الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

البَابُ الخامس: الوَقْف فيه عشرة فصول:
الأول ـ تعريف الوقف ومشروعيته وصفته وركنه.
الثاني ـ أنواع الوقف ومحله.
الثالث ـ حكم الوقف ومتى يزول ملك الواقف؟.
الرابع ـ شروط الوقف.
الخامس ـ إثبات الوقف شرعاً وقانوناً.
السادس ـ مبطلات الوقف،
السابع ـ نفقات الوقف.
الثامن ـ استبدال الوقف وبيعه حالة الخراب.
التاسع ـ الوقف في مرض الموت.
العاشر ـ ناظر الوقف (تعيينه، وشروطه، ووظيفته، وعزله).
وأبدأ ببيانها مستعيناً بالله تعالى.

(10/7597)


الفَصْلُ الأوّل: تعريف الوقف ومشروعيَّته وصفته وركنه: أولاً ـ تعريف الوقف: الوقف والتحبيس والتسبيل بمعنى واحد، وهو لغة: الحبس عن التصرف. يقال: وقفت كذا: أي حبسته، ولا يقال: أوقفته إلا في لغة تميمية، وهي رديئة، وعليها العامة. ويقال: أحبس لا حبَس، عكس وقف، فالأولى فصيحة، والثانية رديئة. ومنه: الموقف لحبس الناس فيه للحساب. ثم اشتهر إطلاق كلمة الوقف على اسم المفعول وهوا لموقوف. ويعبر عن الوقف بالحبس، ويقال في المغرب: وزير الأحباس.
والوقف شرعاً له في المذاهب تعاريف ثلاثة:

التعريف الأول ـ لأبي حنيفة (1): وهو حبس العين على حكم ملك الواقف، والتصدُّق بالمنفعة على جهة الخير. وبناء عليه لا يلزم زوال الموقوف عن ملك الواقف ويصح له الرجوع عنه، ويجوز بيعه؛ لأن الأصح عند أبي حنيفة أن الوقف جائز غير لازم كالعارية، فلا يلزم إلا بأحد أمور ثلاثة (2):
1ً - أن يحكم به الحاكم المولى لا المحكَّم، بأن يختصم الواقف مع الناظر، لأنه يريد أن يرجع بعلة عدم اللزوم، فيقضي الحاكم باللزوم، فيلزم؛ لأنه أمر مجتهد فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف.
2ً - أو أن يعلقه الحاكم بموته: فيقول: إذا مت فقد وقفت داري مثلاً على كذا، فيلزم كالوصية من الثلث بالموت، لا قبله.
_________
(1) فتح القدير: 37/ 5 - 40، 62، اللباب: 180/ 2، الدر المختار: 391/ 3.
(2) ولكن الأصح المفتى به كما سيأتي هو قول الصاحبين.

(10/7599)


3ً - أن يجعله وقفاً لمسجد، ويفرزه عن ملكه، ويأذن بالصلاة فيه: فإذا صلى فيه واحد، زال ملكه عن الواقف عند أبي حنيفة. أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به، وأما الصلاة فيه، فلأنه لا بد من التسليم عنده وعند محمد، وتسليم الشيء بحسب نوعه، وهو في المسجد بالصلاة فيه.
وقد استدل أبو حنيفة على رأيه بدليلين:
1ً - قوله عليه الصلاة والسلام: «لا حبس عن فرائض الله» (1) فلو كان الوقف يخرج المال الموقوف عن ملك الواقف، لكان حبساً عن فرائض الله؛ لأنه يحول بين الورثة وبين أخذ نصيبهم المفروض.
لكن لا يدل هذا الحديث مع ضعفه على مقصود الإمام، لأن المراد به إبطال عادة الجاهلية بقصر الإرث على الذكور الكبار، دون الإناث والصغار.
2ً - ما روي عن القاضي شريح أنه قال: «جاء محمد صلّى الله عليه وسلم ببيع الحبس» فإذا جاء الرسول صلّى الله عليه وسلم بذلك، فليس لنا أن نستحدث حبساً آخر، إذ الوقف تحبيس العين، فهو غير مشروع.
ولكن لا دلالة أيضاً في هذا القول على مطلوب الإمام؛ لأن الحبس الممنوع هو ماكان يحبس للأصنام والأوثان، وقد جاء الرسول صلّى الله عليه وسلم ببيعه وإبطاله قضاء على الوثنية. أما الوقف فهو نظام إسلامي محض. قال الإمام الشافعي: «لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمت، إنما حبس أهل الإسلام».
_________
(1) رواه الدارقطني عن ابن عباس، وفيه ابن لهيعة أخوه عيسى ضعيفان.

