الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الخامِس: النَّفَقَات
................................ نفقة الزوجة
والأقارب ..................................
أوضحت في هذا الفصل نفقة الزوجة مع نفقة الأقارب، جمعاً لمسائل البحث،
وتسهيلاً على الباحث. وقد تضمن تمهيداً يشمل مبادئ عامة عن النفقات، وأربعة
مباحث:
الأول ـ نفقة الزوجة.
الثاني ـ نفقة الأولاد أو الفروع.
الثالث ـ نفقة الأصول، أو الآباء والأجداد والأمهات.
الرابع ـ نفقة الأقارب: الحواشي وذوي الأرحام.
علماً بأن واجب الإنفاق يشمل أيضاً كل ما يتبع الإنسان من الرقيق، والحيوان
والنبات والزرع، والدور والأراضي، منعاً من الضياع والتلف، وإضاعة المال
حرام. لكن كره الجمهور ترك الزرع والشجر بدون سقي وتعهد، والدور والأراضي
بدون إصلاح وتعمير، إلا إذا كان ذلك وقفاً أو لقاصر أو مشتركاً فيجب
الإنفاق عليه.
(10/7346)
أما نفقة
الحيوان: فيجب على المالك إطعام بهائمه ولو مرضت، وسقيها وريها،
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عُذّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً،
لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل حشاش الأرض» (1). ويحرم عليه أن يحملها
ما لا تطيق؛ لأن الشارع منع تكليف العبد ما لا يطيق، فوجب أن تكون البهيمة
مثله، ولأن فيه تعذيباً للحيوان الذي له حرمة في نفسه، وإضراراً به (2).
ويحرم أن يحلب من لبنها ما يضر بولدها؛ لأنه غذاء للولد، فلا يجوز منعه،
ولأن كفايته واجبة على مالكه. ويسن أن يقلم أظفاره لئلا يؤذيها عند الحلب.
كما يجب إبقاء شيء من العسل في الخلية بقدر حاجة النحل إذا لم يكفه غيره.
وإن امتنع المالك من الإنفاق على بهيمة، أجبر عليه عند الجمهور قضاء
وديانة، كما يجبر على نفقة زوجته. وإن لم يكن له مال أكري عليه إن أمكن
كراؤه، فإن لم يمكن بيع عليه. وقال الحنفية: لا يجبر قضاء على نفقة
البهائم، في ظاهر الرواية، ولكنه يفتى فيما بينه وبين الله تعالى أي ديانة
أن ينفق عليها. ولا يجبر أيضاً على نفقة الجمادات كالدور والعقار ولا يفتى
أيضاً بالوجوب، لكن يكره له تحريماً تضييع المال.
ويحرم وسم في الوجه وضرب عليه؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لعن من وسم أو ضرب
الوجه، ونهى عنه، كما يحرم ضرب وجه الآدمي، بل الحرمة أشد؛ لأنه أعظم حرمة.
ويحرم على المالك التحريش بين الديكة أو الثيران أو غيرها، لما فيه من
تعذيبها. ويحرم عليه ـ كما تقدم ـ تكليف الدابة ما لا تطيق من ثقل الحمل أو
إدامة السير أو نحوهما.
_________
(1) متفق عليه عن ابن عمر مرفوعاً.
(2) المهذب: 168/ 2 وما بعدها، كشاف القناع: 573/ 5 وما بعدها، البدائع:
40/ 4، القوانين الفقهية: ص 223.
(10/7347)
ويحرم لعن الدابة، لما روى أحمد ومسلم عن
عمران: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان في سفر، فلعنت امرأة ناقة، فقال: خذوا
ما عليها، ودعوها مكانها ملعونة، فكأني أراها الآن تمشي في الناس، ما
يَعرِض لها حد»، ولهما من حديث أبي بَرْزة: «لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة»
وكذلك يحرم لعن الإنسان.
ولا يجوز قتل البهيمة ولا ذبحها للإراحة؛ لأنها مال ما دامت حية، وذبحها
إتلاف لها، وقد نهي عن إتلاف المال، وكذلك يحرم قتل الآدمي المتألم
بالأمراض الصعبة أو المصلوب بنحو حديد؛ لأنه معصوم ما دام حياً. ويحسن قتل
ما يباح قتله من الحيوانات المؤذية كالكلب العضوض.
مبادئ عامة في النفقات:
1 - معنى النفقة وأسبابها:
النفقة مشتقة من الإنفاق: وهو الإخراج،
ولا يستعمل إلا في الخير. وجمعها نفقات. وهي لغة: ما ينفقه الإنسان على
عياله. وهي في الأصل: الدراهم من الأموال. وشرعاً: هي كفاية من يمونه من
الطعام والكسوة والسكنى (1). وعرفاً هي الطعام. والطعام: يشمل الخبز
والأُدم والشرب. والكسوة: السترة والغطاء. والسكنى: تشمل البيت ومتاعه
ومرافقه من ثمن الماء ودهن المصباح وآلة التنظيف والخدمة ونحوها بحسب
العرف.
والنفقة قسمان (2):
_________
(1) الدر المختار: 886/ 2.
(2) مغني المحتاج: 425/ 3.
(10/7348)
1 ً - نفقة تجب للإنسان على نفسه إذا قدر
عليها، وعليه أن يقدمها على نفقة غيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ابدأ
بنفسك، ثم بمن تعول» (1) أي بمن تجب عليك نفقته.
2ً - ونفقة تجب على الإنسان
لغيره. وأسباب وجوبه ثلاثة: الزوجية، والقرابة الخاصة، والمِلْك (2).
2 - الحقوق الواجبة بالزوجية: وهي سبعة
(3):
الطعام، والإدام، والكسوة، وآلة التنظيف، ومتاع البيت، والسكنى، وخادم إن
كانت الزوجة ممن تخدم. وسأبين في المبحث الأول كل واجب من هذه الواجبات.
3 - القرابة الموجبة للنفقة:
للمذاهب آراء أربعة تتفاوت فيما بينها ضيقاً واتساعاً في تحديد مدى القرابة
الموجبة للنفقة، فأضيقها مذهب المالكية، ثم الشافعية، ثم الحنفية، ثم
الحنابلة (4).
أـ مذهب المالكية: أن النفقة الواجبة هي
للأبوين والأبناء مباشرة فحسب دون غيرهم، فتجب النفقة للأب والأم، وللولد
ذكراً أو أنثى، ولا تجب للجد والجدة، ولا لولد الولد، لقوله تعالى:
{وبالوالدين إحساناً} [الإسراء:23/ 17]
_________
(1) هذا مركب من حديثين، فالشق الأول رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي
عن جابر بلفظ أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل: «ابدأ بنفسك فتصدق
عليها .. » والشق الثاني أخرجه البخاري عن أبي هريرة بلفظ «أفضل الصدقة ما
كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» (نيل
الأوطار: 321/ 6، 324).
(2) الدر المختار، ومغني المحتاج: المكان السابق.
(3) مغني المحتاج: 426/ 3، القوانين الفقهية: ص 221 وما بعدها.
(4) القوانين الفقهية: ص 222، المهذب: 156/ 2، اللباب: 105/ 3، المغني:
582/ 7 - 586، فتح القدير: 350/ 3.
(10/7349)
وقوله سبحانه: {وصاحبهما في الدنيا
معروفاً} [لقمان:15/ 31] وقوله صلّى الله عليه وسلم لمن جاء يشكو أباه الذي
يريد أن يجتاح (1) ماله: «أنت ومالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم،
وإن أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئاً» (2).
ودليل وجوب نفقة الولد مادام صغيراً لم يبلغ على أبيه: قوله تعالى: {وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {فإن
أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] وقوله صلّى الله عليه وسلم لهند
زوجة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (3). فالنفقة واجبة للوالد
والولد فقط.
ب ـ مذهب الشافعية: أن القرابة التي
تستحق بها النفقة قرابة الوالدين وإن علوا، وقرابة الأولاد وإن سفلوا،
للآيات والأحاديث السابقة؛ لأن اسم الوالدين يقع على الأجداد والجدات مع
الآباء، لقوله تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج:78/ 22] فسمى الله تعالى
إبراهيم أباً وهو جد، ولأن الجد كالأب، والجدة كالأم في أحكام الولادة من
رد الشهادة وإيجاب النفقة وغيرهما. واسم الولد يقع على ولد الولد، لقوله عز
وجل: {يا بني آدم} [الأعراف:31/ 7].
ولا تجب نفقة من عدا الوالدين والمولودين من الأقارب كالإخوة والأعمام
وغيرهما؛ لأن الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولودين، وأما من سواهم
فلا
_________
(1) الاجتياح: الاستئصال، ومنه الجائحة للشدة المجتاحة للمال.
(2) رواه أحمد وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه أحمد عن
عائشة ورواه الخمسة وعائشة بدون الشق الأول، ورواه ابن ماجه عن جابر بلفظ:
«أنت ومالك لأبيك» قال ابن رسلان: اللام للإباحة، لا للتمليك، فإن مال
الولد له، وزكاته عليه، وهو موروث عنه (نيل الأوطار: 11/ 6 - 12).
(3) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) إلا الترمذي عن عائشة (نيل
الأوطار: 323/ 6).
(10/7350)
يلحق بهم في الولادة وأحكام الولادة، فلم
يلحق بهم في وجوب النفقة. فالنفقة واجبة للأصول والفروع فقط.
جـ ـ مذهب الحنفية: تجب النفقة للقرابة
المحرمة للزواج، أي لكل ذي رحم محرم، ولا تجب لقريب غير محرم من الإنسان،
لقوله تعالى: {واعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً،
وبذي القربى} [النساء:36/ 4] وقوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه}
[الإسراء:26/ 17] وما روي عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: قلت: يا
رسول الله، من أبرُّ؟ قال: أمَّك، قال: قلت: ثم من؟ قال: أمَّك، قال: «قلت:
يا رسول الله، ثم من؟ قال: أمَّك، قال: قلت: ثم من؟ قال: أباك، ثم الأقرب
فالأقرب» (1) العبارة الأخيرة دليل على وجوب نفقة الأقارب على الأقارب،
سواء أكانوا وارثين أم لا.
لكن قيد الحنفية القرابة بالمحرمية في قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك}
[البقرة:233/ 2] عملاً بما جاء في قراءة ابن مسعود: (وعلى الوارث ذي الرحم
المحرم مثل ذلك) ولأن صلة القرابة القريبة واجبة دون البعيدة. فالنفقة
واجبة للأصول والفروع والحواشي ذوي الأرحام.
د ـ مذهب الحنابلة: تجب النفقة لكل قريب
وارث بالفرض أو التعصيب من الأصول والفروع والحواشي كالإخوة والأعمام
وأبنائهم، وكذا من ذوي الأرحام إذا كانوا من عمود النسب كأب الأم. وابن
البنت، سواء أكانوا وارثين أم محجوبين. أما من كان من غير عمود النسب
كالخالة والعمة، فلا نفقة له على قريبه؛ لأن قرابتهم ضعيفة، وإنما يأخذون
المال عند عدم الوارث كسائر المسلمين.
_________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي (نيل الأوطار: 327/ 6).
(10/7351)
فهم لم يشترطوا المحرمية كما اشترطها
الحنفية، فيستحق ابن العم النفقة على ابن عمه؛ لأنه وارث، ولا يستحقها عند
الحنفية؛ لأنه غير محرم.
ودليلهم قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] ولأن بين
المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال المورث من سائر الناس، فينبغي
أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم، فإن لم يكن وارثاً لعدم القرابة، لم تجب
عليه النفقة لذلك.
يظهر من هذه المذاهب أن الفقهاء أجمعوا على وجوب النفقة للآباء والأمهات
والأولاد والزوجات في حالة العجز والإعسار، وكان المنفق موسراً. فإن كان
الأب معسراً والأم موسرة، تؤمر بالإنفاق، وتكون النفقة ديناً على الأب (1).
وقال ابن حزم الظاهري (2): إن عجز الزوج عن نفقة نفسه، وامرأته غنية، كلفت
النفقة عليه، ولا ترجع عليه بشيء مما أنفقته إن أيسر، لقوله تعالى: {وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضارّ والدة
بولدها، ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] قال علي
رضي الله عنه: الزوجة وارثة، فعليها نفقته بنص القرآن.
4 - مبدأ كفاية النفقة للقريب والزوجة:
اتفق الفقهاء (3) على أن نفقة الأقارب والزوجات تجب بقدر الكفاية من الخبز
_________
(1) الدر المختار: 925/ 2.
(2) المحلى: 114/ 10، مسألة 1930.
(3) البدائع: 36/ 4، 38، حاشية ابن عابدين: 924/ 2، القوانين الفقهية: ص
223، المهذب: 167/ 2، مغني المحتاج: 448/ 3، المغني: 595/ 7.
(10/7352)
والأدم والكسوة والسكن على حسب حال المنفق
وبقدر العادة أو عوائد البلاد؛ لأنها وجبت للحاجة، والحاجة تندفع بالكفاية،
كنفقة الزوجة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف» فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية. فإن احتاج القريب أو
الزوجة إلى خادم فعلى المنفق إخدامه؛ لأنه من تمام كفايته.
5 - شروط وجوب النفقة:
يشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط (1):
أولاً ـ أن يكون القريب فقيراً لا مال له ولا قدرة له على الكسب لعدم
البلوغ أو الكبر أو الجنون أو الزمانة المرضية، ويستثنى الأبوان فتجب لهما
النفقة ولو مع القدرة على الكسب بالصحة والقوة. فإن كان القريب موسراً بمال
أو كسب يستغني به غير الوالدين، فلا نفقة له؛ لأنها تجب على سبيل المواساة،
والموسر مستغن عن المواساة. والراجح عند المالكية أن النفقة للوالدين على
الولد لا تجب إذا قدر على الكسب وتركاه.
ثانياً ـ أن يكون الملزم بالنفقة موسراً مالكاً نفقة فاضلة عن نفسه إما من
ماله وإما من كسبه، فيلزم القادر على التكسب أن يعمل للإنفاق على قريبه
الفقير. ويستثنى الأب، فنفقة أولاد هـ واجبة عليه ولو كان معسراً. وكذلك
الزوج، فنفقة زوجته واجبة عليه ولو كان معسراً. وقال المالكية: لا يجب على
الولد المعسر تكسب لينفق على والديه ولو قدر على التكسب.
_________
(1) فتح القدير: 347/ 3، الدر المختار: 923/ 2 - 925، القوانين الفقهية: ص
222، المهذب: 166/ 2، المغني: 584/ 7، 586، 589، مغني المحتاج: 446/ 3 -
448، كشاف القناع: 558/ 5 - 660، الشرح الصغير: 750/ 2 وما بعدها.
(10/7353)
ودليل اشتراط هذا الشرط حديث: «ابدأ بنفسك
ثم بمن تعول» وحديث جابر المتقدم: «إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، فإن
فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته» وحديث أبي هريرة عند أبي داود
وغيره: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله،
عندي دينار؟ قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على
زوجتك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي دينار آخر؟
قال:
تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: أنت أبصر به» (1).
ثالثاً ـ أن يكون المنفق قريباً للمنفق عليه ذا رحم محرم منه، مستحقاً
للإرث منه في مذهب الحنفية. أما في رأي الحنابلة فيشترط أن يكون المنفق
وارثاً لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2]. وأما عند
المالكية فأن يكون أباً أو ابناً، وعند الشافعية أن يكون من الأصول أو
الفروع، كما أبنت في بحث المبدأ الثالث. وينفق الأب على ولده مادام يتعلم،
ولو بعد البلوغ، كما سيأتي.
شرط اتحاد الدين:
اتفق الفقهاء على وجوب النفقة للزوجة مع اختلاف الدين ما لم تكن ناشزة أو
مرتدة، واختلفوا في شرط اتحاد الدين للإنفاق على القريب (2):
فلم يشترط المالكية والشافعية اتفاق الدين في وجوب النفقة، بل ينفق المسلم
على الكافر، والكافر على المسلم، لعموم الأدلة الموجبة للنفقة، وقياساً على
نفقة
_________
(1) انظر الأحاديث في نيل الأوطار: 321/ 6.
(2) البدائع: 36/ 4، الكتاب مع اللباب: 104/ 3 وما بعدها، فتح القدير: 347/
3 وما بعدها، 352، القوانين الفقهية: ص 223، مغني المحتاج: 447/ 3، المهذب:
160/ 2 وما بعدها، المغني: 585/ 7.
(10/7354)
الزوجة، ولوجود الموجب وهو البعضية، أي كون
القريب بعضاً من قريبه. وللحنابلة روايتان:
إحداهما ـ تجب النفقة مع اختلاف الدين كالرأي المتقدم.
والثانية وهي المعتمدة ـ لا تجب النفقة مع اختلاف الدين؛ لأنها مواساة على
البر والصلة ولعدم الإرث، وتفارق نفقة الزوجات؛ لأنها عوض يجب مع الإعسار،
فلم يمنعها اختلاف الدين كالصداق والأجرة.
ولم يشترط الحنفية اتحاد الدين في نفقة الأصول (وهم الآباء والأجداد وإن
علوا) ونفقة الفروع (وهم الأولاد وأولاد الأولاد وإن نزلوا) ونفقة الزوجة،
واشترطوا اتحاد الدين في غير هذه الفئات الثلاث، لعدم أهلية الإرث بين
المسلم وغير المسلم.
فعلى الرجل أن ينفق على أبويه وأجداده وجداته إذا كانوا فقراء، وإن خالفوه
في دينه، أما الأبوان فلقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً}
[لقمان:15/ 31] وليس من المعروف أن يعيش الولد في نعم الله تعالى، ويترك
والديه يموتان جوعاً. وأما الأجداد والجدات، فلأنهم من الآباء والأمهات،
فيقوم الجد مقام الأب عند عدمه.
ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين إلا للزوجة والأبوين والأجداد والجدات،
والولد وولد الولد؛ لأن نفقة الزوجة واجبة في مقابل الاحتباس، وأما غيرها
من نفقة الأصول والفروع فلثبوت الجزئية بين المنفق والمنفق عليه، وجزء
المرء في معنى نفسه. فكما لا تمتنع نفقة نفسه بكفر لا تمتنع نفقة جزئه، إلا
أنهم إذا كانوا حربيين لا تجب نفقتهم على المسلم، ولو كانوا مستأمنين؛ لأنا
نهينا عن برّ من يقاتلنا في الدين.
(10/7355)
والخلاصة: أن مذهب الحنفية المعتدل أوجب
النفقة للأصول والفروع دون غيرهم من الأقرباء بسبب الجزئية وهي لا تختلف
باختلاف الدين. ولا تجب لغيرهم مع اختلاف الدين، لعدم وجود الإرث بين
الأقارب حينئذ.
حد اليسار والإعسار:
تجب النفقة على الموسر لقريبه، واليسار عند الحنفية على الأرجح المفتى به
(1): هو يسار الفطرة: وهو أن يملك ما يحرم عليه به أخذ الزكاة وهو نصاب ولو
غير نام، فاضل عن حوائجه الأصلية. ونصاب الزكاة هو عشرون مثقالاً أو
ديناراً من الذهب، أو مئتا درهم من الفضة. فمن وجبت عليه الزكاة بملك
نصابها وجب عليه الإنفاق على قريبه بشرط أن يكون المال فاضلاً عن نفقته
ونفقة عائلته وحوائجه الضرورية.
وأطلق الجمهور (2) غير الحنفية القول بأنه يجب الإنفاق على القريب بفاضل عن
قوته وقوت عياله في يومه وليلته التي تليه، سواء فَضََل ذلك بكسب أم لا.
وهذا هو قول محمد بن الحسن واختاره الكمال بن الهمام وغيره من الحنفية، وهو
الأولى مراعاة لدخل الموظفين والحرفيين، فمن اكتسب شيئاً في يومه، وأنفق
منه ما يحتاجه في يومه، وزاد عنه شيء، وجب أن يدفعه للقريب المعسر.
وأما حد الإعسار أوا لمعسر الذي يستحق النفقة، فقيه رأيان (3):
الأول ـ هو الذي يحل له أخذ الصدقة ولاتجب عليه الزكاة.
_________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 931/ 2، البدائع: 35/ 4.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 750/ 2، مغني المحتاج: 447/ 3، المغني:
584/ 7.
(3) البدائع: 34/ 4، القوانين الفقهية: ص 222، مغني المحتاج: 448/ 3، كشاف
القناع: 559/ 5.
(10/7356)
والثاني ـ إنه هو المحتاج. والمعسر في
عبارة غير الحنفية: هو الفقير الذي لا مال له، والرأيان متقاربان.
واختلف الحنفية (1) فيمن يملك منزلاً أو له خادم، هل يستحق النفقة على
قريبه الموسر على روايتين:
الأولى ـ إنه لا يستحق النفقة على قريبه الموسر؛ لأن النفقة لا تجب لغير
المحتاج، ومثل هؤلاء غير محتاجين؛ لأنه يمكنه بيع بعض المنزل أو كله،
ويكتري منزلاً، فيسكن بالكراء، أو يبيع الخادم إذا كان رقيقاً كما كان في
الماضي.
والثانية ـ إنه يستحق؛ لأن بيع المنزل لا يقع إلا نادراً، ولا يمكن لكل أحد
السكنى بالكراء أو بالمنزل المشترك. قال الكاساني: وهذا هو الصواب.
