيل
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«وأقيموا الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله
لومة لائم».
وهذا الحكم شامل في رأي الجمهور كل حرام كالتعامل بالربا وغيره من المحرمات
كالقمار والرشوة، وما أروع كلمة الإمام الشافعي في ذلك، حيث قال في كتابه
الأم (165/ 4): «ومما يوافق التنزيل والسنة، ويعقله المسلمون، ويجتمعون
عليه: أن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في دار
الإسلام حرام في بلاد الكفر، فمن أصاب حراماً، فقد حده الله على ما شاء
منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً». وهذا واضح في أن الدار أو المكان لا
تغير صفة التحريم للأفعال، فلا تمنع العقوبة المقررة جزاء على ارتكاب الفعل
الحرام.
وهذه النظرية ـ نظرية الجمهور - هي السائدة اليوم في القوانين الوضعية، إلا
أن الفرق بينهما أن القانونيين يجيزون للدولة تطبيق العقاب على ما ترى فيه
مصلحة بسبب ارتكاب الجرائم التي تقع في خارج أراضيها، وتطبق العقوبة
الصارمة على الجرائم التي تمس مصلحة أساسية لها، وهي ما سبق بيانه من جرائم
أمن الدولة، وتزييف العملة، وتزوير أختام الدولة الرسمية.
أما الشرعيون فيوجبون تطبيق عقوبات الحدود دون إعفاء، ويجيزون لولي الأمر
في التعزيرات إعفاء ما ترى فيه مصلحة في ذلك.
(8/5978)
والخلاصة: إن المبدأ الأساسي في الحكم
الإسلامي في ديار الإسلام على المسلمين والذميين والمستأمنين هو مبدأ
إقليمية القوانين، مع بعض استثناءات كحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية
العقيدة، وكذلك اختصاص القضاء اختصاص إقليمي، ومبدأ الإقليمية التشريعي
والقضائي هو الذي تسير عليه القوانين الوضعية في العصر الحديث.
(8/5979)
|