الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

البَابُ الثَّاني: انحلال الزَّواج وآثاره فيه أربعة فصول:
الأول ـ في الطلاق.
الثاني ـ في الخلع.
الثالث ـ في التفريق القضائي.
الرابع ـ في العِدَّة والاستبراء.

(9/6861)


الفَصْلُ الأوَّل: الطَّلاق ويشتمل على تمهيد وستة مباحث وملحق:
الأول ـ معنى الطلاق ومشروعيته وحكمه وركنه وحكمته وسبب جعله بيد الرجل.
الثاني ـ شروط الطلاق، أو مالك الطلاق وقدره ومحله (من يقع عليه) وما يقع به (صيغته).
الثالث ـ قيود إيقاع الطلاق شرعاً.
الرابع ـ التوكيل في الطلاق وتفويضه.
الخامس ـ أنواع الطلاق وحكم كل نوع.
السادس ـ الشك في الطلاق وإثباته.
ملحق ـ عن زواج التحليل والرجعة.

تمهيد ـ في معنى انحلال الزواج وأنواع الفُرَق الزوجية:
انحلال الزواج: هو إنهاؤه باختيار الزوج، أو بحكم القاضي، والفُرْقة لغة بمعنى الافتراق، وجمعها فرق، واصطلاحاً: هي انحلال رابطة الزواج، وانقطاع العلاقة بين الزوجين بسبب من الأسباب.

(9/6863)


والفرقة نوعان: فرقة فسخ وفرقة طلاق. والفسخ إما أن يكون بتراضي الزوجين وهو المخالعة، أو بواسطة القاضي.
وذكر المالكية (1) أن الفراق بين الزوجين يقع على خمسة عشر وجهاً: وهي الطلاق على اختلاف أنواعه، والإيلاء إن لم يفئ الزوج عن يمينه، واللعان، والردة، وملك أحد الزوجين الآخر، والإضرار بالزوجة، وتفريق الحَكَمين بين الزوجين، واختلاف الزوجين في الصداق قبل الدخول، وحدوث الجنون أو الجذام أو البرص في الزوج، ووجود العيوب في أحد الزوجين، والإعسار بالنفقة، أو الصداق، والتغرير، والفقد، وعتق الأمة زوجة العبد، وتزوج أمة على الحرة.

الفرق بين الفسخ والطلاق:
يفترق الفسخ عن الطلاق من ثلاثة أوجه:
الأول ـ حقيقة كل منهما: الفسخ: نقض للعقد من أساسه وإزالة للحل الذي يترتب عليه، أما الطلاق: فهو إنهاء للعقد ولا يزول الحل إلا بعد البينونة الكبرى (الطلاق الثلاث).
الثاني ـ أسباب كل منهما: الفسخ يكون إما بسبب حالات طارئة على العقد تنافي الزواج، أو حالات مقارنة للعقد تقتضي عدم لزومه من الأصل. فمن أمثلة الحالات الطارئة: ردة الزوجة أو إباؤها الإسلام، أو الاتصال الجنسي بين الزوج وأم زوجته أو بنتها، أو بين الزوجة وأبي زوجها أو ابنه مما يحرم المصاهرة، وذلك ينافي الزواج، ومن أمثلة الحالات المقارنة: أحوال خيار البلوغ لأحد الزوجين،
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 227.

(9/6864)


وخيار أولياء المرأة التي تزوجت من غير كفء أو بأقل من مهر المثل عند الحنفية، ففيها كان العقد غير لازم.
أما الطلاق: فلا يكون إلا بناء على عقد صحيح لازم، وهو من حقوق الزوج، فليس فيه ما يتنافى مع عقد الزواج أو يكون بسبب عدم لزومه.
الثالث ـ أثر كل منهما: الفسخ لا ينقص عدد الطلقات التي يملكها الرجل، أما الطلاق فينقص به عدد الطلقات.
وكذلك فرقة الفسخ لا يقع في عدتها طلاق، إلا إذا كانت بسبب الردة أو الإباء عن الإسلام، فيقع فيهما عند الحنفية طلاق زجراً وعقوبة. أما عدة الطلاق فيقع فيها طلاق آخر، ويستمر فيها كثير من أحكام الزواج. ثم إن الفسخ قبل الدخول لا يوجب للمرأة شيئاً من المهر، أما الطلاق قبل الدخول فيوجب نصف المهر المسمى، فإن لم يكن المهر مسمى استحقت المتعة.

متى تكون الفرقة فسخاً ومتى تكون طلاقاً؟ للفقهاء آراء في بيان أحوال الفسخ وأحوال الطلاق.
يرى الحنفية (1): أن الفرقة تكون فسخاً فيما يأتي:
1ً - تفريق القاضي بين الزوجين بسبب إباء الزوجة الإسلام بعدما أسلم زوجها المشرك أو المجوسي؛ لأن المشركة لا تصلح لنكاح المسلم، والفرقة جاءت من قبلها، والفرقة من قبل المرأة لا تصلح طلاقاً؛ لأنها لا تتولى الطلاق، فيجعل فسخاً.
_________
(1) فتح القدير: 21/ 3، البدائع: 336/ 2 - 340، رد المحتار لابن عابدين: 571/ 2.

(9/6865)


أما إن كان الإباء من الزوج، فتكون الفرقة طلاقاً في قول أبي حنيفة ومحمد، وفسخاً في قول أبي يوسف.
2ً - ردة أحد الزوجين.
3ً - تباين الدارين حقيقة وحكماً: بأن خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام مسلماً أو ذمياً، وترك الآخر كافراً في دار الحرب قياساً على الردة لعدم التمكين من الانتفاع عادة. أما إن خرج أحدهما مستأمناً وبقي الآخر كافراً في دار الحرب فلا تقع الفرقة. وقال غير الحنفية: لا تقع الفرقة باختلاف الدارين.
4ً - خيار بلوغ الصغير أو الصغيرة. هذه الفرقة لا تقع إلا بتفريق القاضي. فإن كانت الفرقة بسبب اختيار المرأة نفسها لعيب الجب والعنة والخصاء والخنوثة، فهي فرقة بطلاق من طريق القاضي.
5ً - خيار العتق: بأن تعتق الأمة ويبقى زوجها عبداً، فلها الخيار بالبقاء أو إنهاء الزواج، وتثبت الفرقة بنفس الاختيار؛ لأن الفرقة وقعت بسبب وجد منها وهو اختيارها نفسها، واختيارها نفسها لا يجوز أن يكون طلاقاً؛ لأنها لا تملك الطلاق، إلا إذا مُلِّكت كالمخيَّرة.
6ً - التفريق لعدم الكفاءة أو لنقصان المهر: تكون الفرقة فسخاً؛ لأنها فرقة حصلت لا من جهة الزوج، فلا يمكن أن يجعل ذلك طلاقاً؛ لأنه ليس لغير الزوج ولاية الطلاق، فيجعل فسخاً، ولا تكون هذه الفرقة إلا عند القاضي كالفسخ بخيار البلوغ.
وما عداها من أنواع الفرق التي تكون من قبل الزوج أو بسبب منه يكون طلاقاً، ومنه المخالعة.

(9/6866)


وعليه فإن ضابط ما يتميز به الفسخ عن الطلاق عند أبي حنيفة ومحمد: هو أن كل فرقة بسبب من جانب المرأة تكون فسخاً، وكل فرقة من جانب الرجل أو بسبب منه مختص بالزواج فهي طلاق، إلا أن أبا حنيفة خلافاً لمحمد يعتبر الفرقة بسبب ردة الزوج فسخاً؛ لأنه يرى أن الردة كالموت من حيث إن صاحبها مهدر الدم، فتشبه الفرقة بالموت، والفرقة بالموت لا يمكن جعلها طلاقاً. وبه يظهر أن الغالب كون الفرقة طلاقاً.

وقال المالكية (1): إما أن تكون الفرقة من زواج صحيح أو زواج فاسد.
أولاً ـ إن كات الفرقة من زواج صحيح: فإنها تكون طلاقاً إلا إذا كانت بسبب أمر طارئ يوجب التحريم المؤبد، سواء من أحد الزوجين أو من القاضي.
ثانياً ـ وإن كانت الفرقة من زواج فاسد:
فإن كان مجمعاً على فساده: فإن الفرقة فيه تكون فسخاً، لا طلاقاً، كالفرقة من زواج المتعة، والزواج بإحدى المحارم، والزواج بالمعتدة، ونحوها.
وإن كان مختلفاً في فساده: وهو ما يكون فاسداً عند المالكية صحيحاً عند غيرهم، كزواج المرأة بدون ولي فهو فاسد عندهم صحيح عند الحنفية، فإن الفرقة فيه تكون طلاقاً لا فسخاً. ومنه زواج السر (وهو الذي يوصي الزوج الشهود بكتمان العقد عن الناس أو عن بعضهم) فهو فاسد عندهم صحيح عند باقي الأئمة.
وعلى هذا تكون الفرقة فسخاً فيما يأتي:
_________
(1) بداية المجتهد: 70/ 2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 364/ 2.

(9/6867)


1 - إذا وقع العقد غير صحيح، كالزواج بالأخت أو إحدى المحارم، والزواج بزوجة الغير أو معتدته.
2 - إذا طرأ على الزواج ما يوجب الحرمة المؤبدة كالاتصال الجنسي بشبهة من أحد الزوجين بأصول الآخر أو فروعه، مما يوجب حرمة المصاهرة.
3 - الفرقة بسبب اللعان: لأنه تترتب عليه الحرمة المؤبدة، لحديث «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» (1).
4 - الفرقة بسبب إباء الزوج الإسلام بعد أن أسلمت زوجته، أو إباء الزوجة غير الكتابية الإسلام بعد إسلام زوجها؛ لأن ذلك في معنى طروء مفسد على الزواج.
وتكون الفرقة طلاقاً فيما يأتي:
1ً - إذا استعمل لفظ الطلاق في الزواج الصحيح، أوالمختلف في فساده.
2ً - إذا حدثت الفرقة بالخلع في الزواج أوالمختلف في فساده.
3ً - الفرقة بسبب الإيلاء: وهو أن يحلف الزوج ألا يقرب زوجته أكثر من أربعة أشهر. فإن لم يعد عن يمينه بعد أمر القاضي له عقب ادعاء الزوجة فرّق بينهما، وكانت الفرقة طلاقاً.
4ً - الفرقة لعدم كفاءة الزوج، سواء أكانت من الزوجة أم من وليها.
5ً - الفرقة لعدم الإنفاق أو للغيبة، أو للضرر وسوء العشرة.
6ً - الفرقة بسبب ردة أحد الزوجين عن الإسلام: فإنها طلاق في مشهور
_________
(1) رواه الدارقطني عن ابن عباس، وفي معناه أحاديث كثيرة (نيل الأوطار: 271/ 6).

(9/6868)


المذهب؛ لأنها فرقة بسبب أمر طارئ يوجب التحريم غير المؤبد الذي ينتهي بالرجوع عن الإسلام. وبه يظهر أن أغلب الفُرق تكون طلاقاً.

ومذهب الشافعية (1): هو أن فرقة النكاح طلاق وفسخ:
والطلاق أنواع: الطلاق المعهود صراحة أو كناية، والخلع، وفرقة الإيلاء، والحَكَمين. والفسخ أنواع سبعة عشر: فرقة إعسار مهر، وإعسار نفقة أو كسوة أو مسكن بعد إمهال الزوج ثلاثة أيام، وفرقة لعان، وفرقة خيار عَتيقة (2)، وفرقة عيوب (3) بعد رفع الأمر إلى الحاكم، وثبوت العيب، والفسخ به فوري إلا العُنَّة فتؤجل سنة من يوم ثبوتها، وفرقة غرور (4)، ووطء شبهة كوطء أم زوجته أو ابنتها، وسبْي للزوجين أو أحدهما قبل الدخول أو بعده؛ لأن الرق إذا حدث أزال الملك عن النفس، فيكون عن العصمة أولى، وفرقة إسلام أحد الزوجين، أو ردته، وإسلام الزوج على أختين أو أكثر من أربع، أو أمتين، وملك أحد الزوجين الآخر، وعدم الكفاءة بأن أطلقت المرأة الإذن فبان الرجل غير كفء، وانتقال من دين إلى آخر كالانتقال من اليهودية إلى النصرانية، وفرقة رضاع بشرط كونه خمس رضعات متفرقات قبل مضي حولين.
_________
(1) تحفة الطلاب: ص 236، حاشية الشرقاوي: 294/ 2 - 296.
(2) خيار العتيقة: هو أن تعتق الأمة زوجة الرقيق، فيثبت لها الخيار فوراً بدون رفع الأمر إلى الحاكم إلا إذا كان عتقها قبل الوطء في مرض الموت، وكان ثلث ماله لايتحمل سقوط المهر مع قيمتها.
(3) العيوب المثبتة للخيار في الزواج: هي جنون وجذام وبرص بأحد الزوجين، ورتق وقرن بالزوجة، وجب وعنة بالزوج.
(4) من الأنكحة المكروهة: نكاح المغرور بحرية امرأة أو نسبها أو إسلامها وهو يجيز الفسخ والرجوع بالغرامة على من غرّه لا بالمهر؛ لأنه الموقع له في الغرامة، فلو شرط رجل حرية امرأة في العقد، فبان رقمها، وهو ممن لا يحل له نكاح الأمة فهو باطل، وإلا فصحيح، وللحر الخيار. وإن بان نسب المرأة دون المشروط صح، وإن بان دون نسبه فللرجل الخيار (تحفة الطلاب: ص 220).

(9/6869)


وقال الحنابلة (1): يكون الفسخ في حالات، منها ما يأتي:
1 - الخلع إذا كان بغير لفظ الطلاق، أو بغير نيةا لطلاق.
2 - ردة أحد الزوجين.
3 - الفرقة لعيب مشترك وهو الجنون والصرع، أو مختص بالمرأة كالرتق والقرن والبخر والقروح السيالة، وانخراق ما بين السبيلين، أو مختص بالرجل كالجب والعنة. ولا يفسخ الزواج إلا حاكم.
4 - إسلام أحد الزوجين.
5 - الفرقة بسبب الإيلاء بواسطة القاضي، إن انقضت المدة وهي أربعة أشهر، ولم يطأ الزوج زوجته، ولم يطلق بعد أن يأمره الحاكم بالطلاق.
6 - الفرقة بسبب اللعان: لأن اللعان يوجب التحريم بين الزوجين على التأبيد، ولو لم يحكم به القاضي.
وأما الفرقة بسبب الطلاق: فهي ما كانت بألفاظ الطلاق صريحاً أو كناية.

الفُرَق التي تتوقف على القضاء والتي لا تتوقف على القضاء:
قد تحتاج الفرقة سواء أكانت طلاقاً أم فسخاً إلى قضاء القاضي، وقد لا تحتاج، ويظهر أثر التوقف على القضاء وعدمه في بعض الأحكام، كالإرث، فإن وجد سبب الفرقة، ثم مات أحد الزوجين قبل صدور حكم قضائي، فإن احتاجت الفرقة إلى القضاء، فإن الآخر يرثه، وإن لم تحتج إلى قضاء فلا يرثه الآخر، لانتهاء الزوجية بمجرد وجود سبب الفرقة.
_________
(1) المغني: 56/ 7 ومابعدها، غاية المنتهى: 46/ 3، 56 ومابعدها، 103.

(9/6870)


أما الفُرَق التي تتوقف على القضاء فهي نوعان: فرق الطلاق وفرق الفسخ.

وفرق الطلاق المتوقفة على القضاء هي عند الحنفية ما يأتي:
1ً - الفرقة بسبب اللعان. وقال المالكية في المشهور: لا تتوقف هذه الفرقة على القضاء.
2ً - الفرقة بسبب عيوب الزوج وهي الجب والعنة والخصاء، ويفسخ العقد عند الجمهور بسبب هذه العيوب أو عيب الرتق والقرن ونحوهما في الزوجة، بعد رفع الأمر للحاكم.
3ً - الفرقة بسبب إباء الزوج الإسلام في رأي أبي حنيفة ومحمد. وزيد في مصر وسورية التفريق لغيبة الزوج أو حبسه، ولعدم الإنفاق على زوجته، وللشقاق بين الزوجين أو الإضرار بالزوجة.

وفُرَق الطلاق غير المتوقفة على القضاء هي:
1 - الفرقة بلفظ الطلاق، ومنه تفويض أمر الطلاق إلى الزوجة بالاتفاق.
2 - الفرقة بسبب الإيلاء عند الحنفية والمالكية.
3 - الفرقة بالخلع عند الجمهور غير الحنابلة.

وأما فرق الفسخ المتوقفة على القضاء فهي:
1 - الفرقة بسبب عدم الكفاءة.
2 - الفرقة بسبب نقصان المهر عن مهر المثل.
3 - الفرقة بسبب إباء أحد الزوجين الإسلام إذا أسلم الآخر، لكن الفرقة بسبب إباء الزوجة متفق عليه، وبسبب إباء الزوج متفق عليه في غير رأي أبي حنيفة ومحمد. وأما في رأي أبي يوسف فهي فسخ.

(9/6871)


4 - الفرقة بسبب خيار البلوغ لأحد الزوجين عند الحنفية إذا زوَّجهما في الصغر غير الأب والجد.
5 - الفرقة بسبب خيار الإفاقة من الجنون عند الحنفية إذا زوَّج أحد الزوجين في الصغر غير الأب والجد والابن.

وأما فُرَق الفسخ غير المتوقفة على القضاء فهي:
1 - الفسخ بسبب فساد العقد في أصله كالزواج بغير شهود، والزواج بالأخت.
2 - الفسخ بسبب اتصال أحد الزوجين بأصول الآخر أوفروعه اتصالاً يوجب حرمة المصاهرة.
3 - الفسخ بسبب ردة الزوج في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن ارتد الزوجان فلا يفرق بينهما بمجرد الردة في الراجح عند الحنفية.
4 - الفسخ بسبب خيار العتق للزوجة.
5 - الفسخ بسبب ملك أحد الزوجين للآخر.
هذا ويلاحظ أمران:
الأول ـ أن الفرقة بسبب الاتصال الذي يوجب حرمة المصاهرة توجب حرمة مؤبدة، والفرقة بسبب خيار البلوغ أو الردة أو الإباء عن الإسلام أو ملك أحد الزوجين الآخر توجب حرمة مؤقتة. وأما فرقة اللعان فتوجب حرمة مؤبدة عند الحنابلة وأبي يوسف والشافعية والمالكية، وتوجب حرمة مؤقتة عند أبي حنيفة ومحمد إذا خرج أحد الزوجين عن أهلية اللعان، أو كذب الرجل نفسه فيما قذف به المرأة.

(9/6872)


الثاني ـ كل فرقة من جهة الزوجة تسقط المهر عند الحنفية إلا إذا تأكد العقد بالدخول أو الخلوة، فإن كانت الفرقة من الزوج أو بسببه، فلا تسقط شيئاً للزوجة حالة الدخول وعدمه.

المبحث الأول ـ معنى الطلاق ومشروعيته، وحكمه، وركنه، وحكمته، وسبب جعله بيد الرجل:
معنى الطلاق: الطلاق لغة، حل القيد والإطلاق، ومنه ناقة طالق، أي مرسلة بلا قيد، وأسير مطلق، أي حل قيده وخلي عنه، لكن العرف خص الطلاق بحل القيد المعنوي، وهو في المرأة، والإطلاق في حل القيد الحسي في غير المرأة.
وشرعاً: حل قيد النكاح، أو حل عقْد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه. أو رفع قيد النكاح في الحال أو المآل بلفظ مخصوص (1). فحل رابطة الزواج في الحال يكون بالطلاق البائن، وفي المآل أي بعد العدة يكون بالطلاق الرجعي. واللفظ المخصوص: هو الصريح كلفظ الطلاق، والكناية كلفظ البائن والحرام والإطلاق ونحوها. ويقوم مقام اللفظ: الكتابة والإشارة المفهمة، ويلحق بلفظ الطلاق لفظ «الخلع» وقول القاضي: «فرقت» في التفريق للغيبة أو الحبس، أو لعدم الإنفاق أو لسوء العشرة. وقد أخرج باللفظ المخصوص: الفسخ، فإنه يحل رابطة الزواج في الحال، لكن بغير لفظ الطلاق ونحوه، والفسخ كخيار البلوغ، وعدم الكفاءة، ونقصان المهر، والردة.
ولا يصح الرجوع في الطلاق أو العدول عنه كسائر الأيمان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا قيلولة في الطلاق» (2).
_________
(1) الدر المختار: 570/ 2، مغني المحتاج: 279/ 3، المغني: 66/ 7، كشاف القناع: 261/ 5.
(2) أخرجه العقيلي من حديث صفوان بن عمران الطائي (نيل الأوطار: 238/ 6).

(9/6873)


مشروعيته: الطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] وقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلَّقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطَّلاق:1/ 65].
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «أبغض الحلال إلى الله: الطلاق» (2). وقال عمر: «طلق النبي صلّى الله عليه وسلم حفصة، ثم راجعها» (3).
وأجمع الناس على جواز الطلاق، والمعقول يؤيده، فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء الزواج مفسدة محضة، وضرراً مجرداً، بإلزام الزوج والنفقة والسكنى، وحبس المرأة مع سوء العشرة، والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل الزواج، لتزول المفسدة الحاصلة منه.

حكمة تشريع الطلاق: تظهر حكمة تشريع الطلاق من المعقول السابق، وهو الحاجة إلى الخلاص من تباين الأخلاق، وطروء البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى، فكان تشريعه رحمة منه سبحانه وتعالى (4). أي أن الطلاق علاج حاسم، وحل نهائي أخيراً لما استعصى حله على الزوجين وأهل الخير والحكمين، بسبب تباين الأخلاق، وتنافر الطباع، وتعقد مسيرة الحياة المشتركة بين
_________
(1) رواه ابن ماجه والدارقطني عن ابن عباس (نيل الأوطار: 238/ 6).
(2) رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح، والحاكم وصححه، عن ابن عمر (المرجع السابق: ص 220).
(3) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمر رضي الله عنه، وهو لأحمد من حديث عاصم بن عمر (المرجع السابق: ص 219).
(4) فتح القدير: 21/ 3.

(9/6874)


الزوجين، أو بسبب الإصابة بمرض لا يحتمل، أو عُقْم لا علاج له، مما يؤدي إلى ذهاب المحبة والمودة، وتوليد الكراهية والبغضاء، فيكون الطلاق منفذاً متعيناً للخلاص من المفاسد والشرور الحادثة.
الطلاق إذن ضرورة لحل مشكلات الأسرة، ومشروع للحاجة ويكره عند عدم الحاجة، للحديث السابق: «ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق» وحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» (1). ومن أسبابه المبيحة له طاعة الوالدين فيه، قال ابن عمر: «كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلِّقها فأبيتُ، فذُكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا عبد الله بن عمر: طلِّق امرأتك» (2) وصرح الحنابلة (3): أنه لا يجب على الرجل طاعة أبويه ولو عدلين في طلاق أو منع من تزويج.
وما قد يترتب على الطلاق من أضرار، وبخاصة الأولاد، يحتمل في سبيل دفع ضرر أشد وأكبر، عملاً بالقاعدة: «يختار أهون الشرين».
لكن رغب الشرع الأزواج في الصبر وتحمل خلق الزوجة، فقال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن، فعسى أن تكرهوا شيئاً، ويجعل الله فيه خيراً كثيرا} [النساء:19/ 4] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يفرَكْ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلُقاً، رضي منها آخر» (4).
وشرع الشرع طرقاً ودية لحل ما يثور من نزاع بين الزوجين، من وعظ
_________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي عن ثوبان (المرجع السابق: ص 220).
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي، وصححه الترمذي (المرجع السابق: ص 220).
(3) غاية المنتهى: 112/ 3.
(4) رواه مسلم عن أبي هريرة.

(9/6875)


وإرشاد، وهجر في المضجع وإعراض، وضرب، وإرسال حكمين من قبل القاضي إذا عجز الزوجان عن الإصلاح وإزالة الشقاق الذي بينها، وقد بينت ذلك في بحث حقوق الزوجين، وهي كلها مأخوذة من آيات ثلاث هي: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً، والصلح خير، وأحضرت الأنفس الشح، وإن تحسنوا وتتقوا، فإن الله كان بما تعملون خبيراً} [النساء:128/ 4] {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، إن الله كان عليماً خبيراً} [النساء:35/ 4] {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، إن الله كان علياً كبيراً} [النساء:34/ 4].ولا يلجأ إلى الطلاق لأول وهلة ولأهون الأسباب، كما يفعل بعض الجهلة الذين يقدمون عليه لطيش بيِّن، أو حماقة، أو غضب موقوت، أو شهوة جارفة أو هوى مستبد، فهو كله خروج عن تعاليم الإسلام وآدابه، وموجب للإثم والمعصية والتأديب والتعزير، وإنما الطلاق تشريع استثنائي للضرورة بعد أن يسلك الزوج المراحل الآتية:
وهي المعاشرة بالمعروف والصبر وتحمل الأذى، ثم الوعظ والهجر والضرب اليسير، ثم إرسال الحكمين.
فإن وقع الطلاق فيمكن العودة إلى الزواج بالرجعة بغير شهود ما دامت المرأة في العدة، أو بعقد جديد بعد انتهاء العدة، وذلك لمرتين بعد الطلقة الأولى، وبعد الطلقة الثانية، فتلك فترتان متكررتان لمراجعة الحساب، وتقدير الظروف، ومحاكمة الأمور، وتعقل النتائج والآثار، وهذا يحدث غالباً، فكل من الزوجين

(9/6876)


يندم ويتنازل عن أمور، ويقلع عن أخلاق، ويرضى بالعيش في ظل حياة زوجية لا توفر له كل ما يرغب بالمقارنة مع حياة العزلة والانفراد، والاتكال على الأهل الذين يضايقهم عادة تحمل أعباء جديدة من النفقة والخدمة وغيرها، هذا فضلاً عما في الفراق من تعريض سمعة المرأة للطعن والنقد، إذ لو كانت حسنة الأخلاق، لما طلقت، وبه يكون إحصاء عدد الرجعات بعد الطلاق مما ينقص كثيراً من إحصائيات الطلاق.

السبب في جعل الطلاق بيد الرجل:
جعل الطلاق بيد الزوج لا بيد الزوجة بالرغم من أنها شريكة في العقد حفاظاً على الزواج، وتقديراً لمخاطر إنهائه بنحو سريع غير متئد؛ لأن الرجل الذي دفع المهر وأنفق على الزوجة والبيت يكون عادة أكثر تقديراً لعواقب الأمور، وأبعد عن الطيش في تصرف يلحق به ضرراً كبيراً، فهو أولى من المرأة بإعطائه حق التطليق لأمرين:
الأول ـ إن المرأة غالباً أشد تأثراً بالعاطفة من الرجل، فإذا ملكت التطليق، فربما أوقعت الطلاق لأسباب بسيطة لا تستحق هدم الحياة الزوجية.
الثاني ـ يستتبع الطلاق أموراً مالية من دفع مؤجل المهر، ونفقة العدة، والمتعة، وهذه التكاليف المالية من شأنها حمل الرجل على التروي في إيقاع الطلاق، فيكون من الخير والمصلحة جعله في يد من هو أحرص على الزوجية. وأما المرأة فلا تتضرر مالياً بالطلاق، فلا تتروى في إيقاعه بسبب سرعة تأثرها وانفعالها.
ثم إن المرأة قبلت الزواج على أن الطلاق بيد الرجل، وتستطيع أن تشرطه لنفسها إن رضي الرجل منذ بداية العقد، ولها أيضاً إن تضررت بالزوج أن تنهي

(9/6877)


الزواج بواسطة بذل شيء من مالها عن طريق الخلع، أو عن طريق فسخ القاضي الزواج بسبب مرض منفر، أو لسوء العشرة والإضرار، أو لغيبة الزوج أو حبسه، أو لعد م الإنفاق.
وليست الدعوة المعاصرة إلى جعل الطلاق بيد القاضي ذات فائدة؛ لمصادمة المقرر شرعاً، ولأن الرجل يعتقد ديانة أن الحق له، فإذا أوقع الطلاق، حدثت الحرمة دون انتظار حكم القاضي. وليس ذلك في مصلحة المرأة نفسها؛ لأن الطلاق قد يكون لأسباب سرية ليس من الخير إعلانها، فإذا أصبح الطلاق بيد القاضي انكشفت أسرار الحياة الزوجية بنشر الحكم، وتسجيل أسبابه في سجلات القضاء، وقد يعسر إثبات الأسباب لنفور طبيعي وتباين أخلاقي.

ركن الطلاق: قال الحنفية (1): ركن الطلاق: هو اللفظ الذي جعل دلالة على معنى الطلاق لغة: وهو التخلية والإرسال، ورفع القيد في الصريح، وقطع الوصلة ونحوه في الكناية، أو شرعاً: وهو إزالة الحل؛ أو ما يقوم مقام اللفظ من الإشارة.
وقال غير الحنفية (2): للطلاق أركان، علماً بأن كلمة «ركن الطلاق» مفرد مضاف، فيعم، فيصح الإخبار عنه بالمتعدد، فيقال: أركانه أربعة مثلاً. والمراد بالركن عند الجمهور: ما تتحقق به الماهية، ولو لم يكن داخلاً فيها.
أما المالكية فقالوا: أركان الطلاق أربعة: أهل له: أي موقعه من زوج أو نائبه أو وليه إن كان صغيراً، وقصد: أي قصد النطق باللفظ الصريح والكناية الظاهرة،
_________
(1) البدائع: 98/ 3.
(2) الشرح الكبير: 365/ 2، الشرح الصغير: 279/ 2، القوانين الفقهية: ص 227، غاية المنتهى: 112/ 3.

(9/6878)


ولو لم يقصد حل العصمة بدليل صحة طلاق الهازل. ومحل: أي عصمة مملوكة، ولفظ صريح أو كناية. وعدها ابن جزي ثلاثة: هي المطلِّق، والمطلَّقة، والصيغة: وهي اللفظ وما في معناه.
وأما الشافعية والحنابلة فقالوا: أركان الطلاق خمسة: مطلِّق، وصيغة، ومحل، وولاية، وقصد، فلا طلاق لفقيه يكرره، وحاكٍ ولو عن نفسه. ويلاحظ أن الولاية أدخلها المالكية في الركن الأول وهو الأهلية. وزاد الشافعية والحنابلة على المالكية ركن المحل.

حكم الطلاق: ذهب الحنفية على المذهب (1): إلى أن إيقاع الطلاق مباح لإطلاق الآيات، مثل قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء} [البقرة:236/ 2] ولأنه صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، لا لريبة (أي ظن الفاحشة) ولا كبر، وكذا فعله الصحابة، والحسن بن علي رضي الله عنهما استكثر النكاح والطلاق. وأما حديث «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» فالمراد بالحلال: ما ليس فعله بلازم، ويشمل المباح والمندوب والواجب والمكروه، وقال ابن عابدين: إن كونه مبغوضاً لا ينافي كونه حلالاً، فإن الحلال بهذا المعنى يشمل المكروه، وهو مبغوض.
وقال الكمال بن الهمام: الأصح حظر الطلاق أي منعه، إلا لحاجة كريبة وكبر. ورجح ابن عابدين هذا الرأي، وليست الحاجة مختصة بالكبر والريبة، بل هي أعم.
وذكر الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (2): أن الطلاق من حيث هو
_________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 571/ 2 - 572، فتح القدير: 21/ 3 - 22.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 361/ 2، الشرح الصغير: 533/ 2 وما بعدها، المهذب: 78/ 2، كشاف القناع: 261/ 5، المغني: 97/ 7 وما بعدها.

(9/6879)


جائز، والأولى عدم ارتكابه، لما فيه من قطع الأ لُفة إلا لعارض، وتعتريه الأحكام الأربعة من حرمة، وكراهة، ووجوب، وندب، والأصل أنه خلاف الأولى.
فيكون حراماً: كما لو علم أنه إن طلق زوجته وقع في الزنا لتعلقه بها، أو لعدم قدرته على زواج غيرها، ويحرم الطلاق البدعي وهو الواقع في الحيض ونحوه كالنفاس وطهر وطئ فيه.
ويكون مكروهاً: كما لو كان له رغبة في الزواج، أو يرجو به نسلاً ولم يقطعه بقاء الزوجة عن عبادة واجبة، ولم يخش زناً إذا فارقها. ويكره الطلاق من غير حاجة إليه، للحديث السابق عن ابن عمر: «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق».
ويكون واجباً: كما لو علم أن بقاء الزوجة يوقعه في محرم من نفقة أو غيرها. ويجب طلاق المولي (حالف يمين الإيلاء) بعد انتظار أربعة أشهر من حلفه إذا لم يفئ، أي يطأ.
ويكون مندوباً أو مستحباً: إذا كانت المرأة بذيِّة اللسان يخاف منها الوقوع في الحرام لو استمرت عنده. ويستحب الطلاق في الجملة لتفريط الزوجة في حقوق الله الواجبة، مثل الصلاة ونحوها، ولا يمكنه إجبارها على تلك الحقوق، ويستحب الطلاق أيضاً في حال مخالفة المرأة من شقاق وغيره ليزيل الضرر، أوإذا كانت غير عفيفة، فلا ينبغي له إمساكها؛ لأن فيه نقصاً لدينه، ولا يأمن إفسادها فراشه، وإلحاقها به ولداً من غيره.
ويستحب الطلاق أيضاً لتضرر الزوجة ببقاء النكاح لبغض أو غيره، ويستحب كون الطلاق طلقة واحدة؛ لأنه يمكنه تلافيها، وإن أراد الطلاق الثلاث، فَّرق الطلقات في كل طهر طلقة ليخرج من الخلاف، فإن عند أبي حنيفة لا يجوز جمعها، ولأنه يسلم من الندم.

(9/6880)


والخلاصة: أن الطلاق البدعي إما حرام أو مكروه، والطلاق السني إما واجب أو مندوب أو خلاف الأولى. وسيأتي بيان البدعي والسني.