العجز عن الكسب والقدرة عليه:
اتفق الفقهاء (2) على وجوب النفقة لقريب فقير عاجز عن الكسب، والعجز عن
الكسب: ألا يستطيع الإنسان اكتساب معيشته بالوسائل المشروعة المعتادة
اللائقة به، وله صفات هي:
أن يكون أنثى مطلقاً أو مريضاً زَمِناً (3)، أو صغيراً، أو مجنوناً أو
معتوهاً، أو مصاباً بآفة تحول دون العمل كالعمى والشلل، أو عاطلاً عن العمل
فلا يجد عملاً بسب انتشار البطالة.
_________
(1) البدائع: 34/ 4.
(2) الدر المختار: 923/ 2 - 925، 938 وما بعدها، فتح القدير: 347/ 3
ومابعدها، اللباب: 104/ 3، الشرح الصغير: 751/ 2، القوانين الفقهية: ص 222
وما بعدها، مغني المحتاج: 443/ 3، 448، المغني: 584/ 7، 586، كشا ف القناع:
559/ 5، بجيرمي الخطيب: 67/ 4.
(3) الزمن: هو المريض بمرض يدوم زماناً طويلاً.
(10/7357)
فإن كان قادراً على الكسب، فلا نفقة له
بالاتفاق؛ لأن القدرة على الكسب غنى، لكن باستثناء الأبوين، فتجب لهما
النفقة في رأي الحنفية والشافعية مع القدرة على الكسب؛ لأن الفرع مأمور
بمعاشرة أصله بالمعروف، وليس منها تكليفه الكسب مع كبر السن، كما يجب له
الإعفاف (تزويج الأب) ويمتنع القصاص منه. والراجح لدى المالكية والحنابلة
أن النفقة لا تجب على الولد لوالديه إذا قدرا على الكسب وتركاه.
ويجب في رأي الجمهور على الزوج لزوجته، وعلى الإنسان لقريبه التكسب ليؤدي
النفقة الواجبة عليه؛ لأن القدرة على الكسب كالقدرة على المال، إذا وجد
عملاً مباحاً يليق به، ولخبر: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (1)،
وينبني عليه أنه يحرم عليه الزكاة إذا كان قادراً على الكسب، ولأنه يلزمه
إحياء نفسه بالكسب، فكذا يلزمه إحياء بعضه وهو القريب.
وقال المالكية: لا يجب على الولد المعسر تكسب لينفق على والديه، ولو قدر
على التكسب. ويجبر الوالدان على الكسب إذا قدرا عليه، على الأرجح.
واستثنى الحنفية والشافعية أيضاً: طلبة العلم الذين لايتفرغون للكسب، فتجب
نفقتهم ولو مع القدرة على الكسب؛ لأن طلب العلم فريضة كفائية، والتفرغ له
شرط، فلو ألزم طلبة العلم بالاكتساب لتعطلت مصالح الأمة. واستثنى الحنفية
الأخرق: وهو الذي لا يحسن الكسب، وهو في الحقيقة ملحق بالعاجز عن العمل.
واستثنى الحنفية كذلك أبناء الكرام الذين يلحقهم العار بالتكسب، أو لا
_________
(1) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمرو، وهو صحيح.
(10/7358)
يستأجرهم الناس عادة، فهم عاجزون، فتجب
نفقتهم ولو مع القدرة على الكسب.
والخلاصة: أن النفقة لا تجب لذي مال إلا للزوجة، ولا للقادر على الكسب الذي
يكفيه ما عدا الأب.
6 - النفقة بسبب الحاجة:
لا تجب النفقة على الغير إلا بسب الحاجة، فمن كان ذا مال فنفقته في ماله،
سواء أكان صغيراً أم كبيراً، إلا الزوجة فإن نفقتها تجب على الزوج ولو كانت
موسرة؛ لأن نفقتها لم تجب للحاجة، وإنما بسبب احتباسها لحق الزوج.
7 - استقلال الأب بنفقة أولاده:
لا يشارك الأبَ أحد في الإنفاق على أولاده، كما لا يشاركه أحد في نفقة
الزوجة؛ لأنهم جزء منه، وإحياؤهم واجب كإحياء نفسه، ولأن نسبهم لاحق به،
فيكون عليه غرم النفقة، ولقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن}
[البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/
65] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لهند «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
فجعل النفقة على أبيهم دونها (1).
8 - استقلال الولد بنفقة أبويه:
لا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد؛ لأنه أقرب الناس إليهما (2). فإن تعدد
الأولاد الموسرون، وزعت النفقة في رأي المالكية على الراجح بقدر اليسار حيث
_________
(1) المغني: 587/ 7، الدر المختار: 926/ 2.
(2) اللباب: 105/ 3، فتح القدير: 343/ 3 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 927/
2.
(10/7359)
تفاوتوا فيه. وقيل: توزع على حسب الرؤوس
فالذكر كالأنثى، وقيل: توزع بحسب قواعد الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: توزع النفقة على قدر الميراث، فلو كان
الرجل مريضاً زمناً وله أولاد، فعليهم نفقة أبيهم على قدر ميراثهم، لقوله
تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] وترتيب الحكم على مشتق وهو
اسم الفاعل هنا، يدل علِى أن المشتق منه علة الحكم، فيثبت الحكم بقدر علته
(1). ونص الحنابلة على أن الحجب عن الميراث في عمودي النسب لا يسقط النفقة
عنه.
9 - هل الإعفاف أو التزويج من النفقة الواجبة؟
يرى جمهور الفقهاء وفي رواية عند الحنفية (2): أن الولد يلزمه تزويج أو
إعفاف أبيه المعسر ولو كان كافراً معصوماً، وكذا على المشهور عند الشافعية.
وعند الحنابلة وبعض الحنفية إعفاف الأجداد من الجهتين جهة الأب وجهة الأم؛
لأنه من وجوه حاجاتهم المهمة كالنفقة والسكنى، ولئلا يعرضهم للزنا المفضي
إلى الهلاك، وهو لا يليق بحرمة الأبوة، وليس من المصاحبة بالمعروف المأمور
بها، فالزواج مما تدعو الحاجة إليه ويتضرر الأب بفقده، فلزم ابنه تزويجه
كالنفقة. والرواية الراجحة عند الحنفية عدم وجوب إعفاف الأب؛ لأنه من
الكماليات.
وإذا اجتمع أب وجد أو جدان، ولم يمكن الولد إلا إعفاف أحدهما قدم الأقرب،
ويقدم الجد من جهة الأب على الجد من جهة الأم؛ لأن الأول عصبة، والشرع قد
اعتبر جهته في التوريث والتعصيب، فيقدم في الإنفاق والاستحقاق.
_________
(1) الشرح الصغير: 752/ 2، القوانين الفقهية: ص 223، فتح القدير: 348/ 3
وما بعدها، 351، مغني المحتاج: 211/ 3، المغني: 589/ 7، 592.
(2) الشرح الصغير: 752/ 2، مغني المحتاج: 211/ 3، المهذب: 167/ 2، غاية
المنتهى: 244/ 3، المغني: 587/ 7 - 589، الدر المختار: 927/ 2.
(10/7360)
ولا يلزم الأب في المذهبين الحنفي والشافعي
في تزويج ابنه الفقير. وأوجب الحنابلة على الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه
نفقته وكان محتاجاً إلى إعفافه؛ لأنه تلزمه نفقته، فيلزمه إعفافه عند حاجته
إليه، كما يلزم الولد إعفاف أبيه. وكل من لزمه إعفافه، لزمته نفقة زوجته؛
لأنه لايتمكن من الإعفاف إلا بها.
والإعفاف: يكون بإعطاء مهر المثل، ويكون تعيين الزوجة إلى الزوج، ولا يجوز
للولد أن يزوج أباه قبيحة ولا عجوزاً؛ لأن الإعفاف لا يحصل بواحدة منهما.
وذكر الحنابلة أن الابن يلزمه إعفاف أمّ بتزويجها كالأب.
نفقة زوجة الأب:
يلزم الابن أيضاً نفقة زوجة أبيه في رأي الحنابلة والشافعية والمالكية وفي
رواية عند الحنفية، فكل من لزمه إعفافه، لزمته نفقة زوجته، كما تقدم.
وأما الرواية الأخرى عند الحنفية فلا تجب نفقة زوجة الأب إلا إذا كان الأب
مريضاً أو به زمانة (أي مرض مزمن)، قال في الذخيرة: المذهب عدم وجوب نفقة
امرأة الأب (1)، وهو المعمول به في مصر.
ولا يلزم الابن عند الحنفية في الرواية الأولى نفقة أكثر من زوجة واحدة
للأب، وهو مذهب المالكية والحنابلة إن حصل الإعفاف بها وإلا تعدّت النفقة
لمن يعف.
_________
(1) الشرح الصغير: 752/ 2، المغني: 587/ 7 - 589، الدر المختار وحاشية ابن
عابدين: 927/ 2، القوانين الفقهية: ص 223.
(10/7361)
نفقة زوجة الابن:
المذهب عند الحنفية (1): عدم وجوب النفقة على الأب لزوجة الابن، ولو كان
صغيراً أو كبيراً غائباً، إلا إذا ضمنها، ويستدين الأب على ابنه، ثم يرجع
عليه إذا أيسر.
وقال الحنابلة والشافعية كما تقدم: كل من لزمه إعفافه، لزمته نفقة زوجته؛
لأنه لا يتمكن من الإعفاف إلا بها.
وأما المالكية فقالوا: إذا كان الزوج معسراً سقطت نفقة الزوجة عنه ما دام
معسراً.
10 - هل تتوقف النفقة على القضاء؟ قال
الحنفية (2): تجب نفقة الأصول والفروع من غير حاجة إلى قضاء القاضي، إلا
أنه إذا كان للصغير مال غائب وأراد الأب أن يرجع عليه، فليس له الرجوع إلا
بالقضاء أو بالإشهاد بأن يشهد أنه أنفق ليرجع عليه بعد أن نوى بقلبه، فلو
أنفق بغير إذن القاضي وبغير إشهاد فليس له الرجوع قضاء، وله أن يرجع ديانة
فيما بينه وبين الله تعالى.
وأما نفقة غير الأصول والفروع، فلا تثبت إلا بالقضاء أو بالتراضي، وسبب
التفرقة بين الحالتين: أن نفقة الأصول والفروع تجب باتفاق الفقهاء، فلا
تحتاج في وجوبها إلى قضاء القاضي. أما نفقة الأقارب الآخرين، فمختلف في
وجوبها بين الفقهاء، فتحتاج إلى ما يقويها وهو قضاء القاضي.
_________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 887/ 2، 927 وما بعدها.
(2) فتح القدير: 338/ 3، البدائع: 22/ 4، 35، الدر المختار: 906/ 2.
(10/7362)
11 - سقوط النفقة:
النفقة إما للزوجة وإما للأقارب، فمتى تسقط كل واحدة منها؟
سقوط نفقة الزوجة: تسقط نفقة الزوجة في
الحالات التالية (1):
1) ـ مضي الزمان من غير فرض القاضي أو التراضي: فتسقط عند الحنفية بمضي
المدة بعد الوجوب قبل صيرورتها ديناً في الذمة، ولا تسقط بمضي المدة بعد
القضاء به، وتصير ديناً. والحالات الأخرى تسقط فيها النفقة بعد صيرورتها
ديناً في الذمة. وقال المالكية وباقي المذاهب: لا تسقط النفقة بمضي الزمان،
وترجع الزوجة على زوجها بالنفقة المتجمدة، وهذا بخلاف نفقة الأقارب، فإنها
تسقط بمضي المدة؛ لأنه إذا مضى زمنها استغني عنها.
2) ـ الإبراء من النفقة الماضية: تسقط النفقة الماضية بالإبراء أو الهبة
ويكون الإبراء إسقاطاً لدين واجب. ولكن قال الحنفية: لا يصح الإبراء أو
الهبة عن النفقة المستقبلة؛ لأن نفقة الزوجة تجب شيئاً فشيئاً على حسب حدوث
الزمان، فكان الإبراء منها إسقاطاً لواجب قبل الوجوب، وقبل وجود سبب الوجوب
أيضاً، وهو حق الاحتباس.
3) ـ موت أحد الزوجين: لو مات الرجل قبل إعطاء النفقة، لم يكن للمرأة أن
تأخذها من ماله. ولو ماتت المرأة لم يكن لورثتها أن يأخذوا نفقتها. فإن كان
_________
(1) البدائع: 22/ 4، 29 وما بعدها، فتح القدير: 332/ 3 وما بعدها، 342،
الدر المختار: 889/ 2 - 892، 899، القوانين الفقهية: ص 223، الشرح الصغير:
740/ 2، بداية المجتهد: 54/ 2، مغني المحتاج: 436/ 3 - 438، المهذب: 160/
2، المغني: 578/ 7، 604، 611 وما بعدها، غاية المنتهى: 238/ 3 وما بعدها،
كشاف القناع: 548/ 5 - 551، الشرح الكبير والدسوقي: 517/ 2.
(10/7363)
الزوج أسلفها نفقتها وكسوتها، ثم مات قبل
مضي الوقت الذي أسلفها عنه، لم ترجع ورثته عليها بشيء في رأي أبي حنيفة
وأبي يوسف. وكذا لو ماتت هي لم يرجع الزوج في تركتها في رأيهما.
4) ـ النشوز: هو معصية المرأة لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له عقد
الزواج. والنفقة تسقط بنشوز المرأة، ولو بمنع لمس بلا عذر بها، إلحاقاً
لمقدمات الوطء بالوطء؛ لأن النفقة هي في مقابلة الاستمتاع، فإذا امتنعت فلا
نفقة للناشز. وقال الحنفية: النفقة التي تسقط بالنشوز أو الموت هي النفقة
المفروضة، لا المستدانة في الأصح.
فإن وجد عذر لوجود قروح قرب فرجها، أو التهابات حادة، فلا تسقط نفقتها. ومن
الأعذار: مرض يضر معه الوطء، وعَبَالة زوج، أي كبر آلته بحيث لا تحتملها
الزوجة.
أما خروج المرأة من بيت الزوج بلا إذنه، أو سفرها بلا إذنه، أو إحرامها
بالحج بغير إذنه، فهو نشوز، إلا للضرورة أو العذر، كأن يشرف البيت على
انهدام، أو تخرج لبيت أبيها لزيارة أو عيادة، فيعد خروجها عذراً، وليس
نشوزاً.
وأما سفر المرأة بإذن الزوج: فقد فصل فيه الشافعية فقالوا: إن كان السفر مع
الزوج أو لحاجته، فلا تسقط نفقتها به، وإن كان لحاجتها فتسقط في الأظهر.
ولا يعد نشوزاً عرفاً في رأي الشافعية خروج المرأة في غيبة زوجها لزيارة
أقاربها أو جيرانها أو عيادتهم أو تعزيتهم، فلا تسقط نفقتها؛ لأن خروجها لا
على وجه النشوز.
وكذا قال الحنابلة: لا نفقة لمن سافرت بلا إذن زوج لحاجتها، أو لنزهة،
(10/7364)
أولزيارة ولو بإذن الزوج، أو لتغريب في حد
أو تعزير، أو لحبس ولو ظلماً، أو صامت للكفارة أو قضاء رمضان ووقته متسع،
أو صامت أو حجت نفلاً أو نذراً معيناً في وقته بلا إذنه. ولا تسقط عندهم
وعند المالكية لو أحرمت بحج فرض.
ووافق الحنفية الحنابلة في أن حبس المرأة ولو ظلماً يسقط النفقة، إلا إذا
حبسها الزوج بدين له، فلها النفقة في الأصح. ووافق الحنفية الشافعية في أن
الحج مع غير الزوج ولو فرضاً، يسقط النفقة، لفوات الاحتباس.
وقال المالكية: إن حبست ظلماً فلا يسقط حقها في النفقة؛ لأن منعه من
الاستمتاع ليس من جهتها.
وإن منعت المرأة نفسها عن الزوج بالصوم، فإن كان بصوم تطوع، فالصحيح لدى
الشافعية أن نفقتها تسقط؛ لأنها منعت التمكين التام بما ليس بواجب، فسقطت
نفقتها كالناشزة، وإن منعت نفسها بصوم رمضان أو بقضائه وقد ضاق وقته، لم
تسقط نفقتها؛ لأن ما استحق بالشرع لا حقَّ للزوج في زمانه.
وإن منعت نفسها بصوم القضاء قبل أن يضيق وقته، أو بصوم كفارة أو نذر في
الذمة، سقطت نفقتها؛ لأنها منعت حقه، وهو على الفور بما هو ليس فورياً.
وكذا تسقط نفقتها بنذر معين بعد الزواج إن كان بغير إذن الزوج. والاعتكاف
مثل الصوم: إن كان باعتكاف تطوع أو نذر في الذمة، سقطت نفقتها.
وإن منعت المرأة نفسها بالصلاة: فإن كانت بالصلوات الخمس، أو السنن
الراتبة، لم تسقط نفقتها؛ لأن ما ترتب بالشرع لا حق للزوج في زمانه. وإن
كان بقضاء فوائت، سقطت نفقتها؛ لأنها على التراخي، وحقه على الفور.
وإذا سقطت نفقة المرأة بنشوزها، ثم أطاعت وعدلت عن النشوز، والزوج
(10/7365)
حاضر، عادت نفقتها، لزوال المسقط لها،
ووجود التمكين المقتضي لها. وإن كان الزوج غائباً، لم تعد نفقتها في رأي
الشافعية والحنابلة، لعدم تحقق التسليم والتسلم، إذ لا يحصلان مع الغيبة.
وقال الحنفية: تعود نفقتها بعد عدولها عن النشوز ولو في غيبة الزوج.
5) ـ الردة: إذا ارتدت المرأة، سقطت نفقتها، لخروجها عن الإسلام، وامتناع
الاستمتاع بسبب الردة. فإذا عادت إلى الإسلام، عادت نفقتها بمجرد عودها عند
الشافعية والحنابلة. والفرق بين النشوز والردة: أن المرتدة سقطت نفقتها
بالردة، وقد زالت بالإسلام، والناشزة سقطت نفقتها بالمنع من التمكين، وهو
لا يزول بالعود إلى الطاعة، وإنما بالتمكين الفعلي، ولا يحصل المقصود في
غيبة الزوج.
6) ـ كل فُرْقة جاءت من قبل المرأة بمعصية، مثل ردتها أو إبائها الإسلام
إذا أسلم الزوج وظلت وثنية أو مجوسية، أو تمكينها ابن الزوج من نفسها، ففي
هذه الحالات تسقط نفقتها؛ لأنها منعت الاستمتاع بمعصية، فصارت كالناشزة،
ويظل لها حق السكنى في بيت الزوجية؛ لأن القرار فيه حق عليها، فلا يسقط
بمعصيتها.
فإن حدثت الفرقة بغير معصية كخيار البلوغ وعدم الكفاءة ووطء ابن الزوج لها
مكرهة، فلا تسقط نفقتها؛ لأنها حسبت نفسها بحق لها أو بعذر عذرت شرعاً فيه.
ولا تسقط نفقتها بفرقة جاءت من قبل الزوج مطلقاً، سواء أكانت بغير معصية،
مثل الفرقة بطلاقه أو لعانه أو عنّته أو جبه، بعد الخلوة في رأي الحنفية،
أو بمعصية مثل الفرقة بتقبيله بنت زوجته أوإيلائه مع عدم فيئه حتى مضت
أربعة
(10/7366)
أشهر، أو إبائه الإسلام إذا أسلمت هي، أو
ارتد هو، فعرض عليه الإسلام، فلم يسلم؛ لأن بمعصيته لا تُحرم زوجته النفقة.
والخلاصة: أن الحنفية قالوا: لا نفقة لإحدى عشرة امرأة (1): وهي مرتدة،
ومقبِّلة ابن الزوج، ومعتدة موت، ومنكوحة بنكاح فاسد أو في أثناء العدة
منه، وموطوءة بشبهة، وصغيرة لا توطأ، وخارجة من بيت الزوج بغير حق وهي
الناشزة، ومحبوسة ولو ظلماً، ومريضة لم تزف إلى بيت زوجها أي لا يمكنها
الانتقال معه أصلاً وإن لم تمنع نفسها، لعدم التسليم تقديراً، ومغصوبة
كرهاً وهي من أخذها رجل وذهب بها، وحاجَّة ولو فرضاً وحدها ولو مع محرم لا
مع الزوج لفوات الاحتباس. فإن حجت مع الزوج وخرج معها لأجلها، فعليه نفقة
الحضر فقط، لا نفقة السفر وأجوره، أما لو أخرجها معه فيلزمه جميع نفقات
السفر.
وإذا فرضت النفقة على الزوج قضاء أو رضاء أصبحت ديناً صحيحاً ثابتاً في
ذمته لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء، وهذا ما نصت عليه المادة (79) من
القانون السوري: «النفقة المفروضة قضاء أو رضاء لا تسقط إلا بالأداء أو
الإبراء».
سقوط نفقة الأقارب:
تسقط نفقة الأقارب للولد والوالدين وذي الأرحام في رأي الحنفية والشافعية
والحنابلة (2)، بمضي المدة، فإذا قضى القاضي بالنفقة للأقارب، فمضت مدة شهر
فأكثر، فلم يقبض القريب ولا استدان عليه حتى مضت المدة، سقطت في رأي
الحنفية. فمضي المدة يسقط النفقة إلا أن يأذن القاضي بالاستدانة على المنفق
عليه؛
_________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 889/ 2 - 892.
(2) البدائع: 38/ 4، فتح القدير: 354/ 3، الكتاب مع اللباب: 109/ 3، الدر
المختار: 925/ 2، 943 وما بعدها، المهذب: 167/ 2.
