الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

البَابُ الرَّابع: الوَصايا (1)
يتضمن بحث الوصايا (1) ثلاثة فصول:
الأول ـ في الوصية، والثاني ـ في تصرف مريض الموت، والثالث ـ في الوصاية.
أما الفصل الأول فيشتمل على سبعة مباحث:
المبحث الأول ـ معنى الوصية ومشروعيتها وركنها وكيفية انعقادها.
المبحث الثاني ـ شروط الوصية.
المبحث الثالث ـ أحكام الوصية (صفتها من حيث اللزوم وعدمه، أثرها في التمليك، أحكام الوصي، أحكام الموصى له، أحكام الموصى به، مقدار الوصية، الوصية للوارث، الوصية بمثل نصيب وارث، الوصية بالأجزاء، تنفيذ الوصية).
المبحث الرابع ـ مبطلات الوصية.
المبحث الخامس ـ تزاحم الوصايا.
المبحث السادس ـ الوصية الواجبة قانوناً.
المبحث السابع ـ إثبات الوصية.
_________
(1) المراد بالوصايا: ما يعم الوصية والإيصاء، يقال: «أوصى إلى فلان» أي جعله وصياً، والاسم منه الوصاية.

(10/7437)


الفَصْلُ الأوّل: الوصيّة يشتمل على تمهيد وسبعة مباحث:
تمهيد:

تاريخ الوصية: الوصية نظام قديم، لكنه اقترن في بعض العهود بالظلم والإجحاف، فعند الرومان: كان لرب العائلة حق التصرف بطريق الوصية تصرفاً غير مقيد بشيء، فقد يوصي لأجنبي، ويَحْرِم أولاده من حق الميراث. ثم انتهى الأمر إلى وجوب الاحتفاظ للأولاد بربع ميراث أبيهم، بشرط ألا يكونوا قد أتوا في سلوكهم مع مورثهم ما يوغر صدره إيغاراً شديداً.
وعند العرب في الجاهلية: كانوا يوصون للأجانب تفاخراً ومباهاة، ويتركون الأقارب في الفقر والحاجة (1).
وجاء الإسلام فصحح وجهة الوصية على أساس الحق والعدل، فألزم الناس أصحاب الأموال قبل تشريع الميراث بالوصية للوالدين والأقربين، فكانت الوصية في مبدأ الإسلام واجبة بكل المال للوالدين والأقربين بقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/ 2].
_________
(1) الوصية في الشريعة الإسلامية لأستاذنا المرحوم عيسوي أحمد عيسوي: ص 9.

(10/7438)


وحينما نزلت آيات سورة النساء بتشريع المواريث تفصيلاً، قيدت الوصية المشروعة في الإسلام بقيدين:
الأول ـ عدم نفاذ للوارث إلا بإجازة الورثة، لقوله صلّى الله عليه وسلم في خطبة عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» (1) أما الوالدان فصار لهما نصيب مفروض من التركة، وصارت الوصية مندوبة لغير الوارثين.
الثاني ـ تحديد مقدارها بالثلث: لقوله صلّى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص الذي أراد الإيصاء بثلثي ماله أو بشطره، إذ لا يرثه إلا ابنة له: «الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» (2).
أما الزائد عن الثلث فهو من حق الورثة، لا ينفذ تصرف المورث فيه إلا بموافقتهم ورضاهم.

المبحث الأول ـ معنى الوصية ومشروعيتها وركنها وكيفية انعقادها وأثره (3):
أولاً ـ معنى الوصية ونوعاها: الوصية هي الإيصاء، وتطلق لغة بمعنى العهد
_________
(1) حديث متواتر رواه اثنا عشر صحابياً، وأرسله خمسة من التابعين، فمن الصحابة رواه أبو أمامة عند أبي داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والبيهقي وعبد بن حميد في مسنده، باللفظ المذكور (نصب الراية: 403/ 4 - 405). وقرر الشافعي في الأم أن متن هذا الحديث متواتر (نيل الأوطار: 40/ 6).
(2) رواه الجماعة (أحمد والأئمة الستة) عن سعد بن أبي وقاص (نصب الراية: 401/ 4، نيل الأوطار: 37/ 6).
(3) البدائع: 330/ 7 - 334، تكملة فتح القدير: 417/ 8 - 419، 511، القوانين الفقهية ورد المحتار: 457/ 5 - 459، 465، اللباب: 168/ 4، الشرح الصغير: 579/ 4 - 585، 601، القوانين الفقهية: ص 405، بداية المجتهد: 328/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 38/ 3 - 40، 52، 73، المهذب: 449/ 1، 452، المغني: 51/ 6، 25، كشاف القناع: 371/ 4 - 375، 383، غاية المنتهى: 348/ 2، 351 - 352.

(10/7439)


إلى الغير في القيام بفعل أمر، حال حياته أو بعد وفاته، يقال: أوصيت له أو إليه: جعلته وصياً يقوم على من بعده. وهذا المعنى اشتهر فيه لفظ: الوصاية.
وتطلق أيضاً على جعل المال للغير، يقال: وصيت بكذا أو أوصيت، أي جعلته له. والوصايا جمع وصية تعم الوصية بالمال، والإيصاء أو الوصاية والوصية في اصطلاح الفقهاء: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع، سواء أكان المُملَّك عيناً أم منفعة. وبه تميزت عن التمليكات المنجزة لعين كالبيع والهبة، ولمنفعة كالإجارة، والإضافة لغير الموت كالإجارة المضافة لوقت في المستقبل كأول الشهر المقبل. وتميزت عن الهبة التي هي تبرع أو تمليك بغير عوض بكونها بعد الموت، والهبة حال الحياة. وشمل التعريف الإبراء عن الدين؛ لأن الإبراء تمليك الدين لمن عليه الدين.
هذا ما أريده هنا وهو كون الوصية عقداً أو تصرفاً في المال، وقد عرفها بعض الفقهاء بما هوأعم مما ذكر، فقال: هي الأمر بالتصرف بعد الموت، وبالتبرع بمال بعد الموت. فشمل الوصية لإنسان بتزويج بناته أو غسله أو الصلاة عليه إماماً.

نوعاها: تصح الوصية مطلقة ومقيدة، ف المطلقة: أن يقول: أوصيت لفلان بكذا. والمقيدة أو المعلَّقة: أن يقول: إن مت من مرضي هذا أو في هذه البلدة، أو في هذه السفرة، فلفلان كذا. فإن تحقق الشرط صحت، وإلا بأن برئ من مرضه، أو لم يمت في تلك البلدة أو السفرة، بطلت، لعدم وجود الشرط المعلَّق عليه.
وعرَّف الوصيةَ قانون الأحوال الشخصية السوري وقانون الوصية المصري بأنها «تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت».
جاء في المذكرة التفسيرية للقانون المصري:

(10/7440)


وقد عدل عن لفظ «تمليك» الوارد في تعريف الحنفية إلى لفظ «تصرف» (1) ليشمل جميع مسائل الوصية.
فهو يشمل ما إذا كان الموصى به مالاً أو منفعة، والموصى له من أهل التملك، كالوصية لمعين بالاسم أو بالوصف، وهو ممن يحصون، أو معيناً بالوصف ممن لا يحصون كالوصية للفقراء، وما إذا كان الموصى له جهة من جهات البر كالملاجئ والمدارس.
ويشمل ما إذا كان الموصى به إسقاطاً فيه معنى التمليك كالوصية بالإبراء من الدين، وما إذا كان الموصى به إسقاطاً محضاً بإبراء الكفيل من الكفالة، وما إذا كان الموصى به حقاً من الحقوق التي ليست مالاً ولا منفعة ولا إسقاطاً، ولكنه مالي لتعلقه بالمال، كالوصية بتأجيل الدين الحالّ، والوصية بأن يباع عقاره مثلاً من فلان.
والمراد بالتركة: كل ما يخلف فيه الوارث المورث، مالاً كان أو منفعة، أو حقاً من الحقوق الأخرى المتعلقة بالمال التي تنتقل بالموت من المورث إلى الوارث.

ثانياً ـ مشروعية الوصية: هذا يشمل أدلة المشروعية وسببها أو حكمتها، ونوع حكمها الشرعي.
أما أدلة المشروعية: فهي الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ، إن ترك
_________
(1) التصرف أعم من كلمة «العقد» لأن العقد هو مجموع الإيجاب والقبول، وأما التصرف فيشمل كل ما يلتزمه الإنسان ويترتب عليه حكم شرعي، سواء صدر من طرف واحد أو من طرفين، وكل ما كان غير التزام. وبما أن الوصية تنشأ في الراجح لدى الحنفية بإرادة واحدة هي إرادة الموصي، فهي من قبيل التصرفات، على هذا الرأي.

(10/7441)


خيراً، الوصيةُ للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/ 2] وقوله سبحانه: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:11/ 4]. {من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:12/ 4]. فالآية الأولى دلت على مشروعية الوصية للأقارب، والآيتان الأخريان جعلت الميراث حقاً مؤخراً عن تنفيذ الوصية وأداء الدين، لكن الدين مقدم على الوصية، لقول علي رضي الله عنه: «إنكم تقرؤون هذه الآية: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:11/ 4]، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى أن الدين قبل الوصية» (1).
وأما السنة: فحديث سعد بن أبي وقاص السابق: «الثلث والثلث كثير»، وحديث «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم، بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم» (2)، وحديث «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» (3)، وخبر ابن ماجه: «المحروم: من حرم الوصية، من مات على وصية، مات على سبيل وسنة، وتقى وشهادة، ومات مغفوراً له».
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جواز الوصية.
وأما المعقول: فهو حاجة الناس إلى الوصية زيادة في القربات والحسنات، وتداركاً لما فرط به الإنسان في حياته من أعمال الخير.
_________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه خمسة من الصحابة وهم: أبو هريرة، وأبو الدرداء، ومعاذ، وأبو بكر الصديق، وخالد بن عبيد، وحديث أبي هريرة باللفظ المذكور رواه ابن ماجه والبزار (نصب الراية: 399/ 4 - 400).
(3) رواه الجماعة عن ابن عمر، واحتج به من يعمل بالخط إذا عرف (نيل الأوطار: 33/ 6) ومعناه: ليس من الرأي السديد أن يمر على الإنسان زمن يملك فيه مالاً، يوصي به، ولا يكتب وصيته، ففيه الحث على المبادرة بكتابة الوصية.

(10/7442)


وسبب المشروعية أو حكمتها: هو سبب كل التبرعات، وهو تحصيل فائدة الخير في الدنيا، ونوال الثواب في الآخرة. لذا شرعها الشارع تمكيناً من العمل الصالح، ومكافأة من أسدى للمرء معروفاً، وصلة للرحم والأقارب غير الوارثين، وسد خلة المحتاجين، وتخفيف الكرب عن الضعفاء والبؤساء والمساكين. وذلك بشرط التزام المعروف أو العدل، وتجنب الإضرار في الوصية، لقوله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين، غير مضار} [النساء:12/ 4]. ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «الإضرار في الوصية من الكبائر» (1)، والعدل المطلوب: قصرها على مقدار ثلث التركة المحدد شرعاً. أما عدم نفاذ الوصية لوارث إلا بإجازة الورثة الآخرين، فهو لمنع التباغض والتحاسد وقطيعة الرحم.
ونوع حكم الوصية الشرعي: هو الندب أو الاستحباب، فهي مندوبة ولو لصحيح غير مريض؛ لأن الموت يأتي فجأة، فلا تجب الوصية على أحد بجزء من المال، إلا على من عليه دين أو عنده وديعة أو عليه واجب يوصي بالخروج منه، فإن الله تعالى فرض أداء الأمانات، وطريقه الوصية.
والدليل على عدم وجوب الوصية: أن أكثر الصحابة لم ينقل عنهم وصية، ولأنها تبرع أو عطية لا تجب في حال الحياة، فلا تجب بعد الممات، كعطية الفقراء الأجانب غير الأقارب. أما الآية السابقة: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين .. } [البقرة:180/ 2] فمنسوخة بقوله تعالى: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء:7/ 4] كما قال ابن عباس. وقال ابن عمر: نسختها آية الميراث.
_________
(1) الإضرار في الوصية: أن يوصي بأكثر من الثلث، والإضرار في الدين: أن يبيع بأقل من ثمن المثل، ويشتري بأكثر منه. والحديث رواه الدارقطني في سننه.

(10/7443)


وبعد نسخ وجوب الوصية يبقى الاستحباب في حق من لا يرث، للأحاديث السابقة، التي منها: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم».
والأفضل أن يجعل وصيته لأقاربه الذي لا يرثون إذا كانوا فقراء، باتفاق أهل العلم، لقوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه} [الإسراء:26/ 17] وقوله سبحانه: {وآتى المال على حبه ذوي القربى} [البقرة:177/ 2] فبدأ بهم، ولقوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، من المؤمنين والمهاجرين، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً} [الأحزاب:6/ 33] وفسر بالوصية.
ولأن الصدقة عليهم في الحياة أفضل، فكذلك بعد الموت. فإن أوصى لغيرهم، وتركهم، صحت وصيته في قول أكثر العلماء.
وقد تصبح الوصية مكروهة أو حراماً.

وبه يتبين أن الوصية أربعة أنواع بحسب صفة حكمها الشرعي:
1 - واجبة: كالوصية برد الودائع والديون المجهولة التي لا مستند لها، وبالواجبات التي شغلت بها الذمة كالزكاة، والحج والكفارات، وفدية الصيام والصلاة ونحوها. وهذا متفق عليه. قال الشافعية: يسن الإيصاء بقضاء الحقوق من الدين ورد الودائع والعواري وغيرها، وتنفيذ الوصايا إن كانت، والنظر في أمر الأطفال ونحوهم كالمجانين ومن بلغ سفيهاً. وتجب الوصية بحق الآدميين كوديعة ومغصوب إذا جهل ولم يعلم.
2 - مستحبة: كالوصية للأقارب غير الوارثين، ولجهات البر والخير والمحتاجين، وتسن لمن ترك خيراً (وهو المال الكثير عرفاً) بأن يجعل خُمسه لفقير قريب، وإلا فلمسكين وعالم وديِّن.

(10/7444)


3 - مباحة: كالوصية للأغنياء من الأجانب والأقارب، فهذه الوصية جائزة.

4 - مكروهة تحريما ً عند الحنفية: كالوصية لأهل الفسوق والمعصية. وتكره بالاتفاق لفقير له ورثة، إلا مع غناهم فتباح.
وقد تكون حراما ً غير صحيحة اتفاقاً كالوصية بمعصية، كبناء كنيسة أو ترميمها، وكتابة التوراة والإنجيل وقراءتهما، وكتابة كتب الضلال والفلسفة وسائر العلوم المحرمة، والوصية بخمر أو الإنفاق على مشروعات ضارة بالأخلاق العامة، وتحرم أيضاً بزائد على الثلث لأجنبي، ولوارث بشيء مطلقاً، والصحيح من المذهب عند الحنابلة أن الوصية بالزائد عن الثلث مكروهة، أو لوارث حرام.
والأفضل تعجيل الوصايا لجهات البر في الحياة، وعدم تأخيرها لما بعد الوفاة؛ لأنه لا يأمن إذا أوصى أن يفرط به بعد موته، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الروح الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان» (1).
وعلى هذا تكون الصدقة في حال الحياة أفضل من الوصية؛ لأن المتصدق يجد ثواب عمله أمامه، ولصريح حديث أبي هريرة المتقدم.

ثالثاً ـ أركان الوصية: قال صاحب الدر المختار من الحنفية: ركن الوصية: الإيجاب فقط من
_________
(1) رواه الشيخان، وأصحاب السنن إلا الترمذي، ورواه أحمد في مسنده.
ومعنى قوله «صحيح شحيح» أي أن الإنسان في حال القوة يكون غالباً بخيلاً، لما يأمله من البقاء، وحذر الفقر، فتكون الصدقة أعظم للأجر. ومعنى «إذابلغت الحلقوم» أي قاربت بلوغه.

(10/7445)


الموصي، بأن يقول: أوصيت لفلان بكذا، ونحوه من الألفاظ. وأما القبول من الموصى له فهو شرط، لا ركن؛ أي أنه شرط في لزوم الوصية وثبوت ملك الموصى به.
وهذا قول زفر، وهو الراجح لدى الحنفية؛ لأن ملك الموصى له بمنزلة ملك الوارث؛ لأن كل واحد من الملكين ينتقل بالموت، ولا يحتاج ملك الوارث إلى قبول، فيقاس عليه ملك الموصى له. وهذا هو الذي أخذ به قانون الأحوال الشخصية السوري (م 207)، والمصري (م 1) وبه تكون الوصية تصرفاً ينشأ بإرادة منفردة.
وقال الكاساني في البدائع: ركن الوصية عند أئمة الحنفية الثلاثة: الإيجاب والقبول، كسائر العقود مثل الهبة والبيع، إذ لا يثبت ملك إنسان باختياره من غير قبوله وسعيه، ولأن إثبات الملك له من غير قبوله يؤدي إلى الإضرار به، بخلاف الميراث، فإن الملك فيه ثبت جبراً من الشارع، فلا يشترط فيه القبول.
والمراد بالقبول: ما يكون صريحاً مثل قبلت، أو دلالة كموت الموصى له بعد موت الموصي بلا قبول ولا رد. ولا يصح قبول الوصية إلا بعد موت الموصي، فإن قبل الموصى له بعد موت الموصي، ثبت له ملك الموصى به، سواء قبضه أو لم يقبضه. فإن مات بعد موت الموصي قبل القبول أو الرد، انتقل الموصى به إلى ملك ورثته (1). وإن قبلها الموصى له في حال الحياة أو ردها، بطلت. هذا ما ذكره الكاساني والقدوري، والراجح لدى الحنفية أن الوصية تنشأ بإرادة الموصي.
ونص القانون المصري (م 20 - 24) على أحكام من مذهب الحنفية وغيره، مفادها: أن الوصية تلزم بقبولها من الموصى له بعد وفاة الموصي، وهو رأي
_________
(1) م 93 من مرشد الحيران لقدري باشا.

(10/7446)


الحنفية. ويقبل عن الجنين والصغير والمحجور عليه من له الولاية على مالهم، أخذاً من مذهب الشافعية في الجنين، ومن مذهب المالكية في المحجور عليه.
ويقبل عن جهات البر كالمؤسسات العلمية والدينية والملاجئ والمشافي ونحوها من يمثلها شرعاً أو قانوناً. ولا يعتبر القبول من الموصى لهم كطلبة المدرسة والموجودين بالملجأ أو المستشفى، أخذاً من مذهب الشافعية والإمامية.
ونصت المادة (20) على أنه إذا لم يكن لجهات البر من يمثلها كالفقراء والحج ونحوهما، فإن الوصية تلزم بلا قبول. ولا خلاف فيه بين المذاهب.
وفي المادة (21) يقوم الوارث مقام الموصى له إذا مات قبل القبول أو الرد، أخذاً من مذهب الشافعية.
ويصح القبول قبل الموت ويصح متراخياً، عملاً بمذهب الحنفية. أما رد الموصى له الوصية كلها أو بعضها قبل الموت فهو باطل.
ونصت المادة (23) على أن مطابقة القبول للإيجاب ليست شرطاً في لزوم الوصية. وتلزم الوصية فيما قبل، وتبطل فيما رد، وهو مذهب الحنفية.
وقال الجمهور: للوصية أركان أربعة: موص، وموصى له، وموصى به، وصيغة. والصيغة تنعقد بالإيجاب من الموصي كقوله: أوصيت له بكذا أو ادفعوا إليه أو أعطوه بعد موتي، والقبول من الموصى له المعين، ولا يصح قبول ولا رد في حياة الموصي، ولا يشترط الفور في القبول بعد الموت. وإن كانت الوصية لجهة عامة كمسجد أو لغير معين كالفقراء، فإنها تلزم بالموت بلا قبول. نص قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (225) على أن: «الوصية لغير معين لا تحتاج إلى قبول ولا ترتد برد أحد».

(10/7447)


رابعاً ـ كيفية انعقاد الوصية أو طرق إنشائها وأثر العقد: تنعقد الوصية شرعاً بأحد طرق ثلاثة: العبارة، أو الكتابة، أو الإشارة المفهمة، ونصت القوانين عليها (1).
أما العبارة: فلا خلاف بين الفقهاء في انعقاد الوصية باللفظ الصريح مثل: أوصيت لفلان بكذا، وغير الصريح الذي يفهم منه الوصية بالقرينة، مثل جعلت له بعد موتي كذا، أو اشهدوا أني أوصيت لفلان بكذا.
والقبول كما عرفنا يكون عند الجمهور غير الحنفية بعد الموت، فلا عبرة به في حياة الموصي. وإذا مات الموصى له، قام وارثه مقامه بالقبول. ويصح عند الحنفية قبل الموت.
ويكون القبول من الموصى له إذا كان بالغاً رشيداً، فإن لم يكن كذلك، قبل وليه عنه. وإذا كان الموصى له غير معين كالوصية للمسجد أو للفقراء والمساكين، لزمت الوصية بمجرد موت الموصي، بدون قبول، لتعذره في هذه الحالة. ولناقص الأهلية كالمميز والمحجور عليه لسفه أو غفلة قبول الوصية عند الحنفية.
وأما الكتابة: فلا خلاف أيضاً في أن الوصية تنعقد بها إذا صدرت من عاجز عن النطق، كالأخرس، ومثله عند الحنفية والحنابلة معتقل اللسان إذا امتدت عقلته، أو صار ميؤوساً من قدرته على النطق.
أما عند الشافعية فتصح وصية معتقل اللسان مطلقاً كالأخرس بالكتابة أو الإشارة كالبيع، وهذا هو المأخوذ به قانوناً.
_________
(1) الفقرة الأولى من المادة الثانية من قانون الوصية المصري، والمادة (208) من قانون الأحوال الشخصية السوري.

(10/7448)


وتنعقد الوصية بالكتابة من قادر على النطق (1) إذا ثبت أنه خط الموصي بإقرار وارث، أو بيِّنة تشهد أنه خطه، وإن طال الزمن.
هذا هو الراجح لدى الحنابلة، وقال الحنفية والمالكية: إذا كتب الشخص وصيته بيده، ثم أشهد، فقال: اشهدوا على ما في هذا الكتاب، جاز.
وقال الشافعية: الكتابة كناية، أي تنعقد الوصية بها مع النية، كالبيع، واشترطوا لإثبات الكتابة بالشهادة أن يُطْلع الموصي الشهود على ما في كتابه، فإن لم يطلعهم على ما في كتابه، لم تنعقد وصيته.
والدليل على جواز الاكتفاء بالكتابة: أن الكتابة لا تقل في بيان المراد عن العبارة، بل هي أقوى منها عند الحاجة إلى الإثبات.

وأما الإشارة المفهمة: فتنعقد بها الوصية من الأخرس أو معتقل اللسان، بشرط أن يصير معتقل اللسان عند الحنفية والحنابلة ميؤوساً من نطقه، بأن يموت كذلك. وإذا كان العاجز عن النطق عالماً بالكتابة، فلا تنعقد وصيته إلا بالكتابة؛ لأن دلالتها على المقصود أدق وأحكم، وهذا هو المأخوذ به قانوناً.
وتنعقد الوصية بالإشارة المفهمة أيضاً ولو من قادر على النطق عند المالكية.
والخلاصة: أن الناطق تنعقد وصيته بالعبارة (اللفظ) وبالكتابة، وكذا بالإشارة المفهمة عند المالكية، والأخرس ونحوه تنعقد وصيته بالعبارة، أو الكتابة،
_________
(1) يستحب أن يكتب في صدر وصيته: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به فلان، أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأوصي من تركت من أهلي أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصيهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يا بني، إن الله اصطفى لكم الدين، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة:132/ 2]. وتجب على من عليه حق بلا بينة، فيوصي بالخروج منه (غاية المنتهى: 348/ 2 وما بعدها).

(10/7449)


أو الإشارة إذا كان عاجزاً عن الكتابة، فإن كان عالماً بالكتابة فلا تنعقد وصيته إلا بالكتابة في رأي الأكثرين. أما القانون فقرر أنه لا تنعقد وصية الناطق إلا بالعبارة أو الكتابة ولا تنعقد بإشارته، وهو مذهب الحنفية. وأما الأخرس ومعتقل اللسان والمريض الذي لا يستطيع النطق، فإن كان عالماً بالكتابة فلا تنعقد وصيته إلا بها، وأما إذا كان لا يعرف الكتابة، فإن وصيته تنعقد بإشارته.

القبول المطلوب: للفقهاء رأيان فيه:
الأول ـ للحنفية: وهو أن القبول المطلوب: هو عدم الرد، فيكفي إما القبول الصريح، مثل قبلت الوصية أو رضيت بها، أو القبول دلالة، بأن يتصرف في الموصى به تصرف الملاك، كالبيع والهبة والإجارة.
ويملك الموصى له الموصى به بالقبول إلا في مسألة: وهي أن يموت الموصي، ثم يموت الموصى له قبل القبول، فيدخل الموصى به في ملك ورثته؛ لأن الوصية قد تمت من جانب الموصي بموته تماماً لا يلحقه الفسخ من جهته، وإنما توقف لحق الموصى له، فإذا مات دخل في ملكه، كما لو مات المشتري في أثناء الخيار الممنوح له قبل إجارة البيع. وقد أخذ القانون السوري (م/226) برأي الحنفية في الاكتفاء بعدم الرد.
الثاني ـ للجمهور: لا بد من القبول بالقول أو ما يقوم مقامه من التصرفات الدالة على الرضا، ولا يكتفى بعدم الرد؛ لأنه غير القبول المطلوب. وقد أخذ قانون الوصية المصري بهذا الرأي في المادة (20).

هل تشترط الفورية في القبول؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يشترط كون القبول في مدة معينة، ولا تشترط

(10/7450)


الفورية في القبول أو الرد، بل هو على التراخي، فيجوز بعد الوفاة، ولو إلى مدة طويلة؛ لأن الفور إنما يشترط في العقود المنجزة التي يرتبط القبول فيها بالإيجاب كالبيع، وليست الوصية منها، لكن رأى الشافعية أن للوارث الحق في مطالبة الموصى له بالقبول أو الرد، فإن امتنع بعدالمطالبة، كان امتناعه رداً للوصية، وهذا معقول؛ لأن فيه دفع الضرر عن الورثة. وقال الحنابلة: إن امتنع من قبول ورد، حكم عليه بالرد وسقط حقه.
ورعاية لدفع هذا الضرر اشترط القانون السوري (ف1/م227) أن يكون رد الوصية خلال ثلاثين يوماً من وفاة الموصي، أو من حين علم الموصى له بالوصية إن لم يكن عالماً حين الوفاة. وهذا من قبيل السياسة الشرعية، منعاً للإضرار بالورثة أو بالتركة.
وجعل القانون المصري (م 22) الحق لمن له تنفيذ الوصية طلب القبول أو الرد بإعلان رسمي، وحدد مدة الإجابة بثلاثين يوماً، فإن لم يجب بالقبول أو الرد، اعتبر ذلك منه رداً، فتبطل الوصية، ما لم يكن له عذر مقبول. وهو مأخوذ من مذهب الشافعية والحنابلة.

تجزؤ الرد ورد البعض دون البعض:
قد يتجزأ الرد، فيقبل الموصى له بعض الموصى به ويرد البعض الآخر كما إذا أوصي له بدار وأرض زراعية، فقبل الدار ورد الأرض الزراعية أو بالعكس، نفذت الوصية فيما قبله، وبطلت فيما رده؛ لأنه أدرى بمصلحته، ولا ضرر على غيره في التجزئة، فيقبل ما يطيب له، ويرد ما لا يرغب فيه، أي أنه لا يلزم مطابقة القبول للإيجاب.

(10/7451)


وإذا كانت الوصية لجماعة، فقبل بعضهم، ورد الآخرون، لزمت الوصية لمن قبل، وبطلت لمن رد؛ لأن بطلانها في نصيب من رد لا يؤثر في صحتها في نصيب من قبل.
لكن إذا شرط الموصي عدم التجزئة، وجب العمل بالشرط، لأن شرط الموصي محترم ما لم يخالف الشريعة.
وقد نصت القوانين على هذه الأحكام (1).

الرجوع عن الرد أو القبول:
إذا حصل الرد أو القبول، لم يجز بعدئذ الرجوع عن الرد إلى القبول، أو عن القبول إلى الرد، إلا إذا أجاز الورثة ذلك، فإن قبل الورثة جميعاً أو قبل أحدهم الرد، فسخت الوصية، وعاد الموصى به إلى التركة، وإذا أبى الورثة الرد، فلا عبرة به، وتبقى الوصية نافذة. هذا ما قرره القانون (2) عملاً بالمذهب الحنفي الذي يجيز الرد بعد القبول، وتفسخ الوصية بشرط أن يقبل الورثة منه الرد، كلهم أو بعضهم، ولو كان واحداً.
وقال الشافعية والحنابلة (3): لا يصح الرد بعد القبول والقبض؛ لأن الملك قد ثبت بالقبول، واستقر بالقبض، فلا يصح الرد؛ لأن ملكه قد استقر عليه، فأشبه رده لسائر ملكه، إلا أن يرضى الورثة بالرد، فيكون منه لهم هبة مبتدأة، تفتقر إلى شروط الهبة.
_________
(1) المادة 23 من قانون الوصية المصري لسنة 1946، والمادة 228 بفقرتيها من القانون السوري.
(2) المادة 24 من قانون الوصية المصري، والمادة 229 من قانون السوري.
(3) المهذب: 452/ 1 وما بعدها، كشاف القناع: 381/ 4 وما بعدها، المغني: 22/ 6 - 26.

(10/7452)


أما إن حصل الرد بعد القبول وقبل القبض، ففيه عند الشافعية وجهان: المنصوص عليه أنه يصح الرد؛ لأنه تمليك من جهة الآدمي من غير بدل، فصح رده قبل القبض كالوقف. ويصح الرد عند الحنابلة إن كان الموصى به مكيلاً أو موزوناً؛ لأنه لا يستقر ملكه عليه قبل قبضه، فأشبه رده قبل القبول. وإن كان غير ذلك لم يصح الرد؛ لأن ملكه قد استقر عليه، فهو كالمقبوض.
وفي كل موضع صح الرد فيه، فإن الوصية تبطل بالرد، وترجع إلى التركة، فتكون للورثة جميعهم؛ لأن الأصل ثبوت الحكم لهم.
والراجح رأي الشافعية والحنابلة بعدم صحة الرد بعد القبول وإن لم يوجد قبض، إلا على أنه تبرع مبتدأ، فيأخذ حكم التبرعات المنشأة، لثبوت ملك الموصى له بالتلقي عن الموصي، لا عن الورثة، وإن أخذ القانون برأي الحنفية.
ويحصل الرد بقوله: رددت الوصية أو لا أقبلها وما في معناه.

من يملك القبول والرد:
أـ اتفق الفقهاء على أن الموصى له المعين يملك بنفسه القبول والرد إذا كان كامل الأهلية رشيداً؛ لأنه صاحب الولاية على نفسه.
ب ـ واتفقوا أيضاً على أن الموصى له إذا كان فاقد الأهلية وهو المجنون والمعتوه والصبي غير المميز، ليس له القبول والرد؛ لأن عبارته ملغاة، وإنما يقبل وليه عنه أويرد.
جـ ـ واتفقوا أيضاً على أن الموصى له غير المعين لا يحتاج إلى قبول ولا رد، وإنما تلزم الوصية بمجرد إيجاب الموصي. وقد أخذ به القانون السوري (م 225)، أما القانون المصري (م 20)، فجعل حق القبول والرد عن المؤسسات والجهات

(10/7453)


والمنشآت لمن يمثلها قانوناً، فإن لم يكن لها من يمثلها قانوناً، لزمت الوصية من غير حاجة إلى قبول.
د ـ واختلف الفقهاء في ناقص الأهلية وهو الصبي غير المميز، والمحجور عليه بسبب السفه أو الغفلة:
فقال الحنفية: له القبول؛ لأن الوصية نفع محض له كالهبة والاستحقاق في الوقف، وليس له ولا لوليه الرد؛ لأنه ضرر محض، فلا يملكونه.
وقال الجمهور: أمر القبول والرد عن ناقص الأهلية لوليه، يفعل ما فيه الحظ والمصلحة.