لزوم الطلاق: الطلاق كاليمين متى توافر ركنه وشروطه، لزم المطلِّق في زوجته، ولا رجوع عنه بوقوعه، ويحسب عليه إن طلقها ثم تزوجها ثانية، وكذلك في المرة الثالثة حتى تكون ثلاث تطليقات (1).
المبحث الثاني ـ شروط الطلاق وقدره ومحله وصيغته:
يشترط في كل ركن من أركان الطلاق ـ في اصطلاح غيرا لحنفية ـ شروط:

شروط الركن الأول وهو المطلِّق: يشترط أن يكون زوجاً مكلفاً (بالغاً عاقلاً) مختاراً بالاتفاق، وأن يكون عند المالكية مسلماً، وأن يعقل الطلاق عند الحنابلة (2).
فلا يصح الطلاق من غير زوج، ولا من صبي مميز أو غير مميز، وأجاز الحنابلة طلاق مميز يعقل الطلاق ولو كان دون عشر سنين، بأن يعلم أن زوجته تبين منه وتحرم عليه إذا طلقها، ويصح توكيل المميز في الطلاق وتوكله فيه؛ لأن من صح منه مباشرة شيء، صح أن يوكل وأن يتوكل فيه. ولا يصح عند الفقهاء أن يطلِّق الولي على الصبي أو المجنون بلا عوض، لأن الطلاق ضرر.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 219.
(2) فتح القدير: 21/ 3، 38 - 40، البدائع: 99/ 3، الشرح الكبير: 365/ 2، بداية المجتهد: 81/ 2 - 83، الشرح الصغير: 526/ 2 - 542 وما بعدها، المهذب: 77/ 2، مغني المحتاج: 279/ 3 - 289، كشاف القناع: 262/ 5 - 265، القوانين الفقهية: ص 227 ومابعدها، المغني: 113/ 7 - 124.

(9/6881)


طلاق المجنون والمدهوش: ولا يصح طلاق المجنون، ومثله المغمى عليه، والمدهوش: وهو الذي اعترته حال انفعال لا يدري فيها ما يقول أو يفعل، أو يصل به الانفعال إلى درجة يغلب معها الخلل في أقواله وأفعاله، بسبب فرط الخوف أو الحزن أو الغضب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق في إغلاق» (1) والإغلاق: كل ما يسد باب الإدراك والقصد والوعي، لجنون أو شدة غضب أو شدة حزن ونحوها.
ودليل اشتراط البلوغ والعقل: حديث «كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون» (2) وحديث «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق» (3)، ولأن الطلاق تصرف يحتاج إلى إدراك كامل وعقل وافر، وهذا لا يتوافر في الصبي والمجنون، ولأن الطلاق تصرف ضار، فلا يملكه الصبي ولو كان مميزاً أو أجازه الولي.
لكن الحنابلة أنفذوا طلاق المميز ولو دون عشر، لعموم الحديث المتقدم: «إن الطلاق لمن أخذ بالساق» وحديث «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه، والمغلوب على عقله» وعن علي: «اكتموا الصبيان النكاح» فيفهم منه أن فائدته ألا يطلقوا، ولأنه طلاق من عاقل صادف محل الطلاق، فوقع كطلاق البالغ.

طلاق الغضبان: يفهم مما ذكر أن طلاق الغضبان لا يقع إذا اشتد الغضب، بأن وصل إلى درجة لا يدري فيها ما يقول ويفعل ولا يقصده. أو وصل به الغضب
_________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة (نيل الأوطار: 235/ 6، نصب الراية: 223/ 3).
(2) قال عنه الزيلعي: حديث غريب، وأخرج الترمذي عن أبي هريرة: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله» وفيه ضعيف، وروى ابن أبي شيبة عن علي قال: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه» (نصب الراية: 221/ 3 - 222).
(3) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة بلفظ آخر (الجامع الصغير: 24/ 2).

(9/6882)


إلى درجة يغلب عليه فيها الخلل والاضطراب في أقواله وأفعاله، وهذه حالة نادرة. فإن ظل الشخص في حالة وعي وإدراك لما يقول فيقع طلاقه، وهذا هو الغالب في كل طلاق يصدر عن الرجل؛ لأن الغضبان مكلف في حال غضبه بما يصدر منه من كفر وقتل نفس وأخذ مال بغير حق وطلاق وغيرها.

طلاق غير الزوج: لا يصح طلاق غير الزوج، لحديث «لا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل
ملك» (1).

طلاق السكران: السكران الذي وصل إلى درجة الهذيان وخلط الكلام، ولا يعي بعد إفاقته ما صدر منه حال سكره، لا يقع طلاقه باتفاق المذاهب إن سكر سكراً غير حرام ـ وهو نادر ـ كشرب مسكر للضرورة، أو للإكراه، أو لأكل بنج ونحوه ولو لغير حاجة عند الحنابلة؛ لأنه لا لذة فيه، فيعذر لعدم الإدراك والوعي لديه، فهو كالنائم.
أما السكران بطريق محرَّم ـ وهو الغالب ـ بأن شرب الخمر عالماً به، مختاراً لشربه، أو تناول المخدر من غير حاجة أو ضرورة عند الجمهور غيرا لحنابلة، فيقع طلاقه في الراجح في المذاهب الأربعة، عقوبة وزجراً عن ارتكاب المعصية، ولأنه تناوله باختياره من غير ضرورة.
وقال زفر والطحاوي من الحنفية، وأحمد في رواية عنه، والمزني من الشافعية وعثمان وعمر بن عبد العزيز (2): لا يقع طلاق السكران، لعدم توافر
_________
(1) رواه ابن ماجه عن مسور بن مَخْرمة، وأخرجه الحاكم عن جابر مرفوعاً بلفظ «لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك» (نيل الأوطار: 240/ 6).
(2) وهو مذهب سعيد بن المسيب وعطاء وبعض التابعين أيضاً، وروي عن علي ومعاوية رضي الله عنهما.

(9/6883)


القصد والوعي والإرادة الصحيحة لديه، فهوزائل العقل كالمجنون، والنائم فاقد الإرادة كالمكره، فتصبح عبارته ملغاة لا قيمة لها، وللسكر عقوبة أخرى هي الحد، فلا مسوغ لضم عقوبة أخرى عليه، قال عثمان رضي الله عنه: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق، وقال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز، وقال علي: كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه (1).
وأخذ القانون في سورية ومصر بهذا الرأي، نص قانون رقم (25) لسنة (1929) في مصر على أنه «لا يقع طلاق السكران» ونص القانون السوري م (89) على ما يلي:
«1 - لا يقع طلاق السكران ولا المدهوش ولا المكره.
2 - المدهوش: هو الذي فقد تمييزه من غضب أو غيره، فلا يدري ما يقول».

طلاق غير المسلم: يقع طلاق غير المسلم كالمسلم عند الجمهور؛ لأنه عند غير الحنفية مكلف بفروع الشريعة. وقال المالكية: لا يصح الطلاق من كافر، ويشترط الإسلام لنفاذ طلاق المطلِّق.
طلاق المرتد: طلاق المرتد بعد الدخول موقوف، فإن أسلم في العدة تبينا وقوعه، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة أو ارتد قبل الدخول فطلاقه باطل؛ لانفساخ النكاح قبله، باختلاف الدين.
طلاق السفيه: ينفذ طلاق السفيه المحجور إذا كان بالغاً باتفاق المذاهب ولو بغير إذن وليه؛ لأن موضع الحجر هو التصرفات المالية، والطلاق وأثره ليس من التصرفات المالية، والرشد ليس شرطاً لوقوع الطلاق.
_________
(1) ذكرهن البخاري في صحيحه (نيل الأوطار: 235/ 6).

(9/6884)


والسفيه: هو خفيف العقل الذي يتصرف في ماله على خلاف مقتضى العقل السليم. وقال الشيعة الإمامية وعطاء: يتوقف طلاق السفيه على إذن الولي؛ لأنه تصرف ضار ضرراً محضاً.

طلاق المكره: لا يقع عند الجمهور طلاق المكره؛ لأنه غير قاصد للطلاق، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا طلاق في إغلاق» (2) معناه في إكراه. وهذا هو الراجح لقوة دليله.
ورأى الحنفية: أن طلاق المكره واقع؛ لأنه قصد إيقاع الطلاق وإن لم يرض بالأثر المترتب عليه، كالهازل، فإن طلاقه يقع لحديث: «ثلاث جِدّهن جِدّ، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» (3).

مالك الطلاق: يتبين مما سبق أن الذي يملك الطلاق إنما هو الزوج متى كان بالغاً عاقلاً، ولا تملكه الزوجة إلا بتوكيل من الزوج أو تفويض منه. ولا يملكه القاضي إلا في أحوال خاصة للضرورة.
ويلاحظ أن القانون المصري جعل الأهلية في سنة الحادية والعشرين، والقانون السوري في سن الثامنة عشرة، وبناء عليه تكون أهلية الطلاق قانوناً في تلك السن المقررة، إلا إذا سمح القاضي لمن هودون هذه السن إذا كان بالغاً بإيقاع الطلاق. ونص القانون السوري (م 85) على الأهلية:
_________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس.
(2) رواه أبو داود والأثرم عن عائشة، وقد سبق تخريجه ومعناه.
(3) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي عن أبي هريرة، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم وصححه والدارقطني، وفي إسناده ابن أزدك، وهو مختلف فيه (نيل الأوطار: 234/ 6 وما بعدها، نصب الراية في الهامش: 223/ 3).

(9/6885)


«1 ـ يكون الرجل متمتعاً بالأهلية الكاملة للطلاق في تمام الثامنة عشرة من عمره.
2 - يجوز للقاضي أن يأذن بالتطليق، أو يجيز الطلاق الواقع من البالغ المتزوج قبل الثامنة عشرة إذا وجدت المصلحة في ذلك».

ما يشترط في الركن الثاني للطلاق وهو القصد:
يشترط بالاتفاق القصد في الطلاق (1): وهو إرادة التلفظ به، ولو لم ينوه، أي إرادة لفظ الطلاق لمعناه، بألا يقصد بلفظ الطلاق غير المعنى الذي وضع له، ولايشترط في هذا الركن إلا تحقيق المراد به، فلا يقع طلاق فقيه يكرره، ولا طلاق حاكٍ عن نفسه أو غيره؛ لأنه لم يقصد معناه، بل قصد التعليم والحكاية، ولا طلاق أعجمي لُقِّن لفظ الطلاق بلا فهم منه لمعناه. ولا يقع طلاق مرَّ بلسان نائم أو من زال عقله بسبب لم يعص به، ويلغو، وإن قال بعد إفاقته أو استيقاظه: أجزته أو أوقعته للحديث المتقدم: «رفع القلم عن ثلاث، ومنها: النائم حتى يستيقظ» ولانتفاء القصد.
ولا تشترط عند الحنابلة النية للطلاق في حال الخصومة أو في حال الغضب.

طلاق الهازل: الهازل هو من قصد اللفظ دون معناه، واللاعب: هو من لم يقصد شيئاً (2)، كأن تقول الزوجة في معرض دلال أو ملاعبة أواستهزاء: طلقني،
_________
(1) فتح القدير: 39/ 3، الدر المختار: 584/ 2، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: 543/ 2 ومابعدها، 567، القوانين الفقهية: ص 230، مغني المحتاج: 287/ 3 ومابعدها، كشاف القناع: 263/ 5، 277 - 278،المغني: 135/ 7.
(2) اللعب والهزل في اصطلاح الفقهاء كما أبان الشافعية متغايران، وأما في اللغة فهما مترادفان.

(9/6886)


فيقول لها لاعباً أو مستهزئاً: طلقتك، ومثله من خاطبها بطلاق وهو يظنها أجنبية عنه وليست زوجته، بسبب ظلمة أو من وراء حجاب. والحكم أن يقع طلاق هؤلاء جميعاً؛ لأن كلاً من الهازل واللاعب أتى باللفظ عن قصد واختيار، وإن لم يرض بوقوعه، فعدم رضاه بوقوعه، لظنه أنه لا يقع: لا أثر له لخطأ ظنه. والدليل كما ذكر الحنابلة وغيرهم هو الحديث المتقدم: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة» وفي رواية «والعتاق» وفي رواية: «واليمين»، وقال علي كرم الله وجهه: «ثلاثة لا لعب فيهن: الطلاق والعتاق والنكاح» ولأن الهازل أتى بالسبب، وهو لفظ الطلاق، وترتيب الأحكام على أسبابها إنما هو للشارع لا للعاقد.

طلاق المخطئ أو من سبق لسانه: وهو الذي يريد أن يتكلم بغير الطلاق، فزلَّ لسانه، ونطق بالطلاق من غير قصد أصلاً، بأن أراد أن يقول: طاهر أو أنت طالبة، فقال خطأ: أنت طالق.
وحكمه: لا يقع طلاقه عند الشافعية، لعدم القصد.
وقال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا يقع طلاقه في الفتوى والديانة، أي فيما بينه وبين الله تعالى، ويقع في القضاء. لكن قيد المالكية وقوعه قضاء بأن لم يثبت سبق لسانه بالبينة، وإلا فلا يلزمه في فتوى ولا في قضاء.

وسبب التفرقة بين الهازل والمخطئ: أن الهازل قصد اللفظ، فاستحق العقوبة والزجر عن اللعب بأحكام الدين، وأما المخطئ فلا قصد له أصلاً، فلم يستحق العقوبة والزجر، حتى يحكم بوقوع طلاقه.

(9/6887)


ما يشترطه في الركن الثالث ـ محل الطلاق أو من يقع عليه الطلاق:
المرأة هي التي يقع عليها الطلاق، إذا كانت في حال زواج صحيح قائم فعلاً، ولو قبل الدخول، أو في أثناء العدة من طلاق رجعي؛ لأن الطلاق الرجعي لا تزول به رابطة الزوجية إلا بعد انتهاء العدة.
فإن كانت المرأة معتدة من طلاق بائن بينونة كبرى، فلا يلحقها طلاق آخر في أثناء العدة، لاستنفاد حق الزوج في الطلاق. لأنه لا يملك أكثر من ثلاث طلقات، فلا تكون هناك فائدة من الطلاق.
وإن كانت معتدة من طلاق بائن بينونة صغرى. فلا يلحقها أيضاً طلاق آخر عند الجمهور غير الحنفية، لانتهاء رابطة الزوجية بالطلاق البائن، فلا تكون محلاً للطلاق. ويلحقها طلاق آخر في رأي الحنفية في أثناء العدة، لبقاء بعض أحكام الزواج من وجوب النفقة، والسكنى في بيت الزوجية، وعدم حل زواجها برجل آخر في العدة، فتكون محلاً للطلاق إذ هي زوجة حكماً. وعبارة الحنفية فيه: «الصريح يلحق الصريح، ويلحق البائن بشرط العدة، والبائن يلحق الصريح».
فإن كان الزواج فاسداً، أو انتهت عدة المرأة مطلقاً، فلا يقع عليها طلاق آخر، حتى ولو كان معلقاً بانتهاء العدة، كأن يقول لها: إذا انتهيت من عدتك، فأنت طالق، فلا يقع به طلاق.
ونص القانون السوري (م 86) على محل الطلاق فيما يأتي: «محل الطلاق: المرأة التي في نكاح صحيح، أو المعتدة من طلاق رجعي، ولا يصح على غيرهما الطلاق، ولو كان معلقاً».
وإذا طلقت المرأة قبل الدخول والخلوة، فلا عدة عليها، لقوله تعالى: {إذا

(9/6888)


نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/ 33] ويكون الطلاق بائناً. ويرى الحنفية (1): أنه لا يلحقها طلاق آخر، فلو قال الرجل لزوجته التي لم يدخل ولم يختل بها: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» لا تقع إلا طلقة واحدة؛ لأنها بالطلاق الأول، صارت بائنة من زوجها، وأصبحت أجنبية، فلا يلحقها آخر. وهذا رأي الشافعية أيضاً، فإنهم قالوا: إذا قال ذلك لغير المدخول بها فتقع طلقة واحدة بكل حال؛ لأنها تبين بالأولى فلا يقع ما بعدها (2).
وقال المالكية والحنابلة (3): يقع بهذه الألفاظ المتتابعة ثلاث طلقات؛ لأنه نسق أي غير مفترق؛ لأن الواو تقتضي الجمع ولا ترتيب فيها، فيكون الرجل موقعاً للثلاث جميعاً، فيقعن عليها، كقوله: أنت طالق ثلاثاً، أو طلقة معها طلقتان، إلا أنه إذا قصد بالثانية والثالثة تأكيد ما قبلها، فيصدق عند المالكية قضاءً بيمين، وديانةً بغير يمين.

إضافة الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة أو جزء الطلقة:
إذا أضاف الرجل الطلاق للزوجة بأن قال: أنت طالق، أو طلقتك، وقع الطلاق اتفاقاً.
ويقع الطلاق أيضاً في الجملة إذا أضاف الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة على التفصيل التالي:
_________
(1) الدر المختار: 624/ 2 وما بعدها، 645.
(2) مغني المحتاج: 297/ 3.
(3) المغني: 233/ 7، القوانين الفقهية: ص 229.

(9/6889)


قال الحنفية (1): يقع الطلاق أيضاً إذا أضافه الرجل إلى ما يعبر به عن كل المرأة أو ذاتها، كالرقبة والعنق والروح والبدن والجسد، والأطراف جميعاً (وهي اليدان والرجلان) والفرج (القُبُل) والوجه والرأس والأست (العجز)، أو أضافه إلى جزء شائع من المرأة كنصفها وثلثها إلى عشرها؛ لأن الطلاق لا يتجزأ.
ولا يقع الطلاق إذا أضافه إلى البُضْع (الفرج) والدبر، إذ لا يعبر بهما عن الكل، بخلاف الأست والفرج، فإنه يعبر بهما عن الكل.
ولا يقع لو أضافه إلى اليد إلا بنية المجاز، أي إطلاق البعض على الكل إذا لم يكن مشتهراً، فلو اشتهر لا حاجة إلى نية المجاز، وكاليد: الرجل والشعر والأنف والساق والفخذ والظهر والبطن واللسان والأذن والفم والصدر والذقن والسن والريق والعرق والثدي والدم؛ لأنه لا يعبر به عن الجملة. فلا يقع الطلاق لو قال: يدك طالق أو رجلك طالق، ونحوهما.
ويقع الطلاق بإضافته إلى جزء الطلقة كالسدس والربع والنصف، ولو من ألف جزء، بأن يقول: أنت طالق جزءاً من ألف طلقة؛ لأن الطلاق لا يتجزأ.
ومذهب المالكية (2): لو أضاف الطلاق إلى نصف المرأة أو سدسها، أو ثلثها، أو عضو من أعضائها، نفذ، ولو قال: نصف طلقة أو ربع طلقة كملت عليه، فهم كالحنفية. واختلف المالكية على رأيين في إضافته إلى شعر المرأة وكلامها وروحها وحياتها، والراجح أنه يلزم الطلاق إذا أضيف لما يعد من محاسن المرأة، مثل شعرك أو كلامك أو ريقك طالق، ولا يلزم بما لا يعد من المحاسن، نحو بُصاق ودمع وسعال.
_________
(1) الدر المختار وابن عابدين: 598/ 2 - 601، فتح القدير: 52/ 3 وما بعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 228، الشرح الصغير: 572/ 2.

(9/6890)


ورأى الشافعية (1) أنه يقع الطلاق إن طلق جزءاً من المرأة، كقوله: يدك أو رجلك طالق أو نحو ذلك من أعضائها المتصلة بها، ولو من غير نية المجاز خلافاً للحنفية، وكقوله: ربعُك أو بعضُك أو جزؤك أو شعرك أو ظفرك طالق، وكذا دمُك على المذهب؛ لأن الطلاق لا يتبعض، ولا يقع إن أضافه إلى فضلة كريق وعَرَق وبول، وكذا لا يقع إن أضافه إلى مني ولبن في الأصح؛ لأنها غير متصلة بها اتصال خلقة.
ولو قال لمقطوعة يمين: يمينك طالق، لم يقع على المذهب، لفقدان الذي يسري منه الطلاق إلى الباقي. ولو قال: أنت طالق بعض طلقة، وقعت طلقة؛ لأن الطلاق لا يتبعض.
وأضاف الشافعية أن الرجل في خطاب المرأة لو حذف المفعول كأن قال: «طلقت» أو حذف المبتدأ: «أنتِ» أو حذف حرف النداء «يا» فلم يقل: «يا طالق» لم يقع الطلاق، كما هو ظاهر كلامهم.
والحنابلة قالوا (2): تطلق إن أضاف الطلاق إلى جزء من المرأة مثل قوله: يدك أو دمك أو أصبعك أو رأسك طالق؛ لأنه أضافه إلى جزء ثابت استباحه بعقد النكاح، فأشبه الإضافة إلى الجزء الشائع مثل نصفك وثلثك. أما لو قال: لعديمة الإصبع أو اليد: أصبعك طالق، أو يدك طالق، لم تطلق.
ولا تطلق لو قال لها: شعرك أو ظفرك أو سنك أو لبنك أو منيك طالق؛ لأن تلك الأجزاء تنفصل عنها مع السلامة، فلا تطلق بإضافة الطلاق إليها كالحمل، فهم خالفوا الشافعية في غير اللبن والمني.
_________
(1) مغني المحتاج: 280/ 3، 291، المهذب: 80/ 2 - 85.
(2) كشاف القناع: 298/ 5 - 301، المغني: 242/ 7 - 246.

(9/6891)


ولا تطلق أيضاً إن قال: سوادك أو بياضك طالق؛ لأنه أمر عارض. ولا إن قال: ريقك أو دمعك أو عرقك طالق؛ لأن المذكور ليس جزءاً منها، ولا إن قال: روحك طالق؛ لأن الروح ليست عضواً ولا شيئاً يستمتع به، فأشبهت السواد والبياض. ولا إن قال: حملك طالق؛ لأنه عرض كالبياض والسواد.
وأما لو قال: حياتك طالق، فتطلق؛ لأنه لا بقاء لها بدونها، فأشبه ما لو قال: رأسك طالق.
وجزء الطلقة كالطلقة، فإذا قال: أنت طالق نصف طلقة أو ثلثها ونحوه، طلقت طلقة؛ لأن الطلاق لا يتبعض.
والخلاصة: اتفق الفقهاء على أن جزء الطلقة طلقة، واختلفوا في إضافة الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة. ولا يقع الطلاق عند جمهور الحنفية فيما لا يعبر به عن جملة المرأة كاليد والرجل والإصبع والدبر، ويقع بها عند زفر ومالك والشافعي وأحمد.

إضافة الطلاق إلى نفس الزوج:
قال الحنفية والحنابلة (1): من قال لامرأته: «أنا منك طالق» فليس بشيء، وإن نوى طلاقاً. ولو قال: أنا منك بائن، أو أنا عليك حرام، ناوياً الطلاق فهي طالق عند الحنفية وفي أحد الوجهين عند الحنابلة؛ لأن الطلاق لإزالة القيد، والقيد في المرأة دون الزوج، فلا تطلق في الحالة الأولى، لأنه أضاف الطلاق إلى غير محله، فيلغو. أما الإبانة فهي لإزالة الوصلة، والتحريم لإزالة الحل، وهما مشتركان بين الزوجين، فصح إضافتهما إلى الزوجين، ولايصح إضافة الطلاق إلا إليها.
_________
(1) فتح القدير: 70/ 3 وما بعدها، المغني: 133/ 7 وما بعدها، الدر المختار: 613/ 2.

(9/6892)


وقال المالكية والشافعية (1): لو قال الرجل: أنا منك طالق، تطلق إن نوى تطليقها؛ لأن المرأة مقيدة والزوج كالقيد عليها، والحَلّ يضاف إلى القيد، كما يضاف إلى المقيد، فيقال: حلّ فلان المقيّد، وحل القيد عنه. وإن لم ينو طلاقاً فلا تطلق؛ لأن اللفظ خرج عن الصراحة بإضافته إلى غير محله، فشرط فيه ما شرط في الكناية من قصد الإيقاع.
وكذا لو قال: أنا منك بائن، اشترط نية الطلاق، كسائر الكنايات. وعليه، فإن الطلاق المنسوب إلى الزوج يقع ـ على هذا الرأي ـ بالنية، سواء بلفظ الطلاق أم بالإبانة.

ما يشترط في الركن الرابع عند الشافعية والحنابلة ـ الولاية على محل الطلاق:
محل الطلاق كما عرفنا هو الزوجة، وكأن هذا الركن الذي ذكره الشافعية فرع عن الركن السابق وهو محل الطلاق، والمقصود منه بيان حكم طلاق الأجنبية. فإن طلاقها قبل زواجها مختلف في وقوعه بعد تزوجها، كما يتبين من عبارات الفقهاء وهو موضوع تعليق الطلاق على الملك.

تعليق الطلاق على الملك أو على النكاح. فيه ثلاثة آراء للفقهاء:
قال الحنفية (2): إذا أضاف رجل الطلاق إلى النكاح، وقع عقيب النكاح، مثل أن يقول لامرأة: «إن تزوجتك فأنت طالق» أو «كل امرأة أتزوجها فهي طالق»؛ لأن هذا الطلاق معلق على شرط، فلا يشترط لصحته وجود الملك في حال الطلاق، وإنما يكفي وجوده عند تحقق الشرط، والملك متيقن حينئذ أي عند
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 228، المهذب: 80/ 2، مغني المحتاج: 292/ 3.
(2) فتح القدير: 127/ 3 - 131.

(9/6893)


وجود الشرط، وإذا كان الملك متيقناً عنده، وقع الطلاق؛ لأن المعلق بالشرط كالملفوظ لدى الشرط، فهو كما لو أضاف الطلاق في حال الزواج إلى شرط، فإنه يقع عقيب الشرط، مثل أن يقول لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق؛ لأن الملك قائم في الحال، والظاهر بقاؤه إلى وقت الشرط؛ لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان، وهو استصحاب الحال. وأما حديث: «لا طلاق قبل النكاح» (1) الذي رواه الشافعي، فمحمول على نفي التنجيز في الحال، لا نفي الطلاق المعلق.
وعلى هذا، فلا تصح إضافة الطلاق إلى امرأة إلا أن يكون الحالف مالكاً، أويضيفه إلى ملك، فإن قال لامرأة أجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم تزوجها، فدخلت الدار، لم تطلق؛ لأن الحالف ليس مالكاً، ولم يضف الطلاق إلى الملك أو سبب الملك وهو التزوج، ولا بد من واحد منها.
والحاصل: أن الطلاق عند الحنفية يتعلق بشرط التزويج، سواء عمم المطلِّق جميع النساء أو خصص.

وقال المالكية (2): إن عمَّ المطلق جميع النساء لم يلزمه، وإن خصص لزمه، فمن قال: (كل امرأة أتزوجها من بني فلان، أو من بلد كذا، فهي طالق) أو قال (في وقت كذا)، فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا تزوجهن الرجل المطلق. أما لو قال: (كل امرأة أتزوجها، فهي طالق) فلا تطلق امرأة تزوَّجها. وسبب الفرق بين التعميم والتخصيص: استحسان مبني على المصلحة؛ لأنه إذا عمم فأوجبنا عليه
_________
(1) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه عن المسور بن مخرمة بلفظ: «لا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل ملك» وفيه أحاديث كثيرة بمعناه (نصب الراية: 230/ 3 وما بعدها).
(2) بداية المجتهد: 83/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 232.

(9/6894)


التعميم، لم يجد سبيلاً إلى النكاح الحلال، فكان ذلك عنتاً به وحرجاً، وكأنه من باب نذر المعصية. وأما إذا خصص فليس الأمر كذلك إذا ألزمناه الطلاق، وليس من شرط الطلاق إلا وجود الملك فقط، ولا يشترط وجود الملك المتقدم بالزمان على الطلاق.

وقال الشافعية والحنابلة والظاهرية (1): خطاب الأجنبية بطلاق مثل «أنت طالق» ومثل «كل امرأة أتزوجها فهي طالق» وتعليق الطلاق بنكاح، مثل (إن تزوجتك فأنت طالق)، أو بغير نكاح، مثل (إن دخلت الدار فأنت طالق) لغو، ويحكم بإبطال اليمين، فلا تطلق على من يتزوجها، أما الطلاق المنجز على الأجنبية فلا يقع بالاتفاق، وأما المعلق على الزواج فلانتفاء الولاية من القائل على محل الطلاق، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق إلا بعد نكاح».
وعليه، فإن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلاً، سواء عم المطلِّق أو خص. وهو قول علي ومعاذ وجابر بن عبد الله وابن عباس وعائشة، وهو الراجح لدي عملاً بهذا الحديث الصحيح، ولا عبرة بما طعن به بعضهم بعد تحسين الترمذي. وبناء عليه إن قال رجل لزوجته ولأجنبية: إحداكما طالق، أو كانت له زوجة اسمها زينب، وجارة اسمها زينب، فقال: زينب طالق، وقال: أردت الأجنبية، لم يقبل قوله، وتطلق زوجته في الحالتين؛ لأنه لا يمكن طلاق غيرها.

الأدلة إجمالا ً (2):
استدل الحنفية بما يأتي:
_________
(1) مغني المحتاج: 292/ 3 وما بعدها، المهذب: 98/ 2، المغني: 135/ 7 وما بعدها، بداية المجتهد: 83/ 2 وما بعدها.
(2) فتح القدير: 44/ 3 وما بعدها، 87 وما بعدها، البدائع: 101/ 3 - 112، بداية المجتهد: 73/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 228 وما بعدها، الشرح الصغير: 559/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 279/ 3 وما بعدها، المهذب: 80/ 2 - 83، المغني: 121/ 7 - 138، كشاف القناع: 276/ 5 - 782، غاية المنتهى: 120/ 3 - 122، حاشية ابن عابدين: 590/ 2 - 594، 635 - 637، المحلى: 226/ 10.

(9/6895)


1 - الإجماع على صحة تعليق الظهار بالملك، والطلاق مثله، إذ لا قائل بالفرق.
2 - آثار عن التابعين: أخرج ابن أبي شيبة عن سالم والقاسم بن محمد والنخعي والزهري ومكحول الشامي وغيرهم أنهم قالوا في رجل قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق: هو كما قال.
3 - تعليق الطلاق لازم كتعليق العتق والوكالة والإبراء، فلا يشترط لصحته قيام الملك في الحال.
واستدل المالكية على التفصيل بالاستحسان وبناء الحكم على المصلحة، فقالوا: إذاعمم فأوجبنا عليه التعميم، لم يجد سبيلاً إلى النكاح الحلال، فكان ذلك عنتاً وحرجاً، فكأنه نذر المعصية، وقد عرف من الشرع: «إذا ضاق الأمر اتسع». أما إذا خص فهو بسبيل من زواج غير من خصها بالتعليق، فلا موجب لإلغاء كلامه.
واستدل الشافعية والحنابلة بما يأتي:
1ً - حديث «لا طلاق قبل نكاح» المروي من طرق مختلفة، وقال عنه الترمذي: حديث حسن. وبلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال ابن عباس: أخطأ في هذا، فإن الله يقول: نكحتم المؤمنات، ثم طلقتموهن، ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.
2ً - المعقول: وهو أن التعليق طلاق، والطلاق حل القيد وإبطال الملك، ولا قيد ولا ملك في الأجنبية حتى يصح حله وإبطاله، فكان لغواً. أما أن التعليق طلاق، فلأن الطلاق عند وجود الشرط يقع به إذا لم يوجد كلام آخر سواه، فلو لم

(9/6896)


يكن التعليق تطليقاً، لم يقع الطلاق عند الشرط. ثم إن هذا التعليق إنشاء تصرف في محل في حال لا ولاية له عليه فيلغو، كتعليق الصبي، وتعليق البالغ طلاق الأجنبية حاصل بغير الملك. وقد رجحت هذا الرأي عملاً بالحديث الثابت.

شرط الركن الخامس ـ الصيغة أو ما يقع به الطلاق:
اتفق الفقهاء على أن الزواج ينتهي بالطلاق بالعربية أو بغيرها، سواء باللفظ أم بالكتابة أم بالإشارة (1).
واللفظ إما صريح أو كناية:

الطلاق الصريح: هو اللفظ الذي ظهر المراد منه وغلب استعماله عرفاً في الطلاق، كالألفاظ المشتقة من كلمة (الطلاق) مثل: أنت طالق، ومطلقة، وطلقتك وعلي الطلاق. ومنه قول الرجل: «أنت علي حرام أو حرمتك أو محرمة»؛ لأنه وإن كان في الأصل كناية، فقد غلب استعماله بين الناس في الطلاق، فصار من الألفاظ الصريحة فيه. هذا مذهب الحنفية. وصريح الطلاق عند الحنابلة: لفظ الطلاق وماتصرف منه، لاغير، أما لفظ الفراق والسراح فهو كناية.
وقال المالكية: الكناية الظاهرة لها حكم الصريح، وهي التي جرت العادة أن يطلق بها في الشرع أو في اللغة كلفظ التسريح والفراق، وكقوله: أنت بائن أو بتة أو بتلة وما أشبه ذلك.
وقال الشافعية والظاهرية: إن صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسرح، لورودها في القرآن، قال تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] وقال: {فأمسكوهن بمعروف}
_________
(1) مقارنة المذاهب للأستاذين شلتوت والسايس: ص 104 - 108.

(9/6897)


[البقرة:231/ 2] وقال: {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته} [النساء:130/ 4] وقال سبحانه: {فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} [الأحزاب:28/ 33] ولو اشتهر لفظ للطلاق مثل الحلال أو حلال الله علي حرام، فالأصح كما قال النووي أنه كناية، ثم أصبح قول الرجل (علي حرام) من باب الطلاق الصريح كما أفتى به ابن حجر وغيره. وقال الحنابلة: لو قال: عليَّ الحرام، أو يلزمني الحرام، أو الحرام يلزمني، فهو لغو، لا شيء فيه: لأنه يقتضي تحريم شيء مباح بعينه، فإن اقترن معه نية تحريم الزوجة أو دلت قرينة على إرادة ذلك، فهو ظهار؛ لأنه يحتمله.
أما لفظة الإطلاق مثل أطلقتك وأنت مُطْلَقة، فليست صريحة في الطلاق باتفاق المذاهب الأربعة وإنما هي كناية تحتاج إلى نية؛ لأنها لم يثبت لها عرف الشرع ولا الاستعمال، فأشبهت سائر كناياته.