(10/7367)
لأن نفقة الأقرباء تجب سداً للحاجة، فلا
تجب للموسرين، فإذا مضت المدة ولم يقبضها المستحق، دل على أنه غير محتاج
إليها، بخلاف نفقة الزوجة فإنها لا تسقط بمضي المدة بعد القضاء بها؛ لأنها
تجب جزاء الاحتباس، لا للحاجة، وتجب ولو كانت الزوجة موسرة. فإن أذن القاضي
بالاستدانة على المفروض عليه، لا تسقط؛ لأنها تصير ديناً في ذمته، فلا يسقط
بمضي المدة.
واستثنى الزيلعي نفقة الصغير كالزوجة، فإنها لا تسقط بمضي المدة، وتكون
ديناً في ذمة المحكوم عليه، نظراً لعجز الصغير والرأفة به.
وقال المالكية (1): تسقط نفقة الأبوين أو الأولاد بمرور الزمن إلا أن
يفرضها القاضي، فحينئذ تثبت.
ويلاحظ أن القريب المنفق عليه إذا اكتسب لم تعد النفقة واجبة على قريبة،
إلا إذا لم يكتسب ما يكفيه، فحينئذ تكمل له النفقة.
والخلاصة: أن نفقة القريب فيما دون شهر، ونفقة الزوجة، والصغير لا تسقط
بمضي الزمان، وإنما تصير ديناً بالقضاء. وكذا لا تسقط نفقة القريب غير
الزوجة إذا استدان بأمر القاضي.
12 - جزاء الامتناع عن النفقة:
ذكر الحنفية (2): أنه إذا امتنع القريب من الإنفاق على قريبة المستحق، وأصر
على الامتناع مع قدرته ويساره، فإنه يحبس ولو كان أباً، للضرورة؛ لأن في
الامتناع عن النفقة إهلاكاً للقريب، وفي الحبس حمل على الإنفاق لحفظ حياة
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 223.
(2) البدائع: 38/ 4، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 945/ 2.
(10/7368)
الإنسان، وهو أمر واجب شرعاً، ويتحمل الأب
وغيره من باب أولى هذا القدر من الأذى لهذه الضرورة.
13 - تعدد مستحقي النفقة:
إذا تعدد مستحقو النفقة ولم يكن لهم إلا قريب واحد، فإن استطاع أن ينفق
عليهم جميعاً وجب عليه الإنفاق، وإن لم يستطع بدأ بنفسه ثم بولده الصغير أو
الأنثى أو العاجز، ثم بزوجته ـ وقال الحنابلة: تقدم الزوجة على الولد،
ويقدَّم الأب على الأم لفضيلته، وانفراده بالولاية، واستحقاق الأخذ من
ماله. وقال ابن قدامة. الأولى التسوية بينهما. وقيل عند الشافعية: يقدم
الأب، وقيل: الأم والأب سواء (1).
ودليل هذا الترتيب: الأحاديث المتقدمة، حديث جابر: «أن النبي صلّى الله
عليه وسلم قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل
عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» (2)، أي
وزعه في الناس كيف شئت.
وحديث أبي هريرة: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا
رسول الله، عندي دينار؟ قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر؟ قال:
تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي
دينار آخر؟ قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: أنت أبصر
به» (3).
_________
(1) الدر المختار: 927/ 2، القوانين الفقهية: ص 223، المهذب: 166/ 2 - 167،
المغني: 593/ 7، كشاف القناع: 561/ 5.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي (نيل الأوطار: 321/ 6).
(3) رواه أحمد والنسائي (المرجع السابق).
(10/7369)
وحديث أبي هريرة أيضاً: «قال رجل: يا رسول
الله، أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال:
ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك» (1)، وفي رواية لمسلم: «من أبر».
14 - متى تجب النفقة على بيت المال أو الدولة؟
إذا لم يكن للقريب المعسر أحد من الأقارب الموسرين، كانت نفقته في بيت
المال «خزينة الدولة» ولا يطالب بتكفف الناس؛ لأن من وظائف بيت المال في
الإسلام أن يتحمل حاجة المحتاجين وينفق عليهم بقدر حاجاتهم. قال الكاساني
(2) في بيان ما يوضع في بيت المال من الأموال وبيان مصارفها: يوضع في بيت
المال أربعة أنواع: أحدها ـ زكاة السوائم والعشور وما أخذه العشار من تجار
المسلمين إذا مروا عليهم. والثاني ـ خمس الغنائم والمعادن والركاز. والثالث
ـ خراج الأراضي وجزية الرؤوس .. وما أخذه العشار من تجار أهل الذمة
والمستأمنين من أهل الحرب. والرابع ـ ما أخذ من تركة الميت الذي مات ولم
يترك وارثاً أصلاً، أو ترك زوجاً أو زوجة.
وأما النوع الرابع: فيصرف إلى دواء الفقراء والمرضى وعلاجهم، وإلى أكفان
الموتى الذين لا مال لهم، وإلى نفقة اللقيط وعقل جنايته (أي دفع غرامة
جنايته) وإلى نفقة من هو عاجز عن الكسب وليس له من تجب عليه نفقته، ونحوهم،
وعلى الإمام صرف هذه الحقوق إلى مستحقيها.
هذه مبادئ النفقة، وأذكر عقبها ما يترتب عليها من تفريعات وتفصيلات في
المباحث الأربعة التالية:
_________
(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم.
(2) البدائع: 68/ 2 وما بعدها.
(10/7370)
المبحث الأول ـ نفقة
الزوجة:
نفقة الزوجة حق أصيل من حقوقها الواجبة على زوجها بسبب عقد الزواج، والكلام
عنها في مطالب أربعة هي:
الأول ـ معنى النفقة وأنواعها ووجوبها ومن تجب عليه وسبب وجوبها.
الثاني ـ شروط وجوبها.
الثالث ـ كيفية تقدير النفقة بأنواعها، والحكم القضائي بها.
الرابع ـ أحكام النفقة (الامتناع عن الإنفاق، وإعسار الزوج، نفقة زوجة
الغائب، متى تعتبر النفقة ديناً على الزوج؟ نفقة المعتدة، تعجيل النفقة،
الإبراء عنها، المقاصة بدين النفقة، الكفالة بالنفقة أو ضمانها، الصلح عن
النفقة).
المطلب الأول ـ معنى النفقة وأنواعها، ووجوبها،
ومن تجب عليه، وسبب وجوبها:
معنى النفقة: بيّنت سابقاً أن النفقة
لغة: هي ما ينفقه الإنسان على عياله. وهي شرعاً: الطعام والكسوة والسكنى،
وعرفاً في إطلاق الفقهاء: هي الطعام فقط، ولذا يعطفون عليه الكسوة والسكنى،
والعطف يقتضي المغايرة (1).
وجوبها: اتفق الفقهاء (2) على وجوب
النفقة للزوجة مسلمة كانت أو كافرة بنكاح صحيح، فإذا تبين فساد الزواج
وبطلانه رجع الزوج على المرأة بما أخذته من النفقة، وثبت وجوبها بالقرآن
والسنة والإجماع والمعقول.
_________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 886/ 2.
(2) المرجع السابق، البدائع: 15/ 4، فتح القدير: 321/ 3، بداية المجتهد:
53/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 426/ 3، المغني: 563/ 7.
(10/7371)
أما القرآن: فقول الله تعالى: {لينفق ذو
سعة من سعته، ومن قُدِرَ عليه رزقه (1)، فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف
الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق:7/ 65] وقوله تعالى: {وعلى المولود له:
رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {أسكنوهن من حيث
سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/ 65] أي على قدر ما يجده أحدكم من السعة
والمقدرة. والأمر بالإسكان أمر بالإنفاق؛ لأن المرأة لا تحصل النفقة إلا
بالخروج والاكتساب.
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث حجة الوداع عن جابر: «اتقوا
الله في النساء، فإنهن عوان (2) عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم
فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (3) ورواه الترمذي
بإسناده عن عمرو بن الأحوص قال: «ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم
عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في
بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن»
(4).
وجاءت هند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: «يا رسول الله، إن
أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف» (5) وفيه دلالة على وجوب النفقة الزوجية، وأنها مقدرة
بكفايتها كما بينا، وأن نفقة ولده عليه دونها وهي مقدرة بكفايتهم، وأن
النفقة بالمعروف، وأن لها أن تأخذ نفقتها بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها
إياه.
_________
(1) أي من ضيق عليه.
(2) أي كأسيرات.
(3) رواه مسلم وأبو داود ومالك في الموطأ وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي
الله عنه (نصب الراية: 48/ 3 - 50).
(4) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(5) رواه الجماعة إلا الترمذي عن عائشة (نيل الأوطار: 323/ 6).
(10/7372)
وأما الإجماع: فاتفق العلماء على وجوب
نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين، إلا الناشز منهن. ولا نفقة
عند الحنفية للصغيرة التي لا يستمتع بها؛ لأن امتناع الاستمتاع لمعنى فيها.
وأما المعقول: فهو أن المرأة محبوسة على الزوج بمقتضى عقد الزواج، ممنوعة
من التصرف والاكتساب لتفرغها لحقه، فكان عليه أن ينفق عليها، وعليه
كفايتها، لأن الغرم بالغنم والخراج بالضمان، فالنفقة جزاء الاحتباس، فمن
احتبس لمنفعة غيره كالموظف والجندي، وجبت نفقته في مال الغير.
من تجب عليه: اتفق الفقهاء (1) أيضاً
على أن النفقة تجب على الزوج الحر الحاضر، فإذا سلمت المرأة نفسها إلى
الزوج على النحو الواجب عليها، فلها عليه جميع ما تحتاجه من مأكول ومشروب
وملبوس ومسكن.
سبب وجوبها: للعلماء رأيان (2) فيه،
فقال الحنفية: سبب وجوبها استحقاق الحبس الثابت بالنكاح للزوج عليها،
ورتبوا عليه ألا نفقة على مسلم في نكاح فاسد، لانعدام سبب الوجوب وهو حق
الحبس الثابت للزوج عليها بسبب الزواج؛ لأن حق الحبس لا يثبت في الزواج
الفاسد.
وعلى الزوج النفقة في أثناء عدة المرأة بسبب الفرقة الحاصلة بطلاق أو بغير
طلاق رجعي أو بائن، حامل أو غير حامل، من قبل الزوج أو من قبل المرأة إلا
إذا كانت الفرقة من قبلها بسبب محظور استحساناً، لقيام حق الحبس بعد زواج
صحيح.
_________
(1) بداية المجتهد: 55/ 2، المغني: 564/ 7.
(2) البدائع: 16/ 4، فتح القدير: 321/ 3، الشرح الصغير: 729/ 2، مغني
المحتاج: 425/ 3، المغني: 564/ 7.
(10/7373)
وقال الجمهور غير الحنفية: سبب وجوب
النفقة: هو الزوجية وهو كونها زوجة للرجل، ورتبوا عليه أنه تجب النفقة
للمطلقة طلاقاً رجعياً، أو بائناً وهي حامل، لبقاء حق الزوج، أما المبتوتة
إذا كانت حاملاً، فلها عند المالكية والشافعية السكنى، ولا نفقة لها لزوال
النكاح بالإبانة، وكان ينبغي ألا نفقة للمبتوتة ولا سكنى لها، لكن ترك
القياس بالنص القرآني: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/ 65]
والتزم الحنابلة بالقياس وبحديث فاطمة بنت قيس في أنه لا نفقة لها ولا
سكنى.
المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة:
أذكر هنا شروط وجوب النفقة عند الجمهور
ثم عند المالكية. أما شروطها عند الجمهور (1)، فهي أربعة:
1ً - أن تمكِّن المرأة
نفسها لزوجها تمكيناً تاماً: إما بتسليم نفسها أوبإظهار استعدادها لتسليم
نفسها إلى الزوج بحيث لا تمتنع عند الطلب، سواء دخل الزوج بها بالفعل أم لم
يدخل، دعته الزوجة أو وليها إلى الدخول بها أم لم تدعه. واشترط المالكية
لوجوب النفقة قبل الدخول دعوة المرأة أو وليها المجبر الزوج إلى الدخول.
فإن ظلت في بيت أهلها برضاه واختياره وجبت نفقتها عليه.
وإن منعت المرأة نفسها أو منعت وليها، أو تساكتا بعد العقد، فلم تبذل ولم
_________
(1) البدائع: 18/ 4 ومابعدها، فتح القدير: 324/ 3، الدر المختار: 886/ 2
ومابعدها، مغني المحتاج: 435/ 3 ومابعدها، المهذب: 159/ 2 ومابعدها،
المغني: 601/ 7 - 603، كشاف القناع: 545/ 5، 548.
(10/7374)
يطلب، فلا نفقة لها، وإن أقاما زمناً، فإن
النبي صلّى الله عليه وسلم تزوج عائشة ودخلت عليه بعد سنتين، ولم ينفق إلا
بعد دخوله.
وإن كان الامتناع من تسليم نفسها بحق، فلها النفقة، كالامتناع لتسليم المهر
المعجل أو الحالّ، أو لتهيئة مسكن لائق شرعاً. وأضاف الشافعية: أن يريد
الزوج سفراً طويلاً.
2ً - أن تكون الزوجة كبيرة
يمكن وطؤها: فإن كانت صغيرة لا تحتمل الوطء فلا نفقة لها؛ لأن النفقة تجب
بالتمكين من الاستمتاع، ولا يتصور الوجوب مع تعذر الاستمتاع، فلم تجب
نفقتها. ويوافق المالكية رأي الجمهور في هذا الشرط.
3ً - أن يكون الزواج
صحيحاً: فإن كان الزواج فاسداً، فلا نفقة على الزوج؛ لأن العقد الفاسد يجب
فسخه، ولا يمكن اعتبار الزوجة محبوسة لحق الزوج، ولأن التمكين لا يصح مع
فساد النكاح، ولا يستحق ما في مقابلته، وهذا متفق عليه.
4ً - ألا يفوت حق الزوج في
احتباس الزوجة بدون مسوغ شرعي، أو بسبب ليس من جهته: فإن فات حقه بغير مسوغ
شرعي كالنشوز، أو بسبب من جهته، فإن الزوجة تستحق النفقة. وهذا متفق عليه
أيضاً، إلا أن المالكية يقولون بوجوب النفقة إذا كان فوات الاحتباس بأمر لا
دخل لها فيه.
وقد بان سابقاً أن نفقة الزوجة واجبة ولو مع اختلاف الدين.
حكم القانون: أخذ القانون السوري بهذه
الأحكام، فنص على ما يلي:
(م 72 ـ 1) ـ تجب النفقة للزوجة على الزوج ولو مع اختلاف الدين من حين
العقد الصحيح، ولو كانت مقيمة في بيت أهلها إلا إذا طالبها الزوج بالنقلة
وامتنعت بغير حق.
(10/7375)
2 - يعتبر امتناعها بحق ما دام الزوج لم
يدفع معجل المهر أو لم يهيء المسكن الشرعي.
(م 73) - يسقط حق الزوجة في النفقة إذا عملت خارج البيت دون إذن زوجها.
(م 74) - إذا نشزت المرأة، فلا نفقة لها مدة النشوز.
(م 75) - الناشز: هي التي تترك دار الزوجية بلا مسوغ شرعي، أو تمنع زوجها
من الدخول إلى بيتها قبل طلبها النقل إلى بيت آخر.
شروط وجوب النفقة عند المالكية:
اشترط المالكية (1) لوجوب النفقة شروطاً قبل
الدخول، وشروطاً بعد الدخول.
أما شروط وجوب النفقة الزوجية قبل الدخول، فهي أربعة:
1ً - التمكين من الدخول:
بأن تدعو المرأة زوجها بعد العقد إلى الدخول بها، أو يدعوه وليها المجبر أو
وكيلها، فإن لم تحصل هذه الدعوة، أو امتنعت من الدخول لغير عذر، فلا نفقة
لها.
2ً - أن تكون الزوجة مطيقة
الوطء: فإن كانت الزوجة صغيرة لا تصلح للدخول بها فلا نفقة لها، فإن دخل
بها وكان بالغاً، لزمته النفقة. وإن كان بها مانع كرتق فلا نفقة لها إلا أن
يتلذذ بها عالماً العيب.
_________
(1) الشرح الصغير: 729/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 221 وما بعدها،
الشرح الكبير والدسوقي: 508/ 2 وما بعدها.
(10/7376)
3ً - أن يكون الزوج
بالغاً: فلو كان الزوج صغيراً ولم يدخل، فلا نفقه لها، وإن دخل فلها
النفقة. وأوجب الجمهور النفقة على الصبي لامرأته الكبيرة؛ لأنها سلمت نفسها
تسليماً صحيحاً، كما لو كان الزوج كبيراً.
4ً - ألا يكون أحد الزوجين
مشرفاً على الموت عند الدعوة إلى الدخول: فإن كان في حالة النزع، فلا نفقة
للزوجة، لعدم القدرة على الاستمتاع بها. فإن دخل ولو حال الإشراف على
الهلاك فعليه النفقة.
وأما شروط وجوب النفقة بعد الدخول، فهي اثنان:
1ً - أن يكون الزوج موسراً:
وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه، فلو كان معسراً لا نفقة عليه مدة
إعساره، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق:7/ 65]
فالمعسر لا يكلف إذن بالإنفاق.
2ً - ألا تفوِّت الزوجة على
زوجها حق الاحتباس بدون مسوغ شرعي: فلو فوتت ذلك بالنشوز، أي الخروج عن
طاعة الزوج، فلا نفقة لها.
والخلاصة: أن المدخول بها تجب لها النفقة مطلقاً، وإن لم تكن الزوجة مطيقة
الوطء، ولا الزوج بالغاً. وأما قبل الدخول فلا نفقة لغير ممكِّنة من نفسها،
أو لم يحصل منها أو من وليها دعوة للدخول، أو حصل قبل مضي زمن يتجهز فيه كل
منهما للدخول، ولا لغير مطيقة الوطء، ولا مطيقة بها ما نع كرتق إلا أن
يتلذذ بها بغير الوطء حالة كونه عالماً بالمانع منه.
(10/7377)
مايترتب على شروط
وجوب النفقة من مسائل
المسألة الأولى ـ الزوجة الناشزة (1):
عرفنا سابقاً أن النشوز يسقط النفقة؛ لأن احتباس الزوجة في بيت الزوجية
واجب، فإذا خرجت الزوجة من بيت زوجها بغير مسوغ شرعي، سقطت نفقتها. والمسوغ
الشرعي مثل عدم دفع المهر المعجل لها أوعدم تهيئة المسكن الشرعي الصالح
عادة للسكنى.
وتكون ناشزة أيضاً إذا منعت زوجها من الدخول إلى بيتها، ولم تكن قد طلبت
نقلها إلى بيت آخر. وقد أخذ القانون السوري بهذه الأحكام كما تقدم.
المسألة الثانية ـ الزوجة العاملة أو الموظفة:
إذا عملت الزوجة نهاراً أو ليلاً خارج المنزل كالطبيبة والمعلمة والمحامية
والممرضة والصانعة، فالمقرر في القانونين المصري والسوري أنه إذا رضي الزوج
بخروجها ولم يمنعها من العمل، وجبت لها النفقة؛ لأن احتباس الزوجة حق
للزوج، فله أن يتنازل عنه.
وإن لم يرض بعملها، ونهاها عن العمل، فخرجت من أجله، سقط حقها في النفقة؛
لأن الاحتباس في هذه الحالة ناقص غير كامل، فلو سلمت المرأة نفسها بالليل
دون النهار أو عكسه؛ فلا نفقة لنقص التسليم (2).
_________
(1) الناشزة في اللغة: هي العاصية على الزوج المبغضة له، وفي الشرع: هي
الخارجة من بيت الزوج بغير حق.
(2) الدر المختار: 891/ 2.
(10/7378)
نصت المادة (73) من القانون السوري على
ذلك: يسقط حق الزوجة في النفقة إذا عملت خارج البيت دون إذن زوجها.
فإن رضي الزوج بعمل الزوجة أولاً ثم منعها من الخروج، سقط حقها في النفقة
أيضاً؛ لأن خروجها نشوز مسقط للنفقة. لكن جرى العمل في القضاء المصري على
استحقاقها النفقة؛ لأن إقدام الزوج على الزواج بها وهو يعلم أن لهاعملاً
خارجياً، ولم يشترط عليها ترك العمل، يعد رضا منه بسقوط حقه في الاحتباس
الكامل.
أما لو اشترطت الزوجة حين العقد البقاء في عملها، فهذا الشرط فاسد ملغي عند
الحنفية، والعقد صحيح، وللزوج أن يمنعها من العمل، فإن استمرت فيه، سقط
حقها في النفقة.
وصحح المالكية هذا الشرط ولكنه مكروه لا يلزم الوفاء به، ولكن يستحب، فله
أن يمنع الزوجة من العمل، فإن رفضت الاستجابة لمطلبه كانت ناشزة، يسقط حقها
في النفقة.
وصحح الحنابلة أيضاً هذا الشرط وأوجبوا الوفاء به، فلا يكون للزوج أن يمنع
المرأة من العمل، ولو منعها لا تكون ناشزة.
وقواعد الشافعية تأبى مثل هذا الشرط؛ لأن المذهب الجديد أن النفقة الزوجية
تجب بالتمكين التام، لا العقد، وأن الخروج من بيت الزوج بلا إذن منه، نشوز
منها، سواء أكان الخروج لعبادة كحج أم لا، ويسقط النشوز نفقتها لمخالفتها
الواجب عليها، وأنها لو مكنت من الوطء ومنعت بقية الاستمتاعات، كان ذلك
نشوزاً.
(10/7379)
هذا .. وللزوجة أن تعمل في البيت عملاً لا
يضعفها ولا ينقص جمالها، وللزوج أن يمنعها مما يضرها، ولكن لا تسقط نفقتها
إذا خالفته، بل له أن يؤدبها، لعصيانها أمره.