موت الموصى له بلا قبول ولا رد:
إذا مات الموصى له بعد موت الموصي، بلا قبول ولا رد، فتصح الوصية عند الحنفية (1) استحساناً؛ لأن موته يعتبر قبولاً دلالة، ولأن الشرط عدم الرد، فتتم الوصية، ويدخل الموصى به في ملك ورثة الموصى له.
وينتقل حق القبول والرد إلى ورثة الموصى له عند الجمهور (2)، بعد موت الموصي، فمن قبل منهم أورد، فله حكمه؛ لأنه حق ثبت للمورث، فثبت للوارث بعد موته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من ترك حقاً أو مالاً فلورثته».

وقت ثبوت ملكية الموصى به للموصى له:
حكم الوصية بمعنى الأثر المترتب على الشيء: هو انتقال ملكية الموصى به
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 170/ 4.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 424/ 4، مغني المحتاج: 54/ 3، المغني: 23/ 6 وما بعدها، غاية المنتهى: 252/ 2.

(10/7454)


إلى الموصى له ملكاً جديداً بقبول الموصى له بعد وفاة الموصي، وبه تلزم الوصية بالاتفاق.
واتفق الفقهاء على أن الموصي إذا حدد موعداً للملكية كابتداء شهر كذا، تبدأ به؛ لأن شرط الموصي يراعى ما لم يخالف مقاصد الشرع. أما إذا لم يعين الموصي وقتاً لابتداء الملكية، فإن قبل الموصى له عقب الوفاة، ثبت له الملك بالوفاة مباشرة، أما إذا تراخى القبول عن الوفاة فقد اختلفوا في وقت ثبوت الملكية على رأيين: رأي الحنفية والشافعية، ومشهور مذهب المالكية: بالقبول مستنداً إلى موت الموصي، أي أن له أثراً رجعياً، ورأي بعض المالكية والحنابلة: بالقبول وحده.
قال الحنفية (1): القبول ليس بشرط لصحة الوصية، وإنما هوشرط ثبوت الملك للموصى له، فقبول الموصى له شرط لإفادة الملك للموصى له، حتى لا يملك قبل القبول إلا في مسألة واحدة هي كما عرفنا: حال موت الموصي ثم موت الموصى له قبل القبول.
ومتى قبل الموصى له ثبتت ملكيته من تاريخ وفاة الموصي إذا كان قدر الثلث، فإن لم يقبل بعد الموت، كانت الوصية موقوفة على قبوله: ليست في ملك الوارث، ولا في ملك الموصى له، حتى يقبل أو يموت بلا قبول ولا رد.
وكذلك قال الشافعية (2): الأظهر أن ملك الموصى له موقوف، فإن قبل بان أنه ملكه بالموت، وإن لم يقبله بان أنه للوارث، أي أنهم كالحنفية تبتدئ الملكية عندهم من وقت وفاة الموصي، ولكن لا تثبت إلا بالقبول. والمشهور عند
_________
(1) البدائع: 332/ 7، 385، الدر المختار ورد المحتار: 460/ 5، 465، تكملة فتح القدير مع حاشية العناية: 430/ 8، حاشية الشلبي على الزيلعي: 184/ 6، الكتاب مع اللباب: 170/ 4.
(2) مغني المحتاج: 54/ 3.

(10/7455)


المالكية (1) مراعاة الأمرين وهو أن الملك يثبت من وقت القبول ووقت الموت معاً، فبالقبول تبين أنه ملك الموصى به من حين الموت.
ورأى بعض المالكية والحنابلة (2) على الصحيح: أن الموصى له لا يملك الموصى به إلا بالقبول، إذا كانت الوصية لمعين، كما يملك الشيء المعقود عليه في سائر العقود، ولأن القبول من تمام السبب، والحكم لا يتقدم سببه. فتثبت الملكية بالقبول، ولا يستند وجودها إلى ما قبله.
والراجح لدي هو الرأي الأول، فيثبت الملك مستنداً إلى وقت الوفاة؛ لأن ذلك هو الذي قصده الموصي بوصيته، وهذا ما أخذ به القانون السوري (3).
وتظهر ثمرة الخلاف في ملك زوائد الموصى به وغلته الحادثة في المدة ما بين الموت والقبول، كنسل الحيوان وثمرة البستان وأجرة الدار وصوف الغنم ونحوها من الزوائد المنفصلة. أما الزوائد المتصلة كالسمن، فهي بالاتفاق للموصى له إذا احتملها الثلث.
فعلى الرأي الأول: تكون الزوائد بعد الموت وقبل القبول ملكاً لورثة الموصي، وعليهم نفقتها. لكن اختلف الحنفية مع الشافعية أصحاب الرأي الأول في اعتبار الزوائد من الثلث، فقال الحنفية: تعتبر من أصل الموصى به، فيشترط ألا تزيد مع الأصل عن الثلث.
وقال الشافعية: يعتبر ذلك نماءً زائداً عن أصل الموصى به، فلا تدخل في حساب الثلث، فتكون للموصى له. وهذا هو الأرجح؛ لأن هذا الزائد حدث على ملك الموصى له، فيسلم له، وبه أخذ القانون.
_________
(1) الشرح الصغير: 582/ 4 وما بعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: 424/ 4.
(2) المغني: 25/ 6، 158، كشاف القناع: 381/ 4.
(3) الفقرة الثانية من المادة 25 من القانون المصري، والفقرة الأولى من المادة (254) من القانون السوري.

(10/7456)


تعليق الوصية على شرط:
لا تكون الوصية منجزة حال الحياة؛ لأنها بطبيعتها عقد مضاف إلى ما بعد الموت، فكل العقود تقبل التنجيز إلا الوصية والإيصاء، لكون مفهومهما الإضافة إلى المستقبل.
وقد نص القانون المصري والسوري (1) على صحة إضافة الوصية إلى المستقبل، وتعليقها بالشرط، وتقييدها به إذا كان الشرط صحيحاً.
أما إضافة الوصية إلى المستقبل: فهذا صحيح، كأن يوصي بسكنى داره لفلان اعتباراً من بدء السنة التالية لوفاته، أو من بدء الشهر الفلاني بعد الوفاة. والوصية والإيصاء لا يكونان إلا مضافين إلى المستقبل.

وأما تقييد الوصية بشرط صحيح: فهو جائز أيضاً على أن يتقيد تنفيذ الوصية بهذا الشرط المقترن بها. والشرط الصحيح بحسب رأي ابن تيمية وابن القيم الذي أخذ به القانون: هو كل ما كان فيه مصلحة مشروعة للموصي، أو للموصى له، أو لغيرهما، ولم يكن منهياً عنه، ولا مخالفاً لمقاصد الشريعة (2). وهو متفق مع مذهب الحنفية، مع تقييد الشرط الصحيح بقيدين: أولهما ـ أن يكون الشرط مشتملاً على مصلحة. والثاني ـ ألا يكون منهياً عنه ولا منافياً لمقاصد الشريعة، وكأن القانون جعل من مجموع رأي الحنفية وهذين الإمامين رأياً ثالثاً مقبولاً في ذاته.
مثال المصلحة للموصي: أن يوصي لفلان بكذا على أن يدفع ضرائب الدولة المستحقة، أو على أن يقوم بالإشراف على أولاده الصغار، أو على أن يبدأ في تنفيذ الوصايا بحقوق الله من فدية صيام وصلاة ونحوها.
_________
(1) المادة 4 من الأول، والمادة 210 ف 1 من الثاني.
(2) المادة 4 من قانون الوصية المصري، والفقرة الثانية من المادة 210 من قانون الأحوال الشخصية السوري.

(10/7457)


ومثال المصلحة للموصى له: أن يوصي لفلان بأرضه أو داره على أن تكون نفقات إصلاحها أو ترميمها في تركة الموصي، أو على أن تكون رسوم التسجيل في السجل العقاري من تركة الموصي.
ومثال المصلحة لأجنبي غير الموصي والموصى له: أن يوصي لفلان بداره على أن يسقي من مائها حديقة جاره، أو أن يوصي بمنفعة دار لجهة خيرية على أن يكون حق السكنى لمن لم يجد مأوى من ذريته.
فإن كان الشرط غير صحيح شرعاً، لغا الشرط وصحت الوصية، كأن يوصي لفلان بمبلغ من المال على ألا يتزوج، تصح الوصية وله أن يتزوج. فهذا شرط مصادم لمقاصد الشريعة. وكذلك يلغو الشرط من باب أولى إن كان ممنوعاً شرعاً، كأن يوصي لفلان بمبلغ كذا على أن ينفق بعضه في حفلة مشروب مسكر أو لذة حرام.
وأما تعليق الوصية على شرط (1): فيجوز تعليقها بشرط في الحياة كالطلاق ونحوه، وبشرط بعد الموت؛ لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليقها على شرط في الحياة، جاز بعد الموت (2). وبه عرف أن الوصية من العقود التي تقبل التعليق على الشرط بالاتفاق.

المبحث الثاني ـ شروط الوصية:
للوصية شروط صحة يتوقف عليها صحة الوصية، وشروط نفاذ يتوقف
_________
(1) التعليق: ترتيب وجود العقد على وجود الشرط، أما الاقتران: فهو تقييد تنفيذ العقد بشروط معينة.
(2) المهذب: 452/ 1، غاية المنتهى: 348/ 2، المغني: 28/ 6، رد المحتار: 471/ 5.

(10/7458)


عليها نفاذ الوصية وترتب آثارها، وتلك الشروط إما في الموصي أو في الموصى له، أو في الموصى به، أبحثها في مطالب ثلاثة:

المطلب الأول ـ شروط الموصي:
يشترط في الموصي شروط صحة وشرط نفاذ:

أما شروط الصحة في الموصي فهي ما يأتي (1):
1ً - أن يكون أهلاً للتبرع: وهو المكلف (البالغ العاقل)، الحر، رجلاً كان أو امرأة، مسلماً أو كافراً.
وقد اتفق على اشتراط العقل، فلا تصح وصية المجنون والمعتوه والمغمى عليه؛ لأن عبارتهم ملغاة لا يتعلق بها حكم. واتفقوا على اشتراط الحرية، فلا تصح وصية العبد؛ لأنها تبرع، وهو ليس من أهل التبرع، ولأنه لا يملك شيئاً حتى يملّكه لغيره.
واتفق الحنفية، والشافعية في أرجح القولين عندهم على اشتراط البلوغ، فلا تصح وصية الصبي المميز وغير المميز، ولو كان مميزاً مأذوناً له في التجارة؛ لأن الوصية من التصرفات الضارة ضرراً محضاً، إذ هي تبرع، كما أنها ليست من أعمال التجارة.
وأجاز المالكية والحنابلة وصية المميز وهو ابن عشر سنين فأقل مما يقاربها، دون غير المميز، إذ اعقل المميز القربة؛ لأنها تصرف تمحض نفعاً له، فصح منه
_________
(1) البدائع: 334/ 7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 185/ 6، تكملة فتح القدير: 429/ 8، 432، الدر المختار: 459/ 5، 463، القوانين الفقهية: ص 405، الشرح الصغير: 580/ 4، شرح الرسالة: 169/ 2، مغني المحتاج: 39/ 3، كشاف القناع: 371/ 4 وما بعدها، بداية المجتهد: 328/ 2.

(10/7459)


كالإسلام والصلاة، كما أن الحنفية أجازوا وصية المميز (وهو من أتم السابعة) إذا كانت لتجهيزه وتكفينه ودفنه؛ لأن عمر رضي الله عنه أجاز وصية صبي من غسان له عشر سنين أوصى لأخواله، ولأنه لا ضرر على الصبي في جواز وصيته؛ لأن المال سيبقى على ملكه مدة حياته، وله الرجوع عن وصيته؛ كما سأبين.
وتجوز وصية المحجور عليه لسفه بالاتفاق، فقال الحنفية: تصح وصية المحجور عليه (1) إذا كانت بالقُرَب وأبواب الخير، من ثلث ماله؛ إذ ليس في تلك الوصية إضرار به، بل هي مفيدة له، لما يترتب عليها من الثواب. أما الوصية في غير القُرَب كالوصية لغني غير فاسق، فإنها لا تجوز.
وكذلك قال المالكية: تصح وصية المحجور عليه السفيه والصغير؛ لأن الحجر عليهما لحق أنفسهما، فلو منعا من الوصية، لكان الحجر عليهما لحق غيرهما.
والمذهب لدى الشافعية جواز وصية المحجور عليه بسفه، لصحة عبارته. وأما وصية المحجور عليه لفلس فموقوفة على إجازة الغرماء، فإن أمضوها جازت، وإن ردوها بطلت.
وقال الحنابلة: تصح وصية المحجور عليه لسفه بمال؛ لأنها تمحضت نفعاً له من غير ضرر، فصحت منه كعباداته، ولأنه كما قال الحنفية والمالكية إنما حجر عليه لحفظ ماله، وليس في الوصية إضاعة له؛ لأنه إن عاش، كان ماله له، وإن مات كان ثوابه له، وهو أحوج إليه من غيره. ولا تصح الوصية من المحجور عليه لسفه على أولاده؛ لأنه لا يملك أن يتصرف عليهم بنفسه، فوصيته أولى.
وتصح الوصية من المحجور عليه لفلس؛ لأن الحجر عليه لحظ الغرماء، ولا ضرر عليهم؛ لأنه إنما تنفذ وصيته في ثلث ماله بعد وفاء ديونه.
_________
(1) الحجر على السفيه رأي الصاحبين، وبه يفتى، ولم يجز أبو حنيفة الحجر عليه.

(10/7460)


أما السكران: فلا تصح وصيته عند الجمهور، لعدم العقل فهو كالمجنون. وأجاز الشافعية وصية السكران المتعدي بسكره وهو من عصى بسكره، ولا تصح وصية غير المتعدي بسكره.
وتصح بالاتفاق وصية الكافر ولو حربياً، فليس الإسلام شرطاً لصحة الوصية، إلا أن يوصي بخمر أو خنزير لمسلم.
وغني عن البيان أنه يشترط في الموصي كونه مالكاً، فهذا داخل في اشتراط أهلية التبرع، فكل من ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة، ملك الوصية بثلثه في وجوه البر، لحديث سعد بن أبي وقاص السابق (1).
2ً - أن يكون راضياً مختاراً: لأن الوصية إيجاب ملك، فلا بد فيه من الرضا، كإيجاب الملك بسائر الأشياء والتصرفات من بيع وهبة ونحوهما، فلا تصح وصية الهازل والمكره والمخطئ؛ لأن هذه العوارض تفوِّت الرضا، والرضا لابد منه في عقود التمليكات.

شرط نفاذ الوصية في الموصي:
يشترط في الموصي لنفاذ الوصية: ألا يكون مديناً بدين مستغرق لجميع تركته؛ لأن إيفاء الدين مقدم على تنفيذ الوصية بالإجماع كما بان سابقاً، وقد تعلق بالمال حق للغير وهو الدائن، فتكون الوصية في هذه الحالة موقوفة على إجازة أصحاب الحق، فإذا أجازوها نفذت، وإلا بطلت.
_________
(1) المهذب: 449/ 1.

(10/7461)


وقد اتفق القانون (1) مع الفقه في شرط نفاذ الوصية، وفي شرط كون الموصي أهلاً للتبرع قانوناً، فلا تصح وصية المجنون ولا المعتوه، ولا الصبي ولو كان مميزاً، أخذاً برأي الحنفية، والشافعية في الأرجح.
أما وصية المحجور عليه لسفه أو غفلة، فهي جائزة بإذن القاضي، فإذا أذن نفذت، وإلا بطلت، سواء أكانت الوصية في وجوه الخير أم لا.

المطلب الثاني ـ شروط الموصى له:
يشترط في الموصى له شروط صحة وشروط نفاذ (2).

أما شروط الصحة فهي ما يأتي: في الجهة العامة أو الشخص المعنوي ألا تكون جهة معصية، وفي الشخص الطبيعي أو الإنسان: 1 - أن يكون موجوداً. 2 ـ معلوماً. 3 - أهلاً للتملك والاستحقاق. 4 - غير حربي عند المالكية، وغير حربي في دار الحرب عند الحنفية، وألا يوصى بالسلاح لأهل الحرب عند الشافعية، فصارت شروط الموصى له ستة.
الوصية لجهة معصية: ألا يكون الموصى له جهة معصية إذا كان الموصي مسلماً. فإذا كان الموصى له جهة معصية بطلت الوصية باتفاق الفقهاء، كالوصية
_________
(1) المادة 5 و 38 من قانون الوصية المصري، والمادة 211 من قانون الأحوال الشخصية السوري.
(2) البدائع: 335/ 7 - 352، الدر المختار: 459/ 5، 462، 469، 470، تبيين الحقائق: 182/ 6 - 186، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: 581/ 4 وما بعدها، الشرح الكبير: 423/ 4، 426، القوانين الفقهية: ص 405، بداية المجتهد: 328/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 40/ 3 - 44، المهذب: 451/ 1 وما بعدها، 458، غاية المنتهى: 356/ 2 - 358، كشاف القناع: 390/ 4 - 407، المغني: 5/ 6، 21، 56، 60، 104، تكملة فتح القدير: 434/ 8، شرح الرسالة: 170/ 2.

(10/7462)


لأندية القمار والمراقص، وإقامة القباب على المقابر، أو النياحة على الموتى، وعمارة كنيسة أو ترميمها، وكتابة التوراة والإنجيل وقراءتهما، وكتابة كتب السحر والضلال والفلسفة الممنوعة وسائر العلوم المحرمة؛ وبالسلاح لأهل الحرب، وبآلات اللهو والطرب؛ لأن الوصية شرعت صلة أو قربة، فلا يصح أن تكون في معصية، فإذا وقعت كذلك كانت باطلة اتفاقاً، لأنها وصية بمحرم شرعاً.
فإن كانت الوصية في ذاتها مباحة شرعاً، لكن الباعث عليها محرم، كالوصية لأهل الفسق ليستعينوا بها على فسقهم، ففيها رأيان: بحسب الخلاف في مبدأ سد الذرائع:
يرى الحنفية والشافعية: أن الوصية صحيحة، عملاً بظاهر العقد، فلم يشتمل لفظ الوصية على محرم، ويترك أمر النية والقصد لله تعالى.
ويرى المالكية والحنابلة ومنهم ابن تيمية وابن القيم: أن مثل هذه الوصايا تكون باطلة؛ لأن العبرة في العقود بالقصد والنية، والباعث حينئذ مناف لمقاصد الشريعة، فتكون باطلة. وهذا ما أخذ به القانون (1).

الوصية للمعدوم (2): أن يكون الموصى له موجوداً وقت الوصية تحقيقاً أو تقديراً: فإن لم يكن موجوداً، لا تصح الوصية؛ لأن الوصية للمعدوم لا تصح؛ لأنها تمليك، والتمليك لا يجوز للمعدوم. فلا تجوز الوصية عند الجمهور لميت، وقال مالك: إن علم أنه ميت فهي جائزة، وهي لورثته بعد قضاء ديونه وتنفيذ
_________
(1) نصت الفقرة الأولى من المادة الثالثة في قانون الوصية المصري: «يشترط في صحة الوصية ألا تكون بمعصية، وألا يكون الباعث عليها منافياً لمقاصد الشارع». ونصت المادة 209 من القانون السوري: «تشترط في صحة الوصية ألا تكون بما نهي عنه شرعاً».
(2) المراد بالمعدوم: من لم يوجد، لا من كان موجوداً ثم انعدم، والمراد بالموجود: ما يعم الموجود بالذات وبالوصف.

(10/7463)


وصاياه. ووجود الموصى له إما حقيقة كإنسان موجود حي، أو تقديراً كالحمل. ويعرف وجود الحمل إذا ولدته أمه حياً لأقل من ستة أشهر (وهي أقل مدة الحمل) حين الإيصاء.

الوصية للحمل وبالحمل: تصح الوصية بالحمل وللحمل إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ التكلم بالوصية.
أما الوصية بالحمل: فتصح إذا كان مملوكاً، بأن يكون حمل بهيمة مملوكة للموصي؛ لأن الغرر والخطر لا يمنع صحة الوصية، فإذا انفصل ميتاً بطلت الوصية، وإن انفصل حياً وعلمنا وجوده حال الوصية أو حكما بوجوده، صحت الوصية، وإن لم يكن كذلك لم تصح لجواز حدوثه.
وأما الوصية للحمل فصحيحة أيضاً بلا خلاف؛ لأن الوصية كالميراث، والحمل يرث، فتصح الوصية له، فإذا ورث الحمل، فالوصية له أولى، فإن انفصل الحمل ميتاً، بطلت الوصية؛ لأنه لا يرث. وإن وضعته حياً، صحت الوصية له. ويحسن إيراد عبارات الفقهاء في شأن الوصية للحمل وبالحمل.

قال الزيلعي والشلبي وصاحب الدر والهداية من الحنفية: تصح الوصية للحمل وبالحمل إن ولدته أمه حياً لأقل مدة الحمل وهي ستة أشهر من وقت الوصية (1)، إذا كان زوج الحامل حياً، أي في حال الوصية للحمل، فإذا كان ميتاً، فالشرط أن تأتي به حياً لأقل من سنتين من وقت الموت. أما إن أتت به ميتاً، فلا تجوز الوصية.
_________
(1) وقال في البدائع: يعتبر ذلك من وقت موت الموصي في ظاهر الرواية، وعند الطحاوي رحمه الله: من وقت وجود الوصية. وقال في النهاية: تجوز الوصية للحمل وبالحمل إذا وضع لأقل من ستة أشهر، أي من وقت موت الموصي، لا من وقت الوصية.

(10/7464)


وإن كانت المرأة معتدة من طلاق بائن فالشرط أيضاً أن تأتي به لأقل من سنتين من تاريخ الطلاق. ومثله: لو أقر الموصي بأنها حامل، فتثبت الوصية له إن وضعته ما بين سنتين من يوم أوصى، لثبوت الحمل بإقرار الموصي.

وقال الشافعية: تصح الوصية لحمل وتنفذ إن انفصل حياً، وعلم وجوده عند الوصية، بأن انفصل لدون ستة أشهر إن كانت ذات زوج؛ لأن الظاهر وجوده عند الوصية. وتصح الوصية بما تحمله البهيمة أو الشجرة وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر، واللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم؛ لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية، ولأن الموصى له كالوارث، والوارث يخلف الميت في هذه الأشياء.
وقال الحنابلة: تصح الوصية بالحمل إذا كان مملوكاً، وتصح الوصية للحمل إن أتت به حياً لأقل من ستة أشهر، حال الوصية، أي كما قال الشافعية.
وكذلك اتفق الشافعية والحنابلة على أن المرأة إن كانت بائناً غير ذات زوج (أي ليست فراشاً لزوج فأتت به لأكثر من أربع سنين من حين الفرقة، وأكثر من ستة أشهر من حين الوصية، لم تصح الوصية له. وإن أتت به لأقل من ذلك، صحت الوصية له؛ لأن الولد يعلم وجوده إذا كان لستة أشهر، ويحكم بوجوده إذا أتت به لأقل من أربع سنين من حين الفرقة.

وقال المالكية: تصح الوصية للموصى له، سواء أكان موجوداً حين الوصية، أم منتظر الوجود كالحمل، وتصح لمن سيكون من حمل موجود أو سيوجد إن استهل صارخاً ونحوه، مما يدل على تحقق حياته، لكن في قول لا يستحق شيئاً من غلة الموصى به؛ لأنه لا يملك إلا بعد وضعه حياً، فتكون الغلة لوارث الموصي. وفي القول الآخر: توقف وتدفع للموصى له إذا استهل كالموصى به. ويوزع

(10/7465)


الشيء الموصى به لمن سيكون إن ولدت أكثر من واحد، بحسب العدد أي الذكر كالأنثى عند الإطلاق، فإن نص الموصي على تفضيل، عمل به. مثال الوصية لمن سيوجد: «أوصيت لمن سيكون من ولد فلان». فيكون لمن يولد له، سواء أكان موجوداً، بأن كان حملاً حين الوصية، أم غير موجود أصلاً، فيؤخر الموصى به للوضع على كل حال.
وتصح الوصية عندهم لميت علم الموصي بموته حين الوصية، ويصرف الشيء الموصى به في وفاء دين الميت إن كان عليه دين، وإن لم يكن عليه دين فلوارثه، فإن لم يكن عليه دين، ولا وارث له، بطلت الوصية، ولا يأخذها بيت المال. وإن أوصى لميت وهو يظنه حياً، بطلت الوصية اتفاقاً.
والخلاصة: أن الجمهور يشترطون وجود الموصى له حين الوصية، وتصح الوصية للحمل إن ولد حياً لأقل من ستة أشهر من تاريخ إنشاء الوصية.
أما المالكية فلا يشترطون هذا الشرط، ويجيزون أيضاً الوصية للحمل الذي سيوجد، وإن لم يكن موجوداً عند الوصية، فلا يشترط عندهم إذن وجود الموصى له حين الوصية، ولا عند موت الموصي. وأرجح رأي الجمهور لأن تمليك غير الموجود لا معنى له، ولما يترتب على جواز هذه الوصية من حبس المال مدة طويلة انتظاراً لمن سيوجد في المستقبل.

أما القانون: فقانون الوصية المصري (م 6) اشترط أن يكون الموصى له موجوداً إذا كان معيناً، وهذا متفق مع رأي الجمهور، فإن لم يكن معيناً كطلبة العلم، لايشترط أن يكون موجوداً عند الوصية، ولا وقت موت الموصي، وهو مأخوذ من مذهب الإمام مالك، كما قالت المذكرة التفسيرية. وكذلك أخذ هذا القانون في الفقرة الأولِى المادة (26) من مذهب مالك جواز الوصية بالأعيان

(10/7466)


للمعدوم، ولما يشمل الموجود والمعدوم ممن يحصون. وتبطل الوصية إذا تعذر وجود الموصى له في المستقبل. ونصت المادة الثامنة على جواز الوصية لجهة معينة من جهات البر ستوجد مستقبلاً، كالوصية للملجأ الذي سيبنى في الحي الفلاني.
والقانون السوري (م 212، ف/ب) اشترط أن يكون الموصى له موجوداً عند الوصية وحين موت الموصي، إن كان معيناً. وفي المادة (236) الموافقة للمادة (35) من القانون المصري نص على ما يلي:
1 - تصح الوصية للحمل المعين وفقاً لما يلي:
أـ إذا أقر الموصي بوجود الحمل حين الإيصاء، يشترط أن يولد حياً لسنة (أي شمسية) فأقل من ذلك الحين.
ب ـ إذا كانت الحامل معتدة من وفاة أو فرقة بائنة، يشترط أن يولد حياً لسنة أيضاً من حين وجوب العدة.
جـ ـ إذا لم يكن الموصي مقراً ولا الحامل معتدة، يشترط أن يولد حياً لتسعة أشهر فأقل من حين الوصية.
د ـ إذا كانت الوصية لحمل من شخص معين، يشترط مع ما تقدم أن يثبت نسب الولد من ذلك الشخص.
2 - توقف غلة الموصى به منذ وفاة الموصي إلى أن ينفصل الحمل، فتكون له. ونصت المادة (214) على أنه: تصح الوصية لجهة معينة من جهات البر ستوجد في المستقبل، فإن تعذر وجودها صرفت الوصية إلى أقرب مجانس لتلك الجهة.

(10/7467)


الوصية للمجهول: أن يكون الموصى له معلوماً غير مجهول: أي ألا يكون مجهولاً جهالة لا يمكن رفعها وإزالتها؛ لأن هذه الجهالة تمنع من تسليم الموصى به إلى الموصى له، فلا تفيد الوصية، ولأن الوصية تمليك عند الموت ـ في رأي الجمهور غير الحنابلة ـ فلا بد من أن يكون الموصى له معلوماً في ذلك الوقت، حتى يقع الملك له، ويمكن تسليم الموصى به إليه.
فلو أوصى إنسان لمحمد أو خالد بالثلث، أو لجماعة لا يحصون من المسلمين (1) كثلث ماله للمسلمين، ولم يوصفوا بما يشعر بالحاجة كفقراء المسلمين، كانت الوصية باطلة عند الحنفية، لجهالة الموصى له جهالة تمنع من تسليم الموصى به إليه. وكذلك لو أوصى لأحد رجلين، لا تصح عند أبي حنيفة والشافعية وباقي المذاهب، لعدم تعيين الموصى له (2).
أما لو أوصى لجماعة بلفظ ينبئ عن حاجتهم، فتصح الوصية عند الحنفية؛ لأنها وصية بالصدقة، وهي إخراج المال إلى الله تعالى، وهو واحد معلوم، فيقع الموصى به لله، ثم يتملكها المحتاجون بتمليك الله لهم. جاء في رد المحتار أن معنى كون الموصى له معلوماً: أن يكون معيناً شخصاً كزيد، أو نوعاً كالمساكين والفقراء.
وقد أخذ القانون المصري والسوري (3) بهذا الشرط، وهو كون الموصى له
_________
(1) اختلف الفقهاء في الحد الفاصل بين من يحصون ومن لا يحصون، فقال محمد: إن كانوا أكثر من مئة فهم لا يحصون. وبه يفتى وقد أخذت به المحاكم الشرعية في مصر، وقال الشافعية: هم من لا يمكن استيعابهم إلا بمشقة.
(2) وتصح هذه الوصية عند الصاحبين، وتكون الوصية عند أبي يوسف لهما جميعاً، وعند محمد: لأحدهما، وخيار التعيين إلى الورثة، يعطون أيهما شاؤوا (البدائع: 236/ 7).
(3) انظر الفقرة الأولى من المادة 6 من القانون المصري، والفقرة الأولى من المادة 212 من القانون السوري.

(10/7468)


معلوماً، إلا أنه أجاز الوصية لمن لا يحصى كأهل دمشق أو القاهرة خلافاً لمذهب الحنفية، وأخذاً بمذهب المالكية والحنابلة، سواء اشتملت الوصية على ما ينبئ عن الحاجة أو لا. أما الشافعية فهم كالحنفية لأنه يجب عندهم أن يكون الموصى له معيناً إن كان غير جهة.
وقد نصت المادة (213) من القانون السوري على ما يلي:
1 - الوصية لله تعالى ولأعمال البر بدون تعيين جهة، تصرف في وجوه الخير.
2 - الوصية لأماكن العبادة والمؤسسات الخيرية والعلمية وسائر المصالح العامة، تصرف على عمارتها ومصالحها وفقرائها، وغير ذلك من شؤونها، ما لم يتعين المصرف بعرف أو قرينة. وهذا قريب من نص المادة السابعة من القانون المصري.
والراجح لدي ما أخذ به القانون؛ لأن معنى القربة موجود في مثل هذه الوصية على كل حال، سواء صرح الموصي بقصده أم سكت.

الوصية للدابة: يشترط أن يكون الموصى له أهلاً للتمليك والاستحقاق: وهذا شرط متفق عليه. فلا تصح الوصية لما ليس أهلاً للملك، كأن أوصى لدابة أو فرس غيره، وقصد تمليكها، أو أطلق، فهي باطلة عند الحنفية والشافعية والمالكية؛ لأن مطلق اللفظ للتمليك، والدابة لا تملك، أما لو قال: لعلف هذه الدابة، صح، مراعاة لظاهر لفظ الموصي، لا إلى قصده. ولا يشترط عند الحنفية القبول في هذه الحالة، لأنها حينئذ كالميراث، فلا يشترط فيها القبول لتعذره كالوقف على الفقراء والمساكين. وقال الشافعية: يشترط قبول مالك الدابة.