يفهم مما ذكر أنه يشترط لإيقاع الطلاق ما يأتي:
1 - استعمال لفظ يفيد معنى الطلاق لغة أو عرفاً، أو بالكتابة أو الإشارة المفهمة.
2 - أن يكون المطِّلق فاهماً معناه، ولو بلغة أعجمية، فإذا استعمل الأعجمي صريح الطلاق، وقع الطلاق منه بغير نية، وإن كانت كناية احتاج إلى نية. ولو لُقِّن رجل صيغة الطلاق بلغة لا يعرفها، فتلفظ بها، وهو لا يدري معناها، فلا يقع عليه شيء.
3 - إضافة الطلاق إلى الزوجة، أي إسناده إليها لغة، بأن يعينها بأحد طرق التعيين، كالوصف، أو الاسم المسماة به، أو الإشارة والضمير، فيقول: امرأتي طالق، أو فلانة طالق، أو يشير إليها بقوله: هذه طالق، أو أنت طالق، أو يقول:

(9/6898)


هي طالق، في أثناء حديث عنها؛ أو إسناده إليها عرفاً مثل: علي الطلاق أو الحرام إن أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني إن لم أفعل كذا، فالطلاق هنا مضاف إلى المرأة في المعنى، وإن لم يضف إليها في اللفظ، وذلك خلافاً للحنابلة.
4 - ألا يكون مشكوكاً في عدد الطلاق أو في لفظه. ويقع الطلاق الصريح ولو بالألفاظ المصحفة، نحو طلاغ، وتلاغ، وطلاك، وتلاك، أو بأحرف الهجاء: ط، ا، ل، ق.

حكم الطلاق الصريح:
يقع الطلاق باللفظ الصريح بدون حاجة إلى نية أو دالة حال، فلو قال الرجل لزوجته: أنت طالق، وقع الطلاق، ولا يلتفت لادعائه أنه لا يريد الطلاق.

طلاق الكناية:
هو كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره، ولم يتعارفه الناس في إرادة الطلاق. مثل قول الرجل لزوجته: الحقي بأهلك، اذهبي، اخرجي، أنت بائن، أنت بتّة، أنت خلية، برية، اعتدي، استبرئي رحمك، أمرك بيدك، حبلك على غاربك (1) أي خليت سبيلك كما يخلى البعير في الصحراء، وزمامه على غاربه، ونحوها من الألفاظ التي لم توضع للطلاق، وإنما يفهم الطلاق منها بالقرينة أو دلالة الحال: وهي حالة مذاكرة الطلاق، أو الغضب.
ومن الكناية في أصل المذهب عند الشافعية والحنابلة: أنت علي حرام أو حرَّمتك، فإن نوى طلاقاً أو ظهاراً حصل، وإن نواهما تخير وثبت ما اختاره. لكن
_________
(1) الغارب: ما بين السنام إلى العنق.

(9/6899)


-كما أفتى ابن حجر - أصبح لفظ (علي الحرام) من الطلاق الصريح في العرف والعادة الجارية. وقد حصر المالكية الكناية بالكناية المحتملة مثل: الحقي بأهلك واذهبي وابعدي عني وما أشبه ذلك، أما الكناية الظاهرة فلها حكم الصريح، كما بينا مثل لفظ التسريح والفراق، وأنت بائن أو بتة أو بتلة وما أشبهها.
حكم الطلاق بالكناية:
قال الحنفية والحنابلة: لا يقع قضاء الطلاق بالكناية إلا بالنية، أو دلالة الحال على إرادة الطلاق، كأن يكون الطلاق في حالة الغضب، أو في حالة المذاكرة بالطلاق.
وفصَّل الحنفية في وقوع الطلاق قضاء بألفاظ الكنايات، فقالوا: في حالة الرضا المجرد عن مذاكرة الطلاق وطلبه لا يحكم بوقوع الطلاق بأي لفظ كنائي إلا بالنية، وفي حالة الرضا ومذاكرة الطلاق وطلبه: يقع الطلاق من غير توقف على نية في لفظ (اعتدي) وألفاظ (بائن، بتة، خلية، برية) وأما ألفاظ (اذهبي، اخرجي، قومي، اغربي، تقنعي) فتحتاج إلى نية. وأما في حالة الغضب فيقع الطلاق بلفظ (اعتدي) من غير نية، وأما الألفاظ الأخرى فتحتاج إلى نية.
ورأى المالكية والشافعية: أن الكناية لا يقع بها الطلاق إلا بالنية، ولا عبرة بدلالة الحال، فلا يلزمه الطلاق إلا إن نواه، فإن قال: إنه لم ينو الطلاق، قبل قوله في ذلك بيمينه، فإن حلف أنه ما أراد باللفظ الطلاق، لم يقع، وإن امتنع عن اليمين حكم عليه بالطلاق.
واشترط الشافعية في نية الكناية اقترانها بكل اللفظ، فلو قارنت أوله، وغابت عنه قبل آخره، لم يقع طلاق.

(9/6900)


وقسم المالكية والحنابلة (1) الكناية إلى نوعين:
كناية ظاهرة: وهي ما شأنها أن تستعمل في الطلاق وحل العصمة، مثل قوله: أنت بتة، وحبلك على غاربك، ويقع بهما ثلاث طلقات، دخل بها أم لا، ولها حكم الصريح.
وكناية خفية: وهي ما شأنها أن تستعمل في غير الطلاق وحل العصمة، مثل اعتدي، ويقع بها طلقة واحدة إلا إذا نوى أكثر من ذلك في المدخول بها، بل لايقع بها طلاق إلا إذا نواه.
ومن الكناية الظاهرة التي يقع بها ثلاث طلقات في المدخول بها إن لم ينو أقل: ألفاظ: بائنة، وميتة، وخلية، وبرية، ووهبتك لأهلك، وأنت حرام، وخليت سبيلك، ووجهي من وجهك حرام أو على وجهك حرام.
ولو قال الزوج: «أنت طلاق» أو «أنت الطلاق» أو «أنت طالق طلاقاً» فيقع بها عند الحنفية والمالكية والحنابلة (2) طلقة واحدة رجعية إن لم ينو شيئاً، فإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث، وهذه عندهم من الألفاظ الصريحة، لأنه صرح بالمصدر، والمصدر يقع على القليل والكثير، وإنه نوى بلفظه ما يحتمله.
وعند الشافعية (3) في الأصح: ليس قوله: أنت طلاق أو الطلاق، من الألفاظ الصريحة، بل هما كنايتان؛ لأن المصادر إنما تستعمل في الأعيان توسعاً.

ما عدا الصريح والكناية: ذكر المالكية (4) أن ما عدا التصريح والكناية من
_________
(1) الشرح الصغير: 559/ 2 - 567، منار السبيل:217/ 2.
(2) الدر المختار:594/ 2، اللباب: 41/ 3، المغني: 237/ 7، الشرح الصغير: 559/ 2.
(3) مغني المحتاج: 280/ 3.
(4) القوانين الفقهية: ص 229.

(9/6901)


الألفاظ التي لا تدل على الطلاق، كقوله: اسقني ماء أو ما أشبه ذلك: فإن أراد به الطلاق، لزمه على المشهور، وإن لم يرده لم يلزمه.

الطلاق بالكتابة إلى الغائب:
اتفق الفقهاء على وقوع الطلاق بالكتابة على التفصيل التالي:

عبارة الحنفية (1): الكتابة إما مستبينة أو غير مستبينة، والكتابة المستبينة: هي الكتابة الظاهرة التي يبقى لها أثر كالكتابة على الورق والحائط والأرض. والكتابة غير المستبينة: هي التي لا يبقى لها أثر، كالكتابة على الهواء أو على الماء، وكل شيء لا يمكن فهمه وقراءته، وحكمها: أنه لا يقع بها طلاق وإن نوى.
أما الكتابة المستبينة فهي نوعان: كتابة مرسومة: وهي التي تكتب مصدَّرة ومعنونة باسم الزوجة وتوجه إليها كالرسائل المعهودة، كأن يكتب الرجل إلى زوجته قائلاً: إلى زوجتي فلانة، أما بعد فأنت طالق، وحكمها: حكم الصريح إذا كان اللفظ صريحاً، فيقع الطلاق ولو من غير نية.
وأما الكتابة غير المرسومة: فهي التي لا تكتب إلى عنوان الزوجة أو باسمها ولا توجه إليها كالرسائل المعروفة، كأن يكتب الرجل في ورقة: «زوجتي فلانة طالق». وحكمها حكم الكناية ولو كان اللفظ صريحاً، لا يقع بها الطلاق إلا بالنية.
والطلاق بالرسالة، أي بإرسال رسول: هي أن يبعث الزوج طلاق امرأته الغائبة على يد إنسان، فيذهب الرسول إليها ويبلغها الرسالة على النحو المكلف
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 589/ 2.

(9/6902)


به، وحكمها: حكم الطلاق الصريح باللفظ، يقع عليها الطلاق؛ لأن الرسول ينقل كلام المرسل، فكان كلامه ككلامه (1).
وعبارة المالكية (2): من كتب الطلاق عازماً عليه، لزمه إذا لم يكن متردداً فيه، فإن كتب الطلاق عازماً عليه أو لم يكن له نية، لزمه بمجرد كتابة (طالق) وإن لم يكن عازماً الطلاق حال الكتابة، بل كان متردداً أو مستشيراً، فلا يقع ما لم يخرج الكتاب من يده، ويعطيه لمن يوصله، فيصل إليها أو لوليها، فإن أخرجه من يده عازماً الطلاق، فيقع بمجرد إنفاذه، ولو لم يصل. وإن أخرجه غير عازم ولم يصل، فالأرجح عدم اللزوم.
ويلزم الطلاق بمجرد إرساله مع رسول ولو لم يصل، فمتى قال للرسول: أخبرها بأني طلقتها، لزمه الطلاق.
والخلاصة: أن العبرة عندهم في كتاب الطلاق النية.
وقال الشافعية (3) مثل المالكية: إذا كتب رجل طلاق امرأته بلفظ صريح ولم ينوه، فهو لغو لم يقع به الطلاق؛ لأنه الكتابة تحتمل إيقاع الطلاق وتحتمل امتحان الخط، فلم يقع الطلاق بمجردها. وإن نوى الطلاق فالأظهر وقوعه، ولا يقع الطلاق بالكتابة إلا في حق الغائب.
وإن كتب شخص في كتاب طلاق زوجته صريحاً أو كناية، ونوى الطلاق، ولكنه علق الطلاق ببلوغ الكتاب، كقوله: (إذا بلغك كتابي، فأنت طالق). فإنما تطلق ببلوغه لها، مكتوباً كله، مراعاة للشرط. فإن انمحى كله قبل وصوله، لم تطلق، كما لوضاع.
_________
(1) البدائع: 126/ 3.
(2) القوانين الفقهية: ص 230، الشرح الصغير: 568/ 2.
(3) المهذب: 83/ 2، مغني المحتاج: 284/ 3 وما بعدها.

(9/6903)


وإن كتب الرجل: إذا قرأت كتابي فأنت طالق، وكانت تقرأ، فقرأته طلقت، لوجود المعلَّق عليه. وإن قرئ عليها فلا تطلق في الأصح، لعدم قراءتها مع إمكان القراءة. وإن لم تكن قارئة، فقرئ عليها، طلقت؛ لأن القراءة في حق الأمي محمولة على الاطلاع على ما في الكتاب، وقد وجد، بخلاف القارئة.
وكذلك قال الحنابلة (1) مثل الشافعية والمالكية: إذا كتب الرجل الطلاق، فإن نواه طلقت زوجته؛ لأن الكتابة حروف يفهم منها الطلاق، فإذا أتى فيها بالطلاق، وفهم منها المراد، ونواه، وقع كالطلاق باللفظ، ولأن الكتابة تقوم مقام الكاتب، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان مأموراً بتبليغ رسالته، فحصل المقصود في حق البعض بالقول، وفي حق آخرين بالكتابة إلى ملوك الأطراف، ولأن كتاب القاضي يقوم مقام لفظه في إثبات الديون والحقوق.
وإن كتب الطلاق من غير نية، قيل: يقع، وقيل: لا يقع إلا بنية، وهو الظاهر.
وإن كتب بشيء لا يبين مثل: أن يكتب الطلاق بأصبعه على وسادة أو في الهواء، فظاهر كلام أحمد أنه لا يقع.
ورأيهم كالشافعية تماماً في اشتراط وصول الكتاب دون أن ينمحي ذكر الطلاق، إذا علق الطلاق ببلوغه، وفي تعليقه بالقراءة.
والخلاصة: يقع الطلاق عند الجمهور بالكتابة مع النية، ويقع عند الحنفية في الكتابة المرسومة كالصريح، وفي غير المرسومة كالكناية تحتاج إلى نية. ولا يقع الطلاق بالكتابة على الماء أو الهواء ونحوه بالاتفاق.
_________
(1) المغني: 239/ 7 وما بعدها، غاية المنتهى: 158/ 3.

(9/6904)


ومن طلق في قلبه لم يقع، وإن تلفظ به أو حرك لسانه، وقع ولو لم يسمعه.

الطلاق بالإشارة:
اتفق الفقهاء (1) على وقوع الطلاق بالإشارة المفهمة بيد أو رأس، المعهودة عند العجز عن النطق، كالأخرس ونحوه، دفعاً للحاجة، فإذا طلق الأخرس بالإشارة طلقت زوجته.
لكن قال الحنفية: إذا كان الأخرس يحسن الكتابة، لا تجوز إشارته.
أما الناطق القادر على الكلام، فلا يصح عند الجمهور طلاقه بالإشارة، كما لا يصح نكاحه بها، فلا يقع الطلاق بالإشارة إلا في حق الأخرس، وقال المالكية: إشارة القادر على الكلام كالكناية تحتاج إلى نية، ويصح بها حينئذ الطلاق.

صيغة الطلاق في القانون السوري:
نصت المادة (1/ 87) من هذا القانون على ما يلي: يقع الطلاق باللفظ وبالكتابة ويقع من العاجز عنها بإشارته المعلومة.
ومعناها: أن الطلاق يقع بنفس الأسلوب الذي ينعقد به الزواج:
1 - يقع بالألفاظ الصريحة بوضع اللغة أو الموضوعة عرفاً للدلالة على الطلاق.
2 - ويقع بالكتابة، كأن يكتب لزوجته كتاباً يخبرها فيه بطلاقه لها.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 584/ 2، القوانين الفقهية: ص 230، الشرح الصغير: 568/ 2، مغني المحتاج: 284/ 3، المهذب: 83/ 2، المغني: 238/ 7 وما بعدها.

(9/6905)


3 - ويقع من الأخرس أو معتقل اللسان بالإشارة الواضحة التي تدل على إيقاع الطلاق في إشارات الخرس، إذا كان عاجزاً عن الكتابة.
وأخذ القانون السوري برأي الحنفية في أن الطلاق يقع بلفظ صريح يدل عليه لغة، كقوله: أنت طالق، أو عرفاً كقوله: أنت علي حرام، وبألفاظ الكناية مع النية، ونصت المادة (93) على ذلك: «يقع الطلاق بالألفاظ الصريحة فيه عرفاً دون حاجة إلى نية، ويقع بالألفاظ الكنائية التي تحتمل معنى الطلاق وغيره بالنية».

قدر الطلاق:
عدد الطلاق (1): هو طلقة واحدة واثنتان وثلاث، فإن صدر الطلاق مطلقاً، أي بالصيغة فقط، كأن قال الرجل: طلقتك أو أنت طالق، وقعت طلقة واحدة، عملاً بمقتضى الصيغة عند الحنفية، ويقع ما نواه عند الجمهور. وإن نوى بكلامه عدداً معيناً كواحدة أو اثنتين، أو صرح بعدد قرن بالطلاق، وقع ما نواه أو ما صرح به من العدد، فلو ماتت المرأة قبل تمام العدد، لغا الطلاق عند الحنفية؛ لأن الوقوع بالعدد، ولو مات الزوج أو أخذ أحد فمه قبل ذكر العدد، وقع الطلاق واحدة عملاً بالصيغة؛ لأن الوقوع بلفظه لا بقصده. وقال الشافعية أيضاً: لو ماتت المرأة قبل تمام كلمة (طالق) لم يقع شيء.
وتنفذ الطلقات الثلاث بالاتفاق، سواء طلق الرجل المرأة واحدة بعد واحدة، أم جمع الثلاث في كلمة واحدة بأن قال: أنت طالق ثلاثاً، عند الجمهور خلافاً للظاهرية.
_________
(1) الدر المختار: 588/ 2، 627، القوانين الفقهية: ص 226، مغني المحتاج: 294/ 3، المغني: 229/ 7، 278، 280، غاية المنتهى: 127/ 3.

(9/6906)


والمعول عليه عند الحنفية اعتبار عدد الطلاق بالنساء، فطلاق الحرة ثلاث، وطلاق الأمة ثنتان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حيضتان» (1).
وعند الجمهور: المعتبر هو الرجال، فللعبد طلقتان، وللحر ثلاث طلقات، لما روى الدارقطني مرفوعاً: «طلاق العبد اثنتان» وروي عن عثمان وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهما من الصحابة، كما روى الشافعي.
والإسلام في أمر الزواج والطلاق التزم الحق والاعتدال، وصحح أخطاء الجاهلية، فقد كان النكاح في الجاهلية أربعة أنحاء (2): النكاح المعروف بعقد بعد خطبة، ونكاح الاستبضاع أي طلب الزوجة المباضعة وهو الجماع من رجل آخر بطلب زوجها، ونكاح الرهط دون العشرة، ثم تلحق المرأة الولد بمن أحبت منهم، ونكاح البغايا، ثم إلحاق الولد بواحد من الزناة بالقافة (3).
وأما الطلاق، فلم يكن مقيداً بعدد في الجاهلية، قالت عائشة رضي الله عنها: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلق، وهي امرأته، إذا راجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مئة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك، فتبينين مني، ولا آويك أبداً، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك، راجعتك، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فأنزل الله عز وجل: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان} (4) [البقرة:229/ 2]. دلّت الآية على أن عدد الطلقات ثلاث، وجعلت للزوج حق مراجعة زوجته بعد الطلقة
_________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن عائشة مرفوعاً، وقال الترمذي: حديث غريب، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وغيرهم.
(2) رواه البخاري وأبو داود عن عروة عن عائشة (نيل الأوطار: 158/ 6).
(3) القافة جمع قائف: وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد بالآثار الخفية.
(4) تفسير ابن كثير: 271/ 1.

(9/6907)


الأولى والثانية، وبه حمى الإسلام المرأة من الضرر الذي كان يلحق بها، وراعى مصلحة الرجل حيث جعل للزوج حق الطلاق ثلاث مرات، وحرص الشرع على إبقاء العشرة بين الزوجين من طريق المراجعة مرتين فقط، لتحقق الكفاية فيهما لتدارك ما فرط، فقد يطلق الرجل لغضب سريع ثم يندم، وقد يطلق لسبب ثم يزول السبب، وقد يطلق لسوء عشرة المرأة، فتتألم من الفراق، وقد يكون لها أولاد، فتحرم من رؤيتهم، أو تتضايق من تربيتهم.
واشتراط التحليل، أي الزواج برجل آخر، لحل رجوع المرأة إلى المطلِّق بعد الطلقة الثالثة، يحمل الزوج على الإمساك عن إيقاع الطلقة الثالثة، ويدفعه إلى الحرص على إبقاء الزوجية؛ لأن الرجل بحكم الغَيرة والحمية يأنف من مثل هذا الفعل، فكأنه في حكم الباب المسدود، وكأنه إحالة على شيء عسير الحصول بعيد التحقق.

ماالذي تعود به المرأة بعد التحليل؟ من طلق طلقة واحدة أو اثنتين، فنكحها زوج غيره، ودخل بها، ثم نكحها الأول، بنى الأول عند المالكية والشافعية والحنابلة (1) على ما كان من عدد الطلقات، أي فتعود إليه بما بقي له من الطلاق، فلو طلقها ثلاثاً ثم نكحها بعد زوج غيره، استأنف عدد الطلقات كنكاح جديد، أي فتعود له بطلقات ثلاث: لأن الزواج الثاني لا يهدم ما دون الثلاث، ويهدم الثلاث؛ لأن وطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول فيما دون الثلاث، فلا يغير حكم الطلاق، ولأنه تزويج قبل استيفاء الثلاث، فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني. وهذا رأي محمد أيضاً؛ لأنه لا إنهاء للحرمة قبل الثبوت.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 226، مغني المحتاج: 293/ 3، المغني: 261/ 7.

(9/6908)


وقال أبو حنيفة وأبو يوسف (1): الزواج الثاني يهدم مطلقاً، فتعود بطلقات ثلاث للزوج الأول، سواء أكان زواجها بزوج ثان بعد الطلقتين أم بعد الثلاث؛ لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلاً يتسع لثلاث تطليقات كما يتسع لما دون الثلاث؛ لأن الوطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث، فأولى أن يهدم ما دونها، وقد سمى النبي صلّى الله عليه وسلم الزوج الثاني محلِّلاً، وهو المثبت للحل، في حديث: «لعن الله المحلل والمحلل له» (2).

عدد الطلاق في بعض الألفاظ:
اتفق الفقهاء على أن الطلاق لا يقع بالنية من غير لفظ، واللفظ الصادر عن المطلِّق متنوع، يتحدد عدد الطلاق فيه إما بالنية أو بالصيغة أو بالعدد المقترن به صراحة. وهذه نماذج يعرف بها عدد الطلاق بالإضافة لما سبق بيانه.

1 ً - اللفظ المُطْلَق: إذا خاطب الرجل امرأته بقوله: أنت طالق أو بائن أو بتة: ففي رأي المالكية والشافعية والحنابلة (3): يقع ما نواه، فإن نوى طلقتين أو ثلاثاً، وقع، لما روي أنه رُكانَة بن عبد يزيد طلق امرأته سُهَيْمة البتة، فأخبر النبيَّ صلّى الله عليه وسلم بذلك، فقال: والله ما أردتُ إلا واحدةً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: والله ما أردتَ إلا واحدة؟ قال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب، والثالثة في زمن عثمان (4).
_________
(1) فتح القدير: 178/ 3.
(2) روي من حديث ابن مسعود عند الترمذي والنسائي، وحديث علي عند أبي داود والترمذي وابن ماجه، وحديث جابر عند الترمذي، وحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجه، وحديث أبي هريرة عند أحمد والبزار، وحديث ابن عباس عند ابن ماجه، كلها بلفظ «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له» إلا حديث عقبة فهو بلفظ: «لعن الله المحلل والمحلل له» (نصب الراية: 238/ 3 - 240).
(3) المهذب: 84/ 2، غاية المنتهى: 127/ 3، الشرح الصغير: 560/ 2.
(4) رواه الشافعي وأبو داود والترمذي، وقال أبو داود: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضاً ابن حبان والحاكم (نيل الأوطار: 226/ 6).

(9/6909)


وفي رأي الحنفية (1): يقع الطلاق عند عدم العدد بالصيغة، وقول الرجل: أنت طالق البتة، من كنايات الطلاق التي يقع بها الطلاق عندهم بائناًً؛ لأنه اقترن بوصف الشدة أو القوة أو بما يفيد البينونة.

2 - تحديد المقصود بالإشارة: إن قال الرجل لامرأته: أنت طالق هكذا، وأشار بثلاث أصابع، وقع الثلاث عند الشافعية والمالكية والحنابلة (2)؛ لأن الإشارة بالأصابع مع قوله (هكذا) بمنزلة النية في بيان العدد. وإن قال: أردت بعدد الأصبعين المقبوضتين، قبل قوله؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. ولوقال: أنت طالق وأشار بالأصابع، ولم يقل (هكذا) وقال: أردت واحدة ولم أرد العدد فهي واحدة، أي يقبل قوله؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
وكذلك يقع ثلاثاً بالإشارة عند الحنفية (3)؛ لأن الطلاق الثلاث يقع عندهم إذا كان مقروناً بعدد الثلاثة نصاً أو إشارة، أو موصوفاً بصفة تنبئ عن البينونة أو ما يدل عليها.

3 - واحدة في اثنتين: قرر الشافعية عملاً بمبدئهم في تحكيم النية (4): إن قال الرجل: أنت طالق واحدة في اثنتين، فإن نوى طلقة واحدة مع اثنتين، وقعت ثلاث؛ لأن (في) تستعمل بمعنى (مع) لقوله عز وجل: {فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} [الفجر:29/ 89 - 30] أي مع عبادي. فإن لم يكن له نية: فإن لم يعرف الحساب ولا نوى مقتضاه في الحساب، طلقت طلقة واحدة بقوله: (أنت طالق) ولا يقع بقوله: (في اثنتين) شيء؛ لأنه لا يعرف مقتضاه، فلم يلزمه حكمه
_________
(1) الدر المختار: 617/ 2، 627.
(2) المهذب: 84/ 2، غاية المنتهى: 128/ 3.
(3) رد المحتار: 592/ 2، 615.
(4) المهذب: 84/ 2.

(9/6910)


كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهو لا يعرف معناه. وإن نوى مقتضاه في الحساب وهو غير عالم به، فالمذهب أنه لا يقع إلا طلقة واحدة؛ لأنه إذا لم يعلم مقتضاه، لم يلزمه حكمه كالأعجمي إذا طلق بالعربية، وهولا يعلم وقال: أردت مقتضاه في العربية. فإن كان عالماً بالحساب: فإن نوى موجبه في الحساب، طلقت طلقتين لأنه موجبه في الحساب طلقتان. وإن لم يكن له نية، فالمنصوص أنها تطلق طلقة؛ لأن هذا اللفظ غير متعارف عند الناس، ويحتمل طلقة في طلقتين واقعتين، ويحتمل طلقة في طلقتين باقيتين، فلا يجوز أن يوقع بالشك.
ومذهب الحنفية (1): يقع بقوله: (واحدة في ثنتين) طلقة واحدة إن لم ينو أو نوى الضرب؛ لأنه يكثر الأجزاء لا الأفراد، وإن نوى واحدة وثنتين فيقع ثلاثاً في المدخول بها، وواحدة في غير المدخول بها.

4 - طالق طلقة بل طلقتان: رأى الشافعية (2): أنه إن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتان، ففيه وجهان: أحدهما ـ يقع طلقتان، كما إذا قال: له علي درهم، بل درهمان، لزمه درهمان. والوجه الثاني ـ يقع الثلاث؛ لأن الطلاق إيقاع، فلا يجوز أن يوقع الطلاق الواحد مرتين، فحمل على طلاق مستأنف.
5 - اقتران الطلاق بلفظ الثلاث، وتكراره:
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة والظاهرية (3) على أنه إذا قال الرجل لغير المدخول
_________
(1) الدر المختار: 603/ 2.
(2) المرجع السابق.
(3) المهذب: 84/ 2، اللباب: 49/ 3، الدر المختار: 632/ 2، القوانين الفقهية: ص 229، مغني المحتاج: 297/ 3، المغني: 233/ 7 - 235، المحلى: 213/ 10، مسألة 1951، و1952.

(9/6911)


بها:
«أنت طالق ثلاثا» وقع الثلاث؛ لأن الجميع صادف الزوجية، فوقع الجميع، كما لو قال ذلك للمدخول بها.
واتفقوا أيضاً على أنه إن قال الزوج لامرأته: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» وتخلل فصل (1) بينها، وقعت الثلاث، سواء أقصد التأكيد أم لا؛ لأنه خلاف الظاهر. وإن قال: قصدت التأكيد صدق ديانة، لا قضاء.
وإن لم يتخلل فصل: فإن قصد تأكيد الطلقة الأولى بالأخيرتين، فتقع واحدة؛ لأن التأكيد في الكلام معهود لغة وشرعاً. وإن قصد استئنافاً أو أطلق (بأن لم يقصد تأكداً ولا استئنافاً) تقع الثلاث، عملاً بظاهر اللفظ.
وكذا تطلق ثلاثاً إن قالت: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، أو عطف بالواو أو بالفاء.

6 - تطليق الجماعة: لو قال الرجل لنسائه الأربع: أوقعت عليكن أو بينكن طلقة، فمذهب الحنفية والشافعية (2): طلقت كل واحدة منهن طلقة؛ لأنه يخص كل واحدة منهن ربع طلقة، وتكمل بالسراية. وكذا إن قال: بينكن تطليقتان أو ثلاث أو أربع، وقع على كل واحدة طلقة، إلا أن ينوي قسمة كل واحدة منهن، بأن قال: أردت أن يقع على كل واحدة من الطلقتين، وقع على كل واحدة طلقتان، وإن قال: أردت أن يقع على كل واحدة من الثلاث الطلقات، فتطلق كل واحدة ثلاثاً؛ لأنه مقر على نفسه بما فيه تغليظ، واللفظ محتمل له.
وإن قال: بينكن خمس طلقات، وقع على كل واحدة طلقتان، وهكذا إلى
_________
(1) المراد بالفصل: أن يسكت فوق سكتة النفَس.
(2) الدر المختار: 630/ 2 وما بعدها، المهذب: 85/ 2.

(9/6912)


ثمان تطليقات. فإن زاد عليها، بأن قال: أوقعت عليكن تسعاً، طلقت كل واحدة ثلاثاً.
وإن قال: أوقعت بينكن نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة، طلقت كل واحدة ثلاثاً؛ لأنه لما عطف وجب أن يقسم كل جزء من ذلك بينهن، ثم يكمل.
أما إن قال الرجل لنسائه: إحداكن طالق أو قال لإحدى امرأتيه: إحداكما طالق، طلقت واحدة، ويرجع إلي تعيينه اتفاقاً (1).

7 - الطلاق ملء الدنيا أوأشد الطلاق: مذهب الشافعية والحنابلة (2): إن قال الرجل لامرأته: أنت طالق ملء الدنيا، أو أنت طالق أطول الطلاق أو أعرضه، وقعت طلقة؛ لأن شيئاً مما ذكر لا يقتضي العدد، وقد تنصف الطلقة الواحدة بالمذكور كله.
وإن قال: أنت طالق أشد الطلاق وأغلظه، وقعت طلقة؛ لأنه قد تكون الطلقة أشد وأغلظ عليه، لتعجلها أو لحبه لها أو لحبها له، فلم يقع ما زاد بالشك. ومذهب الحنفية: تقع طلقة واحدة بائنة.
وإن قال: أنت طالق كل الطلاق أو أكثره، وقع الثلاث؛ لأنه كل الطلاق وأكثره، وهذا متفق عليه.
وإن قال: أنت طالق على مذهب السنة والشيعة واليهود والنصارى، أو على سائر المذاهب، أو أنت طالق لا يردك عالم ولا قاض، وقعت واحدة رجعية. وهذا باتفاق المذاهب (3).
_________
(1) المغني: 340/ 6.
(2) غاية المنتهى: 129/ 3، المهذب: 85/ 2.
(3) الدر المختار: 618/ 2، 631، 633.

(9/6913)


8 - طلقة قبل طلقة أو بعدها طلقة:
يرى الشافعية (1): أنه لو قال: (طلقة قبل طلقة) أو (بعدها طلقة) أو (طلقة بعد طلقة) أو (قبلها طلقة) فتقع طلقتان في المدخول بها، وطلقة في غير المدخول بها، إذ مقتضاه في المدخول بها إيقاع طلقتين: إحداهما في الحال، وتعقبها الأخرى، أما في غير المدخول بها فتبين في الطلقة الأولى، فلم تصادف الثانية محلاً وهوالنكاح.
ولو قال: (طلقة في طلقة) وأراد (مع) فيقع طلقتان كما في قوله تعالى: {ادخلوا في أمم} [الأعراف:38/ 7]، وإن أراد الظرف أو الحساب، أو أطلق، فتقع طلقة واحدة في الجميع، إذ مقتضى الظرف والحساب واحدة.
ولو قال: (أنت طالق نصف طلقة) فتقع طلقة بكل حال من إرادة المعية أو الظروف أو الحساب أو عدم إرادة شيء؛ لأن الطلاق لا يتجزأ.
ولو قال: (أنت طالق طلقة في طلقتين) وقصد بـ (في) معية، فتقع ثلاث، وإن قصد ظرفاً فواحدة، أو حساباً وعرفه، فثنتان. وإن جهله وقصد معناه فطلقة.
ويتفق الحنابلة (2) مع الشافعية في قول الرجل: (أنت طالق طلقة قبلها طلقة) ونحوه، يقع طلقتان في المدخول بها، وطلقة في غير المدخول بها. وإن قالت: (أنت طالق طلقة بعدها طلقة) وقال: أردت أني أوقع بعضها طلقة، يصدق ديانة، وهل يصدق قضاءً؟ خلاف، الصحيح أنه إن وجد له طلاق في نكاح آخر، أو من زوج قبله، صدق، وإن لم يوجد لا يقبل قوله؛ لأنه لا يحتمل ما قاله.
_________
(1) مغني المحتاج: 297/ 3 وما بعدها، المهذب: 86/ 2.
(2) المغني: 231/ 7 وما بعدها.

(9/6914)


ووافق الحنفية (1) الشافعية أيضاً في قول الرجل: (أنت طالق واحدة قبلهاواحدة) أو قال: (واحدة بعد واحدة) أو (مع واحدة أو معها واحدة) تقع طلقتان؛ لأن في المثال الأول الملفوظ به أولاً موقع آخراً؛ لأنه أوقع واحدة، وأخبر أن قبلها واحدة سابقة، فوقعتا معاً؛ لأن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال. وفي المثال الثاني أوقع في الحالة الأولى طلقة واحدة وأخبر أنها بعد واحدة سابقة، وأما في الحالتين الأخيرتين؛ فلأن (مع) للمقارنة، فكأنه قرن بينهما، فوقعتا.
أما لو قال: (أنت طالق واحدة قبل واحدة) فتقع واحدة؛ لأن الملفوظ به أولاً موقع أولاً، فتقع الأولى لا غير؛ لأنه أوقع واحدة، وأخبر أنها قبل أخرى ستقع، وقد بانت بهذه، فلغت الثانية. وكذا إن قال: (واحدة بعدها واحدة) وقعت واحدة أيضاً؛ لأن الملفوظ به أولاً موقع أولاً، فتقع الأولى لا غير، لأنه أوقع واحدة، وأخبر أن بعدها أخرى ستقع.
وإن قال لها: (إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وواحدة) أو (فواحدة) فدخلت الدار، وقعت عليها واحدة عند أبي حنيفة؛ لأن المعلق بالدخول كالمنجز، في حالة تقديم الشرط. فإن أخر الشرط يقع ثنتان؛ لأن الشرط إذا تأخر بغير صدر الكلام، فيتوقف عليه، فيقعن جملة، أما إن تقدم الشرط فتقع طلقة واحدة، لتعلقها بالشرط دفعة واحدة.
وإذا قال لها: أنت طالق بمكة، فهي طالق في الحال في كل البلاد، وكذلك إن قال: أنت طالق في الدار، تطلق في الحال؛ لأن الطلاق لا يتخصص بمكان دون مكان، كما أبان الحنفية. وإن عنى به (إذا أتيت مكة) يصدق ديانة لا قضاء؛ لأنه نوى الإضمار، وهو خلاف الظاهر.
_________
(1) اللباب مع الكتاب: 49/ 3 وما بعدها، الدرالمختار: 628/ 2.