(10/7600)


التعريف الثاني ـ للجمهور وهم الصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية، والشافعية والحنابلة في الأصح (1): وهو حبس مال يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته من الواقف وغيره، على مصرف مباح موجود ـ أو بصرف ريعه على جهة بر وخير ـ تقرباً إلى الله تعالى. وعليه يخرج المال عن ملك الواقف، ويصير حبيساً على حكم ملك الله تعالى (2)، ويمتنع على الواقف تصرفه فيه، ويلزم التبرع بريعه على جهة الوقف. واستدلوا لرأيهم بدليلين:
1ً - حديث ابن عمر: «أن عمر أصاب أرضاً من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله، أصبتُ أرضاً بخيبر، لم أُصب مالاً قط أنفسَ عندي منه، فما تأمرني؟ فقال: إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها، فتصدَّق بها عمر، على ألا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى والرّقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويُطْعِم غير متموِّل» (3) أي غير متخذ منها مالاً أي ملكاً. قال ابن حجر في الفتح: «وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف».
وهو يدل على منع التصرف في الموقوف؛ لأن الحبس معناه المنع، أي منع العين عن أن تكون ملكاً، وعن أن تكون محلاً لتصرف تمليكي. لكن يلاحظ أن هذا الحديث لا يدل على خروج المال الموقوف عن ملك الواقف.
_________
(1) مراجع الحنفية السابقة، مغني المحتاج: 376/ 2، كشاف القناع: 267/ 4، غاية المنتهى: 299/ 2.
(2) المراد أنه لم يبق على ملك الواقف، ولا انتقل إلى ملك غيره، بل صار على حكم ملك الله تعالى الذي لا ملك فيه لأحد سواه، هذا هو المراد وإلا فالكل ملك لله تعالى.
(3) رواه الجماعة (نيل الأوطار: 20/ 6).

(10/7601)


2ً - استمر عمل الأمة منذ صدر الإسلام إلى الآن على وقف الأموال على وجوه الخير، ومنع التصرف فيها من الواقف وغيره.

التعريف الثالث ـ للمالكية (1): وهو جعل المالك منفعة مملوكة، ولو كان مملوكاً بأجرة، أو جعل غلته كدراهم، لمستحق، بصيغة، مدة ما يراه المحبِّس. أي إن المالك يحبس العين عن أي تصرف تمليكي، ويتبرع بريعها لجهة خيرية، تبرعاً لازماً، مع بقاء العين على ملك الواقف، مدة معينة من الزمان، فلا يشترط فيه التأبيد. ومثال المملوك بأجرة: أن يستأجر داراً مملوكة أو أرضاً مدة معلومة، ثم يقف منفعتها لمستحق آخر غيره في تلك المدة. وبه يكون المراد من «المملوك» إما ملك الذات أو ملك المنفعة.
الوقف عند المالكية لايقطع حق الملكية في العين الموقوفة، وإنما يقطع حق التصرف فيها. واستدلوا على بقاء الملك في العين الموقوفة بحديث عمر المتقدم، حيث قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» ففيه إشارة للتصدق بالغلة، مع بقاء ملكية الموقوف على ذمة الواقف، ومنع أي تصرف تمليكي فيه للغير، بدليل فهم عمر: «على ألا تباع، ولا توهب، ولاتورث».
وهذا يشبه ملك المحجور عليه لسفه أي تبذير، فإن ملكه باق في ماله، ولكنه ممنوع من بيعه وهبته. وهذا الرأي أدق دليلاً، ولكن التعريف الثاني أشهر عند الناس.
واتفق العلماء في وقف المساجد أنها من باب الإسقاط والعتق، لا ملك لأحد فيها، وأن المساجد لله تعالى.
_________
(1) الشرح الكبير: 76/ 4، الشرح الصغير: 97/ 4 - 98، الفروق: 111/ 2.