(10/7469)


أما الحنابلة فقالوا: لو قصد الموصي الإنفاق على فرس زيد أو دابته، ولو لم يقبل الموصى له، تصح الوصية؛ لأن العبرة في العقود للمعاني والمقاصد. ويصرف الموصى به في علف الدابة، فإن مات الفرس قبل الإنفاق عليه، كان الباقي لورثة الموصي، ويتولى الوصي أو القاضي عند الحنابلة، لا صاحب الفرس الإنفاق عليه.
وبناء على هذا الشرط، قال أبو حنيفة: لو قال: أوصيت بثلث مالي لله تعالى، فالوصية باطلة. وقال محمد: جائزة، وعليه الفتوى، ويصرف في وجوه البر.
ولو أوصى للمسجد أو للمسجد الحرام أو للمدرسة ونحوها من جهات الوقف بشيء، لم يجز عند الحنفية، إلا أن يقول: ينفق على المسجد إنشاء وترميماً؛ لأنه قربة. وعند محمد والشافعية: يصح مطلقاً، سواء قال: ينفق أم لا، ويصرف على مصالحه، كالمثال السابق، تصحيحاً لكلامه.
وقال المالكية والحنابلة: تصح الوصية لمسجد ونحوه كرباط وثغر وسور على البلد، وتصرف في مصالحه ونفقاته التي يحتاجها من إضاءة وحصر وسجاد، وما زاد على ذلك، فيصرف على خدمته من إمام ومؤذن ونحوهما.

الوصية للقاتل: ألا يكون الموصى له قاتلاً الموصي في رأي الحنفية والحنابلة: فإن قتله بأن أصابه بجرح فأوصى له، ثم مات، كانت الوصية باطلة. وإن أوصى له أولاً، ثم حدث القتل، كان مانعاً من استحقاق الوصية. فالقتل يمنع صحة الوصية ابتداء واستمراراً؛ لأن القتل يمنع الميراث، فيمنع الوصية، معاملة له بنقيض مقصوده، ولخبر «ليس لقاتل وصية» (1). والقتل مانع من صحة الوصية
_________
(1) أخرجه الدارقطني والبيهقي عن علي رضي الله عنه، لكن فيه راو متروك يضع الحديث (نصب الراية: 402/ 4).

(10/7470)


لحق الشرع، سواء أجاز الورثة أم لا، وهذا رأي أبي يوسف، وبه أخذ القانون. وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أجاز الورثة الوصية، أو لم يكن للموصي ورثة، كانت الوصية جائزة نافذة؛ لأن المنع لحق الورثة. والرأي الأول أرجح.
لكن اختلف الحنفية والحنابلة في نوع القتل المانع من الوصية والميراث: فقال الحنابلة في الأصح: القتل بغير حق، سواء أكان عمداً أم خطأ، مباشرة أم تسبباً، يمنع الميراث ويبطل الوصية، لأن الميراث آكد من الوصية، فتكون الوصية أولى.
وقال الحنفية: القتل المانع من الإرث والوصية: هو الصادر من البالغ العاقل، عدواناً بغير حق أو عذر شرعي، إذا كان مباشرة لا تسبباً، سواء أكان عمداً أم خطأ، فالقتل من المجنون والصبي، والقتل بحق كالقتل قصاصاً أو حداً أو بسبب البغي، أو بعذر كالدفاع عن النفس والعرض، والقتل بالتسبب، كما لو دل الموصى له الشخص القاتل على مكان الموصي ولم يشترك معه في القتل، كل ذلك لا يمنع الإرث والوصية. فالقتل بالتسبب عندهم لا يمنع إرثاً ولا وصية.
أما الشافعية فقالوا: الأظهر أن الوصية تصح للقاتل ولو تعدياً، فلو قتل الموصى له الموصي ولو تعدياً، استحق الموصى به؛ لأن الوصية تمليك بعقد، فأشبهت الهبة، وخالفت الإرث.
وأما المالكية: فعندهم تفصيل وهو أن الوصية تصح لقاتل، سواء أكان القتل عمداً أم خطأ إذا علم الموصي بمن قتله، ولم يغير وصيته، أو أوصى بعد الضرب، مع علمه بأن الموصى له هو الضارب؛ لأن المانع من صحة الوصية: هو استعجال الموصى له الشيء قبل أوانه، فيعاقب بالحرمان، لا يتحقق إلا إذا كان القتل لاحقاً للوصية. وإذا كان الموصي عالماً بالضرب، ثم أوصى له، دل على أنه عفا عنه وقصد الإحسان إليه.

(10/7471)


وبه يتبين أنه لا يشترط عند المالكية ألا يكون الموصى له قاتلاً، بشرط أن تقع الوصية بعد الضربة وأن يعرف المقتول قاتله. فإن ضرب شخص غيره ضربة قاتلة عمداً أو خطأ، ثم أوصى له بعد الضربة بشيء، صحت الوصية. أما إذا أوصى له قبل أن يضربه، ثم ضربه فأماته، فإن الوصية تبطل، سواء عرف القاتل ولم يغير الوصية، أم لم يعرفه، على الراجح؛ لأن فيها شبهة استعجال الوصية كالميراث.
ففي هذه الحال الأخيرة يتفق مذهبهم مع الحنفية والحنابلة، وفي الحال الأولى أي وقوع الوصية بعد الضربة يكون مذهبهم كالشافعية، ويكون لدينا رأيان: رأي الحنفية والحنابلة: أن القتل يبطل الوصية، ورأي الشافعية والمالكية: أن القتل لا يبطل الوصية.
أما القانون المصري في المادة (17) والسوري في المادة (223) فقد أخذا برأي الحنفية والحنابلة في أن القتل مانع من استحقاق الوصية، وأخذاً برأي المالكية في تحديد نوع القتل المانع من الإرث والوصية وهو القتل قصداً أو عمداً (1)، سواء أكان القاتل فاعلاً أصلياً أم شريكاً، أم شاهد زور أدت شهادته إلى الحكم بالإعدام على الموصي ونفذ الحكم، إذا كان القتل بلا حق ولا عذر، وكان القاتل عاقلاً بالغاً من العمر خمس عشرة سنة عند الجمهور، واثنتي عشرة سنة عند الحنفية. وهذا يشمل القتل مباشرة وتسبباً عملاً بمذهب الشافعية، ويكون القاتل مستحقاً الوصية إذا كان مجنوناً أو معتوهاً ونحوهما، أو ولداً دون الخامسة عشرة، أو قاتلاً بحق أو بعذر كالقاتل دفاعاً عن النفس أو الشرف، والقاضي الذي يصدر حكم الإعدام، والجلاد الذي ينفذ الحكم.
_________
(1) وتصح قانوناً الوصية للقاتل خطأ، عملاً بمذهب الإمام مالك.

(10/7472)


الوصية لأهل الحرب: يشترط في الموصى له في المعتمد عند المالكية ألا يكون حربياً، وعند الحنفية ألا يكون حربياً في دار الحرب (1)، سواء أكانت الوصية من مسلم أم ذمي وإن أجاز الورثة؛ لأنها تقوية وإعزاز له، وإعانة على حرب المسلمين، وتصبح في النهاية ميراثاً لا صدقة، وفيها ضرر عام بالمسلمين.
وأجاز الحنفية عملاً بكتاب الأصل لمحمد الوصية للحربي المستأمن في دار الإسلام؛ لأنه في عهدنا، فأشبه الذمي الذي هو في عهدنا، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة:8/ 60 - 9]. وروي عن أبي حنيفة: أنه لاتجوز الوصية للحربي المستأمن، كما لا يجوز صرف الكفارة والنذر وصدقة الفطر والأضحية إلى الحربي المستأمن، لما فيه من الإعانة على الحراب. ولا تجوز عند الحنفية الوصية للمرتد من المسلم.
وأجاز الشافعية في الأصح والحنابلة الوصية للمرتد، والحربي المعين، لالعامة الحربيين، سواء أكان بدارنا أم لا، وذلك بما له تملكه، لا كسيف ورمح أي بغير السلاح مطلقاً، قياساً على جواز الهبة له والصدقة عليه. وقال الحارثي من الحنابلة: الصحيح من القول: أنه ـ أي الكافر مرتداً أو حربياً ـ إذا لم يتصف بالقتال أو المظاهرة علينا، صحت الوصية، وإلا لم تصح. ويؤكذ هذا الرأي أن أسماء
_________
(1) دار الحرب: هي البلاد التي ليس للمسلمين عليها ولاية وسلطان، ولا تقام فيها أكثر شعائر الإسلام. والحربي: هو من بيننا وبين بلاده عداوة وحرب. والمستأمن: من دخل دار الإسلام بأمان مؤقت لمدة معلومة. والذمي: المقيم في دار الإسلام بصفة دائمة.

(10/7473)


بنت أبي بكر أذن لها النبي صلّى الله عليه وسلم في صلة أمها (1)، وأذن لعمر أيضاً في كسوة أخ مشرك له بمكة (2).

اتحاد الدين: لا يشترط اتحاد الدين بين الموصي والموصى له لصحة الوصية، فتجوز وصية المسلم لغير المسلم، وتجوز وصية غير المسلم لأهل ملته ولغير أهل ملته، كاليهودي للمسيحي وبالعكس، والمسلم لليهودي أو المسيحي وبالعكس؛ لأن غير المسلمين في دار الإسلام لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.
ونص القانون المصري (م 9) والقانون السوري (م 215) على أنه:
1ً - تصح الوصية للأشخاص مع اختلاف الدين والملة بينهم وبين الموصي.
2ً - إذا كان الموصى له أجنبياً تشترط المعاملة بالمثل.
أي أن اختلاف الدين لا يمنع صحة الوصية، وكذا اختلاف الدارين إذا كانت بلاد الموصى له لا تمنع الوصية لمثل الموصي، عملاً بمبدأ المساواة والمعاملة بالمثل، فتجوز الوصية إذا كانت دولة الموصي تجيز مثلها، وتمنع إن لم تجز مثلها.

وصايا غير المسلمين ـ أهل الذمة:
عرفنا أنه تصح وصية الذمي للمسلم وبالعكس اتفاقاً؛ لأن غير المسلمين بعقد الذمة ساووا المسلمين في المعاملات، في الحياة وبعد الممات. فإذا أوصى ذمي غير مسلم بوصية، فلها ثلاث حالات ذكرها الحنفية (3):
_________
(1) رواه البخاري ومسلم (نيل الأوطار: 3/ 6).
(2) رواه البخاري وغيره عن ابن عمر (نيل الأوطار: 4/ 6).
(3) البدائع: 341/ 7.

(10/7474)


1 - إذا كان الموصى به أمراً هو قربة في شريعتنا وشريعته، كالصدقة على فقراء المسلمين أو فقراء الذميين أو بعمارة المسجد الأقصى، أو ببناء مدرسة أو مشفى ونحو ذلك، جازت الوصية اتفاقاً؛ لأن هذا مما يتقرب به المسلمون وأهل الذمة على حد سواء.
2 - إذا كان الموصى به شيئاً هو قربة عندنا، وليس بقربة عنده، كأن أوصى ببناء مسجد للمسلمين أو بأن يحج عنه، فهذه وصية باطلة باتفاق الحنفية؛ لأنه لا يعتقد حقاً بكون الموصى به قربة إلى الله تعالى.
3 - إذا كان الموصى به قربة عنده، لا عندنا، كأن أوصى ببناء كنيسة أو معبد، أو بالذبح لعيد في ملته، فالوصية صحيحة عند أبي حنيفة؛ لأن المعتبر في وصيته ما هو قربة عنده في عقيدته، لذا بطلت وصيته لبناء مسجد؛ لأنها ليست قربة عنده. وهذا هو الراجح.
وقال الصاحبان: هي وصية باطلة؛ لأنها وصية في شريعتنا بما هو معصية، والوصية بالمعاصي لا تصح.
وقال الأئمة الآخرون (1) بقول الصاحبين: تبطل الوصية بمعصية (وهي ما ليس بقربة) ولو من ذمي؛ لأنها إعانة على المعصية.

شرط نفاذ الوصية في الموصى له:
الوصية للوارث: يشترط لنفاذ الوصية ألا يكون الموصى له وارثاً للموصي عند موت الموصي، إذا كان هناك وارث آخر لم يجز الوصية. فإن أجاز بقية الورثة
_________
(1) مغني المحتاج: 40/ 3، الشرح الكبير: 427/ 4، كشاف القناع: 404/ 4.

(10/7475)


الوصية لوارث، نفذت الوصية، فتكون الوصية للوارث موقوفة على إجازة بقية الورثة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية
لوارث» (1) وقوله أيضاً: «لا تجوز وصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة» «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة» (2)، ولأن في إيثار بعض الورثة من غير رضا الآخرين ما يؤدي إلى الشقاق والنزاع، وقطع الرحم وإثارة البغضاء والحسد بين الورثة.
ومعنى الأحاديث أن الوصية للوارث لا تنفذ مطلقاً، مهما كان مقدار الموصى به، إلا بإجازة الورثة، فإن أجازوها نفذت، وإلا بطلت، وإن أجازها بعضهم دون بعض، جازت في حصة المجيز، وبطلت في حق من لم يجز، لولاية المجيز على نفسه دون غيره. وهذا شرط لنفاذ الوصية عند الجمهور، فإنهم قرروا أن الوصية صحيحة لكن لا تجوز الوصية لوارث ولا تنفذ إذا لم يجزها الورثة. وقال المالكية: الوصية باطلة لحديث «لا وصية لوارث» فإن أجاز الورثة ما أوصي به للوارث أو الزائد على الثلث، فعطية مبتدأة منهم، لا تنفيذ لوصية الموصي.

ويشترط لصحة الإجازة شرطان:
الأول ـ أن يكون المجيز من أهل التبرع عالماً بالموصى به: بأن يكون بالغاً عاقلاً غير محجور عليه لسفه أو عته أو مرض موت، وأن يكون عالماً بالموصى به، فلا تجوز إجازة صغير ومجنون ومريض مرض موت، ولا تصح إجازة وارث لم يعلم بما أوصى به الموصي. وقال الحنابلة: لو أجاز مريض فمن ثلثه (3).
_________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا أبا داود عن عمرو بن خارجة، وصححه الترمذي، ورواه الخمسة إلا النسائي أيضاً عن أبي أمامة (نيل الأوطار: 39/ 6 - 40).
(2) رواهما الدارقطني، الأول عن ابن عباس، والثاني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (نيل الأوطار: 40/ 6).
(3) القوانين الفقهية: ص 406، فتح العلي المالك: 322/ 1 وما بعدها.

(10/7476)


الثاني ـ أن تكون الإجازة بعد موت الموصي: فلا عبرة بإجازة الورثة حال حياة الموصي، فلو أجازوها حال حياته، ثم ردوها بعد وفاته، صح الرد وبطلت الوصية، سواء أكانت الوصية للوارث، أم لأجنبي بما زاد عن ثلث التركة.
وهذا رأي الحنفية والشافعية والحنابلة. وكذلك قال المالكية.
وفي الجملة كما ذكر ابن جزي: إذا أجاز الورثة الوصية بالثلث لوارث أو بأكثر من الثلث، بعد موت الموصي، لزمهم، فإن أجازوها في صحته لم تلزمهم، وإن أجازوها في مرضه، لزمت من لم يكن في عياله، دون من كان تحت نفقته. وهناك قول آخر رجحه الحطاب أن الإجازة تلزم.

من الوارث الذي يجيز؟ العبرة بتحديد كونه وارثاً باتفاق المذاهب هو وقت موت الموصي، لا وقت إنشاء الوصية، فلو كان غير وارث عند الوصية، ثم صار وارثاً بأمر حادث وقت الموت، صارت الوصية موقوفة، ولو كان وارثاً عند إنشاء الوصية، ثم أصبح عند الموت غير وارث، بسبب حجبه مثلاً، كانت الوصية نافذة؛ لأن العبرة في الإرث وعدمه هو وقت وفاة الموصي؛ ولأن هذا الوقت هو أوان ثبوت حكم الوصية الذي هو ثبوت ملك الموصى به.
القائلون بمشروعية الوصية للوارث:
رأى الشيعة الزيدية، والشيعة الإمامية، والإسماعيلية (1): أن الوصية للوارث جائزة بدون توقف على إجازة الورثة، لظاهر قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ ـ إن ترك خيراً ـ الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/ 2] ونسخ الوجوب لا يستلزم نسخ الجواز. ورد
_________
(1) نيل الأوطار: 41/ 6، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 187، الفقه المقارن للأستاذ حسن أحمد الخطيب: ص 188.

(10/7477)


عليهم بأن حديث ابن عباس صرح بنفي الجواز إلا إذا أجازت الورثة، وبأن الآية المذكورة منسوخة بالسنة، أو بآية الفرائض.
وأخذ قانون الوصية المصري لسنة 1946 (م 37) بهذا الرأي مخالفاً رأي جمهور الفقهاء. فأجاز الوصية للوارث في حدود الثلث من غير إجازة الورثة. والتزم القانون السوري (م 2/ 238) برأي الجمهور وهو أن الوصية للوارث لا تنفذ إلا إذا أجازها الورثة.
مانعو الوصية للوارث مطلقاً: قال المزني والظاهرية (1): لا تصح الوصية للوارث، ولو أجازها الورثة؛ لأن الله منع من ذلك، فليس للورثة أن يجيزوا ما أبطل الله على لسان رسوله، فإذا أجازوها، كان هبة مبتدأ منهم، لا وصية من الموصي؛ لأن المال حينئذ صار للورثة، فحكم الموصي فيما استحقوه بالميراث باطل، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» (2) فليس لهم إجازة الباطل، لكن إن أحبوا أن ينفذوا الوصية من مالهم باختيارهم، فلهم التنفيذ، ولهم حينئذ أن يجعلوا الأجر لمن شاؤوا.

المطلب الثالث ـ شروط الموصى به:
للموصى به شروط صحة وشرطا نفاذ.

أما شروط الصحة فهي ما يأتي (3):
_________
(1) بداية المجتهد: 329/ 2، المحلى: 387/ 9، ف 1753.
(2) حديث متواتر متفق عليه عن أبي بكرة (سبل السلام: 71/ 3، 73).
(3) البدائع: 352/ 7 - 356، تبيين الحقائق: 183/ 6، الدر المختار ورد المحتار: 459/ 5، الشرح الصغير: 580/ 4 - 581، المغني: 59/ 6، 64، الشرح الكبير: 423/ 4، القوانين الفقهية: ص 405، بداية المجتهد: 329/ 2 ومابعدها، مغني المحتاج: 44/ 3 - 46، المهذب: 452/ 1، كشاف القناع: 407/ 4 - 418، غاية المنتهى: 313/ 2.

(10/7478)


1 - أن يكون مالاً.
2 - متقوماً.
3 - قابلاً للتمليك.
4 - مملوكاً للموصي إذا كان معيناً.
5 - ألا يكون بمعصية.
وتفصيلها فيما يلي:

1 ً - أن يكون الموصى به مالاً قابلاً للتوارث: لأن الوصية تمليك، ولا يملك غير المال.
والمال الموصى به يشمل الأموال النقدية من دراهم ودنانير، والعينية من عقارات ودور وأشجار وعروض تجارية وحيوان ولباس وأثاث ونحوها، والديون التي فيها ذمة الغير والحقوق المستحقة في الغنيمة، والحقوق المقدرة بمال وهي حقوق الارتفاق من مرور وشِرب ومسيل، والمنافع كسكنى الدار وزراعة الأرض وغلة البستان التي ستحدث في المستقبل وركوب الدابة أو السيارة ونحوها مما يصح بيعه وهبته.
والمنافع حتى عند الحنفية وإن كانت لا تورث عندهم، فإنه يصح التعاقد عليها حال الحياة، فيصح الإيصاء بها؛ لأن المقصود تمليك المنفعة بعد الموت.
وأما غير الحنفية فقالوا: تصح الوصية بالمنافع؛ لأنها كالأعيان في الملك بالعقد والإرث، فكانت كالأعيان في الوصية.
وإذا لم يكن الموصى به مالاً كالدم والميتة وجلدها قبل الدباغ بطلت الوصية؛ لأنه ليس محلاً للملك.

(10/7479)


وأجاز الشافعية الوصية بجلد ميتة قابل للدباغ وميتة تصلح طعماً للجوارح.

2 ً - أن يكون المال الموصى به متقوماً في عرف الشرع: أي يباح الانتفاع به شرعاً. فلا تصح الوصية من مسلم ولا لمسلم بمال غير متقوم، أي لا يجوز شرعاً الانتفاع به كالخمر والخنزير والكلب والسباع التي لا تصلح للصيد، لعدم نفعها وتقومها في نظر الإسلام. وتصح الوصية بها من مسيحي لمثله لتقومها في اعتقاده. ولا تجوز الوصية بما لا يقبل النقل كالقصاص وحد القذف وحق الشفعة.
ولا تصح الوصية لنائحة على ميت، ولا الوصية بلهو أو إعطاء مال على مالا يحل كقتل نفس، ولا الوصية لمن يصوم عنه أو يصلي عنه، وتصح الوصية مع الخلاف على قراءة القرآن على الميت.
وتجوز الوصية عند الحنفية بالكلب المعلم والسباع التي تصلح للصيد، لتقومها عندهم، ولأنها مضمونة بالإتلاف، ويجوز بيعها وهبتها.
وكذلك تصح الوصية عند الشافعية والحنابلة بما فيه نفع مباح من غير المال، ككلب صيد وكلب ماشية وكلب زرع وحرث ونحوها من السباع الصالحة للصيد؛ لأن فيها نفعاً مباحاً، وتقر اليد عليها، والوصية تبرع، فصحت في غير المال كالمال. وتصح الوصية بزيت متنجس لغير مسجد؛ لأن فيه نفعاً مباحاً، وهو الاستصباح به، ولا تصح الوصية به لمسجد؛ لأنه لا يجوز الاستصباح به فيه. وتصح الوصية عند الشافعية بنحو زبل ينتفع به كسماد، وبخمر محترمة: وهي ما عصرت بقصد الخلية لا بقصد الخمرية. وتصح أيضاً بطبل يحل الانتفاع به كطبل حرب: وهو ما يضرب به للتهويل، وطبل حجيج: وهو ما يضرب به للإعلام بنزول وارتحال.

(10/7480)


وتصح الوصية بإناء ذهب أو فضة؛ لأنها مال يباح الانتفاع به في غير حال الاستعمال بجعله حلياً للنساء أو ببيعه ونحوهما.

3 ً - أن يكون قابلاً للتمليك وإن كان معدوماً وقت الوصية: أي أن يكون الموصى به مما يصح تملكه بعقد من العقود شرعاً أو بالإرث؛ لأن الوصية تمليك، وما لا يقبل التمليك لا يصح الإيصاء به.
فتصح الوصية بعين ماله نقداً أو سلعة؛ لأنه يملك بالهبة أو بالبيع، وبمنفعة ماله كسكنى الدار وركوب الدابة؛ لأنها تملك بالإجارة. وبدينه الذي على فلان؛ لأن هذه في الحقيقة وصية بالعين، أي بالدراهم التي في ذمة المدين.
وتصح الوصية بما تثمر نخيله أبداً؛ لأن شراء المنتجات الزراعية قبل وجودها جائز شرعاً من طريق عقد السلم.
وتجوز الوصية بما في بطن بقرته أوغنمه؛ لأنه مما يملك بالإرث.
لكن لو أوصى بما ستلد أغنامه لا يجوز عند الحنفية؛ لأنه لا يقبل التمليك بعقد من العقود في الشريعة، فالذي يجيزه الحنفية إذن هو المعدوم المحتمل وجوده، ولا يشترط وجود الموصى به في الحال.
وقال الجمهور: تصح الوصية بالمعدوم مطلقاً؛ لأنه يقبل التمليك في حال حياة الموصي بعقد المساقاة، فتصح الوصية به.
والذي أجازه الحنفية من الوصية بما يقبل التمليك، يشترط وجوده في المستقبل، لكن وقت وجوده يختلف عندهم بحسب نوع المال:
فإن كان المال معيناً بالذات كدار معينة ومزرعة معينة، فيشترط وجوده عند الوصية.

(10/7481)


وإن كان شائعاً في كل المال، كالوصية بثلث ماله أو ربعه، فالشرط وجوده عند موت الموصي؛ لأنه وقت تنفيذ الوصية.
وإن كان شائعاً في بعض المال، كالوصية بثلث غنمه، فإن كان له غنم وقت الوصية، اشترط وجوده وقت الوصية، كالنوع الأول، وإن لم يكن له غنم أصلاً وقت الوصية، فهو كالشائع في كل المال، يعتبر فيه الموجود عند الموت؛ لأنه ليس شيئاً معيناً حتى تتقيد به الوصية.
والشرط عند الجمهور (غير الحنفية) بصفة عامة: وجود الموصى به وقت موت الموصي. أما دليل الجمهور القائلين بأنه تصح الوصية بالمعدوم مطلقاً كثمر البستان مدة معينة أو دائماً، وبما تحمل دوابه وأغنامه، فهو أن المعدوم يجوز أن يملك بعقد السلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية. وأما الحنفية الذين لم يجيزوا استحساناً الوصية بما ستلد أغنامه؛ فلأنه لا يقبل التمليك حال حياة الموصي بعقد من العقود.
واتفق الكل على أنه تجوز الوصية بالمجهول وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلثه، كما يخلفه الوارث في ثلثه، فلما جاز أن يخلف الوارث الميت في هذه الأشياء، جاز أن يخلفه الموصى له.
واتفقوا على أنه تجوز الوصية بالمشاع والمقسوم؛ لأن الإيصاء تمليك جزء من ماله، فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع.
وهذا كله يدل على أن الوصية أوسع العقود كما قال الفقهاء.

4 ً - أن يكون الموصى به مملوكاً للموصي عند إنشاء الوصية إذا كان معيناً بالذات؛ لأن الوصية بمعين إيجاب للملك في المعين، فلا بد من أن يكون مملوكاً له وقت الوصية، فالوصية بملك الغير لا تصح.

(10/7482)


فمن قال: وصيت بمال زيد، فلا تصح الوصية عند الجمهور، ولو ملك الموصي مال زيد بعد الوصية، لفساد الصيغة بإضافة المال إلى غيره.

أما القانون بالنسبة لشروط الموصى به السابقة: فقد نصت المادة العاشرة من قانون الوصية المصري على ما يلي:
1ً - أن يكون الموصى به مما يجري فيه الإرث أو يصح أن يكون محلاً للتعاقد حال حياة الموصي.
2ً - أن يكون متقوماً إذا كان مالاً.
3ً - أن يكون موجوداً عند الوصية في ملك الموصي إن كان معيناً بالذات.

ونص القانون السوري (م 216) على أنه يشترط في الموصى به:
أـ أن يكون قابلاً للتمليك بعد موت الموصي، ومتقوماً في شريعته.
ب ـ أن يكون موجوداً عند الوصية في ملك الموصي إن كان معيناً بالذات.
ونصت المادة (217) على أنه: تصح الوصية بالحقوق التي تنتقل بالإرث، ومنها حق المنفعة بالعين المستأجرة بعد وفاة المستأجر.
ونصت المادة (218) على أنه: تصح الوصية بإقراض الموصى له قدراً معلوماً من المال، ولا تنفذ فيما زاد من هذا المقدار على ثلث التركة، إلا بإجازة الورثة.

5 ً - ألا يكون الموصى به معصية أو محرماً شرعاً: لأن القصد من الوصية تدارك ما فات في حال الحياة من الإحسان، فلا يجوز أن تكون معصية، وللمعصية أمثلة من كل مذهب:

(10/7483)


فمن أمثلة الحنفية (1): الوصية بطعام تجتمع له النائحات بعد موته، أو بتطيين القبر، أو ضرب قبة أو تشييد بناء عليه، أو دفنه في داره، أو المغالاة في كفنه والوصية بقراءة على القبور أو في المنازل، فكل تلك الوصايا باطلة، لعدم جواز الاستئجار على قراءة القرآن. أما ما أفتى به المتأخرون، فهو ليس جواز الاستئجار على جميع الطاعات، وإنما جواز الاستئجار على ما تقضي به الضرورة وخشية الضياع، كالاستئجار لتعليم القرآن أو الفقه أو الأذان أو الإمامة خشية التعطل لقلة رغبة الناس في الخير، ولا ضرورة في استئجار شخص يقرأ على القبر أو غيره. ولو جاز الاستئجار على كل طاعة، لجاز على الصوم والصلاة والحج، مع أنه باطل بالإجماع ـ كما قال ابن عابدين.
وكل ما ذكر لا يمنع من التطوع بقراءة القرآن على القبور، فلو زار إنسان قبر صديق أو قريب له، وقرأ عنده شيئاً من القرآن، فهو حسن، أما الوصية بالقراءة فلا معنى لها.
لكن بطلان الوصية لتطيين القبر والقراءة مبني على القول بكراهة ذلك. والمختار عندهم عدم الكراهة.
هذا حكم الوصية بنفس المعصية وهو البطلان لعدم توافر كل من الوصية للصلة أو القرابة، أما الوصية لأهل الفسوق والمعصية فهي مكروهة، لبقاء معنى الصلة في الوصية.
ووصية المسلم لبِيعة أو كنيسة باطلة؛ لأنها معصية، ولو أوصى الذمي للبيعة أو للكنيسة أن ينفق عليها في إصلاحها، أو أوصى ليذبح لعيدهم جازت الوصية
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 458/ 5، 471، 488 وما بعدها، البدائع: 341/ 7.

(10/7484)


عند أبي حنيفة؛ لأن المعتبر في وصيتهم ما هو قربة عندهم لا ما هو قربة حقيقية؛ لأنهم ليسوا من أهل القربة الحقيقية، وقال الصاحبان: الوصية بما ذكر باطلة؛ لأن الوصية بهذه الأشياء وصية بما هو معصية، والوصية بالمعاصي لا تصح. والوصية بالمصاحف لتوقف في المسجد باطلة عند أبي حنيفة، صحيحة عند محمد. وإذا أوصى بفرش فراش تحته في قبره، فقيل: تصح كالزيادة في الكفن، وقيل: لا تصح لأنه ضياع مال من غير جدوى. وإذا أوصى بطلاء قبره بالجبس ونحوه، فقيل: إن كان لتقوية القبر وإخفاء الرائحة فيجوز، وإلا فلا. وإذا أوصى باتخاذ طعام في المآتم، فيصح بشرط أن يأكل منه المسافرون والبعيدون عن جهة المتوفى.

ومن أمثلة المعصية عند المالكية (1): الإيصاء بمال يُشترى به خمر لمن يشربها، أو يُدفع لمن يقتل نفساً بغير حق، والإيصاء ببناء مسجد أو مدرسة في أرض موقوفة مقبرة، والإيصاء لمن يصلي عنه أو يصوم عنه، والإيصاء باتخاذ قنديل من ذهب أو فضة ليعلق في قبر نبي أو ولي ونحوه، فإنه من ضياع الأموال في غير ما أمر به الشارع، وللورثة أن يفعلوا به ما شاؤوا.
والوصية بنياحة عليه بعد موته، أو بلهو محرم في عرس أو بإعطاء مال على مالا يحل كقتل نفس، والوصية بضرب قبة على قبر، مباهاة، فكل ما ذكر تبطل الوصية به، ولا ينفذ، ويرجع ميراثاً.
والوصية ببناء قبة عليه، وهو ليس من أهلها، أو يوصي بإقامة مولد على الوجه الذي يقع في هذه الأزمنة من اختلاط النساء بالرجال، والنظر للمحرم ونحوه من المنكر. وكأن يوصي بكتابة جواب سؤال القبر وجعله معه في كفنه أو قبره.
_________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 427/ 4، شرح الرصاع التونسي على حدود ابن عرفة: ص531.

(10/7485)


لكن أجاز المالكية الوصية لمن يقرأ على قبره، فإنها نافذة، كالوصية بالحج عنه، وتصح الوصية بالكفن والحمل والدفن والغسل ونحوها مما تصح الإجارة عليه، وتجوز الوصية للمسجد وينفق على مصالحه.

ومن أمثلة المعصية أو ما لا قربة فيه عند الشافعية (1): الوصية للكنيسة، والوصية بالسلاح لأهل الحرب، أو ببناء موضع لبعض المعاصي كالخمارة، أو لمشاغب مفسد لإفساد التركة، فكل تلك الوصايا باطلة، لمنافاتها مقتضى ما شرعت له الوصية من البر وتدارك الحسنات.
ومن الوصايا الباطلة عند الشافعية والحنابلة (2): الوصية بطبل لهو لا يحل الانتفاع به في حال الحرب ونحوها، أو بمزمار وطنبور وعود لهو، وكذا آلات اللهو كلها، ولو لم يكن فيها أوتار؛ لأنها مهيأة لفعل المعصية. والوصية بكتب السحر والتنجيم والتعزيم وكتب البدع المضلة؛ لأنها إعانة على معصية.
وتصح الوصية بعمارة المسجد ومصالحه، بشرط أن يقبل الناظر، وتصح الوصية بقراءة القرآن على القبر؛ لأن ثواب القراءة يصل إلى الميت إذا وجد واحد من ثلاثة أمور: القراءة عند قبره، أو الدعاء له عقب القراءة، أو نية حصول الثواب للميت.