المسألة الثالثة ـ الزوجة المريضة:
تجب النفقة اتفاقاً (1) للزوجة المريضة، سواء مرضت عنده بعد الزفاف، أم
كانت مريضة حين الزفاف، لتحقق شرط النفقة وهو التسليم أو التمكين التام،
ولأن الاستمتاع بها ممكن وإنما نقص بالمرض، ولأن المرض أمر طارئ لا دخل
للزوجة فيه، فهو كالحيض والنفاس، وليس من حسن العشرة أن يكون هذا الأمر
الطارئ مسقطاً للنفقة.
ولا تسقط نفقتها حتى وإن كانت تمرَّض في بيت أهلها، إلا إذا طلب الزوج منها
أن تعود إلى بيته، وكانت تستطيع العودة ولو محمولة، فامتنعت؛ لأنها
بامتناعها تصبح ناشزة، أي خارجة عن طاعة الزوج بغير حق.
نفقات العلاج: قرر فقهاء المذاهب
الأربعة (2) أن الزوج لا يجب عليه أجور التداوي للمرأة المريضة من أجرة
طبيب وحاجم وفاصد وثمن دواء، وإنما تكون النفقة في مالها إن كان لها مال،
وإن لم يكن لها مال، وجبت النفقة على من تلزمه نفقتها؛ لأن التداوي لحفظ
أصل الجسم، فلا يجب على مستحق المنفعة، كعمارة الدار المستأجرة، تجب على
المالك لا على المستأجر، وكما لا تجب الفاكهة لغير أدم.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 889/ 2، المغني: 601/ 7، تكملة المجموع: 81/
17.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 889/ 2، الشرح الكبير والدسوقي: 511/ 2،
مغني المحتاج: 431/ 3، كشاف القناع: 536/ 5، الشرح الصغير: 732/ 2.
(10/7380)
ويظهر لدي أن المداواة لم تكن في الماضي
حاجة أساسية، فلا يحتاج الإنسان غالباً إلى العلاج؛ لأنه يلتزم قواعد الصحة
والوقاية، فاجتهاد الفقهاء مبني على عرف قائم في عصرهم. أما الآن فقد أصبحت
الحاجة إلى العلاج كالحاجة إلى الطعام والغذاء، بل أهم؛ لأن المريض يفضل
غالباً ما يتداوى به على كل شيء، وهل يمكنه تناول الطعام وهو يشكو ويتوجع
من الآلام والأوجاع التي تبرح به وتجهده وتهدده بالموت؟! لذا فإني أرى وجوب
نفقة الدواء على الزوج كغيرها من النفقات الضرورية، ومثل وجوب نفقة الدواء
اللازم للولد على الوالد بالإجماع، وهل من حسن العشرة أن يستمتع الزوج
بزوجته حال الصحة، ثم يردها إلى أهلها لمعالجتها حال المرض؟!.وأخذ القانون
المصري (م100) لسنة 1985م برأي في الفقه المالكي أن النفقة الواجبة للزوجة
تشمل الغذاء والكسوة والمسكن ومصاريف العلاج وغير ذلك بمايقضي به الشرع
وأخذت المحاكم بهذا.
المسألة الرابعة ـ الامتناع من الدخول أو
الانتقال لبيت الزوج لعذر:
إذا امتنعت الزوجة من الدخول بها، أو الانتقال إلى دار الزوج لعذر فلها
النفقة (1)،كأن تمتنع حتى تقبض معجل مهرها، أو لعدم صلاحية المسكن للسكنى
بسبب خلل فيه أو لنقص المرافق الضرورية له، أو للتأذي فيه من جار أو شيء
مخيف، أو وجود أهل لا تحب مساكنتهم أو ضَرة تخشى شرها، أو لأن الزوج غير
أمين عليها.
أما إن امتنعت الزوجة من الانتقال إلى بيت الزوج بغير عذر، أو منعت
_________
(1) الدر المختار: 888/ 2.
(10/7381)
الزوج من الدخول في بيتها الذي يقيمان فيه
من غير طلب سابق بالانتقال إلى منزل آخر، فلا نفقة لها؛ لأنها تعد
بامتناعها ناشزة، أي خارجة عن طاعة الزوج بغير حق، والناشزة لا تستحق
النفقة مدة نشوزها، فإن عادت وجبت نفقتها من حين العودة.
المسألة الخامسة ـ حبس الزوجة:
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنه إذا حبست الزوجة، سقطت نفقتها؛ لأن
فوات حق الاحتباس للزوج كان بسبب منها. أما إن حبست ظلماً أو خطفت بواسطة
رجل، فتسقط نفقتها أيضاً عند الحنفية والحنابلة، لفوات حق الاحتباس بسبب لا
دخل للزوج فيه. وقال المالكية (1): لا تسقط نفقتها بالحبس ظلماً وبخطفها من
رجل؛ لأن فوات حق الاحتباس ليس من جهتها، ولا دخل لها فيه.
المسألة السادسة ـ سفر الزوجة:
اتفق الفقهاء (2) على أنه إذا سافرت الزوجةمع غير زوجها لحج أو غيره قبل
الدخول، فلا نفقة لها، لفوات الاحتباس في بيت الزوج. وكذا إن سافرت وحدها
بدون محرم بعد الدخول، لا نفقة لها، لفوات الاحتباس بسبب من جهتها،
ولعصيانها بهذا السفر بدون محرم.
أما إن سافرت مع مَحْرم لأداء فريضة الحج، فلا يسقط حقها في النفقة ولو
بغير إذنه عند المالكية والحنابلة وأبي يوسف؛ لأنه سفر لأداء فريضة دينية،
فيكون
_________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 517/ 2.
(2) الدر المختار: 892/ 2، مغني المحتاج: 437/ 3 - 439، كشاف القناع: 550/
5، الشرح الكبير مع الدسوقي: 517/ 2.
(10/7382)
فوات الاحتباس بمسوغ شرعي، لكن النفقة
الواجبة عند أبي يوسف والحنابلة هي نفقة الإقامة لا السفر، وعند المالكية:
يجب لها الأقل من نفقتي الإقامة والسفر.
وتسقط نفقتها ولو بإذن الزوج عند جمهور الحنفية، والشافعية في الأظهر،
لمخالفتها الواجب عليها وانتفاء التمكين، وفوات الاحتباس من جهتها، سواء
سافرت لحج الفريضة أم لعمل آخر، كطلب العلم أم لحاجتها.
وإن سافرت لحج النفل سقطت نفقتها عند الحنفية والشافعية والحنابلة. وقال
المالكية: إن سافرت بإذن الزوج، فلا يسقط حقها في النفقة؛ لأنها لا تعد
ناشزة، وإن سافرت بدون إذنه، سقط حقها في النفقة؛ لأنها تعد ناشزة.
المسألة السابعة ـ انتقال الزوج إلى بلد آخر:
قال الحنفية (1): للزوج السفر بزوجته إلى بلد آخر لغرض صحيح، كالتوظف في
بلد غير بلده أو استثمار ماله، إذا أوفاها مهرها كله معجله ومؤجله، وكان
مأموناً عليها، ولم يقصد الإضرار بها، فإن امتنعت من السفر معه حينئذ، سقط
حقها في النفقة واعتبرت ناشزة. فإن لم يؤدها مهرها، أو لم يكن مأموناً
عليها أو قصد إضرارها، فلها الحق في الامتناع من السفر معه، ولا تعد ناشزة،
لقوله تعالى: {ولا تضارّوهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق:6/ 65] وقوله عليه
الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار».
وقال المالكية (2): للزوج الانتقال بزوجته إذا أوفاها عاجل مهرها، وإن لم
يكن دخل بها بالشروط التالية:
_________
(1) الدر المختار: 495/ 2.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 761/ 2 وما بعدها.
(10/7383)
1ً - أن يكون الزوج
مأموناً.
2ً - وأن يكون الطريق إلى
البلد مأموناً.
3ً - وأن يكون البلد قريباً
بحيث لا ينقطع خبر أهلها عنها ولا خبرها عن أهلها.
المسألة الثامنة ـ حبس الزوج أو مرضه:
تستحق الزوجة النفقة بالاتفاق إذا حبس زوجها بجريمة اقترفها أو بدين
لزوجته، أو ظلماً، أو مرض مرضاً مانعاً من الجماع، أو كان به عيب يحول دون
الاستمتاع كالجب (قطع العضو) والعُنَّة (العجز الجنسي) والخصاء (نزع
الخصيتين)؛ لأن فوات الاحتباس بسبب من جهته لا من جهة الزوجة.
وكذلك تستحق النفقة عند المالكية (1) إذا علم الزوج في زوجته بعيب يمنع
الوطء كالرتَق (التحام محل الوطء) والقرَن (غدة تمنع الجماع)، واستمتع بها
بغير الوطء.
المطلب الثالث ـ كيفية تقدير النفقة بأنواعها
والحكم القضائي بها:
تشمل النفقة الزوجية ما يأتي:
1ً - الطعام والشراب
والإدام.
2ً - الكسوة.
3ً - المسكن.
_________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 508/ 2.
(10/7384)
4ً - الخدمة إن
لزمتها أو كانت ممن تخدم.
5ً - آلة التنظيف ومتاع
البيت.
وقد نصت المادة (71) من القانون السوري على أنواع النفقة وتقديرها آخذة
بوجوب نفقات التطبيب والعلاج:
1 - النفقة الزوجية تشمل الطعام والكسوة والسكنى والتطبيب بالقدر المعروف،
وخدمة الزوجة التي يكون لأمثالها خادم.
2 - يلزم الزوج بدفع النفقة إلى زوجته إذا امتنع عن الإنفاق عليها أو ثبت
تقصيره.
الواجب الأول ـ الطعام وتوابعه:
قرر الفقهاء (1) أنه يجب للزوجة الطعام والشراب والإدام، وما يتبعها من ماء
وخل وزيت ودهن للأكل وحطب ووقود ونحوها، ولا تجب الفاكهة.
ما تقدر به نفقة الطعام: قال الجمهور
غير الشافعية: تقدر بالكفاية، أي بما يكفي الزوجة من الطعام كنفقة الأقارب،
لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
فأمرها بأخذ ما يكفيها من غير تقدير، وإنما باجتهادها في التقدير، ولأن
الله تعالى قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «ولهن عليكم رزقهن
_________
(1) البدائع: 23/ 4 - 25، فتح القدير: 322/ 3 وما بعدها، الدر المختار:
886/ 2، 894 - 899، 905، القوانين الفقهية: ص 221 وما بعدها، الشرح الصغير:
731/ 2 وما بعدها، 739، بداية المجتهد: 54/ 2، مغني المحتاج: 426/ 3 - 429،
المهذب: 161/ 2 - 162، المغني: 564/ 7 - 567، 571، كشاف القناع: 533/ 5
ومابعدها.
(10/7385)
وكسوتهن بالمعروف» وإيجاب أقل من الكفاية
من الرزق ترك للمعروف، وكل هذه الأدلة صريحة في إيجاب قدر الكفاية. ولا يصح
تقدير النفقة بالكفارة؛ لأن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار، وإنما
اعتبر الشرع الكفارة بالنفقة في الجنس دون القدر، بدليل عدم وجوب الأدم
فيها.
وإذا قام الزوج بتولي الإنفاق على الزوجة، فليس لها أن تطلب منه تقديراً
معيناً لتنفق هي بنفسها، فإن ثبت تقصيره، رفع الأمر إلى القاضي ليفرض عليه
النفقة، ويرجع في تقدير الواجب إليه إن لم يتراض الزوجان على شيء.
ولا يشترط فيها الحَب، وإنما يصح أن تكون أصنافاً من الطعام بحسب العرب
كالخبز والإدام.
ويجب في النفقة تسليم الطعام، وتضمن النفقة المقدرة باليوم أو الشهر أو
غيرهما بالقبض من الزوجة، وأجاز الحنفية والمالكية دفع الثمن أو النقود
عنه، لتنفق على نفسها، وهو ما يجري عليه القضاء الآن، لأنه أضبط وأيسر.
وقال الحنابلة: لا يملك الحاكم فرض غير واجب القوت الغالب في البلد كدراهم
مثلاً إلا باتفاق الزوجين.
وتقدر نفقة الطعام بحسب الأعراف والعادات في كل بلد، أو بحسب اختلاف
الأمكنة والأزمنة والأحوال، من رخص وغلاء، وشباب وهرم، وشتاء وصيف.
وإذا قدر القاضي النفقة، ثم تغير حال الزوج يساراً أو إعساراً، زاد القاضي
نفقة اليسار في المستقبل، أو نقصها.
وقال الشافعية: تقدر نفقة الطعام من الحب بمقادير معينة بحسب حال الزوج
(10/7386)
يساراً أو إعساراً؛ لأن أقل ما يدفع في
الكفارة إلى الشخص الواحد مدّ (1) من الحبوب، والله سبحانه اعتبر الكفارة
بالنفقة على الأهل، فقال تعالى: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة:89/
5] فاعتبروا النفقة بالكفارة بجامع أن كلاً منهما مال يجب بالشرع، ويستقر
في الذمة.
فعلى الزوج الموسر لزوجته كل يوم مدان من الطعام، وعلى المعسر مُدّ، وعلى
المتوسط مدّ ونصف، واحتجوا لهذا التفاوت بقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من
سعته} [الطلاق:7/ 65] وأكثر ما وجب في الكفارة لكل مسكين مدان، وهو في
كفارة الأذى من إزالة شعر أوظفر في الحج، وأقل ما وجب له مُدّ في نحو كفارة
الظهار، فأوجبوا على الموسر الأكثر وهو مدّان؛ لأنه قدر الموسع، وعلى
المعسر الأقل وهو مد؛ لأن المد الواحد يكتفي به الزهيد، ويتقنع به الرغيب،
وعلى المتوسط ما بينهما دفعاً للضرر عنه.
والراجح لدي هو رأي الجمهور، بدليل ما قال الأذرعي الشافعي: لا أعرف
لإمامنا رضي الله عنه سلفاً في التقدير بالأمداد، ولولا الأدب لقلت: الصواب
أنها بالمعروف تأسياً واتباعاً.
وأما الأدم عند الشافعية فيجب أدم غالب كزيت وسمن وجبن وتمر وخل، وفاكهة
لمن اعتادتها، ولحم بحسب يسار الزوج وإعساره كعادة البلد وتقدير القاضي.
حال من تقدر به نفقة الطعام: للفقهاء
رأيان في كيفية تقدير نفقة الطعام.
_________
(1) الأصح أن المد بتقدير الشافعية (171 و 7/ 3 درهم) مئة وواحد وسبعون
درهماً وثلاثة أسباع الدرهم، والمد يساوي 675 غراماً، والدرهم العربي
(975.2) غم.
(10/7387)
أـ ذهب المالكية والحنابلة: إلى أنه تقدر
بحسب حال الزوجين يساراً وإعساراً، ومراعاة منصب المرأة وحال البلاد، لقوله
تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدِر عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله}
[الطلاق:7/ 65] وللحديث السابق: «خذي ما يكفيك» وذلك عند الحنابلة وقت عقد
الزواج، واعتبار حال الزوجين للجمع بين الأدلة، ورعاية لكل من الجانبين،
وهو الأولى؛ لأن الآية راعت حال الزوج، والحديث راعى كفاية الزوجة
بالمعروف. فإن كانا موسرين فالواجب نفقة اليسار، وإن كانا معسرين فالواجب
نفقة الإعسار، وإن تفاوت حالهما فالواجب نفقة الوسط بين الموسرين
والمعسرين.
قال المالكية: والوسط من النفقة بالأندلس: رطل ونصف في اليوم من قمح أو
شعير أو ذرة أو قطنية على حسب الحال.
ب ـ وذهب الحنفية والشافعية: إلى أنه تقدر نفقة الطعام والكسوة بحسب حال
الزوج يساراً وإعساراً، للآية السابقة: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدِرَ
عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها}
[الطلاق:7/ 65] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن
مما تكتسون، ولا تضربوهن ولا تقبِّحوهن» (1)، ولأن النفقة واجبة على الزوج،
وقد رضيت الزوجة بحاله، ويقصد من كلمة «المعروف» في حديث هند تحديد الواجب
على الزوج.
وهذا القول هو الراجح لدي، عملاً بما نصت عليه الآية صراحة، وهو ما أخذت به
القوانين في سورية ومصر، وفيه مرونة وعدالة؛ لأن القاضي له تعديل النفقة
إذا تغيرت أحوال الزوج من الإعسار إلى اليسار وبالعكس.
_________
(1) رواه أبو داود عن معاوية القشيري (نيل الأوطار: 322/ 6).
(10/7388)
المدة التي تقدر بها
نفقة الطعام: تقدر نفقة الطعام في رأي الحنفية
والمالكية (1) بحسب ما يناسب الزوج من الأصلح والأيسرفي الدفع يومياً أو
أسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً، فالعامل المحترف تقدر نفقته باليومية أو
بالأسبوع، والموظف بالشهر، والأغنياء أصحاب الثروة بالسنة، وتدفع النفقة
مساء كل يوم لليوم التالي، أو في نهاية الأسبوع كالصناع الذين لا يقبضون
أجرهم إلا في آخر الأسبوع، أو في بدء الشهر أو آخره بحسب قبض الرواتب
الوظيفية، أو سنة بسنة للأثرياء.
وقال الشافعية والحنابلة: تدفع النفقة بطلوع شمس كل يوم؛ لأنه أول وقت
الحاجة، فإن اتفق الزوجان على التعجيل أو التأجيل جاز.
الواجب الثاني ـ الكسوة:
أجمع العلماء (2) على أنه تجب على الزوج لزوجته كسوتها؛ لأنها لا بد منها
على الدوام، ولقوله عز وجل: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}
[البقرة:233/ 2] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ولهن عليكم رزقهن
وكسوتهن بالمعروف» وقوله عليه الصلاة والسلام لهند: «خذي ما يكفيك وولدك
بالمعروف» والكسوة بالمعروف: هي الكسوة التي جرت عادة أمثالها بلبسه.
وهي مقدرة بالاتفاق حتى عند الشافعية بكفاية الزوجة؛ للإجماع على أنه لا
يكفي ما ينطلق عليه الاسم، وليست مقدرة بالشرع، وتقدر باجتهاد الحاكم،
_________
(1) الدر المختار وابن عابدين: 894/ 2، الشرح الصغير: 738/ 2.
(2) البدائع: 23/ 4 وما بعدها، الدر المختار: 893/ 2 وما بعدها، القوانين
الفقهية: ص 222، مغني المحتاج: 429/ 3، 433 وما بعدها، المغني: 568/ 7،
الشرح الصغير: 738/ 2، المهذب: 162/ 2، كشاف القناع: 534/ 5، المغني: 572/
7.
(10/7389)
فيفرض لها على قدر كفايتها، على قدر يسرهما
وعسرهما، وما جرت عادة أمثالهما به من الكسوة، فللموسرة ثياب رفيعة من حرير
وكتان جيد، وللمعسرة ثياب غليظة من قطن وكتان، وللمتوسطة ما بينهما.
وأقل ما يجب من الكسوة قميص (ثوب مخيط يستر جميع البدن) وسراويل (وهو ثوب
مخيط يستر أسفل البدن ويصون العورة) وخمار أو مقنعة (وهو ما يغطى به الرأس)
ومداس أو مِكْعَب (وهو مداس الرجل من نعل أو غيره).
ويجب لها الكسوة في كل سنة مرتين: صيفية وشتوية، لتجدد الحاجة في الحر
والبرد، وتكون كسوة الشتاء والصيف بما يناسبها بالاتفاق من غِطاء ووطاء في
الشتاء بما يناسب، والصيف بما يناسبه بحسب العرف والعادة.
وتدفع الكسوة عند المالكية والحنابلة أول كل عام، وتملك بالقبض، فلا بدل
لما سرق أو بلي.
وقال الشافعية والحنفية: تدفع الكسوة في كل ستة أشهر؛ لأن العرف في الكسوة
أن تبدَّل في هذه المدة. فإن بليت الكسوة قبل هذه المدة، لم يجب عليه
بدلها، كما لا يجب عليه بدل الطعام إذا نفد قبل انقضاء اليوم.
الواجب الثالث ـ المسكن:
يجب للزوجة أيضاً مسكن لائق بها (1) إما بملك أو كراء أوإعارة أووقف، لقوله
تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/ 65] أي
_________
(1) فتح القدير: 334/ 3 وما بعدها، الدر المختار: 912/ 2، 914، الشرح
الصغير: 737/ 2، القوانين الفقهية: ص 222، مغني المحتاج: 430/ 3، 432،
المهذب: 162/ 2، المغني: 569/ 7.
(10/7390)
بحسب سعتكم وقدرتكم المالية، وقوله سبحانه:
{وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/ 4] ومن المعروف أن يسكنها في مسكن، ولأنها
لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون وحفظ المتاع. وذكر الشافعية أن
الواجب في المسكن هو الإمتاع أي الانتفاع لا التمليك، أما المستهلك كطعام
فيجب فيه التمليك.
ويكون المسكن كالطعام والكسوة على قدر يسار الزوجين وإعسارهما، لقوله
تعالى: {من وجدكم} [الطلاق:6/ 65]، وبناء عليه يجب أن تتوافر في المسكن
الأوصاف الآتية:
1ً - أن يكون ملائماً حالة
الزوج المالية، للآية السابقة: {من وُجْدكم} [الطلاق:6/ 65].