(9/6915)


وإن قال لها: أنت طالق إذا دخلت مكة، لم تطلق حتى تدخل مكة؛ لأنه علقه بالدخول.
وإن قال لها: أنت طالق غداً، وقع الطلاق عليها بطلوع الفجر؛ لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد، فيقع في أول جزء منه. ولو نوى آخر النهار، صدق ديانة لا قضاء؛ لأنه نوى التخصيص في العموم، وهويحتمله مخالفاً لظاهر الكلام.

9 - الطلاق غير المعين: قال الحنفية (1): لو قال: امرأتي طالق، وله امرأتان أو ثلاث، تطلق واحدة منهن، وله خيار التعيين.
ولو قال: (نساء الدنيا طوالق) لم تطلق امرأته. أما لو قال: نساء المحلة والدار والبيت، فتطلق امرأته، ولو قال: نسائي طوالق، ولا نية له، طلقن كلهن بغير خلاف؛ لأن لفظه عام.
ولو قالت امرأة لزوجها: طلقني، فقال: فعلت أي طلقت بقرينة الطلب، طلقت واحدة. فإن قالت: زدني، فقال: فعلت، طلقت أخرى. ولو قالت: طلقني، طلقني، طلقني، فتقع واحدة إن لم ينو الثلاث. ولو عطفت بالواو، فثلاث؛ لأنه قرينة التكرار، فيطابقه الجواب.
ولو قالت: طلقت نفسي، فأجاز، طلقت؛ لأنه يملك إنشاء الطلاق عليها، فيملك الإجازة التي هي أضعف، بالأولى. وكذا لو قالت: أبنت نفسي، فأجاز، طلقت إن نوى ولو ثلاثاً. أما لو قالت المرأة: اخترت نفسي منك، فقال الزوج: أجزت، ونوى الطلاق، لا يقع شيء؛ لأن قولها (اخترت) لم يوضع للطلاق، لا صريحاً ولا كناية.
_________
(1) الدر المختار: 629/ 2 - 633 وما بعدها، المغني: 169/ 7 - 170.

(9/6916)


10 - عدد الطلاق في ألفاظ الكناية عند المالكية:
الكناية عند المالكية ظاهرة ومحتملة (1):
أما الكناية المحتملة أو الخفية: فهي كقول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك، واذهبي، وابعدي عني وما أشبه ذلك. فهذا لا يلزمه الطلاق إلا إن نواه. فإن قال: إنه لم ينو الطلاق، قبل قوله فيه.
وأما الكناية الظاهرة: فهي التي جرت العادة أن يطلق بها في الشرع أو في اللغة، كلفظ التسريح والفراق، وكقوله: أنت بائن، أو بتة، أو بتلة، وما أشبه ذلك. وحكمها حكم الصريح. وهي سبعة أنواع:
الأول: ما يلزم فيه طلقة واحدة، إلا إن نوى أكثر في المرأة المدخول بها، وهو: (اعتدّي) وأما غير المدخول بها فلا عدة عليها، فإن قال لها: اعتدي، فهو من الكناية الخفية أو المحتملة، لا يقع إلا بنية.
الثاني: ما يلزم فيه الثلاث مطلقاً وهو: بتة، و: حبلك على غاربك.
الثالث: ما يلزم فيه الثلاث في المدخول بها، وواحدة في غيرها إن لم ينو أكثر، فإن نوى ثلاثاً لزمه، أو أقل لزمه ما نواه، وهوأنت طالق واحدة بائنة.
الرابع: مايلزم فيه الثلاث في المدخول بها، وغيرها إن لم ينو أقل، وهي وهبتك لأهلك، أو رددتُك أولا عصمة لي عليك، وأنت حرام، أو خلية لأهلك أي من الزوج، أو ميتة أو كالدم أو كلحم الخنزير، أو بريّة، أو خالصة، أي مني لا عصمة لي عليك، أوبائنة، أو أنا بائن منك، أو خلي أوبري أو خالص، فإن نوى الأقل لزمه ما نواه، وحلف إن أراد نكاحها أنه ما أراد إلا الأقل، لا إن لم يرده.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 229، الشرح الصغير: 560/ 2 - 565.

(9/6917)


الخامس: ما يلزم فيه الثلاث مطلقاً، ما لم ينو أقل، وهو: خليت سبيلك.
السادس: ما يلزم فيه الثلاث في المدخول بها، وينوي في غيرها، وهو (وجهي من وجهك حرام) أو (وجهي على وجهك حرام) فلا فرق بين (من) و (على) ومثله: لا نكاح بيني وبينك، أولا ملك لي عليك، أولا سبيل لي عليك، فيلزمه الثلاث في المدخول بها فقط، إلا إن كان الكلام لعتاب، فلا شيء عليه.
السابع: ما يلزم فيه واحدة مطلقاً سواء دخل أم لا إلا لنية أكثر، وهو: فارقتك، يقع بها طلقة رجعية في المدخول بها.
وكل ذلك ما لم تدل القرائن على عدم إرادة الطلاق، فيصدق الرجل في نفي الطلاق إن دلت القرينة على النفي في جميع الكنايات الظاهرة. والحاصل: أن لفظي (اعتدي وفارقتك) يقع بهما طلقة واحدة، وبقية ألفاظ الكناية الظاهرة المذكورة يقع بها الثلاث.

11 - الطلاق المقيد بالاستثناء:
ذهب علماء المذاهب الأربعة (1): إلى أنه إذا استثنى المطلِّق بلسانه صح، ولم يقع ما استثناه. فإذا قال الرجل لامرأته: (أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة) تطلق طلقتين. وإذا قال: (أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين) طُلِّقت واحدة.
وإذا قال: (أنت طالق البتة إلا ثنتين إلا واحدة) يلزمه اثنتان؛ لأن (البتة) ثلاث، والاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، فأخرج من (البتة) اثنتين، ثم أخرج منهما واحدة، تضم للواحدة الأولى، واشترط الفقهاء لصحة الاستثناء الاتصال في الكلام، أي اتصال لفظ المستثنى بالمستثنى منه عرفاً بحيث يعد كلاماً واحداً، ولا يضر فصل يسير كتنفس ونحوه كسعال وعطاس.
_________
(1) الأحوال الشخصية للأستاذ زكي الدين شعبان: ص 378.

(9/6918)


واشترطوا أيضاً عدم استغراق المستثنى منه، فلو قال: «أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً» لم يصح الاستثناء، وطلقت ثلاثاً بلا خلاف؛ لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثُنيا، ومعناه أنه تكلم بالمستثنى منه.
واشترط الشافعية في الأصح والحنابلة، أن ينوي الاستثناء قبل فراغ اليمين أي قبل تمام المستثنى منه؛ لأن اليمين إنما تعتبر بتمامها. واشترطوا أيضاً في التلفظ بالاستثناء إسماع نفسه عند اعتدال سمعه، فلا يكفي أن ينويه بقلبه من غير أن يسمع نفسه.
وبناء عليه يكون للاستثناء أحوال ثلاثة:

أـ استثناء القليل من الكثير: يصح بالاتفاق، مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، وتقع ثنتان، ومن قال: أنت طالق أربعاً إلا اثنتين، لزمه اثنتان.
ب ـ استثناء العدد بعينه: مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، أو أنت طالق اثنتين إلا اثنتين، طلقت ثلاثاً في الأول، واثنتين في الثاني، وكذا لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقة وطلقة وطلقة، يقع ثلاثاً؛ لأنه استثناء الكل من الكل.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين وواحدة، وقعت واحدة، ويلغو ما حصل به الاستغراق. ولو قال أنت طالق ثلاثاً إلا نصف طلقة، وقعت الثلاث.

جـ ـ استثناء الأكثر من الأقل: مثل أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين، صح الاستثناء عند الجمهور وتقع طلقة واحدة. وقال أحمد في الأصح: الاستثناء لا يصح؛ لأن الاثنتين أكثر الثلاث.
ويصح الاستثناء من الاستثناء مثل: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، ويقع به طلقتان؛ لأن الاستثناء في الأصح ينصرف إلى الملفوظ به؛ لأنه لفظ فيتبع به موجب اللفظ.

(9/6919)


المبحث الثالث ـ قيود إيقاع الطلاق شرعا ً:
قيد الشرع الطلاق بقيود شرعية منعاً للشطط والتسرع، وحفظاً على الرابطة الزوجية؛ لأن هذا الرباط مقدس، يختلف عن كل العقود الأخرى، ولأن الطلاق يؤثر تأثيراً بالغاً في حياة المرأة، فإن جوهر ما تملكه أصبح هدراً، وربما عاشت أيِّما لا تتزوج أبداً، وفي التأيم غالباً مفاسد كثيرة أو تعريض للفساد والشر والمعصية.
فإن توافرت هذه القيود كان الطلاق موافقاً للشرع لا إثم فيه، وإن فقد واحد منها، كان إيقاعه موجباً للإثم والسخط الإلهي.
والقيود ثلاثة (1):
1ً - أن يكون الطلاق لحاجة مقبولة.
2ً - أن يكون في طهر لم يجامعها فيه.
3ً - أن يكون مفرّقاً ليس بأكثر من واحدة.
وأبحث هذه القيود وأثر مخالفتها عند فقهائنا:

أولاً ـ أن يكون الطلاق لحاجة مقبولة شرعاً وعرفاً: يرى الحنفية في أصل المذهب (2) كما تبين سابقاً: أن الأصل في الطلاق هو الإباحة، لإطلاق الآيات القرآنية الواردة فيه، مثل قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236/ 2] وقوله:
_________
(1) فتح القدير: 147/ 3، اللباب: 53/ 3، بداية المجتهد: 80/ 2، الشرح الصغير: 576/ 2 ومابعدها، مغني المحتاج: 300/ 3 ومابعدها، المهذب: 86/ 2 ومابعدها، كشاف القناع: 305/ 5 - 309، المغني: 160/ 7 - 164.
(2) الدر المختار: 571/ 2 وما بعدها، فتح القدير: 21/ 3 - 22.

(9/6920)


{فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، وفعله الصحابة، ولو كان الطلاق محظوراً لما أقدموا عليه.
ونوقشت هذه الأدلة، أما الآية الأولى فهي لبيان إباحة الطلاق قبل الدخول وقبل تسمية المهر، وأما الآية الثانية فبيان وقت الطلاق المفضل شرعاً وهو وقت ابتداء أو استقبال العدة. وأما طلاق حفصة وطلاق بعض الصحابة، فلم يثبت أنه كان لغير حاجة أو سبب يدعو إليه. والظاهر هو أنه لحاجة؛ لأن الطلاق لغير حاجة كفر بنعمة الزواج، وإيذاء محض بالزوجة وأهلها وأولادها.
ويرى الجمهور غير الحنفية منهم الكمال بن الهمام وابن عابدين (1): أن الأصل في الطلاق هو الحظر والمنع وخلاف الأولى، والأولى أن يكون لحاجة كسوء سلوك الزوجة أوإيذائها أحداً، لما فيه من قطع الألفة، وهدم سنة الاجتماع، والتعريض للفساد، ولقوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء:34/ 4] وللحديث السابق: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» (2) ففيه دليل على أن سؤال المرأة الطلاق من زوجها محرم عليها تحريماً شديداً؛ لأن من لم يرح رائحة الجنة غير داخل إليها أبداً، وكفى بذنب يبلغ بصاحبه إلى ذلك المبلغ مشيراً إلى خطورته وشدته، كما قال الشوكاني (3).
وهذا هو الراجح لاتفاقه مع مقاصد الشريعة، ولمخاطر الطلاق المتعددة، قال ابن عابدين: الأصل في الطلاق الحظر، بمعنى أنه محظور إلا لعارض يبيحه،
_________
(1) الدسوقي: 361/ 2، المهذب: 78/ 2، كشاف القناع: 261/ 5، المغني: 97/ 7 وما بعدها.
(2) وفي حديث آخر رواه الطبراني عن أبي موسى: «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله لايحب الذواقين ولا الذواقات» لكنه ضعيف.
(3) نيل الأوطار: 221/ 6.

(9/6921)


والإباحة للحاجة إلى الخلاص، فإذا كان بلا سبب أصلاً لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقاً، وسفاهة رأي، ومجرد كفران النعمة، وإخلاص الإىذاء بها وبأهلها وأولاده.
وإذا وجدت الحاجة المبيحة وهي أعم من الكبَر والريبة، أبيح الطلاق، وعليها يحمل ما وقع منه صلّى الله عليه وسلم ومن أصحابه وغيرهم من الأئمة، صوناً لهم من العبث والإيذاء بلا سبب.

أثر مخالفة هذا القيد: إذا حدث الطلاق من غير حاجة أو سبب يدعو إليه، فإنه يقع بالاتفاق، ولكن المطلِّق يأثم؛ لأن الحاجة قد تكون تقديرية، أو نفسية خفية لا تخضع للإثبات الظاهر في القضاء، وقد تكون مما يجب ستره، حفظاً لسمعة المرأة ومنعاً من التشهير بها. لهذا كان الأصح ألا يحكم على الرجل بتعويض مادي للمطلقة، بسبب كون الطلاق تعسفاً، ويكتفى بما يقرره الشرع بدفع مؤخر الصداق، ونفقة العدة، والمتعة التي هي تعويض عن الضرر الناجم عن الطلاق.
ثانياً ـ أن يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه: هذا القيد متفق عليه بين الفقهاء (1)، فإذا أوقع الزوج الطلاق في حال الحيض أو النفاس، أو في طهر جامعها فيه، كان الطلاق عند الجمهور حراماَ شرعاً وعند الحنفية مكروهاً تحريمياً، وهو المسمى طلاقاً بدعياً، واقتصر المالكية على القول بتحريم الطلاق في الحيض أو النفاس، ويكره في غيرهما. ودليل هذا القيد: أن ابن عمر طلق امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «مُرْه،
_________
(1) فتح القدير: 28/ 3 - 34، الشرح الصغير: 537/ 2، مغني المحتاج: 307/ 3 ومابعدها، المغني: 98/ 7 - 103.

(9/6922)


فليراجعها أو ليطلّقْها طاهراً أو حاملاً» (1). وفي رواية عنه: «أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلّى الله عليه وسلم، فتغيَّظ فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال: ليراجعْها، ثم يمسكْها حتى تطهُر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلّقها، فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله تعالى». وفي لفظ: «فتلك العدة التي أمر الله أن يُطلَّق لها النساء» فهو يدل على أن الطلاق جائز حال الطهر الذي لم يجامع فيه.
وهذا متفق مع الآية القرآنية: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] أي مستقبلات عدتهن.
والسبب هو عدم إطالة العدة على المرأة، ففي الطلاق في أثناء الحيض أو في طهر جامعها فيه ضرر بالمرأة بتطويل العدة عليها؛ لأن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحتسب من العدة، وزمان الحيض زمان النفرة، وبالجماع مرة في الطهر تفتر الرغبة.
وبه يتبين أن الطلاق البدعي يكون للمرأة التي دخل بها زوجها، وكانت ممن تحيض، أما التي لم يدخل بها الزوج أو كانت حاملاً أو لا تحيض، فلا يكون طلاقها بدعياً قبيحاً شرعاً، قال ابن عباس: الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام، فأما اللذان هما حلال: فأن يطلق الرجل امرأته طاهراً من غير جماع، أو يطلقها حاملاً مستبيناً حملها، وأما اللذان هما حرام: فأن يطلقها حائضاً أو يطلقها عند الجماع، لا يدري، اشتمل الرحم على ولد أم لا (2).

أثر مخالفة هذا القيد: يقع الطلاق باتفاق المذاهب الأربعة في حال الحيض أو في حال الطهر الذي جامع الرجل امرأته فيه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بمراجعة
_________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عمر (نيل الأوطار: 221/ 6).
(2) رواه الدارقطني (المرجع السابق: ص 222).

(9/6923)


امرأته التي طلقها، وهي حائض، والمراجعة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق، ويؤيده رواية: «وكان عبد الله طلَّق تطليقة، فحسبت من طلاقها».
وقال الشيعة الإمامية والظاهرية وابن تيمية وابن القيم (1): يحرم الطلاق في أثناء الحيض أو النفاس أو في طهر وطئ الرجل زوجته فيه، ولا ينفذ هذا الطلاق البدعي، بدليل ما يأتي:
1ً - ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عمر بلفظ: «طلق عبد الله ابن عمر امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردها علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يرها شيئاً». وهذا الحديث صحيح كما صرح به ابن القيم وغيره.
ونوقش بأنه قد أعل هذا الحديث بمخالفة أبي الزبير لسائر الحفاظ، وقال ابن عبد البر: قوله «ولم يرها شيئاً»: منكر لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف إذا خالفه من هو أوثق منه، ولو صح فمعناه عندي ـ والله أعلم ـ ولم يرها شيئاً مستقيماً، لكونها لم تكن على السنة.
وقال الخطابي: وقد يحتمل أن يكون معناه: ولم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئاً جائزاً في السنة.
2ً - حديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) والطلاق في حال الحيض مخالف لأمر الشارع، فيكون مردوداً لا أثر له. ونوقش بأن المردود هو بسبب مخالفة ركن أو شرط من أركان أو شروط العمل. وأما المخالفة بسبب تطويل العدة أو عدم وجود الحاجة إلى الطلاق، فليس أحدهما ركناً أو شرطاً للطلاق، فلا تستوجب الرد وعدم وقوع الطلاق.
_________
(1) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 221، نيل الأوطار: 226/ 6، المحلى: 197/ 10، مسألة 1949، 1953.
(2) رواه مسلم وأحمد عن عائشة، وهو صحيح شامل لكل مسألة مخالفة لما عليه أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم.

(9/6924)


3ً - هذا الطلاق منهي عنه شرعاً غير مأذون فيه، فلا يكون مملوكاً للزوج كالوكيل بالطلاق إذا خالف أمر الموكل، فإن طلاقه لا يقع، والمنهي عنه لذاته أو لجزئه أو لوصفه اللازم يقتضي الفساد، والفاسد لا يثبت حكمه.
وأجيب بأن النهي عن الطلاق في الحيض ونحوه ليس راجعاً إلى نفس الطلاق، ولا إلى صفة من صفاته، وإنما هو راجع إلى أمر خارج عن المنهي عنه، وهو عدم الحاجة إلى الطلاق، أو ما يترتب عليه من إيذاء الزوجة بإطالة العدة، والنهي لأمر خارج عن المنهي عنه لا يدل على فساده إذا وقع، كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة. والقياس على الوكيل قياس مع الفارق؛ لأن الوكيل في الطلاق مجرد سفير ومعبر عن الموكل، فلا يملك غير ما فوض إليه، أما الزوج فلا يوقع الطلاق نيابة عن غيره ولا عن الله عز وجل، وإنما يوقعه عن نفسه.
4ً - هناك مرجحات لهذا الرأي بعدم الوقوع من القرآن، منها قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] والمطلق في حال الحيض أو الطهر الذي وطئ فيه، لم يطلق لتلك العدة التي أمر الله بتطليق النساء لها، وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
ومنها قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2] ولم يرد إلا المأذون، فدل على أن ما عداه ليس بطلاق، لما في هذا التركيب من الصيغة الصالحة للحصر أي تعريف المسند إليه باللام الجنسية.
ومنها قوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:231/ 2] ولا أقبح من التسريح الذي حرمه الله.
وأقول: إن هذه إرشادات لما هو الأفضل، وليس فيها دلالة على عدم وقوع الطلاق، بل المقرر في السنة وقوع الطلاق، مع مخالفة هذه الإرشادات.

(9/6925)


وفي تقديري أن رأي الجمهور أرجح، لضعف أدلة الفريق الثاني، وقد اتفق الجمهور على أن الزوج يؤمر بمراجعة الزوجة إن طلق في الحيض أو في طهر جامعها فيه، وهذه المراجعة واجبة عند المالكية، وفي الأصح عند الحنفية، وإذا امتنع الزوج عن المراجعة أجبره الحاكم في رأي المالكية عليها بالحبس أو بالضرب حتى يراجع، فإن لم يراجعها ارتجعها الحاكم عليه. ولا يقول الحنفية بصحة الرجعة من الحاكم، وإنما للحاكم معاقبة الزوج إن لم يرتجع بما يراه زاجراً؛ لأن كل معصية لا حد ولا كفارة فيها، فالواجب فيها التعزير. وتستحب المراجعة عند الشافعية والحنابلة، ولا تجب؛ لأن الزوج بالرجعة يزيل المعنى الذي حرم الطلاق، ولأنه طلاق لا يرتفع بالرجعة، فلم تجب عليه الرجعة فيه.

ثالثاً ـ أن يكون الطلاق مفرقاً ليس بأكثر من واحدة: اتفق الفقهاء (1) على أن الطلاق السني المشروع هو الواقع بالترتيب مفرقاً، الواحد بعد الآخر، لا بإيقاع الثلاث دفعة واحدة، لظاهر قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2] أي أن الطلاق المباح ما كان مرة بعد مرة، فإذا جمع الرجل الطلقات الثلاث بكلمة واحدة، أو بألفاظ متفرقة في طهر واحد، يكون بدعياً محظوراً في قول الحنفية والمالكية وابن تيمية وابن القيم. ولا يحرم ولا يكره عند الشافعية والحنابلة في الراجح من الروايات، وكذا عند أبي ثور وداود الظاهري، وإنما يكون تاركاً للاختيار والفضيلة.
_________
(1) فتح القدير: 35/ 3، بداية المجتهد: 60/ 2 ومابعدها، المهذب: 78/ 2، مغني المحتاج: 311/ 3 ومابعدها، المغني: 104/ 7.

(9/6926)


ويؤيد الرأي الأول ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان، ثم قال: «أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم، حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله، ألا أقتله» (1) ويؤكده ما سبق معرفته عند جمهور الفقهاء أن الأصل في الطلاق الحظر، ولكنه أبيح للحاجة الاستثنائية لتنافر الطباع وتباين الأخلاق أو لغيرها من الأسباب، وتتحقق الحاجة بالطلقة الواحدة، ويتمكن بعدها من مراجعة زوجته عند الندم، وهو الغالب.

أثر مخالفة هذا القيد:
إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً بكلمة واحدة أو بكلمات في طهر واحد، يكون آثماً مستحقاً لعقوبة يراها القاضي، لكن الطلاق يقع ثلاثاً في المذاهب الأربعة.
أقوال الفقهاء في الطلاق الثلاث بلفظ واحد:

للفقهاء آراء ثلاثة في جمع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وهي (2):
الأول ـ قول الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة والظاهرية: يقع به ثلاث طلقات، وهو منقول عن أكثر الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون غير أبي بكر، والعبادلة الأربعة (ابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وابن مسعود) وأبو هريرة وغيرهم، ومنقول عن أكثر التابعين، لكن لا يسن أن يطلق الرجل أكثر من واحدة
_________
(1) قال ابن كثير: إسناده جيد، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: رواته موثوقون (نيل الأوطار: 227/ 6).
(2) المراجع السابقة، المختصر النافع: ص 222، المحلى: 204/ 10، مسألة 1949. أعلام الموقعين: 41/ 3 - 52.

(9/6927)


عند الحنفية والمالكية كما تقدم؛ لأن طلاق السنة: هو أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تنقضي عدتها.

الثاني ـ قول الشيعة الإمامية: لا يقع به شيء.
الثالث ـ قول الزيدية وبعض الظاهرية وابن إسحاق وابن تيمية وابن القيم: يقع به واحدة، ولا تأثير للفظ فيه.
وأخذ القانون في مصر وسورية بهذ الرأي، نص القانون السوري على ما يلي:
(م 91) - يملك الزوج على زوجته ثلاث طلقات.
(م 92) - الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحداً.
وقد عدلت لجنة الإفتاء بالرياض عن هذا القول واختارت بالأكثرية القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً (1).

أدلة هذه الأقوال:
أما أدلة الإمامية القائلين بأنه لا يقع شيء: فهي الأدلة نفسها التي استدلوا بها على عدم وقوع الطلاق في الحيض، لأن كلاً منهما غير مشروع.
وكذلك قوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:231/ 2] يدل على أن شرط وقوع الطلقة الثالثة أن تكون في حال يصح من الزوج فيها الإمساك. وإذا لم يصح الإمساك إلا بعد المراجعة، لم تصح الثالثة إلا بعدها لما ذكر، وإذا لزم في الثالثة لزم في الثانية.
_________
(1) مجلة البحوث الإسلامية ـ المجلد الأول ـ العدد الثالث، عام 1397 هـ، ص 165 وما بعدها.

(9/6928)


وأما أدلة الزيدية وابن تيمية وابن القيم القائلين بوقوع طلاق واحد، فهي ما يأتي:
1ً - آية {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2] إلى قوله تعالى في الطلقة الثالثة: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] أي أن المشروع تفريق الطلاق مرة بعد مرة، لأنه تعالى قال: {مرتان} [البقرة:229/ 2] ولم يقل «طلقتان».
وليس مشروعاً كون الطلاق كله دفعة واحدة، فإذا جمع الطلاق الثلاث في لفظ واحد، لا يقع إلا واحدة، والمطلّق بلفظ الثلاث مطلق بواحدة، لا مطلق ثلاث.
ويرد عليه بأن الآية ترشد إلى الطلاق المشرو ع أو المباح، وليس فيها دلالة على وقوع الطلاق وعدم وقوعه إذا لم يكن مفرقاً، فيكون المرجع إلى السنة، والسنة بينت أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثاً.
ومما جاء في السنة في قصة ابن عمر الذي طلق امرأته في أثناء الحيض: أنه قال: «يا رسول الله، أرأيت لو طلقتُها ثلاثاً، أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبين منك، وتكون معصية» (1).
2ً - حديث ابن عباس قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليه، فأمضاه عليهم» (2) فهو واضح الدلالة على جعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة، وعلى أنه لم
_________
(1) رواه الدارقطني عن الحسن عن ابن عمر، لكن في إسناده ضعيف (نيل الأوطار: 227/ 6 - 228).
(2) رواه أحمد ومسلم عن طاوس عن ابن عباس (نيل الأوطار: 230/ 6).

(9/6929)


ينسخ لاستمرار العمل به في عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، ولأن عمر أمضاه من باب المصلحة والسياسة الشرعية.
وأجيب عنه بأنه محمول على صورة تكرير لفظ الطلاق ثلاث مرات، بأن يقول: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق) فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاث إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار، لم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد، فلما رأى عمر في زمانه أموراً ظهرت، وأحوالاً تغيرت، وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل، ألزمهم الثلاث في صورة التكرير، إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة».
ثم إن هذا الحكم إنما هو في القضاء، أما في الديانة فإن كل واحد يعامل فيها بنيته. ومخالفة عمر لما مضى لا شيء فيها؛ لأنها ترجع إلى تغير الحكم بسبب تغير العرف وحال الناس. والحق أن في هذا الحديث نظراً.
3ً - حديث ابن عباس عن رُكانة: «أنه طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله النبي صلّى الله عليه وسلم، كيف طلقتها؟ فقال: ثلاثاً في مجلس واحد، فقال له صلّى الله عليه وسلم: إنما تلك واحدة فارتجعها» (1).
وأجيب عنه بأجوبة:
منها ـ أن في إسناده محمد بن إسحاق، ورد بأنهم قد احتجوا في غير واحد من الأحكام مثل هذا الإسناد.
_________
(1) أخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه (نيل الأوطار: 232/ 6).

(9/6930)


ومنها ـ معارضته لفتوى ابن عباس، فإنه كان يفتي من سأله عن حكم الطلاق بلفظ الثلاث بأنه يقع ثلاثاً. ورد بأن المعتبر روايته لا رأيه.
ومنها ـ أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة، كما تقدم لدينا. ويمكن أن يكون من روى «ثلاثاً» حمل «البتة» على معنى الثلاث، وفيه مخالفة للظاهر، والحديث نص في محل النزاع.

أدلة الجمهور القائلين بوقوع ثلاث طلقات:
استدل فقهاء المذاهب الأربعة وموافقوهم على وقوع ثلاث طلقات بما يأتي من الكتاب والسنة والإجماع والآثار والقياس:
1ً - الكتاب: منه قوله تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] فهو يدل على وقوع الثلاث معاً مع كونه منهياً عنه؛ لأن قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2] تنبيه إلى الحكمة من التفريق، ليتمكن من المراجعة، فإذا خالف الرجل الحكمة، وطلق اثنتين معاً، صح وقوعهما إذ لا تفريق بينهما، ثم إن قوله تعالى: {فلا تحل له من بعْدُ حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] يدل على تحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين، ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار.
ومنه {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] إلى قوله تعالى: {وتلك حدود الله، ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق:1/ 65] والطلاق المشروع ما يعقبه عدة، وهو منتف في إيقاع الثلاث في العدة، وفيها دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة، إذ لو لم يقع لم يكن ظالماً لنفسه بإيقاعه لغير العدة، ومن لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثاً مثلاً، فقد ظلم نفسه.

(9/6931)


ومنه آية {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/ 2] وغيرها من آيات الطلاق. تدل ظواهر هذه الآيات على ألا فرق بين إيقاع الطلقة الواحدة والثنتين والثلاث.
وأجيب: بأن هذه عمومات مخصصة، وإطلاقات مقيدة بما ثبت من الأدلة الدالة على المنع من وقوع ما فوق الطلقة الواحدة.
2ً - السنة: منها حديث سهل بن سعد في الصحيحين في قصة لعان عويمر العجلاني، وفيه: «فلما فرغا قال عويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلَّقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ولم ينقل إنكار النبي صلّى الله عليه وسلم. وأجيب: إنما لم ينكره عليه؛ لأنه لم يصادف محلاً مملوكاً له ولا نفوذاً.
ومنها ـ حديث محمود بن لبيد عند النسائي السابق، وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان، وقال: «أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟» هذا يدل على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يكون ثلاثاً، ويلزم المطلّق بها، وإن كان عاصياً في إيقاع الطلاق بدليل غضب النبي عليه الصلاة والسلام.
وأجيب بأنه حديث مرسل؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن كانت ولادته في عهده عليه السلام. وهذا مردود؛ لأن مرسل الصحابي مقبول.
ومنها ـ حديث ركانة بن عبد يزيد المتقدم أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والله ما أردتَ إلا واحدة؟» قال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم (1).
_________
(1) رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم.

(9/6932)


وهو من أصرح الأدلة وأوضحها على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، لقول ركانة واستحلاف النبي له على أنه لم يرد بلفظ (البتة) إلا واحدة، فهو يدل على أنه لو أراد الثلاث لوقعت.
ونوقش الحديث بأنه حديث ضعَّف الإمام أحمد جميع طرقه، كما ذكر المنذري، وكذلك ضعفه البخاري، وأن قصة ركانة أنه طلقها البتة لا ثلاثاً.
ومنها ـ ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث عبادة بن الصامت قال: «طلَّق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما اتقى الله جدك، أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبع وتسعون، فعدوان وظلم، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له» وأجيب بأن راويه ضعيف، وبأن والد عبادة بن الصامت لم يدرك الإسلام، فكيف بجدِّه؟
3ً - الإجماع: أجمع السلف على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً. وممن حكى الإجماع على لزوم الثلاث في الطلاق بكلمة واحدة: أبو بكر الرازي والباجي وابن العربي وابن رجب.
وأجيب بأنه لم يثبت الإجماع، فقد روى أبو داود عن ابن عباس أنه يجعل الثلاث واحدة، وبأن طاوساً وعطاء قالا: «إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، فهي واحدة».
4ً -الآثار: نقل عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوقعوا الطلاق الثلاث ثلاثاً، منها ما روى أبو داود عن مجاهد، قال: «كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه ردها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، وإن الله قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} [الطلاق:2/ 65]، وإنك لم تتق الله، فلم أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك».

(9/6933)


ومنها ـ ما روى مالك في الموطأ أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود، فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات، فقال: ما قيل لك؟ فقال: قيل لي: بانت منك، قال: هو مثل ما يقولون.
ومنها ـ ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: «أن رجلاً جاء إلى عثمان بن عفان، فقال: إني طلقت امرأتي مئة، فقال: ثلاث تحرمها عليك، وسبع وتسعون عدوان».
وروى أيضاً: «أن رجلاً جاء إلى علي بن أبي طالب فقال: إني طلقت امرأتي ألفاً، فقال: بانت منك بثلاث».
وثبت مثله عن صحابة آخرين، وعن التابعين ومن بعدهم.
5ً - القياس: قال ابن قدامة (1): إن النكاح ملك يصح إزالته متفرقاً، فصح مجتمعاً كسائر الأملاك. وناقشه ابن القيم بأن المُطلّق إذا جمع ما أمر بتفريقه، فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه.
وقال القرطبي (2): وحجة الجمهور من جهة اللزوم ظاهرة جداً: وهو أن المطلقة ثلاثاً لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجاً غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعاً. ونوقش بأن من قال: (أحلف بالله ثلاثاً) لا يعد حلفه إلا يميناً واحدة، فليكن المطلق مثله. ورد عليه باختلاف الصيغتين، فإن عدد الطلاق ثلاث، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا.
والذي يظهر لي رجحان رأي الجمهور: وهو وقوع الطلاق ثلاثاً إذا طلق
_________
(1) المغني: 105/ 7.
(2) فتح الباري: 365/ 9.

(9/6934)


الرجل امرأته دفعة واحدة، لكن إذا رجح الحاكم رأياً ضعيفاً صار هو الحكم الأقوى، فإن صدر قانون، كما هو الشأن في بعض البلاد العربية بجعل هذا الطلاق واحدة، فلا مانع من اعتماده والإفتاء به، تيسيراً على الناس، وصوناً للرابطة الزوجية، وحماية لمصلحة الأولاد، خصوصاً ونحن في وقت قل فيه الورع والاحتياط، وتهاون الناس في التلفظ بهذه الصيغة من الطلاق، وهم يقصدون غالباً التهديد والزجر، ويعلمون أن في الفقه منفذاً للحل، ومراجعة الزوجة.

المبحث الرابع ـ التوكيل في الطلاق وتفويضه:
يرتبط هذا البحث بنوعي الطلاق: الصريح والكناية؛ لأن تفويض الطلاق للزوجة أو غيرها إما أن يكون صريحاً وهو قول الرجل: طلقي نفسك، أو كناية وهو قوله: اختاري نفسك أو أمرك بيدك (1).
والرجل كما يملك الطلاق بنفسه يملك إنابة غيره فيه، ويجوز تفويض الطلاق للزوجة بالإجماع؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم خيَّر نساءه بين المقام معه وبين مفارقته، لما نزل قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} [الأحزاب:28/ 33] فلو لم يكن لاختيارهن الفرقة أثر، لم يكن لتخييرهن معنى.