ومن أمثلة المعصية أو الفعل المحرم سواء أكان الموصي مسلماً أم ذمياً عند الحنابلة: الوصية بما نهي عنه مما يعمل على القبور من بناء غير مأذون فيه، وهو ما زاد على شبر، والوصية ببناء كنيسة أو بيت نار للمجوس أو عمارتها أو الإنفاق
_________
(1) المهذب: 451/ 1، مغني المحتاج: 40/ 3، حاشية الباجوري: 90/ 2.
(2) كشاف القناع: 407/ 4 - 413، غاية المنتهى: 363/ 2 - 365، المغني: 105/ 6.

(10/7486)


عليهما. وتكون الوصية باطلة. لكن تصح الوصية للمسجد على أن تصرف في مصالحه، وتصح بكتابة العلم والقرآن؛ لأنه قربة نافعة.

ما يشترط في الموصى به لنفاذ الوصية:
يشترط لنفاذ الوصية في الموصى به شرطان:

الحجر بسبب الدين المستغرق:
1 ً - ألا يكون مستغرقاً بالدين: لأن الديون ـ كما تقدم ـ مقدمة في وجوب الوفاء لها على الوصية، بعد تجهيز الميت وتكفينه.
وتقديم الوصية في القرآن في آية: {من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:12/ 4] لا يدل على تقدمها في الرتبة عليه، وإنما هو للتنبيه إلى أهمية الوصية ووجوب تنفيذها من الورثة. فإن أجاز الغرماء (الدائنون) وصية المدين، نفذت، وإلا بطلت.

الوصية بالزائد عن الثلث:
2 ً - ألا يكون الموصى به زائداً على ثلث التركة إذا كان للموصي وارث: لإجماع العلماء على وجوب الاقتصار في الوصية على الثلث، بمقتضى الثابت في السنة في حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم وغيره: «الثلث والثلث كثير».
وتكون الزيادة عن الثلث موقوفة على الإجازة، فإن أجاز الورثة الزائد عن الثلث لأجنبي، نفذت الوصية، وإن ردوا الزيادة بطلت.
ولا تعتبر الإجازة إلا بالشرطين السابقين في الوصية للوارث: أن تكون بعد وفاة الموصي، وأن يكون المجيز من أهل التبرع عالماً بالموصى به.

(10/7487)


وإن أجاز بعضهم دون بعض نفذت في حصة المجيز فقط، وبطلت في حصة غيره.
أما إذا لم يكن للموصي وارث، فإن الوصية بأكثر من الثلث تكون عند الحنفية صحيحة نافذة، ولو كان الموصى به جميع المال؛ لأن المانع من نفاذ الوصية في الزائد عن الثلث إنما هو تعلق حق الورثة بتلك الزيادة، فلا تنفذ إلابرضاهم. فإذا لم يكن هناك ورثة لم يبق حق لأحد.
وقال المالكية والشافعية: إذا أوصى بما زاد عن الثلث، فإن لم يكن له وارث، بطلت الوصية فيما زاد على الثلث؛ لأن ماله ميراث للمسلمين، ولا مجيز له منهم، فبطلت. وإن كان له وارث، كانت الوصية عند الشافعية والحنابلة (1) والحنفية موقوفة على إجازته ورده، فإن ردها رجعت الوصية إلى الثلث، وإن أجازها صحت، وتكون الوصية بالزائد عن الثلث باطلة عند المالكية.

استحباب الوصية بما دون الثلث: الأولى ألا يستوعب الإنسان الثلث بالوصية، ويستحب أن يوصي بدون الثلث، سواء أكان الورثة أغنياء أم فقراء (2)؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الثلث والثلث كثير» ولأن في التنقيص صلة القريب بترك ماله عليهم، بخلاف استكمال الثلث؛ لأنه استيفاء تمام حقه، فلا صلح ولا مِنَّة، وترك الوصية عند فقر الورثة وعدم استغنائهم بحصصهم أحبّ، كما بان في حكم الوصية شرعاً.
_________
(1) المهذب: 450/ 1، تكملة المجموع: 46/ 15 وما بعدها، الشرح الصغير: 586/ 4، المغني: 4/ 6 - 7، 12 - 15.
(2) المغني: 4/ 6، الكتاب مع اللباب: 169/ 4.

(10/7488)


المبحث الثالث ـ أحكام الوصية:
للحكم إطلاقات ثلاثة: يطلق الحكم، ويراد به إما الحكم التكليفي المتعلق بالفعل وجوباً وإباحة وغيرهما، أو حكم الشرع على الشيء بعد وجوده، أي الصفة الشرعية له صحة وبطلاناً، ونفاذاً ولزوماً وغيره، أو الأثر الشرعي المترتب على الشيء من حيث نقل الملكية وغيره. وقد بحثت حكم الوصية بالمعنى الأول، وأبحث هنا أحكامها بالمعنيين الأخيرين.

المطلب الأول ـ صفة الوصية شرعاً والرجوع عنها: تكون الوصية صحيحة إذا استوفت شروط صحتها، وباطلة إذا تخلف منها شرط، كالوصية من عديم الأهلية مثل المجنون والمعتوه، والوصية لجهة معصية، والوصية بخمر أو خنزير لمسلم، وتكون نافذة إذا توافر فيها شروط النفاذ، وموقوفة على إجازة صاحب الحق، كالوصية لوارث أو بزائد عن الثلث لأجنبي.
واتفق الفقهاء (1) على أن الوصية عقد غير لازم، وأنه يجوز للموصي في حال حياته الرجوع عنها كلها أو بعضها، سواء وقع منه الإيصاء في حال صحته أو مرضه؛ لقول عمر رضي الله عنه: «يغير الرجل ما شاء في وصيته» (2) ولأنها عطية أو تبرع لم يتم، ينجز بالموت، فجاز الرجوع عنها قبل تنجيزها، ولأن القبول يتوقف على الموت، والإيجاب يصح إبطاله قبل القبول كما في البيع.
_________
(1) اللباب: 178/ 4 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 438/ 8 - 441، الدر المختار: 465/ 5 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 406، الشرح الصغير: 587/ 4، مغني المحتاج: 71/ 3 - 72، المغني: 67/ 6 - 68، المهذب: 461/ 1 وما بعدها، كشاف القناع: 386/ 4 - 389، تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي على الزيلعي: 186/ 6 وما بعدها.
(2) رواه البيهقي.

(10/7489)


واتفقوا أيضاً على أن الرجوع عن الوصية يكون إما بالقول الصريح، أو بالدلالة أو ما يجري مجرى الصريح قولاً أو فعلاً.
ومن أمثلة الرجوع الصريح: أن يقول الموصي: نقضت الوصية أو أبطلتها أو رجعت فيه، أو فسختها أو أزلتها، ونحوها من الصرائح.
ومن أمثلة مايجري مجرى الصريح أن يقول: هو حرام على الموصى له، أو هذا لوارثي. أو يقوم بتصرف في الموصى به يدل على رجوعه كالبيع والإصداق، والهبةوالرهن مع قبض أم لا، واستهلاك الشيء كذبح الشاة الموصى بها أو كلها، وخلط الموصى به بغيره خلطاً يعسر تمييزه، وطحن حنطة وعجن دقيق وغزل قطن ونسج غزل، وقطع ثوب قميصاً، وصوغ معدن من ذهب أو فضة، وبناء وغراس في ساحة ..
إلا أن المالكية لا يعتبرون الفعل أو التصرف رجوعاً إلا إذا ذهب بجوهر الموصى به وحقيقته أو كان استهلاكاً له، أو دل دليل على أن الموصي قصد به الرجوع عن الوصية، فهم يوافقون الجمهور في الرجوع بصريح القول، وبالفعل الاستهلاكي من أكل وذبح وإحراق، ولكنهم لا يعتبرون رجوعاً: خلط الشيء بغيره خلطاً يعسر تمييزه، وزيادة الموصى به زيادة متصلة، وحصد الزرع الموصى به ودرسه بدون تذرية على المعتمد؛ لأنه لم يزل عنه اسم الزرع. فالخلط المذكور وزيادة الموصى به لا تعد رجوعاً عند المالكية خلافاً لغيرهم.
ويعتبر عند الحنفية رجوعاً في الأصح المفتى به كما في الذخيرة والمبسوط وهو قول أبي يوسف: جحود الوصية أي إنكارها بأن قال الموصي: لم أوص؛ لأن

(10/7490)


إنكاره الوصية دليل على عدم رضاه عنها، وهو ينبئ عن قصده الرجوع فيها. ولا يعد الجحود عند محمد (1) والشافعية والحنابلة رجوعاً عن الوصية؛ لأنها عقد، فلا تبطل بالجحود كسائر العقود.
ويعد التوكيل في البيع والعرض على البيع أو الرهن أو الهبة، وبناء وغرس الأرض الموصى بها وانهدام الدار كلها أو بعضها رجوعاً عند الشافعية والحنابلة، ولا يعد رجوعاً عندهم زرع الأرض بما لا تبقى أصوله كلبس الثوب، كما لا يعتبر رجوعاً بالاتفاق خلط الموصى به بحيث لا يعسر تمييزه عن بعضه كخلط الحنطة بالفاصولياء، ولبس الثوب الموصى به وغسله، والسكنى في المكان الموصى به، وإجارته أو إعارته، وتحسينه كالتجصيص وإعادة بناء السقف.

الرجوع عن الوصية في القانون:
فرق القانون بين الوصية الاختيارية والوصية الواجبة، فاعتبر الوصية الواجبة لازمة بمجرد إنشائها، بل ولو لم ينشئها، أما الوصية الاختيارية فلا تلزم إلا بموت الموصي.
ونص قانون الوصية المصري (م 18، 19) وقانون الأحوال الشخصية السوري (فقرة د/م220، و/م221، 222) على مبدأ الرجوع عن الوصية وحالاته.
وافق هذا القانون اتفاق الفقهاء على جواز الرجوع عن الوصية صراحة أو دلالة، كما وافق اتفاقهم على حالات الرجوع الصريح، وعلى ما يعتبر رجوعاً عن الوصية من كل فعل أو تصرف يدل بقرينة أو عرف على الرجوع عنها، ما لم
_________
(1) وهو مختار صاحب الهداية، وهو ما أخذ به القانون.

(10/7491)


يصرح بأنه لم يقصد الرجوع. ويعد من الرجوع دلالة: كل تصرف يزيل ملك الموصي عن الموصى به، واستهلاك الموصى به كأكل أو ذبح.
وأخذ القانون بالمذهب المالكي في عدم اعتبار خلط الشيء بغيره خلطاً يعسر تمييزه، وزيادة الموصى به زيادة لا يمكن تسليمه إلا بها كزيادة غرفة أو حمام أو مطبخ إلا بدلالة قرينة أو عرف على الرجوع، وأخذ برأي الجمهور (غير الحنفية) بعدم اعتبار الجحود (أي إنكار الوصية) رجوعاً. وليس من الرجوع قانوناً الفعل الذي يزيل اسم الموصى به أو يغير معظم صفاته إلا إذا دلت قرينة أو عرف على أن الموصي يقصد به الرجوع عن الوصية.

المطلب الثاني ـ الأثر المترتب على الوصية:
عرفنا في بحث صيغة الوصية أنه يترتب على الوصية ثبوت الملك للموصى له في الموصى به، من الوقت الذي حدده الموصي لابتداء الملكية إن حدد ميعاداً، أما إن لم يحدد ميعاداً: فإن كانت الوصية لجهة عامة ترتب الأثر بالفعل من وقت وفاة الموصي.
وإن كانت الوصية لشخص معين ترتب الأثر بالفعل عند الجمهور غير الحنابلة من وقت القبول بعد وفاة الموصي مستنداً إلى تاريخ الوفاة، ومن وقت القبول فقط عند الحنابلة كما تقدم. فإن لم يقبل الموصى له، لم يتملك الموصى به، وعاد إلى ملك الورثة. ونص القانون السوري (م/230) والمصري (م/25) على استحقاق الموصى به من حين الموت، ما لم يحدد نص الوصية ثبوت الاستحقاق في وقت معين. وتكون زوائد الموصى به حين الموت ملكاً للموصى له، وعلى الموصى له نفقة الموصى به منذ استحقاقه له.

(10/7492)


المطلب الثالث ـ أحكام الموصي:
بناء على ما ذكر في شروط الوصية، أفضل الكلام في حكم وصية المدين وغير المسلم.
وصية المدين:
تنشأ وصية المدين صحيحة، ولو كان الدين مستغرقاً لجميع ماله؛ لأن تعلق الدين بالتركة إنما يكون عند الوفاة، وعند الوفاة يظهر أثر الدين في الوصية (1).
أـ فإن كانت التركة مدينة بدين مستغرق: كان تنفيذ الوصية موقوفاً على براءة ذمة الموصي من كل الدين أو من بعضه، سواء أكانت براءته بسبب إسقاط الدائنين لحقوقهم أم إجازتهم الوصية، أم بتبرع شخص آخر بأداء الدين عن المدين.
وإذا برئت ذمة المدين من كل الدين، كانت الوصية نافذة في ثلث جميع التركة، وإذا برئت من بعض الدين دون البعض، كانت الوصية نافذة في ثلث ما أبرئ منه، وغير نافذة في الباقي.
ب ـ وإن كانت التركة مدينة بدين غير مستغرق: فإن الوصية تكون نافذة بدون توقف على إجازة أحد في الثلث الخالي من الدين؛ لأنه لم يتعلق به حق لأحد.
ووافق القانون المصري (م 38، 39) والسوري (م 3/ 238، 4) على هذه الأحكام المأخوذة من الفقه الحنفي وغيره، فلا تنفذ وصية المدين المستغرق ماله بالدين إلا بإجازة الدائن كامل الأهلية أوبسقوط الدين. وتنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له، بكل ماله من غير توقف على إجازة أحد.
_________
(1) الوصية للأستاذ الشيخ عيسوي: ص 63، ط الأولى.

(10/7493)


وصية غير المسلم:
تصح الوصية من المسلم وغيره؛ لأنها نوع من البر، وهو مرغوب فيه في كل الأديان. وتجوز كما تقدم وصية المسلم للكافر، والكافر للمسلم، فليس الإسلام شرطاً لصحة الوصية، فتصح وصية الذمي بمال للمسلم وللذمي، وبالعكس (1)، للمبدأ الشرعي المعروف: «فإذا قبلوا عقد الذمة، فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين» (2). ونص القانون السوري (م1/ 215) والمصري (م2/ 3) على أنه تصح الوصية للأشخاص مع اختلاف الدين والملة بينهم وبين الموصي.
وغير المسلم يشمل الذمي والحربي والمرتد.

1 - وصية الذمي (3):
اتفق الفقهاء على جواز وصيته: لأنه من أهل التمليك، ويملك التصرف بماله كما يشاء بالبيع والهبة والوصية ونحوها.
وتكون وصيته كالمسلم جائزة نافذة في حدود ثلث التركة، ولا تنفذ في الزائد عن الثلث، مراعاة لحق الورثة.
وله أن يوصي لذمي مثله، أو مستأمن، أو مسلم، وليس له عند الحنفية أن يوصي لحربي في دار الحرب، لما في الوصية من إعانة وتقوية للأعداء.
_________
(1) الدر المختار: 463/ 5، 492، الكتاب مع اللباب: 151/ 4، 169، البدائع: 136/ 7، 335، 341، الشرح الصغير: 581/ 4 وما بعدها، تبيين الحقائق: 184/ 6، تكملة الفتح: 430/ 8، المغني: 104/ 6، مغني المحتاج: 43/ 3، كشاف القناع: 390/ 4.
(2) حديث صحيح رواه مسلم وغيره عن بريدة.
(3) الذمي: هو غير المسلم المواطن في دار الإسلام بصفة دائمة.

(10/7494)


وتصح وصيته عند الحنفية لكل جهة هي قربة في اعتقاده، إلا إذا كانت محرَّمة في شريعته وشريعة الإسلام، أو كانت قربة في شريعة الإسلام دون شريعته.
والذي هو قربة في الشريعتين: الوصية للفقراء وعمارة بيت المقدس وبناء مسجد لمسلمين معينين.
وما هو قربة في شريعته دون شريعة المسلمين: الوصية ببناء كنيسة، أوبإطعام خنزير لفقراء ملته.
وما هو قربة في شريعة المسلمين دون شريعته: الوصية ببناء مسجد لمسلمين غير معينين.
وما هو محرم في الشريعتين: الوصية باتخاذ أندية للقمار أو المراقص.
وتصح الوصية عند أبي حنيفة في الحالتين الأوليين؛ لأن المعتبر ما هو قربة عنده لا ما هو قربة حقيقة؛ لأنهم ليسوا من أهل القربة الحقيقية، ولا تصح في الحالتين الأخريين.
وأخذ القانون المصري والسوري بهذه الأحكام ما عدا الوصية بما هو قربة في شريعة المسلمين، كبناء مسجد لمسلمين غير معينين، فقد جوزها القانون أخذاً بمذهب الشافعية.

2 - وصية الحربي (1):
تصح الوصية للحربي ومن الحربي مستأمناً كان أو في دار الحرب عند
_________
(1) الحربي: هو غير المسلم التابع لدولة غير إسلامية، والمستأمن: هو غير المسلم الداخل دار الإسلام بأمان مؤقت. أما المسلم سواء في بلاد الإسلام أم في غيرها فلا يعتبر حربياً، ولا مستأمناً؛ لأن بلاد الإسلام كلها وطن واحد.

(10/7495)


الشافعية والحنابلة، ولا تصح له حال كونه في دار الحرب وتصح له إذا كان مستأمناً عند الحنفية، ولا تصح له مطلقاً عند المالكية.
وأجاز القانون أخذاً برأي الشافعية والحنابلة الوصية للحربي، إذا كانت دولته تبيح الوصية للموصي، عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل. ويصح من وصاياه ما تجيزه قوانين بلاده، ويبطل ما لا تجيزه.
أما المستأمن: فحكمه عند الحنفية حكم الذمي، فتصح الوصية له، ومنه لمسلم أو ذمي. فإن كان ورثته معه في دار الإسلام، فلا تنفذ وصيته بأكثر من الثلث إلا بإجازتهم في الزائد. وإن كان ورثته في دار الحرب فتنفذ وصيته في المال كله، إذ لا حق للورثة في ماله بسبب اختلاف الدارين، واختلاف الدارين يمنع التوارث.
أما القانون: فأجاز التوارث مع اختلاف الدارين بشرط المعاملة بالمثل، فيجوز إن أجازت دولته التوارث، ولا يجوز إن منعت دولته التوارث. وعليه لا تنفذ وصاياه في الزائد على الثلث إلا بإجازة الورثة.

3 - وصية المرتد (1):
تصح وصية المرتد في غير محرَّم شرعاً عند المالكية والشافعية والحنابلة؛ لأن وصية الكافر للمسلم صحيحة، والمرتد كافر. والمحرم شرعاً كانتفاع المسلم بالخمر والخنزير. لكنهم قالوا: تكون موقوفة؛ كبقية تصرفاته من معاوضات وتبرعات؛ لأنه مال تعلق به حق الغير، فإن عاد إلى الإسلام نفذت، وإن مات أو قتل لردته بطلت، تغليظاً عليه بقطع ثوابه، بخلاف وصية المريض.
_________
(1) المرتد: من ترك دين الإسلام إلى دين آخر أو إلى غير دين. وحكمه أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولا تقتل المرتدة عند الحنفية.

(10/7496)


وفرق الحنفية بين المرأة والرجل، فقالوا: تصح وصايا المرأة، وتكون نافذة، كما تصح جميع تصرفاتها؛ لأنها لا تقتل عندهم بسبب الردة.
أما الرجل المرتد: فوصيته موقوفة، فإن عاد إلى الإسلام ومات عليه نفذت وصاياه كجميع تصرفاته، وإن مات على الردة بطلت وصاياه وتصرفاته جميعها.
وأخذ القانون بمذهب الجمهور.

المطلب الرابع ـ أحكام الموصى له:
الموصى له إما أن يكون متحقق الوجود عند الوصية، أو مرجح الوجود عندها كالحمل، أو أن يكون معدوماً. والموجود إما شخص طبيعي أو جهة عامة.
وأبحث هنا حكم الوصية للجهات العامة، وللحمل، وللمعدوم، ولجماعة محصورين أو غير محصورين.

1 - حكم الوصية للجهات العامة:
اتفق الفقهاء (1) على صحة الوصية لجهة عامة كالمساجد ومدارس العلم والمشافي والمكتبات والملاجئ ونحوها، سواء أكان الموصى به عيناً كمكتبة، أم منفعة كأجرة دار أو محل تجاري، بنحو دائم أو مؤقت (2).
ويصرف الموصى به بحسب شرط الموصي إذا لم يصادم مقاصد الشريعة، فإن لم يوجد شرط من الموصي يصرف على إصلاح وعمارة الجهة الموصى لها إنشاء
_________
(1) البدائع: 341/ 7، الدر المختار: 470/ 5 وما بعدها، 492، الشرح الصغير: 581/ 4، مغني المحتاج: 42/ 3، كشاف القناع: 398/ 4، غاية المنتهى: 358/ 2 - 359.
(2) أصل المذهب الحنفي: أن الوصية بشيء للمسجد لا تجوز؛ لأنه لا يملك، لكن جوزها الإمام محمد ابن الحسن، وبقوله يفتى (الدر المختار: 492/ 5).

(10/7497)


وترميماً وخدمة من إمام ومؤذن في المسجد، وشؤون المتعلمين في دور العلم؛ لأن العرف يحمله على ذلك، ويصرفه القيِّم في أهم مصالح الجهة باجتهاده؛ لأن قصد المسلم من هذه الوصية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، بإخراج ماله إلى الله تعالى، لا التمليك إلى أحد، ولا تصرف في الأصح لفقراء المسجد.
وكذلك تصح الوصية لأعمال البر (1) مطلقاً من غير تحديد جهة معينة، وتصرف في أي جهة خيرية، كعمارة الوقف وسراج المسجد، دون تزيينه لأنه إسراف.
وتصح الوصية في سبيل الله، وتصرف للجهاد ومتطلباته، ويجوز صرفها لحاج منقطع.
ولو قال: أوصي بثلث مالي لله تعالى، صح عند محمد وهو المفتى به عند الحنفية، وتصرف لوجوه البر؛ لأنه وإن كان كل شيء لله تعالى، لكن المراد التصدق لوجهه تعالى، تصحيحاً لكلامه بقرينة الحال.
ونص القانون المصري (م 7، 8) والقانون السوري (م 213، 214) على وفق المقرر لدى الفقهاء من الأحكام المذكورة:
(م 213): 1 - الوصية لله تعالى ولأعمال البر بدون تعيين جهة: تصرف في وجوه الخير.
2 - الوصية لأماكن العبادة والمؤسسات الخيرية والعلمية وسائر المصالح العامة: تصرف على عمارتها ومصالحها وفقرائها وغير ذلك من شؤونها، ما لم يتعين المصرف بعرف أو قرينة.
_________
(1) قال في الفتاوى الظهيرية: كل ما ليس فيه تمليك فهو من أعمال البر.

(10/7498)


(م 214) - تصح الوصية لجهة معينة من جهات البر ستوجد في المستقبل، فإن تعذر وجودها، صرفت الوصية إلى أقرب مجانس لتلك الجهة.

الوصية بالحج: تصح الوصية بالحج اتفاقاً؛ لأنه من أعمال البر.
قال الحنفية (1): إذا أوصى بحجة الإسلام، أحج عنه رجلاً راكباً من بلده إن كفته النفقة، وإلا فمن حيث تكفي؛ لأن المستطيع لا يلزم أن يحج ماشياً، فوجب عليه الإحجاج على الوجه الذي لزمه وهو من بلده، ولذا يعتبر فيه من المال ما يكفيه من بلده. ولو قال رجل: أنا أحج عنه ماشياً لا يجزي المحجوج عنه. ولو كان في المال المدفوع وفاء بنفقات الركوب، فمشى النائب، واستبقى النفقة لنفسه، فهو مخالف ضامن للنفقة؛ لأنه لم يحصل ثوابها له.
وإن مات حاج في طريقه، وأوصى بالحج عنه، يُحَج من بلده راكباً، وهو المعتمد، ومن حيث مات استحساناً إن كفته نفقته، وإلا فمن حيث تكفي.
ومن لا وطن له يحج عنه من حيث مات إجماعاً.
وتصح الوصية بحج التطوع: ومن قال: أحجوا عني بثلث مالي أو بألف، وهو يكفي حججاً، فإن صرح بحجة واحدة اتبع التصريح، ورد الفضل الزائد إلى الورثة، وإن لم يصرح، حج عنه حججاً بأشخاص في سنة واحدة، وهو الأفضل، أو في كل سنة. وآخر القولين لأبي حنيفة: أن حج النفل أفضل من الصدقة.

وقال الشافعية (2): حجة الإسلام وإن لم يوص بها، تحسب على المشهور من
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 469/ 5، الكتاب مع اللباب: 177/ 4.
(2) مغني المحتاج: 67/ 3، المهذب: 454/ 1.

(10/7499)


رأس المال، كسائر الديون وأولى، فإن أوصى بها من رأس المال، أو من الثلث، عمل به، ويكمل الواجب من رأس المال، كما لو قال: اقضوا ديني من الثلث، فلم يف الثلث به. وإن أطلق الوصية بحجة الإسلام، بأن لم يقيدها برأس مال ولا ثلث، فمن رأس المال. ويحج عنه من الميقات المخصص لبلده؛ لأنه لو كان حياً، لم يلزمه سواه، ولا يخرج من مال المحجوج عنه إلا ما كان مستحقاً عليه. فإن أوصى أن يحج عنه من دويرة أهله امتُثل. وإن أوصى بالحج من الثلث، وعجز عنه، فمن حيث أمكن.
وللأجنبي أن يحج عن الميت بغير إذنه في الأصح، سواء حجة الإسلام وعمرته، أو حجة النذر وعمرته، من مال نفسه، وإن لم تجب على الميت حجة الإسلام وعمرته قبل موته لعدم استطاعته.
وتصح الوصية في الأظهر بحج تطوع أو عمرة تطوع، لجواز النيابة فيه؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة في فرضها، فتدخل النيابة في نفلها، كأداة الزكاة. ويُحَج عن الميت من بلده أو الميقات، إن وسعه الثلث، وإلا فمن حيث أمكن، وإن لم يقيد الموصي بل أطلق الوصية بالحج عنه، يحج عنه من الميقات في الأصح، حملاً على أقل الدرجات.

وقال الحنابلة (1): تخرج حجة الفريضة من رأس المال، ولو لم يوص بها، كما قال الشافعية، وإن أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه تطوعاً بألف، صرف من الثلث مؤنة حجة بعد أخرى لمن يحج عنه راكباً أو راجلاً، يدفع الوصي لكل واحد قدر ما يحج به من النفقة حتى نهاية الألف؛ لأن الميت وصى بجميعه في جهة قربة، فوجب صرفه فيها، كما لو وصى به في سبيل الله. ولا يجوز أن يدفع
_________
(1) كشاف القناع: 399/ 4 - 402، غاية المنتهى: 359/ 2.

(10/7500)


إلى واحد أكثر من نفقة المثل؛ لأنه أطلق التصرف في المعاوضة، فاقتضى عوض المثل، كالتعويض في البيع والشراء.
فلو لم تكف الألف للحج، حج به من حيث يبلغ؛ لأن الموصي قد عين صرفه ذلك في الحج، فصرف فيه بقدر الإمكان.
ولا يصح للوصي أن يحج بالألف؛ لأنه منفِّذ، كالتوكيل في التصدق، لا يصح للمأمور أن يأخذ منه شيئاً.
ولا يصح أيضاً للوارث أن يحج بالألف؛ لأن ظاهر كلام الموصي جعله لغيره. فإن عين الموصي أن يحج عنه الوارث بالنفقة، جاز.
ويجزئ الحج عن الموصي في هذه الحالة من الميقات عملاً بأدنى الحالات، والأصل عدم وجوب الزائد.
وإن قال: حجوا عني بألف، ولم يقل: واحدة، لم يحج عنه إلا حجة واحدة، وما فضل للورثة.
وإن قال: حجوا عني بألف، دفع الألف إلى من يحج عنه حجة واحدة عملاً بمقتضى وصيته، وتنفيذاً لها. فإن عين الموصي أحداً في الوصية، فقال: يحج عني فلان حجة بألف، فهو وصية له، فإن حج أعطي الألف قبل التوجه، وإن أبى الحج بطلت في حقه، ويحج عنه بأقل ما يمكن من النفقة، والبقية للورثة في فرض ونفل. ولا يعطى المال إلا أيام الحج احتياطاً للمال، ولأنه معونة في الحج، فليس مأذوناً فيه قبل وقته.
وللنائب الموصى به تأخير الحج لعذر كمرض ونحوه.

(10/7501)


ولو قال الشخص: حجوا عني حجاً، ولم يذكر قدراً من المال، دفع إلى من يحج قدر نفقة المثل فقط؛ لأن الإطلاق لا يقتضي الزيادة عليه.
ولو وصى بثلاث حجج إلى ثلاثة، صح صرفها في عام واحد.
فإن تلف المال في الطريق بيد النائب، فهو من مال الموصي غير مضمون على النائب؛ لأنه مؤتمن كالوديع، وليس على النائب في حال تلف المال إتمام الحج.
والوصية بالصدقة بمال أفضل من الوصية بحج التطوع، بعكس الحنفية؛ لأن صدقة التطوع أفضل من الحجة.

2 - الوصية للحمل:
بينت في بحث الشروط أن الوصية تصح بالحمل وللحمل إذا تحقق وجوده وقت الوصية (1)، فالوصية بالحمل: كما إذا أوصى ـ في الماضي ـ بما في بطن جاريته، ولم يكن منه، لكن بشرط أن يعلم أنه موجود في البطن وقت الوصية، بأن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية. ومثاله اليوم: الوصية بما في بطن الفرس أو الشاة أو الناقة.
والوصية للحمل: مثل أن يقول: أوصيت بثلث مالي لما في بطن فلانة، بشرط علمه بوجوده وقت الوصية على النحو السابق.
اتفق الفقهاء على صحة الوصية للحمل بعين أو بمنفعة؛ لأن الوصية كالميراث ينتقل الملك فيها بالخلَفية، والحمل يرث، فيصح أن يوصي له.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 462/ 5، تكملة فتح القدير: 434/ 8، الشرح الصغير: 581/ 4، مغني المحتاج: 40/ 3 وما بعدها، المهذب: 451/ 1 وما بعدها، المغني: 56/ 6 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 182/ 4، الوصية للمرحوم عيسوي: ص 77.

(10/7502)


ويشترط في صحة الوصية للحمل عند الجمهور غير المالكية ما يأتي:
1ً - أن يثبت وجوده في بطن أمه عند إنشاء الوصية: فإن لم يثبت وجوده، كانت الوصية باطلة. ولم يشترط المالكية هذا الشرط؛ لأنه تصح الوصية عندهم لمن سيكون من حمل موجود أو سيوجد.
والتحقق من وجود الحمل وقت إنشاء الوصية يكون عند الحنفية بما يأتي:
أـ إذا أقر الموصي بوجود الحمل وقت الوصية، وجاءت به أمه لأقل من سنتين من وقت الوصية، سواء أكانت زوجة أم معتدة من طلاق أو وفاة.
ب ـ فإذا لم يوجد إقرار بالحمل: اشترط أن يولد حياً لأقل من ستة أشهر من تاريخ الوصية إذا كانت الأم زوجة أو معتدة من طلاق رجعي، أي بأن كان زوجها حياً؛ لأن هذه المدة أقل مدة الحمل شرعاً، فإن جاءت به لستة أشهر فأكثر، فلا تصح الوصية.
وإن كان زوجها ميتاً اشترط أن يولد حياً لأقل من سنتين من يوم الوفاة، أو الفرقة إذا كانت معتدة من وفاة أو فرقة بائنة، بدليل ثبوت نسبه، أي إذا جاءت به في تلك المدة ثبت نسبه من أبيه.
أما الشافعية والحنابلة: فوافقوا الحنفية في الحالة الأولى، فصححوا الوصية للحمل وبالحمل إذا أتت به أمه لأقل من ستة أشهر منذ التكلم بالوصية، إذا كانت ذات زوج. وخالفوا الحنفية في الحالة الثانية فيما إذا لم تكن الأم ذات زوج، فصححوا الوصية للحمل إذا انفصل حياً لأربع سنين من تاريخ الوصية، فإذا ولد لأكثر من أربع سنين من حين الفرقة، وأكثر من ستة أشهر من حين الوصية، لم تصح الوصية له، لاحتمال حدوثه بعد الوصية.