2ً - أن يكون مستقلاً بها
ليس فيه أحد من أهله إلا أن تختار ذلك، وهذا عند الحنفية؛ لأن السكنى من
كفايتها، فتجب لها كالنفقة، وقد أوجبه الله تعالى مقروناً بالنفقة، وإذا
وجب حقاً لها ليس له أن يشرك غيرها فيه؛ لأنها تتضرر به؛ لأن السكن المشترك
يمنعها معاشرة زوجها والاستمتاع بها، ولأنها لا تأمن على متاعها. والحد
الأدنى للمسكن عند المالكية وغيرهم حجرة واحدة مستقلة بمرافقها، بشرط قرره
المالكية وبعض الحنفية: وهو ألا يكون في حجرة أخرى في نفس الشقة (الطابق)
زوجة ثانية؛ لأن سكنى المرأة مع ضرتها يؤدي إلى الإضرار بها.
فإن كان للرجل أقارب فله عند الحنفية أن يسكن زوجته معهم إلا إذا ثبت أن
الأقارب يؤذونها بقول أو فعل.
وفرق المالكية بين الزوجة الشريفة والوضيعة، فإذا كانت الزوجة شريفة (وهي
ذات القدر) فلها الامتناع من السكنى مع أقاربه، ولو الأبوين في دار
(10/7391)
واحدة، لما فيه من الضرر عليها باطلاعهم
على حالها وشؤونها الخاصة، إلا إذا شرط الزوج عليها عند العقد أن تسكن
معهم، فليس لها الامتناع من السكنى معهم إلا إذا حصل منهم الضرر من سكناها
معهم أو الاطلاع على شؤونها وعوراتها.
وأما إن كانت الزوجة وضيعة (وهي التي لا قدر لها)، فللزوج أن يسكنها مع
أقاربه في دار واحدة، إلا إذا اشترطت حين العقد ألا يسكن معها أحد من أقارب
الزوج، أو حصل لها ضرر منهم.
وليس للزوجة عند الحنفية أن يسكن معها أحد من غير الزوج، ولو كان صغيراً
غير مميز إلا إذا رضي الزوج بالسكنى. وأجاز المالكية أن يسكن معها ولد صغير
من غير الزوج إذا لم يكن له حاضنة غيرها، وكان الزوج يعلم به عند الزواج،
أو لم يعلم به ولم يكن له حاضنة غيرها. وإذا كان المسكن في مكان منقطع موحش
أو كانت الدار كبيرة خالية من السكان ومرتفعة الجدران، فيلزم الزوج مؤنسة
تؤنس الزوجة على ما اختاره الحنفية والحنابلة.
3ً - أن يكون المسكن مؤثثاً
مفروشاً في رأي الجمهور غير المالكية: بأن يشتمل على مفروشات النوم من فراش
ولحاف ووسادة، وأدوات المطبخ من آلات الأكل والشرب والطبخ من قِدْر (آلة
الطبخ) وقَصْعة (آلة أكل) وكوز (إبريق) وجَرَّة (آلة شرب) ونحوها بحسب
العادة مما لا غنى لها عنه كمغرفة، وما تغسل فيه ثيابها وأدوات الإضاءة؛
لأن المعيشة لا تتم بدون المذكور، فكان من المعاشرة بالمعروف.
وقال المالكية الذين يوجبون على الزوجة الجهاز المتعارف في حدود المهر
المقبوض قبل الدخول: لا يكلف الزوج بتأثيث المنزل، بل المكلف هو الزوجة.
واتفق الفقهاء على اشتراط كون المسكن مشتملاً على المرافق الضرورية
(10/7392)
اللازمة للسكنى من دورة مياه ومطبخ ومنشر،
وأن تكون تلك المرافق خاصة بالسكن إلا إذا كان الزوج فقيراً ممن يسكن في
غرفة في دار كبيرة متعددة الغرف والسكان، بشرط كون الجيران صالحين.
الواجب الرابع ـ نفقة الخادم إن كانت ممن تخدم:
اتفق الفقهاء (1) على أنه يلزم للزوجة نفقة الخادم إذا كان الزوج موسراً،
وكانت المرأة ممن تُخدم في بيت أبيها مثلاً، ولا تخدم نفسها لكونها من ذوي
الأقدار أو مريضة؛ لأنه من المعاشرة بالمعروف، ولأن كفايتها واجبة عليه،
وقال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/ 4]. والأولى للموسر إخدام
زوجته التي تخدم نفسها لأنه معاشرة بالمعروف.
ولا يجب لها في رأي الجمهور (أبي حنيفة ومحمد والشافعي وأحمد) أكثر من خادم
واحد؛ لأن الخادم الواحد يكفيها لنفسها، فتتحقق الكفاية بواحد، ولا ضرورة
إلى اثنين، والزيادة من باب الترف الذي لا يلزم الزوج به.
وقال أبو يوسف وأبو ثور: تفرض النفقة لخادمين؛ لأنها تحتاج إلى أحدهما
لمصالح الداخل، والآخر لمصالح الخارج.
وكذلك قال المالكية في المشهور: يلزم الزوج أكثر من خادم إذا كانت الزوجة
أهلاً لذلك، وقضي لها عند التنازع مع الزوج بخادمها؛ لأنه أطيب لنفسها، إلا
لريبة في خادمها تضر بالزوج في الدين أو الدنيا.
_________
(1) البدائع: 24/ 4، فتح القدير: 327/ 3 - 329، الدر المختار: 901/ 2،
بداية المجتهد: 54/ 2، الشرح الصغير: 734/ 2، مغني المحتاج: 432/ 3 وما
بعدها، المهذب: 162/ 2، المغني: 569/ 7 وما بعدها، غاية المنتهى: 234/ 3،
كشاف القناع: 537/ 5 ومابعدها.
(10/7393)
والخادم: هو من يحل له النظر إلى المرأة،
بأن يكون امرأة أو ذا رحم محرم؛ لأن الخادم
يلزم المخدوم في أغلب أحواله، فلا يسلم من النظر. ويجوز في الصحيح عند
الحنابلة: أن يكون الخادم من أهل الكتاب؛ لأن استخدامهم مباح، ولأن الصحيح
عندهم إباحة النظر لهم.
ونفقة الخادم ومؤنته من الكسوة والطعام، مثل نفقة امرأة المعسر في رأي
الحنابلة، إلا أنه لا يجب لها المشط والدهن لرأسها والسدر؛ لأن ما ذكر يراد
للزينة والتنظيف؛ ولايراد من الخادم.
ومذهب الشافعية: تلزم نفقة الخادمة كالزوجة، وجنس طعامها جنس طعام الزوجة:
وهو مُدّ على معسر وكذا متوسط على الصحيح، ومد وثلث على موسر، ولها كسوة
تليق بحالها، ولها أدم على الصحيح، لكن ليس لها آلة تنظيف، إلا إن كثر وسخ
وتأذت بقمَّل، فيجب لها ما يزيله.
أما إن كان الزوج معسراً فلا يجب عليه إحضار خادم لزوجته ولا نفقته؛ لأن
الخادم ليس ضرورياً، وعلى الزوجة أن تخدم نفسها مااستطاعت.
الواجب الخامس ـ آلة التنظيف ومتاع البيت:
اتفق الفقهاء (1) على وجوب أجرة القابلة وآلات التنظيف، واختلفوا في أدوات
التجميل ومتاع البيت. فقال الحنفية: يجب على الزوج آلة طحن وخبز وآنية شراب
وطبخ ككوز وجرة وقِدْر ومغرفة، وكذا سائر أدوات البيت كحصر
_________
(1) الدر المختار: 893/ 2، الشرح الصغير: 733/ 2 وما بعدها، 738، القوانين
الفقهية: ص 222، المهذب: 161/ 2، مغني المحتاج: 427/ 3، 430 - 432، المغني:
567/ 7 وما بعدها، كشاف القناع: 534/ 5 - 546، غاية المنتهى: 233/ 3.
(10/7394)
ولِبْد وطنفسة (بساط صوف) وما تنتظف به
وتزيل الوسخ كمشط وأشنان وصابون وسِدْر ودهن وخِطْمي على عادة أهل البلد،
ويجب عليه مداس رجلها وما تغسل به ثيابها وبدنها، وينقل لها ماء الغسل من
الجنابة، ويجب لها ماء الوضوء. وأما أجرة القابلة فعلى من استأجرها من زوجة
وزوج، فإن جاءت القابلة بلا استئجار، قيل: تجب عليه، لأنه مؤنة الجماع،
وقيل: تجب عليها كأجرة الطبيب. وأما الطيب فيجب عليه ما يوضع بعد الحيض
والرائحة الكريهة، أما الخضاب والكحل فلا يلزمه، بل هو على اختياره، ولا
تجب لها الفاكهة والقهوة والدخان.
وقال المالكية: تجب على الزوج آلة التنظيف على حسب الحال والمنصب وعوائد
البلاد، فيفرض لها ماء الشرب والغسل وغسل الثوب والإناء واليد والوضوء،
وزيت الأكل والادِّهان، والوقود من حطب أو غيره على حسب العادة، وما يصلح
الطعام من ملح وبصل وغيرهما، واللحم في كل أسبوع مرة من غير الفقير، لا كل
يوم، أما الفقير فعلى حسب قدرته.
وتجب عليه أجرة القابلة؛ لأنها من متعلَّقات الولد، والغطاء والوطاء في
الشتاء والصيف بما يناسبهما بحسب العرف والعادة، وحصير الفرش، وليس لها بيع
جهازها إلا بعد مضي أربع سنين، ولا يلزم الزوج ببدل الجهاز إذا بلي إلا
الغطاء والفراش، فإنه يلزم به؛ لأنه ضروري.
وتجب عليه أيضاً أدوات الزينة التي تتضرر المرأة بتركها ككحل ودُهْن من زيت
أوغيره كحناء إذا كانا معتادين، لا غير معتادين، ولا يجب عليه مالا تتضرر
المرأة بتركه، كما لا يجب لها المُشْط والمُكْحلة وباقي أثاث البيت، لأنها
ملزمة بأثاث المنزل وحاجاته بعد قبض صداقها.
(10/7395)
والمقرر لدى الشافعية: أنه يجب آلة تنظيف
كمُشْط ودُهْن وما تكنس به الدار، وما تغسل به الرأس والبدن، وأجرة حمام
بحسب العادة، وثمن ماء غسل جماع ونفاس، لا حيض واحتلام في الأصح، ولها آلات
الأكل والشرب والطبخ، وعلى الزوج الطحن والعجن والخبز في الأصح، ولها
مفروشات النوم من فراش ومخدة ولحاف، وما تقعد عليه من لبْد وحصير ونحوهما.
ولا يجب لها الكحل والخضاب وما تزين به إلا إذا طلبه الزوج. وأما الطيب
فيلزمه إن كان لقطع السهوكة (الرائحة الكريهة).
وقرر الحنابلة: أنه يجب للمرأة ما تحتاج إليه من المشط ودهن الرأس والسدر
وصابون ونحوهما مما تغسل به رأسها وتنظف بدنها وبيتها، وثمن ماء شرب ووضوء
وغسل من حيض أو نفاس وجنابة ونجاسة وغسل ثياب. ويجب عليه الخضاب والحناء إن
طلبه منها للزينة، ولا يجب عليه إن لم يطلبه؛ لأنه يراد للزينة، وعليه
الطيب لقطع أثر الحيض والعرق والرائحة الكريهة، ولا يلزمه ما يراد للتلذذ
والاستمتاع أو التجمل والزينة.
ويجب كل ما تحتاجه للنوم من فراش ولحاف ومِخدَّة مع حشوها بالقطن بحسب عرف
البلد، وما تحتاجه للجلوس من بساط صوف وهو الطنفسه، وما لا بد منه للطبخ
كماعون الدار ونحوه، الموسر على حسب إيساره والمعسر على قدر إعساره على حسب
العوائد.
الحكم القضائي بالنفقة وتعديلها:
تجب نفقة الزوجة ديانة مهما امتد الزمن، لكن منع القانون السوري الحكم
بالنفقة أكثر من أربعة أشهر سابقة للادعاء تيسيراً على الزوج ومنع إرهاقه،
وقد نص هذا القانون على ذلك في المادة (78):
(10/7396)
1 - يحكم للزوجة بالنفقة من تاريخ امتناع
الزوج عن الإنفاق الواجب عليه.
2 - لا يحكم بأكثر من نفقة أربعة أشهر سابقة للادعاء.
والمقرر لدى الحنفية (1) أنه لا تستحق الزوجة النفقة عن مدة ماضية إلا بفرض
القاضي أو بالتراضي؛ لأن النفقة عندهم صلة وليست بعوض، فلا يتأكد وجوبها
إلا بالقضاء، كالهبة لا توجب الملك إلا بمؤكد وهو القبض، والصلح بمنزلة
القضاء.
ويجوز تعديل النفقة المقدرة قضاء في حالتين (2):
الأولى ـ تبدل حال الزوج من عسر إلى يسر؛ لأن النفقة تختلف بحسب اليسار
والإعسار.
والثانية ـ تبدل أسعار الحاجيات تبدلاً ملحوظاً، من رخص إلى غلاء وبالعكس،
في أحوال الظروف الطارئة كالحرب والقحط والكوارث العامة. فإذا لم تحدث
طوارئ عامة لا تقبل دعوى التعديل زيادة أو نقصاً قبل مضي ستة أشهر على فرض
النفقة، اعتماداً على الغالب في أن الأسعار لا يظهر أثر تبدلها في أقل من
تلك المدة.
وهذا ما نصت عليه المادة (77) من القانون السوري:
1 - تجوز زيادة النفقة ونقصها بتبدل حال الزوج وأسعار البلد.
لا تقبل دعوى الزيادة أو النقص في النفقة المفروضة قبل مضي ستة أشهر على
فرضها إلا في الطوارئ الاستثنائية.
_________
(1) فتح القدير: 332/ 3، الدر المختار: 906/ 2.
(2) فتح القدير: 331/ 3، الدر المختار: 905/ 2 وما بعدها.
(10/7397)
كيف يقدر القاضي
النفقة؟ يقدر القاضي النفقة بالاستناد لمعرفة حاجات
الزوجة وتكاليف المعيشة وأسعار السلع، مستعيناً بآراء أهل الخبرة فيها.
وهذا ما نصت عليه المادة (81) من القانون السوري.
يقدر القاضي النفقة، ويجب أن يكون تقديره مستنداً إلى أسباب ثابتة، وله
الاستئناس برأي الخبراء.
الاستدانة أثناء الدعوى: للقاضي أثناء
النظر في دعوى النفقة أن يأمر الزوج بإسلاف زوجته مبلغاً من المال، لا يزيد
عن نفقة شهر واحد، ويمكن تجديد الأمر، وقد نصت على هذا الأمر المادة (82)
من القانون السوري:
1 - للقاضي أثناء النظر بدعوى النفقة، وبعد تقديرها: أن يأمر الزوج عند
اللزوم بإسلاف زوجته مبلغاً على حساب النفقة لا يزيد عن نفقة شهر واحد،
ويمكن تجديد الإسلاف بعده.
2 - ينفذ هذا الأمر فوراً كالأحكام القطعية.
المطلب الرابع ـ أحكام النفقة الزوجية:
هناك أحكام متنوعة لنفقة الزوجة أهمها ما يأتي:
أولاً ـ حكم الامتناع عن الإنفاق: إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته
بعدما فرضه على نفسه أو بعد فرض القاضي، ففيه تفصيل عند
الحنفية:
أـ إن كان الزوج موسراً وله مال ظاهر، باع القاضي من ماله جبراً عليه،
وأعطى الثمن لزوجته للنفقة. وإن لم يكن له مال ظاهر وكان موسراً، حبسه
(10/7398)
القاضي إذا طلبت الزوجة (1)، لقول النبي
صلّى الله عليه وسلم: «مَطْل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته» ويظل محبوساً
حتى يدفع النفقة، فإن لم يدفع وثبت للقاضي عجزه عن الإنفاق، ترك إلى
الميسرة، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة، فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/
2].
ب ـ وأما إن كان الزوج معسراً: فلا يحبس؛ إذ أنه ليس ظالماً بامتناعه عن
الإنفاق، ولأنه لا فائدة من حبسه.
ثانياً ـ إعسار الزوج بالنفقة: للفقهاء آراء في إعسار الزوج، وهي ما يأتي
(2):
قال الجمهور غير المالكية: لا تسقط
النفقة المفروضة على الزوج بإعساره، بل تصبح ديناً عليه إلى وقت اليسار،
لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2].
وحينئذ يأذن القاضي في رأي الحنفية للزوجة بالاستدانة، وإن أبى الزوج،
وفائدة الإذن بالاستدانة: أن يتمكن الدائن من أخذ دينه من الزوج أو الزوجة،
وأن النفقة المستدانة لا تسقط بموت أحد الزوجين. ويجب إقراض الزوجة على من
تجب عليه نفقتها، فإن امتنع فللقاضي أن يحكم بحبسه بعد إنذاره.
ولا يفرق عند الحنفية بين الزوجين بسبب الإعسار؛ لأن النفقة تصير ديناً
بفرض القاضي، فيستوفى في المستقبل، ويتحمل أدنى الضررين لدفع الأعلى.
_________
(1) البدائع: 38/ 4.
(2) الدر المختار: 903/ 2 وما بعدها، فتح القدير: 329/ 3 وما بعدها، الشرح
الكبير مع الدسوقي: 517/ 2، المهذب وتكملة المجموع: 108/ 17، كشاف القناع:
552/ 5، المغني: 573/ 7 وما بعدها.
(10/7399)
أما عند
الشافعية والحنابلة: فللزوجة أن تفسخ أذا أعسر الزوج بنفقة المعسر
كلها أو بعضها، ولا تفسخ إذا أعسر بما زاد عن نفقة المعسر؛ لأن الزيادة
تسقط بإعساره. ودليلهم على جواز الفسخ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن
النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟ قال:
«يفرق بينهما» (1) وحديث أبي هريرة أيضاً عند النسائي الذي ورد فيه: «وابدأ
بمن تعول، فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال: امرأتك تقول: أطعمني، وإلا
فارقني» ولأنه عجز عن الإمساك بالمعروف، فينوب القاضي منابة في التفريق كما
في الجب والعنة، بل أولى؛ لأن الحاجة إلى النفقة أولى، فإنه إذا ثبت للزوجة
الفسخ بالعجز عن الوطء ـ والضرر فيه أقل ـ فلأن يثبت بالعجز عن النفقة ـ
والضرر فيه أكثر ـ أولى.
وقال المالكية: تسقط النفقة عن الزوج
بالإعسار مدة إعساره، أي لا تلزمه، ولا تكون ديناً عليه، فلا ترجع عليه
الزوجة إذا أيسر، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها}
[الطلاق:7/ 65] والمعسر عاجز عن الإنفاق، وتكون متبرعة فيما تنفقه على
نفسها في زمن الإعسار. فإن أيسر وجبت عليه النفقة.
أما الحكم القانوني: ففي مصر نصت المادة
(213 إجراءات شرعية) على أنه إذا امتنع المحكوم عليه عن النفقة المحكوم
بها، حكمت المحكمة بحبسه، ولا يجوز أن تزيد مدة الحبس على عشرين يوماً،
ويخلى سبيله إذا أدى ما عليه أو أحضر كفيلاً مقتدراً. ونصت المادة (80) من
القانون السوري على ما يلي:
1 - إذا حكم للزوجة بنفقة على الزوج، وتعذر تحصيلها منه، يلزم من يكلف
_________
(1) أخرجه الدارقطني والبيهقي، وأعله أبو حاتم، ولكن للحديث شواهد عن سعيد
بن المسيب عند سعيد ابن منصور والشافعي وعبد الرزاق في الرجل لا يجد ما
ينفق على أهله، قال: «يفرق بينهما» قال: أبو الزناد: «قلت لسعيد: سنة؟ قال:
سنة» وهذا مرسل قوي.
(10/7400)
بنفقتها فيما لو فرضت غير ذات زوج، أن ينفق
عليها بالقدر المفروض، ويكون له حق الرجوع على الزوج.
2 - إذا أذن لها بالاستدانة ممن ليس مكلفاً بنفقتها، فله الخيار بين الرجوع
على الزوج أو الرجوع عليها، وهي ترجع على زوجها.
ومعنى هذه المادة التفريق بين حالتين: الأولى ـ إذا كان المأمور بالإنفاق
على المرأة هو قريبها من أب أو جد أو أخ، فله إذا دفع النفقة أن يرجع على
الزوج عند اليسار. والثانية ـ إذا كان المستدان منه النفقة هو غير المكلف
بالإنفاق على المرأة، فله الخيار بين الرجوع على الزوج أو الزوجة.
ثالثاً ـ نفقة زوجة الغائب: الغائب: هو من تعذر إحضاره إلى المحكمة لسؤاله
عن دعوى النفقة، سواء أكان بعيداً أم قريباً. وقد اختلف الفقهاء في كيفية
إيجاب النفقة عليه (1).
فذهب الجمهور إلى وجوب النفقة عليه عن الماضي ولو لم يفرضها حاكم، وتكون
ديناً في ذمته. وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا بإيجاب الحاكم.
ودليل الجمهور أن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن
ينفقوا، أو يطلّقوا. وهذا إجبار على الطلاق عند الامتناع عن الإنفاق، ولأن
الإنفاق عليها من ماله يتعذر، فكان لها الخيار كحال الإعسار، بل هذا أولى
بالفسخ، فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور، فعلى غيره أولى، ولأن في الصبر
ضرراً أمكن إزالته بالفسخ، فوجب إزالته.