النيابة في الطلاق في المذاهب:
لفقهاء المذاهب اصطلاحات في إنابة الزوج غيره في الطلاق وهي ما يأتي:
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 653/ 2.

(9/6935)


مذهب الحنفية (1): إيقاع الطلاق من غير الزوج بإذنه: إما تفويض أو توكيل أو رسالة.
والتوكيل: إنابة الزوج عنه غير الزوجة بتطليق امرأته، كأن يقول له: وكلتك في طلاق زوجتي، فإذا قبل الوكيل الوكالة ثم قال لزوجة موكله: أنت طالق، وقع الطلاق.
والتفويض: جعل الأمر باليد أو تمليك الطلاق لزوجته بطلاق نفسها منه، أو تعليق الطلاق على مشيئة شخص أجنبي، كأن يقول له: طلق زوجتي إن شئت.
والرسالة: نقل كلام المرسل، كأن يقول الزوج لرجل: اذهب إلى فلانة، وقل لها: إن زوجك يقول لك: اختاري (2). أو أن يبعث الزوج طلاق امرأته الغائبة على يد إنسان، فيذهب الرسول إليها، ويبلغها الرسالة على وجهها، فيقع عليها الطلاق. فالرسول معبر وسفير وناقل كلام المرسل لا غير.
وألفاظ التفويض ثلاثة: أمر بيد، وتخيير، ومشيئة، وكل منها يفيد تمليك الطلاق من المرأة وتخييرها بين أن تختار نفسها أو زوجها.
والأمر باليد: أن يقول لها: أمرك بيدك، فيصير الأمر بيدها في الطلاق؛ لأنه جعل الأمر بيدها في الطلاق، وهو أهل لذاك، والمحل قابل للجعل. ويصير الأمر بيدها بشرطين:
أحدهما ـ نية الزوج الطلاق؛ لأنه من كنايات الطلاق، فلا يصح من غير نية الطلاق.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 653/ 2، البدائع: 113/ 3، 118، 121 - 122.
(2) هذا يمنح المرأة حق الاختيار بين الطلاق الرجعي وغيره، وهو يفيد التمليك، ويتم بإرادة المملك وحده.

(9/6936)


والثاني ـ علم المرأة بجعل الأمر بيدها، فلا يصير الأمر بيدها ما لم تسمع أو يبلغها الخبر؛ لأن معنى هذا التفويض ثبوت الخيار لها بين الطلاق أو الزوج.

والتخيير: أن يقول الزوج لامرأته: اختاري، وهو لا يختلف عن الأمر باليد إلا في شيئين:
أحدهما ـ أن الزوج إذا نوى الطلاق الثلاث في قوله (أمرك بيدك) يصح، وأما في قوله (اختاري) فلا يصح نية الثلاثة.
والثاني ـ أن في قوله (اختاري) لا بد من ذكر النفس إما في كلام الزوج أو في جواب المرأة، بأن يقول لها: اختاري نفسك، فتقول: اخترت، أو يقول لها: اختاري، فتقول: اخترت نفسي. أو ذكر الطلاق في كلام الزوج أو في كلام المرأة، بأن يقول لها: اختاري، فتقول: اخترت الطلاق. أو ذكر ما يدل على الطلاق: وهو تكرار التخيير من الزوج، بأن يقول لها: اختاري اختاري. أو ذكر (الاختيارة) في كلام الزوج أو في كلام المرأة، بأن يقول لها الزوج: اختاري اختيارة، فتقول المرأة: اخترت اختيارة.

والمشيئة: أن يقول الرجل: أنت طالق إن شئت، وهو مثل قول: اختاري؛ لأن كل واحد منهما تمليك الطلاق، إلا أن الطلاق ههنا رجعي، وهناك بائن؛ لأن المفوَّض ههنا صريح، وهناك كناية.
وأما قوله (طلقي نفسك) فهو تمليك عندهم، سواء قيده بالمشيئة أم لا، ويقتصر أثره على المجلس، كقوله: أنت طالق إن شئت.

(9/6937)


وذهب المالكية (1) إلى أن التفويض (وهو إنابة الزوج غيره في الطلاق) يتنوع إلى ثلاثة أنواع: توكيل وتخيير وتمليك. والتوكيل: هو جعل الزوج حق إنشاء الطلاق لغيره: زوجة أو غيرها، مع بقاء الحق له في منع الوكيل من إيقاع الطلاق. فإذا وكل الرجل المرأة على طلاقها، فلها أن تفعل ما وكلها عليه من طلقة واحدة، أو أكثر، وله أن يعزلها ما لم تفعل الموكل فيه إلا لتعلق حقها بالوكالة كما سأبين قريباً. وهو بخلاف التمليك والتخيير، ليس له عزلها؛ لأن فيهما قد جعل لها ما كان يملكه ملكاً لها، أما التوكيل فإنه جعلها نائبة عنه في إيقاع الطلاق.
والتمليك: هو أن يملِّك الرجل المرأة أمر نفسها، كأن يقول لها: جعلت أمرك أو طلاقك بيدك، وليس له أن يعزلها عنه. ولها أن تفعل ما جعل بيدها من طلقة واحدة أو أكثر. ويظهر قبولها للتمليك بالقول أو بالفعل. أما القول: فهو أن توقع الطلاق بلفظها. وأما الفعل: فهو أن تفعل ما يدل على الفراق، مثل نقل أثاثها أو غيره.
وكل من التمليك والتخيير لا يتقيد في المجلس الذي صدر فيه، وفي كل منها لا يملك الرجل الرجوع عما منح المرأة.
والتخيير: هو أن يخيرها بين البقاء معه أو الفراق، بأن يقول لها: اختاريني أو اختاري نفسك. فلها أن تفعل من الأمرين ما أحبت. فإن اختارت الفراق، كان طلاقها بالثلاث. وإن أرادت طلقة أو اثنتين لم يكن لها، إلا أن يخيرها في طلقة واحدة أو طلقتين معاً، فتوقعها، وليس له عزلها. ويصح التفويض بأنواعه الثلاثة لغير الزوجة بشرط كونه حاضراً في البلد أو قريب الغيبة كاليومين وإلا انتقل
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 233، الشرح الصغير: 593/ 2 - 603، المقدمات الممهدات: 587/ 1 ومابعدها.

(9/6938)


التفويض للزوجة على الراجح، وإن فوض الزوج لأكثر من واحد، لم تطلق إلا باجتماعهما أي الاثنين أو باجتماعهم إن زادوا على اثنين.
والفرق بين التمليك والتخيير: أن المرأة في التمليك يكون لها القضاء بما قضت إلا أن ينكر عليها الزوج، فيقول: لم أرد إلا طلقة واحدة، فيحلف على ذلك.
وأما في التخيير فلا يكون الطلاق إلا ثلاثاً في المدخول بها؛ لأنه خيَّرها بين البقاء معه في العصمة أو الخروج عنها، فإن اختارت أقل من ذلك لم يقع شيء.
أما غير المدخول بها فهي كالمملَّكة، لها أن تطلق نفسها بما دون الثلاث؛ لأنها تبين منه بذلك.

ورأى الشافعية (1): أن تفويض الطلاق تمليك له في المذهب الجديد، فيشترط لوقوعه تطليقها نفسهاعلى الفور، وإذا ملكت المرأة نفسها، فلا رجعة عليها. والتفويض: إما صريح مثل طلقي نفسك، أو كناية مثل: أبيني نفسك، اختاري نفسك، ونوى، فقالت: طلقت، وقع الطلاق؛ لأنها فوضت الطلاق، وقد فعلته في الحالين.
ولو قال لها: طلقي نفسك ونوى ثلاثاً، فقالت: طلقت ونوتهن، وقد علمت نيته أو وقع العلم بنيته صدفة، فتقع الثلاث؛ لأن اللفظ يحتمل العدد، فإن لم ينوياه فتقع واحدة في الأصح؛ لأن صريح الطلاق كناية في العدد.
ولو قال: طلقي نفسك ثلاثاً، فوحدت أي طلقت نفسها واحدة، أو عكسه، كقوله: طلقي نفسك واحدة، فثلثت أي طلقت نفسها ثلاثاً، تقع واحدة.
_________
(1) مغني المحتاج: 285/ 3 - 287، المهذب: 80/ 2.

(9/6939)


وقال الحنابلة (1): من صح طلاقه صح توكيله، فإن وكل الزوج المرأة في الطلاق، صح توكيلها، وطلاقها لنفسها؛ لأنه يصح توكيلها في طلاق غيرها، فكذا في طلاق نفسها. وللوكيل أن يطلق متى شاء، إلا أن يحد له الموكل حداً كاليوم أو نحوه، فلا يملك الطلاق في غيره. ولا يطلق الوكيل أكثر من واحدة؛ إلا أن يجعل الموكل إليه أن يطلق أكثر من واحدة بلفظة أو نية، فلو وكله في ثلاث، فطلق واحدة، وقعت. ولو وكله في طلقة واحدة، فطلق ثلاثاً، طلقت واحدة، عملاً بالمأذون فيه.
وإن خير الموكل الوكيل بأن قال له: طلق ما شئت من ثلاث، ملك اثنتين فأقل؛ لأن لفظه يقتضي ذلك؛ لأن (من) للتبعيض، وكذا لو خيَّر زوجته، فقال لها: اختاري من ثلاث ما شئت، لم يكن لها أن تختار أكثر من اثنتين.
وإن قال لامرأته: طلقي نفسك، فلها الطلاق كالوكيل. وإن قال لها: (أنت طالق إن شئت) ونحوها من أدوات الشرط، لم تطلق حتى تشاء، وتنطق بالمشيئة بلسانها، فتقول: قد شئت؛ لأن ما في القلب لا يعلم حتى يعبر عنه اللسان، فتعلق الحكم بما يتعلق به دون ما في القلب، فلو شاءت بقلبها دون نطقها، لم يقع طلاق.
وكذلك إن علق الطلاق بمشيئة غيرها، فمتى وجدت المشيئة باللسان، وقع الطلاق، سواء أكان على الفور أم على التراخي. وذلك خلافاً للشافعية الذين اشترطوا إعلان المشيئة في الحال؛ لأن هذا تمليك للطلاق، فكان على الفور كقوله (اختاري)، كما تقدم. ورد الحنابلة بأن هذا تعليق للطلاق على شرط، فكان على التراخي كسائر التعليق، ولأنه إزالة ملك معلق على المشيئة، فكان على التراخي
_________
(1) كشاف القناع: 268/ 5 وما بعدها، 354 وما بعدها، المغني: 212/ 7.

(9/6940)


كالعتق. وهو بخلاف كلمة (اختاري) فإنه ليس بشرط، إنما هو تخيير، فتقيد بالمجلس كخيار المجلس.

حكم الوكيل بالطلاق:
قرر الحنفية أن الوكيل بالطلاق مقيد بالعمل برأي الموكل، فإذا تجاوزه لم ينفذ تصرفه إلا بإجازة الموكل. وللوكيل أن يطلق متى شاء ما لم يقيده الموكل بزمن معين، وللموكل أن يعزل الوكيل متى شاء.
لكن الوكيل بالطلاق مجرد سفير ومعبر عن الموكل كالوكيل في الزواج، فلا يطالب بشيء من حقوق الطلاق، كدفع مؤخر المهر أو المتعة أو نفقة العدة، وإنما يطالب بها الزوج نفسه.

ويرى المالكية (1): أن الموكل لا يملك عزل الوكيل بالطلاق إذا تعلق حق الزوجة بتلك الوكالة، كماإذا قال الرجل لزوجته: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فليس له عزلها عن الوكالة لتعلق حقها بالتوكيل؛ لأن رفع الضرر عنها قد تعلق بالتوكيل، فليس له عزلها عنه.
صفة حكم التفويض بالطلاق للزوجة أو غيرها:
يرى الحنفية (2): أن التفويض لازم من جانب الزوج، فلا يملك الرجوع عنه ولا منع المرأة مما جعل إليها، ولا فسخه؛ لأنه ملَّكها الطلاق، ومن ملَّك غيره شيئاً، فقد زالت ولايته من الملك، فلا يملك إبطاله بالرجوع والمنع والفسخ، ولأن التفويض تعليق للطلاق من جانب الزوج على مشيئة الزوجة أو غيرها، والتعليق يمين، والأيمان بعد صدورها لا يمكن الرجوع فيها كما ذكرت سابقاً.
_________
(1) الشرح الصغير: 595/ 2.
(2) البدائع: 113/ 3 - 116، فتح القدير: 115/ 3.

(9/6941)


وأما التفويض من جانب المرأة: فهو غير لازم في حق المرأة، فتملك رده صراحة أو دلالة؛ لأن جعل الأمر بيدها تخيير لها بين أن تختار نفسها وبين أن تختار زوجها، والتخيير ينافي اللزوم.
لكن ليس لها أن تختار إلا مرة واحدة؛ لأن قول الرجل لها: (أمرك بيدك) لا يقتضي التكرار إلا إذا قرن به ما يقتضي التكرار، بأن قال: أمرك بيدك كلما شئت، فيصير الأمر بيدها فيما ذكر وغيره، ولها أن تطلق نفسها في كل مجلس تطليقة واحدة، حتى تبين بثلاث؛ لأن كلمة (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، فيقتضي تكرار التمليك عند تكرار المشيئة، إلا أنها لا تملك أن تطلق نفسها في كل مجلس إلا تطليقة واحدة؛ لأن تفويضه الطلاق لها يقتضي حصره في كل مجلس مرة.

زمن التفويض بالنسبة للمرأة:
أضاف الحنفية (1): إما أن يكون التفويض مطلقاً عن التقييد بزمن معين، مثل: اختاري نفسك أو طلقي نفسك، أو يكون مقيداً بزمن معين، مثل: اختاري نفسك أو أمرك بيدك مدة شهر أو يكون مفيداً التكرار في جميع الأزمان، مثل طلقي نفسك متى شئت.

خيار المخيَّرة: أـ إن كان التفويض مطلقاً: فحق الطلاق مقيد في مجلس علم المرأة بالتفويض، فما دامت في مجلسها، فالأمر بيدها؛ لأن جعل الأمر بيدها تمليك الطلاق منها، وجواب التمليك مقيد بالمجلس، فإن تغير المجلس أو ظهر ما يدل على الإعراض عن مقتضى التفويض، سقط حقها. وقد اتفق الشافعية والحنابلة كما تقدم مع الحنفية في هذا؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا
_________
(1) البدائع: 113/ 3 - 116، فتح القدير: 115/ 3.

(9/6942)


للمخيَّرة الخيار ما دامت في المجلس. ولا يتغير المجلس بالقيام أو القعود، والقعود في البيت والركوب في السفينة لا يغير حكم المجلس أثناء المشي، لكن السير على الدابة يغير حكم المجلس؛ لأن السفينة لا يستطيع الراكب إيقافها، أما الدابة فيستطيع إيقافها، فإن سارت بطل خيارها.

وذهب المالكية (1): إلى أنه يثبت الخيار للزوجة أبداً إلى أن يعلم أنها أسقطته، بتمكين الزوج من نفسها، فإن لم تجب بشيء رفع الزوج الأمر إلى القاضي ليأمرها بإيقاع الطلاق أو إسقاط التمليك، فإن أبت أسقطه القاضي، ولا يمهلها وإن رضي الزوج بالإمهال لحق الله تعالى، لما فيه من البقاء على عصمة مشكوكة.
ب ـ وإن كان التفويض مقيداً بزمن معين كيوم أو شهر أو سنة: ثبت حق الطلاق للمفوض إليه في الوقت المخصص إلى نهايته؛ لأنه فوض الأمر إلى زوجته مثلاً في جميع الوقت المذكور، فيبقى ما بقي الوقت.
ولو اختارت نفسها في الوقت المحدد مرة، ليس لها أن تختار مرة أخرى؛ لأن اللفظ يقتضي التحديد بالوقت، ولا يقتضي التكرار.
وإن أضيف التفويض إلى وقت في المستقبل بأن قال: أمرك بيدك غداً، أو رأس شهر كذا، فلا يصير الأمر بيدها إلا بمجيء الوقت المخصص. وإن علَّق التفويض بشرط، بأن قال: إذا قدم فلان، فأمرك بيدك، فلا يصير الأمر بيدها إلا بقدومه، فإن قدم فالأمر بيدها إذا علمت في مجلسها الذي يقدم فيه فلان؛ لأن المعلق بشرط كالمنجز عند الشرط، فيصير قائلاً عند القدوم: أمرك بيدك، وتملك
_________
(1) الشرح الصغير: 595/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 233.

(9/6943)


الطلاق في مجلس علمها بالقدوم. فلو لم تعلم بقدومه حتى مضى الوقت المخصص، ثم علمت، فلا خيار لها بهذا التفويض أبداً؛ لأنها مقيدة بمدة، وقد انتهت، فلا خيار لها بعد فوات زمنه.
جـ ـ وإن كان التفويض بما يقتضي التكرار، بأن قال لها: أمرك بيدك كلما شئت، أو طلقي نفسك متى شئت، فلها أن تطلق نفسها في أي وقت تشاء، سواء في مجلس التخيير أو بعده، لكنها في قوله: (إذا، ومتى) لا تملك أن تختار إلا مرة واحدة، فإذا طلقت نفسهامرة انتهى التفويض؛ لأن (إذا ومتى) لا تفيد التكرار. أما إن قال (كلما) فلها أن تطلق نفسها أكثر من مرة إلى ثلاث؛ لأن (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، فيتكرر التفويض عند تكرار المشيئة.

عدد الطلاق الواقع بألفاظ التفويض ونوعه:
ذهب الحنفية (1): إلى أنه لا تملك المرأة إيقاع الطلاق الثلاث دفعة واحدة بقوله لها: طلقي نفسك، أو كلما شئت؛ لأنه فوض إليها الصريح حيث نص عليه، وكلمة (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، وهي هنا المشيئة، وإيقاع الثلاث دفعة واحدة لا تكرار فيه، فلا يقع بها شيء في قوله (كلما) عند أبي حنيفة، وتقع طلقة واحدة عند الصاحبين.
ولو قال الزوج للمرأة: أمرك بيدك، ونوى الثلاث، فطلقت نفسها ثلاثاً، كان ثلاثاً؛ لأنه جعل أمرها بيدها مطلقاً، فيحتمل الواحد ويحتمل الثلاث، فإن نوى الثلاث، فقد نوى ما يحتمله مطلق الأمر، فصحت نيته. وإن نوى اثنتين، فهي واحدة عند أئمة الحنفية ما عدا زفر.
_________
(1) البدائع: 117/ 3 - 118، فتح القدير: 114/ 3 وما بعدها، اللباب: 51/ 3، الدر المختار: 660/ 2 وما بعدها.

(9/6944)


وأما نوع الطلاق الواقع: فإن كان التفويض بصريح الطلاق، كان الطلاق رجعياً، فلو قال لها: طلقي نفسك، فقال: طلقت نفسي، وقع الطلاق رجعياً. وكذا لو قال: أمرك بيدك في تطليقة أو اختاري تطليقة، فاختارت نفسها، طلقت واحدة رجعية؛ لتفويضه إليها بالصريح، والمفيد للبينونة إذا قرن بالتصريح، صار رجعياً.
وإن كان التفويض بلفظة الاختيار أو الأمر باليد، كان الطلاق بائناً، فلو قال لها: اختاري أو أمرك بيدك، ناوياً الطلاق، ولم ينو الثلاث، فقالت: اخترت نفسي أو طلقت نفسي؛ وقع الطلاق بائناً، وكان طلاقاً واحداً؛ لأن المرأة لا يتم لها الاختيار أو الأمر باليد إلا بالطلاق البائن، فلا تصير مالكة نفسها إلا بالبائن، أما بالطلاق الرجعي فيتمكن الزوج من رجعتها بدون رضاها.

ويرى المالكية (1) كما تقدم أن الطلاق الواقع بالتفويض عند اختيار الزوجة أو تطليقها نفسها هو الطلاق الثلاث إذا كان التفويض بالتخيير. أما إذا كان التفويض بالتمليك فإن الواقع هو الطلاق الثلاث، ولكنه يحتمل الواحدة والاثنتين. والفرق أن حالة التخيير تقتضي ألا يكون للزوج سبيل على المرأة إذا اختارت نفسها، وهذا لا يتحقق إلا بوقوع الطلاق الثلاث. وأما في حالة التمليك فقد ملكها ما يملكه، فإذا أوقعت طلقة واحدة أو اثنتين أو الثلاث، كانت عاملة بمقتضى اللفظ.
ونظراً لهذا الفرق، قال المالكية: إذا كان التفويض تخييراً، فليس للزوج أن ينازع زوجته (أو يناكرها) إذا أوقعت الثلاث، وأما إذا كان التفويض تمليكاً، فللزوج أن ينازع زوجته، ويدعي أنه أراد واحدة، عندما تطلق نفسها ثلاثاً. ويكون القول قوله مع يمينه.
_________
(1) الشرح الصغير: 597/ 2.

(9/6945)


بدء التفويض:
يصح التفويض عند الحنفية مقارناً لإنشاء عقد الزواج أو بعده أثناء الزوجية، واشترطوا لصحة التفويض المقارن للعقد: أن يكون الإيجاب صادراً من الزوجة أو وكيلها، كأن تقول للرجل: تزوجتك على أن الطلاق بيدي، أو متى شئت أو كلما شئت، ويقبل الرجل التفويض.
فإن بدأ الرجل بالإيجاب، فقال للمرأة: تزوجتك على أن أمرك بيدك أو تطلقين نفسك متى شئت، وقبلت المرأة الإيجاب، يصح الزواج، ولا يصح التفويض؛ لأن الزوج في هذه الحالة قد ملّكها تطليق نفسها قبل أن يتم عقد الزواج، ولا يملك الزوج الطلاق قبل تمام الزواج، وليس للشخص أن يملك غيره شيئاً لايملكه هو.
وإذا صح التفويض بإيجاب المرأة وقبول الرجل، حين العقد، وكان مطلقاً عن التقييد بزمن معين، كأن تقول له: «تزوجتكَ على أن طلاقي بيدي» فيقول: قبلت، تقيد ملكها الطلاق بمجلس إنشاء العقد، فإذا انتهى مجلس العقد، لم يكن لها الحق في طلاق نفسها بعدئذ.

حق الزوج في الطلاق مع التفويض:
التفويض بالرغم من أنه تمليك عند الحنفية، فهو يشبه التوكيل، فيبقى للزوج حق إيقاع الطلاق، بعد أن يفوض الطلاق إلى زوجته، كما يحق للموكل التصرف في الأمر الموكل فيه بعد التوكيل.

(9/6946)


الفرق بين التوكيل والتفويض:
التوكيل والتفويض وإن كان كل منهما عند الحنفية لا يسلب الزوج حقه في إيقاع الطلاق، إلا أنهم يفرقون بينهما من
وجوه (1):
1 - إن التفويض بعد صدوره لا يملك الزوج الرجوع عنه، أما التوكيل فيملك الموكل الرجوع عنه، ما دام الوكيل لم ينفذ ما وكل به.
2 - يعمل المفوض إليه في التفويض العمل باختياره وبمشيئة نفسه؛ لأن الزوج ملكه هذا الحق، أما في التوكيل فيعمل الوكيل بمشيئة غيره وعلى وفق هذه المشيئة؛ لأن الوكيل يعد ممثلاً الموكل ونائباً عنه، لا مالكاً الحق الموكل فيه.
3 - يتقيد التفويض المطلق بالمجلس، أما التوكيل فللوكيل بالطلاق أن يطلق في مجلس التوكيل وما بعده إذا كانت الوكالة مطلقة.
4 - لا يبطل التفويض بجنون الزوج؛ لأنه في معنى التعليق. أما التوكيل فيبطل بجنون الزوج؛ لأن الجنون يخرجه عن الأهلية، وخروج الموكل أو الوكيل عن الأهلية يبطل الوكالة.

المبحث الخامس ـ أنواع الطلاق وحكم كل نوع:
ينقسم الطلاق عدة تقسيمات باعتبارات متنوعة:
فهو من حيث الصيغة ينقسم إلى صريح وكناية، وقد بينت ذلك.
ومن حيث الرجعة وعدمها ينقسم كل من الصريح والكناية إلى رجعي وبائن.
_________
(1) العناية بهامش فتح القدير: 100/ 3، رد المحتار: 653/ 2.

(9/6947)


ومن حيث الموافقة للسنة ومخالفتها ينقسم إلى سني وبدعي.
ومن حيث الزمن المرتبط به ينقسم إلى منجز أو معجل، ومعلق، ومضاف إلى المستقبل. ويلحق بهذا المطلب حكم طلاق المريض مرض الموت.

تقسيم الطلاق من حيث السنة والبدعة:
ينقسم الطلاق من حيث موافقته السنة ومعارضتها، أي البدعة: إلى سني وبدعي، والسنة: ما أذن الشارع فيه، والبدعة: ما نهى الشرع عنه. وأصل البدعة: الحدث في الشيء بعد الإكمال.
والأصل في التقسيم قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] قال ابن مسعود وابن عباس: طاهرات من غير جماع.
وحديث ابن عمر المتقدم لما طلق امرأته وهي حائض، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لعمر: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، ثم إن شاء طلقها طاهراً قبل أن يمسّ».
وللفقهاء ـ مع اتفاقهم على التقسيم ـ آراء في تحديد الطلاق السني والبدعي، ونوع الحكم في البدعي.

فذهب الحنفية (1) إلى أن التقسيم ثلاثي، أي أن الطلاق ثلاثة أنواع: أحسن الطلاق، والطلاق الحسن، والطلاق البدعي.
_________
(1) البدائع: 91/ 3 - 96، الكتاب: 37/ 3 - 40، فتح القدير: 22/ 3 - 37، الدر المختار: 574/ 2 - 578.

(9/6948)


أحسن الطلاق: أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة، في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستحبون ألا يزيد الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة، فإن هذا أفضل عندهم من أن يطلقها الرجل ثلاثاً عند كل طهر واحدة، ولأنه أبعد من الندامة، لتمكنه من التدارك، وأقل ضرراً بالمرأة.

والطلاق الحسن: هو طلاق السنة: وهوأن يطلق المدخول بها ثلاثاً في ثلاثة أطهار، في كل طهر تطليقة، يستقبل الطهر استقبالاً، عملاً بأمره صلّى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتقدم.
وطلاق البدعة: أن يطلقها ثلاثاً أواثنتين بكلمة واحدة، أو يطلقها ثلاثاً في طهر واحد؛ لأن الأصل في الطلاق الحظر، لما فيه من قطع الزواج الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية، والإباحة إنما هي للحاجة إلى الخلاص، ولا حاجة إلى الجمع في الثلاث، أو في طهر واحد؛ لأن الحاجة تندفع بالواحدة، وتمام الخلاص في المفرق على الأطهار، والزيادة إسراف، فكان بدعة. فإذا فعل ذلك وقع الطلاق، وبانت المرأة منه، وكان آثماً عاصياً، والطلاق مكروه تحريماً؛ لأن الحظر أو النهي لمعنى في غير الطلاق وهو فوات مصالح الدين والدنيا، مثل البيع وقت النداء لصلاة الجمعة صحيح مكروه لمعنى في غيره، والصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة مكروهة لمعنى في غيرها، وكذا إيقاع أكثر من طلقة، إذ لا حاجة إليه. لذا تجب رجعة المطلقة في الحيض أو النفاس، على الأصح رفعاً للمعصية وللأمر السابق: «مره فليراجعها» فإذا طهرت طلقها إن شاء، أوأمسكها.
وطلاق السنة: إما من ناحية الوقت أو من ناحية العدد. فالسنة في العدد يستوي فيها المدخول بها وغير المدخول بها. والسنة في الوقت: تثبت في المدخول

(9/6949)


بهاخاصة، وهو: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه. وأما غير المدخول بها، فيطلقها في حال الطهر أو الحيض، على حد سواء.
وإذا كانت المرأة لا تحيض من صغر أو كبر، فأراد أن يطلقها طلاق السنة، طلقهاواحدة، فإذا مضى شهر طلقها أخرى، فإذا مضى شهر طلقها طلقة أخرى، فتصير ثلاث طلقات في ثلاثة أشهر؛ لأن الشهر في حقها قائم مقام الحيض. ويحسب الشهر بالأهلة إن كان الطلاق في أول الشهر، وبالأيام إن كان في وسط الشهر، كما هو المقرر في العدة.
ويجوز طلاق الحامل عقيب الجماع؛ لأنه لا يؤدي إلى اشتباه وجه العدة؛ لأن عدتها تنتهي حتماً بوضع الحمل. وطلاق السنة الثلاث للحامل كالتي لا تحيض، يكون في ثلاثة أشهر، يفصل بين كل تطليقتين بشهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الإباحة لعلة الحاجة، والشهر دليل الحاجة كالمقرر في حق الآيسة والصغيرة.

ألفاظ طلاق السنة والبدعة: إن من ألفاظ طلاق السنة التي هي نص فيه القول: أنت طالق للسنة، فلو قال رجل لامرأته المدخول بها التي تحيض: أنت طالق ثلاثاً أو ثنتين للسنة، وقع عند كل طهر طلقة، وتقع أولاها في طهر لا جماع فيه. أما لو كانت المرأة غير مدخول بها أو لا تحيض، فتقع طلقة واحدة في الحال، ثم إن غير المدخول بها تبين منه بلا عدة؛ لأنه طلاق قبل الدخول، ولا تقع طلقةغيرها ما لم يتزوجها، وأما التي لا تحيض فتقع طلقة أخرى عند مضي شهر.
وإن نوى أن تقع الثلاث في الحال، أو عند رأس كل شهر واحدة، صحت نيته؛ لأن ذلك يحتمله كلامه.
ومن ألفاظ طلاق البدعة: أن يقول الرجل: أنت طالق للبدعة أو طلاق

(9/6950)


الجور أو طلاق المعصية أو طلاق الشيطان، فإن نوى ثلاثاً فهو ثلاث؛ لأن إيقاع الثلاث في طهر واحد لا جماع فيه بدعة، وإيقاع الطلقة الواحدة في طهر جامعها فيه بدعة، والطلاق في حال الحيض بدعة، فإذا نوى به الثلاث، فقد نوى ما يحتمله كلامه، فصحت نيته.

وذهب المالكية (1): إلى أن الطلاق السني ما توافرت فيه أربعة شروط: وهي أن تكون المرأة طاهراً من الحيض والنفاس حين الطلاق، وأن يكون زوجها لم يمسها في ذلك الطهر، وأن تكون الطلقة واحدة، وألا يُتبعها الزوج طلاقاً آخر حتى تنقضي عدتها، فإن أتبعها كان بدعة؛ لأن الأصل في الطلاق هو الحظر.
والشرطان الأولان متفق عليهما، والثالث يخالف فيه الشافعية فيباح عندهم جمع الطلقات الثلاث، والرابع يخالف فيه الحنفية فيما يترتب عليه، فإنهم قالوا: يجوز تطليق المدخول بها ثلاثاً في ثلاثة أطهار، كما تقدم.
والطلاق البدعي: ما نقص منه أحد هذه الشروط أو كلها. والطلاق البدعي إما حرام وإما مكروه، فيحرم الطلاق في الحيض أو النفاس، ويكره وقوعه بغير حيض ونفاس، لو أوقع ثلاثاً أو في طهرجامعها فيه. ويقع الطلاق في الحيض ونحوه، ويمنع وإن طلبته المرأة من زوجها في حيضها أو نفاسها.
ومن طلق زوجته وهي حائض أجبر على أن يراجعها إن كان الطلاق رجعياً، حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر منها، فإذا دخلت في الطهر الثاني، فإن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها. فإن أبى الرجعة هدد بالسجن، فإن أبى سجن فعلاً، فإن أبى هدد بالضرب، فإن أبى ضرب بالفعل، يفعل ذلك كله في مجلس واحد. فإن أبى الارتجاع، ارتجع الحاكم، بأن يقول: ارتجعتها لك.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 225، الشرح الصغير: 537/ 2 - 541.

(9/6951)


ولا يجبراتفاقاً على الرجعة فيما إذا طلق في طهر مسها فيه أو بعد الحيض قبل الاغتسال منه. والمرأة مصدقة في دعوى الحيض للتمكين من الرجعة.
وجاز طلاق الحامل في الحيض أي إن حاضت؛ لأن عدتها وضع حملها، فلا تطويل فيها.
وجاز طلاق غيرالمدخول بها في الحيض، لعدم العدة من أصلها.

ورأى الشافعية (1): أن الطلاق سني وبدعي، ولا سني ولا بدعي. أما القسم الثالث: فهو طلاق الصغيرة، والآيسة، والمختلعة، والتي استبان حملها من الزوج، وغير المدخول بها. فهذا لا سنة فيه ولا بدعة؛ لأنه لا يوجد تطويل العدة.
وأما الطلاق السني: فهوالمستحب شرعاً، وهو أن يطلق الرجل امرأته طلقة واحدة، وإن أراد الثلاث فرقها في كل طهر طلقة، ليخرج من الخلاف، وإن جمع الطلقات الثلاث في طهر واحد جاز ولا يحرم، لأن عويمراً العجلاني، لما لاعن امرأته عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، طلقها ثلاثاً قبل أن يخبره صلّى الله عليه وسلم أنها تبين باللعان (2)، فلو كان إيقاع الثلاث حراماً، لنهاه عن ذلك ليعلمه هو ومن حضره؛ ولأن فاطمة بنت قيس شكت للنبي صلّى الله عليه وسلم أن زوجها طلقها البتة، قال الشافعي رضي الله عنه: يعني والله أعلم: ثلاثاً، ولم نعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ وقد فعله جمع من الصحابة، وأفتى به آخرون.
لكن يسن الاقتصار على طلقة في القُرْء لذات الأقراء، وفي ظهر لذات الأشهر ليتمكن من الرجعة أو التجديد إن ندم، فإن لم يقتصر على طلقة، فليفرق الطلقات على الأيام، ويفرق الطلاق على الحامل بطلقة في الحال ويراجع، وأخرى بعد النفاس، والثالثة بعد الطهر من الحيض.
_________
(1) المهذب: 79/ 2، 89، مغني المحتاج: 307/ 3 - 312.
(2) متفق عليه.