(10/7503)


والحاصل أنه يحكم بوجود الحمل باتفاق المذاهب الثلاثة إذا ولد لستة أشهر من تاريخ الوصية، ويحكم بوجوده عند الحنفية لسنتين من حين الفرقة، وفي المذهبين الآخرين لأربع سنين من تاريخ الفرقة.
2ً - أن يولد حياً حياة مستقرة بظهور علامات الحياة من بكاء وصراخ وشهيق ونحوها من الخبرة الطبية باتفاق المالكية والشافعية والحنابلة، وهوما أخذ به القانون المصري (م 35) والسوري (م 236) وعند الحنفية أن يولد أكثره حياً. وتوقف غلة الموصى به منذ وفاة الموصي إلى أن ينفصل الحمل حياً، فتكون له (1).
3ً - أن يوجد على الصفة التي عينها الموصي: فإذا كانت الوصية لحمل من شخص معين، اشترط لصحة الوصية أن يثبت نسب الحمل شرعاً من الشخص المعين. وهو مذهب الشافعية الذي أخذ به القانون.

تعدد الحَمْل: إذا ولدت المرأة أكثر من ولد في وقت واحد، أو في وقتين بينهما أقل من ستة أشهر، كانت الوصية لهم جميعاً إذا ولدوا أحياء، ويقسم الموصى به بينهم بالتساوي. وإن ولد أحدهما حياً والآخر ميتاً، كانت الوصية للحي دون الميت. وإن مات أحدهما بعد ولادته حياً، كان نصيبه لورثته إذا كان الموصى به عيناً كدار، لأنه ملكها ملكاً تاماً، وإن كان منفعة عادت إلى ورثة الموصي؛ لأن الوصية بالمنافع تنتهي بالموت، مالم يوجد شرط آخر، فيعمل به (2).
أما القانون (المصري م 35، والسوري م 236) فإنه عدل عن المقرر فقهاً في كيفية التحقق من الحمل:
_________
(1) م 2/ 236، م 2/ 35 مصري.
(2) م 237 سوري، م 36 مصري.

(10/7504)


ففي حالة إقرار الموصي بوجود الحمل: أن يولد لسنة شمسية (365 يوماً) فأقل من تاريخ الإيصاء، عملاً برأي محمد بن عبد الحكم المالكي، فإنه جعل أقصى مدة الحمل سنة قمرية، وبما قرره الأطباء من أن الحمل لا يمكث أكثر من سنة شمسية.
وإذا لم يوجد إقرار بالحمل: اشترط أن يولد حياً لـ (270) يوماً في القانون المصري، ولتسعة أشهر فأقل في القانون السوري من حين الوصية، إذا كانت الحامل زوجة أو معتدة من طلاق رجعي. وهذا أخذ بالغالب في مدة الحمل شرعاً.
واشترط أن يولد حياً لسنة شمسية (365 يوماً) فأقل من حين وجوب العدة، إذا كانت المرأة معتدة لوفاة أو فرقة بائنة.

3 - الوصية للمعدوم:
يرى الجمهور (1) غير المالكية أن الوصية للمعدوم: (وهو من لم يكن موجوداً حين الوصية، وسيوجد بعد وفاة الموصي) باطلة؛ لأن من شرائط الموصى له كونه موجوداً وقت الوصية إذا كان معيناً بالاسم أو بالإشارة مثل: أوصيت لخالد، أو لهذا، فلا تصح الوصية لمن سيكون أو لميت؛ لأن الوصية تمليك، فلا تصح للمعدوم، بخلاف الموصى به؛ فإنه يملك فلم يعتبر وجوده؛ ولأن الوصية كالميراث، ولا يرث المتوفى إلا من كان موجوداً، فكذلك الوصية.
فإن كان الموصى له معرَّفاً بالوصف كطلبة العلم، اشترط وجوده وقت وفاة الموصي.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 459/ 5، 462، مغني المحتاج: 40/ 3، المغني: 58/ 6.

(10/7505)


أما المالكية (1): فأجازوا الوصية للمعدوم وهو أن يوصى لميت علم الموصي بموته حين الوصية، وتصرف في وفاء ديونه ووصاياه، ثم لوارثه إن لم يكن عليه دين، فإن لم يكن وارث بطلت الوصية، ولاتعطى لبيت المال. وأخذ القانون المصري والسوري (2) بهذا الرأي، تعميماً للانتفاع بالوصية وتحقيقاً لرغبات الموصين في إيصال الخير وبر الناس.

أحكام الوصية للمعدوم في القانون:
تصح الوصية قانوناً للمعدوم، كقوله: أوصيت لمن سيولد لخالد، ولما يشمل الموجود والمعدوم كقوله: أوصيت لأولاد خالد، أي الموجود منهم أو من سيوجد.
وتكون الوصية للمعدوم إما بالأعيان أو بالمنافع، ولكلٍ أحكام في تنفيذ الوصية.

1 ًً) ـ الوصية بالأعيان للمعدوم ممن يحصون: إذا كانت الوصية بالأعيان كدار أو أرض لقوم يحصون: وهم مئة فأقل، كانت غلة الموصى به ملكاً لمن وجد من الموصى لهم عند وفاة الموصي، إلى أن يوجد غيرهم، فإذا وجد غيرهم شاركهم فيما سيكون من غلة تلك العين.
ومتى صارت الرقبة والغلة ملكاً للموصى لهم، فإنها تقسم على الأحياء منهم والأموات، ويكون نصيب من مات منهم لورثته من بعده، يقسم بينهم قسمة الميراث (3).
_________
(1) الشرح الكبير: 426/ 4، القوانين الفقهية: ص 405، المهذب: 451/ 1.
(2) م 26 - 28 مصري، م 231 سوري.
(3) الفقرة 2 من المادة 231 سوري.

(10/7506)


وإن لم يوجد أحد من المستحقين عند وفاة الموصي، تكون غلة الموصى به لورثة الموصي. وعند اليأس من وجود أحد من المستحقين ـ كأن يموت خالد الموصى لأولاده دون أن يترك ولداً ـ تكون العين الموصى بها ملكاً لورثة الموصي (1).

2 ً) ـ الوصية بالمنفعة للمعدوم ممن يحصون: أما إن كانت الوصية بالمنفعة لهؤلاء، فإن ملكية الرقبة تكون لورثة الموصي في كل حال، وليس للموصى لهم سوى المنفعة.
فإذا وجد واحد من الموصى لهم عند وفاة الموصي أو بعده استحق جميع الغلة، وإن وجد آخر اشترك معه فيما سيكون من الغلة، وهكذا حكم من سيوجد.
وإن لم يوجد أحد من الموصى لهم تكون الغلة ملكاً لورثة الموصي (2).
وإذا انقرض بعض الموصى لهم وبقي البعض الآخر، تكون الغلة لمن بقي منهم، ما لم يكن في الوصية ما يفيد غير ذلك، كأن يصرح الموصي بعودة نصيب الميت إلى ورثة الموصي (3).

3 ً) ـ الوصية بالمنفعة للطبقات: أجاز القانون المصري (م 29) الوصية بالمنفعة للطبقتين الأوليين فقط من ذرية الموصى له، وتبطل فيما زاد عليهما. واعتمد القانون في حالة الجواز على مذهب
_________
(1) الفقرة 1 من المادة 231 سوري.
(2) الفقرة 3 من المادة 231 سوري.
(3) م 38 مصري.

(10/7507)


المالكية، وفي حالة البطلان على رأي ابن أبي ليلى الذي يمنع الوصية بالمنافع مطلقاً.
وحصر القانون السوري (م 1/ 232) الوصية للذرية لطبقة واحدة، كيلا تنقلب الوصية إلى وقف ذُرِّي (أهلي) وهذا ملغى قانوناً، فإذا انقرضت الطبقة الأولى من أولاد فلان الموصى لذريته، عادت العين تركة للموصي، إلا إذا كان قد أوصى بها أو ببعضها لغيرهم (1).
والسبب في نفرة القانون من استمرار الوصية للطبقات: هو ضعف الأنصبة عند تكاثر الذرية، وهذا يؤدي إلى الإهمال والنزاع بين المستحقين وخراب الأعيان الموصى بمنفعتها.
ونص القانون المصري في المادة نفسها على أنه إذا كانت الوصية مرتبة الطبقات، كالوصية لأولاد عامر، ثم من بعدهم لأولادهم، فتصرف الغلة لأهل الطبقة الأولى بحسب نص الموصي، وإلا فعلى عدد الرؤوس. وعند انقراضها تصرف للطبقة الثانية.
وإذا كانت الوصية غير مرتبة الطبقات، فإن الغلة توزع على من يوجد من الطبقتين على حسب نص الموصي، فإن لم يوجد نص، فعلى عدد الرؤوس، فإن انقرضوا جميعاً، عادت المنفعة إلى ورثة الموصي.

4 - الوصية لجماعة محصورين:
اتفق الفقهاء على صحة الوصية لقوم محصورين: إما بالاسم، مثل أحمد وخالد وعلي، أو بالإشارة كالوصية لهؤلاء، أو بالوصف مثل طلاب العلم من أولاد فلان، أو المرضى من عائلته، أو بالجنس كبني فلان وهم يحصون.
_________
(1) الوصية لعيسوي: ص 74 - 76، الوصية للدكتور مصطفى السباعي: ص 117.

(10/7508)


أولاً ـ فإن كانت الوصية لمعينين بأسمائهم، قسمت عليهم بحسب نص الموصي، فإن لم يوجد نص، قسمت على عدد الرؤوس بالتساوي (1). ومن مات منهم بعد الاستحقاق، كان نصيبه لورثته إن كان الموصى به عيناً، ولباقي الموصى لهم إن كان الموصى به منفعة؛ لأن المنافع عند الحنفية لا تورث.
وإذا بطلت الوصية لبعض المعينين بموته مثلاً: فالمقرر لدى الحنفية أن من دخل في الوصية ثم خرج منها لفقدان شرط أو لزوال أهلية، رجع نصيبه إلى ورثة الموصي.
وإن كان لم يدخل في الوصية أصلاً قسم نصيبه على من بقي من الموصى لهم.
ويتحدد وقت الدخول في الوصية عند إنشاء الوصية إن كان الموصى له معيناً بالاسم أو الإشارة، ووقت وفاة الموصي إن كان معرفاً بالوصف أو بالجنس.
لكن القانون المصري (م 33) أخذ بمذهب الشافعية في حال بطلان الوصية، فقضى في الوصية لمعينين: أن يعود إلى تركة الموصي ما أوصى به لمن كان غير أهل للوصية حين وفاة الموصي، سواء أكان قد صح الإيجاب له ثم مات قبل الموصي، أم لم يصح الإيجاب له من أول الأمر.
ثانياً ـ وإن كانت الوصية لمحصورين معروفين بالوصف أو الجنس: فيقسم الموصي به لهم على حسب نص الموصي، وإلا فعلى عدد الرؤوس، كما في الحالة الأولى.
_________
(1) الوصية للأستاذ عيسوي: ص 83.

(10/7509)


وإن مات واحد منهم بعد استحقاق الوصية، كان الموصى به تركة لورثته إن كان عيناً. فإن كان منفعة كان نصيبه عند الحنفية لباقي الموصى لهم؛ لأن المنافع لا تورث عندهم، كما ذكر في الحالة الأولى.
وإذا بطلت الوصية لبعض الموصى لهم كموته موت الموصي، أو رده الوصية بعد موته، وزع الموصى به على الباقين، وهذا هو المقرر في القانونين المصري (م31) والسوري (م 234).

كيفية توزيع الوصية المشتركة:
الوصية المشتركة: هي أن يكون الموصى له مجموعاً مشتركاً من معين وجماعة محصورة، وجماعة غير محصورة، وجهة بر، كالوصية بثلث ماله لخالد، ولأولاده الأربعة، وللفقراء، وللمستشفى.
نص القانون المصري (م 32) والسوري (م 235) على كيفية توزيع الثلث الموصى به، بأن تقسم الوصية في هذا المثال سبعة أسهم، ويعتبر لكل معين ولكل فرد من أفراد الجماعة المحصورين ولكل جماعة غير محصورة ولكل جهة برّ سهم، فيعطى لخالد سهم، ولكل ولد من أولاده، سهم، وللفقراء سهم، وللمستشفى سهم. وبه اعتبر لفظ «الفقراء» كشخص واحد، أخذاً برأي الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف (1).
وقال الشافعية (2): لو أوصى لزيد والفقراء، فالمذهب أنه كأحدهم في جواز إعطائه أقل شيء متموَّل.
_________
(1) وقال محمد: لهم سهمان (الدر المختار: 477/ 5، البدائع: 343/ 7) ومنشأ الخلاف: هل يصدق اللفظ بواحد أو لا يصدق إلا باثنين.
(2) مغني المحتاج: 62/ 3.

(10/7510)


وقال الحنابلة (1): لو أوصى لزيد وللفقراء، قسم بين زيد والفقراء نصفين، نصف له ونصف للفقراء.
هذا إذا كان أولاد خالد حين وفاة الموصي أربعة، فإن ولد له بعدئذ خامس، أخذ قانوناً بمبدأ الوصية لما يشمل الموجود والمعدوم (م 231 سوري) وهو المستمد من مذهب المالكية، فيوزع الموصى به ثمانية أسهم، وهكذا يزداد عدد الأصل الموزع منه، حتى اليأس من وجود أولاد آخرين، فيعطى لخالد سهم، ولكل ولد من أولاده سهم، وللفقراء سهم، وللمستشفى سهم.

5 - الوصية لجماعة غير محصورين:
أذكر رأي المذاهب هنا ببيان كل مذهب على حدة:

يرى الحنفية (2): أنه يشترط أن يكون الموصى له معلوماً، فتكون الوصية لمجهول باطلة؛ لأن الوصية تمليك عند الموت، فلا بد من أن يكون الموصى له معلوماً في ذلك الوقت حتى يقع الملك له، ويمكن تسليم الموصى به إليه.
وبناء عليه: لا تصح الوصية مثلاً بثلث ماله للمسلمين؛ لأن المسلمين لا يحصون، إلا إذا كان في لفظ الوصية ما ينبئ عن حاجة الموصى لهم، كأن يوصي للفقراء والمساكين واليتامى والمحاربين ومشوهي الحرب؛ لأن الوصية حينئذ تكون صدقة وقربة إلى الله تعالى، والله سبحانه واحد معلوم، فيقع المال لله عز وجل، ثم يتملك الفقراء بتمليك الله تعالى لهم، وإن كانوا لا يحصون.
ومن لا يحصى أو غير المحصورين في رأي محمد من الحنفية المفتى به
_________
(1) كشاف القناع: 406/ 4.
(2) البدائع: 343/ 7.

(10/7511)


والمعمول به في المحاكمة الشرعية: هم الأكثر من مائة، فإن كانوا مائة فأقل، فهم يحصون.
ومصرف الوصية في غير المحصورين: هم أهل الحاجة منهم، ولا يلزم الصرف إلى جميعهم، ولا تعميم المحتاجين جميعاً، ولا التسوية بينهم في العطاء، بل تقسم بحسب اجتهاد منفذ الوصية.
وإذا كانت الوصية لمن لا يحصون بالأموال، فإنها توزع على المحتاجين، وتثبت لهم ملكيتها بالقبض.
وإن كانت بالمنافع تصير وقفاً، وتوزع غلتها على من اتصف بصفة الوصية.

ورأى المالكية (1): أنه تصح الوصية لقوم غير معينين كالفقراء، ويدخل معهم المساكين (2) وبالعكس، عملاً بالعرف، أي أن الفقير والمسكين إذا افترقا اجتمعا في الحكم، وإذا اجتمعا افترقا، فهما لفظان غير مترادفين. وهذا أيضاً مذهب الأئمة الآخرين.
وذهب الشافعية والحنابلة (3): إلى أنه تصح الوصية لغير معين: بأن أوصى لجهة عامة كالفقراء، أو لمعين غير محصور كالهاشمية والمطلبية. ويجوز عند الشافعية الاقتصار في التوزيع على ثلاثة منهم، ولا تجب التسوية بينهم، ويجوز عند الحنابلة الاقتصار على واحد.
واتفق الكل على أن الوصية لغير معين، تلزم بدون حاجة إلى القبول.
_________
(1) الشرح الكبير: 432/ 4، الشرح الصغير: 591/ 4.
(2) المسكين عندهم: من لا يملك شيئاً، والفقير: من يملك شيئاً لا يكفيه قوت عامه.
(3) مغني المحتاج: 53/ 3، 61 - 62.

(10/7512)


والخلاصة: أن الحنفية أجازوا الوصية لقوم غير محصورين إذا كان في لفظ الوصية ما ينبئ عن حاجة الموصى لهم. والجمهور أجازوا ذلك مطلقاً.
وقد عدل القانون المصري (م 30) والسوري (م 1/ 233) عن مذهب الحنفية في الوصية لمن لا يحصى، فأجازها، وإن لم يذكر في لفظ الوصية مايفيد الاحتياج؛ لأن معنى القربة موجود في الوصية على كل حال، سواء صرح الموصي بذلك أم لا. وأخذ بما اتفقوا عليه في نهاية المادة إذ نص على أنه: يترك أمر توزيعها بينهم لاجتهاد من له تنفيذ الوصية دون التقيد بالتعميم أو المساواة.

المقصود ببعض ألفاظ الموصى لهم في الوصية لقوم مخصوصين:
أورد الفقهاء بعض العبارات التي ترد في الوصايا وتتعلق بالموصى لهم، فما المراد بها عندهم (1).

الجيران: من أوصى لجيرانه: فهم الملاصقون له عند أبي حنيفة؛ لأن الجوار عبارة عن القرب، وحقيقة ذلك في الملاصق، وما بعده بعيد بالنسبة إليه. وقال الصاحبان استحساناً: هم الملاصقون وغيرهم ممن يسكن محلة الموصي، ويجمعهم مسجد المحلة. وقول الإمام هو الصحيح عند الحنفية.
وقال المالكية: تشمل الوصية جيرانه الملاصقين له من الجهات الست (الأربع والعلو والسفل) والجيران المقابلين له إذا كان بينهما شارع صغير.
وقال الشافعية والحنابلة: هم أربعون داراً من كل جانب من جوانب الدار الأربعة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الجار: أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا» (2).
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 179/ 4 - 180، الشرح الصغير: 591/ 4 - 592، مغني المحتاج: 58/ 3 - 64، كشاف القناع: 398/ 4 - 404، المهذب: 455/ 1 وما بعدها.
(2) رواه أحمد.

(10/7513)


وتقسم الوصية على عدد الدور لا على عدد السكان. ولا يدخل في الوصية عند الحنابلة إلا من كان موجوداً عندها، فمن يتجدد من الجيران بين الوصية والموت لا يدخل فيها، وكذلك لا يستحق من يتجدد عن تنفيذ الوصية.
وجيران المسجد عند الحنابلة وفي قول عند الشافعية: من يسمع النداء، لحديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (1)، مع قوله صلّى الله عليه وسلم للأعمى لما سأله أن يرخص له في الصلاة في بيته: «هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب» (2) والراجح عند الشافعية أن جيران المسجد كجيران الدار فيما لو أوصى لجيرانه.

الأصهار والأختان: من أوصى لأصهاره: فالوصية في عرف المتقدمين لكل ذي رحم محرم من امرأته، كآبائها وأعمامها وأخوالها وأخواتها. وأما في عرفنا فيختص بأبويها. وجزم بعضهم بالأول، والمعول في تقديري على العرف.
ومن أوصى لأختانه: فالختن: زوج كل ذات رحم محرم منه، كأزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته.
وكان المشهور في ديارنا الشامية: أن يختص الصهر بأبي الزوجة، والختن: بزوج البنت، أما اليوم فيطلق على زوج البنت، وهو مرادف لكلمة الختن.

الأقارب والأرحام: من أوصى لأقربائه أو لأرحامه: فالوصية عند أبي حنيفة للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم منه سواء الكافر والمسلم والصغير والكبير، ولا يدخل فيهم الوالدان والولد؛ لأنهم لا يسمون أقارب، ومن سمى والده قريباً كان منه عقوقاً؛ لأن القريب من تقرب بوسيلة غيره، وتقرب الوالد
_________
(1) حديث ضعيف رواه الدارقطني عن جابر وأبي هريرة.
(2) رواه مسلم.

(10/7514)


والولد بنفسه لا بغيره. وتكون الوصية للاثنين فصاعداً؛ لأنه ذكر بلفظ الجمع، وأقل الجمع في الوصية اثنان، كما في الميراث.
والخلاصة: يراد بالأقرب من توافرت فيه شروط أربعة: هي أن يكون المستحق مثنى (اثنين فأكثر)، وأن يكون المستحق أقرب إلى الموصي بحيث لا يوجد من يحجبه، وأن يكون ذا رحم محرم من الموصي، وألا يكون وارثاً من الموصي.
وقال المالكية: يختص في الوصية للأهل والأرحام من الموصي أقارب أبيه غير الورثة، إن كان له ذلك، لشبه الوصية بالإرث من حيث تقدم العصبة على ذوي الأرحام. وإن لم يكن للموصي أقارب لأب غير ورثة، دخل في الوصية أقارب لأمه كأبيها وعمها لأبيها أو لأمها وأخيها وابن عمتها. ويقدم الأحوج فالأحوج منهم، فإن استووا في الحاجة سوي بينهم في الإعطاء.
وإن قال: أوصيت لأقارب فلان، شمل الوارث منهم لفلان وغير الوارث.
وقال الشافعية: إن وصى لأقارب زيد، دخل كل قرابة له، وإن بعد، عملاً بعموم اللفظ مسلماً كان أو كافراً، غنياً أو فقيراً، إلا الأصل (أي الأب والأم فقط) والفرع (أولاد الصلب فقط) فلا يدخلان في الأصح، ـ كما قال الحنفية ـ إذ لا يسمون أقارب عرفاً، أما الأجداد والأحفاد فيدخلون لشمول الاسم لهم.
ولا تدخل قرابة أم في الوصية للأقارب في وصية العرب في الأصح، إذا كان الموصي عربياً، فإنهم لا يفتخرون بها ولا يعدّونها قرابة. والمعتمد أن هذه القرابة تدخل، كما قال الحنفية.
والأصح تقديم ابن على أب، وأخٍ على جد؛ لأنه أقوى إرثاً وتعصيباً. ولا يرجح بذكورة ووراثة، بل يستوي الأب والأم والابن والبنت. ويقدم ابن البنت على ابن ابن الابن.

(10/7515)


ولو أوصى لأقارب نفسه، لم تدخل ورثته في الأصح، كما ذكر المالكية، لأن الوارث لا يوصى له غالباً عملاً بعرف الشرع، فيختص بالباقين.
ومذهب الحنابلة كالشافعية إلا أنهم قالوا: لا يدخل في الوصية للقرابة أو أهل القرابة الكفار، فهي للمسلمين خاصة، ولا شيء للكفار، لقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11/ 4] فلم يدخل فيه الكفار إذا كان الميت مسلماً، وإذا لم يدخلوا في وصية الله تعالى مع عموم اللفظ، فكذلك في وصية المسلم، ولأن ظاهر حاله أنه لا يريد الكفار، لما بينه من عداوة الدين، وعدم الوصلة المانع من الميراث ووجوب النفقة على فقيرهم.

الأهل: إذا أوصى لأهله، فأبو حنيفة يخص الأهل بالزوجة؛ لأن الأهل حقيقة في الزوجة، قال تعالى: {وسار بأهله} [القصص:29/ 28] {فقال لأهله: امكثوا} [طه:10/ 20] ويؤيده العرف. وقال الصاحبان: يشمل الأهل كل من في نفقته ما عدا خدمه؛ لأن اللغة تستعمل الأهل في أقارب الرجل وعشيرته، قال تعالى: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته} [النمل:57/ 27]. والأولى الاعتماد على العرف.
آل بيته: إذا أوصى بكذا لآل بيته، شمل قبيلته؛ لأن الآل هو القبيلة التي ينسب إليها، ويدخل فيها كل آبائه الذين لايرثون إلى أقصى أب له في الإسلام إلا الأب الأول ـ الأصل، فليس من أهل بيته. ولا يدخل فيها أولاد البنات وأولاد الأخوات وقرابة الأم؛ لأن الولد ينسب لأبيه، لا لأمه.
أهل جنسه: إذا أوصى لأهل جنسه، شمل أهل بيت أبيه؛ لأن المراد بالجنس في مثله النسب، والنسب إلى الآباء.

(10/7516)


العلويون: إذا أوصى للعلويين وهم أولاد علي: فلا تصح الوصية عند الحنفية؛ لأن العلويين لا يمكن حصرهم، وليس فيه ما يشعر بالحاجة.
وقال الشافعية: تصح الوصية وتنفذ بقسمة الموصى به على ثلاثة منهم فأكثر، كالوصية على الفقراء والمساكين. وهكذا تنفذ الوصية في كل جمع معين غير منحصر، تقسم بين ثلاثة منهم.
وقال الحنابلة: يستحب تعميم من أمكن منهم.

في سبيل الله: المشهور في الوصية في سبيل الله اختصاصها بالغزاة المجاهدين وحجاج بيت الله الحرام.
العلماء: قال الشافعية: العلماء في الوصية لهم: أصحاب علوم الشرع من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه ونحوهم، ولا يدخل في علماء الشرع: المقرئ والأديب والمعبر للرؤيا والطبيب والمهندس والحاسب ونحوهم، وكذا علماء الكلام عند الأكثرين؛ لأن أهل العرف لا يعدونهم منهم. ويكفي عند الشافعية لتنفيذ الوصية أن تصرف لثلاثة من أهل كل علم.
وقال الحنابلة: إذا أوصى لأهل العلم شملت الوصية من اتصف به، وأهل القرآن: حفظته.

مراحل الإنسان: يراد بالمراهق: هو الطفل الذي قارب البلوغ، جاء في القاموس، راهق الغلام: قارب الحلم. ويراد بالطفل: من لم يميز.
والصبي والغلام واليافع: من لم يبلغ. وكذا اليتيم، فمن أوصى لأيتام بني فلان بكذا، دخل في الوصية اليتيم الذي مات أبوه قبل بلوغ الحلم، سواء أكان غنياً أم فقيراً ذكراً أم أنثى، بشرط أن يحصى عددهم عند الحنفية.

(10/7517)


والشاب والفتى: من البلوغ إلى الثلاثين.
والكهل: من الثلاثين إلى الخمسين.
والشيخ: من الخمسين إلى السبعين. ثم الهرم إلى آخر العمر.

المطلب الخامس ـ أحكام الموصى به:
عرفنا في شروط الموصى به: أنه يشترط أن يكون مالاً أو متعلقاً بالمال؛ لأن الوصية إيجاب الملك أو إيجاب ما يتعلق بالملك من البيع والهبة والصدقة.
ويخصص البحث هنا لبيان حكم الوصية بمعين أو بجزء شائع، الوصية بالمعدوم أو معجوز التسليم، الوصية بالمجهول، الوصية بالمنافع، الوصية بالتصرف في عين، الوصية بالحقوق، الوصية بتقسيم التركة، الوصية بالمرتبات، الزيادة في الموصى به.

1 - الوصية بمعين أو بجزء شائع وحكم هلاك الموصى به:
تجوز الوصية بالمشاع وبالمقسوم المعين؛ لأنها تمليك جزء من ماله، فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع (1). والمعين إما عين بذاتها أو نوع من المال.
وورد في القانون المصري (م 47 - 49) والقانون السوري (م 243 - 245) بيان أحكام الوصية بمعين أو بمشاع، وماذا يترتب على هلاك الموصى به أو استحقاقه، أخذاً من مذهب الحنفية في الغالب (2).
أـ فإذا كانت الوصية بعين بذاتها: كأن يوصي بداره في بلد كذا، تعلقت
_________
(1) المهذب: 452/ 1.
(2) الوصية لعيسوي: ص 88 - 1، الوصية للسباعي: ص 123.

(10/7518)


الوصية بهذه العين، فإذا هلكت أو استحقت أو خرجت عن ملك الموصي في حياته، بطلت الوصية، لفوات محلها.
وإن مات الموصي وهي في ملكه، كانت جميعها للموصى له، إن خرجت من ثلث المال، فإن لم تخرج من الثلث كان له منها مايخرج من الثلث.
وإن تعلق بها حق خاص ـ كحق المرتهن ـ واستوفى دينه منها، كان للموصى له أن يرجع بقيمتها من التركة.
ب ـ إذا كانت الوصية بنوع من أمواله: كغنمه أو أفراسه أو دوره، فهلكت أو استحقت، بطلت الوصية أيضاً؛ لأن الوصية تعلقت بنوع معين من المال وقت الإيصاء، وقد زال من الوجود، فبطلت لفوات محل الوصية.
جـ ـ إذا كانت الوصية بجزء شائع في شيء معين بذاته: كالوصية بنصف دار معينة، تعلقت الوصية بهذا الجزء من تلك العين، فإذا هلكت جميعها، أو استحقت، بطلت الوصية، لفوات محلها. وإن هلك بعضها أو استحق، أخذ الباقي إن كان يخرج من الثلث، وإلا أخذ منه مقدار مايخرج من الثلث.
د ـ إذا كانت الوصية بجزء شائع في نوع معين من أمواله: كأن يوصي بربع أغنامه أو بنصف دوره، تعلقت الوصية بالموجود عند إنشاء الوصية، فإن هلك جميعه أو استحق، أخذ نصف الباقي حال الوصية بالنصف إذا كان يخرج من الثلث، وإلا أخذ منه بمقدار الثلث.
وتكون الوصية قانوناً بعدد شائع كخمس من أفراسه، كالوصية بحصة شائعة فيه، فإذا هلك بعضها، كان له خمس الباقي، وهو أخذ برأي ابن الماجشون من المالكية. أما الحنفية فقالوا: لو لم يبق إلا الخمس أي القدر المسمى، فإنه يأخذه، إذا كان يخرج من الثلث.

(10/7519)


2 - الوصية بالمعدوم أو بمعجوز التسليم (1):
تصح الوصية عند الجمهور غير الحنفية بالمعدوم كأن يوصي بما تحمله الجارية أو الشجرة؛ لأن المعدوم يجوز أن يملك بعقد السلم أو المساقاة، فجاز أن يملك بالوصية، ولأن الوصية احتمل فيها وجوه من الغرر، رفقاً بالناس وتوسعة، فتصح بالمعدوم كما تصح بالمجهول، وتصح بما يعجز عن تسليمه كآبق وشارد وطير بهواء ولبن بضرع.
وقال الحنفية: إن كان الموصى به معدوماً، فلا بد من أن يكون قابلاً للتمليك بعقد من العقود، فلا تجوز الوصية استحساناً بما تلد أغنامه؛ لأنه لا يقبل التمليك حال حياة الموصي بعقد المساقاة. وتصح الوصية بما تثمر نخيله هذا العام أو أبداً، وإن كان الموصى به معدوماً؛ لأنه يقبل التمليك حال حياة الموصي بعقد المساقاة (المعاملة) فالوصية بالمعدوم جائزة اتفاقاً، وإن اختلفوا في بعض الأمثلة.
وتجوز الوصية اتفاقاً بما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلثه، كما يخلفه الوارث في ثلثه، فلما جاز أن يخلف الوارث الميت في هذه الأشياء، جاز أن يخلفه الموصى له. لكن قال الحنفية: لا تصح الوصية بما في البطن والضرع، وبما على الظهر من الصوف، وبما سيحدث من اللبن والولد؛ لأنه يشترط وجود الموصى به عند موت الموصي، فلو مات الموصي ولم يكن الموصى به موجوداً وقت موته، بطلت الوصية. أما في الوصية بالثمرة فليس وجودها عند موت الموصي بشرط استحساناً؛ لأن اسم الثمرة يقع على الموجود، والحادث، والحادث منها يحتمل دخوله تحت عقد المعاملة
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 459/ 5، 462، 491، البدائع: 354/ 7، الشرح الصغير: 581/ 4، المهذب: 452/ 1، المغني: 59/ 6، كشاف القناع: 407/ 4 وما بعدها، غاية المنتهى: 363/ 2.