_________
(1) فتح القدير: 336/ 3 - 338، الدر المختار: 916/ 2، بداية المجتهد: 55/
2، الشرح الصغير: 745/ 2 وما بعدها، المهذب: 163/ 2، مغني المحتاج: 436/ 3،
المغني: 576/ 7 - 578، غاية المنتهى: 236/ 3، كشاف القناع: 556/ 5.
(10/7401)
واستدل أبو حنيفة بأن نفقة الزوجة تجب
يوماً فيوماً، فتسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم كنفقة الأقارب، ولأن
نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها، فتسقط كنفقة الأقارب.
ورأى الحنفية: أنه لا يقضى بنفقة في مال شخص غائب إلا لزوجة الغائب وأولاده
الصغار ووالديه. أما غيرهم من المحارم كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات،
فلا يقضى بنفقتهم فيه.
فإذا غاب الزوج، وطلبت زوجته من القاضي فرض نفقة لها: فإن كان له مال ظاهر
يمكن أخذ النفقة منه، قضى لها القاضي بالنفقة من ماله، بعد أن يحلفها
بالله: أن زوجها ما أعطاها النفقة، رعاية لمصلحة الغائب، ويأخذ في رأي
الحنفية والشافعية كفيلاً منها بالنفقة رعاية لمصلحة الغائب؛ لأنه ربما
استوفت النفقة أو طلقها الزوج وانقضت عدتها.
وكذلك يحلفها في رأي المالكية بأنها تستحق النفقة على زوجها الغائب وأنه لم
يترك لها مالاً تنفق منه، ولا وكل وكيلاً لها ينفق عليها. وتسمى هذه اليمين
يمين الاستيثاق.
وإن لم يكن للزوج مال ظاهر: فليس للقاضي في رأي الحنفية تطليق الزوجة
بإعساره؛ لأن إعساره لا يسوغ التطليق سواء أكان الزوج حاضراً أم غائباً.
ورأى الجمهور غير الحنفية: أن للقاضي تطليق الزوجة بإعسار الزوج مطلقاً
حاضراً أم غائباً، إلا أن المالكية قالوا: إن كان الزوج قريب الغيبة فيرسل
له: إما أن يأتي أو يرسل النفقة، أو يطلّق عليه، وإن كان بعيد الغيبة كعشرة
أيام، فللقاضي التطليق إن لم يترك لها شيئاً ولا وكل وكيلاً بالنفقة ولا
أسقطت عنه النفقة حال غيبته، وتحلف على ما ذكر.
(10/7402)
واتفق الفقهاء (1) على أنه إذا أنفقت
المرأة على نفسها من مال زوجها الغائب، ثم بان أنه قد مات قبل إنفاقها، حسب
ما عليها ما أنفقته من ميراثها سواء أنفقته بنفسها أو بأمر الحاكم.
رابعاً ـ متى تعتبر النفقة ديناً على الزوج؟ عرفنا أن النفقة الزوجية تجب
باتفاق الفقهاء من حين العقد مع تمكين الزوجة من نفسها، واشترط المالكية
لوجوب النفقة قبل الدخول دعوة المرأة أو وليها المجبر الزوج إلى الدخول.
ولكنهم اختلفوا في وقت اعتبار النفقة ديناً في ذمة الزوج وفي مدى قوة هذا
الدين على رأيين (2):
1 - قال الحنفية: لا تصير النفقة ديناً
في ذمة الزوج إلا بالقضاء أو التراضي، فما لم يحكم بها القاضي، أو لم يتراض
الزوجان عليها، لا تكون ديناً، فلو أنفقت المرأة على نفسها من مالها بعد
العقد، أو بطريق الاستدانة، لا تكون ديناً على الزوج، بل تسقط بمضي المدة،
إلا لأقل من شهر فلا تسقط.
وإذا تم القضاء بها أو التراضي عليها، لا يصبح المتجمد منها ديناً قوياً
بحيث لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء، وإنما يكون ديناً ضعيفاً يسقط بما
يسقط به الدين القوي بالأداء أو الإبراء، ويسقط أيضاً بنشوز الزوجة، وبموت
أحد الزوجين. ولا تصير ديناً قوياً إلا إذا أذن الزوج أو القاضي للزوجة
بالاستدانة واستدانتها بالفعل.
_________
(1) المغني: 579/ 7.
(2) الدر المختار: 906/ 2، فتح القدير والعناية: 332/ 3، الشرح الصغير:
743/ 2، مغني المحتاج: 442/ 3، المغني: 578/ 7.
(10/7403)
وحجتهم أن النفقة الزوجية هي صلة (أي عطاء
من غير عوض) من وجه، وعوض من وجه آخر، أما كونها صلة فلأن منافع الاحتباس
تعود على الزوجين جميعاً لا على الزوج وحده، وأما كونها عوضاً فلأنها جزاء
احتباس الزوجة لحق زوجها، فنظراً لشبهها بالصلة تسقط بمضي المدة من غير
قضاء ولا تراض من الزوجين كنفقة الأقارب، ولشبهها بالعوض تصير ديناً
بالقضاء بها أو التراضي عليها.
2 - وقال الجمهور: إنها تصير ديناً
قوياً بمجرد وجوبها وامتناع الزوج عن أدائها إلى الزوجة، فلا يسقط إلا
بالأداء أو الإبراء كسائر الديون، ولا يسقط بمضي المدة بدون إنفاق، ولا
يسقط المتجمد منها في الماضي بنشوز الزوجة ولا بالطلاق ولا بالموت.
وحجتهم أن النفقة عوض، وليست صلة أي عطاء من غير عوض، وقد أوجبها الشارع
بمقتضى العقد في مقابل احتباس الزوجة لشؤون الزوجية. وإذا كانت عوضاً محضاً
فهي دين كسائر الديون، تجب من وقت استحقاقها ككل عوض أو أجرة.
وقد أخذ القانون السوري برأي الحنفية، فنصت المادة (79) على ما يلي: النفقة
المفروضة قضاء أو رضاء لا تسقط إلا بالأداء أو بالإبراء. والراجح لدي رأي
الجمهور، وقد أخذت به المحاكم الشرعية في مصر من سنة (1920).
خامساً ـ نفقة المعتدة: تقدم بيان الحكم في حقوق الزوجة، وخلاصته ما يأتي:
(10/7404)
تجب بالاتفاق نفقة الرجعية؛ لأنها في حكم
الزوجة، ونفقة الحامل، لقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى
يضعن حملهن} [الطلاق:6/ 65].
ولا تجب بالاتفاق نفقة المعتدة من وفاة أو من زواج فاسد أو شبهة، إلا أن
المالكية أوجبوا لمعتدة الوفاة السكنى مدةالعدة إذا كان المسكن مملوكاً
للزوج، أو مستأجراً ودفع أجرته قبل الوفاة.
واختلفوا في المعتدة من طلاق بائن: فأوجب الحنفية (1) لها النفقة بأنواعها
الثلاثة لاحتباسها لحق الزوج. ولم يوجب لها الحنابلة (2) أي نفقة؛ لأن رسول
الله صلّى الله عليه وسلم لم يجعل لفاطمة بنت قيس التي طلقت البتة نفقة ولا
سكنى. وتوسط المالكية والشافعية (3) فأوجبوا لها السكنى فقط، لقوله تعالى:
{أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/ 65].
نفقة الحمل: أوجب المالكية (4) نفقة
الحمل على أبيه، بشرط حرية الحمل وحرية أبيه ولحوق الحمل بأبيه، فلا نفقة
لحمل رقيق ولا لمن أبوه عبد، ولا نفقة لحمل ملاعَنة محبوسة بسببه.
وهناك رأيان عند الشافعية والحنابلة في سبب نفقة الحامل (5):
_________
(1) الدر المختار: 921/ 2 وما بعدها، 16/ 4.
(2) غاية المنتهى: 236/ 3 ومابعدها، المغني: 606/ 7 - 611، كشاف القناع:
538/ 5.
(3) الشرح الصغير: 740/ 2 وما بعدها، المهذب وتكملة المجموع: 117/ 17 وما
بعدها، حاشية الباجوري: 178/ 2.
(4) الشرح الصغير: 743/ 2.
(5) المغني: 608/ 7 وما بعدها.
(10/7405)
أحدهما: أنها تجب للحمل؛ لأنها تجب بوجوده،
وتسقط عند انفصاله، فدل على أنها له.
والثاني ـ تجب للحامل من أجل الحمل، لأنها تجب مع اليسار والإعسار، فكانت
له، كنفقة الزوجات، ولأنها في رأي غير الحنفية لا تسقط بمضي الزمان، فأشبهت
نفقة الأم في حال حياة الحمل.
حكم القانون السوري بنفقة العدة:
نصت المادتان (83، 84) على نفقة العدة.
(م 83) - تجب على الرجل نفقة معتدته من طلاق أو تفريق أو فسخ.
(م 84) - نفقة العدة كنفقة الزوجية، ويحكم بها من تاريخ وجوب العدة، ولا
يقضى بها عن مدة أكثر من تسعة أشهر.
فالمادة الأولى تقرر وجوب نفقة المعتدة أياً كان سبب الفراق.
والمادة الثانية تقرر بداية الواجب وهو من تاريخ وجوب العدة، ولا يقضى بها
عن مدة أكثر من تسعة أشهر، دفعاً لإرهاق الزوج، مع العلم بأن عدة ممتدة
الطهر سنة كاملة، كما جاء في الفقرة (2) من المادة (121)، فكان ينبغي جعل
أقصى المدة سنة، لا تسعة أشهر.
سادساً ـ تعجيل النفقة: إذا عجل الزوج نفقة زوجته، ثم طرأ ما يوجب سقوط
النفقة كنشوز الزوجة أو موت أحد الزوجين، فليس للزوج أو لورثته في رأي أبي
حنيفة وأبي يوسف (1)
_________
(1) البدائع: 38/ 4، فتح القدير: 333/ 3.
(10/7406)
أن يسترد شيئاً منها؛ لأن النفقة صلة أو
هبة، والزوجية من موانع الرجوع في الهبة.
وقال محمد وباقي الأئمة: للزوج أن يسترد نفقة المدة الباقية، فإن كانت
قائمة أخذها، وإن كانت مستهلكة أخذ مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت
قيمية؛ لأن النفقة عوض وجزاء احتباس الزوجة في المدة، فإن فات الاحتباس في
بعض المدة فلا تستحق في مقابلها شيئاً من النفقة، فيلزمها أن ترد ما يقابل
نفقة تلك المدة. وهذا هو الراجح لدي؛ لأن الراجح أن النفقة عوض وليست صلة
أو هبة.
سابعاً ـ الإبراء من النفقة: الإبراء إما أن يكون عن نفقة ماضية أو مستقبلة
(1).
أـ فإن كان عن نفقة ماضية: صح إبراء الزوجة عند الحنفية إن كانت النفقة
مفروضة بقضاء القاضي أو بتراضي الزوجين؛ لأنها صارت ديناً ثابتاً في ذمة
الزوج، والإبراء يكون مما هو ثابت في الذمة. ولا يصح الإبراء عن نفقة
مفروضة بقضاء أو تراض؛ لأنها لم تثبت ديناً في الذمة، ولا يكون الإبراء إلا
عما هو ثابت في الذمة.
وقال الجمهور: يصح الإبراء عنها؛ لأنها تصير ديناً في ذمة الزوج بمجرد
الامتناع عن الإنفاق، سواء أكانت مقررة بالقضاء أم بالتراضي أم غير مقررة.
ب ـ وأما الإبراء عن نفقة مستقبلة: فلا يصح اتفاقاً؛ لأن النفقة لم تجب
بعد، فلا تقبل الإبراء.
_________
(1) البدائع: 16/ 4، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 899/ 2، المغني: 610/
7، الأحوال الشخصية للأستاذ زكي الدين شعبان: ص 339.
(10/7407)
لكن أجاز الحنفية الإبراء عن نفقة مستقبلة
في حالتين:
الأولى ـ الإبراء عن مدة بدأت بالفعل: كنفقة شهر بدأ، وسنة دخلت، لا عن
أكثر من سنة، ولا عن سنة لم تدخل، لتحقق وجوبها، إذ يجب تنجيزها أول المدة.
الثانية ـ الإبراء من نفقةالعدة في مقابل الخلع أو الطلاق: لأن الإبراء عن
النفقة في نظير عوض وهو ملك الزوجة نفسها. ولا يصح الإبراء في غير الخلع
والطلاق؛ لأنه إسقاط للشيء قبل وجوبه.
ثامناً ـ المقاصة بدين النفقة: إذا كان للزوج دين على زوجته لثمن مبيع أو
قرض، فهل يسقط بالمقاصة مع دين النفقة؟.
يرى الحنفية أنه إذا كان دين النفقة قوياً (وهو الذي فرضه القاضي أو تقرر
بالتراضي) جاز لأحد الزوجين أن يطلب المقاصة، وليس للآخر الامتناع من
المقاصة لتساوي الدينين في القوة. وأما إذا لم يكن دين النفقة مستداناً
بأمر القاضي أو برضا الزوج، فيكون ديناً ضعيفاً، وتصح المقاصة به إذا طلبها
الزوج؛ لأن دينه أقوى من دين الزوجة. وليس للزوجة الامتناع من المقاصة. ولا
تمكن المقاصة بطلب الزوجة حينئذ إلا إذا رضي الزوج بها؛ لأن دينها أضعف من
دينه (1).
ويرى الجمهور: أن دين النفقة دين صحيح لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء،
سواء فرضه القاضي أو استدين بالتراضي أم لا، فتصح المقاصة به مطلقاً،
لتساوي
_________
(1) شعبان، المرجع السابق: ص 340.
(10/7408)
الدينين في القوة. ولكن قرر المالكية
والحنابلة أن الزوجة إذا كانت فقيرة، وطلب الزوج المقاصة، لا يجاب إلى طلبه
إلا إذا رضيت بها، منعاً للضرر بها؛ لأن إحياء النفس مقدم على وفاء الدين.
تاسعاً ـ الكفالة بالنفقة: لا تصح الكفالة بالنفقة في رأي الحنفية قبل
القضاء بها أو التراضي عليها؛ لأن المكفول به يشترط أن يكون ديناً صحيحاً،
ولا تصبح النفقة ديناً في ذمة الزوج إلا بعد القضاء بها أو التراضي عليها،
لكنهم أجازوا استحساناً الكفالة بالنفقة بعد القضاء أو التراضي قبل
الاستدانة، رفقاً بالناس، وإعانة للزوجة على الوصول إلى حقها في النفقة.
وتصح الكفالة بالنفقة في رأي الجمهور؛ لأنها تجب للزوجة من تاريخ العقد
بشرط التمكين، وتعتبر ديناً صحيحاً في ذمة الزوج من غير توقف على القضاء أو
التراضي. وهذا هو المعمول به في محاكم مصر من سنة (1920).
الكفالة بالنفقة بسبب السفر: المفتى به
عند الحنفية (1) هو رأي أبي يوسف في جواز أخذ المرأة كفيلاً بالنفقة إذا
أراد الزوج السفر، وتعطى كفيلاً بنفقة شهر إذا لم تعلم المرأة مدة الغيبة؛
لأن إعطاء كفيل أقل الواجب. فإن علمت أنه سيغيب أكثر من شهر، فتعطى كفيلاً
بقدرة المدة التي يتوقع غيابه فيها.
وقال المالكية: تعطى الزوجة كفيلاً بالنفقة في مدة غياب زوجها ليدفع لها
النفقة بحسب المعتاد يومياً أو شهرياً.
_________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 895/ 2.
(10/7409)
كفالة النفقة
الماضية والمستقبلة: أجاز الحنابلة ضمان النفقة
الماضية والمستقبلة، واكتفى الشافعية بتجويز ضمان النفقة الماضية، ولم
يجيزوا ضمان النفقة المستقبلة؛ لأنه ضمان ما لم يجب، بناء على أن المذهب
الجديد للشافعي هو القول بأن النفقة تجب بالتمكين لا بالعقد، وهو الصحيح؛
لأنها لو وجبت بالعقد لملكت الزوجة المطالبة بها كالمهر، والعقد يوجب
المهر، ولا يوجب عوضين مختلفين، ولأن النفقة مجهولة، والعقد لا يوجب مالاً
مجهولاً (1).
عاشراً ـ الصلح عن النفقة: قال الحنفية (2): قد يكون الصلح عن النفقة
تقديراً للنفقة، كالصلح على مبلغ مالي قبل تقدير النفقة بالقضاء أو الرضا
أوبعده، وحينئذ تجوز الزيادة عليه أو النقصان بسبب الغلاء أو الرخص، فلو
قال الزوج: لا أطيق ذلك، فهو لا زم له، ولا التفات لقوله بكل حال، لأنه
ألزمه باختياره، إلا إذا تغير سعر الطعام، وعلم القاضي أن ما دون المبلغ
المصالح عليه يكفيها، فحينئذ يفرض لها كفايتها.
وقد يكون الصلح معاوضة كالصلح على متاع أو عقار، إن كان بعد تقدير النفقة
بالقضاء أو الرضا، وحينئذ لا تجوز الزيادة ولا النقصان ولو قبل التقدير
المذكور.
_________
(1) المغني: 578/ 7، المهذب: 164/ 2، مغني المحتاج: 435/ 3.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 905/ 2 وما بعدها.
(10/7410)
المبحث الثاني ـ
نفقة الأولاد أو الفروع:
يشتمل على أربعة مطالب:
الأول ـ وجوب الإنفاق على الفروع وتعيينهم.
الثاني ـ شروط الوجوب.
الثالث ـ من تجب عليه نفقة الفروع.
الرابع ـ مقدار نفقة الفروع وصيرورتها ديناً وسقوطها وتعجيلها.
المطلب الأول ـ وجوب الإنفاق على الفروع
وتعيينهم:
تجب نفقة الأولاد لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}
[البقرة:233/ 2] أي أن على الأب المولود له نفقة أولاده، بسبب الولادة، كما
تجب عليه نفقة الزوجة بسبب الولد أيضاً، ولقوله صلّى الله عليه وسلم لهند:
«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» أي أن نفقة الولد والزوجة واجبة على الأب،
وللحديث السابق في ترتيب النفقة: على النفس، ثم على الولد الصغير، ثم على
الأهل، ثم على الولد غير الصغير، ثم على الخادم.
والأولاد الواجب نفقتهم في رأي جمهور العلماء (1): هم الأولاد مباشرة،
وأولاد الأولاد، أي الفروع وإن نزلوا، فعلى الجد نفقة أحفاده، من أي جهة
كانوا؛ لأن الولد يشمل الولد المباشر وما تفرع منه. وهو الصحيح، فهذه
النفقة تجب بالجزئية دون الإرث.
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 106/ 3 وما بعدها، فتح القدير: 346/ 3، المهذب: 156/
2 وما بعدها، المغني: 586/ 7 وما بعدها.
(10/7411)
ورأى الإمام مالك (1): أنه تجب نفقة
الأولاد المباشرين فقط، دون أولاد الأولاد، لظاهر النص القرآني السابق:
{وعلى المولود له ... } [البقرة:2/ 233] فالنفقة عنده تجب بسبب الإرث لا
بمطلق الجزئية.
المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة على الأولاد:
يشترط لوجوب نفقة الأولاد ثلاثة شروط (2):
1 ً - أن يكون الأصل قادراً على الإنفاق بيسار أو قدرة على الكسب: فإذا كان
الأصل غنياً أو قادراً على الكسب، وجبت عليه نفقة أولاده، فينفق عليهم من
ماله، وإن لم يكن له مال وقدر على الكسب وجب عليه الاكتساب، في رأي
الجمهور، فإن امتنع حبسه القاضي. أما إن كان معسراً بحيث تجب نفقته على
غيره من الأصول أو الفروع، وكان عاجزاً عن الكسب، فلا نفقة عليه؛ لأنه لا
يعقل إيجاب النفقة عليه وهو يأخذ نفقته من غيره، إذ أن فاقد الشيء لا
يعطيه، وهذا هو الصحيح.
وقال المالكية: لا يلزم الأب الكسب لأجل نفقة أولاده. فإذا كان معسراً،
وكان قادراً على الكسب بصنعة أو غيرها، لم يجب عليه التكسب، لينفق على
أولاده المعسرين.
2 ً - أن يكون الولد فقيراً معسراً لا مال له، ولا قدرة له على الاكتساب:
فإذا كان له مال يكفيه، وجبت نفقته فيه لا على غيره، وإذا كان مكتسباً وجب
عليه الاكتساب، فالصغير المكتسب نفقته في كسبه، لا على أبيه. وعليه فإن
الولد
_________
(1) الشرح الصغير: 753/ 2، القوانين الفقهية: ص 223.
(2) الدر المختار: 923/ 2 - 925، الشرح الصغير والقوانين الفقهية: المكان
السابق، المهذب: 166/ 2، مغني المحتاج: 446/ 3 ومابعدها، المغني: 584/ 7 -
587، كشاف القناع: 559/ 5.
(10/7412)
الموسر بمال أو كسب يستغني به، لا نفقة له؛
لأن نفقة القرابة تجب على سبيل المواساة والبر، والموسر مستغن عن المواساة
والبر والصلة. ومن له مسكن يسكنه يكون فقيراً محتاجاً للنفقة؛ لأن الإيواء
فيه ضرورة حياتية، فلا يباع عليه عقاره، أما إن كان له مسكن آخر زائد عن
سكناه، فلا يعد محتاجاً، ولا يستحق النفقة على من سواه من الأصل أو الفرع،
فيباع عليه؛ لأن فيه فضلاً عن حاجته.