(9/6952)


ولو قال الرجل لزوجته: أنت طالق ثلاثاً أو قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وفسر الثلاث في الصورتين بتفريقها على أقراء، لم يقبل قوله ظاهراً على الصحيح المنصوص، والأصح أنه يقبل قوله ديانة بينه وبين الله تعالى.
والحاصل: أن طلاق الثلاث طلاق سني عند الشافعية والحنابلة، بدعي حرام عند المالكية والحنفية.
وأما الطلاق البدعي: فهو اثنان: أحدهما ـ طلاق المدخول بها في حال الحيض من غير حمل، لقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] أي في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وزمن الحيض لا يحسب من العدة، وسبب الحرمة: تضررها بطول العدة، فإن بقية الحيض لا تحسب منها. والنفاس كالحيض. ويؤيده حديث أمر ابن عمر بمراجعة امرأته التي طلقها في الحيض.
والثاني ـ طلاق من يجوز أن تحبل في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل؛ لأنه إذا طلقها في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل، لم يأمن أن تكون حاملاً، فيندم على مفارقتها مع الولد، ولأنه لا يعلم هل علقت بالوطء، فتكون عدتها بالحمل، أو لم تعلق، فتكون عدتها بالأقراء (الأطهار).
ويسن خلافاً للمالكية والحنفية مراجعة المرأة المطلقة بدعياً، ثم إن شاء طلق بعد طهر.
ولو قال لحائض: أنت طالق للبدعة، وقع الطلاق في الحال. وإن قال لها: أنت طالق للسنة، فيقع الطلاق حين تطهر من الحيض أو النفاس، بأن تشرع في الطهر، ولا يتوقف على الاغتسال، لوجود الصفة قبله.
ولو قال لمن في طهر لم تجامع فيه وهي مدخول بها: أنت طالق للسنة، وقع

(9/6953)


في الحال لوجود الصفة. وإن جومعت فيه ولم يظهر حملها، فيقع الطلاق حين تطهر بعد حيض، لشروعها حينئذ في العدة.
ولو قال لمن في طهر: أنت طالق للبدعة، فيقع الطلاق في الحال إن جومعت فيه أو في حيض قبله ولم يظهر حملها، لوجود صفة البدعة، فإن لم تجامع على النحو المذكور فيقع الطلاق حين تحيض.
ولو قال: أنت طالق طلقة حسنة أو أحسن الطلاق أو أجمله أو نحوها، فهو كقوله: أنت طالق للسنة، فإن كانت في حيض لم يقع حتى تطهر، أو في طهر لم تجامع فيه، وقع في الحال، أو جومعت فيه، وقع حين تطهر بعد حيض.
وإن وصف الطلاق بصفة ذم، كأنت طالق طلقة قبيحة أو أقبح الطلاق أو أفظعه أو أشرّه أو أفحشه أو نحوها، فهو كقوله: أنت طالق للبدعة، فإن كانت في حيض أو في طهر جامعها فيه، وقع في الحال، وإلا فحين تحيض. ولو نوى بالطلاق طلاق السنة لحسن خلقها، وكانت في زمن البدعة، دُيِّن، ولم يقبل قوله ظاهراً، أي يقبل قوله ديانة لا قضاء.
وإن قال: أنت طالق ثلاثاً، في كل قرء طلقة، فإن كانت طاهراً طلقت طلقة؛ لأن ما بقي من الطهر قرء، وإن كانت حائضاً لم تطلق حتى تطهر، ثم يقع في كل طهر طلقة. وإن كانت من القسم الثالث ممن لا سنة لها ولا بدعة: فإن كانت حاملاً طلقت في الحال طلقة؛ لأن الحمل قرء يعتد به، وإن كانت تحيض على الحمل، لم تطلق في أطهارها؛ لأنها ليست بأقراء، فإن راجعها قبل الوضع، وطهرت في النفاس، وقعت طلقة أخرى، فإن حاضت وطهرت، وقعت الطلقة الثالثة.

(9/6954)


وإن كانت غير مدخول بها وقعت عليها طلقة وبانت، فإن كانت صغيرة مدخولاً بها طلقت في الحال طلقة، فإن لم يراجعها حتى مضت ثلاثة أشهر بانت، وإن راجعها لم تطلق في الطهر بعد الرجعة؛ لأنه هو الطهر الذي وقع فيه الطلاق.

ووافق الحنابلة (1) الشافعية في رأيهم بتحديد الطلاق السني والبدعي وألفاظهما وحكمهما، واستحباب مراجعة المطلقة في حيض، ووجوب إمساكها حتى تطهر، ثم استحباب إمساكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر، على ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث عمر المتقدم.
تقسيم الطلاق إلى رجعي وبائن:
ينقسم كل من الطلاق الصريح والكناية من حيث إمكان الارتجاع وعدمه إلى رجعي وبائن.

أما الطلاق الرجعي: فهو الذي يملك الزوج بعده إعادة المطلقة إلى الزوجية من غير حاجة إلى عقد جديد ما دامت في العدة، ولو لم ترض. وذلك بعد الطلاق الأول والثاني غير البائن إذا تمت المراجعة قبل انقضاء العدة، فإذا انتهت العدة انقلب الطلاق الرجعي بائناً، فلا يملك الزوج إرجاع زوجته المطلقة إلا بعقد جديد.
وأما الطلاق البائن: فهونوعان: بائن بينونة صغرى، وبائن بينونة كبرى.
والبائن بينونة صغرى: هو الذي لا يستطيع الرجل بعده أن يعيد المطلقة إلى الزوجية إلا بعقد جديد ومهر. وهو الطلاق قبل الدخول أوعلى مال أو بالكناية عند الحنفية أو الذي يوقعه القاضي لا لعدم الإنفاق أو بسبب الإيلاء.
_________
(1) المغني: 98/ 7 - 113، كشاف القناع: 269/ 5 - 276.

(9/6955)


والبائن بينونة كبرى: هو الذي لا يستطيع الرجل بعده أن يعيد المطلقة إلى الزوجية إلا بعد أن تتزوج بزوج آخر زواجاً صحيحاً، ويدخل بها دخولاً حقيقياً، ثم يفارقها أو يموت عنها، وتنقضي عدتها منه. وذلك بعد الطلاق الثلاث حيث لا يملك الزوج أن يعيد زوجته إليه إلا إذا تزوجت بزوج آخر.
ضابط الطلاق الرجعي والبائن:
للفقهاء آراء في تحديد حالات الطلاق الرجعي والبائن:

رأي الحنفية (1): كل طلاق رجعي إلا الطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، والطلاق بالكناية المقترن بلفظ ينبئ عن الشدة أو القوة أو البينونة أو الحرمة، والطلاق المكمل للثلاث.
وعليه، يكون الطلاق رجعياً فيما يأتي:
1 - الطلاق الصريح بعد الدخول الحقيقي: بلفظ من مادة الطلاق أو التطليق غير مقترن بعوض، ولا بعدد الثلاث، ولا موصوف بوصف الشدة أو القوة أو البينونة أو نحوها. فمن قال: أنت طالق، أو مطلقة، أو طلقتك، يقع به الطلاق الرجعي، ولا يقع به إلا واحدة، وإن نوى أكثر من ذلك، ولا يفتقر إلى النية.
أما لو قال: أنت طالق، أوأنت طالق الطلاق، أو أنت طالق طلاقاً، فإن لم تكن له نية، فهي طلقة واحدة رجعية، وإن نوى به ثلاثاً كان ثلاثاً. ولو قال: أنت طالق على المذاهب الأربعة، أو أنت طالق لا يرد ك عالم ولا قاض، يقع به طلقة رجعية.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 592/ 2، 617 - 621، اللباب: 41/ 3 - 44، البدائع: 109/ 3 - 112.

(9/6956)


ومن ألفاظ الطلاق التي هي في حكم الصريح عرفاً قول الرجل: علي الطلاق، وعلي الحرام، والطلاق يلزمني، والحرام يلزمني، فإنه يقع بلا نية للعرف، وبه أصبح لفظ: حرام وخالص، من قسم الصريح.
2 - الطلاق الكنائي بعد الدخول الذي لايفيد معنى الشدة والبينونة مثل قوله: اعتدي، أو استبرئي رحمك، أو أنت واحدة، يقع بهذه الألفاظ طلقة واحدة رجعية، إذا نوى الزوج بها الطلاق.
3 - الطلاق الذي يوقعه القاضي لعدم الإنفاق، أو بسبب الإيلاء، فإن الأول يكون رجعياً؛ لأن قدرة الزوج على الإنفاق متوقعة في أي وقت، والثاني يكون رجعياً أيضاً؛ لتمكين الزوج من العودة إلى معاشرة الزوجة.
والدليل على أن الأصل العام في كون الطلاق رجعياً آيتان: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ... {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:2/ 228] فكلتا الآيتين تدلان على إمكان الرجعة ما دامت المرأة في العدة، إلا ما دل الدليل على استثنائه: وهو الطلاق الثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، والطلاق لرفع الضرر عن الزوجة، والطلاق بلفظ ينبئ عن الشدة والانفصال التام.
ويكون الطلاق بائناً فيما يأتي:

أولاًـ البائن بينونة صغرى:
1 - الطلاق قبل الدخول الحقيقي أو بعد الخلوة الصحيحة المجردة، فالأول يكون بائناً، لأنه لا تجب به العدة ولا يقبل الرجعة، بدليل: {يا أيها الذين آمنوا إذا

(9/6957)


نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/ 33] وإذا لم تجب العدة فلا تمكن المراجعة؛ لأن الرجعة لا تكون إلا في العدة، فيكون الطلاق بائناً غير رجعي.
وأما بعد الخلوة الصحيحة التي لم يحدث فيها اتصال جنسي، فيقع الطلاق بائناً، وإن وجبت العدة؛ لأن وجوب العدة إنما هو للاحتياط لثبوت النسب، والحكم بصحة الرجعة ليس فيه احتياط، بل الاحتياط يقتضي الحكم بعدم صحة الرجعة.
2ً - الطلاق الكنائي المقترن بما ينبئ عن الشدة أو القوة أو البينونة: أي أن كل طلاق بالكناية إذا نوى به الطلاق، ما عدا الألفاظ الثلاثة المتقدمة (اعتدي، استبرئي رحمك، أنت واحدة) يكون طلقة واحدة بائنة، وإن نوى به اثنتين، إذ لا دلالة للفظ على عدد الثنتين، فيثبت الأدنى وهو الواحدة، فإن نوى به الثلاث كان ثلاثاً؛ لأن البينونة نوعان: مغلظة وهي الثلاث، ومخففة وهي الواحدة، فأيهما نوى وقعت لاحتمال اللفظ.
وهذه الألفاظ مثل قوله: أنت طالق طلقة شديدة أو قوية أو طويلة أو عريضة؛ لأن المراد بالطول والعرض والشدة والقوة.
ومثل: أنت بائن، وبتة، وبتلة، وخلية، برية، حرة، وحبلك على غاربك، والحقي بأهلك، وسرحتك وفارقتك، وتقنعي، وتخمري واستتري، واعزُبي واغرُبي (1)، وابتغي الأزواج، ونحو ذلك.
وقد أصبح: أنت خالصة، وأنت حرام، أو علي الحرام من الطلاق الصريح عرفاً، ويقع به طلقة رجعية.
_________
(1) اعزبي من العزوبة: وهي عدم الزواج، واغربي من الغربة: وهي البعد.

(9/6958)


والحقي بأهلك، وسرحتك وفارقتك، وتقنعيى، وتخمري واستتري، واعزُبي واغرُبي، وابتغي الأزواج، ونحو ذلك.
وقد أصبح: أنت خالصة، وأنت حرام، أو علي الحرام من الطلاق الصريح عرفاً، ويقع به طلقة رجعية.
3ً - الطلاق على مال: وذلك إذا خالع الرجل امرأته أو طلقها على مال؛ لأن الخلع بعوض طلاق على مال عندهم، وكان طلاقاً بائناً؛ لأن المقصود أن تملك المرأة أمرها، وتمنع الزوج من مراجعتها، ولا يتحقق هدفها إلا بالطلاق البائن.
4ً - الطلاق الذي يوقعه القاضي لا لعدم الإنفاق أو بسبب الإيلاء، وإنما بسبب عيب في الزوج أو للشقاق بين الزوجين، أو لتضرر الزوجة من غيبة الزوج أو حبسه؛ لأن التجاء الزوجة إلى القضاء لا يكون إلا لدفع الضرر عنها وحسم الزواج، ولا يتحقق المقصود إلا بالطلاق البائن.

ثانياً ـ البائن بينونة كبرى: أن يكون طلاقاً ثالثاً، سواء أكان مكملاً للثلاث تفريقاً، بأن يطلق الرجل زوجته كل مرة طلقة، أم مقترناً بالثلاث لفظاً أو إشارة، مثل أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق ويشير بأصابعه الثلاث، أم مكرراً ثلاث مرات في مجلس واحد أو في مجالس متعددة، بأن يقول لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فيقع ثلاثاً إلا إذا قصد تأكيد الطلقة الأولى السابقة، فلا يقع إلا طلقة واحدة.
والإشارة لها حكم العبارة، فإن أشار بأصبع واحدة فهي واحدة رجعية، وإن أشار باثنتين فهي اثنتان، وإن أشار بثلاث فهي ثلاث؛ لأن الإشارة متى تعلقت بها

(9/6959)


العبارة نزِّلت منزلة الكلام، لحصول ما وضع له الكلام بها وهو الإعلام، بدليل العرف والشرع، أما العرف فواضح، وأما الشرع، فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الشهر هكذا وهكذا، وأشار صلّى الله عليه وسلم بأصابع يده كلها، فكان بياناً أن الشهر يكون ثلاثين يوماً، ثم قال صلّى الله عليه وسلم: الشهر هكذا وهكذا، وحبس إبهامه في المرة الثالثة، فكان بياناً أن الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً (1).

رأي المالكية (2): البائن يكون في أربعة مواضع:
وهي طلاق غير المدخول بها، وطلاق الخلع، والطلاق بالثلاث، والمبارأة: وهي التي يملِّك الناس بها أمر نفسها، ويجعلونها واحدة بائنة من غير خلع. والثلاثة الأولى متفق عليها.
والرجعي: هو ما عدا هذه المواضع.

رأي الشافعية والحنابلة (3): يتفق مع رأي المالكية فيما عدا المبارأة. فيقولون: كل طلاق يقع رجعياً إلا إذا كان قبل الدخول، أو كان على مال كما في الخلع، أو كان مكملاً للثلاث أو مقترناً بعدد الثلاث.
وعلى هذا لا يقع عند الجمهور غير الحنفية بطلاق الكنايات إلا الطلاق الرجعي، ولو نوى بها البائن؛ لأن الصريح لا يقع به إلا الطلاق الرجعي، فالكناية التي هي أضعف من التصريح لاحتمالها الطلاق وغيره، يكون الطلاق الواقع بها رجعياً بالأولى، ولأن الطلاق وضع شرعي لا يتأثر بالنية، فقصد البينونة بالكناية يكون تغييراً للوضع الشرعي.

موقف القانون: أخذ القانون في مصر وسورية برأي الجمهور في بيان الطلاق الرجعي والبائن، فنصت المادة (94) من القانون السوري على ما يلي «كل طلاق يقع رجعياً إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على بدل، وما نص على كونه بائناً في هذا القانون» والذي نص هذا القانون على كونه بائناً هو التفريق القضائي للعيب أو العلة، والتفريق للشقاق بين الزوجين. فالقول بأن كل
_________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمر (جامع الأصول: 182/ 7 وما بعدها، نصب الراية: 228/ 3).
(2) القوانين الفقهية: ص 226، الشرح الصغير: 526/ 2.
(3) مغني المحتاج: 337/ 3، المغني: 274/ 7، 278.

(9/6960)


طلاق يقع رجعياً مخالف لمذهب الحنفية؛ لأن كنايات الطلاق عندهم كما تقدم يقع بها الطلاق بائناً ما عدا ألفاظاً ثلاثة. ونصت المادة (93) من القانون السوري كما ذ ُكر على أن النية هي مدار طلاق الكناية: «يقع الطلاق بالألفاظ الصريحة فيه عرفاً دون الحاجة إلى نية، ويقع بالألفاظ الكنائية التي تحتمل معنى الطلاق وغيره بالنية» وهذا عمل برأي المالكية والشافعية الذين يوقعون طلاق الكناية بالنية لا بدلالةالحال، خلافاً للحنفية والحنابلة الذين يوقعون بالنية أو القرائن ودلالات الحال.
وهذا هو المعمول به نفسه في القانون المصري، فقد نصت المادة الرابعة من قانون رقم (25) لسنة (1929) على ما يلي: «كنايات الطلاق: وهي ما تحتمل الطلاق وغيره، لا يقع بها الطلاق إلا بالنية».
ونصت المادة الخامسة على ما يأتي: «كل طلاق يقع رجعياً إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، وما نص على كونه بائناً في هذا القانون والقانون رقم (25) لسنة 1920».
وما نص على كونه بائناً في قانون (1929): هو التفريق الذي يكون من القاضي بسبب ضرر الزوجة، والشقاق بينها وبين زوجها، وبسبب غيبة الزوج أو حبسه مدة طويلة.
وما نص على كونه بائناً في قانون (1920): هو تفريق القاضي أيضاً بسبب عيوب الرجل من مثل الجنون والجذام والبرص وغيرها من العيوب في الراجح عند الحنفية، وهي عيوب الجب والعنة والخصاء.
والقانون متفق مع الفقه، ولكن كل من القانون المصري والسوري قد خالف

(9/6961)


المذاهب الأربعة في الطلاق الثلاث المقترن بعدد الثلاث، يقع ثلاثاً في المذاهب، وواحدة في القانون، فنصت المادة الثالثة من قانون عام (1929) في مصر، والمادة (92) من القانون السوري على أن «الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحداً».

حكم الطلاق الرجعي والبائن:
يشترك الطلاق الرجعي والبائن في أحكام، منها:
وجوب نفقة العدة للمطلقة، وثبوت نسب ولدها الذي تلده للمطلق، ويهدم الزوج الثاني إذا تزوجت المطلقة بزوج آخر ما كان من الطلاق في الزواج الأول، سواء عند أبي حنيفة وأبي يوسف أكان الطلاق ثلاثاً أم أقل، وقال باقي الفقهاء: إنه يهدم الثلاث لا غير، فتعود إلى الأول بزوجية جديدة يملك فيها ثلاث طلقات. وينفرد الطلاق الرجعي عن البائن بأحكام.
حكم الطلاق الرجعي:
اتفق الفقهاء على أن الطلاق الرجعي له آثار هي (1):
1ً ـ نقص عدد الطلقات: يترتب على الطلاق أنه ينقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج، فإذا طلق الرجل زوجته طلاقاً رجعياً بقي له طلقتان، وإذا طلق طلاقاً آخر بقي له طلقة واحدة.
2ً - انتهاء رابطة الزوجية بانتهاء العدة: إذا طلق الرجل طلاقاً رجعياً وانقضت العدة من غير مراجعة بانت منه بانقضاء العدة، وحينئذ يحل مؤخر الصداق.
_________
(1) الدر المختار: 645/ 2، 738، القوانين الفقهية: ص 226، 234، مغني المحتاج: 340/ 3، المغني: 279/ 7، غاية المنتهى: 180/ 3، الشرح الصغير: 606/ 2.

(9/6962)


3ً - إمكان المراجعة في العدة: يملك المطلّق مراجعة مطلقته بالقول اتفاقاً، وكذا بالفعل عند الحنفية والحنابلة والمالكية، ما دامت في العدة، فإذا انقضت العدة بانت منه، فلم يملك رجعتها إلا بإذنها.
4ً - المرأة الرجعية زوجة يلحقها طلاق الرجل وظهاره وإيلاؤه ولعانه، ويرث أحدهما صاحبه بالاتفاق. وإن خالعها صح خلعه عند الحنابلة والحنفية؛ لأنها زوجة صح طلاقها، فصح خلعها كما قبل الطلاق، وليس مقصود الخلع التحريم، بل الخلاص من مضرة الزوج ونكاحه الذي هو سببها، والنكاح باق، ولا نأمن رجعته.
وقال الشافعي في الأظهر: يصح خلع المرأة الرجعية في أثناء العدة؛ لأنها في حكم الزوجات في كثير من الأحكام (1).
5 - حرمة الاستمتاع عند الشافعية: قال الشافعية، والمالكية في المشهور: يحرم الاستمتاع بالمرأة المطلقة طلاقاً رجعياً بوطء وغيره حتى بالنظر ولو بلا شهوة؛ لأنها مفارقة كالبائن، ولأن النكاح يبيح الاستمتاع فيحرمه الطلاق؛ لأنه ضده، فإن وطئ الزوج المطلقة فلا حد، ولا يعزر إلا معتقد تحريمه. وهذا هو الحق عندي.
وقال الحنفية والحنابلة: الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء، فيجوز الاستمتاع بالرجعية ولو وطئها لاحد عليه؛ لأنه مباح، لكن تكره الخلوة بها تنزيهاً. ومن عبارات الحنفية فيه: الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا الحل ما دامت في العدة. والمقصود بالملك: حل الاستمتاع وسائر حقوق الزواج، والمقصود بالحل: بقاء المطلقة حلالاً لمن طلقها ولا تحرم عليه بسبب من أسباب التحريم.
_________
(1) مغني المحتاج: 265/ 3.

(9/6963)


حكم الطلاق البائن:
أولاً ـ البائن بينونة صغرى: يظهر أثر الطلاق البائن بينونة صغرى فيما يأتي بالاتفاق.
اً - زوال الملك لا الحل بمجرد الطلاق: يحرم الاستمتاع مطلقاً والخلوة بعده ساعة الطلاق، ولا يحق مراجعة المرأة إلا بعقد جديد، ولكن يبقى الحل، سواء في العدة أم بعدها بعقد جديد.
2ً - نقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج كالطلاق الرجعي.
3ً - يحل بمجرد الطلاق الصداق المؤجل إلى أحد الأجلين: الموت أو الطلاق.
4ً - منع التوارث بين الزوجين: إذا مات أحدهما أثناء العدة لا يرثه الآخر؛ لأن الطلاق البائن ينهي الزوجية بمجرد صدوره، إلا إذا كان الطلاق في مرض الموت وقامت قرينة على أن الزوج يقصد حرمان الزوجة من الميراث، فإنها عند الجمهور غير الشافعية ترثه إن مات في العدة، وكذا بعد العدة عند المالكية، معاملة له بنقيض مقصوده، وهذا هو طلاق الفرار.
5ً - يلحق الطلاق الصريح عند الحنفية الطلاق البائن في أثناء العدة، ويلحق البائن الصريح أيضاً بشرط العدة إلا إذا كان الطلاق الثاني بائناً بلفظ الكناية يحتمل الإخبار عن البينونة الأولى.

ثانياً ـ البائن بينونة كبرى:
هذا يزيل الملك والحل معاً، ولا يبقى للزوجية أثر سوى العدة وما يتبعها، فيحل به الصداق المؤجل إلى الطلاق أو الوفاة، ويمنع التوارث بين الزوجين إلا إذا

(9/6964)


كان طلاق فرار عند غير الشافعية كالبائن بينونة صغرى، فيعامل بنقيض مقصوده وتحرم به المطلقة على الزوج تحريماً مؤقتاً، ولا تحل له حتى تتزوج بزوج آخر، ويدخل بها دخولاً حقيقياً، ثم يطلقها أو يموت عنها، وتنقضي عدتها منه.
البينونة الكبرى كالصغرى إلا في أمرين:
الأول ـ أن البينونة الكبرى لا محل بعدها بالاتفاق لوقوع طلاق آخر.
الثانية ـ أن المرأة في البينونة الكبرى لا يمكن أن ترجع إلى زوجها الأول حتى تتزوج بزوج آخر غيره.

حكم الطلاق الرجعي والبائن في القانون السوري:
نصت المادة (118) من هذا القانون على حكم الطلاق الرجعي، وانقلابه بائناً بانتهاء العدة وهي:
1 - الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية، وللزوج أن يراجع مطلقته أثناء العدة بالقول أو الفعل، ولا يسقط هذا الحق بالإسقاط.
2 - تبين المرأة وتنقطع الرجعة بانقضاء عدة الطلاق الرجعي. ونص هذا القانون أيضاً على آثار الطلاق البائن، فنصت المادة (119) على ما يلي:
الطلاق البائن دون الثلاث يزيل الزوجية حالاً، ولا يمنع من تجديد عقد الزواج.
ونصت المادة (120) على الطلاق البائن بينونة كبرى:
الطلاق المكمل للثلاث يزيل الزوجية حالاً، ويمنع من تجديد العقد ما لم تتوافر الشرائط المبينة في المادة (36) من هذا القانون.

(9/6965)


ونص المادة (36) هو ما يلي:
1 - لا يجوز أن يتزوج الرجل امرأة طلقها ثلاث مرات إلا بعد انقضاء عدتها من زوج آخر دخل بها فعلاً.
2 - زواج المطلقة من آخر يهدم طلقات الزوج السابق، ولو كانت دون الثلاث، فإذا عادت إليه يملك عليها ثلاثاً جديدة.

تقسيم الطلاق إلى منجز ومعلق ومضاف للمستقبل:
ينقسم الطلاق بالنظر إلى الصيغة من حيث اشتمالها على التعليق على أمر مستقبل أو الإضافة إلى زمن في المستقبل وعدم اشتمالها على التعليق إلى ثلاثة أنواع: منجز، ومعلق، ومضاف (1).

أولاً ـ الطلاق المنجز أو المعجل: هو ما قصد به الحال، كأن يقول رجل لامرأته: أنت طالق، أو مطلقة، أو طلقتك. وحكمه: وقوعه في الحال وترتب آثاره عليه بمجرد صدوره، متى كان الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق، والزوجة محلاً لوقوعه.
ثانياً ـ الطلاق المضاف: هو ما أضيف حصوله إلى وقت في المستقبل، كأن يقول الرجل لزوجته: أنت طالق غداً، أو أول الشهر الفلاني أو أول سنة كذا.
وحكمه: وقوع الطلاق عند مجيء أول جزء من أجزاء الزمن الذي أضيف
_________
(1) فتح القدير: 22/ 3، 61، 143، البدائع: 157/ 3، الدر المختار: 606/ 2 - 609، 677 - 690، اللباب: 46/ 3، 53، القوانين الفقهية: ص231 وما بعدها، الشرح الصغير: 576/ 2 - 583، مغني المحتاج: 302/ 3، 313 - 334، و718/ 8، المهذب: 86/ 2 - 96، غاية المنتهى: 147/ 3 - 165، المغني: 164/ 7 - 171، 193 - 228، كشاف القناع: 333/ 5 - 358، بداية المجتهد: 78/ 2، المحلى: 264/ 10، مسألة 1973.

(9/6966)


إليه، إذا كانت المرأة محلاً لوقوع الطلاق عليها عند ذلك الوقت، وكان الرجل أهلاً لإيقاعه؛ لأنه قصد إيقاعه بعد زمن، لا في الحال.
فقوله: أنت طالق غداً، يقع بأول جزء منه وهو عند طلوع الفجر، وقوله: أنت طالق ليلاً إذا مضى يوم، فيقع عند غروب شمس غده، إذ به يتحقق مضي اليوم. وإن قال: نهاراً، ففي مثل وقته من غده تطلق لأن اليوم حقيقة في جميعه، وإن قال لزوجته: أنت طالق في شهر كذا كرمضان، وقع الطلاق في أول جزء من الليلة الأولى منه، وهو حين تغرب الشمس من آخر يوم من الشهر الذي قبله وهو شهر شعبان.
وإن قال: أنت طالق أمس أو أنت طالق قبل أن أتزوجك، وقصد أن يقع في الحال مستنداً إلى الأمس، وقع في الحال عند الحنفية، والشافعية على الصحيح والحنابلة، ولغا قصد الاستناد إلى أمس لاستحالته؛ لأن الإنشاء في الماضي في الحال.
وظاهر كلام أحمد: أن الطلاق لا يقع إذا لم يكن له نية. وإن أراد الإخبار بأنه كان قد طلقها هو، أو زوجٌ قبله في الزمان المذكور، وكان قد وجد الطلاق، قبل منه. وإن لم يوجد وقع طلاقه.
وإن قال: أنت طالق قبل أن أخلق أو قبل أن تخلقي، أو طلقتك وأنا صبي أو نائم، أو مجنون، كان لغواً؛ لأن حاصله إنكار الطلاق.
كذلك رأى الحنفية والشافعية والحنابلة: إن قال: أنت طالق قبل موتي بشهرين أو أكثر، فمات قبل مضي شهرين، لم تطلق لانتفاء الشرط، ولأن الطلاق لا يقع في الماضي.

(9/6967)


وإن مضى شهران ثم مات بعدهما ولو بساعة طلقت مستنداً لأول المدة لا عند الموت، وفائدة الطلاق: أنه لا ميراث لها؛ لأن العدة قد تنتهي بشهرين، بثلاث حيضات عند الحنفية ومن وافقهم.
وإن قال: أنت طالق قبل موتي، ولم يزد شيئاً، طلقت في الحال؛ لأن ما قبل موته من عقد صفة الطلاق، محل للطلاق، فوقع في أوله.
وإن قال لزوجته: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، فقدم بعد شهر وجزء يقع الطلاق فيه، وقع مستنداً (أي بأثر رجعي) قبل الشهر عند الشافعية والحنابلة؛ لأن قوله يراد به إيقاع الطلاق بعد عقده، لأنه أوقع الطلاق في زمن على صفة، فإذا حصلت الصفة وقع فيه، كما لو قال: أنت طالق قبل رمضان بشهر أو قبل موتك بشهر.
وقال الحنفية ما عدا زفر: يقع الطلاق مقتصراً (أي من غير أثر رجعي) عند قدوم زيد؛ لأنه جعل الشهر شرطاً لوقوع الطلاق، فلا يسبق الطلاق شرطه.

ثالثاً ـ الطلاق المعلق:
هو ما رتب وقوعه على حصول أمر في المستقبل، بأداة من أدوات الشرط أي التعليق، مثل إن، وإذا، ومتى، ولو ونحوها، كأن يقول الرجل لزوجته: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، أو إذا سافرت إلى بلدك فأنت طالق، أو إن خرجت من المنزل بغير إذني فأنتي طالق، أو متى كلمت فلاناً فأنت طالق.
ويسمى يميناً مجازاً؛ لأن التعليق في الحقيقة إنما هو شرط وجزاء، فإطلاق اليمين عليه مجاز، لما فيه من معنى السببية، ولمشاركته الحلف في المعنى المشهور وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر.

(9/6968)


والتعليق إما لفظي: وهو الذي تذكر فيه أداة الشرط صراحة، مثل إن وإذا.
وإما معنوي: وهو الذي لا تذكر فيه أداة الشرط صراحة، بل تكون موجودة من حيث المعنى، كقول الزوج: علي الطلاق لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا. فالمقصود منها بحسب العرف: لزوم الطلاق إن حصل المحلوف عليه، أم لم يحصل.
أنواع الشرط المعلق عليه:
الشرط الذي يعلق الطلاق عليه إما أن يكون أمراً اختيارياً يمكن فعله والامتناع عنه، أو أمراً غير اختياري.
فإن كان الشرط أمراً اختيارياً يمكن أن يكون ويمكن ألا يكون: فإما أن يكون فعلاً من أفعال الزوج، مثل إن دخلت دار فلان أو كلمت فلاناً فامرأتي طالق، أو إن لم أدفع حق فلان غداً فزوجتي طالق، ففي المثال الأول يكون التعليق لحمل نفسه على الامتناع من الدخول، وفي المثال الثاني يكون التعليق لحمل نفسه على دفع الدين أو الحق في الغد.
أو يكون فعلاً من أفعال الزوجة، مثل إن سافرت أو دخلت دار فلان فأنت طالق. ومثل: أنت طالق إن شئت، لم تطلق حتى تسافر أو تدخل الدار أو تشاء. أو يكون فعلاً لغير الزوجين، مثل: إن سافر أخوك فأنت طالق. وإن كان الشرط أمراً غير اختياري للإنسان فهو كالتعليق بمشيئة الله تعالى، وطلوع الشمس وموت فلان، ودخول الشهر، وولادة فلانة ونحوها.

شروط التعليق:
يشترط لصحة التعليق ما يأتي:

(9/6969)


1ً - أن يكون الشرط المعلق عليه الطلاق معدوماً على خطر الوجود، أي يحتمل أن يكون وألا يكون. فلو كان موجوداً كان طلاقها منجزاً، مثل إن خرجت أمس فأنت طالق، وقد خرجت فعلاً فتطلق في الحال. وإن كان المعلق عليه أمراً مستحيلاً عادة كالطيران وصعود السماء، مثل إن صعدت السماء فأنت طالق، ومنه التعليق بمشيئة الله تعالى، كأن يقول: أنت طالق إن شاء الله تعالى، فلا يقع عند الحنفية؛ لأن التعليق لا يصح، واليمين لغو، ووافقهم بقية المذاهب في التعليق بمستحيل عادة.
ووافقهم أيضاً المالكية والشافعية والظاهرية في التعليق بمشيئة الله، لا يقع الطلاق عندهم إن قصد التعليق، وقال الحنابلة: يقع الطلاق، لأن ما لا يمكن الاطلاع عليه يكون منجزاً ويقع في الحال، وسقط حكم تعليقه، قال ابن عباس: «إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق» وقال ابن عمرو وأبو سعيد: «كنا معشر النبي صلّى الله عليه وسلم نرى الاستثناء جائزاً في كل شيء إلا في الطلاق والعتاق» وذكر الشافعية: أنه لو قال: يا طالق إن شاء الله، وقع في الأصح نظراً لصورة النداء المشعر بحصول الطلاق حالته، والحاصل لا يعلق، بخلاف أنت طالق إن شاء الله وقصد التعليق فإنه لم يقع.
ورأي غير الحنابلة أصح لدي لحديث ابن عمر: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» (1) وحديث ابن عباس: «من قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو لغلامه: أنت حر، أو قال: عليَّ المشي إلى بيت الله إن شاء الله، فلا شيء عليه» (2).
_________
(1) رواه أصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حديث حسن (نصب الراية: 234/ 3).
(2) أخرجه ابن عدي، وهو معلول بإسحاق الكعبي (نصب الراية: 235/ 3).