(10/7520)


والوقف. أما الولد والصوف ونحوهما فلا تدخل تحت عقد من العقود ولا يجري فيه الإرث، فلا يدخل تحت الوصية، لأن الوصية إنما تجوز فيما يجري فيه الإرث أو فيما يدخل تحت عقد من العقود في حال الحياة، والحادث من الولد وأمثاله لا يجري فيه الإرث، ولا يدخل تحت عقد من العقود، فلا يدخل تحت الوصية.
والخلاصة: أن الحنفية لا يجيزون الوصية بما سيحدث، وأجازها الجهمور.

3 - الوصية بالمجهول:
اتفق الفقهاء على اشتراط كون الموصى له معلوماً، أي معيناً، إما بالشخص كزيد، أو بالنوع كالمساكين، فلو قال: أوصيت بالثلث لفلان أو فلان، بطلت للجهالة.
واتفقوا أيضاً على عدم اشتراط كون الموصى به معلوماً، فتجوز الوصية بالمجهول (1)، كالوصية بجزء أو سهم من ماله؛ لأن الوصية تبرع محض، فلا تضر فيها الجهالة بالمتبرع به. ومثل الشافعية والحنابلة للوصية بالمجهول: بالحمل في البطن واللبن في الضرع وخادم أو عبد من عبيده. وقد عرفنا أن الحنفية لا يجيزون الوصية بما في البطن أو باللبن في الضرع.
فإن بيَّن الموصي في حال حياته مراده من هذه الألفاظ، عمل به.
وإن مات قبل أن يبين، بيَّن الورثة عند أبي حنيفة والشافعية والحنابلة، وأعطوا الموصى له ما شاؤوا، في الوصية بجزء؛ لأن الورثة قائمون مقام الموصي،
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 176/ 4 - 177، تكملة الفتح: 443/ 8 - 446، الدر المختار: 474/ 5، البدائع: 356/ 7 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 406، المهذب: 452/ 1، غاية المنتهى: 363/ 2 - 364، 372، كشاف القناع: 407/ 4، مغني المحتاج: 44/ 3 - 45، 58، الشرح الصغير: 599/ 4.

(10/7521)


فإليهم البيان. أما في الوصية بسهم من ماله: فيعطى الموصى له أقل سهام الورثة زائداً على الفريضة بحيث لا يزيد على السدس، فله في الحد الأدنى السدس.
وقال المالكية: يعطى الموصى له المجهول سهماً واحداً من سهام التركة، ثم يقسم الباقي على الورثة، فيدخل الضرر على الجميع.

4 - الوصية بالمنافع:
يثير هذا البحث معرفة أمور عديدة: هي المقصود بالمنافع، وهل تعتبر المنافع أموالاً، وحكم الوصية بالمنافع، وتقدير المنفعة، وطريق الانتفاع بالمنفعة، وكيفية استيفاء المنفعة المشتركة، وانتهاء الوصية بالمنفعة، وملكية العين الموصى بمنفعتها والتصرف فيها، ونفقة العين الموصى بمنفعتها (1).

أـ المقصود بالمنافع:
تطلق المنفعة في رأي الحنفية على الخدمة وسكنى الدار وغلتها، وعلى غلة الأرض والبستان وثمرته، والغلة: هي كل ما يحصل من ريع الأرض وكرائها (2) وأجرة الغلام ونحوها.
وفرق الحنفية بين الوصية بالغلة والوصية بالثمرة، فقالوا: يدخل في تعبير الغلة ما كان موجوداً عند وفاة الموصي وما سيحدث منها مدة حياة الموصى له.
_________
(1) انظر البدائع: 352/ 7 وما بعدها، 386، الدر المختار ورد المحتار: 489/ 5 - 491، تكملة الفتح: 480/ 8 - 485، تبيين الحقائق: 105/ 5، 121، 234، الشرح الكبير: 445/ 4، مغني المحتاج: 64/ 3 - 65، المهذب: 452/ 1، 455، المغني: 59/ 6 - 61، غاية المنتهى: 366/ 2.
(2) الكراء: الأجرة.

(10/7522)


أما الثمرة: فتشمل فقط الموجود عند وفاة الموصي. ويظهر أن سبب التفرقة بينهما هو العرف.
أما غير الحنفية: فلم يفرقوا بين الغلة والثمرة، وأن كلاً منهما يشمل الموجود عند وفاة الموصي وما يحدث بعدئذ.
أما القانون المصري (م55) والسوري (249) فإنه اختار مذهب الجمهور، فجعل الوصية بالثمرة كالوصية بالغلة، تشمل الموجود وقت موت الموصي وما سيحدث، ما لم تدل قرينة على خلاف ذلك.
ووسع القانون ـ كما جاء في مذكرته التفسيرية ـ معنى المنافع، فأراد بالمنافع ما ذكره الحنفية، وهو أنها تشمل المنافع المحضة للعين كسكنى الدار وزرع الأرض، وبدلها كأجرة الدار والأرض، وما يخرج منها كثمرة البستان والشجر.
وتشمل الوصية بالمنافع كل ما ذكر، وتشمل أيضاً قانوناً الوصية بالتصرف في عين، والوصية بالإقراض، والوصية بالحقوق، والوصية بتقسيم التركة، والوصية بالمرتبات.

ب ـ هل تعد المنافع أموالاً ذات قيمة؟ للفقهاء رأيان في الحكم:
مذهب الحنفية: ليست المنافع أموالاً متقومة بنفسها، وإنما تصير استحساناً مالاً متقوماً بالعقد عليها كالإجارة والوصية؛ لأن المال عندهم ما يقبل الإحراز والادخار لوقت الحاجة، والمنافع أعراض متجددة، تكسب زمناً فزمناً، وبعد اكتسابها لا يبقى لها وجود، فلا يمكن إحرازها. وتتقوم بالعقود لورود النص وجريان العرف به. وإذا لم تعتبر المنفعة مالاً فهي ملك؛ لأن الملك ما يتصرف فيه بوصف الاختصاص.

(10/7523)


ومذهب الجمهور: المنافع أموال متقومة مضمونة كالأعيان؛ لأن الغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها.
والقانون أخذ برأي الجمهور، وأفتى متأخرو الحنفية باعتبار المنافع أموالاً متقومة، وإن لم يرد عليها عقد في ثلاثة أنواع:
المال المعدّ للاستغلال (1)، والأوقاف، وأموال الأيتام، وقد بحثت هذا الموضوع في الإجارة والغصب والضمان.

حـ ـ حكم الوصية بالمنافع من حيث الجواز وعدمه:
اتفق أئمة المذاهب الأربعة على جواز الوصية بالمنافع؛ لأنها كالأعيان في تمليكها بعقد المعاوضة والإرث، فصحت الوصية بها كالأعيان، حتى إن الحنفية الذين لايعتبرون المنافع أموالاً أجازوا الإيصاء بها؛ لأنه يصح تمليكها في حال الحياة ببدل، ويكون العقد إجارة، وبغير بدل ويكون العقد إعارةً، فكذا بعد الممات بالوصية، كما في الأعيان.
وتخرج من ثلث المال، فإن لم تخرج من الثلث أجيز منها بقدر الثلث.

د ـ تقدير المنفعة:
عرفنا أن الوصية تنفذ من ثلث التركة، فإذا كانت بالأعيان قدرت الأعيان بنفسها وخرجت من الثلث. وأما إن كانت بالمنافع، فكيف تقدر المنفعة؟ للفقهاء رأيان:
الأول ـ للحنفية والمالكية: هو النظر إلى الأعيان التي أوصي بمنفعتها أياً
_________
(1) هو ما اشترى أو بني للاستغلال أو توالت إجارته ثلاث سنين فأكثر.

(10/7524)


كانت مدة الانتفاع، فإن كانت رقابها (ذواتها) تخرج من الثلث، جازت ونفذت، وإن لم تخرج من الثلث، نفذ منها بقدر الثلث فقط، وتوقف الزائد على إجازة الورثة. فالمعتبر عندهم قيمة العين الموصى بمنفعتها، لا قيمة المنفعة مستقلة. فإذا أوصى شخص بمنفعة داره، وكان لا يخرج من ثلث التركة إلا نصف هذه الدار، كان للموصى له منافع نصف الدار فقط.
والدليل على رأيهم: أن الوصية بالمنافع يترتب عليها منع العين الموصى بمنفعتها عن الوارث، وتفويت المقصود منها، وهو الانتفاع بها، والمقصود من الأعيان منفعتها، فإذا بقيت العين على ملك الوارث، صارت بمنزلة العين التي لا منفعة لها، فوجب أن يخرج الممنوع منفعته ـ وهو العين ـ من ثلث المال.
والثاني ـ للشافعية والحنابلة (1): أن الوصية بالمنفعة تقدر بقيمة المنفعة الموصى بها في مدة الوصية؛ لأنها هي الموصى بها.
إلا أن الحنابلة قالوا: إن كانت الوصية مقيدة بمدة معلومة، قدرت بقيمة المنفعة نفسها في تلك المدة. وإن كانت الوصية مطلقة في الزمان كله، ففيها قولان في المذهب:
أحدهما ـ كما في المذهب الحنفي والمالكي: تقوَّم الرقبة (الذات) بمنفعتها، وتخرج من الثلث.
والثاني ـ تقوم الرقبة على الورثة، والمنفعة على الموصى له، فإذا كانت قيمة الشيء كله مائة، وقيمة الرقبة وحدها عشرة، علمنا أن قيمة المنفعة تسعون.
_________
(1) انظر المذكرة التفسيرية للقانون المصري في بيان المادة 62، 63، فقالت: الفقرة الأولى من المادة 62 مأخوذة من مذهب الحنفية، وباقي المادة مأخوذ من مذهب الشافعي.

(10/7525)


أما القانون المصري (م62) والسوري (م253) فقد أخذ برأي تفصيلي من مجموع الرأيين وهو قريب الشبه بمذهب الحنابلة، فقضى بأن المنفعة إن كانت مؤبدة أو مطلقة، أو لمدة حياة الموصى له، أو لمدة تزيد على عشر سنين، فإنها تقدر بقيمة العين الموصى بكل منافعها أو ببعضها. وهذا موافق للرأي الأول وللقول الأول عند الحنابلة في الوصية المطلقة؛ لأن أمل الورثة في الانتفاع بالعين معدوم أو بعيد التحقق.
وإن كانت الوصية بالمنافع لمدة لا تزيد على عشر سنين، فإنها تقدر بقيمةالمنفعة الموصى بها في هذه المدة. وهذا موافق لرأي الشافعية، ولرأي الحنابلة في الوصية المقيدة؛ لأن الأمل في عودة العين إلى الورثة قريب التحقق.
وإن كانت الوصية بحق من الحقوق كحق الشِرْب أو حق المرور أو حق التعلي، قدر المنفعة (في المادة 63 مصري) بالفرق بين قيمة العين محملة بالحق الموصى به، وبين قيمتها بدونه، والفرق بين القيمتين هو الوصية. وهذا موافق للقول الثاني في الوصية المطلقة لدى الحنابلة، وهو مذهب الشافعية.

هـ ـ طريق الانتفاع بالمنفعة:
للانتفاع طريقان:
أحدهما ـ الاستغلال المشروع: بأن يؤجر مالك منفعة العين الموصى له بمنفعتها لغيره في مقابل أجرة يأخذها منه لنفسه.
والثاني ـ الاستعمال الشخصي: بأن يستوفي هو المنافع بنفسه. وطريق الانتفاع بالمنفعة الموصى بها يختلف بحسب نص الوصية:

(10/7526)


فإن لم تكن الوصية مقيدة بنوع خاص من الانتفاع، كان للموصى له باتفاق الفقهاء أن ينتفع على الوجه الذي يختاره، إما بالاستعمال الشخصي بأن يسكن الدار أو يزرع الأرض بنفسه، وإما بالاستغلال: بأن يؤجر الدار والأرض لغيره، وينتفع بالأجرة.
أما إذا قيد الموصي الموصى له بنوع من أنواع الانتفاع، فهناك رأيان:
يرى الحنفية: أن الموصى له يتقيد بالقيد المنصوص عليه في حال الاستعمال الشخصي، فمن أوصي له بالسكنى مثلاً، لا يملك الاستغلال بلا خلاف؛ لأنه ملك المنفعة بغير عوض، فليس له أن يملِّكها غيره بعوض.
أما العكس وهو من أوصي له بالاستغلال، فالراجح أن له السكنى؛ لأن من ملَّك غيره السكنى، ملكها بنفسه من باب أولى. وقيل: ليس له السكنى، إذ قد يكون في سكناه بنفسه ضرر بالميت، والحق هو القول الأول، لما في هذه الحجة من تكلف واحتمال بعيد.
ويرى الشافعية والحنابلة: أن الموصى له يملك الانتفاع على أي وجه شاء، سواء بالاستعمال الشخصي أم بالاستغلال، ولو نص على العكس؛ لأن الموصى له ملك المنفعة بعقد الوصية، ومن ملك المنفعة ساغ له الانتفاع بها على أي نحو شاء، كما لو ملك حق المنفعة بالإجارة.
وهذا الرأي هو الراجح، وهو الذي أخذ به القانون المصري (م54) والسوري (م248) لأن غرض الموصي إنما هو نفع الموصى له، ودفع حاجته، وهذا أدرى بمصلحته.

(10/7527)


وـ كيفية استيفاء المنفعة المشتركة:
إذا كانت المنفعة مشتركة بين الموصى له وبين ورثة الموصي، كالوصية بنصف منفعة داره، أو مشتركة بين عدد من الموصى لهم كالوصية بمنفعة دار لثلاثة أشخاص، فتستوفى المنفعة من طريق القسمة بإحدى وسائل ثلاث (1):
الأولى ـ أن تقسم غلة المنفعة بين المشتركين: فتؤجر الدار أو تزرع الأرض مثلاً، وتقسم الغلة بنسبة حصة كل واحد منهم.
الثانية ـ أن تقسم العين بنفسها بينهم، فيأخذ كل واحد منهم سهمه في المنفعة، بشرط كون تلك العين قابلة للقسمة، وألا يترتب على قسمتها ضرر للورثة، ولو مع بقاء المنفعة الأصلية.
الثالثة ـ أن تقسم العين الموصى بها قسمة مهايأة زمانية أو مكانية:
الزمانية: أن تعطى لأحد الشركاء كل العين مدة من الزمان، ينتفع بها، ثم يأخذها الشريك الآخر بقدر تلك المدة، فينتفع بها.
والمكانية: أن يأخذ كل شريك جزءاً من العين في وقت واحد ينتفع بها، ثم يتبادل الشريكان كل جزء مرة أخرى، فيحل كل واحد محل الآخر فيما كان ينتفع به.
وإذا كانت الوصية بحق لا يمكن قسمته ولا المهايأة فيه، أو حدث اختلاف، اجتهد القاضي في كيفية توزيع المنفعة بحسب قواعد الشريعة العامة.
ونص القانون المصري (م57) والسوري (م250) على هذه الطرق الثلاث المذكورة.
_________
(1) الوصية لعيسوي: ص 130، الوصية للسباعي: ص 126.

(10/7528)


ز ـ انتهاء الوصية بالمنفعة:
نص القانون السوري (م252) على أن الوصية بالمنفعة تبطل أو تسقط في الحالات التالية:
أـ بوفاة الموصى له قبل استيفاء المنفعة الموصى بها كلها أو بعضها؛ لأن المنافع في الوصية لا تورث.
ب ـ بتملك الموصى له العين التي أوصي له بمنفعتها.
جـ ـ بتنازله عن حقه فيها لورثة الموصي، بعوض أو بغير عوض، أما التنازل بعوض فهو من قبيل المصالحة على ترك نظير المال، وأما التنازل بغير عوض فهو من قبيل إبراء الورثة منها.
د ـ باستحقاق العين؛ لأنه تبين أن العين الموصى بمنفعتها لم تكن مملوكة للموصي.
ونص القانون المصري (م59) على بطلان الوصية بالمنفعة قبل تمامها بما يأتي:
أـ بمضي المدة المعينة للانتفاع قبل وفاة الموصي، أو بموت الموصى له المعين قبل بدء المدة.
ب ـ بإسقاط الموصى له حقه في المنفعة لورثة الموصي، بعوض أو بغير عوض.
جـ ـ باستحقاق العين الموصى بمنفعتها، أو بشرائها من الموصى له.

(10/7529)


متى يستحق الموصى له المنفعة الموصى بها؟
نص القانون المصري (م50) والسوري (م246) على أحوال استحقاق الموصى له المنفعة بحسب المدة.
فإذا كانت الوصية بالمنفعة مقيدة بمدة محددة البدء والنهاية، كسنتين من أول عام كذا إلى نهاية عام كذا، استحق الموصى له المنفعة في هذه المدة فقط، فإذا انقضت المدة المذكورة قبل وفاة الموصي بطلت الوصية. وإذا انقضى بعضها استحق الموصى له المنفعة في باقيها. وهذا موافق لمذهب الحنفية.
وإذا كانت الوصية بمنفعة مقدرة بمدة معينة كسنة دون تحديد بدء الانتفاع، استحق الموصى له المنفعة منذ وفاة الموصي. وهذا موافق لمذهب الشافعية. أما الحنفية فيقولون: تبدأ المدة من وقت القسمة؛ لأنه وقت تنفيذ الوصية واستقرار الملك.

منع الموصى له من الانتفاع:
نص القانون المصري (م51) والسوري (م247) على أحوال ثلاث قد يحدث فيها منع الموصى له من الانتفاع بالعين الموصى له بمنفعتها، وذلك إما بسبب من جهة أحد ورثة الموصي، أو جميعهم، أو من جهة الموصي نفسه، أو لعذر قاهر للموصى له.
الصورة الأولى ـ إذا كان المنع من بعض الورثة: ضمن للموصى له بدل المنفعة في تلك المدة.
الصورة الثانية ـ إذا كان المنع من جميع الورثة: كان للموصى له الخيار بين الانتفاع بالعين مدة أخرى، وبين أن يضمنهم بدل المنفعة عن تلك المدة.

(10/7530)


الصورة الثالثة ـ إذا كان المنع من جهة الموصي: كأن يكون الموصي قد أجر الدار الموصى بمنفعتها لمدة معينة، ثم مات قبل أن تنتهي مدة الإجارة، أو كان المنع لعذر قاهر حال بين الموصى له وبين الانتفاع كأن يكون سجيناً أوغائباً، أو كانت الدار مغصوبة، استحق الموصى له المنفعة بالعين مدة أخرى.
وهذه الأحكام مستمدة من مذهب الشافعية.
أما الحنفية فقالوا: إن كان المنع من أحد الورثة، ضمن للموصى له بدل المنفعة؛ لأنه متعدٍ في هذه الحالة، فيضمن نتيجة تعديه.
وإن كان المنع من جميع الورثة ضمنوا له بدل المنفعة أيضاً، لوجود التعدي منهم جميعاً. وليس للموصى له في الحالتين أن يطالب بمدة أخرى للانتفاع، بعد فوات المدة المحددة.
وإذا كان المنع بسبب آخر، لا من قبل الورثة، وفاتت مدة الانتفاع المحددة، فلا شيء عليهم، لعدم وجود تعدٍ منهم؛ لأن الموصى به أمانة في يدهم، والأمانة لاتضمن إلا بالتعدي.

ح ـ ملكية العين الموصى بمنفعتها والتصرف فيها:
أما ملكية العين: فتكون بحسب مدة الوصية: فإن كانت الوصية مؤبدة أو مطلقة من غير ذكر مدة، وكانت لجهة لا يظن انقطاعها، أصبحت رقبة العين وقفاً، وتكون الغلة للموصى لهم على التأبيد.
وأما إن كانت الوصية بالمنفعة لمدة محددة، أو لمعين أو لمحصورين أو لجهة يظن انقطاعها، فإن العين تبقى ملكاً لورثة الموصي، وأما الغلة فهي للموصى لهم

(10/7531)


إلى انقراضهم، أو إلى انتهاء المدة المحددة في الوصية، ثم تعود المنافع إلى ملك الورثة، تبعاً للعين.
وأما حق التصرف بالعين الموصى بمنفعتها ففيه رأيان:
رأي الحنفية: أنه ليس لمالك العين حق التصرف بها من بيع ونحوه، ويكون التصرف موقوفاً على إجازة الموصى له، لتعلق حقه بها، فإن أذن أسقط حقه.
ورأي الجمهور: أنه يجوز لمالك الرقبة حق التصرف بها، بالبيع ونحوه، ولكن يبقى للموصى له حق الانتفاع بالعين، ويستوفيه على ملك المشتري؛ بدليل أن العين تورث عن مالكها، مع بقاء الوصية، ولا ضرر على الموصى له بانتقال ملكية العين؛ لأن حقه في المنفعة وهي لا تختلف باختلاف المالكين، وفي إباحة التصرف بالعين لمالكها رعاية لحقه.
وأخذ القانون المصري (م60) والسوري (م2/ 251) برأي الجمهور.

ط ـ نفقة العين الموصى بمنفعتها:
للفقهاء رأيان في نفقة العين:
رأي الحنفية، وفي الأصح عند الحنابلة: أن ما تحتاج إليه العين الموصى بمنفعتها من نفقات، ومايفرض عليها من ضرائب، تكون على صاحب المنفعة ولو لم تثمر العين أو لم تغل في سنة ما؛ لأنه صاحب الفائدة منها، كالزوج، إذ الغرم بالغنم أوالخراج بالضمان، فله نفعه، فكان عليه ضره وغرمه.
وإذا أهمل صاحب المنفعة القيام بما يلزم لبقاء العين صالحة للانتفاع بها، أو لم يدفع ما عليها من ضرائب، فأداها صاحب الرقبة، كان ما دفعه حقاً له في غلة العين، يستوفيه منها قبل الموصى له.

(10/7532)


أما إذا كانت العين غير صالحة للانتفاع بها، كأرض بور، فإن نفقة إصلاحها وضرائبها على صاحب الرقبة. ورأي الشافعية في الأصح: أن النفقة والضريبة على مالك الرقبة، كالمأجور تكون نفقاته وضرائبه على المالك.
وأخذ القانون المصري (م58) والسوري (م1/ 250) بالرأي الأول.

5 - الوصية بالتصرف في عين (1):
قد يوصي الإنسان ببيع بعض أمواله من التركة، أو بإجارة بعض عقاراته، فإذا كان الثمن المسمى أو بدل الإيجار بقدر ثمن المثل أو أجر المثل، أو كان بأقل من المثل بمقدار يخرج من الثلث، أو يزيد عن ثلث التركة زيادة يسيرة يتغابن الناس فيها، نفذت الوصية من غير توقف على إجازة الورثة، إذ لا ضرر عليهم في الوصية، ويعتبر هذا النقص وصية في حدود الثلث، فلا يحتاج إلى إجازة الورثة.
أما إذا كان النقص يزيد على ثلث التركة زيادة كبير ـ وهو ما يعبر عنه بالغبن الفاحش ـ فيتوقف تنفيذ الوصية على إجازة الورثة، ما لم يقبل الموصى له بدفع القدر الزائد على الثلث، فإن أجاز الورثة أو دفع الموصى له للورثة القدر الزائد على الثلث، نفذت الوصية، وإلا بطلت.
وأخذ القانون المصري (م56) والسوري (م240) بهذه الأحكام المتفق عليها بين الفقهاء.
_________
(1) اعتبر هذا النوع قانوناً وما يليه من الأنواع من الوصية بالمنافع كما ذكر سابقاً (الفقه المقارن للأستاذ حسن الخطيب: ص 253 وما بعدها).

(10/7533)


6 - الوصية بالإقراض:
قد يوصي الإنسان بإقراض شخص مقداراً معلوماً من المال مدة معلومة، من غير ربا. فيطبق مبدأ النفاذ من الثلث، وهو ما نصت عليه المادة (12) من قانون الوصية المصري، والمادة (218) من القانون السوري.
فإن كان المال الموصى بإقراضه يخرج من ثلث التركة، نفذت الوصية من غير توقف على الإجازة. وإن كان أكثر من الثلث، نفذت في حدود الثلث، وكانت موقوفة في الزائد على إجازة الورثة.
وليس للورثة مطالبة المستقرض بالدين قبل حلول الأجل الذي عينه الموصي؛ لأن الأجل في القرض، وإن كان لا يلزم به المقرض عند الحنفية (1)، وأن له أن يطالب المقترض بالقرض في أي وقت شاء، فإنهم قالوا بلزوم أجل القرض في أربع حالات:
الأولى ـ مالو أوصى شخص بإقراض آخر مبلغاً من المال إلى سنة مثلاً، فيلزم الأجل.
الثانية ـ ما لو كان القرض مجحوداً، فأجله صاحبه، فإن الأجل يكون لازماً.
الثالثة ـ ما لو حكم القاضي بلزومه، بالاعتماد على مذهب مالك وابن أبي ليلى فإنه يلزم أيضاً.
الرابعة ـ في الحوالة: ما لو أحال المدين الدائن على آخر فأجله المقرض، أوأحاله على مديون مؤجل دينه؛ لأن الحوالة مبرئة، أي تبرأ بها ذمة المحيل،
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 177/ 4 - 178.

(10/7534)


ويثبت بها للمحال أي المقرض دين على المحال عليه بحكم الحوالة، فهو في الحقيقة تأجيل دين، لا قرض.

7 - الوصية بالحقوق:
تصح الوصية بالاتفاق بحقوق الارتفاق التي تنتقل بالإرث، كحق الشِّرب، والمسيل والمجرى والتعلي (1) ونحوها، غير أن الوصية بحق الشرب والمجرى والمسيل لا تجوز قانوناً إلا تبعاً للأرض الموصى بها أو لمالك أرض ينتفع بها.
وأجاز القانون المصري (م 11) الوصية بحق المنفعة التي يملكها المستأجر، أخذاً من مذهب الشافعية والجمهور غير الحنفية، كأن يستأجر شخص أرضاً لمدة عشر سنوات، ثم يوصي بما بقي من مدة الإجارة؛ لأن الإجارة عند الجمهور لا تنفسخ بموت أحد العاقدين. أما الحنفية فلا يجيزون هذه الوصية؛ لأن الإجارة عندهم تبطل بموت أحد العاقدين.
وأجاز هذا القانون أيضاً أخذاً من مذهب المالكية الوصية بحق الخلو: وهو حق الأولوية في استئجار عقار موقوف، ومثاله أن يحتاج الوقف إلى عمارة، وليس له مال يعمر به، فيتقدم من يقوم بعمارته، مقابل أن يكون له الأولوية في استئجاره، فلو أوصى هذا الشخص بما ثبت له من هذا الحق، صحت الوصية.

8 - الوصية بقسمة التركة:
قد يوصي الإنسان بوصية تتضمن تقسيم التركة بين الورثة، بمقدار نصيب كل واحد منهم في التركة، ليضمن بالقسمة عدم وقوع خلاف أو نزاع بينهم، وليحقق لكل واحد نصيبه بدون استغلال أو محاباة. فهل تعدّ هذه الوصية ملزمة؟
_________
(1) هو حق البناء على سفل مملوك للغير.

(10/7535)


يرى جمهور الفقهاء: أن هذا التقسيم لا يلزم الورثة، فلهم أن يقبلوه أو يرفضوه؛ لأن القيمة المالية لأعيان التركة قد تكون متساوية، لكن المصلحة فيها متفاوتة متغايرة، فكما لا يجوز إبطال حق الوارث في قدر حقه، لا يجوز إبطاله في عين هذا الحق أيضاً.
ويرى بعض فقهاء الشافعية والحنابلة (1) ـ وإن كان الأصح في المذهب هو الرأي السابق ـ أن هذا التقسيم من المورث جائز، ويلزم به الورثة، ما دامت القسمة عادلة، فخصص لكل وارث ما يساوي قيمة نصيبه، وبقدر حصته، ولا يفتقر التقسيم إلى إجازة الورثة؛ لأن حق كل وارث إنما هو في القيمة، لا في عين معينة من أعيان التركة، بدليل أن المورث لو باع في مرض موته التركة كلها بثمن المثل، صح بيعه ونفذ.
وأخذ القانون المصري (م13) والسوري (م219) بالرأي الثاني، فأجاز تقسيم التركة، وألزم الورثة بالتقسيم بوفاة الموصي. لكن القانون المصري خلافاً لجمهور الفقهاء أجاز المفاضلة بين الورثة إذا كانت الزيادة تخرج من ثلث التركة، بناء على الحكم الذي أخذ به: وهو جواز الوصية للوارث في حدود الثلث من غير حاجة لإجازة الورثة.
ونص القانونان في نفس المادة السابقة على أنه إذا زادت حصة بعض الورثة عن استحقاقه في التركة، كانت الزيادة وصية، وجرى على الزيادة حكم الوصية للوارث.
_________
(1) مغني المحتاج: 44/ 3، المغني: 7/ 6، وهذا هو أيضاً أحد قولين عن شيوخ الحنفية، وأفتى به بعضهم (رد المحتار على الدر المختار: 464/ 5).

(10/7536)


9 - الوصية بالمرتبات:
أجاز فقهاء المالكية والحنفية والشافعية بالمرتب من رأس مال التركة، وهي من قبيل الوصية بالأعيان: لأنها وصية بمقدار معلوم من المال يقسط سنوياً أو شهرياً أو يومياً، ولا يختلف عن الوصية بمقدار من المال إلا في التقسيط.
وكذلك تجوز الوصية بالمرتب من غلة التركة، وهي من قبيل الوصية بالمنافع؛ لأنها وصية بجزء من غلات بعض الأعيان.
وتقدر الوصية أولاً لتعرف نسبتها إلى التركة، فإن خرجت من الثلث نفذت، وإن زادت على الثلث توقفت على إجازة الورثة.
ويختلف تنفيذ هذه الوصية بحسب كون الوصية في مدة معينة أم مدى الحياة.
أـ فإن كانت الوصية بمرتب في مدة معينة، سواء أكانت من رأس مال التركة أم من غلة التركة، فيحبس عند جمهور الحنفية والمالكية ثلث التركة، ليؤخذ منه ومن غلاته كل شهر المقدار الذي سماه الموصي، ولو كان الثلث أكثر من الوصية.
وقال أبو يوسف: يحبس من الثلث ما يغل المرتب في المدة المعلومة، وما زاد على ذلك لا يحبس؛ لأن المطلوب ضمان تنفيذ الوصية.
وأخذ القانون المصري (م64) برأي قريب من رأي أبي يوسف، فنص على أنه يوقف من مال الموصي ما يضمن تنفيذ الوصية على وجه لا يضر بالورثة.
ب ـ أما إن كانت الوصية بمرتب مدى الحياة: فهي أيضاً كالوصية في مدة معينة من حيث التقدير والتنفيذ.