والعجز عن الكسب يكون بإحدى الصفات التالية:
1 ً) ـ الصغر: أي الصغير الذي لم يبلغ
به صاحبه حد الكسب، فإن بلغ الغلام لا الأنثى حد الكسب، كان للأب أن يؤجره
أو يدفعه إلى حرفة ليكتسب منها، وينفق عليه من كسبه. أما الأنثى فلاتؤجر
للخدمة، لما فيها من مخاطر الخلوة بها وهو لا يجوز شرعاً، لكن يجوز تعليمها
عند امرأة حرفة معينة مناسبة لها كخياطة أو تطريز أو غزل ونحوها، فإن
استغنت بنحوه، وجبت نفقتها في كسبها، ولا تجب نفقتها على الأب إلا إذا كان
دخلها لا يكفيها، فتجب كفايتها بدفع القدر المعجوز عنه.
وأما الولد الكبير: فلا تجب نفقته على الأب إلا إذا كان عاجزاً عن الكسب
لآفة في عقله كالجنون والعته، أو آفة في جسمه كالعمى والشلل وقطع اليدين
والرجلين، أو بسبب طلبه العلم، أو بسبب انتشار البطالة وعدم تيسر الكسب له،
أو بسبب المرض المانع له من الاكتساب.
وأوجب الحنابلة خلافاً للجمهور النفقة للولد الكبير الفقير، ولو كان
صحيحاً، كما أوجبوها للوالد الفقير ولو كان صحيحاً؛ لأنه ولد أو والد فقير
محتاج، فاستحق النفقة على والده أو ولده الغني، كما لو كان مريضاً بمرض
(10/7413)
مزمن، أو مكفوفاً. ويكون المبدأ عند
الحنابلة هو وجوب نفقة المولودين والوالدين دون اشتراط نقص الخِلْقة أو نقص
الأحكام المكلف بها، في ظاهر المذهب.
2 ً) ـ الأنوثة: تجب نفقة البنت الفقيرة
على أبيها مهما بلغت حتى تتزوج، وعندئذ تصبح نفقتها على الزوج، فإذا طلقت
عادت نفقتها على الأب، ولا يجوز للأب أن يجبرها على الاكتساب. فإن اكتسبت
من مهنة شريفة لا تعرضها للفتنة كخياطة وتعليم وتطبيب، سقطت نفقتها عن
الأب، إلا إذا كان كسبها لا يكفيها، فعلى الأب إكمال النفقة التي تحتاجها.
3 ً) ـ المرض المانع من العمل: كالعمى
والشلل والجنون والعته ونحوها.
4 ً) ـ طلب العلم الذي يشغل عن التكسب:
فالطالب المتعلم حتى ولو كان قادراً على العمل والتكسب، تجب نفقته على
أبيه؛ لأن طلب العلم فرض كفاية، فلو ألزم طلبة العلم التكسب، تعطلت مصالح
الأمة. وهذا بشرط كون الطالب مجداً ناجحاً، فإن كان مخفقاً في دراسته، فلا
جدوى في تعليمه، وعليه الانصراف إلى تعلم مهنة حرة تكفيه.
وأضاف بعض الحنفية: من يلحقه العار بالتكسب بسبب وجاهته وكونه من أبناء
الأشراف، فإنه يستحق النفقة على أبيه. وانتقد ذلك بأن الاكتساب لتوفير
مؤونته ومؤونة عياله فرض، فكيف يكون عاراً؟! وقالوا: الأولى بأن الولد إذا
كان من أبناء الكرام، ولا يستأجره الناس، فهو عاجز يستحق النفقة. والحق أنه
لا امتياز في الإسلام لبعض الناس على بعض، وأن كبار الصحابة منهم أبو بكر
وعلي كانوا يتجرون ويعملون، وليس في العمل أي عار، فلا وجه لتمييز بعض
الأولاد على عامة الناس.
(10/7414)
3 - ألا يختلف الدين
في رأي الحنابلة وحدهم: فلا تجب النفقة في عمودي النسب مع اختلاف الدين، في
الرواية المعتمدة لديهم؛ لأنها مواساة على البر والصلة، فلم تجب مع اختلاف
الدين كنفقة غير عمودي النسب، ولأنهما غير متوارثين، فلم يجب لأحدهما على
الآخر نفقته بالقرابة، ومن الشروط عندهم أن يكون المنفق وارثاً، لقوله
تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2]، فيجب أن تختص النفقة بمن
تجب صلته وبمن كان وارثاً، فإن لم يكن وارثاً فلا نفقة له، لعدم القرابة.
ولم يشترط الجمهور غيرا لحنابلة اتحاد الدين لنفقة الأولاد، لقوله تعالى:
{وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} [البقرة:233/ 2] وهو يدل على أن الولادة
سبب لإيجاب نفقة الأولاد على أبيهم، والولادة ثابتة، سواء مع اتحاد الدين
أواختلافه، ولأن النفقة وسيلة الحياة، والحياة مطلوبة ولو مع الكفر؛ لأن
المال لا أهمية له في الحقيقة، والله تعالى يرزق المؤمن والكافر على
السواء.
المطلب الثالث ـ من تجب عليه نفقة الأولاد:
اتفق الفقهاء (1) على أنه إذا كان الأب موجوداً وموسراً أو قادراً على
الكسب في رأي الجمهور، فعليه وحده نفقة أولاده، لا يشاركه فيها أحد، لقوله
تعالى: {وعلى المولود له .. } [البقرة:233/ 2] الذي يفيد حصر النفقة فيه،
ولأنهم جزء منه، فنفقتهم وإحياؤهم كنفقة نفسه.
أما إذا لم يكن الأب موجوداً، أو كان فقيراً عاجزاً عن الكسب لمرض أو كبر
_________
(1) فتح القدير: 346/ 3، حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 926/ 2، 935،
الشرح الصغير: 753/ 2، القوانين الفقهية: ص 223، المهذب: 166/ 2، المغني:
589/ 7 - 592، المغني: 589/ 7 - 592، مغني المحتاج: 450/ 3 وما بعدها.
(10/7415)
سن أو نحو ذلك، كانت نفقتهم في رأي الحنفية
على الموجود من الأصول ذكراً كان أو أنثى إذا كان موسراً، فتجب على الجد
وحده إذا كان موسراً، أو على الأم وحدها إذا كانت موسرة. وللجد أو الأم إذا
كان الأب موجوداً معسراً غير مريض مرضاً مزمناً الرجوع على الأب في حال
يساره، ويكون ما أنفقه ديناً على والدهم. كما يجوز الرجوع عليه إذا أمر
القاضي بالإنفاق.
وإذا وجد الجد مع الأم فعليهما النفقة بنسبة ميراثهما، فيكون على الأم
الثلث وعلى الجد الثلثان. وإذا كان الجد مع الجدتين: أم الأم وأم الأب،
فعلى الجدتين السدس مناصفة بينهما، وعلى الجد الباقي، بمقدار ميراثهما.
وإن كان أقارب الولد غير وارثين، بأن كانوا من ذوي الأرحام، فالنفقة على
أقربهم درجة. وإن اتحدت درجتهم، كانت النفقة عليهم بالسوية.
وإن كان بعض الأقارب وارثاً، والآخر غير وارث، كانت النفقة على الأقرب، وإن
لم يكن وارثاً، فإن تساووا في درجة القرابة، وجبت النفقة على الوارث دون
غيره.
ورأى المالكية: أنه تجب النفقة على الأب وحده دون غيره؛ لأن النبي صلّى
الله عليه وسلم قال لرجل سأله، عندي دينار؟ قال: «أنفقه على نفسك، قال:
عندي آخر؟ قال: أنفقه على أهلك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على ولدك، قال:
عندي آخر؟ قال: أنفقه على خادمك، قال: عندي آخر؟ قال: أنت أعلم به» ولم
يأمره بإنفاقه على غير هؤلاء.
وذهب الشافعية: إلى أنه إذا لم يوجد الأب أو كان عاجزاً، وجبت النفقة على
الأم، لقوله تعالى: {لا تضارّ والدة بولدها} [البقرة:233/ 2] ولأنه إذا
وجبت النفقة على الأب وولادته من جهة الظاهر، فلأن تجب على الأم، وولادتها
(10/7416)
مقطوع بها، أولى. وتجب عليها نفقة ولد
الولد؛ لأن الجدة كالأم، والجد كالأب في أحكام الولادة.
وإذا استوت درجة القرابة واستحقاق الإرث وجبت النفقة على المتساوين؛ لأن
علة إيجاب النفقة تشملهما. وإن تفاوتت درجة القرابة فالأصح أن أقربهما تجب
النفقة عليه، وارثاً كان أو غيره، وإن استوى قربهما، يقدم الوارث في الأصح.
فإن كان هناك أم وجد أبو أب، فالنفقة كلها على الجد في الأصح، لأنه ينفرد
بالتعصيب، فأشبه الأب. وإن كان للفرع أجداد وجدات يدلي بعضهم ببعض فالنفقة
على الأقرب منهم. وإن لم يُدْل بعضهم ببعض فتلزم النفقة بالقرب.
وقال الحنابلة في ظاهر المذهب: إذا لم يكن للولد الصغير أب، وجبت نفقته على
كل وارث على قدر ميراثه، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف} [البقرة:233/ 2] ثم قال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2]
فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما
أوجب على الوالد. وسأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أبر؟ قال:
أمك وأباك وأختك وأخاك» وفي لفظ: «ومولاك الذي هو أدناك حقاً واجباً،
ورحماً موصولاً» (1) وهذا نص في المطلوب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم
ألزمه الصلة والبر، وكون النفقة من الصلة جعلها حقاً واجباً. فإن كان للولد
وارثان فالنفقة عليهما على قدر إرثهما منه، وإن كانوا ثلاثة أو أكثر،
فالنفقة بينهم على قدر إرثهم منه:
_________
(1) رواه أبو داود عن كُلَيب بن مَنْفعة عن جده بلفظ « ... ومولاك الذي يلي
ذاك، حق واجب، ورحم موصولة» (نيل الأوطار: 327/ 6).
(10/7417)
فإن كان للولد الصغير أم وجد، فعلى الأم
ثلث النفقة، وعلى الجد ثلثا النفقة؛ لأنهما يرثانه، والله تعالى قال: {وعلى
الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] والأم وارثة، فكان عليها بالنص.
وإن كانت جدة وأخ، فعلى الجدة سدس النفقة، والباقي على الأخ، وعلى هذا يكون
ترتيب النفقات على ترتيب الميراث، فكما أن للجدة ههنا سدس الميراث، فعليها
سدس النفقة، وكما أن الباقي للأخ، فكذلك الباقي من النفقة عليه.
وإن اجتمع أبوا أم، فالنفقة على أم الأم؛ لأنها الوارثة. وإن اجتمع أبوا
أب، فعلى أم الأب السدس، والباقي على الجد. وإن اجتمع جد وأخ، فهما سواء.
وإن اجتمعت أم وأخ وجد، فالنفقة بينهم أثلاثاً. وقال الشافعي: النفقة على
الجد في هذه المسائل كلها إلا المسألة الأولى، فالنفقة عليهما بالسوية.
المطلب الرابع ـ مقدار نفقة الأولاد وصيرورتها ديناً وسقوطها وتعجيلها:
اتفق الفقهاء (1) على أن نفقة القريب من ولد وولد ولد مقدرة بقدر الكفاية
من الخبز والأدم والمشرب والكسوة والسكنى والرضاع إن كان رضيعاً على قدر
حال المنفق وعوائد البلاد؛ لأنها وجبت للحاجة، فتقدر بقدر الحاجة، وقد قال
النبي صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقدر
نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية.
_________
(1) البدائع: 38/ 4، القوانين الفقهية: ص 223، المهذب: 167/ 2، المغني:
595/ 7، مغني المحتاج: 449/ 3، الشرح الصغير: 753/ 2 - 754.
(10/7418)
وإن احتاج الولد المنفق عليه إلى خادم
يخدمه، فعلى الوالد إخدامه؛ لأنه من تمام كفايته.
وإن كانت له زوجة، وجبت نفقة زوجته عند الشافعية والحنابلة؛ لأنها من تمام
الكفاية. ولا تجب نفقة زوجة الابن على المذهب عند الحنفية. وتسقط نفقة
الزوجة عند المالكية في حال إعسار الزوج.
ولا تصير هذه النفقة عند الحنفية ديناً في الذمة أصلاً، سواء فرضها القاضي
أم لا، بخلاف نفقة الزوجات، فإنها تصير ديناً في الذمة بفرض القاضي أو
التراضي.
وقال الشافعية: لا تصير نفقة الولد ديناً على الوالد إلا بفرض قاضٍ أو إذنه
في اقتراض بسبب غيبة أو امتناع عن الإنفاق.
وتسقط نفقة الولد عند الفقهاء بمضي الزمن من غير قبض ولا استدانة؛ لأنها
وجبت على الوالد لدفع الحاجة، وقد زالت الحاجة لما مضى، فسقطت، بخلاف نفقة
الزوجة لا تسقط بمضي الزمان عند غير الحنفية، ولا تسقط عند الحنفية بعد
القضاء بها أو التراضي عليها، وإنما تسقط بمضي الزمان قبل القضاء أو
التراضي. واستثنى المالكية حالة قضاء الحاكم بنفقة الأقارب، فإنها تصبح
متجمدة في الماضي فلا تسقط بمضي الزمن.
وذكر الحنفية: أنه إذا عجل الشخص نفقة مدة في الأقارب، فمات المنفق عليه
قبل تمام المدة، لا يسترد شيئاً منها، بلا خلاف.
(10/7419)
المبحث الثالث ـ
نفقة الأصول ـ أو الآباء والأمهات:
يتضمن أربعة مطالب:
الأول ـ وجوب نفقة الأصول وتعيينهم.
الثاني ـ شروط وجوبها.
الثالث ـ من تجب عليه.
الرابع ـ مقدار هذه النفقة.
المطلب الأول ـ وجوب نفقة الأصول وتعيينهم:
تجب نفقة الوالدين وإن علوا عند الجمهور (1)، لقوله تعالى: {وقضى ربك ألا
تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} [الإسراء:23/ 17] ومن الإحسان أن ينفق
عليهما عند الحاجة، وقوله عز وجل: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/
31] ومن المعروف الإنفاق عليهما ولو كانا مخالفين في الدين، فإنها نزلت في
الأبوين الكافرين، وليس من المعروف أن يعيش إنسان في نعم الله تعالى ويترك
أبويه يموتان جوعاً.
وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من
كسبكم، فكلوه هنيئاً مريئاً» (2) وقال أيضاً لرجل سأله: من أبر؟ قال: «أمك،
ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب» (3).
والأصول الذين تجب نفقتهم عند الجمهور: هم الآباء والأجداد، والأمهات
_________
(1) فتح القدير: 347/ 3، البدائع: 30/ 4، الشرح الصغير: 752/ 2، القوانين
الفقهية: ص 223، المهذب: 65/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 446/ 3، المغني:
583/ 7.
(2) رواه أصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه أبو داود.
(10/7420)
والجدات، وإن علوا؛ لأن «الأب» يطلق على
الجد وكل من كان سبباً في الولادة، كذلك «الأم» تطلق على الجدة مهما علت،
فقد أطلق القرآن كلمة «الأبوين» على آدم وحواء، وقال تعالى: {ملة أبيكم
إبراهيم} [الحج:78/ 22]، ولأن بين الولد وأصله قرابة توجب رد الشهادة،
فأشبه الجد والجدة والوالدين القريبين، ويكون الأجداد والجدات من الآباء
والأمهات، فيقوم الجد مقام الأب عند عدمه، وأجمع العلماء على أن الجدة تحرم
على الإنسان، كما تحرم عليه أمه في الزواج، لقوله تعالى: {حرمت عليكم
أمهاتكم} [النساء:23/ 4].
وقال الإمام مالك: الأصول الذين تجب نفقتهم: هم الآباء والأمهات المباشرون،
لا الأجداد والجدات مطلقاً، سواء من جهة الأب أو الأم. فلا تجب نفقة على جد
أو جدة، كما لا تجب على ولد ابن. والصحيح هو قول الجمهور.
المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة للأصول:
يشترط لوجوب الإنفاق على الأصول ما يأتي (1):
1ً - أن يكون الأصل فقيراً،
أوعاجزاً عن الكسب: فإن كان قادراً على الكسب فتجب أيضاً نفقته عند
الحنفية، والشافعية في الأظهر؛ لأن الله تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين،
وفي إلزام الآباء بالاكتساب مع غنى الأبناء ترك للإحسان إليهم وإيذاء لهم،
وهو لايجوز، ويقبح بالإنسان أن يكلف قريبه الكسب مع اتساع ماله. وهذا بعكس
الابن فإنه لا نفقة له إذا كان قادراً على الكسب، فيلزمه التكسب؛ لأن الله
تعالى نهى الولد عن إلحاق أدنى الأذى بالوالدين وهو التأفيف في قوله تعالى:
{ولا تقل لهما أف} [الإسراء:23/ 17] ولم يوجد النهي في الابن.
_________
(1) فتح القدير: 347/ 3، البدائع: 34/ 4 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص
223، الشرح الصغير: 752/ 2 وما بعدها، المهذب: 166/ 2، مغني المحتاج: 448/
3، المغني: 584/ 7.
(10/7421)
وقال المالكية والحنابلة: لا يلزم الفرع
بنفقة الأصل إذا كان قادراً على الكسب، فيجبر على كسب يستغني به، ولا نفقة
له؛ لأنها تجب على سبيل المواساة والبر والصلة، والكاسب كالموسر مستغن عن
المواساة.
2ً - أن يكون الفرع موسراً
بمال، أو قادراً على التكسب في رأي الجمهور، وقال المالكية: لا يجب على
الولد المعسر تكسب لينفق على والديه.
وعلى رأي الجمهور: يشترط أن يكون مال الفرع أو مردود كسبه فاضلاً عن نفقة
نفسه إما من ماله وإما من كسبه، فأما من لا يفضل عنه شيء، فليس عليه شيء،
لحديث جابر المتقدم: «إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، فإن فضل فعلى
عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته» وفي لفظ: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» ولحديث
أبي هريرة السابق في ترتيب النفقة على النفس، ثم على الزوج، ثم على الولد،
ثم على الخادم.
3ً - أن يكون المنفق وارثاً
في رأي الحنابلة، فلا نفقة مع اختلاف الدين لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل
ذلك} [البقرة:233/ 2] ولأن التوارث بسبب القرابة يجعل الوارث أحق بمال
المورث، فينبغي أن يختص بوجوب صلة قريبة بالنفقة دون غير الوارث، ولأن هذه
النفقة مواساة على البر والصلة، فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي
النسب.
وقال الحنفية: يشترط أن يكون المنفق قريباً مستحقاً للإرث من قريبه، إلا
أنهم مع المالكية والشافعية يقولون: اتحاد الدين ليس شرطاً لوجوب نفقة
الأصل على الفرع، فتجب النفقة عليه وإن اختلف الدين؛ لأنه تعالى قال في حق
الوالدين الكافرين: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم، فلا
تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/ 31] وليس من المعروف ترك
الإنفاق عليهما مع القدرة، وهذا هو الصحيح.
(10/7422)
المطلب الثالث ـ من
تجب عليه نفقة الأصول:
تجب نفقة الأصول على الولد لا يشاركه في نفقة أبويه أحد (1)؛ لأنه أقرب
الناس إليهما، فكان أولى باستحقاق نفقتهما عليه. وهي عند الحنفية على
الذكور والإناث بالسوية؛ لأن المعنى يشملهما.
وتجب أيضاً في رأي الجمهور على ولد الولد، ولا تجب في رأي المالكية على ولد
الابن.
تعدد الفروع: إن لم يوجد غير ولد واحد
تجب عليه نفقة الأصل كما تقدم، فإن تعدد الفروع: فقال الحنفية (2): إن
اتحدت درجة قرابتهم كابنين أو بنتين أو ابن وبنت، وجبت النفقة بالتساوي
بينهم، سواء أكانوا وارثين أم بعضهم وارثاً والآخر غير وارث، للتساوي في
القرب والجزئية، ولا ينظر إلى أن الابن يأخذ ضعف البنت في الميراث.
وإن اختلفت درجة قرابتهم كبنت وابن ابن، وجبت نفقة الأصل على الأقرب.
يلاحظ أن الحنفية في حال تعدد الفروع اعتبروا درجة القرابة، وفي حال تعدد
الأصول اعتبروا الإرث أحياناً، وأهملوه أحياناً أخرى. وكان ينبغي التسوية
بين الفروع والأصول، لتساويهم في علة وجوب النفقة وهي الجزئية.
وقال المالكية (3): إن تعدد الأولاد وزعت النفقة على الأولاد الموسرين بقدر
اليسار إذا تفاوتوا فيه.
_________
(1) فتح القدير: 348/ 3 وما بعدها، الشرح الصغير: 752/ 2 وما بعدها،
المهذب: 165/ 2 وما بعدها، المغني: 583/ 7 وما بعدها.
(2) حاشية ابن عابدين: 934/ 2 وما بعدها.
(3) الشرح الصغير: 752/ 2.
(10/7423)
وقرر الشافعية (1): أنه إن اتحدت درجة
قرابة الفروع كابنين أو بنتين، أنفقا بالتساوي وإن تفاوتا في قدر اليسار،
أو أيسر أحدهما بالمال، والآخر بالكسب؛ لأن علة إيجاب النفقة تشملهما.
وإن اختلفت درجة قرابة الفروع كابن وابن بنت، فالأصح أن النفقة على أقربهما
وهو الابن هنا، سواء أكان وارثاً أم غيره، ذكراً كان أم أنثى؛ لأن القرب
أولى بالاعتبار. فإن استوى قربهما فتجب في الأصح النفقة بالإرث، لقوته.