(10/7602)


ثانياً ـ مشروعية الوقف وحكمته أو سببه: الوقف عند الجمهور غير الحنفية سنة مندوب إليها، فهو من التبرعات المندوبة، لقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران:92/ 3] وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/ 2] فهو بعمومه يفيد الإنفاق في وجوه الخير والبر، والوقف: إنفاق المال في جهات البر.
ولقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» وقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له» (1) والولد الصالح: هو القائم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد.
وأكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف، وكان وقف عمر مئة سهم من خيبر أول وقف في الإسلام على المشهور. وقال جابر رضي الله عنه: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف.
والوقف من خصائص الإسلام، قال النووي: وهو مما اختص به المسلمون، قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية داراً ولا أرضاً فيما علمت.
ويلاحظ أن القليل من أحكام الوقف ثابت بالسنة، ومعظم أحكامه ثابت باجتهاد الفقهاء بالاعتماد على الاستحسان والاستصلاح والعرف.
وحكمة الوقف أو سببه: في الدنيا بر الأحباب، وفي الآخرة تحصيل الثواب، بنية من أهله (2).
_________
(1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 392/ 3، 399 - 401.

(10/7603)


وقال الحنفية: الوقف مباح بدليل صحته من الكافر، وقد يصبح واجباً بالنذر، فيتصدق بالعين الموقوفة أو بثمنها. ولو وقفها على من لا تجوز له الزكاة كالأصول والفروع، جاز في الحكم، أي صح الوقف في حكم الشرع لصدوره من أهله في محله، لكن لا يسقط به النذر؛ لأن الصدقة الواجبة لا بد من أن تكون لله تعالى على الخلوص، وصرفها إلى من لا تجوز شهادته له: فيه نفع له، فلم تخلص لله تعالى، كما لو صرف إليه الكفارة أو الزكاة، وقعت صدقة، وبقيت في ذمته (1).

ثالثاً ـ صفة الوقف: الوقف عند أبي حنيفة جائز غير لازم، يجوز الرجوع عنه، فهو تبرع غير لازم، إلا فيما استثناه سابقاً، وهو بمنزلة الإعارة غير اللازمة، فله أن يرجع فيه متى شاء، ويبطل بموته، ويورث عنه، كما هو المقرر في حكم الإعارة (2).
وهو عند محمد بن الحسن والشافعية والحنابلة (3): إذا صح صار لازماً لاينفسخ بإقالة ولا غيرها، وينقطع تصرف الواقف فيه، ولا يملك الرجوع عنه، ويزول ملكه عن العين الموقوفة، لحديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها، لاتباع ولا توهب ولا تورث» وهو بمنزلة الهبة والصدقة. فلا بد فيه لترتيب آثاره الشرعية من تسليمه إلى الجهة الموقوف عليها، كسائر التبرعات. ولا يجوز عند محمد وقف مشاع قابل للقسمة.
ورأى أبو يوسف: أن الوقف إسقاط ملك، كالطلاق والإعتاق فإنه إسقاط
_________
(1) المرجع والمكان السابق.
(2) المرجع السابق: ص 394.
(3) فتح القدير: 45/ 5، المهذب: 442/ 1، كشاف القناع: 278/ 4، غاية المنتهى: 325/ 2.

(10/7604)


للملك عن الزوجة والعبد، فيتم بمجرد التلفظ، ولا يشترط فيه التسليم، ويصح وقف المشاع القابل للقسمة من غير إفراز، وهذا هو المفتى به عند الحنفية؛ لأنه أحوط وأسهل.
والوقف عند المالكية (1): إن صح لزم، ولا يتوقف على حكم الحاكم، حتى لو لم يحز (يقبض) وحتى لو قال الواقف: ولي الخيار، فإن أراد الواقف الرجوع فيه، لا يمكَّن، وإذا لم يُحَز أجبر على إخراجه من تحت يده للموقوف عليه. وهو في حال الحياة من قبيل الإعارة اللازمة، وبعد الوفاة من قبيل الوصية بالمنفعة، وعليه ليس للواقف في حال الصحة الرجوع عن الوقف قبل حصول المانع، ويجبر على القبض (التحويز) إلاإذا شرط لنفسه الرجوع، فله ذلك، أما الواقف في حال المرض، فله الرجوع فيه؛ لأنه كالوصية.