(9/6970)


2ً - أن يحصل المعلق عليه والمرأة محل لوقوع الطلاق عليها: بأن تكون في حال الزوجية فعلاً، أو حكماً في أثناء العدة باتفاق الفقهاء، أو في أثناء العدة من الطلاق البائن بينونة صغرى عند الحنفية، خلافاً لباقي المذاهب، فلو قال الرجل لامرأة أجنبية: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، فكلمته، لم يقع الطلاق وكذا لو تزوجها ثم كلمت فلاناً، لا تطلق؛ لأنها وقت التعليق لم تكن محلاً لإيقاع الطلاق.
ولو قال لامرأته المطلقة طلاقاً رجعياً في أثناء العدة: إن كلمت فلاناً، فأنت طالق، فكلمته في العدة، وقع الطلاق عليها باتفاق الفقهاء، وكذا تطلق لو كانت عند الحنفية في عدة طلاق بائن بينونة صغرى، ولا تطلق حينئذ في المذاهب الأخرى.
ولا يشترط عند حصول المعلق عليه أن يكون الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق، فلو طلق طلاقاً معلقاً ثم جن أو عته، ووجد المعلق عليه، وقع الطلاق؛ لأن الصيغة صدرت من أهلها مستوفية شروطها، فيترتب عليها أثرها.

حكم الطلاق المعلق أو اليمين بالطلاق:
اختلف الفقهاء في اليمين بالطلاق أو الطلاق المعلق على ثلاثة أقوال (1)، كأن يعلق طلاق زوجته على أمر المستقبل، ويوجد المعلق عليه، مثل: إن دخلت الدارفأنت طالق، أو كلمت زيداً، أو إن قدم فلان من سفره، فأنت طالق. أو
_________
(1) فتح القدير: 76/ 4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص231، مغني المحتاج: 314/ 3 ومابعدها، المغني: 178/ 7 ومابعدها، المحلى: 258/ 10 ومابعدها، مسألة 1969، المختصر النافع من فقه الإمامية: ص222، أعلام الموقعين: 66/ 3 ومابعدها، مقارنة المذاهب للأستاذين شلتوت والسايس: ص108 ومابعدها.

(9/6971)


يقول لها في العرف الشائع اليوم: علي الطلاق إن ذهبت لبيت أهلك، أو سافرت، أو ولدت أنثى، أو علي الطلاق إن لم أتزوج زوجة أخرى ونحوه.

1 - فقال أئمة المذاهب الأربعة: يقع الطلاق المعلق متى وجد المعلق عليه، سواء أكان فعلاً لأحد الزوجين، أم كان أمراً سماوياً، وسواء أكان التعليق قسمياً: وهو الحث على فعل شيء أو تركه أو تأكيد الخبر، أم شرطياً يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشرط.
2 - وقال الظاهرية والشيعة الإمامية: اليمين بالطلاق أو الطلاق المعلق إذا وجد المعلق عليه لا يقع أصلاً، سواء أكان على وجه اليمين: وهو ما قصد به الحث على فعل شيء أو تركه أو تأكيد الخبر، أم لم يكن على وجه اليمين: وهو ما قصد به وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه.
3 - وقال ابن تيمية وابن القيم بالتفصيل: إن كان التعليق قسمياً أو على وجه اليمين ووجد المعلق عليه، لا يقع، ويجزيه عند ابن تيمية كفارة يمين إن حنث في يمينه، ولا كفارة عليه عند ابن القيم، وأما إن كان التعليق شرطياً أو على غير وجه اليمين، فيقع الطلاق عند حصول الشرط.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول: استدل أئمة المذاهب الأربعة بالكتاب والسنة والمعقول:
1 - الكتاب: استدلوا بإطلاق الآيات الدالة على مشروعية الطلاق وتفويض الأمر فيه إلى الزوج، مثل قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2]، فهي لم تفرق بين منجز ومعلق، ولم تقيد وقوعه بشيء، والمطلق يعمل به على إطلاقه، فيكون للزوج إيقاع الطلاق حسبما يشاء منجزاً أو مضافاً أو معلقاً على وجه اليمين أو غيره.

(9/6972)


2 - السنة: استدلوا بقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» وبوقائع كثيرة حدثت في عصر النبي والصحابة، منها: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: «طلق رجل امرأته البتة إن خرجت» فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء.
ومنها: ما رواه البيهقي عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فعلتْ كذا وكذا، فهي طالق، ففعلته: فقال: هي واحدة، وهو أحق بها.
ومنها: ما صح عن أبي ذر الغفاري أن امرأته لما ألحت عليه في السؤال عن الساعة التي يستجيب الله فيها الدعاء يوم الجمعة قال لها: «إن عدت سألتِني فأنت طالق».
ومنها: ما أسنده ابن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كل يمين وإن عظمت، ففيها الكفارة إلا العتق والطلاق».
ومنها: ما رواه البيهقي عن ابن عباس في رجل قال لامرأته: هي طالق إلى سنة، قال: يستمتع بها إلى سنة. وهذا الأثر في التعليق الشرطي، وكل ما سبق قبله في التعليق القسمي.
وعن الحسن البصري فيمن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أضرب غلامي فأبق الغلام (هرب)، قال: هي امرأه يستمتع بها، ويتوارثان، حتى يفعل ما قال. فإن مات الغلام قبل أن يفعل ما قاله، فقد ذهبت منه امرأته.
وروى البيهقي عن أبي الزناد عن فقهاء أهل المدينة أنهم كانوا يقولون: أيما رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت حتى الليل، فخرجت امرأته قبل الليل بغير علمه، طلقت امرأته.

(9/6973)


فكل هذه الآثار تدل على وقوع الطلاق المعلق عند حدوث الشرط المعلق عليه.
3 - المعقول: قد تدعو الحاجة إلى تعليق الطلاق كما تدعو إلى تنجيزه، زجراً للمرأة، فإن خالفت كانت هي الجانية على نفسها. ويقاس الطلاق القسمي على المداينة إلى أجل والعتق إلى أجل.
أدلة القول الثاني:

استدل الظاهرية والإمامية على قولهم بأن تعليق الطلاق يمين، واليمين بغير الله تعالى لا تجوز، بقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله» (1) ثم قالوا: ولا طلاق إلا ما أمر الله عز وجل، ولا يمين إلا كما أمر الله عز وجل على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واليمين بالطلاق ليس مما سماه الله تعالى يميناً، والله تعالى يقول: {ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق:1/ 65] ولم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق المعلق.
ورد هذا: بأن تسمية الطلاق المعلق يميناً إنما هو على سبيل المجاز، من حيث إنه يفيد ما يفيده اليمين بالله تعالى: وهو الحث على الفعل، أو المنع منه، أو تأكيد الخبر، فلا يكون الحديث المذكور متناولاً الطلاق المعلق. ثم إن السنة وردت بوقوع الطلاق المعلق.
واستدلوا أيضاً بما رواه ابن حزم وابن القيم عن علي وشريح أنهم كانوا يقولون: «الحلف بالطلاق ليس بشيء» ورد عليه بأن المروي عن علي في حال الاضطهاد، والمروي عن شريح في حالة عدم وقوع الأمر المعلق عليه، والمروي عن طاوس مؤوّل بأنه ليس شيئاً مستقيماً في السنة بمعنى لا ينبغي أن يحصل.
_________
(1) رواه أبو عبيد عن ابن عمر.

(9/6974)


واستدلوا كذلك بأن كل طلاق لا يقع حين إيقاعه دون تقييد بشرط أو صفة لا يقع بعدئذ. ورد هذا بأن المعلِّق ليس موقعاً للطلاق حين التلفظ، وإنما عند تحقق الشرط.
وقاسوا الطلاق على النكاح، فكما لا يصح تعليق النكاح لا يصح تعليق الطلاق. ورد عليه بأنه قياس مع الفارق؛ لأن تعليق النكاح مناف للمقصود منه، أما الطلاق فإنه لا ينافيه.
أدلة القول الثالث:

استدل ابن تيمية وابن القيم على رأيهم التفصيلي:
1ً - بأن الطلاق المعلق القسمي إذا كان المقصود منه الحث على الفعل أو المنع منه أو تأكيد الخبر، كان في معنى اليمين، فيكون داخلاً في أحكام اليمين في قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم:2/ 66] وقوله سبحانه: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة:89/ 5]. وإن لم تكن يميناً شرعية كانت لغواً.
ورد عليهما بأن الطلاق المعلق لا يسمى يميناً لا شرعاً ولا لغة، وإنما هو يمين على سبيل المجاز، لمشابهة اليمين الشرعية في إفادة الحث على الفعل أو المنع منه أو تأكيد الخبر، فلا يكون له حكم اليمين الحقيقي: وهو الحلف بالله تعالى أو صفة من صفاته، بل له حكم آخر: وهو وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه.
2 - وبأن عائشة وحفصة وأم سلمة وابن عباس أفتوا ليلى بنت العجماء بأن تكفِّر عن يمينها حينما حلفت بالعتق فقالت: كل مملوك لها محرر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية إن لم يطلق مولاها أبو رافع امرأته، أو يفرق بينه وبينها، فيكون الحلف بالطلاق مثله وهو أولى.

(9/6975)


ورد عليهما بأن الآثار المروية عن الصحابة في الاعتداد بالتعليق أقوى من هذا؛ لأن رواتها من رجال الصحيح.
3 - وبما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه: «الطلاق عن وَطَر والعتق: ما ابتغي به وجه الله» أي أن الطلاق إنما يقع ممن غرضه إيقاعه، لا ممن يكره وقوعه كالحالف المكره.
وأجيب بأن معنى الوطر ليس هو كما ذكرتم، بل معناه: لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته إلا عند الحاجة كالنشوز.
وفي تقديري أن القول الأول هو الأصح دليلاً، لكن يلاحظ أن الشبان غالباً يستخدمون اليمين بالطلاق للتهديد لا بقصد الإيقاع، وهذا يجعلني أميل إلى القول الثالث، لا سيما وقد أخذ به القانون في مصر رقم (25 لسنة 1929)، وفي سورية، نصت المادة الثانية من القانون المصري والمادة (90) من القانون السوري على الأخذ برأي ابن تيمية وابن القيم:
«لا يقع الطلاق غير المنجز إذا لم يقصد به إلا الحث على فعل شيء، أو المنع منه، أو استعمل استعمال القسم لتأكيد الإخبار لا غير».

ملحق ـ حكم طلاق المريض مرض الموت:
أبحث هنا حكم طلاق المريض مرض الموت ونحوه، وشروط ثبوت ميراث زوجته منه، وبعض الأحكام الفرعية في مرض الموت (1).
_________
(1) فتح القدير: 150/ 3 ومابعدها، الدر المختار: 715/ 2 - 723، اللباب: 52/ 3، القوانين الفقهية: ص228، مغني المحتاج: 294/ 3، المغني: 329/ 6 - 339، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 223، المحلى: 266/ 10، مسألة 1976.

(9/6976)


المقصود بمريض الموت: كل من غالب حاله الهلاك بمرض أو غيهر له حكم مرض الموت، ويسمى طلاقه طلاق الفارّ أو الفرار، لفراره من إرث زوجته، فيرد عليه قصده إلى تمام عدتها عند الحنفية، ولو بعد انقضاء العدة عند المالكية، وما لم تتزوج في المشهور عند الحنابلة.
ومريض الموت كما قال الحنفية: هو من أضناه مرض عجز به عن إقامة مصالحه المعتادة خارج البيت، كعجز العالم الفقيه عن الإتيان إلى المسجد وعجز التاجر عن الإتيان إلى دكانه. وأما المرأة المريضة: فهي التي عجزت عن مصالحها المعتادة داخل البيت كطبخ ونحوه. واستمر المرض في حدود السنة دون تزايد، وأعقبه الموت، فالمراد من مرض الموت: هو الذي يتحقق فيه أمران:
الأول ـ أن يكون الغالب فيه الهلاك عادة، الثاني ـ أن يتصل به الموت. ويلحق به من يترقب الموت كالمحكوم عليه بالإعدام، والمشرف على الغرق في سفينة.

حكمه: له أحكام، منها: أنه لا يصح تبرعه إلا من ثلث التركة، ومنها نفاذ طلاقه وإرث امرأته منه إذا مات وهي في العدة عند الحنفية، وتفصيل حكم طلاقه ما يأتي:
اتفق الفقهاء على أن الرجل المريض إذا طلق امرأته، فطلاقه نافذ كالصحيح، فإن مات من ذلك المرض ورثته المطلقة ما دامت في العدة من طلاق رجعي، كما ترثه فيها في طلاقها في حال الصحة؛ لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاق الزوج وظهاره وإيلاؤه، ويملك إمساكها بالرجعة ولو بغير رضاها، ولا ولي ولا شهود ولاصداق جديد.
أما إن طلقها في حال الصحة طلاقاً بائناً أو رجعياً، فبانت منه بانقضاء عدتها، فلم يتوارثا إجماعاً.

(9/6977)


واتفق الفقهاء أيضاً على أن الرجل إذا طلق امرأته في مرض الموت ثم ماتت، لم يرثها وإن ماتت في العدة.
واختلفوا في إرث الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً إذا مات الزوج في أثناء العدة من هذا الطلاق. وهذا محل البحث هنا، وهو حكم طلاق الفرار.
فقال الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والإمامية): إنها ترثه، وقال الشافعي في الجديد: لا ترثه. وقال الظاهرية: طلاق المريض كطلاق الصحيح ولا فرق، فإذا مات أو ماتت فلا توارث بينهما بعد الطلاق الثلاث، ولا بعد تمام العدة في الطلاق الرجعي.
الأدلة:
استدل الشافعي على أن المرأة المطلقة في عدة طلاق بائن لا ترث من زوجها الذي طلقها: بانقطاع آثار الزوجية بالطلاق البائن، والميراث لا يثبت بعد زوال سببه، بخلاف المطلقة في عدة طلاق رجعي، فإنها ترث بالاتفاق لبقاء آثار الزوجية، كلحوق الطلاق لها والإيلاء منها ونحوهما.
واستدل الجمهور بالأثر والمعقول:
أما الأثر: فإن عثمان رضي الله عنه ورَّث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، الذي كان قد طلقها في مرضه، فبتَّها، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً منهم.
وأما المعقول: فهو أن تطليقها ضرار محض، وهو يدل على قصده حرمانها من الإرث، فيعاقب بنقيض قصده، كما يرد قصد القاتل إذا قتل مورثه بحرمانه من الإرث، فترث المرأة حينئذ بسبب الزوجية دفعاً للضرر عنها.

(9/6978)


وقت الإرث: لكن اختلف الجمهور في وقت الإرث، فقال الحنفية: إنها ترث إذا مات وهي في العدة من هذا الطلاق البائن، لبقاء بعض أحكام الزواج فيبقى حق إرثها منه، فإن مات بعد انقضاء العدة، فلا ميراث لها؛ لأنه لم يبق بينهما علاقة، وصارت كالأجنبية، ففي أثناء العدة: ترث بسبب الإمكان وهو بقاء بعض أحكام الزوجية، وبعد انقضاء العدة: لا ترث لعدم الإمكان وانقطاع آثار الزوجية السابقة.
وقال المالكية: إنها ترث وإن انقضت عدتها وتزوجت، لما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف «أن أباه طلق أمه، وهو مريض، فمات، فورثته بعد انقضاء العدة» ولأن سبب توريثها فراره من ميراثها، وهذا المعنى لا يزول بعد انقضاء العدة.
وعند الإمامية، والمشهور عند أحمد: أنها ترثه في العدة وبعدها ما لم تتزوج، لما روي عن الحسن البصري، ولأن هذه المطلقة وارثة من زوج، فلا ترث زوجاً سواه كسائر الزوجات، فلو ورثت بعد الزواج بغيره لأدى ذلك إلى توريثها من زوجين في بعض الأحوال، والمرأة لا تكون زوجة لاثنين شرعاً، والتوارث من حكم النكاح فلا يجوز اجتماعه مع نكاح آخر، ولأنها فعلت باختيارها ما ينافي نكاح الزوج الأول لها، فأشبه ما لو كان فسخ النكاح من قبلها.

شروط ثبوت الميراث: يشترط لثبوت ميراث المرأة في طلاق الفرار مايأتي:
1ً - ألا يصح الزوج من ذلك المرض، وإن مات منه بعد مدة.
2ً - أن يكون المرض مخوفاً يحجر عليه فيه.

(9/6979)


3ً - أن يكون الطلاق البائن بعد الدخول الحقيقي: فلو كان الطلاق قبل الدخول ولو بعد الخلوة الصحيحةلا يعتبر المطلِّق فارّاً ولا تستحق الزوجة الميراث؛ لأن العدة لا تجب بهذا الطلاق. ووجوب العدة بعد الخلوة عندا لحنفية ومن وافقهم للاحتياط محافظة على الأنساب، والميراث حق مالي لا يثبت للاحتياط.
4ً - أن يكون الطلاق بدون رضا الزوجة: أي منه لا منها ولا بسببها، فلو كان برضاها لا يثبت لها الميراث، ولا يوصف المطلِّق بالفرار. وعليه لو كان الطلاق بالتمليك والتخيير بأن قال لها: اختاري، والخلع بأن اختلعت منه على مال دفعته له في سبيل تطليقها، والتفريق القضائي لعيب في الزوج، ثم مات وهي في العدة، لم ترثه، لتحقق رضاها بإبطال حقها في الميراث.
5ً - أن تكون الزوجة أهلاً للميراث من زوجها وقت الطلاق، وأن تستمر هذه الأهلية إلى وقت الموت. فإذا لم تكن أهلاً للميراث وقت الطلاق، بأن كانت كتابية وهو مسلم، فلا يثبت لها الميراث، لعدم تحقق صفة الفرار. ولو كانت مسلمة وقت الطلاق، ثم خرجت عن هذه الأهلية قبل الموت فارتدت، فإنها لا ترث؛ لأنها بالردة سقط حقها في الميراث، ولا يعود لها عند الجمهور غير المالكية هذا الحق بالإسلام؛ لأن الساقط لا يعود.
وقال مالك: لو عادت إلى الإسلام بعد أن ارتدت ثم مات الزوج في عدتها، فإنها ترثه؛ لأنها مطلَّقة في المرض، فأشبه ما لو لم ترتد.

الفرقة من جهة الزوجة المريضة مرض الموت: إذا حدثت الفرقة من جهة الزوجة وهي مريضة مرض الموت ونحوه مما يغلب فيه الهلاك، فإنها تعد فارَّة من ميراث زوجها، فتعامل بنقيض مقصودها، ويرثها الزوج إذا ماتت وهي في العدة، ولا ترث هي منه إذا مات ولو كانت في العدة.

(9/6980)


وإذا قصدت الزوجة بالفرقة إبطال حق الزوج، رد عليها قصدها وثبت له الميراث، كأن يكون لهاخيار الفسخ، أو ترتكب مع أحد أصول الزوج أو فروعه في مرض موتها ما يوجب حرمة المصاهرة، أو ترتد عن الإسلام وهي في مرض موتها، فإنها تعتبر فارَّة من الميراث، فيرثها زوجها إذا ماتت قبل انقضاء عدتها؛ لأن الفرقة جاءت بسبب من جهتها.
ومما يوجب حرمة المصاهرة عند الحنفية والحنابلة: أن يستكره الابن امرأة أبيه على ما ينفسخ به نكاحها من وطء أو غيره في مرض أبيه، فمات أبوه من مرضه المذكور، ورثته ولم يرثها إن ماتت. فإن طاوعته على الحرام، لم ترث؛ لأنها مشاركة فيما ينفسخ به نكاحها، فأشبه ما لو خالعته.
وكذلك الحكم فيما إذا وطئ المريض من ينفسخ نكاحه بوطئها، كأم امرأته أو ابنتها، فإن امرأته تبين منه وترثه إذا مات في مرضه، ولا يرثها، سواء طاوعته الموطوءة أو أكرهها، فإن مطاوعتها ليس للمرأة فيه فعل، فيسقط به ميراثها.
ولا يرى الشافعي فسخ النكاح بالوطء الحرام.
وإن فعلت المريضة ما ينفسخ نكاحها، كرضاع امرأة صغيرة لزوجها، أو رضاع زوجها الصغير، أو ارتدت أو نحوها، فماتت في مرضها، ورثها الزوج ولم ترثه عند الحنفية والحنابلة والمالكية، وقال الشافعي: لا يرثها.

زواج المريض المطلِّق بأخرى: إذا طلق المريض امرأته، ثم نكح أخرى ومات من مرضه في عدة المطلقة، ورثتاه عند الحنفية والحنابلة، وقال مالك: الميراث كله للمطلقة؛ لأن نكاح المريض عنده غير صحيح.

(9/6981)


المبحث السادس ـ الشك في الطلاق وإثبات الطلاق:
الشك في الطلاق: الشك لغة ضد اليقين، واصطلاحاً: تردد على السواء، والمراد هنا مطلق التردد، سواء أكان على السواء بين الاحتمالين أم ترجح أحد الاحتمالين. وحكمه باتفاق الفقهاء (1): أن اليقين لا يزول بالشك، وعدم الشك من الزوج في الطلاق هو شرط الحكم بوقوع الطلاق، فلو شك فيه لا يحكم بوقوعه، ولا يعتزل امرأته.
ـ فمن شك في طلاقه، هل طلق أو لا، لم تطلق امرأته؛ لأن النكاح كان ثابتاً بيقين، ووقع الشك في زواله بالطلاق، فلا يحكم بزواله بالشك، كحياة المفقود، إنها لما كانت ثابتة، ووقع الشك في زوالها، لا يحكم بزوالها بالشك، والحاصل: أن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بشك.
ـ ومن شك في صفة الطلاق: أنه طلقها رجعية أو بائنة، يحكم بالرجعية؛ لأنها أضعف الطلاقين، فكانت متيقناً بها.
ـ ومن شك في عدد الطلاق بنى على اليقين، وهو الأقل، فمن شك في طلاق ثلاث، فيحكم عند الجمهور غير المالكية بوقوع طلقة واحدة حتى يستيقن؛ لأن ما زاد على القدر الذي تيقنه طلاق مشكوك فيه، فلم يلزمه، كما لو شك في أصل الطلاق، وتبقى أحكام المطلق دون الثلاث من إباحة الرجعة، وإذا راجع، وجبت النفقة وحقوق الزوجية.
وقال المالكية: إن تيقن الطلاق، وشك في العدد، لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأنها تحتمل طلاقاً ثلاثاً.
_________
(1) البدائع: 126/ 3، القوانين الفقهية: ص 230، المهذب: 100/ 2، مغني المحتاج: 303/ 3 وما بعدها، كشاف القناع: 381/ 5 وما بعدها، المغني: 247/ 7.

(9/6982)


ـ وإن حلف بالطلاق ثم شك: هل حنث أو لا، أمر عند المالكية بالفراق.
ـ وإن شك في وجود الشرط الذي علق عليه الطلاق، مثل: أنت طالق إن فعلت كذا، أو أنت طالق إن لم أفعل كذا اليوم، فمضى اليوم وشك في فعله، لم تطلق؛ لأن النكاح ثابت بيقين، فلا يزول بالشك.
ـ ومن طلق إحدى امرأتيه بذاتها، ثم نسيها أو خفيت عليه ذاتها، بأن طلقها في ظلمة أو من وراء حجاب، رجع إليه عند الشافعية في تعيينها، ولا تحل له واحدة منهما قبل أن يعين، والوطء ليس بياناً ولا تعييناً، ولو ماتت المرأتان أو إحداهما يطالب بالتعيين لبيان الإرث، ولو مات فالأظهر قبول بيان وارثه لا تعيينه، وقال الحنابلة: تعين إحداهما بقرعة.
وإن طلق إحدى امرأتيه، ولم ينو معينة، لزمه التعيين عند الشافعية. وأخرجت المطلقة بالقرعة عند الحنابلة، خلافاً لما ذهب إليه أكثر العلماء، عملاً بما روي عن علي وابن عباس، ولأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية، فتدخله القرعة كالعتق، ولأن الحق لواحد غير معين، فوجب تعيينه بقرعة كإعتاق عبيده في مرضه، وكالسفر بإحدى نسائه، وكالمنسية، ولا يملك إخراج امرأة بتعيينه بغير القرعة، ويجوز له وطء الباقي من نسائه بعد القرعة لبقاء نكاحهن، ولا يجوز وطء إحداهن قبل القرعة إن كان الطلاق بائناً، لاحتمال أن تكون هي التي تقع عليها القرعة، وإن كان الطلاق رجعياً جاز وطء الكل، وبه تحصل الرجعة.
ـ ولو قال: إن كان الطائر غراباً فأنت طالق، وشك هل كان غراباً أو لا، فلا نحكم بوقوعه. ولو قال شخص آخر: إن لم يكن هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق، وجهل حال الطائر، لم يحكم بطلاق المرأة، لجواز أنه غير غراب، والأصل بقاء النكاح، فتعليق الطلاق لا يغير حكمه. وقال الحنابلة: من قال عن طائر: إن كان

(9/6983)


هذا الطائر غراباً ففلانة طالق، وإن لم يكن غراباً ففلانة طالق، وجهل أي المرأتين طلق، فالمطلقة منهما كالمنسية، يقرع بينهما؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة المطلقة منهما عيناً أو بالذات، فهما سواء، والقرعة طريق شرعي لإخراج المجهول.

الورع التزام الطلاق: لكن يلاحظ أن الشافعية والحنابلة نبهوا على أن الورع في حال الشك هو التزام الطلاق والأخذ بالأسوأ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» (1) وقوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (2). فمن شك في الطلاق، يراجع إن كان له الرجعة، وإلا فيجدد نكاحها إن كان له فيها رغبة، وإلا فلينجز طلاقها لتحل لغيره يقيناً. ومن شك في عدد الطلاق في أنه طلق ثلاثاً أم ثنتين، لم ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره. ولو شك: هل طلق ثلاثاً أو لم يطلق شيئاً، طلقها ثلاثاً لتحل لغيره يقيناً.
أدلة العمل بالمتيقن: والأصل في طرح الشك والعمل بالمتيقن حديث عبد الله ابن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاًَ» (3) فأمره بالبناء على اليقين واطراح الشك، ولأنه شك طرأ على يقين، فوجب اطراحه، كما لو شك المتطهر في الحدث، أو شك المحدث في الطهارة.
وبناء عليه قرر الفقهاء ما سبق وخلاصته: إن وقع الشك في أصل الطلاق: لا يحكم بوقوعه؛ لأن النكاح كان ثابتاً بيقين، إن وقع في قدر الطلاق أو عدده، يحكم بالأقل عند الجمهور غير المالكية؛ لأنه متيقن به، وفي الزيادة شك. وإن
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير.
(2) رواه الترمذي وصححه.
(3) متفق عليه.

(9/6984)


وقع الشك في وصف الطلاق أنه طلقها رجعية أو بائنة، يحكم بالرجعية؛ لأنها أضعف الطلاقين، فكانت متيقناً بها.

إثبات الطلاق:
إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها، وأنكر هو، فمذهب المالكية (1): أنه إن أتت بشاهدين عدلين نفذ الطلاق، وإن أتت بشاهد واحد، حلّف الزوج وبرئ، وإن لم يحلف سجن حتى يقر ويحلف.
وإن لم تأت بشاهد فلا شيء على الزوج، وعليها منع نفسها منه بقدر جهدها.
وإن حلف بالطلاق وادعت أنه حنث، فالقول قول الزوج بيمينه.
وذكر الحنابلة (2): إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها، فالقول قول الزوج بيمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق، إلا أن يكون لها بما ادعته بينة، ولا يقبل فيه إلا عدلان؛ لأن الطلاق ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال كالحدود والقصاص. فإن لم تكن بينة يستحلف الرجل على الصحيح لحديث: «اليمين على من أنكر».
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 231.
(2) المغني: 259/ 7.

(9/6985)


ملحق ببحث الطلاق ـ الرجعة وزواج التحليل:
الرجعة:

أولاً ـ تعريف الرجعة ومشروعيتها وحكمها وركنها ونوعاها وأحكام الرجعية (1):
تعريفها: الرجعة لغة: المرة من الرجوع، واصطلاحاً عند الحنفية: هي استدامة الملك القائم بلا عوض ما دامت في العدة، أي استدامة الزواج في أثناء عدة الطلاق الرجعي. والطلاق الرجعي كما تقدم: تطليق المدخول بها ما دون الثلاث بلا مال، بصريح الطلاق غير المقترن بعدد الثلاث، أو بعض الكنايات المخصوصة (وهي اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة). وهذا يعني أن الرجعة تدل على بقاء الزواج بعد الطلاق الرجعي وأنها استدامة له، وليست إنشاء لعقد جديد، ولا إعادة للزواج السابق بعد زواله، وهذا يتفق مع مبدأ بقاء أحكام الزواج بعد الطلاق الرجعي، بدليل قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة:228/ 2] سماه بعلاً، وهذا يقتضي بقاء الزوجية بينهما.
وعرفها الجمهور غير الحنفية بأنها: إعادة المطلَّقة طلاقاً غير بائن إلى الزواج في العدة بغير عقد. وهذا يعني أن الزواج ينتهي بالطلاق الرجعي، وأن الرجعة تعيده بعد زواله. وهو الراجح لدي، لاتفاقه مع مقتضى الطلاق الذي يحرم المرأة لغة وعرفاً.
_________
(1) الدر المختار: 727/ 2 - 738، فتح القدير: 160/ 3، اللباب: 53/ 3، القوانين الفقهية: ص 234، الشرح الصغير: 604/ 2، 614، الشرح الكبير: 415/ 2، مغني المحتاج: 335/ 3، 340، المهذب: 102/ 2، كشاف القناع: 392/ 5 - 395، المغني: 273/ 7 وما بعدها، 279.

(9/6986)


مشروعيتها: الرجعة مشروعة لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة:228/ 2] أي في العدة، {إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:228/ 2] أي رجعة، كما قال الشافعي والعلماء. ولقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] {فأمسكوهن بمعروف} [البقرة:231/ 2] والرد والإمساك مفسران بالرجعة.
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال: راجع حفصة، فإنها صوامة قوَّامة، وإنها زوجتك في الجنة» (1) وقوله صلّى الله عليه وسلم لعمر: «مره فليراجعها» كما سبق.
وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق دون الثلاث له الرجعة في العدة.
وبناء عليه: إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها تطليقة رجعية أو تطليقتين، فله أن يراجعها في عدتها، سواء رضيت بذلك أم لم ترض؛ لأنها عند الحنفية باقية على الزوجية، بدليل جواز الظهار عليها، والإيلاء واللعان والتوارث، وإيقاع الطلاق الآخر ما دامت في العدة بالإجماع.

حكمتها: حكمة العدة تمكين النادم على الطلاق من إعادة الزوجة، وإصلاح سبب الخلاف، في فترة قريبة وهي العدة، فتكون العدة لإعطاء فرصة للزوج للنظر في أمر الزوجة، والتفكير في مصيرها، فهل من الخير والمصلحة عودة الحياة الزوجية، فيراجعها قبل انقضاء عدتها، أم أن الخير في الطلاق، فيتركها حتى تنتهي عدتها وتبين منه.
وركن الرجعة عند الحنفية: الصيغة أو الفعل فقط، وعند الجمهور: أركانها ثلاثة: مرتجع، وزوجة، وصيغة فقط عند الشافعية وكذا وطء عند الحنابلة، أو فعل أو نية عند المالكية.
_________
(1) رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن.

(9/6987)


نوعاها: الرجعة نوعان: رجعة من طلاق رجعي، ورجعة من طلاق بائن. أما الرجعة من الطلاق الرجعي فتكون بالقول اتفاقاً، وتكون بالفعل: وهوأن يستمتع بها بالوطء فما دونه. ولا يجب في الارتجاع من الطلاق الرجعي صداق ولا ولي ولا يتوقف على إذن المرأة ولا غيرها.
فإذا انقضت عدتها، صارت رجعتها كالرجعة من الطلاق البائن، ويحتاج في ذلك مايحتاج في إنشاء الزواج من إذن المرأة وبذل صداق لها وعقد وليها عند الجمهور المشترطين وجود الولي خلافاً للحنفية. ويجوز بالاتفاق عقد زواج جديد على المطلقة طلاقاً بائناً سواء في العدة أم بعدها.

أحكام المرأة الرجعية: تعود المرأة الرجعية بالرجعة إلى الزواج بكل ماله وما عليه، ويكون لها حكم الزوجات، وتخالفها في أشياء، ومما تخالف الزوجة مايأتي:
تحريم الاستمتاع بها عند الشافعية والمالكية: فيحرم الاستمتاع بالرجعية قبل المراجعة بوطء أم غيره حتى بالنظر ولو بلا شهوة؛ لأنها مفارقة كالبائن، ولأن النكاح يبيح الاستمتاع، فيحرمه الطلاق، لأنه ضده. وهذا هو الحق، وإلا لم يكن للطلاق أثر في التحريم.
فإن وطئ الزوج الرجعية فلا حد عليه، وإن كان عالماً بالتحريم، لاختلاف العلماء في إباحته. ولا يعزر إلا معتقد تحريمه إذا كان عالماً بالتحريم، لإقدامه على معصية عنده، بخلاف معتقد حله، والجاهل بتحريمه لعذر. ومثله المرأة. ويعد كالوطء في استحقاق التعزير سائر التمتعات.
ويجب عند الشافعية بوطء الرجعية مهر المثل إن لم يراجع، وكذا إن راجع على المذهب.

(9/6988)


ورأى المالكية: أنه ـ بالرغم من تحريم وطء الرجعية على المشهور ـ لا صداق ولا حد في الوطء الخالي عن نية الرجعة؛ لأنها زوجة ما دامت في العدة.
وذهب الحنفية، والحنابلة في ظاهر المذهب إلى أنه لا يحرم الاستمتاع بالرجعية، فيباح لزوجها وطؤها، ويباح له عند الحنابلة الخلوة بها والسفر بها، ولها أن تتزين له، وتسرف في الزينة؛ لأنها في حكم الزوجات، كما قبل الطلاق، لكن لا قسم لها عندهم، والسبب في إباحة الاستمتاع بها تسمية الزوج بعلاً في آية: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة:228/ 2] وأن له أن يطلِّق.
وأثبت الحنفية للرجعية القسم إن كان من قصده المراجعة، وإن لم يقصدها فلا قسم لها، لكن يندب عدم دخول الزوج عليها بلا إعلامها لتتأهب وإن قصد مراجعتها، وتكره الخلوة بها كراهة تنزيهية إن لم يكن من قصده الرجعة، وإلا فلا تكره.
والمرأة الرجعية مثل الزوجة اتفاقاً في لزوم النفقة والكسوة والسكنى، وفي صحة الإيلاء منها والظهار والطلاق واللعان والتوارث، فيرث كل منهما الآخر.
ومرض الموت والإحرام بحج أو عمرة لا يمنعان من الرجعة للمطلقة الرجعية، ويمنعان من رجعة البائن، كما يمنعان من إنشاء النكاح في رأي الجمهور غير الحنفية، الذين لايجيزون الزواج في أثناء الإحرام.