وإذا تساوى الفرعان في الإرث، فكانا وارثين كابن وبنت، فهناك وجهان: قيل:
يستويان في قدر الإنفاق، أي كما قال الحنفية، وقيل: يوزع الإنفاق عليهما
بحسب الإرث، والوجه الأول أوجه.
ورأى الحنابلة (2): أنه إن اتحدت درجة قرابة الفروع كابن وبنت، فالنفقة
بينهما أثلاثاً كالميراث، كالوجه الثاني لدى الشافعية، لقوله تعالى: {وعلى
الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] فإنه رتب النفقة على الإرث، فيجب أن تترتب
في المقدار عليه. وإن اختلفت درجة القرابة كبنت وابن ابن، فالنفقة بينهما
نصفين كالميراث.
المطلب الرابع ـ مقدار نفقة الأصول:
نفقة القرابة في الجملة (3) تجب بقدر الكفاية كما تقدم؛ لأنها تجب للحاجة،
فقدرت بالكفاية.
_________
(1) مغني المحتاج: 450/ 3 وما بعدها.
(2) المغني: 591/ 7.
(3) المغني: 595/ 7، مغني المحتاج: 448/ 3، المهذب: 167/ 2.
(10/7424)
وعلى الولد في رأي الجمهور نفقة زوجة الأب
وإعفافه بالتزويج بزوجة واحدة، وكذا عند المالكية والحنابلة بأكثر من زوجة
إن لم يحصل الإعفاف بواحدة؛ لأنه معنى يحتاج إليه، ويلحقه الضرر بفقده،
فوجب كالنفقة. والراجح عند الحنفية عدم وجوب نفقة زوجة الأب؛ لأن الزوجة من
أعظم الملاذ، فلم تجب للأب كالحلواء لاتجب له.
المبحث الرابع ـ نفقة الحواشي وذوي الأرحام:
يشتمل على مطالب ثلاثة:
الأول ـ وجوب نفقة الأقرباء من غير الأصول والفروع.
الثاني ـ شروط وجوب نفقة الحواشي وذوي الأرحام.
الثالث ـ تعدد من تجب عليهم نفقة الأقارب.
المطلب الأول ـ وجوب نفقة الأقرباء من غير
الأصول والفروع:
تجب نفقة الأقارب من الحواشي وذوي الأرحام كالإخوة والأخوال والأعمام
وأبناء الإخوة والعمات والخالات (1) لقوله تعالى: {وآتِ ذا القربى حقه}
[الإسراء:26/ 17] وقوله سبحانه: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً،
وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى} [النساء:36/ 4] وقوله صلّى الله عليه
وسلم: «يد المعطي العليا، وابدأ
_________
(1) فتح القدير: 350/ 3، الدر المختار ورد المحتار: 937/ 2 وما بعدها،
القوانين الفقهية: ص221 - 223، المهذب: 166/ 2، المغني: 585/ 7 وما بعدها.
(10/7425)
بمن تعول، أمَّك وأباك، وأختك وأخاك، ثم
أدناك أدناك» (1) وقال رجل: يارسول الله، من أبر؟ قال: «أمَّك وأباك،
وأختك، وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصولة» (2).
فهذه الآيات والأحاديث تدل على وجوب الإنفاق على القريب العاجز. وللعلماء
آراء ثلاثة:
الأول ـ مذهب الحنفية: أن النفقة تجب
لكل ذي رحم محرم كالعم والأخ وابن الأخ والعمة والخالة والخال، ولا تجب
لغير ذي رحم محرم كابن العم وبنت العم، ولا لمحرم غير ذي رحم كالأخ رضاعاً.
الثاني ـ مذهب الحنابلة: أن النفقة تجب
لكل قريب وارث، بفرض أو تعصيب كالأخ الشقيق أو لأب أو لأم، والعم، وابن
العم، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة والعمة ونحوهم ممن لا
يرث بفرض ولا تعصيب؛ لأن قرابتهم ضعيفة، وإنما يأخذون مال المتوفى القريب
عند عدم الوارث، فهم كسائر المسلمين.
ورأى ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من بعض الحنابلة: أن النفقة تجب لكل
قريب من غير الأصول والفروع (غير عمودي النسب) إذا كان وارثاً، فتجب النفقة
لذوي الأرحام كالعمة والخالة والخال، لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك}
[البقرة:233/ 2] فقد جعل النفقة على المولود له لمن يستحق الإرث من
الأقرباء.
_________
(1) رواه النسائي عن طارق المحاربي، وأخرجه أيضاً ابن حبان والدارقطني
وصححاه (نيل الأوطار: 327/ 6).
(2) رواه أبو داود، والبغوي وابن قانع والطبراني في الكبير والبيهقي عن
كليب بن منفعة عن جده (المرجع السابق).
(10/7426)
الثالث ـ مذهب
المالكية والشافعية: ألا تجب نفقة من عدا الوالدين
والمولودين من الأقارب كالإخوة والأعمام وغيرهم؛ لأن الشرع ورد بإيجاب نفقة
الوالدين والمولودين، وأما من سواهم فلا يلحق بهم في الولادة وأحكامها، فلم
يلحق بهم في وجوب النفقة.
المطلب الثاني ـ شروط وجوب نفقة الحواشي وذوي
الأرحام:
لا يثبت وجوب نفقة هؤلاء الأقرباء عند الحنفية (1) إلا بالقضاء أو الرضا،
حتى لو ظفر أحدهم بجنس حقه قبل القضاء أو الرضا، ليس له الأخذ، بخلاف
الزوجة والولد والأبوين، فإن لهم الأخذ قبل ذلك. وتسقط هذه النفقة بمضي
المدة، بعد قضاء القاضي بها، لأنها تجب كفاية للحاجة، فلا تجب مع اليسار،
إلا إن أذن القاضي بالاستدانة على القريب.
ويشترط لوجوب نفقة هؤلاء الأقرباء في رأي الحنفية ما يلي (2):
1 ً - أن يكون القريب ذا رحم محرم فقيراً، عاجزاً عن الكسب: لصغر أو أنوثة
أو مرض أو عمى، أي فلا تقتصر هذه النفقة على الصغير أو الأنثى، وإنما تشمل
الكبير العاجز عن الكسب بنحو مرض مزمن أو عمى؛ لأن الصلة في القرابة
القريبة واجبة دون البعيدة. والفاصل بينهما أن يكون ذا رحم محرم، وقد قال
تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] وقرأ ابن مسعود: «وعلى
الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك».
ولا بد من تحقق وصف الحاجة أو الصغر، أو الأنوثة، أو الزمانة، أو العمى
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 937/ 2، فتح القدير: 354/ 3.
(2) فتح القدير: 350/ 3 - 354، الدر المختار ورد المحتار: 938/ 2 - 941،
اللباب: 105/ 3 - 108.
(10/7427)
أمارة الحاجة، لتحقق العجز. فإن كان القريب
قادراً على الكسب فلا نفقة له على قريبه؛ لأنه غني بكسبه، فلا تجب نفقته
على أحد، بخلاف الأبوين؛ لأنه يلحقهما تعب الكسب، والولد مأمور بدفع الضرر
عنهما، فتجب نفقتهما مع قدرتهما على الكسب.
2 ً - اتحاد الدين مع القريب المنفق: فلا نفقة على القريب مع اختلاف الدين،
كما لا توارث مع اختلاف الدين، ووجوب النفقة على القريب مبني على استحقاق
الإرث.
وذلك بخلاف الزوجة والأصول والفروع علواً أو نزولاً؛ لأن نفقة الزوجة تجب
بمقابلة الاحتباس، وأما غيرها فلثبوت الجزئية، وجزء المرء في معنى نفسه،
فكما لا تمتنع نفقة نفسه بكفر، لا تمتنع نفقة جزئه، إلا أن هؤلاء إذا كانوا
حربيين لاتجب نفقتهم على المسلم، ولو كانوا مستأمنين؛ لأنا نهينا عن بر من
يقاتلنا في الدين.
3 ً - أن يكون المنفق موسراً: فلو كان القريب المحرم معسراً، لا تجب عليه
النفقة لقريبه المحتاج، ولو كان قادراً على الكسب؛ لأن وجوب هذه النفقة
بطريق الصلة، والصلة تجب على الغني لا على الفقير.
واختلف الصاحبان في حد اليسار الذي يتعلق به
وجوب هذه النفقة (1):
فقال أبو يوسف: الموسر: هو الذي يملك نصاب الزكاة وهو عشرون مثقالاً أو
ديناراً من الذهب (2) أو مائتا درهم فضة؛ لأن الغني في الشرع هو مالك
النصاب الذي تستحق فيه الزكاة، ونفقة ذي الرحم صلة، والصلات إنما تجب على
الأغنياء كالصدقة.
_________
(1) البدائع: 35/ 4.
(2) تساوي العشرون مثقالاً ذهبياً 96 غم بالمثقال العجمي و 100 غم بالمثقال
العراقي.
(10/7428)
وقال محمد: الموسر: هو من له نفقة شهر،
وعنده مال فاضل عن نفقة شهر لنفسه ولعياله؛ لأن ما زاد على كفاية شهر، فهو
غني عنه في الحال، والشهر يتسع للاكتساب، فكان عليه صرف الزيادة إلى
أقاربه، قال الكاساني: وما قاله محمد أوفق، وهوأنه إذا كان له كسب دائم،
وهو غير محتاج إلى جميعه، فما زاد كفايته، يجب صرفه إلى أقاربه كفضل ماله
إذا كان له مال. ولا يعتبر النصاب؛ لأن النصاب إنما يعتبر في وجوب حقوق
الله تعالى المالية، والنفقة حق العبد الآدمي، فلا معنى لاعتبار النصاب
فيها، وإنما يعتبر فيها إمكان الأداء.
المطلب الثالث ـ من تجب عليهم نفقة الأقارب:
عرفنا أنه إذا لم يكن لمستحق النفقة إلا قريب واحد موسر: فإن كان القريب من
أصوله أوفروعه، وجبت نفقته عليه، ولو لم يكن وارثاً له، كجد لأم أوابن بنت.
وذلك باتفاق الجمهور غير المالكية.
وإن كان القريب من الحواشي، وجبت نفقته عليه في رأي الحنفية إن كان ذا رحم
محرم كالأخ والعم والعمة، وفي رأي الحنابلة إن كان وارثاً بفرض أو تعصيب
كالأخ لأم وابن العم.
أما إن تعدد من تجب عليهم نفقة الأقارب، فقد اختلف الحنفية مع المذاهب
الأخرى في توزيع النفقة عليهم.
مذهب الحنفية:
توزع النفقة على الأقارب في رأي الحنفية (1) بحسب أصنافهم في الحالات
الأربع التالية وهي:
الأولى: أن يكون لمستحق النفقة أصول وفروع.
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 934/ 2 - 936، الأحوال الشخصية، زكي الدين شعبان:
ص702 - 708.
(10/7429)
الثانية: أن يكون له أصول وحواشي
(1).الثالثة: أن يكون له فروع وحواشي.
الرابعة: أن يكون له خليط من الأصول والفروع والحواشي.
وأبين حكم كل حالة فيما يأتي:
الحالة الأولى ـ أن يكون لمستحق النفقة أصول
وفروع:
إذا كان لمستحق النفقة أصول وفروع: فإن تفاوتا في درجة القرابة وجبت النفقة
على الأقرب، سواء أكان وارثاً أم غير وارث. مثل أب وابن ابن أو بنت بنت،
ومثل أم وابن ابن، تجب النفقة على الأب في المثال الأول، وعلى الأم في
المثال الثاني؛ لأن الأب والأم أقرب درجة. ولكن يلاحظ أن النفقة تجب حينئذٍ
على غير الوارث.
وإن تساووا في درجة القرابة: وجبت النفقة بنسبة ميراثهم، إلا إذا كان فيهم
ابن أو بنت، فالنفقة على الابن أو البنت، ففي أب وابن تجب النفقة على الابن
لترجحه بقول صلّى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» وفي جد (أبي أب) وبنت
بنت، تكون النفقة على الجد؛ لأنه الوارث، وأما بنت البنت فهي من ذوي
الأرحام، لا ترث مع الجد.
الحالة الثانية ـ أن يكون لمستحق النفقة أصول
وحواشي:
إذا كان لمستحق النفقة أصول وحواشي، كأم وأخ شقيق أو لأب: فإن كان
_________
(1) الحواشي: من ليس من عمود النسب، أي ليس أصلاً ولا فرعاً.
(10/7430)
كل من الصنفين وارثاً، وجبت النفقة عليهم
بنسبة الإرث. وإن كان أحد الصنفين وارثاً، والآخر غير وارث، فالنفقة على
الأصول وحدهم، ولو كانوا غير وارثين، ترجيحاً لاعتبار الجزئية على غيرها.
مثال كون الأصل وارثاً: جد لأب وأخ شقيق، تكون النفقة على الجد.
ومثال كون الأصل غير وارث: جد لأم وعم، تكون النفقة على الجد أيضاً، لترجحه
في المثالين بالجزئية.
ومثال كون كلا الصنفين وارثاً: أم وأخ، أو ابن أخ أو عم، يكون على الأم ثلث
النفقة، وعلى العصبة الثلثان.
الحالة الثالثة ـ أن يكون لمستحق النفقة فروع
وحواشي:
إذا كان لمستحق النفقة فروع وحواشي، فالنفقة تجب على الفروع، ولا شيء على
الحواشي ولو كانوا وارثين، لترجح قرابة الجزئية على غيرها.
ففي بنت وأخت شقيقة، تكون النفقة على البنت فقط، ولا شيء على الأخت، وإن
ورثت النصف.
وفي ابن نصراني، وأخ مسلم، تكون النفقة على الابن فقط، وإن كان الوارث هو
الأخ.
الحالة الرابعة ـ أن يكون لمستحق النفقة خليط
من الأصول والفروع والحواشي:
إذا كان لمستحق النفقة أقارب من الأصول والفروع والحواشي، فالحكم كالحالة
الأولى، تكون النفقة على الأصول والفروع على النحو المبين في الحالة
(10/7431)
الأولى، لقوة قرابة الجزئية بالنسبة
لغيرها، ويسقط الحواشي بالفروع، فكأنه لم يوجد سوى الفروع والأصول.
وإن وجد الأصول وحدهم وكان معهم أب، فالنفقة عليه فقط ولا يشارك الأب في
نفقة ولده أحد، وإن وجد الحواشي فقط، وزعت النفقة بمقدار الميراث مع كون
الواحد ذا رحم محرم.
مذهب الحنابلة:
أولاً ـ تجب النفقة في رأي الحنابلة (1) على الأقارب بحسب الإرث، فمن له أم
وجد، فعلى الأم ثلث النفقة، وعلى الجد ثلثا النفقة. ومن له ابن وبنت،
فالنفقة بينهما أثلاثاً كالميراث، ومن له جدة وأخ، فعلى الجدة سدس النفقة
والباقي على الأخ. ومن له بنت وأخت، فعلى البنت النصف، وعلى الأخت النصف.
ومن له أبو أم، فالنفقة على أم الأم؛ لأنها الوارثة. ومن له أبو أب، فعلى
أم الأب السدس، والباقي على الجد، وإن اجتمع جد وأخ، فهما سواء. وإن اجتمعت
أم وأخ وجد، فالنفقة بينهم أثلاثاً.
واستثنوا من قاعدتهم ما إذا كان للمستحق أب، فعليه النفقة وحده، ولم تجب
على من سواه، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} [البقرة:233/
2] وهذا بخلاف الحنفية حيث يجعلون النفقة على الابن وحده إن وجد.
ثانياً ـ إذا اجتمع أصل وفرع وارثان، وكان أقربهما معسراً والأبعد موسراً،
وجبت النفقة على الموسر الأبعد، فمن له أم فقيرة، وجدة موسرة، فالنفقة على
الجدة فقط.
_________
(1) المغني: 587/ 7 - 593.
(10/7432)
ثالثاً ـ إذا اجتمع قريبان موسران، وأحدهما
محجوب عن الميراث بقريب فقير، فإذا كان المحجوب من عمودي النسب (الأصول
والفروع) لا تسقط عنه النفقة، وإن كان من غيرهما، فلا نفقة عليه. فمن كان
له أبوان وجد، والأب معسر، فالأب كالمعدوم، وتكون النفقة أثلاثاً، على الأم
الثلث، وعلى الجد الباقي. ومن له أبوان وأخوان وجد، والأب معسر، فلا شيء
على الأخوين؛ لأنهما محجوبان، وليسا من عمودي النسب، وتكون النفقة على الأم
الثلث، والباقي على الجد، كالمسألة السابقة.
رابعاً ـ إذا لم يكن لمستحق النفقة إلا واحد موسر من ورثته، لزمته النفقة
بقدر ميراثه فقط، على الصحيح من المذهب.
وتقدم الزوجة على باقي الأقارب، عملاً بحديث جابر المتقدم: «إذا كان أحدكم
فقيراً، فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فعلى عياله، فإن كان له فضل فعلى
قرابته».
وقد أخذ القانون السوري بمذهب الحنابلة لعدالته، واتفاقه مع قاعدة «الغرم
بالغنم» فتوزع النفقات بحسب الإرث، ولا يتقيد إيجاب النفقة للأقرباء
بالمحرمية. أما المذهب الحنفي فقد يوجب النفقة أحياناً على قريب لا يرث،
ولا يوجبها على القريب الوارث. وأما بقية أحكام النفقات فمأخوذة من الفقه
الحنفي.
مذهب الشافعية:
توزع النفقة في رأي الشافعية (1) على الوالدين والمولودين على النحو
التالي:
من استوى فرعاه في القرب والإرث أو عدمهما كابنين أو بنتين، أو ابن
_________
(1) مغني المحتاج: 450/ 3 - 451، المهذب: 166/ 2.
(10/7433)
وبنت، فعليهما النفقة بالسوية، لا بحسب
الميراث، وإن تفاوتا في قدر اليسار، أو أيسر أحدهما بالمال والآخر بالكسب.
وإن كان أحدهما أقرب والآخر وارثاً، وجبت النفقة على الأقرب دون الوارث في
الأصح.
وإن استويا في استحقاق الإرث، كبنت وبنت ابن، كانت النفقة عليهما.
وإن تساويا في القرب، فيقدم الوارث في الأصح لقوته، كابن وابن بنت، تجب
النفقة على الأول دون الثاني.
وإن تساويا في الإرث كابن وبنت، فهناك وجهان: قيل: يستويان، وقيل: توزع
النفقة بحسب الإرث، والأول أوجه.
والقاعدة في الأصول قريبة من قاعدة الفروع، فمن له أبوان، فالنفقة على
الأب، ومن له أجداد وجدات فعلى الأقرب إن أدلى بعضهم ببعض، أما إن لم يُدْل
بعضهم ببعض، فيقدم بالقرب.
ومن له أصل وفر ع: فالنفقة في الأصح على الفرع، وإن بعُد، كأب وابن ابن؛
لأن عصوبته أقوى.
وتقدم الزوجة عندهم على باقي الأقارب، كما قال الحنابلة؛ لأن نفقتها آكد؛
لأنها لا تسقط بمضي الزمان.
مذهب المالكية:
توزع النفقة في رأي المالكية الراجح (1) على الأولاد الموسرين بقدر اليسار
إذا تفاوتوا فيه. وقيل: توزع بحسب الرؤوس، بغض النظر عن الذكورة والأنوثة.
_________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 752/ 2 وما بعدها.
(10/7434)
وقيل: توزع بحسب الإرث، فعلى الذكر مثل حظ
الأنثيين.
نفقة الأقارب في القانون السوري:
أخذ القانون السوري بمذهب الحنفية في نفقة الأقرباء ما عدا توزيع النفقات
عند تعدد من تجب عليه النفقة، وإيجابها بها لهم بدون تقييد بالمحرمية، فإنه
أخذ ذلك من المذهب الحنبلي. وها هي نصوص القانون:
(م 154) ـ نفقة كل إنسان في ماله، إلا الزوجة فنفقتها على زوجها.
(م 155) ـ
1 - إذا لم يكن للولد مال، فنفقته على أبيه، ما لم يكن فقيراً عاجزاً عن
النفقة والكسب لآفة بدنية أو عقلية.
2 - تستمر نفقة الأولاد إلى أن تتزوج الأنثى، ويصل الغلام إلى الحد الذي
يكتسب فيه أمثاله.
(م 156) -
1 - إذا كان الأب عاجزاً عن النفقة، غير عاجز عن الكسب، يكلف بنفقة الولد
من تجب عليه عند عدم الأب.
2 - تكون هذه النفقة ديناً للمنفق على الأب يرجع عليه بها إذا أيسر.
(م 157) -
1 - لا يكلف الأب بنفقة زوجة ابنه إلا إذا تكفل بها.
2 - يكون إنفاق الأ ب في هذه الحالة ديناً على الولد، إلى أن يوسر.
(10/7435)
(م 158) - يجب على الولد الموسر ذكراً كان
أو أنثى، كبيراً كان أو صغيراً نفقة والديه الفقراء، ولوكانا قادرين على
الكسب، ما لم يظهر تعنت الأب في اختيار البطالة على عمل أمثاله كسلاً أو
عناداً.
(م 159) ـ تجب نفقة كل فقير عاجز عن الكسب لآفة بدنية أو عقلية، على من
يرثه من أقاربه الموسرين بحسب حصصهم الإرثية.
(م 160) ـ لا نفقة مع اختلاف الدين إلا للأصول والفروع.
(م 161) - يقضى بنفقة الأقارب من تاريخ الادعاء، ويجوز للقاضي أن يحكم
بنفقة الأولاد على أبيهم عن مدة سابقة للادعاء، على ألا تتجاوز أربعة أشهر.
(10/7436)
|