(10/7537)


وتقدر مدة حياة الموصى له عند مالك وأبي يوسف بالسن الغالبة لأهل زمانه، فيحبس من الثلث ما يكفي لنفقة تلك المدة.
وجعل القانون المصري (م 66) أمر تقدير مدة الحياة لأهل الخبرة من الأطباء.
فإذا مات الموصى له قبل انتهاء المدة التي قدرها له الأطباء، انتهت الوصية. وإذا عاش بعد انتهاء المدة المحددة، كان له عند أكثر الفقهاء الرجوع بالمرتب على الورثة.
وقال ابن القاسم المالكي: لا يحق له أن يرجع على الورثة بشيء في المدة الزائدة. وأخذ القانون بهذا الرأي.
جـ ـ الوصية بمرتب لجهة بر دائمة: إن كانت الوصية لجهة بر دائمة مدة معينة: فإن تقدير الوصية وتنفيذها يكون على الوجه الذي سبق في الوصية لمعين لمدة معلومة.
وإن كانت الوصية مطلقة أو مؤبدة: فإنه يوقف من أعيان التركة ما يغل المرتب في حدود ثلث التركة، ويتوقف الزائد على إجازة الورثة. فإذا فاضت غلات العين عن المرتب المقدر كان الفائض للجهة الموصى لها، وإذا نقصت الغلة عن المرتب فليس لها الرجوع على ورثة الموصي.
وهذا كله ما نصت عليه المادة 68 من القانون المصري.
د ـ الوصية بمرتب للطبقات: إذا كانت الوصية بمرتب لفلان ثم من بعده لأولاده فتصح بشرطين في القانون المصري (م70):

(10/7538)


أحدهما ـ ألا تتجاوز الوصية طبقتين، فإن زادت كانت باطلة في حق الزائد.
الثاني ـ وجود جميع أفراد الموصى لهم عند وفاة الموصي. فإن أوصى لفلان ثم لأولاده من بعده، ولم يكن له أولاد عند وفاة الموصي، ثم ولد له، فلا يستحق الأولاد الجدد شيئاً.
وإذا كانت الوصية بمرتب للطبقات مدى الحياة، قدرت حياة الموجودين بمعرفة الأطباء. وإن كان فيهم جنين قدرت حياته بستين سنة.
وتقدر مدة الوصية بأطولهم عمراً، فلو قدرت حياة أحد الأولاد وقت وفاة الموصي بعشرين سنة، وحياة آخر بخمسين، اعتبرت مدة الوصية خمسين سنة. وإذا مات الأب بعد مضي (63) سنة شمسية من وقت وفاة الموصي، لم يستحق أولاده شيئاً في الوصية.

10 - حكم الزيادة في الموصى به:
إذا طرأت زيادة في الموصى به من قبل الموصي بعد الإيصاء، فلايعد ذلك رجوعاً عن الوصية في المذهب المالكي، وأخذ القانون المصري بهذا الحكم وقررأحوال الزيادة في المواد (71 - 75) وأحكامها، وتابعه القانون السوري في المواد (254 - 256) وأبين هنا هذه الأحوال والأحكام وهي أربعة:

الحال الأولى ـ الزيادة غير المستقلة بنفسها:
إذا زاد الموصي في العين الموصى بها شيئاً لا يستقل بنفسه كترميم الدار وتجصيصها، فيلتحق بالموصى به، وتكون العين كلها وصية، وليس للورثة أي حق فيها؛ لأن هذه الزيادة ليست لها قيمة مالية منفصلة عن العين.

(10/7539)


ويلحق بها: الزيادة البسيطة التي يتسامح فيها عادة، كزيادة حمام أو غرفة صغيرة في البناء تكون العين مع الزيادة وصية. كما يلحق بها الزيادة المستقلة بنفسها إذا قصد الموصي إلحاقها بالوصية بقرينة من القرائن.

الحال الثانية ـ الزيادة المستقلة بنفسها:
إذا زاد الموصي في العين شيئاً يستقل بنفسه كغرس الأرض والبناء عليها، أو كانت الزيادة غير المستقلة مما لا يتسامح فيها عادة، أصبح الورثة شركاء مع الموصى له في كل العين الموصى بها مع زوائدها، وتكون حصة الورثة بمقدار قيمة الزيادة قائمة، أي قيمة الغراس والبناء قائماً بدون الأرض.

الحال الثالثة ـ الزيادة بالهدم والبناء الجديد:
إذا هدم الموصي العقار الموصى به، وأعاد بناءه مع تغيير معالمه، كأن يكون الموصى به داراً، فأعاد بناءها بنمط آخر أو بمواد أخرى، كانت الدار بحالتها الجديدة وصية بدل الأولى، لا حق للورثة في شيء منها.
أما إن أعاد بناء الدار على نحو آخر لا يعده العرف تجديداً للأول، كأن كانت من طابق واحد، فجعلها عمارة ذات طبقات، كانت العمارة كلها شركة بين الموصى له والورثة، ويكون نصيب الموصى له فيها بقيمة أرضه، ونصيب الورثة بقيمة البناء قائماً.
وكذلك إن ضم إلى الأرض القديمة أرضاً أخرى، كانت العمارة الجديدة شركة أيضاً، وتكون حصة الوصية هي قيمة الأرض الموصى بها؛ لأنه بإزالة البناء قد انحصرت الوصية في الأرض. وتكون حصة الورثة هي قيمة البناء قائماً وقيمة الأرض غير الموصى بها.

(10/7540)


الحال الرابعة ـ إدماج البناءين:
إذا جعل الموصي البناء الموصى به مع بناء آخر وحدة سكنية واحدة، لا يمكن معها تسليم العين الموصى بها منفردة، كأن كانتا دارين أوصى بإحداهما، ثم جعلهما داراً واحدة، اشترك الموصى له مع الورثة، بقدر قيمة الدار الموصى بها قبل هذا التغيير والضم.

المطلب السادس ـ مقدار الوصية:
علمنا في بحث شروط الوصية أن حق الإنسان في الإيصاء مقيد بحدود ثلث التركة، بنص الحديث النبوي: «الثلث والثلث كثير» فمقدار الوصية هو الثلث:

أـ فإذا كان للموصي وارث: فيرى جمهور الفقهاء غير الظاهرية والمالكية: أن الوصية لا تنفذ في الزائد عن الثلث إلا بإجازة الورثة. فإن أجازوها نفذت، وإلا بطلت؛ لأن الله أعطى الموصي حق التصرف في الثلث فقط، حماية لحق الورثة، فإذا أسقطوا حقهم زال المانع من نفاذ الوصية، بدليل: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء».
وإذا أجازها البعض دون البعض نفذت في حق المجيز، وبطلت في حق غيره. وتقسم التركة حينئذ على فرض الإجازة وعلى فرض عدم الإجازة، فمن أجاز أخذ نصيبه على التقسيم الأول، ومن لم يجز أخذ نصيبه على التقسيم الثاني.
ويرى المالكية والظاهرية: أن الوصية لاتنفذ في الزائد عن الثلث، وإن أجازها الورثة، عملاً بظاهر حديث سعد: «الثلث والثلث كثير».

ب ـ وإذا لم يكن للموصي وارث: نفذت الوصية في رأي الحنفية بالزائد،

(10/7541)


ولو كان الموصى به جميع المال؛ لأن المنع كان لحق الورثة، وحيث لا وارث، لم يتعلق بالزائد حق لأحد، فتنفذ الوصية فيه.
وقال الجمهور ـ كما بان سابقاً ـ لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث مطلقاً؛ لأن الزائد حق المسلمين، ولا مجيز عنهم، فلا تنفذ الوصية.
وأخذ القانون المصري (م2/ 37) والسوري (م4/ 238) بالرأي الأول، فتنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له بكل ماله من غير توقف على إجازة أحد.

إجازة الورثة للزائد عن الثلث:
لا تنفذ الوصية فيما زاد عن الثلث إلا بإجازة الورثة، وأوضح هنا أموراً في الإجازة (1).

أولاً ـ وقت الإجازة: يرى أئمة المذاهب الأربعة أن الإجازة لا تكون مقبولة وملزمة إلا بعد موت الموصي، فلو حدثت الإجازة أو الرد في حياة الموصي لم يعتبر ذلك؛ لأن ملك التركة لا يثبت للورثة إلا بعد موت المورث، فتعتبر إجازتهم وردهم بعد ثبوت الملك لهم. لكن قال المالكية: إذا أجاز الوارث حال مرض الموصي مرضاً مخوفاً قائماً بالموصي، ولم يصح صحة بيّنة بعده، أي بعد المرض الذي أجاز فيه الوارث، لزمته الإجازة إلا لعذر بجهل، وهو أنه يجهل لزوم الإجازة في المرض.
ثانياً ـ من يملك الإجازة والرد: يشترط فيمن يجيز أو يرد شرطان سبق ذكرهما وهما:
_________
(1) الدر المختار: 464/ 5، الشرح الصغير: 586/ 4، 595، مغني المحتاج: 43/ 3 - 47، المغني: 5/ 6 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 406 - 408، كشاف القناع: 378/ 4.

(10/7542)


الأول ـ أن يكون المجيز من أهل التبرع: بأن يكون عاقلاً بالغاً رشيداً، فلا تصح إجازة الصبي والمجنون والمعتوه والمحجور عليه لسفه أوعته أوغفلة؛ لأن الإجازة إسقاط لحق، فتكون تبرعاً، فلا يملكها إلا من يملك التبرعات.
وليس للولي أيضاً أن يجيز الوصية؛ لأن تصرفه منوط بالمصلحة، والتبرع بالمال ليس بمصلحة.

الثاني ـ أن يكون المجيز عالماً بمايجيزه: فلا تلزم إجازة الوارث إذا لم يكن عالماً بما أوصى به الموصي، فإن علم بالوصية وأجازها نفذت.
ثالثاً ـ جهة تلقي الملك بعد الإجازة:
للفقهاء رأيان في بيان جهة تلقي الموصى له الملك بعد إجازة الورثة:
يرى الجمهور على الراجح عند الشافعية: أن الموصى له يتملك الزائد عن الثلث من قبل الموصي، لا من قبل المجيز، وتكون إجازة الورثة تنفيذاً أي إمضاء لتصرف الموصي بالزائد، لا عطية مبتدأة، لأن الوصية تصرف من الموصي في ملكه، وإنما توقف نفاذها لتعلق حق الورثة بتلك الزيادة، وهذا التعلق لا يمنع كون الموصي قد تصرف في ملكه.
وقال المالكية، وفي قول ضعيف للشافعي: يتملك الموصى له الجزء الزائد عن الثلث من قبل المجيز بطريق الهبة المبتدأة، لتعلق حقه بهذه الزيادة، فتكون إجازته عطية مبتدأة، ويكون التمليك من جهته. وكذلك الوصية للوارث هي عطية مبتدأة.
وتظهر ثمرة الخلاف: في وجوب تسليم الموصى به، فعلى الرأي الأول:

(10/7543)


يجبر الوارث على تسليم العين الموصى بها، وعلى الرأي الثاني: لا يجبر على تسليم الموصى به، لأن الإجازة هبة، والموهوب لا يملك إلا بالقبض، وقبله يكون في ملك الواهب، ولا يجبر الإنسان على تسليم ملكه.

وقت تقدير الثلث:
اختلف الفقهاء على رأيين في وقت تقدير ثلث التركة، أهو عند الوفاة أم عند القسمة؟
مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة): يكون تقدير الثلث يوم قسمة التركة وفرز الأنصباء؛ لأنه وقت استقرار الملك وتنفيذ الوصية وإعطاء كل ذي حق حقه. ويترتب عليه أن ما يحدث قبل القسمة من نقص في قيمة التركة أو هلاك في الأعيان يكون من حصص الجميع.
ومذهب الشافعية: يكون تقدير الثلث وقت الوفاة؛ لأنه وقت ثبوت الملك للموصى له. فكل زيادة في الموصى به المعين بعد الوفاة من ولد وثمرة وأجرة تكون ملكاً خالصاً للموصى له، ولا تحتسب من الثلث؛ لأنها نماء ملكه.
والمفهوم من القانون المصري (م25) هو الأخذ بالرأي الثاني؛ لأن المادة نصت صراحة على فحوى مذهب الشافعيةوهو أن الملك يثبت للموصى له بالقبول من حين الموت، وأن زوائد الموصى به تكون ملكاً للموصى له، ولا تدخل في تقدير الثلث؛ لأنها نماء ملكه.

المطلب السابع ـ الوصية للوارث:
بحثت هذا الموضوع في شرط نفاذ الوصية المتعلق بالموصى له، وبينت رأي الأكثرين بعدم صحة ونفاذ الوصية للوارث إلا بإجازة الورثة.

(10/7544)


وأما قانون الوصية المصري في المادة (37) فأجاز الوصية لوارث من غير توقف على إجازة الورثة أخذاً برأي الشيعة الإمامية. ونص المادة هو:
«تصح الوصية بالثلث للوارث وغيره، وتنفذ من غير إجازة الورثة، وتصح بما زاد على الثلث، ولا تنفذ في الزيادة إلا إذا أجازها الورثة بعد وفاة الموصي، وكانوا من أهل التبرع، عالمين بما يجيزونه.
وتنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له بكل ماله، أو بعضه، من غير توقف على إجازة الخزانة العامة».
جاء في المذكرة التفسيرية: صحة الوصية للوارث بما لا يزيد على الثلث مذهب جمهور الفقهاء (1)، ونفاذها يؤخذ من الآية الكريمة: {كتب عليكم إذا حضر} [البقرة:180/ 2] وهو رأي فريق من المفسرين ومنهم أبو مسلم الأصفهاني.

المطلب الثامن ـ الوصية بمثل نصيب وارث:
هذا نوع من الوصية بالمجهول، والفقهاء اتفقوا (2) على أن الوصية تصح بمثل نصيب وارث، من غير تعيين، أو بمثل نصيب وارث معين، كالوصية بمثل نصيب ابنه أو بنته أو أخته. أو بمثل نصيب وارث معدوم، كالوصية لفلان بمثل نصيب ابن لو كان؛ لأن ذلك وصية بمثل نصيب المذكور، ومثل الشيء غيره.
فإن كان الورثة يتساوون في الميراث كالبنين، فله مثل نصيب أحدهم، ويجعل كواحد منهم، زاد عليهم.
_________
(1) الواقع أنه رأي بعض العلماء، وليس هو رأي الجمهور.
(2) الكتاب مع اللباب: 175/ 4، تكملة الفتح: 443/ 8، الشرح الصغير: 597/ 4 - 599، القوانين الفقهية: ص 406، المهذب: 457/ 1، المغني: 32/ 6 - 36، غاية المنتهى: 370/ 2 وما بعدها.

(10/7545)


وإن كانوا يتفاضلون فله عند الجمهور (غير المالكية) مثل نصيب أقلهم ميراثاً؛ لأنه نصيب أحدهم، فهو اليقين، وما زاد فمشكوك فيه.
وقال المالكية وابن أبي ليلى وزفر وداود الظاهري: يعطى مثل نصيب أحدهم إذا كانوا يتساوون: من أصل المال، ويقسم الباقي بين الورثة؛ لأن نصيب الوارث قبل الوصية من أصل المال، فلو أوصى بمثل نصيب ابنه، وله ابن واحد، فالوصية بجميع المال إن أجاز الابن الوصية، وإلا فللموصى له ثلث التركة فقط، وإن كان له ابنان فالوصية بالنصف، وإن كانوا ثلاثة فالوصية بالثلث.
واختلف الفقهاء في الوصية بنصيب وارث معين عند الوفاة: كأن يوصي بنصيب ابن أو بنت عند موته.
الذي رآه أئمة الحنفية الثلاثة، والشافعية في الراجح: أن الوصية باطلة؛ لأنها وصية بمال الغير، لأن نصيب الابن ما يصيبه بعد الموت، بخلاف الوصية بمثل نصيب ابنه؛ لأن مثل الشيء غيره.
ورأى زفر والمالكية والحنابلة: أن الوصية صحيحة، ويكون ذلك كالوصية بمثل نصيبه؛ لأن الغرض من ذكر نصيب الابن هو التقدير به، وليس الغرض منه الوصية بما سيكون للابن بعد الموت، حتى يكون موصياً بمال الغير، وهذا سائغ لغة وعرفاً، وأخذ به القانون المصري (م40).

مقدار ما يستحقه الموصى له في هذه الوصايا:
الطريق الموصل إلى معرفة المقدار الموصى به يختلف بحسب كل حالة.

الحالة الأولى ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث معين موجود عند وفاة الموصي:
تقسم التركة بين الورثة، ثم يزاد على أصل المسألة نصيب الموصى له. فلو

(10/7546)


أوصى إنسان بمثل نصيب ابن ومات عن ثلاثة أبناء، فيكون أصل الفريضة من ثلاثة أسهم، لكل ابن سهم، ثم يزاد على أصل الفريضة سهم رابع هو سهم الموصى له، فتصبح المسألة من أربعة. ولا حاجة إلى إجازة الورثة؛ لأن نصيب الموصى له أقل من الثلث.
ولو أوصى إنسان آخر بمثل نصيب ابنه، ومات عن ابن وبنت، كانت الفريضة من ثلاثة أسهم، للابن سهمان، وللبنت سهم واحد، ثم يزاد على أصل الفريضة للموصى له سهمان مثل نصيب الابن، فتصير خمسة أسهم، للموصى له منها سهمان. وبما أن نصيبه أكثر من الثلث، فيتوقف نفاذ الوصية في الجزء الزائد على الإجازة.

الحالة الثانية ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث غير معين:
إما أن يكون الورثة متساوين في السهام أو متفاوتين فيها، ففي حال التساوي: يزاد على أصل الفريضة مثل سهام أحدهم.
وفي حال التفاوت: يزاد عند الجمهور (غير المالكية) كما تقدم مثل سهام أقلهم نصيباً.
مثال الحال الأولى: أن يترك الموصي بنتين وأختاً شقيقة، فتكون المسألة من ثلاثة، للأخت سهم، ولكل من البنتين سهم، ثم يزاد سهم رابع، فيصبح مجموع السهام أربعة.
ومثال الحال الثانية: أن يترك الموصي بنتين وأختاً شقيقة وزوجة، فيكون أصل المسألة من (24)، للبنتين الثلثان (16) سهماً، وللزوجة الثمن (3) أسهم، وللأخت الباقي (5) أسهم، ثم يزاد على أصل الفريضة مثل نصيب أقلهم سهاماً للموصى له، وهو (3) أسهم نصيب الزوجة، فتصير السهام (27).

(10/7547)


الحالة الثالثة ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث معدوم:
مثل: أوصيت لفلان بنصيب ابن لو كان أو بمثل نصيب ابن لو كان. إذ لا فرق عند غير الحنفية والشافعية كما تقدم.
فتقسم التركة على الموجودين من الورثة بالفعل، ثم يزاد عليها مثل نصيب الابن المعدوم، فيكون للموصى له إن كان في حدود الثلث، أو أجيز الزائد من قبل الورثة، كما ذكر في الحالة الأولى.

الحالة الرابعة ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة ولآخر بسهم معلوم شائع:
كالوصية بمثل نصيب ابنه لشخص، وبربع التركة لشخص آخر.
الطريق لاستخراج الوصيتين في الصحيح عند الحنفية والحنابلة: أن تقدر الوصية بمثل نصيب الوارث بما تساويه من سهام التركة، كأنه لا وصية غيرها، ثم يقسم ثلث التركة بين الوصيتين، بالمحاصة إن لم يسعهما ولم يجز الورثة.
فلو أوصى رجل بمثل نصيب ابنه لشخص، وبربع ماله لشخص آخر، ومات وترك ابنين، كانت الفريضة من اثنين، يزاد عليهما سهم للموصى له بمثل النصيب، فيكون له الثلث، ويكون هنا وصيتان: إحداهما بثلث المال، والآخر بربعه، فاحتجنا إلى حساب له ثلث وربع، وأقل ذلك اثنا عشر، ثلثه للموصى له بمثل النصيب وهو أربعة أسهم، وربعه للموصى له بالربع وهو ثلاثة، والباقي للابنين بالتساوي.
ولما كان مجموع الوصيتين هنا أكثر من ثلث التركة، توقف نفاذها على إجازة

(10/7548)


الورثة، فإن لم يجيزوا، قسم الثلث بين الموصى لهما أسباعاً، أربعة سهام لصاحب الثلث وثلاثة لصاحب الربع.
وأخذ القانون المصري (م40 - 42) بهذه الأحكام.

المطلب التاسع ـ الوصية بالأجزاء:
بينت في بحث الوصية بالمجهول: أن من أوصي له بجزء أو حظ أو نصيب أو قسط أو شيء، فلورثة الموصي عند الجمهور أن يعطوه ما شاؤوا من متمول.
ويعطى عند المالكية سهماً واحداً من سهام التركة، ثم يقسم الباقي على الورثة.

المطلب العاشر ـ تنفيذ الوصية:
إذا كانت موجودات التركة كلها مالاً حاضراً، لا غائب منها ولا دين لها على أحد، تنفذ الوصية من جميع المال، سواء أكان الموصى به نقوداً مرسلة، أي مبلغاً غير معين كألف دينار مثلاً، أم شيئاً معيناً كدار معينة، أم سهماً شائعاً كربع التركة أو ثلثها، فتقدر التركة جميعها، ويأخذ الموصى له سهمه من كل المال.
أما إذا كان بعض مال التركة حاضراً، وبعضها ديوناً، أو مالاً غائباً، فإن تنفيذ الوصية يختلف بحسب الأحوال، إذ قد يكون في التركة دين على أجنبي، أو دين على وارث (1).

أولاً ـ أن يكون في التركة دين على أجنبي، أو مال غائب: لها أربعة أحوال:
_________
(1) الوصية لعيسوي: ص 109 - 116، الوصية للسباعي: ص 120 - 122.

(10/7549)


الحال الأولى ـ أن يكون الموصى به مالاً مرسلاً كألف دينار مثلاً: فإن كان الموصى به يخرج من ثلث المال الحاضر من التركة، أخذه الموصى له، إذ لا ضرر في أخذه على الورثة، حيث يبقى لهم ثلثا المال الحاضر.
وإن كان لا يخرج من الثلث، استوفى الموصى له منه بقدر ثلث الموجود، وكان الباقي للورثة، وكلما حضر شيء، استوفى الموصى له ثلثه حتى يكمل حقه. وهذا رأي الحنفية.

الحال الثانية ـ أن يكون الموصى به عيناً معينة كدار معينة أو نقود معينة كهذه النقود أو النقود الوديعة عند فلان.
الحكم في هذه الحال كالحكم في المسألة السابقة، وهو رأي المالكية؛ لأن بقاء العين موقوفة يؤخر القسمة، وقد يضر التأخر بالورثة، وفي تملكهم الباقي من العين نفي الضرر عنهم، ولا ضرر فيه على الموصى له لأنه يستعيض عن باقي حصته بقيمته. فإذا كانت الدار تساوي ألفاً، والموجود من التركة الحاضرة ألف وخمس مئة، وهناك ألف وخمس مئة غائبة، استحق الموصى له نصف الدار وهو ما يساوي ثلث الحاضر، ويكون النصف الباقي للورثة، وكلما حضر شيء من المال الغائب أخذ الموصى له ثلثه حتى يستوفي قيمة النصف الذي استولى عليه الورثة.
أخذ القانون المصري (م43) والسوري (م241) بالمقرر في هاتين الحالتين، الأولى من مذهب الحنفية، والثانية من مذهب المالكية لأنه أيسر وأسهل.
ويرى الحنفية في الحال الثانية: أن الموصى له يأخذ من العين المعينة بمقدار ثلث المال الحاضر، ويكون الباقي من تلك العين موقوفاً، فإذا حضر شيء من المال الغائب، أخذ الموصى له من باقي العين ما يساوي ثلث الذي حضر، حتى يستوفي العين كلها، فإن هلك المال الغائب كان باقي العين ملكاً للورثة؛ لأن الوصية

(10/7550)


تعلقت بهذه العين، فتنفذ فيها الوصية ما دام التنفيذ ممكناً، تنفيذاً لإرادة الموصي، ويظل باقي العين موقوفاً إلى أن يتبين أمر المال الغائب، فإذا حضر نفذت الوصية في العين كلها، وإن لم يحضر كان الباقي للورثة.
وعليه يكون النصف الباقي في المثال السابق موقوفاً، فإذا حضر شيء من المال الغائب، أخذ الموصي من باقي الدار مايساوي ثلث المال الذي حضر.

الحال الثالثة ـ أن تكون الوصية بسهم شائع في التركة كالربع أو الثلث:
ففي هذه الحال يكون الموصى له شريكاً للورثة في جميع المال حاضره وغائبه، دينه وعينه، فيستوفي سهمه من المال الحاضر، أي ربعه مثلاً، وكلما حضر شيء من المال الغائب، استوفى سهمه منه، وهو الربع في هذا المثال.
وهذا متفق عليه فقهاً، وقد أخذ به القانون المصري (م 44) والسوري (م242).

الحال الرابعة: أن تكون الوصية بسهم شائع في نوع من المال كربع منازله في الجهة الفلانية، أو ربع أمواله التجارية أو ديونه على التجار.
أـ فإن كان النوع الموصى بسهم فيه حاضراً: أخذ الموصى له سهمه منه إن خرج من الثلث، فإن لم يخرج أخذ منه بمقدار الثلث، وكان الباقي للورثة. وكلما حضر شيء من الدين أو المال الغائب أخذ الموصى له من ذلك النوع ما يساوي ثلث الذي حضر، إلى أن يستوفي سهمه منه.
فإن تصرف الورثة في الجزء الباقي من النوع الموصى بسهم فيه، أو أحدثوا فيه تحسيناً، وكان في رده للموصى له ضرر بهم، كان لهم الحق في إعطاء الموصى له قيمة الباقي من الوصية.

(10/7551)


ب ـ وإن كان النوع الموصى بسهم فيه غائباً، أو بعضه حاضراً والآخر غائباً: فقال الحنابلة وزفر: يأخذ الموصى له في هذه الحال نسبة سهمه في الجزء الحاضر من ذلك النوع فقط، وكلما حضر شيء من المال الغائب، أخذ بنسبة سهمه منه، ويكون الباقي للورثة.
وقال الحنفية ما عدا زفر: يأخذ الموصى له كل ما يحضر من المال الغائب أو الدين، إلى أن يستوفي حقه كله، ولا يشاركه أحد من الورثة في شيء منه ما دام يخرج من ثلث الحاضر من التركة.
أخذ القانون المصري (م45) بالرأي الأول.

ثانياً ـ أن يكون في التركة دين على وارث: لها أحوال ثلاث:
الحال الأولى ـ أن يكون الدين مؤجلا ً:
حكمه حكم الدين الذي على الأجنبي في جميع الأحوال السابقة، فلا يأخذ الموصى له إلا حصته في المال الحاضر وفي حدود الثلث، فإذا حل أجل الدين كمل له مقدار الوصية.

الحال الثانية ـ أن يكون الدين قد حل أداؤه عند الوفاة أو عند القسمة، وكان أقل من نصيب الوارث المدين في التركة أو مساوياً.
فتقع المقاصة بين الدين وسهام المدين إن كان الدين من جنس الحاضر من التركة، ويعتبر الدين بهذه المقاصة مالاً حاضراً.
فلو أوصى بألف وترك ولدين أحدهما مدين بألف، وترك ثلاثة آلاف، تقسم التركة ثلاثة أسهم، لكل من الولدين سهم، وللموصى له سهم، ويعتبر

(10/7552)


الدين حاضراً، فيأخذ الموصى له ألفاً، ويأخذ الولد غير المدين ألفاً، ولا يأخذ الولد المدين شيئاً، إذ تقع المقاصة بين نصيبه من التركة وبين ما عليه من الدين، وسقط سهمه من التركة.
وإذا كان الدين من غير جنس الحاضر من التركة، لا تقع المقاصة، ولكن يعتبر نصيب الوارث المدين من التركة محجوزاً كالرهن لاستيفاء الدين، فإذا أدى ما عليه تسلم نصيبه، وإن لم يؤده باع القاضي نصيبه، ووفى الدين المستحق للتركة من ثمنه.

الحال الثالثة ـ أن يكون الدين مستحق الأداء، أي قد حل وقت أدائه عند قسمة التركة، ونصيب الوارث لا يفي به:
في هذه الحال يكون الزائد عن النصيب كالدين على أجنبي، أي يعد مالاً غائباً، والذي يقابل مقدار نصيبه يعد مالاً حاضراً، فيأخذ الموصى له من الوصية بمقدار ثلث الحاضر كله. ثم يأخذ ثلث ما يستوفى من القدر الزائد من الدين، حتى يستوفي وصيته.
هذه الأحكام مأخوذة من مذهب الحنفية، وأخذ بها القانون المصري (م46) والسوري (م 2/ 242 - 3) وأضاف كل منهما أن أنواع النقد وأوراقه تعتبر جنساً واحداً في المقاصة.

المبحث الرابع ـ مبطلات الوصية:
تبطل الوصية بأسباب: إما من الموصي كرجوعه عن الوصية أو زوال أهليته، أو ردته، وإما من الموصى له وهو رد الوصية أو موته، أو قتل الموصي، وإما من

(10/7553)


الموصى به وهو هلاك العين الموصى بها أو استحقاقها. وهذه الأسباب مايلي (1):

1ً - زوال أهلية الموصي بالجنون المطبق ونحوه: تبطل الوصية عند الحنفية بالجنون المطبق ونحوه كالعته، سواء اتصل بالموت أو لم يتصل بأن أفاق قبل الموت؛ لأن الوصية عقد غير لازم كالوكالة، فيكون لبقائه حكم ابتدائه، ولما كان المجنون غير أهل لإنشاء الوصية في الابتداء؛ لأن قوله غير ملزم، كان طروء الجنون المطبق مبطلاً له.
والجنون المطبق: ما دام شهراً فأكثر، وهو رأي أبي يوسف الذي أخذ به القانون. وعند محمد: هو ما امتد سنة. والعته مثل الجنون. فإن لم يطبق الجنون لا تبطل الوصية؛ لأنه في هذه الحالة يشبه الإغماء، وغير مبطل للعقد؛ لأنه غير مزيل للعقل، كما لا تبطل بالحجر على الموصي للسفه أو الغفلة.
أخذ القانون المصري (م 14، 16) والسوري (م 220/أ) بتلك الأحكام، لكنه اعتبر الجنون المطبق مبطلاً إذا اتصل بالموت.
أما الجمهور غير الحنفية: فلم يبطلوا الوصية بالجنون، سواء أكان مطبقاً أم لا، وسواء اتصل بالموت أو لم يتصل، متى كان كامل الأهلية (بالغاً عاقلاً) وقت إنشائها؛ لأن العقود والتصرفات تعتمد في صحتها على تحقق الأهلية وقت إنشائها فقط، ولا يؤثر زوالها بعدئذ في صحة العقد أو التصرف، بدليل أن البيع والإجارة والوقف وغيرها لا تبطل بالجنون الطارئ. وهذا هو الراجح لدي؛ لأن كمال الأهلية يطلب عند الانعقاد. أما احتمال رجوع الموصي عن الوصية لولا جنونه فهو احتمال ضعيف.
_________
(1) البدائع: 394/ 7، الدر المختار: 469/ 5 - 471، الشرح الصغير: 584/ 4 - 587، الشرح الكبير: 426/ 4 - 428، مغني المحتاج: 39/ 3، 71 ومابعدها، المهذب: 461/ 1 ومابعدها، غاية المنتهى: 353/ 2 ومابعدها، كشاف القناع: 418/ 4.

(10/7554)


2ً - ردة الموصي: عند الحنفية والشافعية، وكذا ردة الموصى له عند المالكية إذا مات مرتداً ولم يرجع إلى الإسلام؛ لأن ملكه موقوف على الأصح، ولم يتعرض القانون للردة، لقلة وقوعها، وعملاً بمذهب الحنابلة القائلين بصحة وصية المرتد.
3ً - تعليق الوصية على شرط لم يحصل: كأن قال: إن مت من مرضي هذا، أو من سفري هذا، فلفلان كذا، فلم يمت، فتبطل الوصية؛ لأنه علقها على الموت في المرض والسفر، ولم يحصل. وقد صرح المالكية والحنفية والحنابلة به.
4ً - الرجوع عن الوصية: تبطل به بالاتفاق؛ لأنها عقد غير لازم، فيجوز للموصي الرجوع فيها متى شاء؛ لأن الذي وجد منه الإيجاب فقط، ولأنها عقد لا يثبت حكمه إلا بعد موت الموصي، فلا يترتب على الإيجاب أي حق للموصى له قبل ذلك، فيكون بالخيار بين الإمضاء والرجوع.
والرجوع إما أن يكون صريحاً أو دلالة:

الرجوع الصريح: ما كان بلفظ هو نص في الرجوع، مثل قول الموصي: رجعت عن وصيتي لفلان، أو تركتها، أو أبطلتها، أو نقضتها، أو ما أوصيت به لفلان هو لورثتي، ونحوه. وهذا متفق عليه فقهاً وقانوناً؛ لأنه صريح في عدول الموصي عن وصيته، وهو يملك العدول متى شاء.
ولا يعد رجوعاً: (ندمت على الوصية التي أوصيت بها لفلان) أو (تعجلت) أو (أخرت الوصية) لأن التأخير لا يستلزم السقوط كتأخير الدين عن المدين، وكذلك (كل وصية أوصيت بها لفلان فهي حرام) لا يدل على الرجوع، أو تغيير الموصى له من زيد لخالد مثلاً، بل يكون الموصى به مشتركاً.