ثانياً ـ من له حق الرجعة وعدم قبول إسقاطه:
الرجعة حق الزوج ما دامت المطلقة في العدة، سواء رضيت بذلك أم لم ترض، لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:228/ 2] وهذا الحق للمرتجع أثبته الشرع له، فلا يقبل الإسقاط ولا التنازل عنه،

(9/6989)


فلو قال الزوج: طلقتك ولا رجعة لي عليك، أو أسقطت حقي في الرجعة، فإن حقه في الرجعة لا يسقط؛ لأن إسقاطه يعد تغييراً لما شرعه الله، ولا يملك أحد أن يغير ما شرعه الله، والله سبحانه رتب حق الرجعة على الطلاق الرجعي في آية: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2].

ثالثاً ـ شروط صحة الرجعة: يشترط في الرجعة ما يأتي (1):
شرط المرتجع: يشترط في المرتجع أهلية الزواج بنفسه، بأن يكون عند الشافعية والمالكية والحنابلة بالغاً عاقلاً مختاراً غير مرتد؛ لأن الرجعة كإنشاء النكاح، فلا تصح الرجعة في الردة والصبا والجنون والسكر، ولا من مكرَه، كما لا يصح الزواج فيها، ولأن طلاق الصبي غير لازم أو غير واقع. وأجاز الحنفية الرجعة للصبي لأن نكاحه صحيح يتوقف على إجازة وليه. وأجاز الحنابلة والشافعية الرجعة لولي المجنون؛ لأنها حق للمجنون يخشى فواته بانقضاء العدة، وأجاز الحنفية للمجنون والمعتوه والمكره الرجعة.
ولا يشترط في المرتجع بالاتفاق عدم الإحرام بحج أو عمرة، وعدم المرض؛ لأن كلاً من المحرم والمريض فيه أهلية النكاح، غير أنه طرأ عليهما ما يمنع من صحته، فيجوز لخمسة الرجعة ولا يجوز نكاحهم: وهم المحرم والمريض والسفيه والمفلس والعبد.
_________
(1) البدائع: 183/ 3 - 186، الدر المختار: 728/ 2 - 732، الشرح الصغير: 605/ 2 - 608، الشرح الكبير: 615/ 2 - 618، القوانين الفقهية: ص 234، مغني المحتاج: 271/ 3، 335 - 337، المهذب: 102/ 2 وما بعدها، المغني: 274/ 7، 278، 280 - 285، 290، كشاف القناع: 393/ 5 - 396.

(9/6990)


شرط ما تحصل به الرجعة: تحصل الرجعة من ناطق عند الشافعية بالقول فقط سواء أكان صريحاً أم كناية، أما الصريح فمثل: راجعتك ورجعتك وارتجعتك ورددتك وأمسكتك، وبمعنى هذه الألفاظ ونحوها من سائر اللغات، سواء أعرف العربية أم لا، وسواء أضاف الرجعة إليه أو إلى نكاحه، كقوله: إليّ أو إلى نكاحي أم لا، لكن يستحب ذلك. ولا بد من إضافة الرجعة إلى ظاهر كراجعت فلانة، أو مضمر كراجعتك، أو مشار إليه كراجعت هذه.
وأما الكناية في الأصح: فمثل قول المرتجع: تزوجتك أو نكحتك، ولا بد من أن يقول المرتجع في الكناية: رددتها إليّ أو إلى نكاحي، حتى يكون صريحاً، وهذا القول شرط.
وأما الفعل كوطء وغيره فلا تحصل به الرجعة عندهم؛ لأنه حرام، والحرام لاتصح الرجعة به، فلو وطئ الزوج رجعيته واستأنفت الأقراء من وقت الوطء، راجع فيما كان بقي من عدة الطلاق.
وتحصل الرجعة عند الجمهور بالقول أو بالفعل ومنه الخلوة، أما القول عند الحنفية: فهو إما صريح ولو من غير نية: وهو اللفظ الذي لا يحتمل معنى آخر غير الرجعة وإبقاء الزوجية، مثل راجعت زوجتي، أو رجعتك أو رددتك أو أمسكتك. وإما كناية بالنية أو دلالة الحال: وهو ما يحتمل الرجعة وغيرها، كقوله: أنت امرأتي أو أنت عندي الآن كما كنت. فالصريح لا حاجة فيه إلى النية، ولفظ الكناية يحتاج إلى النية أو دلالة الحال. ويشترط في (رددتك) الإضافة إليه أو إلى نكاحه فيقول: إلي أوإلى نكاحي، أو إلى عصمتي.
وأما الفعل، ولكن مع الكراهة التنزيهية: فهو كل ما يوجب حرمة المصاهرة كمس بشهوة ووطء ولو في الدبر على المعتمد، مع أنه حرام، وتقبيل بشهوة على

(9/6991)


أي موضع، ولو اختلاساً أو نائماً أو مكرهاً أو مجنوناً أو معتوهاً، سواء نوى المطلق الرجعة أم لا؛ لأن حصول هذا الفعل يدل بوضوح على رغبته في إمساك زوجته، ولأن الزوجية عند الحنفية باقية؛ لأن الله سمى المطلِّق بعلاً، والبعل هو الزوج.
وتحصل الرجعة بصدور أحد هذه الأفعال من الزوجة كالتقبيل بشهوة إن صدقها الزوج، أو ورثته بعد موته في وجود الشهوة، فإن أنكر لا تثبت الرجعة.
وتحصل الرجعة عند المالكية بالقول أو الفعل أو النية، وأما القول فهو إما صريح، كرجعت وارتجعت زوجتي، وراجعت، ورددتها لعصمتي أو نكاحي، أو غير صريح مثل مسَّكتها أو أمسكتها، إذ يحتمل: أمسكتها تعذيباً.
وأما الفعل فهو كوطء ومقدماته.
وأما النية: فهي حديث النفس بأن يقول في نفسه: راجعتها، لكن إذا حدث مجرد قصد أن يراجعها، فلا يكون رجعة اتفاقاً.
ولا بد من أن ينوي الارتجاع مع القول، أو مع الفعل، خلافاً للحنفية كما تقدم؛ لأن تصرف الزوج يحتاج إلى دلالة قوية على رغبته في إعادة المطلقة، وهو يكون بالنية. وتحصل الرجعة بالقول الصريح ولو هزلاً؛ لأن الرجعة هزلها جد، لكن الرجعة في الهزل رجعة في الظاهر لعدم النية، فيلزمه الحاكم بالنفقة وسائر الحقوق، فلا يحل الاستمتاع بها، حتى ينوي الرجعة.
ولا صداق ولا حد في الوطء الخالي عن نية الرجعة، وإن كان الوطء حراماً؛ لأنها في حكم الزوجة ما دامت في العدة.
وتحصل الرجعة عند الحنابلة والأوزاعي بالقول الصريح، وبالوطء، سواء

(9/6992)


نوى به الرجعة أم لم ينو به الرجعة؛ لأن الطلاق سبب زوال الملك، والوطء من المالك يمنع زواله، كوطء البائع أمته المبيعة في مدة الخيار. ولا تحصل الرجعة بتقبيل المرأة، أو لمسها بشهوة، أو كشف فرجها والنظر إليه بشهوة أو غير شهوة، ولا بالخلوة بها والحديث معها؛ لأن المذكور كله ليس باستمتاع، أي ليس في معنى الوطء؛ إذ الوطء يدل على ارتجاعها دلالة ظاهرة؛ بخلاف ما ذكر، وهذا هو الراجح عندهم، ولا تحصل الرجعة أيضاً بإنكار الطلاق إذ لا يدل على الرجعة، ولا تحصل الرجعة بالكناية مثل تزوجتك أو نكحتك؛ لأن الرجعة استباحة بُضع (فرج) مقصود، فلا تحل بالكناية. وقال بعض الحنابلة: الخلوة في إثبات الرجعة كالوطء؛ لأن حكمها حكم الدخول في جميع أمورها عندهم.
والخلاصة: تحصل الرجعة بالقول الصريح اتفاقاً، أو بالكناية بشرط النية عند غير الحنابلة، واشترط المالكية النية في القول والفعل، وتحصل أيضاً عند غير الشافعية بالوطء، وكذا بكل ما يوجب حرمة المصاهرة عند الحنفية والمالكية، ولا تحصل بغير الوطء ولا بالكناية عند الحنابلة، ولا بأي فعل عند الشافعية. والراجح لدي قول المالكية لتوسطه وقوة حجته.

شرط الزوجة المرتجعة (محل الرجعة) والطلاق الحاصل والعدة:
يشترط في الرجعة كون المرأة مدخولاً بها، لا بمجرد الخلوة، وأن تكون مطلَّقة طلاقاً رجعياً من نكاح صحيح؛ لأن النكاح الفاسد يفسخ سواء بعد الدخول أم قبله، ولأن المفسوخ نكاحها لا رجعة فيها؛ لأن الله تعالى أناطها بالطلاق فاختصت به، ولأن الطلاق البائن يزيل الزوجية في الحال بمجرد صدوره، فتملك المطلقة أمرها، وأن يكون الطلاق بلا عوض؛ لأن المطلقة بعوض قد ملكت نفسها، وأن تكون ممن لم يستوف عدد طلاقها؛ لأنه إذا استوفى عدد الطلاق وهو

(9/6993)


ثلاث، فلا سلطنة له عليها، وأن تكون قابلة للحل للمراجع، لا مرتدة، فلا تصح مراجعة المرتدة؛ لعدم حلها، ولا يصح مراجعة الكافرة التي أسلمت، واستمر زوجها في الكفر لعدم الحل. ويشترط أيضاً أن تكون باقية في العدة: فلا تصح الرجعة بعد انقضاء العدة؛ لأن العدة إذا انقضت أصبح الطلاق بائناً، فتمتنع الرجعة.

شرط زمن الرجعة: يشترط أن تكون الرجعة منجزة، فلا يصح تعليقها بشرط مستقبل، مثل: راجعتك إن شئت، فقالت: شئت، أو راجعتك إن قدم أبوك، أو راجعتك إن عاد أبي من السفر، ولا يصح أيضاً إضافتها إلى زمن مستقبل، مثل: راجعتك غداً أو أول الشهر القادم؛ لأن الرجعة عند الحنفية شبيهة بالزواج من حيث إنها استدامة له، فيشترط فيها التنجيز كالزواج، ولأنها عند الجمهور استباحة بضع مقصود، فلم يصح تعليقه على شرط كالنكاح. ويشترط ألا تكون مؤقتة بوقت، فإذا قال لها: راجعتك شهراً، لم تحصل الرجعة. ويصح تعليق الرجعة على أمر قد مضى، مثل: إن كنت فعلت كذا فإني أراجعك، وكان الفعل قد وقع فعلاً، أو على أمر متحقق الوجود في الحال، مثل: إن رضي أبي فقد راجعتك، وكان أبوه حاضراً في المجلس، فقال: رضيت. وإنما جاز التعليق في هاتين الحالتين؛ لأنه تنجيز في صورة التعليق.
والخلاصة: يشترط في الرجعة ما يلي:
1 - أهلية المرتجع عند المالكية والشافعية والحنابلة، أي بالبلوغ والعقل.
2 - أن يكون الطلاق رجعياً لا بائناً ولا بعوض.
3 - أن تقع الرجعة في العدة، لا بعد انقضائها.

(9/6994)


4 - أن تكون المرأة زوجة مطلقة معينة غير مبهمة، مدخولاً بها في نكاح صحيح قابلة للحل، فلا تصح رجعة غير مدخول بها ولا مفسوخ نكاحها ولا مرتدة ونحوها.
5 - أن تكون الرجعة منجزة غير مؤقتة بوقت، وغير معلقة بشرط ولا مضافة لزمن مستقبل.

ما لا يشترط في الرجعة: لا يشترط في الرجعة أمور أهمها ما يأتي (1):
1ً - رضا المرأة ونحوه من الشروط: لا يشترط بالاتفاق رضا المرأة في الرجعة، لقول الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:228/ 2] فجعل الحق لهم، وقال سبحانه: {فأمسكوهن بمعروف} [البقرة:231/ 2] فخاطب الأزواج بالأمر، ولم يجعل لهن اختياراً، ولأن الرجعة إمساك للمرأة بحكم الزوجية، فلم يعتبر رضاها في الرجعة، كالتي في عصمته تماماً.
ولا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة، والرجعة إمساك لها، واستبقاء لزواجها.

2ً - إعلام المرأة بالرجعة: ولا يشترط أيضاً إعلام المرأة بالرجعة، فتصح الرجعة ولو لم تعلم بها الزوجة؛ لأن الرجعة حق خالص للزوج لا يتوقف على رضا المرأة كالطلاق، لكن يندب إعلام الزوجة بها، حتى لا تتزوج غيره بعد
_________
(1) الدر المختار: 730/ 2 وما بعدها، تبيين الحقائق: 252/ 2، القوانين الفقهية: ص 234، الشرح الصغير: 616/ 2، مغني المحتاج: 336/ 3، المهذب: 102/ 2 - 103، المغني: 278/ 7، 282، كشاف القناع: 394/ 5، غاية المنتهى: 179/ 3، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 223، المحلى: 266/ 10، مسألة 1975.

(9/6995)


انقضاء العدة، وحتى لا تقع المنازعة بين الزوجين، إذا أثبت الزوج الرجعة بالبينة، حتى إنه إذا تزوجت بزوج آخر وأثبت زوجها الأول مراجعتها صحت الرجعة، وفسخ الزواج الثاني.

3 - الإشهاد على الرجعة: ليس الإشهاد على الرجعة شرطاً لصحتها عند الجمهور وهم الحنفية، والمالكية في مشهور المذهب، والشافعية في الجديد، والحنابلة في أصح الروايتين عن أحمد، ولكن الإشهاد عليها مستحب احتياطاً، خوفاً من إنكار الزوجة لها بعد انقضاء العدة، وقطعاً للشك في حصولها، وابتعاداً عن الاتهام في العودة إلى معاشرة الزوجة، فيقول الزوج للشاهدين: اشهدا على أني راجعت امرأتي إلى نكاحي أو زوجيتي، أوراجعتها لما وقع عليها من طلاقي ونحوه. فإن لم يُشهد على رجعتها، صحت الرجعة.
وقال الظاهرية: يجب الإشهاد على الرجعة وإلا لم تصح، لقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] والأمر للوجوب، ولأن الشهادة شرط في إنشاء الزواج بالاتفاق، فتكون شرطاً في استدامته بالرجعة.
وحمل الجمهور الأمر في هذه الآية على الندب والاستحباب، لأن قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] وارد عقب قوله: {فأمسكوهن بمعروف} [الطلاق:2/ 65] وأجمع العلماء على عدم وجوب الإشهاد على الطلاق، فتكون الرجعة مثله، ولأن النصوص القرآنية مطْلَقة كقوله تعالى: {فأمسكوهن} [البقرة:231/ 2] {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة:228/ 2].
وروي أن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم بمراجعتها، ولم يأمره بالإشهاد على الرجعة، ولو كان شرطاً لأمره به.

(9/6996)


وسئل عمران بن حصين عن الرجل يطلِّق امرأته، ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال: طلَّقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تعُدْ (1).
ولم يؤثر عن الصحابة اشتراط الشهادة لصحة الرجعة مع كثرة وقوعها منهم.
ولأن الرجعة حق للزوج لا يتوقف على رضا المرأة، فلا يحتاج إلى الإشهاد عليه كسائر حقوق الزوج.
ولأن الشهادة شرط لابتداء الزواج لخطورته، وليست شرطاً لبقائه، والرجعة إبقاء للزواج واستدامة له، فلا تكون شرطاً لصحتها.

رابعاً ـ اختلاف الزوجين في الرجعة: إذا توافق الزوجان على الرجعة في أثناء العدة، ثبتت وترتب عليها أثرها، وإن اختلف الزوجان: فإما أن يكون الخلاف في حصول الرجعة أو في صحتها (2):
1 - إن اختلف الزوجان في حصول الرجعة: بأن ادعاها الزوج فقال: راجعتك وأنكرت المرأة، فإن كان ذلك قبل انقضاء العدة، فالقول قول الزوج اتفاقاً؛ لأنه يملك الرجعة، فقبل إقراره فيها كما يقبل قوله في طلاقها حين ملك الطلاق.
_________
(1) رواه أبو داود، وابن ماجه ولم يقل: «ولا تعد» (نيل الأوطار: 253/ 6).
(2) الدر المختار: 731/ 2 - 737، اللباب: 55/ 3 - 57، القوانين الفقهية: ص 234، الشرح الصغير: 611/ 2 - 613، مغني المحتاج: 338/ 3 - 342، المهذب: 103/ 2، المغني: 280/ 7، 285 - 291.

(9/6997)


وإن كان بعد انقضاء العدة: فإن أثبت الرجل دعواه بالبينة، أو صدقته المرأة في قوله: «قد كنت راجعتك في العدة» ثبتت الرجعة.
وإن عجز الرجل عن الإثبات، أو كذبته المرأة، فالقول قولها بيمينها، في رأي الأكثرين، على المفتى به عند الحنفية من قول الصاحبين، فإذا نكل المنكر حبس عندهما حتى يُقرّ أو يحلف؛ لأن النكول عن اليمين يعتبر عندهما إقراراً بالحق المدعى، والرجعة يصح الإقرار بها عندهما.
وفي رأي أبي حنيفة: لا يمين عليها.
ويقبل قولها لأن الأصل عدم الرجعة ووقوع البينونة.
وإن اختلفا في الإصابة (الوطء) فقال الزوج: أصبتك، وأنكرت المرأة، فالقول أيضاً قولها بيمينها؛ لأن الأصل عدم الإصابة ووقوع الفرقة، فهي منكرة واليمين على من أنكر.

2 - وإن اختلف الزوجان في صحة الرجعة: بأن قال الزوج: (قد راجعتك في العدة) فالرجعة صحيحة، فقالت الزوجة: الرجعة باطلة، لوقوعها بعد انقضاء العدة، أو قالت مجيبة له: (قد انقضت عدتي) وكانت العدة بالأقراء، فالقول قولها ما ادعت من ذلك ممكناً.
فإن كانت المدة بين الطلاق وبين الوقت الذي تدعي المرأة انقضاء العدة عنده كافية لانقضاء العدة، قبل قولها بيمينها حتى عند أبي حنيفة؛ لأن انقضاء العدة بالحيض لا يعرف إلا من جهتها.
وإن كانت المدة التي مضت لا تكفي لانقضاء العدة، بأن كانت أقل من أقل مدة تنتهي فيها العدة شرعاً، فلا يعتبر قولها، وتصح الرجعة، لظهور قرينة تكذب دعواها.

(9/6998)


وأقل مدة تنقضي بها العدة بالحيضات وهي الأقراء عند الحنفية: ستون يوماً عند أبي حنيفة؛ لأن كل حيضة عشرة أيام في الأكثر، والحيضات ثلاث، فهي ثلاثون يوماً، يتخللها طهران وهما ثلاثون يوماً أيضاً؛ لأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً، فيكون مجموع ذلك ستين يوماً، وهذا هو الراجح وهو الغالب بين النساء. وأقل مدة عند الحنابلة على أن الأقراء هي الحيضات: تسعة وعشرون يوماً ولحظة، وذلك بأن يطلقها مع آخر الطهر، ثم تحيض بعده يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر لحظة ليعرف بها انقطاع الحيض.
وأقل مدة عند المالكية تنقضي بها العدة بالأقراء، أي الأطهار عندهم: شهر: ثلاثون يوماً، بأن يطلقها زوجها في أول ليلة من الشهر، وهي طاهرة، ثم تحيض وينقطع عنها الحيض قبل الفجر؛ لأن أقل الحيض عندهم يوم، أو بعض يوم بشرط أن يقول النساء: إنه حيض، ثم تطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض في ليلة السادس عشر، وينقطع قبل الفجر أيضاً، ثم تحيض عقيب غروب آخر يوم من الشهر، فتكون قد طهرت ثلاثة أطهار: الطهر الذي طلقها فيه، ثم الطهر الثاني في النصف الأول من الشهر، ثم الثالث في النصف الثاني من الشهر، فيحدث تمام الشهر ثلاثين يوماً.
وأقل مدة تنقضي بها العدة عند الشافعية: اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان، ولا يقبل أقل من ذلك بحال؛ لأنه لا يتصور عندهم أقل من ذلك، بأن تطلق وقد بقي لحظة من الطهر، وهي قرء عندهم، ثم تحيض يوماً وليلة أقل الحيض عندهم، ثم تطهر خمسة عشر يوماً أقل الطهر، وذلك قرء ثان، ثم تحيض يوماً وليلة ثم تطهر خمسة عشر، وذلك قرء ثالث، ثم تحيض، وهذه الحيضة ليست من العدة، بل لاستيقان انقضائها، فذلك اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان.

(9/6999)


مدة الاغتسال: ينتهي وقت الرجعة عند الحنفية إذا طهرت المرأة من الحيض الأخير لعشرة أيام، وإن لم تغتسل؛ لأن الحيض لا مزيد له على العشرة. أما إن كان الحيض أقل من عشرة أيام، فلا تنقطع الرجعة حتى تغتسل؛ لأن عود الدم محتمل، أو يمضي عليها وقت صلاة فتصير ديناً في ذمتها، أو تتيمم للعذر وتصلي في الوقت ولو نفلاً استحساناً عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
ويرى أكثر الحنابلة أنه لا بد من وقت يمكن الغسل فيه بعد انقطاع الحيض، للقول بانقضاء العدة.

هذا هو القسم الأول وهو أن تدعي المرأة انقضاء عدتها بالقروء.
القسم الثاني ـ أن تدعي انقضاء عدتها بوضع الحمل:
إذا ادعت المرأة المطلَّقة انقضاء عدتها بوضع الحمل، فلا يقبل قولها في أقل من ستة أشهر من حين إمكان الوطء بعد عقد الزوج؛ لأن أقل مدة الحمل هي ست أشهر، وأقل من ستة أشهر من وقت الطلاق.

القسم الثالث ـ أن تدعي انقضاء عدتها بالشهور:
إذا كانت المرأة صغيرة آيسة فعدتها بالأشهر الثلاثة، إذا ادعت انقضاء عدتها بالشهور، فلا يقبل قولها فيه، وإنما القول قول الزوج؛ لأن المعول على قوله في وقت الطلاق، فيكون القول قوله فيما ينبني عليه، إلا أن يدعي انقضاء عدتها ليسقط عن نفسه نفقتها، فيكون القول حينئذ قولها؛ لأنه يدعي ما يسقط النفقة، والأصل وجوبها، فلا يقبل قوله إلا ببينة.

(9/7000)


الرجعة في القانون: أخذ القانون السوري بمذهب الحنفية في أن الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية، وبجواز الرجعة بالقول أو الفعل، وانقطاع الرجعة بانقضاء عدة الطلاق، فنصت المادة (118) على ما يلي:
1 - الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية، وللزوج أن يراجع مطلقته أثناء العدة بالقول أو الفعل، ولا يسقط هذا الحق بالإسقاط.
2 - تبين المرأة وتنقطع الرجعة بانقضاء عدة الطلاق الرجعي.

زواج التحليل:
بينا أن حكم الطلاق الثلاث هو زوال الملك والحل زوالاً مؤقتاً، فتحرم المرأة على من طلقها تحريماً مؤقتاً، ولا يجوز له زواجها قبل التزوج بزوج آخر لقوله تعالى: {فإن طلقها، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] سواء طلقها ثلاثاً متفرقات، أو جملة واحدة.

التحليل بزواج دائم: تنتهي الحرمة باتفاق الفقهاء إذا كان الزواج الثاني مؤبداً طبيعياً، قصد به دوام الزوجية والعشرة، وهو المقصود في القرآن الكريم: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] وذلك بشروط ثلاثة هي (1):
الشرط الأول ـ أن تنكح زوجاً غيره، لقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] نفى الحل إلى غاية التزوج بزوج آخر. فلو وطئها إنسان بالزنا أو بشبهة، لم تبح؛ لأنه ليس بزوج.
_________
(1) البدائع: 187/ 3 - 189، اللباب: 58/ 3، بداية المجتهد: 86/ 2 وما بعدها، المهذب: 46/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 182/ 3 وما بعدها، المغني: 645/ 6 - 648، 275/ 7 ومابعدها، المحلى: 220/ 10، مسألة 1955، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 223.

(9/7001)


الشرط الثاني ـ أن يكون النكاح الثاني صحيحا ً: فإن كان فاسداً ودخل بها، لا تحل للأول؛ لأن النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة، ولقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] وإطلاق النكاح يقتضي الصحيح.
الشرط الثالث ـ أن يطأها الزوج الثاني في الفرج، فلو وطئها دونه أو في الدبر، لم يحلها لزوجها الأول؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم علَّق الحل على ذوق العسيلة منهما، فقال لامرأة رفاعة القرظي: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (1). ولا يحصل هذا إلا بالوطء في الفرج، وأدناه تغييب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق به، وذلك بشرط الانتشار؛ لأن الحكم يتعلق بذوق العسيلة، ولا تحصل من غير انتشار، وبشرط أن يكون الزوج الثاني ممن يمكن جماعه، لا طفلاً لا يتأتى منه الجماع.
فشرط الوطء: التقاء الختانين ولو من غير إنزال في رأي جماهير العلماء إلا الحسن البصري، فقال: لا تحل إلا بوطء بإنزال.
وجمهور العلماء على أن الوطء الذي يوجب الحد، ويفسد الصوم، والحج، ويحل المطلقة، ويحصن الزوجة، ويوجب الصداق: هو التقاء الختانين.
وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي، يُحل الوطء المرأة، وإن وقع في وقت غير مباح كحيض أو نفاس، سواء أكان الواطئ بالغاً عاقلاً أم صبياً مراهقاً (2) أم مجنوناً؛ لأن وطء الصبي والمجنون يتعلق به أحكام النكاح من المهر والتحريم كوطء البالغ العاقل. وكذلك الصغيرة التي يجامع مثلها إذا طلقها زوجها ثلاثاً، ودخل بها الزوج الثاني، حلت للأول، لإطلاق قوله تعالى: {فإن طلقها فلا
_________
(1) رواه الجماعة عن عائشة (نيل الأوطار: 253/ 6).
(2) الصبي المراهق: هو الذي تتحرك آلته وتشتهي، وقدره بعض الحنفية بعشر سنين.

(9/7002)


تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] ولأن وطأها يتعلق به أحكام الوطء من المهر والتحريم، فصار كوطء البالغة.
واشترط المالكية والحنابلة شرطاً رابعاً: هوأن يكون الوطء حلالاً (مباحاً) وأن يكون الواطئ عند المالكية بالغاً، وعند الحنابلة: أون له اثنا عشر سنة؛ لأن الوطء غير المباح حرام لحق الله تعالى، فلم يحصل به الإحلال كوطء المرتدة، ولأن من دون البلوغ أو من دون سن الثانية عشرة لا يمكنه المجامعة.
فلا يحل المطلقة إلا الوطء المباح الذي يكون في العقد الصحيح في غير صوم أو حج أو حيض أو اعتكاف، ولا يحل الذمية عند مالك وابن القاسم وطء زوج ذمي لمسلم. ونص أحمد على أنه إذا كانت الزوجة ذمية، فوطئها زوجها الذمي، أحلها لمطلِّقها المسلم لأنه وطء من زوج في نكاح صحيح تام، فأشبه وطء المسلم. وهذا رأي الشافعية والمالكية أيضاً. وأجاز الحنابلة للمجنون إحلال المطلقة ثلاثاً كما قال الحنفية؛ لظاهر الآية: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] ولأنه وطء مباح من زوج في نكاح صحيح تام، فأشبه وطء العاقل.

الزواج بشرط التحليل (نكاح المحلِّل): اتفق الفقهاء (1) أيضاً على أن الزواج بالمطلقة ثلاثاً بشرط صريح لعقد على أن يحلها الزوج الثاني لزوجها الأول لا يجوز، وهو حرام عند الجمهور، مكروه تحريماً عند الحنفية، لقول ابن مسعود: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له» (2) ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه عن ابن مسعود، ورواه الخمسة إلا النسائي عن علي (نيل الأوطار: 138/ 6).

(9/7003)


له» (1) والنهي يدل على فساد المنهي عنه، ولا يطلق الزواج الشرعي على الزواج المنهي عنه.
وهذا هو نكاح المحلل: وهو أن يتزوج الرجل امرأة على أنه إذا وطئها فلا نكاح بينهما، وأن يتزوجها ليحلها للزوج الأول.
هذا النكاح فاسد عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأبي يوسف)؛ للحديث السابق، ولأن النكاح بشرط الإحلال في معنى النكاح المؤقت، وشرط التوقيت في النكاح يفسده، والنكاح الفاسد لا يقع به التحليل، فهو نكاح إلى مدة أو فيه شرط يمنع بقاءه فأشبه نكاح المتعة. قال في المهذب: «لأنه نكاح شرط انقطاعه دون غايته، فشابه نكاح المتعة» ويؤيده قول عمر: والله لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما (2).
وقال أبو حنيفة وزفر: هذا النكاح صحيح مكروه تحريماً، فإن وطئها الزوج الثاني حلت للأول بعد أن يطلقها وتنقضي عدتها، لأن شرط التحليل شرط فاسد، والزواج لا يفسد بالشروط الفاسدة، فيلغو الشرط، ويصح العقد؛ لإطلاق آية: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] دون تفرقة بين ما إذا شرط الإحلال أم لا، إلا أنه مكروه تحريماً؛ لأنه شرط ينافي المقصود من النكاح وهو السكن والتوالد والتعفف، وهو يتوقف على البقاء والدوام في الزوجية.
وقال محمد: النكاح الثاني صحيح، ولا تحل المطلقة للأول؛ لأن النكاح عقد مؤبد، فكان شرط الإحلال استعجال ما أخره الله تعالى لغرض الحل، فيبطل الشرط ويبقى النكاح صحيحاً، لكن لا يحصل به الغرض، كمن قتل مورثه فإنه يحرم الميراث. وهذا قول للشافعية فيمن تزوج امرأة على أنه إذا وطئها طلقها.
_________
(1) رواه ابن ماجه عن عقبة بن عامر (المرجع السابق).
(2) رواه الأثرم عن قبيصة بن جابر.

(9/7004)


وأجاز الإمامية نكاح المحلل مطلقاً بشرط الوطء، وكون الزوج بالغاً، وكون العقد صحيحاً دائماً.

الزواج بقصد التحليل دون شرط:
ذهب المالكية والحنابلة (1) إلى أن الزواج بقصد التحليل بدون شرط في العقد باطل، بأن تواطأ العاقدان على شيء مما ذكر قبل العقد، ثم عقد الزواج بذلك القصد، بأن نواه الزوج في العقد، أو نوى التحليل من غير شرط، فيبطل العقد، ولا تحل به المرأة لزوجها الأول، عملاً بمبدأ سد الذرائع إلى الحرام، وبالحديث السابق: «لعن الله المحلل والمحلل له».
وذهب الحنفية والشافعية والظاهرية والإمامية (2): إلى أن الزواج بقصد التحليل من غير شرط في العقد صحيح، وتحل المرأة بوطء الزوج الثاني للزوج الأول؛ لأن مجرد النية في المعاملات غير معتبر، فوقع الزواج صحيحاً، لتوافر شرائط الصحة في العقد، وتحل للأول، كما لو نويا التوقيت وسائر المعاني الفاسدة.
وأرجح الرأي الأول، لقوة أدلة قائليه، ولأن هذا الفعل أشبه بالسفاح، بدليل ما روى الحاكم والطبراني في الأوسط عن عمر: «أنه جاء إليه رجل، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة، ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا، إلا بنكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (3) لكن خصص ابن حزم هذا في نكاح التحليل بشرط (4).
_________
(1) بداية المجتهد: 87/ 2، المغني: 646/ 6 وما بعدها.
(2) البدائع: 187/ 3، مغني المحتاج: 183/ 3، المحلى: 220/ 10، مختصر فقه الإمامية: ص 223.
(3) نيل الأوطار: 139/ 6.
(4) المحلى: 223/ 10 وما بعدها.

(9/7005)


هدم الزواج الثاني طلاق الزوج السابق:
سبق الكلام في هذا الموضوع وأعيده هنا بتفصيل آخر (1):
أـ اتفق الفقهاء على أن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها، والبائن بينونة صغرى إذا عقد عليها زوجها عقداً جديداً قبل أن تتزوج بزوج آخر، تعود إليه بما بقي له من الطلقات الثلاث، واحدة أو اثنتين.
ب ـ واتفقوا أيضاً على أن الزواج الثاني بعد الطلاق الثلاث، يهدم طلاق الزوج السابق، وتعود إليه بعد العقد الجديد بطلقات ثلاث؛ لأن الوطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث؛ لأنه مثبت لحل جديد كامل، ويزول الحل الأول بالطلاق الثلاث.
جـ ـ واختلف الفقهاء في أنه: هل يهدم الزواج الثاني ما دون الثلاث على رأيين:
قال المالكية والشافعية والحنابلة ومحمد وزفر من الحنفية: لا يهدم، يعني إذا تزوجت المطلقة قبل الطلقة الثالثة غير الزوج الأول، ثم أعادها الزوج الأول بنكاح جديد، فتعود ببقية الثلاث، لما روي عن كبار الصحابة: عمر وعلي ومعاذ وعمران بن حصين وأبي هريرة، ولأن الوطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول، فلا يغير حكم الطلاق، ولأنه تزويج قبل استيفاء الطلقات الثلاث، فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، والإمامية في أشهر الروايتين: إنه يهدم، فتعود إلى الزوج الأول بطلاق ثلاث، كما يهدم ما دون الثلاث؛ لأنه إذا هدم الطلقة الثالثة، فهو أحرى أن يهدم ما دونها؛ لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلاً يتسع لثلاث تطليقات، فيتسع لما دونها بالأولى.
_________
(1) فتح القدير: 178/ 3، بداية المجتهد: 87/ 2 ومابعدها، الدر المختار: 746/ 2، القوانين الفقهية: ص226، مغني المحتاج: 293/ 3، المهذب: 105/ 2، المغني: 261/ 7، مختصر فقه الإمامية: ص 223.

(9/7006)