رابعاً ـ ركن الوقف: قال الحنفية (2): ركن الوقف هي الصيغة، وهي الألفاظ الدالة على معنى الوقف، مثل أرضي هذه موقوفة مؤبدة على المساكين ونحوه من الألفاظ، مثل: موقوفة لله تعالى، أو على وجه الخير، أو البر، أو موقوفة فقط، عملاً بقول أبي يوسف، وبه يفتى للعرف. وقد يثبت الوقف بالضرورة مثل: أن يوصي بغلة هذه الدار للمساكين أبداً، أو لفلان وبعده للمساكين أبداً، فتصير الدار وقفاً بالضرورة، إذ كلامه يشبه القول: إذا مت فقد وقفت داري على كذا.
ركن الوقف عندهم: هو الإيجاب الصادر من الواقف الدال على إنشاء الوقف. وهذا على أن معنى الركن: هو جزء الشيء الذي لا يتحقق إلا به. ويكون
_________
(1) الشرح الكبير: 75/ 4، الشرح الصغير: 107/ 4.
(2) الدر المختار: 393/ 3، فتح القدير: 39/ 5 - 40.

(10/7605)


الوقف بناء عليه كالوصية تصرفاً يتم بإرادة واحدة هي إرادة الواقف نفسه، وهي التي يعبر عنها بإيجاب الواقف.
وقال الجمهور (1): للوقف أركان أربعة: هي الواقف، والموقوف، والموقوف عليه، والصيغة: باعتبار أن الركن: ما لا يتم الشيء إلا به، سواء أكان جزءاً منه أم لا.
أما القبول من الموقوف عليه: فليس ركناً في الوقف عند الحنفية على المفتى به، والحنابلة كما ذكر القاضي أبو يعلى، ولا شرطاً لصحة الوقف ولا للاستحقاق فيه، سواء أكان الموقوف عليه معيناً أم غير معين، فلو سكت الموقوف عليه، فإنه يستحق من ريع الوقف، فيصير الشيء وقفاً بمجرد القول؛ لأنه إزالة ملك يمنع البيع والهبة والميراث، فلم يطلب فيه القبول، كالعتق، لكن إذا كان الموقوف عليه معيناً، كالوقف على خالد أو محمد، ورد الوقف، فلا يستحق شيئاً من ريع الوقف وإنما ينتقل إلى من يليه ممن عينه الواقف بعده متى وجد، فإن لم يوجد عاد الموقوف للواقف أو لورثته إن وجدوا وإلا فلخزانة الدولة، ولكن لا يبطل الوقف برده، ويكون رده وقبولهما وعدمهما واحداً كالعتق؛ لأن ركن الوقف وهو إيجاب الواقف قد تحقق. أخذ القانون المصري (م 9) رقم (48) لسنة (1946) بهذا الرأي، حيث لم يجعل القبول شرطاً للاستحقاق، والمادة (17) بينت انتهاء الوقف. ولكن قال الحنفية: لو وقف لشخص بعينه، ثم للفقراء، اشترط قبوله في حقه، فإن قبله فالغلة له، وإن رده فللفقراء. ومن قبل فليس له الرد بعده، ومن رده أول الأمر ليس له القبول بعده.
_________
(1) رد المحتار: 395/ 3، القوانين الفقهية: ص 369 ومابعدها، الشرح الصغير: 101/ 4 وما بعدها، مغني المحتاج: 376/ 2، 383، غاية المنتهى: 299/ 2، المغني: 547/ 5، كشاف القناع: 279/ 4، الفروق: 111/ 2.

(10/7606)


ويعد القبول عند المالكية والشافعية وبعض الحنابلة ركناً إذا كان الوقف على معين إن كان أهلاً للقبول، وإلا فيشترط قبول وليه كالهبة والوصية.
واشترطت المادة التاسعة المذكورة قبول الممثل القانوني إذا كان الوقف على جهة لها من يمثلها قانوناً كالأزهر أوالجامعة. وهذا من قبيل سد الذرائع أمام تدخل الواقفين بشؤون هذه الجهة، أو محاولة السيطرة عليها لأغراض معينة بقصد العبث والفساد. فإن لم يقبل من يمثل الجهة، انتقل الاستحقاق لمن يليها متى وجد، وإن لم يوجد أصلاً، أخذ الموقوف حكم الوقف المنتهي المبين في المادة 17.