(10/7555)


ولا يكون جحود الوصية رجوعاً في رأي محمد، وهو ما أخذ به القانون، ويعد رجوعاً عند أبي يوسف والمالكية، كما أبنت في بحث صفة الوصية.

والرجوع دلالة: كل تصرف أو فعل في الموصى به يفيد رجوعه عن الوصية. وهو يشمل ما يأتي:
أولاً ـ كل تصرف قولي يخرج العين عن ملك الوصي: كأن يبيع الشيء الموصى به، أويهبه، أويتصدق به أو يجعله مهراً أو وقفاً. وهذا متفق عليه فقهاً وقانوناً.
لكن هل تعود الوصية بعودة الملك إلى الموصي؟ رأيان:
مذهب الجمهور: متى بطلت الوصية لخروج الموصى به عن ملك الموصي، فلا تعود بعدئذ بعودة الملك؛ لأن الإقدام على التصرف قرينة قاطعة في ذاته على الرجوع.
ومذهب المالكية: إذا عاد الموصى به إلى ملك الموصي، عادت الوصية من غير حاجة إلى إيصاء جديد. والظاهر رجحان الرأي الأول، الذي أخذ به القانون، لفوات المحل المعقود عليه، بزوال ملكيته عنه.

ثانياً ـ كل فعل في العين الموصى بها يدل على الرجوع عن الوصية، وهوأنواع ثلاثة: نوع يدل على الرجوع بالاتفاق: وهو استهلاك العين الموصى بها في المعنى، كذبح الشاة الموصى بها، وغزل القطن الموصى به، ونسج الغزل، ونحوه مما يغير حقيقة الشيء، ويصبح شيئاً آخر غير الموصى به، ويلحق به ما لو تغير الشيء بنفسه تغيراً أزال اسمه كصيرورة العنب زبيباً والبيض فراخاً ونحوه.
وكذلك لو تغير الشيء بفعل الموصي تغيراً أزال اسمه كنسج الغزل وصوغ

(10/7556)


المعدن وطحن الحنطة وتفصيل البفتة (1) وتذرية الحب يعد رجوعاً حتى عند المالكية.

ونوع لا يدل على الرجوع بالاتفاق؛ وهو كل فعل تابع للعين أو في صفة من صفاتها بحيث لا يحدث تغييراً في حقيقة العين ولا يزيل اسماً عنها، مثل جزّ الصوف، وحلب اللبن، وسقي الزرع أو الشجر، وتشذيب الأشجار، وتجصيص الدار وزخرفتها وترميمها؛ لأن هذه الأفعال تعلقت بأمر خارج عن عين الموصى به، فلا تدل على الرجوع. فهذه الأفعال والتصرف في الموصى به بحيث لا يخرجه عن ملك الموصي كالإجارة والإعارة لا تعد رجوعاً.
ونوع مختلف فيه بين الفقهاء: وهو إحداث زيادة في الموصى به لا يمكن تسليم العين بدونها، كصبغ الثوب، وبناء الأرض وزرعها شجراً، ولتّ الطحين بالسمن.
وخلط الموصى به بما لا يمكن تمييزه إلا بمشقة، كخلط الدقيق بالسكر، وخلط القمح الموصى به بقمح آخر أو بشعير.
عند الجمهور: يعتبر المذكور من قبيل الرجوع دلالة. وعند المالكية: لا يعتبر ما ذكر رجوعاً إلا بقرينة أخرى تدل على إرادة الرجوع.
والقانون أخذ بمذهب المالكية فيما يعتبر من الأفعال رجوعاً وما لا يعتبر، على النحو الذي أبنته في صفة الوصية. ولقد حققت مذهب المالكية في أن تغيير اسم الشيء كتذرية الحب ونسج الغزل وصوغ المعدن وتفصيل البفتة (2) وحشو
_________
(1) أما لو قال: أوصيت بالثوب ثم فصله، فلا تبطل الوصية به، لعدم زوال اسم الثوب بالتفصيل.
(2) أما لو قال: أوصيت بالثوب أو بالقميص ثم فصله فلا تبطل به الوصية، لعدم زوال اسم الثوب بالتفصيل. فالمهم عند المالكية زوال الاسم وعدم زواله (حاشية الدسوقي: 428/ 4).

(10/7557)


القطن الموصى به إذا كان لا يخرج منه بعد الحشو يعد رجوعاً. لكن القانون لم يعتبر رجوعاً الفعل الذي يزيل اسم الموصى به أو يغير معظم صفاته إلا إذا دلت قرينة أو عرف على أن الموصي يقصد به الرجوع عن الوصية.

5 - رد الوصية: تبطل الوصية إذا ردها الموصى له بعد وفاة الموصي، كما أوضحت في بحث صيغة العقد.
6 - موت الموصى له المعين قبل موت الموصي: تبطل به الوصية باتفاق المذاهب الأربعة؛ لأن الوصية عطية، وقد صادفت المعطى ميتاً، فلا تصح كالهبة للميت، ولأن الوصية لا تلزم إلا بوفاة الموصي وقبول الموصى له.
وكذلك تبطل الوصية عند الجمهور غير الحنفية إذا مات الموصى له بعد موت الموصي قبل القبول. وعند الحنفية: لا تبطل لأن القبول معناه عندهم عدم الرد. وتبطل الوصية عند الجمهور بموت الموصى له، سواء علم الموصي بموته أم لم يعلم. وللمالكية تفصيل سبق ذكره.

7 - قتل الموصى له الموصي: تبطل الوصية عند الحنفية والحنابلة للقاتل، سواء أكان القتل قبل وصية أم بعدها، حتى لو أجاز الورثة الوصية، وأجازها الموصي بعد القتل وقبل الموت. وقد فصلت الكلام فيه وبينت رأي الفقهاء الآخرين في بحث شروط الموصى له.
8 - هلاك الموصى به المعين أو استحقاقه: تبطل الوصية إذا كان الموصى به معيناً بالذات، وهلك قبل قبول الموصى له؛ لفوات محل حكم الوصية، ويستحيل ثبوت حكم التصرف أو بقاؤه بدون وجود محله أو بقائه، كما لو أوصى بهذه الشاة، فهلكت، تبطل الوصية؛ لأن الوصية تعلقت بعين قائمة وقت الإيصاء، وقد فاتت بعدئذ، ففات محل الوصية.

(10/7558)


وكذلك تبطل الوصية إذا كانت بجزء شائع في شيء معين بذاته أو من نوع معين من أمواله، كأن يوصي بنصف هذه الدار، أو يوصي بفرس من أفراسه العشرة المعلومة، فهلكت، أو بنصف دوره، فهدمت، فلا شيء للموصى له، لفوات محل الوصية.
وتبطل الوصية أيضاً باستحقاق العين الموصى بها، سواء أكان الاستحقاق قبل موت الموصي أم بعده؛ لأن بالاستحقاق تبين أن الوصية كانت في غير ملكه، فتبطل.
وأخذ القانون المصري (م15) والسوري (م 244، 245) بهذه الأحكام، فقررا بطلان الوصية بهلاك الموصى به المعين أو باستحقاقه.

9 - تبطل الوصية لوارث عند المالكية ولو أجازها الورثة، لحديث «لا وصية لوارث».
المبحث الخامس ـ تزاحم الوصايا:
تزاحم الوصايا: أن تتعدد، ويضيق الثلث عنها ولم يجز الورثة، أو يجيزوا ولا تتسع التركة لتنفيذ كل الوصايا.
ولا يخلو حال تعدد الوصايا من أحد أمور ثلاثة:
1 - إما أن تكون كلها للعباد، كخالد وبكر وعمرو.
2 - وإما أن تكون كلها لله تعالى كالإيصاء بفدية صيام وصدقة تطوع وعمارة مسجد ونحوها.
3 - وإما أن تكون مشتركة من النوعين السابقين، بأن يكون بعضها لله، والبعض الآخر للعباد. فكيف تنفذ الوصايا؟

(10/7559)


للفقهاء آراء (1):
فصل الحنفية في هذا الموضوع: فأبانوا قواعد حل التزاحم بين الوصايا.

1 - قاعدة التزاحم في الوصايا بين العباد:
إذا أوصى شخص بعدة وصايا لأشخاص معينين، وزادت الوصايا في مجموعها عن الثلث، ولم تجز الورثة الزائد، أو أجازوا ولم تتسع التركة لتنفيذ الوصايا، فيكون لها حالتان:
الأولى ـ أن تكون كل وصية من الوصايا لا تتجاوز الثلث: كسدس المال لشخص، والربع لآخر، والثلث لثالث. يضرب كل سهم في الثلث، أي يأخذ كل واحد من الوصية بنسبة وصيته من الثلث، ويقسم ثلث التركة على تسعة، فيعطى الأول اثنين من السهام، والثاني ثلاثة، والثالث أربعة. وهذا متفق عليه بين أبي حنيفة وصاحبيه، وبه أخذ القانون.
الثانية: أن تكون إحدى الوصايا زائدة على الثلث: كثلث لواحد ونصف لآخر:
قال أبو حنيفة: يقسم الثلث بينهما مناصفة؛ لأن الوصية إذا زادت عن الثلث ولم تجز الورثة، تكون باطلة في القدر الزائد، فيكون هناك وصيتان كلتاهما بالثلث تتزاحمان فيه، فيكون ثلث التركة بين الموصى لهما نصفين. وهذا هو المفتى به عند الحنفية.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 468/ 5، تكملة الفتح: 467/ 8 - 469، الكتاب مع اللباب: 177/ 4، بداية المجتهد: 332/ 2، المهذب: 454/ 1، حاشية الباجوري: 86/ 2 - 88، المغني: 50/ 6.

(10/7560)


وقال الصاحبان وبقية الأئمة وبه أخذ القانون المصري (م80) والسوري (م258): يقسم الثلث بينهما بنسبة أنصبائهم في الوصية، كالحالة الأولى، ولا يلغى الزائد على الثلث ـ كما قال أبو حنيفة ـ لأنه يلزم مراعاة رغبة الموصي بقدر الإمكان، في تفضيل بعض الموصى لهم على بعض.
واستثنى أبو حنيفة ثلاث حالات: هي المحاباة، والدراهم المرسلة، والسعاية، وافق فيها الصاحبين
في القسمة بحسب السهام، وليس مناصفة (1)، أوضح هنا الحالتين الأوليين، أما الثالثة فلا حاجة لبيانها بالعبيد، فهي غير واقعية الآن.
أما المحاباة: فهي محاباة بعض الناس في ثمن البيع، كأن يوصي شخص بأن تباع سيارته التي تساوي قيمتها ثلاثة آلاف بألف والسيارة التي تعادل قيمتها ستة آلاف بألفين، علماً بأنه لا مال له سواهما، فهو يريد الوصية بفرق السعرين، فيقسم الثلث وهو الثلاثة الآلاف بينهما أثلاثاً، ثلثه للأول، وثلثاه للثاني.
وأما الدراهم المرسلة (2): فهي أن يوصي لشخص بأربع مئة دينار، ولآخر بثمان مئة، وتركته كلها ألف ومائتا دينار، ولم تجز الورثة، فكأنه أوصى لواحد بالثلث، ولآخر بالثلثين. فيقسم الثلث بينهما أثلاثاً، للأول ثلثه، وللآخر ثلثاه.
وسبب الاستثناء في رأي أبي حنيفة: أن الموصي لم يصرح في وصيته بما يبطلها وهو الزيادة على الثلث، وإنما جاء البطلان من الواقع بطريق المزاحمة وضيق التركة وعدم وفاء ثلثها بالوصيتين، ومن الممكن أن يظهر له مال فوق هذا المقدار، فلا تبطل الوصية.
_________
(1) الهداية مع تكملة الفتح وحاشية العناية: 442/ 8.
(2) المرسلة: أي المطلقة غير المقيدة بثلث أو ربع أونحوهما.

(10/7561)


2 - التزاحم بين الوصايا في حقوق الله تعالى:
إذا أوصى بوصايا تزيد عن الثلث، وكلها من حقوق الله تعالى، فإما أن تكون متحدة الرتبة، أو متفاوتة الرتبة، أو مختلطة.
فإذا كانت متحدة الرتبة بأن كانت كلها فرائض كالحج والزكاة أو كلها واجبات أو كلها مندوبات: يقدم فيها في رأي أبي حنيفة وصاحبيه ما بدأ به الميت أولاً، فإذا أوصى بحج وزكاة، قدم الحج. وإذا أوصى بكفارة يمين وكفارة ظهار، قدمت الوصية الأولى، فإن فضل شيء من الثلث فللثانية.
وإذا كانت متفاوتة الرتبة: كأن كان بعض الوصايا بالفرائض، وبعضها بالواجبات كصدقة الفطر عند الحنفية. وبعضها بالمندوبات كحج التطوع، قدم الفرض ثم الواجب ثم المندوب.

3 - التزاحم بين وصايا حق الله وحق العباد:
يحدث ذلك كما إذا أوصى للحج والزكاة والكفارة من الناس، فإنه يقسم الثلث بينهما أرباعاً، ويعطى لكل جهة الربع، فيكون للحج ربع الثلث، وللزكاة ربع الثلث، وللكفارة ربع الثلث، ولخالد ربع الثلث.
وعند استواء القربات في القوة يقدم منها ما بدأ به الموصي، أو الأقوى عبادة أو تقسم على الجميع بالتساوي، على حسب ما ذكرته من الآراء.
نص القانون المصري (م80) والسوري (م 258، 259) على الأحكام السابقة في تزاحم الوصايا عدولاً عن رأي أبي حنيفة إلى رأي الصاحبين.
أما المذاهب الأخرى: فمتفقة مع رأي الصاحبين: فإذا كانت الوصايا التي

(10/7562)


يضيق عنها الثلث مستوية تتحاص في الثلث، أي يقسَّط الثلث على الجميع بنسبة كل منها. فمن أوصى لاثنين: لأحدهما بنصف ماله، وللآخر بثلث ماله، ورد الورثة الزائد، فإنهما يقتسمان الثلث بينهما أخماساً.
وإذا أجاز الورثة الوصية، كأن أوصى بنصف ماله لشخص، ولآخر بجميع ماله، قسم المال بينهما أثلاثاً: يأخذ الموصى له بالنصف ثلثه، والباقي يأخذه الموصى له بالكل.
وإذا كان بعض الوصايا أهم من بعض، قدم الأهم على الأضعف.
وعلم سابقاً أن الوصية بالزائد عن الثلث تبطل عند المالكية على المشهور، ولو أجازها الورثة، وعند الإجازة يعتبر الزائد على الثلث عطاء جديداً من الورثة، لاتنفيذاً لوصية الميت، فيشترط فيه أن يكون الوارث المجيز أهلاً للتبرع، ولا بد فيه من القبول، ولا بد من حيازة الموصى له قبل حصول مانع للمجيز.

المبحث السادس ـ الوصية الواجبة قانونا ً:
مستندها الفقهي ومسوغاتها، من تجب له، شروط وجوبها، مقدار الوصية الواجبة، طريقة استخراجها من التركة (1).

المستند الفقهي للوصية الواجبة ومسوغاتها: بينت أن الوصية للأقارب مستحبة عند الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة، ولا تجب على الشخص إلا بحق لله أو للعباد.
_________
(1) الفقه المقارن للأستاذ حسن أحمد الخطيب: ص 221 - 231، الوصية للأستاذ عيسوي: ص163 - 174، الوصية للأستاذ مصطفى السباعي: ص 131 - 137.

(10/7563)


ويرى بعض الفقهاء كابن حزم الظاهري والطبري وأبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة: أن الوصية واجبة ديانة وقضاء للوالدين والأقربين الذين لا يرثون، لحجبهم عن الميراث، أو لمانع يمنعهم من الإرث كاختلاف الدين، فإذا لم يوص الميت للأقارب بشيء وجب على ورثته أو على الوصي إخراج شيء غير محدد المقدار من مال الميت وإعطاؤه للوالدين غير الوارثين.
أخذ القانون المصري (م76 - 79) والسوري (م 257) بالرأي الثاني، فأوجب الوصية لبعض المحرومين من الإرث وهم الأحفاد الذين يموت آباؤهم في حياة أبيهم أو أمهم، أو يموتون معهم ولو حكماً كالغرقى والحرقى.
ففي نظام الإرث الإسلامي لا يستحق هؤلاء الحفدة شيئاً من ميراث الجد أو الجدة، لوجود أعمامهم أو عماتهم على قيد الحياة.
لكن قد يكون هؤلاء الحفدة في فقر وحاجة، ويكون أعمامهم أو عماتهم في غنى وثروة.
فاستحدث القانون نظام الوصية الواجبة لمعالجة هذه المشكلة تمشياً مع روح التشريع الإسلامي في توزيع الثروة على أساس من العدل والمنطق، إذ ما ذنب ولد المتوفى (ابن المحروم) في الحرمان من نصيب والده الذي توفي مبكراً قبل والده، ويكون قد ساهم في تكوين ثروة الجد بنصيب ملحوظ، فيجتمع عليهم الحاجة وفقد الوالد. وبما أن الأحفاد غير ورثة في حال موت أبيهم، فلولي الأمر قصر صفة غير الوارث عليهم للمصلحة، ولأنهم أولى الناس بمال الجد.
فإذا لم يوص الجد أو الجدة لهؤلاء الحفدة بمثل نصيب أصلهم، تجب لهم الوصية بإيجاب الله تعالى بمثل هذا النصيب على ألا يزيد على الثلث، لقوله

(10/7564)


تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/ 2].
وبما أن هذه الوصية لا تتوافر لها مقومات الوصية الاختيارية لعدم الإيجاب من الموصي والقبول من الموصى له، فهي أشبه بالميراث، فيسلك فيها مسلك الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويحجب الأصل فرعه، ويأخذ كل فرع نصيب أصله فقط.

من تجب له هذه الوصية: أوجب القانون المصري هذه الوصية لأولاد الابن مهما نزلوا، وللطبقة الأولى فقط من أولاد البنت.
وأوجبها أيضاً لفروع من مات مع أبيه أو أمه في حادث واحد، ولا يدرى أيهم سبقت إليه المنية، كالغرقى والهدمى والحرقى، ونحوهم؛ لأن من جهل وقت وفاتهم لا يرث فقهاً أحدهم الآخر، فلا يرث الفرع أصله في تلك الحالة، فتجب الوصية لذرية ذلك الفرع قانوناً.
وكما تجب للأحفاد الذين مات أبوهم أو أمهم حقيقة، تجب أيضاً لمن حكم بموت أبيه أوأمه، كالمفقود الذي غاب أربع سنين فأكثر في مظنة هلاك، كالحرب ونحوها.
أما القانون السوري فإنه قصر هذه الوصية على أولاد الابن فقط، ذكوراً وإناثاً، دون أولاد البنت؛ لأن هؤلاء لا يحرمون من الميراث في هذه الحالة لوجود أخوالهم أو خالاتهم، وإنما هم من ذوي الأرحام الذين يرثون في رأي الحنفية عند عدم ذوي الفروض والعصبات.
والأولى الأخذ بما ذهب إلىه القانون المصري تسوية بين فئتين من جنس واحد، سواء لطبقة واحدة أم لأكثر.

(10/7565)


شروط وجوب هذه الوصية: اشترط القانون المصري والسوري لوجوب هذه الوصية شرطين:
الأول ـ أن يكون فرع الولد غير وارث من المتوفى: فإن ورث منه، ولو ميراثاً قليلاً، لم يستحق هذه الوصية.

الثاني ـ ألا يكون المتوفى قد أعطاه ما يساوي الوصية الواجبة، بغير عوض عن طريق آخر كالهبة أو الوصية. فإن أعطاه ما يستحقه بهذه الوصية فلا تجب له. وإن أعطاه أقل منها، وجب له ما يكمل مقدار الوصية الواجبة. وإذا أعطى بعض المستحقين دون البعض الآخر، وجب للمحروم وصية بقدر نصيبه.
مقدار الوصية الواجبة:
يستحق الأحفاد حصة أبيهم المتوفى في القانون المصري لو أن أصله مات في حياته، على ألا يزيد النصيب عن الثلث، فإن زاد عنه كان الزائد موقوفاً على إجازة الورثة. هذا هو مقدار الوصية الواجبة في القانون. أما الفقهاء القائلون بوجوب الوصية للوالدين والأقربين غيرالوارثين فلم يحددوا مقدار هذه الوصية. وبناء على ما حدده القانون، إن مات شخص عن ابن وبنتين وأولاد ابن متوفى في حياة أبيه، فيستحق هؤلاء الأحفاد ما كان يستحقه أبوهم لو كان حياً، وهو هنا ثلث التركة. وفي السوري: يستحقون حصتهم مما يرث أبوهم.
وإن توفي عن ابن وبنت وأولاد بنت توفيت في حياة أبيها، فيأخذ أولاد البنت ـ في القانون المصري، لا السوري ـ نصيب أمهم وهو هنا ربع التركة.
وإن مات عن ابن وبنت وأولاد ابن مات في حياة أبيه، فإن ماكان يستحقه الابن المتوفى وهو خمسا التركة، هو أكثر من الثلث، فلا يأخذ أولاده إلا الثلث.

(10/7566)


تقديم هذه الوصية: نص القانون على أن الوصية الواجبة مقدمة على غيرها من الوصايا الاختيارية الأخرى في الاستيفاء من ثلث التركة. والوصية الاختيارية: هي ما أنشأه الموصي باختياره قبل وفاته من وصايا، ولو كانت واجبة ديانة كالوصية بفدية الصوم والصلاة؛ لأنها آكد منها، إذ أن لها مطالباً من جهة العباد.
فإن استوعب الثلث جميع الوصايا ـ الواجبة والاختيارية ـ نفذت كلها، وإن لم يستوعبها نفذت الوصية الواجبة أولاً، ثم بقية الوصايا بحسب أحكام تزاحم الوصايا.

الفرق بين القانون السوري والقانون المصري في مقدار الوصية الواجبة:
نصت المادة (257) ـ الفقرة (أ) من قانون الأحوال الشخصية السوري على ما يلي:
أـ الوصية الواجبة لهؤلاء الأحفاد تكون بمقدار حصتهم مما يرثه أبوهم عن أصله المتوفى على فرض موت أبيهم إثر وفاة أصله المذكور، على أن لا يتجاوز ذلك ثلث التركة.
وهذا النص واضح في أن حصة الحفيد: هي ما يأخذه من أبيه المتوفى فيما لو فرض وظل على قيد الحياة. أما نص المادة (76) من قانون الوصية المصري المأخوذ منه أحكام المادة (257) من قانون الأحوال الشخصية السوري، فيقتضى إعطاء الحفيد كامل حصة أبيه المتوفى، من ثلث التركة، مقدماً حق الوصية الواجبة على بقية الوصايا الاختيارية، وليس هو ما يأخذه من حصة أبيه.
ويتضح الفرق بالمثالين التاليين:

(10/7567)


المثال الأول على الطريقة السورية:
يلاحظ أن ما أخذه الحفيد وهو (1632) أقل من ثلث التركة؛ لأن للبنات الثلثين من حصة والدهن، والمسألة الجامعة (6912) مكبرة إلى ستة أضعاف. صورة 7568

(10/7568)


المثال الثاني على الطريقة المصرية:
يلاحظ أنه لم يعط في هذه المسألة لبنات الابن الـ 3 (الحفدة) كامل نصيب أبيهن لتجاوزه ثلث التركة، بل اقتصر على ثلث التركة وهو (384) من أصل (1152) أي (2304) من أصل (6912)، وهذا التصحيح أيسر من الطريقة السورية، ولكن التزام النص القانوني في سورية هو الذي أوجب العمل بما ذكر في المثال الأول. أما في مصر فيعطى الأحفاد نصيب الوالد في حدود الثلث، لا النسبة الإرثية من الأب، وهذا الثلث أو كامل نصيب الوالد إذا كان أقل من الثلث يوزع بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين. صورة 7569

(10/7569)


طريقة استخراج الوصية الواجبة:
لم ينص القانون على طريقة استخراج الوصية الواجبة، ولكنه أرشد إلى ضرورة مراعاة الأمور التالية:
1 - ألا يزيد المقدار المستخرج عن ثلث التركة.
2 - أن يكون بمقدار نصيب الأب المتوفى في حياة أبيه.
3 - أن يكون التنفيذ على اعتبار أن الخارج وصية، لا ميراث، فيخرج من جميع التركة، لا من الثلث فقط.
والطريقة: هي أن يفرض المتوفى في حياة والده حياً،،ويعطى نصيبه، ثم يخرج ذلك النصيب من التركة، بشرط ألا يزيد على الثلث، ويعطى للأحفاد. ثم يقسم باقي التركة بين الورثة، من غير نظر إلى الولد المتوفى الذي فرض حياً.
كأن يتوفى شخص ويترك ثلاثة أبناء وبنت ابن متوفى، وأباً وأماً. يفرض أولاً وجود الابن الذي توفي في حياة أبيه، فيكون للأب السدس، ولكل واحد من الأبناء الأربعة السدس، ثم يخرج نصيب الابن المتوفى من أصل التركة، فيعطى لبنته وصية واجبة. ثم يقسم باقي التركة على الورثة الموجودين بالفعل بحسب الفريضة الشرعية، فيكون للأب سدس الباقي، وللأم مثل ذلك، ويوزع ما بقي بين الأبناء الثلاثة أثلاثاً.

المبحث السابع ـ إثبات الوصية:
يندب بالاتفاق كتابة الوصية، وبدؤها بالبسملة والثناء على الله بالحمد ونحوه والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم إعلان الشهادتين كتابة أو نطقاً بعد البسملة والحمدلة والصلولة، ثم الإشهاد على الوصية لأجل صحتها ونفوذها.

(10/7570)


وقد بينت في المبحث الأول أن الوصية تنعقد بالعبارة وبالكتابة، وكذا بالإشارة المفهمة عند المالكية. ونص القانون المصري (م2/أ) والسوري (208) على طرق إنشاء الوصية، وذكر أنها تنعقد بالعبارة أو الكتابة لمن قدر عليهما. فإن لم يكن قادراً عليهما انعقدت الوصية بالإشارة المفهمة الدالة على ذلك، وأخذ القانون بمذهب الشافعية، فسوى في حالة العجز عن الكتابة أو العبارة بين العجز الأصلي كالخرس، والعجز بسبب طارئ كالمرض. واعتبرت الإشارة حجة للحاجة إليها في إثبات حقوق العباد.
وتثبت الوصية بطرق الإثبات الشرعية كالشهادة والكتابة. أما الكتابة: فمعتبرة عند الحنفية (1) إذا كانت مستبينة مرسومة أي مسطرة على ورق ونحوه، ومعنونة أي مصدَّرة بالعنوان: وهو أن يكتب في صدر الكتاب من فلان إلى فلان، فإن لم تكن مستبينة كالكتابة على الهواء والرَّقْم على الماء فلا تعتبر، وإن كانت مستبينة غير مرسومة كالكتابة على الجدران وأوراق الأشجار، فهي كناية لابد فيها من النية. ولكن لايقضى بالخط المجرد عندهم إلا في مسائل: كتاب أهل الحرب بطلب الأمان إلى الإمام، ودفتر السمسار والصراف والبياع.

وأما الشهادة على كتاب الوصية: فتكون عند الحنفية والشافعية (2) بعد
قراءته على الشهود، فيسمع الشهود من الموصي مضمونه، أو تقرأ عليه فيقر بما فيها؛ لأن الحكم لايجوز برؤية خط الشاهد بالشهادة بالإجماع. لكن تنعقد الوصية عند الشافعية بالكتابة بأن نوى بالمكتوب الوصية، وأعرب بالنية نطقاً، أو أقرَّ بها ورثته بعد موته. ولاتثبت الوصية بالخط المجرد عند الحنفية والشافعية لإمكان التزوير وتشابه الخطوط.
_________
(1) تكملة الفتح والعناية: 511/ 8 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 347/ 2، رد المحتار: 443/ 3.
(2) مغني المحتاج: 53/ 3، 399/ 4.

(10/7571)


ومذهب المالكية (1): تثبت الوصية إن كانت بخط الموصي، مع الإشهاد عليها، وإن لم يقرأها على الشهود، ولم يفتح كتاب الوصية، وتنفذ الوصية حيث أشهد بقوله للشهود: اشهدوا بما في هذه، ولم يوجد فيها محو، حتى ولو بقي كتاب الوصية عند الموصي ولم يخرجه حتى مات.
فإن ثبت لدى القاضي أن ما اشتملت عليه الورقة بخط الموصي، أو قرأها على الشهود لكنه لم يشهد الموصي على الوصية في الصورتين، بأن لم يقل: اشهدوا على وصيتي، أو لم يقل: نفذوها، لم تنفذ بعد موته، لاحتمال رجوعه عنها. فإن قال الموصي للشهود: اشهدوا، أو قال: أنفذوها، نفذت.
ومذهب الحنابلة في الأرجح (2): من كتب وصيةً، ولم يشهد عليها، حكم بها ما لم يعلم رجوعه عنها، فتثبت الوصية ويقبل ما فيها بالخط الثابت أنه خط الموصي، بإقرار ورثته، أو ببينة تعرف خطه تشهد أنه خطه، وإن طال الزمن أو تغير حال الموصي، أو بأن عرف خطه وكان مشهور الخط، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده» ولم يذكر أمراً زائداً على الكتابة، فدل على الاكتفاء بها، ولأنه صلّى الله عليه وسلم «كتب إلى عماله وغيرهم» ملزماً العمل بتلك الكتابة، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون من بعده، ولأن الكتابة تنبئ عن المقصود فهي كاللفظ.
وإن كتب وصيته، وقال: اشهدوا علي بما في هذه الورقة، أو قال: هذه وصيتي فاشهدوا علي بها: لا تثبت حتى يسمعوا منه ما فيه، أو يقرأ عليه فيقر بما فيه. وهذا موافق لقول الحنفية والشافعية.
_________
(1) الشرح الصغير: 601/ 4.
(2) المغني: 69/ 6 وما بعدها، كشاف القناع: 373/ 4، غاية المنتهى: 348/ 2.

(10/7572)


والخلاصة: أنه لا بد عند الجمهور لإثبات الوصية من سماع الشهود مضمونها، أو قراءتها على الموصي فيقر بما فيها. ويكفي عند المالكية الإشهاد عليها، وإن لم تقرأ على الشهود، أو لم يفتح كتاب الوصية.
وتثبت الوصية لدى الحنابلة بالكتابة وحدها إذا كان الموصي مشهور الخط وعرف خطه. وأخذ القانون بهذا الرأي.
وخالف القانون المصري (م 2/ 2) آراء الفقهاء في سماع الدعوى، فلم يعتبر الوصية بالشهادة المقررة في رأي الفقهاء عند إنكار دعوى الوصية أو الرجوع القولي عنها بعد وفاة الموصي، وإنما اشترط لسماع الدعوى بعد وفاة الموصي عند الإنكار أن تكون الوصية ثابتة بورقة رسمية، أو بورقة عرفية كتبت جميعها بخط المتوفى وعليها توقيعه، أو كانت بإمضاء مصدق عليه. وهذا احتياط من القانون نظراً لفساد الزمان، وعدم التعويل على كثير من الشهادات بسبب انتشار شهادة الزور.
جاء في المذكرة التفسيرية: الحكم هنا مأخوذ مما ذكره علي بن عبد السلام التسولي المالكي من أن الإشهاد على عقود التبرعات شرط في صحتها، ومن القاعدة الشرعية: وهي أن لولي الأمر أن يأمر بالمباح، لما يراه من المصلحة العامة، ومتى أمر به وجبت طاعته، وفي رأي بعض الفقهاء: أمره ينشئ حكماً شرعياً. فعقد الوصية، وهو من عقود التبرعات، يجوز أن يكون بإشهاد كتابي، ويجوز أن يكون بإشهاد شفوي، وإذا رأى ولي الأمر أن يكون بإشهاد كتابي على الوجه المبين في المادة، يجب على الكافة أن يعملوا به.

(10/7573)